تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

غزوة السويق
قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ص مِنْ غَزْوَةِ الْكُدْرِ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَا الْقِعْدَةِ ثُمَّ غَزَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ غَزْوَةَ السَّوِيقِ فِي ذِي الْحِجَّةِ قَالَ: وولي تلك الحجة المشركون من تلك السنة.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَمَنْ لا اتهم، عن عبيد الله ابن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ- وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الأَنْصَارِ- قَالَ: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ حِينَ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ فَلُّ قُرَيْشٍ إِلَى مَكَّةَ مِنْ بَدْرٍ، نَذَرَ أَلا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِن جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُو مُحَمَّدًا فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ

(2/483)


مِنْ قُرَيْشٍ، لِيُبِرَّ يَمِينَهُ، فَسَلَكَ النَّجْدِيَّةَ حَتَّى نَزَلَ بِصُدُورِ قَنَاةٍ إِلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ تَيْتٌ، مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى بَرِيدٍ أَوْ نَحْوَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَتَى بَنِي النَّضِيرِ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَأَتَى حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ وخافه، فأبى فَانْصَرَفَ إِلى سَلامِ بْنِ مِشْكَمٍ- وَكَانَ سَيِّدَ النَّضِيرِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ، وَصَاحِبَ كَنْزِهِمْ- فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَرَاهُ وَسَقَاهُ، وَبَطَنَ لَهُ خَبَرَ النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ، حَتَّى جَاءَ أَصْحَابَهُ، فَبَعَثَ رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَوْا نَاحِيَةً مِنْهَا يُقَالُ لَهَا الْعَرِيضُ، فَحَرَّقُوا فِي أَصْوَارٍ مِنْ نَخْلٍ لَهَا، وَوَجَدُوا رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ فِي حَرْثٍ لَهُمَا فَقَتَلُوهُمَا ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، وَنَذَرَ بهم الناس، فخرج رسول الله ص فِي طَلَبِهِمْ، حَتَّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا، وَقَدْ فَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْ مَزَاوِدِ الْقَوْمِ مَا قَدْ طَرَحُوهُ فِي الْحَرْثِ، يَتَخَفَّفُوَن مِنْهُ لِلنَّجَاةِ فَقَالَ المسلمون حين رجع بهم رسول الله ص:
أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا غَزْوَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ يُحَرِّضُ قُرَيْشًا:
كُرُّوا عَلَى يَثْرِبَ وَجَمْعِهِمْ ... فَإِنَّ مَا جَمَعُوا لَكُمْ نَفْلٌ
إِنْ يَكُ يَوْمَ الْقَلِيبِ كَانَ لَهُمْ ... فَإِنَّ مَا بَعْدَهُ لَكُمْ دُوَلٌ
آلَيْتُ لا أَقْرَبُ النِّسَاءَ وَلا ... يَمَسُّ رَأِسي وَجِلْدِي الْغُسْلُ
حَتَّى تَبِيرُوا قَبَائِلَ الأوس و ... الخزرج، إِنَّ الْفُؤَادَ مُشْتَعلٌ
فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
تلهف أُمِّ الْمُسَبِّحِينَ عَلَى ... جَيْشِ ابْنِ حَرْبٍ بِالْحَرَّةِ الفشل
إذ يطرحون الرجال من سئم ... الطَّيْرِ تَرْقَى لِقُنَّةِ الْجَبَلِ

(2/484)


جَاءُوا بِجَمْعٍ لَوْ قِيسَ مَبْرَكُهُ ... مَا كَانَ الا كمفحص الدئل
عَارٌ مِنَ النَّصْرِ وَالثَّرَاءِ وَمَنْ ... أَبْطَالِ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ وَالأَسَلِ
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَزَعَمَ أَنَّ غَزْوَةَ السَّوِيقِ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَمَرَّ- يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ- بِالْعَرِيضِ، بِرَجُلٍ مَعَهُ أَجِيرٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مَعْبَدُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَتَلَهُمَا وَحَرَقَ أَبْيَاتًا هُنَاكَ وَتِبْنًا، وَرَأَى أَنَّ يَمِينَهُ قَدْ حَلَّتْ، وَجَاءَ الصَّرِيخُ إِلَى النبي ص، فَاسْتَنْفَرَ النَّاسُ، فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهِ فَأَعْجَزَهُمْ قَالَ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ يَلْقَوْنَ جُرُبَ الدَّقِيقِ وَيَتَخَفَّفُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَامَّةَ زَادِهِمْ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ غَزْوَةَ السَّوِيقِ.
وَقَالَ الواقدي: وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ ص على المدينة أبا لبابه ابن عَبْدِ الْمُنْذِرِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ- فِي ذِي الْحِجَّةِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَدَفَنَهُ رسول الله ص بِالْبَقِيعِ، وَجَعَلَ عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرًا عَلامَةً لِقَبْرِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب ع وُلِدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ حَدَّثَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ [عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالب ع بنى

(2/485)


بفاطمه ع فِي ذِي الْحِجَّةِ، عَلَى رَأْسِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا] .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ صَحِيحَةً فَالْقَوْلُ الأَوَّلُ بَاطِلٌ.
وَقِيلَ: إِنَّ في هذه السنه كتب رسول الله ص الْمَعَاقِلَ فَكَانَ مُعَلَّقًا بِسَيْفِهِ

(2/486)


ثم دخلت

السنه الثالثه من الهجره

غزوه ذي امر
فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله ص مِنْ غَزْوَةِ السَّوِيقِ، أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ غَطْفَانَ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ، فَأَقَامَ بِنَجْدٍ صَفَرًا كُلَّهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَلَبِثَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ كُلِّهِ إِلا قَلِيلا مِنْهُ.
ثُمَّ غَزَا يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي سَلِيمٍ، حَتَّى بَلَغَ بَحْرَانَ مَعْدِنًا بِالْحِجَازِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الآخَرَ وَجُمَادَى الأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا
. خبر كعب بن الأشرف
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة سرى النبي ص سرية إلى كعب بن الأشرف، فزعم الواقدي ان النبي وجه من وجه إليه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
كَانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الأَشْرَفِ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ أَصْحَابُ بَدْرٍ، وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةِ إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ بَشِيرَيْنِ، بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث ابن أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أسير الظَّفَرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وَصَالِحِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: كل

(2/487)


قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِهِ، قَالَ: قَالَ كَعْبُ بن الأشرف- وكان رجلا من طيّئ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي نَبْهَانَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ:
وَيْلَكُمْ أَحَقٌّ هَذَا! أَتَرَوْنَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَتَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمِّي هَذَانِ الرَّجُلَانِ- يَعِني زَيْدَ بْنَ حارثة، وعبد الله بن رواحه؟ وهؤلاء اشراف الْعَرَبِ وَمُلُوكُ النَّاسِ وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَنَا مِنْ ظَهْرِهَا.
فَلَمَّا تَيَقَّنَ عَدُوُّ اللَّهِ الْخَبَرَ، خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَنَزَلَ عَلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ ضُبَيْرَةَ السَّهْمِيِّ، وَعِنْدَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَأَنْزَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، وَجَعَلَ يحرض على رسول الله ص، وَيُنْشِدُ الأَشْعَارَ، وَيَبْكِي عَلَى أَصْحَابِ الْقَلِيبِ الَّذِينَ أُصِيبُوا بِبَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ رَجَعَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَبَّبَ بِأُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَقَالَ:
أَرَاحِلٌ أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ بِمَنْقَبَةٍ ... وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ!
صَفْرَاءَ رَادِعَةً لَوْ تُعْصَرُ انْعَصَرَتْ ... مِنْ ذِي الْقَوَارِيرِ وَالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ
يَرْتَجُّ مَا بَيْنَ كَعْبَيْهَا وَمِرْفَقِهَا ... إذا تاتت قِيَامًا ثُمَّ لَمْ تَقُمِ
أَشْبَاهُ أُمِّ حَكِيمٍ إِذْ تُوَاصِلُنَا ... وَالْحَبْلُ مِنْهَا مَتِينٌ غَيْرُ مُنْجَذِمٍ
إِحْدَى بَنِي عَامِرٍ جُنَّ الْفُؤَادُ بِهَا ... وَلَوْ تَشَاءُ شَفَتْ كَعْبًا مِنَ السَّقَمِ
فَرْعُ النِّسَاءِ وَفَرْعُ الْقَوْمِ وَالِدُهَا ... أَهْلُ التَّحِلَّةِ وَالإِيفَاءِ بِالذِّمَمِ
لَمْ أَرَ شَمْسًا بِلَيْلٍ قَبْلَهَا طَلَعَتْ ... حَتَّى تَجَلَّتْ لَنَا فِي لَيْلَةِ الظُّلَمِ
ثُمَّ شَبَّبَ بِنِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ، فَقَالَ النبي ص كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بْنِ الْمُغِيثِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ: مَنْ لِي مِنَ ابْنِ الأَشْرَفِ!

(2/488)


قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ: أَنَا لَكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ قَالَ: فَافْعَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ، فَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا لا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إِلَّا مَا يَعْلَقُ بِهِ نَفْسُهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ص، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: لِمَ تَرَكْتَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ؟
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتُ قَوْلًا لا أَدْرِي أَفِي بِهِ أَمْ لَا! قَالَ: إِنَّمَا عَلَيْكَ الْجَهْدُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَقُولَ قَالَ: قُولُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ! قَالَ: فَاجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُحَمَّدُ بن مسلمه وسلكان بن سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ- وَهُوَ أَبُو نَائِلَةَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَكَانَ أَخَا كَعْبٍ مِنَ الرضاعه- وعباد ابن بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ ثُمَّ قَدَّمُوا إِلَى ابْنِ الأَشْرَفِ قبل ان يأتوه سلكان بن سَلَامَةَ أَبَا نَائِلَةَ، فَجَاءَهُ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً، وَتَنَاشَدَا شِعْرًا- وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ يَقُولُ الشِّعْرَ- ثم قال: ويحك يا بن الأَشْرَفِ! إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا لَكَ، فَاكْتُمْ عَلَيَّ، قَالَ:
أَفْعَلُ، قَالَ: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ بَلَاءً عَلَيْنَا عَادَتْنَا الْعَرَبُ ورمونا عن قوس واحده، وَقُطِعَتْ عَنَّا السُّبُلُ حَتَّى ضَاعَ الْعِيَالُ، وَجَهَدَتِ الأَنْفُسُ، وَأَصْبَحْنَا قَدْ جُهِدْنَا وَجُهِدَ عِيَالُنَا! فَقَالَ كَعْبٌ: أَنَا ابْنُ الأَشْرَفِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كنت اخبرتك يا بن سَلَامَةَ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا كُنْتُ أَقُولُ، فَقَالَ سِلْكَانُ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامًا وَنَرْهَنُكَ وَنُوَثِّقُ لَكَ، وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ قَالَ: تَرْهَنُونَنِي أَبْنَاءَكُمْ! فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْضَحَنَا! إِنَّ مَعِي أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ فَتَبِيعَهُمْ، وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ، وَنَرْهَنُكَ مِنَ الْحَلْقَةِ ما فيه لك وفاء- واراد سلكان الا يُنْكِرَ السِّلَاحَ إِذَا جَاءُوا بِهَا- فَقَالَ: إِنَّ في الحلقه الوفاء، قَالَ: فَرَجَعَ سِلْكَانُ إِلَى

(2/489)


أَصْحَابِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السِّلَاحَ فَيَنْطَلِقُوا فَيَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص.
حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ:
فَحَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ الله ص إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، ثُمَّ وَجَّهَهُمْ وَقَالَ: انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ ثُمَّ رَجَعَ رسول الله ص إِلَى بَيْتِهِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَأَقْبَلُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى حِصْنِهِ، فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ- وكَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ- فَوَثَبَ فِي مِلْحَفَتِهِ، فَأَخَذَتِ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَتِهَا، وَقَالَتْ: إِنَّكَ امْرُؤٌ مُحَارِبٌ، وَإِنَّ صَاحِبُ الْحَرْبِ لا يَنْزِلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ قَالَ: إِنَّهُ أَبُو نَائِلَةَ، لَوْ وَجَدَنِي نَائِمًا لَمَا أَيْقَظَنِي، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ فِي صَوْتِهِ الشَّرَّ قَالَ: يَقُولُ لَهَا كَعْبٌ: لَوْ دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ أَجَابَ، فَنَزَلَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ سَاعَةً، وَتَحَدَّثُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالُوا له: هل لك يا بن الأَشْرَفِ، أَنْ نَتَمَاشَى إِلَى شِعْبِ الْعَجُوزِ فَنَتَحَدَّثَ بِهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ! قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ! فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ، فَمَشَوْا سَاعَةً ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَائِلَةَ شَامَ يَدَهُ فِي فَوْدِ رَأْسِهِ، ثُمَّ شم يَدَهُ، فَقَالَ:
مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبَ عِطْرٍ قَطُّ ثُمَّ مَشَى سَاعَةً ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِهَا، حَتَّى اطْمَأَنَّ ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، فَعَادَ لِمِثْلِهَا، فَأَخَذَ بِفَوْدَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عَدُوَّ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ، فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ:
فَذَكَرْتُ مِغْوَلًا فِي سَيْفِي حِينَ رَأَيْتُ أَسْيَافَنَا لا تُغْنِي شَيْئًا، فَأَخَذْتُهُ، وَقَدْ صَاحَ عَدُوُّ اللَّهِ صَيْحَةً لَمْ يَبْقَ حَوْلَنَا حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ، قَالَ: فَوَضَعْتُهُ فِي ثُنْدُؤَتِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغْتُ عَانَتَهُ، وَوَقَعَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَقَدْ أُصِيبَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ بِجُرْحٍ فِي رَأْسِهِ أَوْ رِجْلِهِ، أَصَابَهُ بَعْضُ أَسْيَافِنَا

(2/490)


قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى سَلَكْنَا عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ عَلَى بُعَاثَ حَتَّى أَسْنَدْنَا فِي حَرَّةِ الْعَرِيضِ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْنَا صَاحِبُنَا الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ وَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَوَقَفْنَا لَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَتَانَا يَتْبَعُ آثَارَنَا قَالَ:
فَاحْتَمَلْنَاهُ فَجِئْنَا بِهِ رَسُولَ الله ص آخِرَ اللَّيْلِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ عَدُوِّ اللَّهِ، وَتَفِلَ عَلَى جُرْحِ صَاحِبِنَا، وَرَجَعْنَا إِلَى أَهْلِنَا، فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ خَافَتْ يَهُودُ بِوَقْعَتِنَا بِعَدُوِّ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ قال: فقال رسول الله ص: مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ، فَوَثَبَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ- رَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ يَهُودَ كَانَ يُلَابِسُهُمْ وَيُبَايِعُهُمْ فَقَتَلَهُ- وَكَانَ حُوَيْصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ مُحَيِّصَةَ- فَلَمَّا قَتَلَهُ جَعَلَ حُوَيْصَةُ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! قَتَلْتَهُ! أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ! قَالَ مُحَيِّصَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ مَنْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لضربت عنقك قال: فو الله إِنْ كَانَ لأَوَّلَ إِسْلَامِ حُوَيْصَةَ، وَقَالَ:
لَوْ أَمَرَكَ مُحَمَّدٌ بِقَتْلِي لَقَتَلْتَنِي! قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ دِينًا بَلَغَ بِكَ هَذَا لَعَجَبٌ! فَأَسْلَمَ حُوَيْصَةُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني هَذَا الْحَدِيثُ مَوْلًى لِبَنِي حَارِثَةَ، عَنِ ابْنَةِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ جَاءُوا بِرَأْسِ ابْنِ الأَشْرَفِ إِلَى رسول الله ص.
وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَمَّ كلثوم بنت رسول الله ص وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِي جُمَادَى

(2/491)


الآخِرَةِ، وَأَنَّ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السنه غزا رسول الله ص غَزْوَةَ أَنْمَارٍ- وَيُقَالُ لَهَا: ذُو أَمَرَّ- وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ قَبْلُ.
قَالَ الواقدي: وَفِيهَا وُلِدَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ

غزوة القردة
قال الواقدي: وفي جمادى الآخرة من هذه السنة، كانت غزوة القردة وكان أميرهم- فيما ذكر- زيد بن حارثة، قال: وهي أول سرية خرج فيها زيد بن حارثة أميرا.
قال أبو جعفر: وكان من أمرها مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّتِي بَعَثَهُ رسول الله ص فِيهَا حِينَ أَصَابَ عِيرَ قُرَيْشٍ، فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، عَلَى الْقردة، مَاءٍ مِن مِيَاهِ نَجْدٍ قَالَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَانَتْ خَافَتْ طَرِيقَهَا الَّتِي كَانَتْ تَسْلُكُ إِلَى الشَّامِ حِينَ كَانَ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ مَا كَانَ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ تُجَّارٌ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَمَعَهُ فِضَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ عِظَمُ تِجَارَتِهِمْ، وَاسْتَأْجَرُوا رَجُلا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وبعث رسول الله ص زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، فَأَصَابَ تِلْكَ الْعِيرَ وَمَا فِيهَا، وَأَعْجَزَهُ الرِّجَالُ، فقدم بها على رسول الله ص قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: قَدْ عَوَّرَ عَلَيْنَا مُحَمَّدٌ مُتْجَرَنَا وَهُوَ عَلَى طَرِيقِنَا وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ

(2/492)


وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: إِنْ أَقَمْنَا بِمَكَّةَ أَكَلْنَا رُءُوسَ أَمْوَالِنَا قَالَ أَبُو زَمْعَةَ بْنُ الأَسْوَدِ:
فَأَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يَسْلُكُ بِكُمُ النَّجْدِيَّةَ، لَوْ سَلَكَهَا مُغْمَضَ الْعَيْنَيْنِ لاهَتْدَى قَالَ صَفْوَانُ: مَنْ هُوَ؟ فَحَاجَتُنَا إِلَى الْمَاءِ قَلِيلٌ، إِنَّمَا نَحْنَ شَاتُونَ قَالَ: فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، فَدَعَوَاهُ فَاسْتَأَجْرَاهُ، فَخَرَجَ بِهِمْ فِي الشِّتَاءِ، فَسَلَكَ بِهِمْ عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ عَلَى غمره، وانتهى الى النبي ص خَبَرُ الْعِيرِ وَفِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ، وَآنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ حَمَلَهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَاعْتَرَضَهَا، فَظَفَرَ بِالْعِيرِ، وَأَفْلَتَ أَعْيَانُ الْقَوْمِ، فَكَانَ الْخُمْسُ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَخَذَهُ رَسُولُ الله ص، وَقَسَّمَ الأَرْبَعَةَ الأَخْمَاسِ عَلَى السَّرِيَّةِ، وَأَتَى بِفُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ الْعِجْلِيِّ أَسِيرًا، فَقِيلَ: إِنْ أَسْلَمْتَ لم يقتلك رسول الله ص، فلما دعا به رسول الله ص أَسْلَمَ، فَأَرْسَلَهُ
. مقتل أبي رافع اليهودي
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان مقتل أبي رافع اليهودي- فيما قيل- وكان سبب قتله، أنه كان- فيما ذكر عنه- يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله ص، فوجه اليه- فيما ذكر- رسول الله ص في النصف من جمادى الآخرة من هذه السنه عبد الله بن عتيك، فحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: بعث رسول الله ص إِلَى أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ- وَكَانَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ- رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بن عقبة- أو عبد الله بن عتيك- وكان ابو رافع يؤذى رسول الله ص وَيَبْغِي عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ، قَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بن عقبة- أو عبد الله بن

(2/493)


عَتِيكٍ: اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّي أَنْطَلِقُ وَأَتَلَطَّفُ لِلْبَوَّابِ، لَعَلِّي أَدْخُلُ! قَالَ:
فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْبَابِ، تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ، كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ قَالَ: فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ تَحْتَ آرِيِّ حِمَارٍ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ ثُمَّ عَلَّقَ الأَقَالِيدَ عَلَى وَدٍّ قَالَ:
فَقُمْتُ إِلَى الأَقَالِيدِ فَأَخَذْتُهَا، فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يَسْمُرُ عِنْدَهُ فِي عَلَالِيٍّ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ، فَصَعِدْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُهُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ قُلْتُ: إِنَّ الْقَوْمَ نَذَرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسَطَ عِيَالِهِ، لا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ! قُلْتُ: أَبَا رَافِعٍ! قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ:
فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ، فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، وَأَنَا دهش فما اغنى شَيْئًا وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ وَمَكَثْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ قَالَ: لأُمِّكَ الْوَيْلُ! إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَاضْرِبْهُ فَأَثْخِنْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ قَالَ: ثُمَّ وَضَعْتُ ضَبِيبَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى أَخْرَجْتُهُ مِنْ ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّي قَدْ قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحَ الأَبْوَابَ بَابًا فَبَابًا، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي، وَأَنَا أَرَى أَنِّي انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِي، قَالَ: فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَتِي، ثُمَّ إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ.
وَاللَّهِ لا أَبْرَحُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ: أَقَتَلْتُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ، قَامَ النَّاعِي عَلَيْهِ عَلَى السُّورِ، فَقَالَ: أنْعى أَبَا رَافِعٍ رَبَّاحَ أَهْلِ الْحِجَازِ! قَالَ:
فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: النَّجَاءَ! قَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ، فَانْتَهَيْتُ الى

(2/494)


النبي ص، فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: ابْسُطْ رِجْلَكَ، فَبَسَطْتُهَا فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّمَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ السَّرِيَةَ الَّتِي وجهها رسول الله ص إِلَى أَبِي رَافِعٍ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ إِنَّمَا وَجَّهَهَا إِلَيْهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا اليه فقتلوه، كانوا أبا قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ، وَالأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَصَّ مِنْ قِصَّةِ هَذِهِ السَّرِيَةِ ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: كان سلام بن أبي الحقيق- وهو أبو رافع- ممن كان حزب الأحزاب على رسول الله ص، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته رسول الله ص وتحريضه عليه، فاستأذنت الخزرج رسول الله ص في قتل سلام بن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فأذن لهم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن محمد بن إسحاق، عن محمد مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قال: كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله ص تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله ص غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله ص في الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها قال:
وإذا فعلت الخزرج شيئا، قالت الأوس مثل ذلك فلما أصابت الأوس

(2/495)


كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله ص، قالت الخزرج:
لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله ص في العداوة كابن الأشرف! فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله ص في قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج ثم من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن الأسود، حليف لهم من أسلم، فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله ص عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة.
فخرجوا حتى قدموا خيبر، فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه من خلفهم على أهله، وكان في علية له إليها عجلة رومية، فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: نفر من العرب نلتمس الميرة، قالت:
ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا عليها وعلينا وعليه باب الحجرة، وتخوفنا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه قال: فصاحت امرأته، ونوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة قال: ولما صاحت بنا امرأته، جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله ص، فيكف يده، ولولا ذاك فرغنا منها بليل، فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني! قال: ثم خرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيئ البصر، فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثئا شديدا واحتملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم، فندخل فيه قال: وأوقدوا النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا، حتى إذا

(2/496)


يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه، وهو يقضي بينهم قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات! فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال: فوجدته ورجال يهود عنده، وامرأته في يدها المصباح تنظر في وجهه ثم قالت تحدثهم وتقول: أما والله لقد عرفت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت، فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد! ثم أقبلت عليه لتنظر في وجهه ثم قالت: فاظ والله يهود! قال: يقول صاحبنا، فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا، فقدمنا على رسول الله ص، وأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله، وكلنا يدعيه، [فقال رسول الله ص: هاتوا أسيافكم، فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، ارى فيه اثر الطعام] فقال حسان بن ثابت، وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام ابن ابى الحقيق:
لله در عصابه لاقيتهم ... يا بن الحقيق وأنت يا بن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نبيهم ... مستضعفين لكل أمر مجحف
حَدَّثَنِي موسى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ ابْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، ان

(2/497)


الرهط الذين بعثهم رسول الله ص إِلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ لِيَقْتُلُوهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَحَلِيفٌ لَهُمْ، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُمْ قَدِمُوا خَيْبَرَ لَيْلا قَالَ: فَعَمَدْنَا إِلَى أَبْوَابِهِمْ نُغْلِقُهَا مِنْ خَارِجٍ، وَنَأْخُذُ الْمَفَاتِيحَ، حَتَّى أَغْلَقْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَهُمْ، ثُمَّ أَخَذْنَا الْمَفَاتِيحَ فَأَلْقَيْنَاهَا فِي فَقِيرٍ، ثُمَّ جِئْنَا إِلَى الْمَشْرَبَةِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، فَظَهَرْتُ عَلَيْهَا أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ وَقَعَدَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَائِطِ، فَاسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ: إِنَّ هَذَا لَصَوْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ:
ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ! عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بِيَثْرِبَ، اين هو عندك هذه الساعة! افتحى لي، إِنَّ الْكَرِيمَ لا يُرَدُّ عَنْ بَابِهِ هَذِهِ السَّاعَةَ فَقَامَتْ فَفَتَحَتْ، فَدَخَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ:
دُونَكَ، قَالَ: فَشَهَرْتُ عَلَيْهَا السَّيْفَ، فَأَذْهَبَ لأَضْرِبُهَا بِالسَّيْفِ فَأَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ ص عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَأَكُفُّ عَنْهَا، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ قَالَ: فَأَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ مُظْلِمَةٍ إِلَى شِدَّةِ بَيَاضِهِ، فَلَمَّا رَآنِي وَرَأَى السَّيْفَ، أَخَذَ الْوِسَادَةَ فَاتَّقَانِي بِهَا، فَأَذْهَبُ لأَضْرِبَهُ فَلا أَسْتَطِيعُ، فَوَخَزْتُهُ بِالسَّيْفِ وَخْزًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ عبد الله ابن أُنَيْسٍ، فَقَالَ: أَقْتُلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَذَفَّفَ عَلَيْهِ قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ، فَانْطَلَقْنَا، وصاحت المرأة وا بياتاه وا بياتاه! قَالَ: فَسَقَطَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ فِي الدَّرَجَةِ، فَقَالَ: وَارِجْلاهُ وَارِجْلاهُ! فَاحْتَمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، حَتَّى وَضَعَهُ إِلَى الأَرْضِ.
قَالَ: قُلْتُ: انْطَلِقْ، لَيْسَ بِرِجْلِكَ بَأْسٌ قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: جِئْنَا أَصْحَابَنَا فَانْطَلَقْنَا، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْسِي أَنِّي تَرَكْتُهَا فِي الدَّرَجَةِ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْسِي، فَإِذَا أَهْلُ خَيْبَرَ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، لَيْسَ لَهُمْ

(2/498)


كَلامٌ إِلا مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ قَالَ:
فَجَعَلْتُ لا أَنْظُرُ فِي وَجْهِ إِنْسَانٍ، وَلا يَنْظُرُ فِي وَجْهِي إِنْسَانٌ إِلا قُلْتُ:
مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ قَالَ: ثُمَّ صَعِدْتُ الدَّرَجَةَ، وَالنَّاسُ يَظْهَرُونَ فِيهَا، وَيَنْزِلُونَ، فَأَخَذْتُ قَوْسِي مِنْ مَكَانِهَا، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَأَدْرَكْتُ أَصْحَابِي، فَكُنَّا نَكْمُنُ النهار ونسير الليل، فإذا كمنا بالنهار أَقْعَدْنَا مِنَّا نَاطُورًا يَنْظُرُ لَنَا، فَإِنْ رَأَى شَيْئًا أَشَارَ إِلَيْنَا، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بالبيضاء كنت- قال موسى: انا ناطرهم، وَقَالَ عَبَّاسٌ: كُنْتُ أَنَا نَاطُورُهُمْ- فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ فَذَهَبُوا جَمْزًا وَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى إِذَا اقْتَرَبْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَدْرَكْتُهُمْ، قَالُوا: مَا شَأْنُكَ؟ هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: لا، إِلا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنْ قَدْ بَلَغَكُمُ الإِعْيَاءُ وَالْوَصَبُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَحْمِلَكُمُ الْفَزَعُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وفي هذه السنه تزوج النبي ص حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ ص أُحُدًا، وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ- فِيمَا قِيلَ- مِنْ سَنَةِ ثَلاثٍ مِنَ الْهِجَرَةِ.

غزوة أحد
قال أبو جعفر: وكان الذي هاج غزوة أحد بين رسول الله ص ومشركي قريش وقعة بدر وقتل من قتل ببدر من أشراف قريش ورؤسائهم، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ

(2/499)


الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بن عمر بن قتادة، والحصين ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلُّهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ كُلِّهِمْ فِيمَا سُقْتُ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالُوا:
لَمَّا أُصِيبَتْ قُرَيْشٍ- أَوْ مَنْ قَالَهُ مِنْهُمْ- يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ، فَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا، فَفَعَلُوا، فَاجْتَمَعَتْ قريش لحرب رسول الله ص حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَكُلُّ أُولَئِكَ قَدِ اسْتَعْوَوْا عَلَى حَرْبِ رسول الله ص.
وَكَانَ أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الجمحى قد من عليه رسول الله ص يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ فَقِيرًا ذَا بَنَاتٍ، وَكَانَ فِي الأُسَارَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي فَقِيرٌ ذُو عِيَالٍ وَحَاجَةٍ قَدْ عَرَفْتَهَا، فَامْنُنْ عَلَيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ! فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ الله ص، فقال صفوان

(2/500)


ابن أُمَيَّةَ: يَا أَبَا عَزَّةَ، إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ، فَأَعِنَّا بِلِسَانِكَ، فَاخْرُجْ مَعَنَا.
فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَنَّ عَلَيَّ فَلا أُرِيدُ أَنْ أُظَاهِرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: بَلَى فَأَعِنَّا بِنَفْسِكَ، فَلَكَ اللَّهُ إِنْ رَجَعْتَ أَنْ أُغْنِيَكَ، وَإِنْ أَصَبْتَ أَنْ أَجْعَلَ بَنَاتِكَ مَعَ بَنَاتِي يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ يَسِيرُ فِي تِهَامَةَ، وَيَدْعُو بَنِي كِنَانَةَ وَخَرَجَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بن جُمَحٍ، إِلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ يُحَرِّضُهُمْ ويدعوهم الى حرب رسول الله ص، وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ وَحْشِيٌّ، كَانَ حَبَشِيًّا يَقْذِفُ بِحَرْبَةٍ لَهُ قَذْفَ الْحَبَشَةِ، قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ.
فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِحَدِّهَا وَجَدِّهَا وَأَحَابِيشِهَا، وَمَنْ مَعَهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالظَّعْنِ الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ، وَلِئَلَّا يَفِرُّوا فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ- وَهُوَ قَائِدُ النَّاسِ، مَعَهُ هند بنت عتبة ابن رَبِيعَةَ- وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ بِبَرْزَةَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
وَقِيلَ بِبَرَّةَ- بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّةِ، وَهِيَ أم عبد الله ابن صَفْوَانَ- وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ بِرَيْطَةَ بِنْتِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَبُو طَلْحَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بِسُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ- وَهِيَ أُمُّ بَنِي طَلْحَةَ مُسَافِعٍ والْجلاسِ وَكِلابٍ، قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ وَأَبُوهُمْ- وَخَرَجَتْ خُنَاسُ بِنْتُ مَالِكِ بن المضرب احدى نساء بنى مالك ابن حِسْلٍ، مَعَ ابْنِهَا أَبِي عُزَيْزِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهِيَ أُمُّ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ،

(2/501)


وخرجت عمره بنت علقمه احدى نساء بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ كُلَّمَا مَرَّتْ بِوَحْشِيٍّ أَوْ مَرَّ بِهَا قَالَتْ:
إِيهِ أَبَا دُسْمَةَ! اشْفِ وَاشْتَفِ- وَكَانَ وَحْشِيٌّ يُكَنَّى أَبَا دُسْمَةَ.
فَأَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ، مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ الله ص وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ نَزَلُوا قَالَ رَسُولُ الله ص لِلْمُسْلِمِينَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ بَقَرًا فَأَوَّلْتُهَا خَيْرًا، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي ادخلت يدي في درع حصنيه فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَقَامٍ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا وَنَزَلَتْ قُرَيْشٌ مَنْزِلَهَا مِنْ أُحُدٍ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ فَأَقَامُوا بِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الجمعه وراح رسول الله ص حِينَ صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَأَصْبَحَ بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ فَالْتَقَوْا يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ مع راى رسول الله ص، يرى راى رسول الله ص فِي ذَلِكَ: أَلَّا يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ الله ص يَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ بَدْرٌ وَحُضُورُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا، لا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا، فَقَالَ عَبْدُ الله بن ابى بن سَلُولٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ وَلا تخرج اليهم، فو الله مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ لَنَا قَطُّ إِلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِسٍ، وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ من فوقهم،

(2/502)


وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاءُوا فَلَمْ يزل الناس برسول الله ص الَّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبُّ لِقَاءِ الْقَوْمِ، حتى دخل رسول الله ص، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، أَحَدُ بَنِي النَّجَّارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله ص، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ، وَقَالُوا: استكرهنا رسول الله ص وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا السُّدِّيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله ص لَمَّا سَمِعَ بِنُزُولِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهَا أُحُدًا، قَالَ لأَصْحَابِهِ: أَشِيرُوا عَلَيَّ مَا أَصْنَعُ! فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الأَكْلُبِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا غَلَبَنَا عَدُوٌّ لَنَا قَطُّ أَتَانَا فِي دِيَارِنَا، فَكَيْفَ وَأَنْتَ فِينَا! فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ص عبد الله بن ابى بن سَلُولٍ- وَلَمْ يَدْعُهُ قَطُّ قَبْلَهَا- فَاسْتَشَارَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الاكلب، وكان رسول الله ص يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَيُقَاتِلُوا فِي الأَزِقَّةِ، فَأَتَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ:
يا رسول الله لا تحرمني الجنه، فو الذى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ: بِمَ؟ قَالَ: بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنِّي لا أَفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ قَالَ: صَدَقْتَ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ ان رسول الله ص دَعَا بِدِرْعِهِ فَلَبِسَهَا، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلاحَ نَدِمُوا وَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْنَا! نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ! فَقَامُوا فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: اصْنَعْ مَا رَأَيْتَ، [فَقَالَ رَسُولُ الله ص: لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعَهَا حتى يقاتل] فخرج

(2/503)


رسول الله ص إِلَى أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَقَدْ وَعَدَهُمُ الْفَتْحَ إِنْ صَبَرُوا فَلَمَّا خَرَجَ رَجَعَ عَبْدُ الله بن ابى بن سلول في ثلاثمائه، فَتَبِعَهُمْ أُبو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ يَدْعُوهُمْ، فَلَمَّا غَلَبُوهُ وَقَالُوا لَهُ: مَا نَعْلَمُ قِتَالا، وَلَئِنْ أَطَعْتَنَا لَتَرْجِعَنَّ مَعَنَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» فَهُمْ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، هَمُّوا بِالرُّجُوعِ حِينَ رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَعَصَمَهُمُ الله عز وجل، وبقي رسول الله ص في سبعمائة.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: قالوا: لما خرج عليهم رسول الله ص قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَكْرَهْنَاكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ صَلَّى اللَّهُ عليك! [فقال رسول الله ص:
مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يضعها حتى يقاتل،] فخرج رسول الله فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْمَدِينَةِ انْخَزَلَ عَنْهُ عبد الله بن ابى بن سَلُولٍ بِثُلُثِ النَّاسِ، فَقَالَ: أَطَاعَهُمْ فَخَرَجَ وَعَصَانِي، والله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أَيُّهَا النَّاسُ! فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: يَا قَوْمِ أُذَكِّرُكُمُ الله ان تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حَضَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ! قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِنَّا لا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ، فَلَمَّا اسَتَعْصَوْا عَلَيْهِ، وَأَبَوْا إِلا الانْصِرَافَ عَنْهُ، قَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ! فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بن ابى عن رسول الله ص من الشيخين بثلاثمائة، وبقي رسول الله ص في سبعمائة، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثةَ آلافٍ، وَالْخَيْلُ

(2/504)


مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَالظُّعُنُ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً.
قَالَ: وكان في المشركين سبعمائة دارع، كان فِي الْمُسْلِمِينَ مِائَةُ دَارِعٍ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْلِ إِلَّا فَرَسَانِ: فَرَسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ص، وَفَرَسٌ لأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ الْحَارِثِيِّ فَأَدْلَجَ رسول الله ص مِنَ الشَّيْخَيْنِ حِينَ طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ- وَهُمَا أُطُمَانِ، كَانَ يَهُودِيٌّ وَيَهُودِيَّةٌ أَعْمَيَانِ يَقُومَانِ عَلَيْهِمَا، فَيَتَحَدَّثَانِ فَلَذِلَكِ، سُمِّيَا الشَّيْخَيْنِ، وَهُو فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ- قال: وعرض رسول الله ص الْمُقَاتَلَةَ بِالشَّيْخَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَأَجَازَ مَنْ أَجَازَ، وَرَدَّ مَنْ رَدَّ، قَالَ: وَكَانَ فِيمَنْ رَدَّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَعُرَابَةُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّمَّاخُ:
رَأَيْتُ عُرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَنْمِي ... إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِالْيَمِينِ
قَالَ: وَرَدَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَأَجَازَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَكَانَ رسول الله ص، قَدِ اسْتَصْغَرَ رَافِعًا، فَقَامَ عَلَى خُفَّيْنِ لَهُ فِيهِمَا رِقَاعٌ، وَتَطَاوَلَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، فَلَمَّا رآه رسول الله ص أَجَازَهُ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ سَمُرَةَ بْنُ جُنْدَبٍ تَحْتَ مُرِّيِّ بْنِ سِنَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَمِّ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فكان ربيبه، فلما خرج رسول الله ص إِلَى أُحُدٍ، وَعَرَضَ أَصْحَابَهُ، فَرَدَّ مَنِ اسْتَصْغَرَ رَدَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ، وَأَجَازَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، فَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ لِرَبِيبِهِ مُرِّيِّ بْنِ سِنَانٍ: يَا أَبَتِ،

(2/505)


اجاز رسول الله ص رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَرَدَّنِي وَأَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، فَقَالَ: مُرِّيُّ بْنُ سِنَانٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَدَدْتَ ابْنِي، وَأَجَزْتَ رَافِعَ بْنَ خديج وابنى يصرعه! فقال النبي ص لِرَافِعٍ وَسَمُرَةَ: تَصَارَعَا، فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ رسول الله ص فَشَهِدَهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَكَانَ دَلِيلَ النَّبِيِّ ص أَبُو حَثْمَةَ الْحَارِثِيُّ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابن إسحاق: قال: ومضى رسول الله ص حَتَّى سَلَكَ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ، فَذَبَّ فَرَسٌ بِذَنَبِهِ، فَأَصَابَ كِلَابَ سَيْفٍ، فَاسْتَلَّهُ، فَقَالَ رسول الله ص- وَكَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَلَا يَعْتَافَ- لِصَاحِبِ السَّيْفِ: شِمْ سَيْفَكَ، فَإِنِّي أَرَى السُّيُوفَ سَتُسَلُّ الْيَوْمَ ثم قال رسول الله ص لأَصْحَابِهِ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كُثُبٍ، مِنْ طَرِيقٍ لا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ؟
فَقَالَ أَبُو حَثْمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدَّمَهُ فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى سَلَكَ بِهِ فِي مَالِ الْمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ- وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ- فلما سمع حس رسول الله ص وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَامَ يَحْثِي فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ، وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي لا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، [فقال رسول الله ص:
لا تَفْعَلُوا، فَهَذَا الأَعْمَى الْبَصَرِ، الأَعْمَى الْقَلْبِ] وَقَدْ بَدَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ص عنه،

(2/506)


فَضَرَبَهُ بِالْقَوْسِ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ، وَمَضَى رَسُولُ الله ص عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ، وَقَدْ سَرَحَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ وَالْكُرَاعَ فِي زُرُوعٍ كَانَتْ بِالصَّمْغَةِ مِنْ قَنَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ نَهَى رسول الله ص عَنِ الْقِتَالِ:
أَتَرْعَى زُرُوع بَنِي قَيْلَةَ وَلما نضارب! وتعبا رسول الله ص للقتال وهو في سبعمائة رَجُلٍ، وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلافِ رَجُلٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُعَلَّمٌ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَالرُّمَاةُ خَمْسُونَ رَجُلًا، وَقَالَ: انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، فَاثْبُتْ مَكَانَكَ لا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ، وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص بَيْنَ دِرْعَيْنِ.
فَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ المقدام، قال:
حدثنا إسرائيل وَحَدَّثَنا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَلَقِيَ رَسُولُ الله ص المشركين اجلس رسول الله ص رِجَالا بِإِزَاءِ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، وَقَالَ لَهُمْ: لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا.
فَلَمَّا لَقِيَ الْقَوْمَ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ قَدْ رَفَعْنَ عَنْ سوقهن، وبدت

(2/507)


خلا خيلهن، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَهْلا، أَمَا عَلِمْتُمْ مَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ رَسُولُ الله ص! فَأَبَوْا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صَرَفَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، فَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي ثَلاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، حَتَّى نَزَلَ أُحُدًا، وخرج النبي ص، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعُوا، وَأَمَّرَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْخَيْلِ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، واعطى رسول الله ص اللِّوَاءَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالْحَسْرِ، وَبَعَثَ حَمْزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعَهُ عِكْرِمَةُ بن ابى جهل، فبعث رسول الله ص الزُّبَيْرَ، وَقَالَ: اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَكُنْ بِإِزَائِهِ حَتَّى أُوذِنَكَ، وَأَمَرَ بِخَيْلٍ أُخْرَى، فَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَقَالَ: لا تَبْرَحُنَّ حَتَّى أُوذِنَكُمْ وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَحْمِلُ اللاتَ وَالْعُزَّى، فأرسل النبي ص إِلَى الزُّبَيْرِ أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَهَزَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» - إِلَى قَوْلِهِ- «مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ» ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ ينصرهم، وانه معهم وان رسول الله ص بَعَثَ نَاسًا مِنَ النَّاسِ، فَكَانُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، فقال رسول الله ص: كونوا هاهنا، فَرُدُّوا وَجْهَ مَنْ فَرَّ مِنَّا، وَكُونُوا حُرَّاسًا لَنَا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنَا وَأَنَّ رَسُولَ

(2/508)


الله ص لَمَّا هَزَمَ الْقَوْمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ الَّذِينَ كَانُوا جُعِلُوا مِنْ وَرَائِهِمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَرَأَوُا النِّسَاءَ مُصْعِدَاتٍ فِي الْجَبَلِ، وَرَأَوُا الْغَنَائِمَ: انْطَلِقُوا الى رسول الله ص، فَأَدْرِكُوا الْغَنِيمَةَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقُونَا إِلَيْهَا، وَقَالَتْ طائفه اخرى: بل نطيع رسول الله ص فَنَثْبُتْ مَكَانَنَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ لَهُمْ: «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» الَّذِينَ أَرَادُوا الْغَنِيمَةَ، «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» الَّذِينَ قَالُوا: نُطِيعُ رَسُولَ اللَّهِ وَنَثْبُتُ مَكَانَنَا، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا شَعُرْتُ أَنَّ أحدا من اصحاب النبي ص كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا، حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قال: لما برز رسول الله ص إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ أَمَرَ الرُّمَاةَ، فَقَامُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ فِي وُجُوهِ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنَّنَا قَدْ هَزَمْنَاهُمْ، فَإِنَّا لا نَزَالُ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ.
ثُمَّ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُثْمَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَامَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْجَلُنَا بِسِيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ، وَيَعْجَلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَعْجَلُهُ اللَّهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ يَعْجَلُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ! فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَعْجَلَكَ بِسَيْفِي إِلَى النَّارِ، أَوْ تَعْجَلَنِي بِسَيْفِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَطَعَ رِجْلَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ الله والرحم يا بن عم! فتركه، فكبر رسول الله ص، وقال لعلى:
مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي حِينَ انْكَشَفَتْ

(2/509)


عَوْرَتُهُ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ثُمَّ شَدَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمَاهُمْ، وحمل النبي ص وَأَصْحَابُهُ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ- حَمَلَ فَرَمَتْهُ الرُّمَاةُ فَانْقَمَعَ فَلَمَّا نَظَرَ الرُّمَاةُ الى رسول الله ص وَأَصْحَابِهِ فِي جَوْفِ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَهُ، بَادَرُوا الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نَتْرُكُ أَمْرَ رَسُولِ الله ص وَانْطَلَقَ عَامَّتُهُمْ فَلَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ، فَلَّما رَأَى خَالِدٌ قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ، ثُمَّ حَمَلَ فقتل الرماه، وحمل على اصحاب النبي ص فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ، تَنَادَوْا فشدوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ.
فَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلابِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَازِعِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ الزبير: [عرض رسول الله ص سَيْفًا فِي يَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ:
مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ قَالَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ قَالَ: فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، فَقَالَ: أَنَا آخِذُهُ بِحَقِّهِ، وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: حَقُّهُ أَلا تَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا، وَأَلا تَفِرَّ بِهِ عَنْ كَافِرٍ، قَالَ: فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ] قَالَ: وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْقِتَالَ أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ:
لأَنْظُرَنَّ الْيَوْمَ مَا يَصْنَعُ، قَالَ: فَجَعَلَ لا يَرْتَفِعُ لَهُ شَيْءٌ إِلا هَتَكَهُ وَأَفْرَاهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ جَبَلٍ، مَعَهُنَّ دُفُوفٌ لَهُنَّ، فِيهِنَّ امْرَأَةٌ تَقُولُ:
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَبْسُطُ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ

(2/510)


قَالَ: فَرَفَعَ السَّيْفَ لِيَضْرِبَهَا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهَا قَالَ: قُلْتُ: كُلَّ عَمَلِكَ قَدْ رَأَيْتُ، أَرَأَيْتَ رَفْعَكَ لِلسَّيْفِ عَنِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَا أَهْوَيْتَ بِه إِلَيْهَا! قَالَ:
فَقَالَ: أَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ أَقْتُلَ بِهِ امْرَأَةً.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ، حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ، فَقَالَ: أَنَا آخِذُهُ بِحَقِّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ- وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ رَجُلا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ إِذَا كَانَتْ، وَكَانَ إِذَا أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ يَعْصِبُهَا عَلَى رَأْسِهِ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ- فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ من يد رسول الله ص أَخَذَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ، فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، قَالَ: [قال رسول الله ص حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ] وَقَدْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ رَسُولا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّنَا نَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، فَإِنَّهُ لا حَاجَةَ لَنَا بِقِتَالِكُمْ فَرَدُّوهُ بِمَا يَكْرَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَرَ بن قَتَادَة، أَنَّ أَبَا عَامِرٍ عَبْدَ عَمْرِو بْنَ صَيْفِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَمَةَ، أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَقَدْ كَانَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مباعدا

(2/511)


لرسول الله ص، مَعَهُ خَمْسُونَ غُلَامًا مِنَ الأَوْسِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ ابن حَنِيفٍ- وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ- فَكَانَ يَعِدُ قُرَيْشًا أَنْ لَوْ قَدْ لَقِيَ مُحَمَّدًا لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلانِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ أَبُو عَامِرٍ فِي الأَحَابِيشِ وَعُبْدَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَنَادَى:
يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ، أَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالُوا: فَلا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ- وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الرَّاهِبَ، فسماه رسول الله ص الْفَاسِقَ- فَلَمَّا سَمِعَ رَدَّهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ قِتَالًا شديدا، ثم ارضخهم بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لأَصْحَابِ اللِّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يُحَرِّضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ: يَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ لِوَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ، إِذَا زَالَتْ زَالُوا، فَإِمَّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَسَنَكْفِيكُمُوهُ فَهَمُّوا بِهِ وَتَوَاعَدُوهُ، وَقَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ إِلَيْكَ لِوَاءَنَا، سَتَعْلَمُ غَدًا إِذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ! وَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسْوَةِ اللَّوَاتِي مَعَها.
وَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ وَيُحَرِّضْنَهُمْ، فَقَالَتْ هِنْدٌ فِيمَا تَقُولُ:
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ ... وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ ... فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ
وَتَقُولُ:
وَيْهَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ! ... وَيْهَا حُمَاةَ الأَدْبَارِ!
ضَرْبًا بِكُلِّ بتار

(2/512)


وَاقْتَتَلَ النَّاسُ حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَصْرَهُ، وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ، فَحَسُّوهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى كَشَفُوهُمْ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ لا شَكَّ فِيهَا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبِهَا مُشَمِّرَاتٍ هوارب، ما دون اخذهن قليل كَثِيرٌ، إِذ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينَا مِنْ أَدْبَارِنَا وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ! فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ، بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته سمره بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب، غلام لبني أبي طلحة، حبشي، وكان آخر من أخذه منهم، فقاتل حتى قطعت يداه، ثم برك عليه، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه، وهو يقول: اللهم هل أعذرت! فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر:
فخرتم باللواء وشر فخر ... لواء حين رد إلى صواب
جعلتم فخركم فيها لعبد ... من الأم من وطي عفر التراب

(2/513)


ظننتم والسفيه له ظنون ... وما إن ذاك من أمر الصواب
بأن جلادنا يوم التقينا ... بمكة بيعكم حمر العياب
أقر العين أن عصبت يداه ... وما إن تعصبان على خضاب
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سعيد، قال: حدثنا حبان ابن عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:
لَمَّا قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَصْحَابَ الالويه، ابصر رسول الله ص جَمَاعَةً مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: احْمِلْ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ، وَقَتَلَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيَّ قَالَ: ثُمَّ أَبْصَرَ رسول الله ص جَمَاعَةً مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ:
احْمِلْ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَقَتَلَ شَيْبَةَ بن مالك احد بنى عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَلْمُوَاسَاةُ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ:
وَأَنَا مِنْكُمَا، قَالَ: فَسَمِعُوا صَوْتًا:
لا سَيْفَ إِلا ذُو الْفَقَارِ ... وَلا فَتًى إِلا عَلِيٌّ
] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا أُتِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمُ انْكَشَفُوا وَأَصَابَ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلاءِ أَثْلاثًا: ثُلُثٌ قَتِيلٌ، وَثُلُثٌ جَرِيحٌ، وَثُلُثٌ مُنْهَزِمٌ، وَقَدْ جَهَدَتْهُ الْحَرْبُ حَتَّى مَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ، وَأُصِيبَتْ رباعيه رسول الله ص السُّفْلَى، وَشُقَّتْ شَفَتُهُ،

(2/514)


وَكُلِمَ فِي وَجْنَتَيْهِ وَجَبْهَتِهِ فِي أُصُولِ شَعْرِهِ، وَعَلاهُ ابْنُ قُمَيْئَةَ بِالسَّيْفِ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ رسول الله ص وَشُجَّ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، [وَيَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ!] فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» الآيَةَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ غَشِيَهُ الْقَوْمُ:
مَنْ رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ!] فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، قَالَ: فَقَامَ زِيَادُ بْنُ السَّكَنِ فِي نَفَرٍ خَمْسَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ عُمَارَةُ بْنُ زياد ابن السكن، فقاتلوا دون رسول الله ص رَجُلا، ثُمَّ رَجُلا، يُقْتَلُونَ دُونَهُ، حَتَّى كَانَ آخِرَهُمْ زِيَادٌ- أَوْ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السَّكَنِ- فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، ثُمَّ فَاءَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِئَةٌ حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ رسول الله ص: ادنوه منى، فادنوه منه، فوسده قَدَمَهُ، فَمَاتَ وَخَدُّهُ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ص، وترس دون

(2/515)


رسول الله ص أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظَهْرِهِ وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِ النَّبْلُ، وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ دُونَ رَسُولِ الله ص، فَقَالَ سَعْدٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُنَاوِلُنِي وَيَقُولُ:
ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ مَا فِيهِ نَصْلٌ، فَيَقُولُ:
ارْمِ بِهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، قال:
حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ان رسول الله ص رَمَى عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ سِيَتُهَا، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ، وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص رَدَّهَا بِيَدِهِ، فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رسول الله ص وَمَعَهُ لِوَاؤُهُ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ ابْنُ قُمَيْئَةَ اللَّيْثِيُّ.
وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ الله ص، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ:
قَتَلْتُ مُحَمَّدًا فَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ص اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَاتَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى قَتَلَ أَرْطَأَةَ بْنَ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ أَحَدَ النَّفَرِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ اللِّوَاءَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْغُبْشَانِيُّ- وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي نِيَارٍ- فَقَالَ لَهُ حمزه بن عبد المطلب: هلم الى يا بن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ- وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنْمَارٍ مَوْلاةَ شُرَيْقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَتْ خَتَّانَةً بِمَكَّةَ- فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ، فقال

(2/516)


وَحْشِيٌّ غُلامُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لانظر الى حمزه يهذ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، مَا يَلِيقُ شَيْئًا يَمُرُّ بِهِ، مِثْلَ الْجَمَلِ الأَوْرَقِ، إِذْ تَقَدَّمَنِي إِلَيْهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: هَلُمَّ الى يا بن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ! فَضَرَبَهُ، فَكَأَنَّمَا أَخْطَأَ رَأْسَهُ، وَهَزَزْتُ حربتي حتى إذ رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ فِي لُبَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، وَأَقْبَلَ نَحْوِي، فَغَلَبَ فَوَقَعَ، فَأَمْهَلْتُهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ جِئْتُ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَ تَنَحَّيْتُ إِلَى الْعَسْكِر، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِشَيْءٍ حَاجَةٌ غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مُسَافِعِ بْنِ طَلْحَةَ وَأَخَاهُ كِلابَ بْنَ طَلْحَةَ، كِلاهُمَا يُشْعِرُهُ سَهْمًا، فَيَأْتِي أُمَّهُ سِلافَةَ فَيَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا، فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ، مَنْ أَصَابَكَ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلا حِينَ رَمَانِي يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَقْلَحِ! فَتَقُولُ: أَقْلَحِيٌّ! فَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنِ اللَّهُ أَمْكَنَهَا مِنْ رَأْسِ عَاصِمٍ أَنْ تَشْرَبَ فِيهِ الخمر وكان عاصم قد عاهد الله الا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا وَلا يَمَسَّهُ.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ، أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فما تصنعون بالحياه بعده؟ قوموا فموتوا كراما على ما مات عليه رسول الله ص ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَبِهِ سُمِّي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قَالَ:
حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ

(2/517)


النَّضْرِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً وَطَعْنَةً فَمَا عَرَفَهُ إِلا أُخْتُهُ، عَرَفَتْهُ بِحُسْنِ بَنَانِهِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال:
كان أول من عرف رسول الله ص بعد الهزيمة وقول الناس:
قتل رسول الله ص- كما حدثني ابن شهاب الزهري- كعب بن مالك، أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت:
بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا! هذا رسول الله ص! فاشار الى رسول الله ص: أن أنصت فلما عرف المسلمون رسول الله ص نهضوا به، ونهض نحو الشعب، معه عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين فلما أسند رسول الله ص في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد! لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ قال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله ص الحربة من الحارث بن الصمة- قال: يقول بعض الناس فيما ذكر لي:
فلما أخذها رسول الله ص، انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا.
وكان أبي بن خلف- كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- يَلْقَى رسول الله ص بِمَكَّةَ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عِنْدِي الْعُودَ، أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عليه! فيقول

(2/518)


رسول الله ص: بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ، فَاحْتَقَنَ الدَّمُ، قَالَ: قَتَلَنِي وَاللَّهِ مُحَمَّدُ قَالُوا: ذَهَبَ وَاللَّهِ فُؤَادُكَ، وَاللَّهِ إِنْ بِكَ بَأْسٌ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ بمكة قال لي: انا اقتلك، فو الله لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي فَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ بِسَرَفٍ وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ.
قَالَ: فلما انتهى رسول الله ص إِلَى فَمِ الشِّعْبِ، خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى مَلأَ دِرْقَتَهُ مِنَ الْمِهْرَاسِ ثُمَّ جاء به الى رسول الله ص لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا فَعَافَهُ، وَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، وَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَى وَجْهَ نَبِيِّهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَطُّ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ لَسَيِّئَ الْخُلُقِ، مُبْغَضًا فِي قَوْمِهِ، وَلَقَدْ كفاني منه قول رسول الله ص: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: أَتَى ابْنُ قُمَيْئَةَ الْحَارِثِيُّ احد بنى الحارث ابن عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ ص بِحَجَرٍ، فَكَسَرَ أَنْفَهُ وَرَبَاعِيَتَهُ، وَشَجَّهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَثْقَلَهُ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ بَعْضُهُمُ الْمَدِينَةَ، وَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ الْجَبَلِ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَقَامُوا عليها، وجعل رسول الله ص يَدْعُو النَّاسَ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ!

(2/519)


إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ! فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَلاثُونَ رَجُلا، فَجَعَلُوا يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَقِفْ أَحَدٌ إِلا طَلْحَةَ وَسَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ، فَحَمَاهُ طَلْحَةُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فِي يَدِهِ فَيَبِسَتْ يَدُهُ، وَأَقْبَلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَقَدْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ النبي ص، فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ، فَقَالَ: يَا كَذَّابُ، اين تفر! فحمل عليه فطعنه النبي ص فِي جَيْبِ الدِّرْعِ، فَجُرِحَ جُرْحًا خَفِيفًا، فَوَقَعَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ، فَاحْتَمَلُوهُ، وَقَالُوا:
لَيْسَ بِكَ جِرَاحَةٌ، فَمَا يُجْزِعُكَ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ: لأَقْتُلَنَّكَ! لَوْ كَانَتْ بِجَمِيعِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ لَقَتَلَتْهُمْ! فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا يَوْمًا أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ حَتَّى مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ.
وَفَشَا فِي النَّاسِ ان رسول الله ص قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ: لَيْتَ لَنَا رَسُولا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَيَأْخُذُ لَنَا أَمَنَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ! يَا قَوْمُ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ.
قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا قَوْمُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ، فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلاءِ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلاءِ! ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ص يَدْعُو النَّاسَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَضَعَ رَجُلٌ سَهْمًا فِي قَوْسِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْمِيَهُ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله ص حيا، وفرح رسول الله ص حِينَ رَأَى أَنَّ فِي أَصْحَابِهِ مَنْ يَمْتَنِعُ به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ص ذَهَبَ عَنْهُمُ الْحَزَنُ، فَأَقْبَلُوا يَذْكُرُونَ الْفَتْحَ، وَمَا فَاتَهُمْ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ أَصْحَابَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ

(2/520)


وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» .
فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ نَسَوْا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وأهمهم ابو سفيان، فقال رسول الله ص: لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، اللَّهُمَّ إِنْ تُقْتَلْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لا تُعْبَدُ! ثُمَّ نَدَبَ أَصْحَابَهُ، فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَنْزَلُوهُمْ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: اعْلُ هُبَلُ، حَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ، وَيَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ، وَكَانَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَكَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ! [فَقَالَ رَسُولُ الله ص لِعُمَرَ: قُلِ: اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ] فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِيكُمْ مُحَمَّدٌ! أَمَا إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ فِيكُمْ مُثْلَةٌ، مَا أَمَرْتُ بِهَا وَلا نَهَيْتُ عَنْهَا، وَلا سَرَّتْنِي وَلا سَاءَتْنِي، فَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِشْرَافَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» ، وَالْغَمُّ الأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ، وَالْغَمُّ الثَّانِي إِشْرَافُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، «لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ» من الغنيمه «وَلا ما أَصابَكُمْ» من القتل حين تَذْكُرُونَ فَشَغَلَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ- بَيْنَا رسول الله ص فِي الشِّعْبِ، وَمَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ، فَقَالَ رسول الله ص: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، فَقَاتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ عَنِ الْجَبَلِ، وَنَهَضَ رَسُولُ الله ص إِلَى صَخْرَةٍ مِنَ الْجَبَلِ لِيَعْلُوهَا وَقَدْ كَانَ بدن رسول

(2/521)


الله ص، وظاهر بَيْنَ دِرْعَيْنِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَنَهَضَ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ: قَالَ رسول الله ص، كَمَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، [قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله ص يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ حِينَ صَنَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ مَا صَنَعَ] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كان الناس انهزموا عن رسول الله ص، حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى الْمنقَّى دُونَ الأَعْوَصِ، وَفَرَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ رَجُلانِ مِنَ الأَنْصَارِ، حَتَّى بَلَغُوا الْجَلْعَبِ جَبَلًا بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الأَعْوَصَ، فَأَقَامُوا بِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رسول الله ص، فزعموا ان رسول الله ص، قَالَ لَهُمْ: لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عريضَةً.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلُ، الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا اسْتَعْلاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الأَسْوَدِ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ شَعُوبٍ- قَدْ عَلا أَبَا سُفْيَانَ، فَضَرَبَهُ شَدَّادٌ فَقَتَلَهُ [فَقَالَ رسول الله ص: إِنَّ صَاحِبَكُمْ- يَعْنِي حَنْظَلَةَ- لَتُغَسِّلُهُ الْمَلائِكَةُ فَسَلُوا أَهْلَهُ: مَا شَأْنُهُ؟ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَائِعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: لذلك غسلته الملائكة،] فقال شداد ابن الأَسْوَدِ فِي قَتْلِهِ حَنْظَلَةَ:
لأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي ... بِطَعْنَةٍ مِثْلَ شُعَاعِ الشَّمْسِ

(2/522)


وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ يَذْكُرُ صَبْرَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمُعَاوَنَةَ ابْنِ شعُوبٍ شَدَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ إِيَّاهُ عَلَى حَنْظَلَةَ:
وَلَوْ شِئْتُ نَجَّتْنِي كُميتٌ طِمِرَّة ... وَلَمْ أَحْمِلِ النَّعْمَاءَ لابْنِ شَعُوبٍ
فَمَا زَالَ مُهْرِي مُزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمْ ... لَدَى غَدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبٍ
أُقَاتِلُهُمْ وَأَدْعِي يال غَالِبٍ ... وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بِرُكْنِ صَلِيبٍ
فبكي ولا ترعي مقالة عاذل ... ولا تسأمي من عبرة ونحيب
أباك وإخوانا له قد تتابعوا ... وحق لهم من عبرة بنصيب
وسلى الذي قد كان في النفس أنني ... قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما نجيبا ومصعبا ... وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونتي ... لكانت شجى في القلب ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الحلائب منهم ... لهم خدب من مغبط وكئيب
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفيا ولا في خطة بضريب
فأجابه حسان بن ثابت فقال:
ذكرت القروم الصيد من آل هاشم ... ولست لزور قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ... نجيبا وقد سميته بنجيب
ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه ... وشيبة والحجاج وابن حبيب!

(2/523)


غداة دعا العاصي عليا فراعه ... بضربة عضب بله بخضيب
وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه:
ولولا دفاعى يا بن حرب ومشهدي ... لألفيت يوم النعف غير مجيب
ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت ... ضباع عليه او ضراء كليب
وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله:
وما زال مهري مزجر الكلب منهم.
وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر:
وإنك لو عاينت ما كان منهم ... لأبت بقلب ما بقيت نخيب
لدى صحن بدر أو لقامت نوائح ... عليك، ولم تحفل مصاب حبيب
جزيتهم يوما ببدر كمثله ... على سابح ذي ميعة وشبيب
قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة- فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان- والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من اصحاب رسول الله ص، يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيا، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة

(2/524)


فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من اصحاب رسول الله ص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بْنُ كَيْسَانَ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطاب قال لحسان: يا بن الْفُرَيْعَةِ لَوْ سَمِعْتَ مَا تَقُولُ هِنْدٌ وَرَأَيْتَ أَشَرَهَا، قَائِمَةً عَلَى صَخْرَةٍ تَرْتَجِزُ بِنَا، وَتَذْكُرُ مَا صَنَعَتْ بِحَمْزَةَ! فَقَالَ لَهُ حَسَّانُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى الْحَرْبَةِ تَهْوِي وَأَنَا عَلَى رَأْسٍ فَارِعٍ- يَعْنِي أُطُمَةً- فَقُلْتُ:
وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَسِلاحٌ مَا هِيَ بِسِلاحِ الْعَرَبِ، وَكَأَنَّهَا إِنَّمَا تَهْوِي إِلَى حَمْزَةَ، وَلا أَدْرِي أَسْمِعْنِي بَعْضَ قَوْلِهَا أكفيكُمُوهَا، قَالَ: فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ بَعْضُ مَا قَالَتْ، فَقَالَ حَسَّانُ يَهْجُو هِنْدًا:
أَشِرَتْ لِكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا ... لُؤْمًا إِذَا أَشِرَتْ مَعَ الْكُفْرِ
لَعَنَ الإِلَهُ وَزَوْجَهَا مَعَهَا ... هِنْدَ الْهُنُودِ عَظِيمَةَ الْبَظْرِ
أَخَرَجْتِ مرقصة إلى أحد ... في القوم مقتبة على بكر
بكر ثفال لا حراك به ... لا عن معاتبة ولا زجر
وعصاك إستك تتقين بها ... دقي العجاية هند بالفهر
قرحت عجيزتها ومشرجها ... من دأبها نصا على القتر

(2/525)


ظلت تداويها زميلتها ... بالماء تنضحه وبالسدر
أخرجت ثائرة مبادرة ... بأبيك وابنك يوم ذي بدر
وبعمك المستوه في ردع ... وأخيك منعفرين في الجفر
ونسيت فاحشة أتيت بها ... يا هند، ويحك سبة الدهر!
فرجعت صاغرة بلا ترة ... منا ظفرت بها ولا نصر
زعم الولائد أنها ولدت ... ولدا صغيرا كان من عهر
قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم- فِيمَا حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَشْرَفَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:
أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فقال رسول الله ص: لا تُجِيبُوهُ، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لا تُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الخطاب؟ ثلاثا، فقال رسول الله ص: لا تُجِيبُوهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ قُتِلُوا، لَوْ كَانُوا فِي الأَحْيَاءِ لأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، قَدْ أَبْقَى اللَّهُ لَكَ مَا يُخْزِيكَ! فَقَالَ:
اعْلُ هُبَلُ! اعْلُ هُبَلُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أَجِيبُوهُ، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَلا لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قُولُوا: اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ

(2/526)


بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلا لَمْ آمُرُ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ فِي حَدِيثِهِ: لَمَّا أَجَابَ عُمَرُ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: هَلُمَّ يَا عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ص: إِيتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ:
أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُمَرُ، أَقَتَلْنَا مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ لا، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ كَلامَكَ الآنَ، فَقَالَ: أَنْتَ أَصْدَقُ عِنْدِي مِنَ ابْنِ قَمِيئَةَ وَأَبَرُّ، لِقَوْلِ ابْنِ قَمِيئَةَ لَهُمْ: إِنِّي قَتَلْتُ مُحَمَّدًا ثُمَّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلاكُمْ مُثُلٌ وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَلا سَخَطْتُ، وَلا نَهَيْتُ وَلا أَمَرْتُ.
وَقَدْ كَانَ الْحُلَيْسُ بْنُ زَبَّانَ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الأَحَابِيشِ، قَدْ مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَهُوَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِ حَمْزَةَ بِزُجِّ الرُّمْحِ، وَهُوَ يَقُولُ: ذُقْ عُقَقُ! فَقَالَ الْحُلَيْسُ: يَا بَنِي كِنَانَةَ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ يصنع بابن عمه كما تَرَوْنَ لَحْمًا! فَقَالَ: اكْتُمْهَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ زَلَّةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى: إِنَّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: قُلْ نَعَمْ هِيَ بَيْنَنَا وبينك موعد.
ثم بعث رسول الله ص على بن ابى طالب ع، فَقَالَ: اخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا يُرِيدُونَ! فَإِنْ كَانُوا قَدِ اجْتَنَبُوا الْخَيْلَ، وَامَتَطَوُا الإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ، وَسَاقُوا الإِبِلَ، فَهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فو الذى نفسي بيده، لئن أرادوها لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ فِيهَا ثُمَّ لأُنَاجِزَنَّهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا

(2/527)


يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا اجْتَنَبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الإِبِلَ تَوَجَّهُوا الى مكة، وقد كان رسول الله ص قَالَ: أَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَأَخْفِهِ حَتَّى تَأْتِيَنِي قال على ع: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ قَدْ تَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ أَقْبَلْتُ أَصِيحُ، مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكْتُمَ الَّذِي أَمَرَنِي به رسول الله ص لِمَا بِي مِنَ الْفَرَحِ، إِذْ رَأَيْتُهُمْ انْصَرَفُوا إِلَى مَكَّةَ عَنِ الْمَدِينَةِ.
وَفَرَغَ النَّاسُ لِقَتْلاهُمْ فقال رسول الله ص- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ أَخِي بَنِي النَّجَّارِ، أَنَّ رسول الله ص، قَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ؟ - وَسَعْدٌ أَخُو بَنِي الْحَارِثَ بْنِ الْخَزْرَجِ- أَفِي الأَحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا أَنْظُرُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَعَلَ، فَنَظَرَ فوجده جريحا في القتلى به رمق، قال: فقلت له: ان رسول الله ص أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ لَهُ: أَفِي الأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ؟
قَالَ: فَأَنَا فِي الأَمْوَاتِ، أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: ان سعد ابن الرَّبِيعِ يَقُولُ لَكَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرَ مَا جُزِيَ نَبِيٌّ عَنْ أُمَّتِهِ، وَأَبْلِغْ عَنِّي قَوْمَكَ السَّلامُ، وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ يَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ الله ان خلص الى نبيكم ص وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مات، فجئت رسول الله ص فاخبرته خبره وخرج رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي- يَلْتَمِسُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَوَجَدَهُ بِبَطْنِ الْوَادِي قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ، وَمُثِّلَ بِهِ، فَجُدِعَ أَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ:
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزبير، [ان رسول الله ص حِينَ رَأَى بِحَمْزَةَ مَا رَأَى، قَالَ: لَوْلا أَنْ تَحْزَنَ صَفِيَّةُ أَوْ تَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَكُونَ فِي أَجْوَافِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ، وَلَئِنْ أَنَا أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ لأُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ رَجُلا مِنْهُمْ،] فَلَمَّا رَأَى

(2/528)


المسلمون حزن رسول الله ص وَغَيْظَهُ عَلَى مَا فُعِلَ بِعَمِّهِ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ قَطُّ!.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أَخْبَرَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ: وحدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ الله ص وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» ، الى آخر السورة، فعفا رسول الله ص وَصَبَرَ وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقْبَلَتْ- فِيمَا بَلَغَنِي- صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِتَنْظُرَ إِلَى حَمْزَةَ- وَكَانَ أَخَاهَا لأَبِيهَا وَأُمِّهَا-[فقال رسول الله ص لابْنِهَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: الْقَهَا فَارْجِعْهَا، لا تَرَى مَا بِأَخِيهَا] فَلَقِيَهَا الزُّبَيْرُ فَقَالَ لَهَا: يا أمه، ان رسول الله ص يَأْمُرُكِ أَنْ تَرْجِعِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ مُثِّلَ بِأَخِي وَذَلِكَ فِي اللَّهِ قَلِيلٌ! فَمَا أَرْضَانَا بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ! لأَحْتَسِبَنَّ وَلأَصْبِرَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ الزُّبَيْرُ رسول الله ص فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: خَلِّ سَبِيلَهَا، فَأَتَتْهُ فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ وَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ امر رسول الله ص بِهِ فَدُفِنَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَزَعَمَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ- وَكَانَ لأُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَالُهُ حَمْزَةَ، وَكَانَ قَدْ مُثِّلَ بِهِ كَمَا مُثِّلَ بِحَمْزَةَ، الا انه

(2/529)


لَمْ يُبْقَرْ عَنْ كَبِدِهِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص دَفَنَهُ مَعَ حَمْزَةَ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ إِلا عَنْ أَهْلِهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لما خرج رسول الله ص إِلَى أُحُدٍ وَقَعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ- وَهُوَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ- وَثَابِتُ بْنُ وَقْشِ بْنِ زَعُورَاءَ فِي الآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ: لا ابالك! ما تنتظر؟
فو الله إِنْ بَقِيَ لِوَاحِدٍ مِنَّا مِنْ عُمْرِهِ إِلا ظِمْءُ حِمَارٍ، إِنَّمَا نَحْنُ هَامَةٌ الْيَوْمَ أَوْ غَدٍ، أَفَلا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا، ثُمَّ نَلْحَقَ بِرَسُولِ الله ص، لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رسول الله ص! فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا، ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى دَخَلا فِي النَّاسِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا، فَأَمَّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ، الْيَمَانُ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُ، وَلا يَعْرِفُونَهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي! قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ عَرَفْنَاهُ.
وَصَدَقُوا، قَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهو ارحم الراحمين! فاراد رسول الله ص أَنْ يَدِيَهُ فَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فزادته عند رسول الله ص خيرا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: قَالَ محمد بْن إِسْحَاقَ:
حدثني عاصم بْن عمر بْن قتادة، أن رجلا منهم كان يدعى حاطب بْن أمية بْن رافع، وكان له ابن يقال له يزيد بْن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد: فأتي به إلى دار قومه وهو يموت، فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولون من الرجال والنساء: ابشر يا بن حاطب بالجنة،

(2/530)


قَالَ: وكان حاطب شيخا قد عسا فِي الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فَقَالَ: بأي شيء تبشرونه، أبجنة من حرمل! غررتم والله هذا الغلام من نفسه، وفجعتموني بِهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بن عمر بن قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ أُتِيَ لا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ هُوَ، يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ، فكان رسول الله ص يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ لَهُ: إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، قَاتَلَ قِتَالا شَدِيدًا، فَقَتَلَ هُوَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ تِسْعَةً، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةَ، فَاحْتُمِلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظُفَرَ قَالَ:
فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ، فَأَبْشِرْ! قَالَ: بم ابشر! فو الله إِنْ قَاتَلْتُ إِلا عَلَى أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ، فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ، أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَطَعَ رَوَاهِشَهُ فَنَزَفَهُ الدم فمات، فاخبر بذلك رسول الله ص، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا! وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخَيْرِيقٌ الْيَهُودِيُّ، وَكَانَ احد بنى ثعلبه ابن الْفِطْيَونِ، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، فَقَالَ: لا سَبْتَ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ، وَقَالَ: إِنْ أُصِبْتُ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص- فِيمَا بَلَغَنِي: مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن

(2/531)


إِسْحَاقَ، قَالَ: وَقَدِ احْتَمَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتْلاهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَنُوهُمْ بِهَا، ثُمَّ نَهَى رسول الله ص عَنْ ذَلِكَ، [وَقَالَ: ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا] .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، [أَنَّ رسول الله ص قَالَ يَوْمَئِذٍ حِينَ أَمَرَ بِدَفْنِ الْقَتْلَى: انْظُرُوا عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فَإِنَّهُمَا كَانَا مُتَصَافِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا، فَاجْعَلُوهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ] قَالَ: فَلَمَّا احْتَفَرَ مُعَاوِيَةُ الْقَنَاةَ أُخْرِجَا وَهُمَا يَنْثَنِيَانِ كَأَنَّمَا دُفِنَا بالأمس.
قال: ثم انصرف رسول الله ص رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَتْهُ حِمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ- كَمَا ذُكِرَ لِي- فَنُعِيَ لَهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ، [فَقَالَ رَسُولُ الله ص: إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ، لِمَا رَأَى مِنْ تَثَبُّتِهَا عِنْدَ أَخِيهَا وَخَالِهَا، وَصِيَاحِهَا عَلَى زوجها] .
قال: ومر رسول الله ص بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الاشهل وظفر، فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنَّوَائِحَ عَلَى قَتْلاهُمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَا رسول الله ص فَبَكَى [ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ!] فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ امر نِسَاءَهُمْ أَنْ يَتَحَزَّمْنَ ثُمَّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عم رسول الله ص.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ،

(2/532)


قال: مر رسول الله ص بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وأخوها وأبوها مع رسول الله ص بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا قَالَتْ: فَمَا فَعَلَ رسول الله ص؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلانٍ، هُوَ بِحَمْدِ الله كما تحبين، قالت: أرنيه حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأُشِيرَ لَهَا إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى أَهْلِهِ نَاوَلَ سَيْفَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: اغسلي عن هذا دمه يا بنيه، وناولها على ع سيفه، وقال: وهذا فاغسلي عنه، فو الله لقد صدقنى اليوم فقال رسول الله ص: لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ الْقِتَالَ لَقَدْ صَدَقَ مَعَكَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، وَأَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ وَزَعَمُوا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حين اعطى فاطمه ع سَيْفَهُ قَالَ:
أَفَاطِمُ هَاكَ السَّيْفُ غَيْرُ ذَمِيمِ ... فَلَسْتُ بِرِعْدِيدٍ وَلا بِمُلِيمِ
لَعَمْرِي لَقَدْ قَاتَلْتُ فِي حُبِّ أَحْمَدَ ... وَطَاعَةِ رَبٍّ بِالْعِبَادِ رَحِيمِ
وسيفي بكفى كالشهاب اهزه ... اجذبه مِنْ عَاتِقٍ وَصَمِيمِ
فَمَا زِلْتُ حَتَّى فَضَّ رَبِّي جُمُوعَهُمْ ... وَحَتَّى شَفَيْنَا نَفْسَ كُلِّ حَلِيمِ
وَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ حِينَ أَخَذَ السَّيْفَ مِنْ يد رسول الله ص فَقَاتَلَ بِهِ قِتَالا شَدِيدًا- وَكَانَ يَقُولُ: رَأَيْتُ إِنْسَانًا يَخْمِشُ النَّاسَ خَمْشًا شَدِيدًا فَصَمَدْتُ لَهُ، فَلَمَّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَلْوَلَتْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ، فاكرمت سيف رسول الله ص أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً- وَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ:
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي ... وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ
أَلا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكُيُولِ ... اضْرِبْ بسيف الله والرسول

(2/533)


غزوه حمراء الأسد
وكان رجوع رسول الله ص إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْوَقْعَةِ بِأُحُدٍ، فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عبد الله، عن عكرمة، قَالَ: كان يوم أحد يوم السبت، للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم أحد- وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال- اذن مؤذن رسول الله ص فِي الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه: ألا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بْن عبد الله بْن عمرو بن حزام، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مَعَ رَسُولِ الله ص على نفسي، فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فاذن له رسول الله ص، فخرج معه، وانما خرج رسول الله ص مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج فِي طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ كَانَ شَهِدَ أُحُدًا، قال: شهدت مع رسول الله ص أَنَا وَأَخٌ لِي، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مؤذن رسول الله ص بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، قُلْتُ لأَخِي وَقَالَ لي:
أتفوتنا غزوه مع رسول الله ص! وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّا إِلا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ص- وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ- فَكُنْتُ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عَقِبَةً وَمَشَى عَقِبَةً، حَتَّى

(2/534)


انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَخَرَجَ رسول الله ص، حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثًا: الاثْنَيْنِ، وَالثُّلاثَاءُ، وَالأَرْبِعَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ مَرَّ بِهِ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ محمد بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ- مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَتْ خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبه رسول الله ص بِتُهَامَةَ، صَفْقَتُهُمْ مَعَهُ، لا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِهَا- وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ كَانَ أعفاك فيهم! ثم خرج من عند رسول الله ص بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ الى رسول الله ص واصحابه، وقالوا:
أصبنا حد أَصْحَابِهِ وَقَادَتِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ، ثُمَّ رَجَعْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ، لَنَكِرَّنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَلَنَفْرَغَنَّ مِنْهُمْ فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا، قَالَ:
مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلِبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فِيهِمْ مِنَ الْحَنَقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ تَرْتَحِلُ حتى ترى نواصي الخيل قال: فو الله لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ، قَالَ:
فانى انهاك عن ذلك، فو الله لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتَ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ، قَالَ: وَمَاذَا قُلْتَ؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأَصْوَاتُ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الأَرْضُ بِالْجُرْدِ الأَبَابِيلِ

(2/535)


تُرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةً ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلا خُرْقٍ مَعَازِيلِ
فَظَلْتُ عَدْوًا أَظُنُّ الأَرْضَ مَائِلَةً ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ ... إِذَا تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْجِيلِ!
إِنِّي نَذِيرٌ لأَهْلِ الْبُسْلِ ضَاحِيَةً ... لِكُلِّ ذِي إِرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ
مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لا وَخْشٍ قَنَابِلُهُ ... وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ
قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ وَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمِيَرَةَ، قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا إِلَيْهِ، وَأَحْمِلُ لَكُمْ إِبِلَكُمْ هَذِهِ غَدًا زَبِيبًا بِعُكَاظٍ إِذَا وَافَيْتُمُوهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الْمَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ الله ص وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سفيان، فقال رسول الله ص واصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الاخبار ان رسول الله ص ظَفَرَ فِي وَجْهِهِ إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبِي عَزَّةَ الجمحى، وكان رسول الله ص خَلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ

(2/536)


وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ- وُلِدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَفِيهَا عَلِقَتْ فَاطِمَةُ بِالْحُسَيْنِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَ وِلادَتِهَا الْحَسَنَ وَحَمْلِهَا بِالْحُسَيْنِ إِلا خَمْسُونَ لَيْلَةً.
وَفِيهَا حَمَلَتْ- فِيمَا قِيلَ- جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ فِي شوال

(2/537)


ذِكْرُ الأَحْدَاثِ الَّتِي كَانَتْ فِي

سَنَةِ أَرْبَعٍ من الهجره

غزوه الرجيع
ثُمَّ دَخَلَتِ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ فِيهَا غَزْوَةُ الرَّجِيعِ فِي صَفَرٍ.
وَكَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَا حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: قدم على رسول الله ص بَعْدَ أُحُدٍ رَهْطٌ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَّةِ فَقَالُوا لَهُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فِينَا إِسْلامًا وَخَيْرًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُفَقِّهُونَنَا في الدين، ويقرءوننا القرآن، ويعلموننا الشرائع الاسلام.
فبعث رسول الله ص معهم نَفَرًا سِتَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ حَلِيفَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَخَالِدَ بْنَ الْبُكَيْرِ حَلِيفَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ أخا بنى عمرو بن عوف، وحبيب بن عدى أخا بنى جحجبى بْنِ كُلَفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ أَخَا بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَارِقٍ حَلِيفًا لِبَنِي ظُفَرَ من بلى.
وامر رسول الله ص عَلَى الْقَوْمِ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ، فَخَرَجُوا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى الرَّجِيعِ مَاءٌ لُهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الْحِجَازِ مِنْ صُدُورِ الْهَدْأَةِ غَدَرُوا بِهِمْ، فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلا، فَلَمْ يُرَعِ الْقَوْمُ وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ إِلا بِالرِّجَالِ في ايديهم السيوف، قد غشوهم.
فأخذوا أسيافهم لِيُقَاتِلُوا الْقَوْمَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ، وَلَكِنَّا

(2/538)


نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَلا نَقْتُلَكُمْ.
فاما مَرْثَدٍ وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَهْدًا وَلا عَقْدًا أَبَدًا، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ جَمِيعًا.
وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ وَخُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ فَلانُوا وَرَقُّوا وَرَغِبُوا فِي الْحَيَاةِ، فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَأَسَرُوهُمْ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِمْ إِلَى مَكَّةَ لِيَبِيعُوهُمْ بِهَا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالظَّهْرَانِ، انْتَزَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ يَدَهُ مِنَ الْقرانِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُ الْقَوْمُ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَبْرُهُ بِالظِّهْرَانِ وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَقَدِمُوا بِهِمَا مَكَّةَ، فَبَاعُوهُمَا فَابْتَاعَ خُبَيْبًا حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ- وَكَانَ حُجَيْرٌ أَخَا الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لأُمِّهِ- لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ، وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلُ حِينَ قُتِلَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ قَدْ أَرَادُوا رَأْسَهُ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شُهَيْدٍ، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَهَا يَوْمَ أُحُدٍ: لَئِنْ قَدِرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ فِي قِحْفِهِ الْخَمْرَ، فَمَنَعَتْهُ الدَّبْرُ فَلَمَّا حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قَالُوا: دَعوه حَتَّى يُمْسِيَ فَتَذْهَبَ عَنْهُ، فَنَأْخُذَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ الْوَادِيَ فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا فَذَهَبَ بِهِ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَدْ اعطى الله عهدا الا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ أَبَدًا وَلا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا، تَنَجُّسًا مِنْهُ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ، أَنَّ الدَّبْرَ مَنَعَتْهُ: عَجَبًا، لِحِفْظِ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر الا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، وَلا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا فِي حَيَاتِهِ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ

(2/539)


قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق، فَإِنَّهُ قَصَّ مِنْ خَبَرِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ غَيْرَ الَّذِي قَصَّهُ، وَالَّذِي قَصَّهُ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ الْعُمَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَمْرٍو- أَوْ عُمَرَ- بْنِ أَسِيدٍ، عن ابى هريرة، ان رسول الله ص بَعَثَ عَشَرَةَ رَهْطٍ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، فَخَرَجُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدْأَةِ ذَكَرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِمْ مِائَةَ رَجُلٍ رَامِيًا، فَوَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ حَيْثُ أَكَلُوا التَّمْرَ، فَقَالُوا:
هَذِهِ نَوَى يَثْرِبَ، ثُمَّ اتَّبَعُوا آثَارَهُمْ، حَتَّى إِذَا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ الْتَجَئُوا إِلَى جَبَلٍ، فَأَحَاطَ بِهِمُ الآخَرُونَ، فَاسْتَنْزَلُوهُمْ، وَأَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ، فَقَالَ عَاصِمٌ: وَاللَّهِ لا أَنْزِلُ عَلَى عَهْدِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ نَبِيَّكَ عَنَّا وَنَزَلَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الدَّثِنَةِ الْبِيَاضِيُّ، وَخُبَيْبٌ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَطْلَقَ الْقَوْمُ أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، ثُمَّ أَوْثَقُوهُمْ، فَجَرَحُوا رَجُلا مِنَ الثَّلاثَةِ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَتَّبِعُكُمْ فَضَرَبُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ الدَّثِنَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَدَفَعُوا خُبَيْبًا إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحَارِثَ بِأُحُدٍ، فَبَيْنَمَا خُبَيْبٌ عِنْدَ بَنَاتِ الْحَارِثِ، إِذِ اسْتَعَارَ مِنْ إِحْدَى بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا لِلْقَتْلِ، فَمَا رَاعَ الْمَرْأَةَ- وَلَهَا صَبِيٌّ يَدْرُجُ- إِلا بِخُبَيْبٍ قَدْ أَجْلَسَ الصَّبِيَّ عَلَى فَخِذِهِ، وَالْمُوسَى فِي يَدِهِ، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ خُبَيْبٌ: أَتَخْشِينَ أَنِّي أَقْتُلُهُ! إِنَّ الْغَدْرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا قَالَ: فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ بَعُدَ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَقِطْفًا مِنْ عِنَبٍ يَأْكُلُهُ، إِنْ كَانَ إِلا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ خُبَيْبًا.
وَبَعَثَ حَيٌّ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ لِيَؤْتُوا مِنْ لَحْمِهِ بِشَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ لِعَاصِمٍ فِيهِمْ آثَارٌ بِأُحُدٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَبْرًا، فَحَمَتْ لَحْمَهُ، فَلَمْ

(2/540)


يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، قَالَ: ذَرُونِي أُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَصَلَّى سَجْدَتَيْنِ، فَجَرَتْ سُنَّةٌ لِمَنْ قُتِلَ صَبْرًا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ خُبَيْبٌ: لَوْلا أَنْ يَقُولُوا جَزِعَ لَزِدْتُ، وما أبالي:
على اى شق كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي.
ثُمَّ قَالَ:
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَخُذْهُمْ بَدَدًا.
ثُمَّ خَرَجَ بِهِ أَبُو سِرْوَعَةَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص بَعَثَهُ وَحْدَهُ عَيْنًا إِلَى قُرَيْشٍ، قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى خَشَبَةِ خُبَيْبٍ وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ، فَرَقَيْتُ فِيهَا، فَحَلَلْتُ خُبَيْبًا، فَوَقَعَ إِلَى

(2/541)


الأَرْضِ، فَانْتَبَذْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ لِخُبَيْبٍ رِمَّةً، فَكَأَنَّمَا الأَرْضُ ابْتَلَعَتْهُ، فَلَمْ تُذْكَرْ لِخُبَيْبٍ رِمَّةٌ حَتَّى السَّاعَةِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، فَإِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَ بِهِ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ نِسْطَاسٌ إِلَى التَّنْعِيمِ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلَهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الآنَ مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ فِي النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا ثُمَّ قَتَلَهُ نِسْطَاسٌ
. ذكر الخبر عن عمرو بْن أمية الضمري إذ وجهه رَسُول الله ص لقتل أبي سفيان بْن حرب
ولما قُتِلَ من وجهه النبي ص إلى عضل والقارة من أهل الرجيع، وبلغ خبرهم رسول الله ص بعث عمرو بْن أمية الضمري إلى مكة مَعَ رجل من الأنصار، وأمرهما بقتل أبي سفيان بْن حرب، فحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ- يَعْنِي عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ- قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ

(2/542)


اميه: بعثني رسول الله ص بَعْدَ قَتْلِ خُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ، وَبَعَثَ مَعِي رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: ائْتِيَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَاقْتُلاهُ، قَالَ:
فَخَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبِي وَمَعِي بَعِيرٌ لِي، وَلَيْسَ مَعَ صَاحِبِي بَعِيرٌ، وَبِرِجْلِهِ عِلَّةٌ.
فَكُنْتُ أَحْمِلُهُ عَلَى بَعِيرِي، حَتَّى جِئْنَا بَطْنَ يَأْجَجَ، فَعَقَلْنَا بَعِيرَنَا فِي فِنَاءِ شِعْبٍ، فَأَسْنَدْنَا فِيهِ، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنِّي مُحَاوِلٌ قَتْلَهُ فَانْظُرْ، فَإِنْ كَانَتْ مُجَاوَلَةً أَوْ خَشِيتَ شَيْئًا فَالْحَقْ ببعيرك فاركبه، والحق بالمدينة فات رسول الله ص فَأَخْبِرْهُ الْخَبَرَ، وَخَلِّ عَنِّي، فَإِنِّي رَجُلٌ عَالِمٌ بِالْبَلَدِ، جَرِيءٌ عَلَيْهِ، نَجِيبُ السَّاقِ فَلَمَّا دَخَلْنَا مَكَّةَ وَمَعِي مِثْلُ خَافِيةِ النِّسْرِ- يَعْنِي خِنْجَرَهُ- قَدْ أَعْدَدْتُهُ، إِنْ عَانَقَنِي إِنْسَانٌ قَتَلْتُهُ بِهِ، فَقَالَ لِي صَاحِبِي: هَلْ لَكَ أَنْ نَبْدَأَ فَنَطُوفَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، وَنُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أَعْلَمُ بِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْكَ، إِنَّهُمْ إِذَا أَظْلَمُوا رَشُّوا أَفْنِيَتَهُمْ، ثُمَّ جَلَسُوا بِهَا، وَأَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنَ الْفَرَسِ الأَبْلَقِ.
قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ، فَطُفْنَا بِهِ أُسْبُوعًا، وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْنَا فَمَرَرْنَا بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِهِمْ، فَعَرَفَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ! قَالَ: فَتَبَادَرَتْنَا أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: تَاللَّهِ مَا جَاءَ بِعَمْرٍو خَيْرٌ! وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا جَاءَهَا قَطُّ إِلا لِشَرٍّ- وَكَانَ عَمْرٌو رَجُلا فَاتِكًا مُتَشَيْطِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ- قَالَ: فَقَامُوا فِي طَلَبِي وَطَلَبِ صَاحِبِي، فَقُلْتُ لَهُ: النَّجَاءَ! هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كُنْتُ أَحْذَرُ، أَمَّا الرَّجُلُ فَلَيْسَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ، فَانْجُ بِنَفْسِكَ، فَخَرَجْنَا نَشْتَدُّ حَتَّى أُصْعِدَنَا فِي الْجَبَلِ، فَدَخَلْنَا فِي غَارٍ، فَبِتْنَا فِيهِ لَيْلَتَنَا، وَأَعْجَزْنَاهُمْ، فَرَجَعُوا وَقَدِ اسْتَتَرْتُ دُونَهُمْ بِأَحْجَارٍ حِينَ دَخَلْتُ الْغَارَ، وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَمْهِلْنِي حَتَّى يَسْكُنَ الطَّلَبُ عَنَّا، فَإِنَّهُمْ وَاللَّهِ لَيَطْلُبُنَّا لَيْلَتَهُمْ هَذِهِ وَيَوْمَهُمْ هذا حتى يمسوا قال: فو الله إِنِّي لَفِيهِ إِذْ أَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، يَتَخَيَّلُ بِفَرَسٍ لَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو وَيَتَخَيَّلُ بِفَرَسِهِ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا بِبَابِ الْغَارِ قَالَ: فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: هَذَا وَاللَّهِ ابْنُ مَالِكٍ،

(2/543)


وَاللَّهِ لِئَنْ رَآنَا لَيُعْلِمَنَّ بِنَا أَهْلَ مَكَّةَ قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَوَجَأْتُهُ بِالْخِنْجَرِ تَحْتَ الثَّدْيِ، فَصَاحَ صَيْحَةً أَسْمَعَ أَهْلَ مَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، وَرَجَعْتُ إِلَى مَكَانِي، فَدَخَلْتُ فِيهِ، وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: مَكَانَكَ! قَالَ: وَاتَّبَعَ أَهْلُ مَكَّةَ الصَّوْتَ يَشْتَدُّونَ، فَوَجَدُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَقَالُوا: وَيْلَكَ مَنْ ضَرَبَكَ! قَالَ:
عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: ثُمَّ مَاتَ وَمَا أَدْرَكُوا مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَكَانِنَا، فَقَالُوا:
وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِخَيْرٍ، وَشَغَلَهُمْ صَاحِبُهُمْ عَنْ طَلَبِنَا، فَاحْتَمَلُوهُ، وَمَكَثْنَا فِي الْغَارِ يَوْمَيْنِ حَتَّى سَكَنَ عَنَّا الطَّلَبُ ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَإِذَا خَشَبَةُ خُبَيْبٍ، فَقَالَ لِي صَاحِبِي: هَلْ لَكَ فِي خُبَيْبٍ تُنْزِلُهُ عَنْ خَشَبَتِهِ؟
فَقُلْتُ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ حَيْثُ تَرَى فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمْهِلْنِي وَتَنَحَّ عَنِّي قَالَ: وَحَوْلَهُ حَرَسٌ يَحْرُسُونَهُ قَالَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: فَقُلْتُ لِلأَنْصَارِيِّ:
إِنْ خَشِيتَ شَيْئًا فَخُذِ الطَّرِيقَ إِلَى جَمَلِكَ فَارْكَبْهُ وَالْحَقْ بِرَسُولِ الله ص، فَأَخْبِرْهُ الْخَبَرَ، فَاشْتَدَدْتُ إِلَى خَشَبَتِهِ فَاحْتَلَلْتُهُ وَاحْتَمَلْتُهُ على ظهري، فو الله مَا مَشِيتُ إِلا نَحْوَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا حَتَّى نَذِرُوا بِي، فَطَرَحْتُهُ، فَمَا أَنْسَى وَجبتَهُ حِينَ سَقَطَ، فَاشْتَدُّوا فِي أَثَرِي، فَأَخَذْتُ طَرِيقَ الصَّفْرَاءِ فَأُعْيُوا، فَرَجَعُوا، وَانْطَلَقَ صَاحِبِي إِلَى بَعِيرِهِ فَرَكِبَهُ، ثم اتى النبي ص فَأَخْبَرَهُ أَمْرَنَا، وَأَقْبَلْتُ أَمْشِي، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْتُ عَلَى الْغَلِيلِ، غَلِيلِ ضَجْنَانَ، دَخَلْتُ غَارًا فِيهِ، وَمَعِي قَوْسِي وَأَسْهُمِي، فَبَيْنَا أَنَا فِيهِ إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ، أَعْوَرُ طَوِيلٌ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ، فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، قَالَ: وَأَنَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ اضْطَجَعَ مَعِي فِيهِ، فَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى وَيَقُولُ:
وَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا ... وَلَسْتُ أَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَا
فَقُلْتُ: سَوْفَ تَعْلَمُ! فَلَمْ يَلْبَثِ الأَعْرَابِيُّ أَنْ نَامَ وَغَطَّ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ أَسْوَأَ قِتْلَةٍ قَتَلَهَا أَحَدٌ أَحَدًا، قُمْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ سِيَةَ قَوْسِي فِي عَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَخْرَجْتُهَا مِنْ قَفَاهُ.
قَالَ: ثُمَّ أَخْرَجَ مِثْلَ السَّبُعِ، وَأَخَذْتُ الْمَحَجَّةَ كَأَنِّي نَسْرٌ، وَكَانَ النَّجَاءُ حَتَّى أَخْرُجَ عَلَى بَلَدٍ قَدْ وَصَفَهُ، ثُمَّ عَلَى رَكُوبَةٍ، ثُمَّ عَلَى النَّقِيعِ، فَإِذَا رَجُلانِ

(2/544)


مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بَعَثَتْهُمَا قُرَيْشٌ يَتَحَسَّسَانِ مِنْ امر رسول الله ص، فَعَرَفْتُهُمَا فَقُلْتُ: اسْتَأْسِرَا، فَقَالا: أَنَحْنُ نَسْتَأْسِرُ لَكَ! فَأَرْمِي أَحَدُهُمَا بِسَهْمٍ فَأَقْتُلُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِلآخَرِ: اسْتَأْسِرْ، فَاسْتَأْسَرَ، فَأَوْثَقْتُهُ، فَقَدِمْتُ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله ص حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، مَرَرْتُ بِمَشْيَخَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، فَسَمِعَ الصِّبْيَانُ قولهم، فاشتدوا الى رسول الله ص يُخْبِرُونَهُ، وَقَدْ شَدَدْتُ إِبْهَامَ أَسِيرِي بِوَتَرِ قَوْسِي، فنظر النبي ص اليه فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لِي خَيْرًا وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
وفي هذه السنه تزوج رسول الله ص زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ أُمَّ الْمَسَاكِينِ مِنْ بَنِي هِلالٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَدَخَلَ بِهَا فِيهِ، وَكَانَ أَصْدَقَهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ، فَطَلَّقَهَا
. ذكر خبر بئر معونة
قَالَ أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة أربع من الهجرة- كان من أمر السرية التي وجهها رَسُول الله ص، فقتلت ببئر معونة وكان سبب توجيه النبي ص إياهم لما وجههم له، مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: فأقام رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ شَوَّالٍ وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ، وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ.
ثُمَّ بَعَثَ أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ أُحُدٍ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَا حَدَّثَنِي أَبِي: إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ المغيره بن عبد الرحمن ابن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: قَدِمَ أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ مُلَاعِبُ

(2/545)


الأَسِنَّةِ- وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ- على رسول الله ص الْمَدِينَةَ، [وَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ص أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: يَا أَبَا بَرَاءٍ، لا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ، فَأَسْلِمْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ أَقْبَلَ هَدِيَّتَكَ] ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا لَهُ فِيهِ، وَمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثَّوَابِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ أَمْرَكَ هَذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ حَسَنٌ جَمِيلٌ، فَلَوْ بَعَثْتَ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ فَدَعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فقال رسول الله ص: إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ! فَقَالَ أَبُو بَرَاءٍ: أَنَا لَهُمْ جَارٌ، فَابْعَثْهُمْ فَلْيَدْعُوا النَّاسَ الى امرك فبعث رسول الله ص الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ الْمُعْنِقَ لِيَمُوتَ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ الصُّمَّةِ، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَعُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ السُّلَمِيُّ، وَنَافِعُ ابن بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، فِي رِجَالٍ مُسَمِّينَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بعث رسول الله ص الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرِو فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِئْرَ مَعُونَةَ- وَهِيَ أَرْضٌ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ، كِلا الْبَلَدَيْنِ مِنْهَا قَرِيبٌ، وَهِيَ إِلَى حَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ أَقْرَبُ- فَلَمَّا نَزَلُوهَا بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ ملحان بكتاب رسول الله ص إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَنْظُرْ فِي كِتَابِهِ، حَتَّى عَدَا عَلَى الرَّجُلِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: لَنْ نَخْفِرَ أَبَا بَرَاءٍ، قَدْ عَقَدَ لَهُمْ عَقْدًا وَجِوَارًا، فَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: عُصَيَّةَ، وَرَعْلا، وَذَكْوَانَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجُوا حَتَّى غَشَوُا الْقَوْمَ، فَأَحَاطُوا

(2/546)


بِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أَخَذُوا السُّيُوفُ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، إِلا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ أَخَا بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ، فَارْتَثَّ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
وَكَانَ فِي سَرْحِ الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَلَمْ يُنْبِئْهُمَا بِمُصَابِ أَصْحَابِهِمَا إِلا الطَّيْرُ تَحُومُ عَلَى الْعَسْكَرِ، فَقَالا: وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّيْرِ لَشَأْنًا، فَأَقْبَلا لِيَنْظُرَا إِلَيْهِ، فَإِذَا الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ، وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ ص فَنُخْبِرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: لَكِنِّي مَا كُنْتُ لأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنِ قَتْلٍ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَا كُنْتُ لِتُخْبِرَنِي عَنْهُ الرِّجَالُ ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، وَأَخَذُوا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ، أَطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى أُمِّهِ فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ صَدْرِ قَنَاةٍ، أَقْبَلَ رَجُلانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ حَتَّى نَزَلا مَعَهُ فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَ الْعَامِرِيِّينَ عَقْدٌ من رسول الله ص وَجِوَارٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَقَدْ سَأَلَهُمَا حِينْ نَزَلا: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالا: مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَمْهَلَهُمَا حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ بِهِمَا ثُؤْرَةَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، بِمَا أصابوا من اصحاب رسول الله ص [فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ الله ص اخبره الخبر، فقال رسول الله ص: لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لأُدِينَهُمَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله ص: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَرَاءٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ إِخْفَارُ عَامِرٍ إِيَّاهُ، وَمَا أَصَابَ رَسُولَ الله ص بِسَبَبِهِ وَجِوَارِهِ، وَكَانَ فِيمَنْ أُصِيبَ عَامِرُ بْنُ فهيره]

(2/547)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَمَّا قُتِلَ رَأَيْتُهُ رُفِعَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى رَأَيْتُ السَّمَاءَ مِنْ دُونِهِ قَالُوا: هُوَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عن أحد بني جعفر، رجل من بني جبار بْن سلمى بن مالك ابن جعفر، قَالَ: كان جبار فيمن حضرها يومئذ مَعَ عامر، ثُمَّ أسلم بعد ذَلِكَ قَالَ: فكان يقول: مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلا منهم يومئذ بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول حين طعنته: فزت والله! قَالَ: فقلت فِي نفسي: ما فاز! أليس قد قتلت الرجل! حَتَّى سألت بعد ذَلِكَ عن قوله، فقالوا: الشهادة، قَالَ: فقلت: فاز لعمر الله! فَقَالَ حسان بْن ثابت يحرض بني أبي البراء على عامر بْن الطفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره، وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت فِي الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بْن سعد
وقال كعب بْن مالك فِي ذَلِكَ أيضا:
لقد طارت شعاعا كل وجه ... خفارة ما أجار أبو براء

(2/548)


فمثل مسهب وبني أبيه ... بجنب الرده من كنفي سواء
بني أم البنين أما سمعتم ... دعاء المستغيث مَعَ المساء!
وتنويه الصريخ بلى ولكن ... عرفتم أنه صدق اللقاء
فما صفرت عياب بني كلاب ... ولا القرطاء من ذم الوفاء
أعامر عامر السوءات قدما ... فلا بالعقل فزت ولا السناء
أأخفرت النبي وكنت قدما ... إلى السوءات تجري بالعراء!
فلست كجار جار أبي دواد ... ولا الأسدي جار أبي العلاء
ولكن عاركم داء قديم ... وداء الغدر فاعلم شر داء
فلما بلغ ربيعة بْن عامر أبي البراء قول حسان وقول كعب، حمل على عامر بْن الطفيل فطعنه، فشطب الرمح عن مقتله، فخر عن فرسه.
فَقَالَ: هذا عمل أبي براء! إن مت فدمي لعمي ولا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتي إلي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يُونُسَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ ص الذين ارسلهم رسول الله ص إِلَى أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، قَالَ: لا أَدْرِي، أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ! وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ الْجَعْفَرِيُّ، فَخَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ اصحاب النبي ص الَّذِينَ بُعِثُوا، حَتَّى أَتَوْا غَارًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَاءِ قَعَدُوا فِيهِ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ايكم يبلغ رساله رسول الله ص أَهْلَ هَذَا الْمَاءِ؟ فَقَالَ- أَرَاهُ ابْنَ مِلْحَانَ الأنصاري-: انا ابلغ رساله رسول الله ص، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى حِوَاءَ مِنْهُمْ، فَاحْتَبَى أَمَامَ الْبُيُوتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ بِئْرِ مَعُونَةَ، انى رسول رسول الله إليكم،

(2/549)


إني أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَخَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ كَسَرَ الْبَيْتَ بِرُمْحٍ فَضَرَبَ بِهِ فِي جَنْبِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! فَاتَّبَعُوا أَثَرِهِ حَتَّى أَتَوْا أَصْحَابَهُ فِي الْغَارِ، فَقَتَلَهُمْ أَجْمَعِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ.
قَالَ إِسْحَاقُ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ فِيهِمْ قُرْآنًا: بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا، وَرَضِينَا عَنْهُ، ثُمَّ نُسِخَتْ، فَرُفِعَتْ بَعْدَ مَا قَرَأْنَاهُ زَمَانًا، وَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
فَرِحِينَ» حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْكِلابِيِّ سَبْعِينَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: فَقَالَ أَمِيرُهُمْ: مَكَانَكُمْ حَتَّى آتيكم بخبر القوم! فلما جاءهم قال: اتؤمنوننى حتى اخبركم برسالة رسول الله ص؟
قَالُوا: نَعَمْ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهُمْ، إِذْ وَخَزَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسِّنَانِ قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! فَقُتِلَ، فَقَالَ: عَامِرٌ: لا أَحْسَبُهُ إِلا أَنَّ لَهُ أَصْحَابًا، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ حَتَّى أَتَوْهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ.
قَالَ أَنَسٌ: فَكُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نُسِخَ: بَلِّغُوا عَنَّا إِخْوَانَنَا أَنَّ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي السَّنَةَ الرَّابِعَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ- أَجْلَى النَّبِيُّ ص بنى النضير من دِيَارِهِمْ
. ذكر خبر جلاء بني النضير
قَالَ ابو جعفر: وكان سبب ذلك ما قد ذكرنا قبل من قتل عمرو بْن

(2/550)


اميه الضمرى الرجلين الذين قتلهما فِي منصرفه من الوجه الذي كان رسول الله ص وجهه إليه مَعَ أصحاب بئر معونة، وكان لهما من رسول الله ص جوار وعهد وقيل إن عامر بْن الطفيل كتب الى رسول الله ص: إنك قتلت رجلين لهما منك جوار وعهد، فابعث بديتهما فانطلق رسول الله ص إلى قباء، ثُمَّ مال إلى بني النضير مستعينا بهم فِي ديتهما، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وأُسَيْد بْن حضير.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: خرج رسول الله ص إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اللَّذَيْنِ قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، لِلْجِوَارِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ الله ص عَقَدَهُ لَهُمَا، - كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ- وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ حلف وعقد، فلما أتاهم رسول الله ص يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ، قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُكَ عَلى مَا أَحْبَبْتَ مِمَّا اسْتَعَنْتَ بِنَا عَلَيْهِ ثُمَّ خَلا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا هَذَا الرَّجُلَ على مثل حاله هذه- ورسول الله ص إِلى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ، قَاعِدٌ- فَقَالُوا: مَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيَقْتُلُهُ بِهَا فَيُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشِ بْنِ كَعْبٍ أَحَدُهُمْ، فَقَالَ:
أَنَا لِذَلِكَ، فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ الصَّخْرَةَ- كما قال- ورسول الله ص فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وعمر وعلى، فاتى رسول الله ص الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَقَالَ لأَصْحَابِهِ:
لا تَبْرَحُوا حَتَّى آتِيَكُمْ، وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ رَسُولَ اللَّهِ ص أَصْحَابُهُ، قَامُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقَوْا رَجُلا مُقْبِلا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلا المدينة، فاقبل اصحاب رسول الله ص حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ بِمَا كَانَتْ يَهُودُ قَدْ أَرَادَتْ

(2/551)


من الغدر به، وامر رسول الله ص بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ، وَالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ، فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الحصون، فامر رسول الله ص بِقَطْعِ النَّخْلِ وَالتَّحْرِيقِ فِيهَا، فَنَادَوْهُ:
يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ وَتَعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا تَآمَرُوا بِمَا تَآمَرُوا بِهِ مِنْ إِدْلاءِ الصَّخْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَخَوَّفَهُمُ الْحَرْبَ وَقَالَ: هُوَ يعَلْمُ مَا تُرِيدُونَ، فَعَصَوْهُ، فَصَعِدَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ لِيُدَحْرِجَ الصَّخْرَةَ، وَجَاءَ النبي ص الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَامَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ حَاجَةً، وَانْتَظَرَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَتْ يَهُودُ تَقُولُ: مَا حَبَسَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَانْصَرَفَ أَصْحَابُهُ؟
فَقَالَ كِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا: جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ، قَالَ: وَلَمَّا رَجَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ص انْتَهَوْا إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْتَظَرْنَاكَ وَمَضَيْتَ، [فَقَالَ: هَمَّتْ يَهُودُ بِقَتْلِي، وَأَخْبَرَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ادْعُوا لِي مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، قَالَ: فَأَتَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى يَهُودَ فَقُلْ لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنْ بِلادِي فَلا تُسَاكِنُونِي وَقَدْ هَمَمْتُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنَ الْغَدْرِ] .
قَالَ: فَجَاءَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رسول الله ص يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَظْعَنُوا مِنْ بِلادِهِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، مَا كُنَّا نَظُنُّ أَنْ يَجِيئَنَا بِهَذَا رَجُلٌ مِنَ الأَوْسِ! فَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَغَيَّرَتِ الْقُلُوبُ، وَمَحَا الإِسْلامُ الْعُهُودَ،

(2/552)


فَقَالُوا: نَتَحَمَّلُ قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَقُولُ: لا تَخْرُجُوا، فَإِنَّ مَعِي مِنَ الْعَرَبِ وَمِمَّنِ انْضَوَى إِلَيَّ مِنْ قَوْمِي أَلْفَيْنِ، فَأَقِيمُوا فَهُمْ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ، وَقُرَيْظَةُ تَدْخُلُ مَعَكُمْ فَبَلَغَ كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ صَاحِبَ عَهْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: لا يَنْقُضُ الْعَهْدَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَنَا حَيٌّ، فَقَالَ سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ لِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: يَا حُيَيُّ اقْبَلْ هَذَا الَّذِي قَالَ مُحَمَّدٌ، فَإِنَّمَا شَرُفْنَا عَلَى قَوْمِنَا بِأَمْوَالِنَا قَبْلَ أَنْ تَقْبَلَ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ قَالَ: وَمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؟ قَالَ:
أَخْذُ الأَمْوَالِ وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ وَقَتْلُ المقاتله، فأبى حيي، فأرسل جدي ابن اخطب الى رسول الله ص: إِنَّا لا نُرِيمُ دَارَنَا فَاصْنَعْ مَا بَدَا لك! قال: فكبر رسول الله ص، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَقَالَ: حَارَبَتْ يَهُودُ، وَانْطَلَقَ جُدَيٌّ إِلى ابْنِ أُبَيٍّ يَسْتَمِدُّهُ قَالَ: فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمُنَادِي النَّبِيِّ ص يُنَادِي بِالسِّلاحِ، فَدَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عبد الله ابن أُبَيٍّ، وَأَنَا عِنْدَهُ، فَأَخَذَ السِّلاحَ، ثُمَّ خَرَجَ يَعْدُو، قَالَ: فَأَيِسْتُ مِنْ مَعُونَتِهِ قَالَ: فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ كُلِّهِ حُيَيًّا، فَقَالَ: هَذِهِ مَكِيدَةٌ مِنْ محمد، فزحف اليهم رسول الله ص، فحاصرهم رسول الله ص خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، وَلَهُ الأَمْوَالُ وَالْحَلَقَةُ.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص- يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ- خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَأَعْطَوْهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلى أَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، وَأَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَيُسَيِّرَهُمْ إِلَى أَذْرُعَاتِ الشَّامِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ثَلاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وسقاء

(2/553)


حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قاتلهم النبي ص حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلاءِ، فَأَجْلاهُمْ إِلَى الشَّامِ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الإِبِلُ مِنْ شَيْءٍ إِلا الْحَلْقَةَ- وَالْحَلْقَةُ:
السِّلاحُ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، مِنْهُمْ عبد الله بن ابى بن سَلُولَ وَوَدِيعَةُ وَمَالِكُ بْنُ أَبِي قَوْقَلٍ، وَسُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ قَدْ بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ: أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا، فَإِنَّا لَنْ نُسَلِّمَكُمْ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَتَرَبَّصُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا:
وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فسألوا رسول الله ص أَنْ يُجْلِيَهُمْ، وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، إِلا الْحَلْقَةَ فَفَعَلَ فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ بَابِهِ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَيَنْطَلِقُ بِهِ فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَ أَشْرَافُهُمْ مِمَّنْ سَارَ مِنْهُمْ إِلَى خَيْبَرَ سَلامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَحُيَيّ بْن أَخْطَبَ، فَلَمَّا نَزَلُوهَا دَانَ لَهُمْ أَهْلُهَا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّهُمْ اسْتَقَلُّوا بِالنِّسَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَالأَمْوَالِ، مَعَهُمُ الدُّفُوفُ وَالْمَزَامِيرِ وَالْقِيَانِ يَعْزِفْنَ خَلْفَهُمْ، وَأَنَّ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ لأُمُّ عَمْرٍو، صَاحِبَةُ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ الْعَبْسِيِّ، الَّتِي ابْتَاعُوا مِنْهُ، وَكَانَتْ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي غِفَارٍ بِزُهَاءٍ وَفَخْرٍ، مَا رُئِيَ مِثْلُهُ مِنْ حَيٍّ مِنَ الناس في

(2/554)


زمانهم، وخلوا الأموال لرسول الله ص، فكانت لرسول الله ص خَاصَةً يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ دُونَ الأَنْصَارِ، إِلا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ بْنَ خرشه، ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله ص وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلا رَجُلانِ: يَامِينُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ ابْنِ عَمِّ عَمْرِو بْنِ جَحَّاشٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ، أَسْلَمَا عَلَى أَمْوَالِهِمَا فَأَحْرَزَاهَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: واستخلف رسول الله ص إِذْ خَرَجَ لِحَرْبِ بَنِي النَّضِيرِ- فِيمَا قِيلَ- ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَتْ رَايَتُهُ يَوْمَئِذٍ مَعَ على بن ابى طالب ع.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فِي جُمَادَى الأُولَى مِنْهَا، وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله ص، وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
وَفِيهَا ولد الحسين بن على ع، لليال خلون من شعبان

غزوه ذات الرقاع
وَاخْتُلِفَ فِي الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ النَّبِيِّ ص بَنِي النَّضِيرِ مِنْ غَزَوَاتِهِ، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ في ذلك، ما حدثنا ابن حميد، قال:
حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثم اقام رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ شَهْرَيْ رَبِيعٍ، وَبَعْضَ شَهْرِ جُمَادَى ثُمَّ غَزَا نَجْدًا- يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ- حَتَّى

(2/555)


نزل نخلا، وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ، فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حرب، وقد خاف النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْمُسْلِمِينَ صَلاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِالْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ غَزْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص ذَاتَ الرِّقَاعِ، كَانَتْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ ذَاتَ الرِّقَاعِ، لأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي سُمِّيَتْ بِهِ ذَاتَ الرِّقَاعِ جَبَلٌ بِهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ وَحُمْرَةٌ، فَسُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ بذلك الجبل قال: واستخلف رسول الله ص فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ- يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ص إِلَى نَجْدٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلَ، لَقِيَ جَمْعًا مِنْ غَطْفَانَ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا قِتَالٌ، إِلا أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَافُوهُمْ، وَنَزَلَتْ صَلاةُ الْخَوْفِ، فَصَدَعَ أَصْحَابُهُ صَدْعَيْنِ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مُوَاجِهَةٌ الْعَدُوَّ، وَقَامَتْ طَائِفَةٌ خَلْفَ رسول الله ص، فكبر رسول الله ص، فَكَبَّرُوا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ بِمَنْ خَلْفَهُ، وَسَجَدَ بِهِمْ، فَلَمَّا قَامُوا مَشَوْا الْقَهْقَرَى إِلَى مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ، وَرَجَعَ الآخَرُونَ، فَصَلَّوْا لأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قاموا فصلى بهم رسول الله ص رَكْعَةً وَجَلَسُوا، وَرَجَعَ الَّذِينَ كَانُوا مُوَاجِهِينَ الْعَدُوَّ، فَصَلَّوْا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ،

(2/556)


فجلسوا جميعا، فجمعهم رسول الله ص بِالسَّلامِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي صِفَةِ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ ص هَذِهِ الصَّلاةِ بِبَطْنِ نَخْلٍ اخْتِلافًا مُتَفَاوِتًا، كَرِهْتُ ذِكْرَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَشْيَةَ إِطَالَةِ الْكِتَابِ، وَسَأَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بَسِيطُ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ فِي كِتَابِ صَلاةِ الْخَوْفِ مِنْهُ وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْيَشْكِرِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِقْصَارِ الصَّلاةِ: أَيَّ يَوْمٍ أُنْزِلَ، أَوْ فِي أَيِّ يَوْمٍ هُوَ؟ فَقَالَ جَابِرٌ: انْطَلَقْنَا نَتَلَقَّى عِيرَ قُرَيْشٍ آتِيَةً مِنَ الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِنَخْلَ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ الى رسول الله ص، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَخَافُنِي؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ، قَالَ: فَسَلَّ السَّيْفَ ثُمَّ تَهَدَّدَهُ وَأَوْعَدَهُ ثُمَّ نَادَى بِالرَّحِيلِ وَأَخْذِ السِّلاحِ.
ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلاةِ، فَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ ص بِطَائِفَةٍ مِنَ الْقَوْمِ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَحْرُسُهُمْ، فَصَلَّى بالذين يَلُونَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الَّذِينَ يَلُونَهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَقَامُوا فِي مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَالآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ ثُمَّ سلم، فكانت للنبي ص أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَيَوْمَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِقْصَارِ الصَّلاةِ، وَأُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِأَخْذِ السِّلاحِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عن الحسن البصري، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ يُقَالُ لَهُ فُلانُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ لِقَوْمِهِ مِنْ غَطْفَانَ وَمُحَارِبٍ: أَلا أَقْتُلُ لَكُمْ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ:
أَفْتِكُ بِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ الله ص وهو جالس، وسيف

(2/557)


رسول الله ص فِي حِجْرِهِ، [فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، انْظُرْ إِلَى سَيْفِكَ هَذَا! قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَهُ فَاسْتَلَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَهُزُّهُ وَيَهِمُّ بِهِ، فَيَكْبِتُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَخَافُنِي؟ قَالَ: لا، وَمَا أَخَافُ مِنْكَ؟ قَالَ:
أَمَا تخافنى وفي يدي السيف؟ قال: لا، يمنعني الله منك! قال: ثم غمد السيف، فرده الى رسول الله ص، فانزل الله عز وجل:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ] » .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله ص فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلَ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا انصرف رسول الله ص قَافِلا أَتَى زَوْجُهَا وَكَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا أُخْبِرَ الْخَبَرَ، حَلَفَ أَلا يَنْتَهِيَ حَتَّى يُهْرِيقَ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ دَمًا، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ الله ص، فنزل رسول الله ص مَنْزِلا، فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ؟ فَانْتُدِبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَكُونَا بفم الشعب- وكان رسول الله ص وَأَصْحَابُهُ قَدْ نَزَلُوا الشِّعْبَ، مِنْ بَطْنِ الْوَادِي- فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ، قَالَ الأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ، أَيُّ اللَّيْلِ تُحِبُّ أَنْ أَكْفِيَكَهُ؟ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ؟ قَالَ: بَلِ اكْفِنِي أَوَّلَهُ، فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ، وَقَامَ الأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى زَوْجُ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ، فَرَمَى بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ، فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا يُصَلِّي ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ، فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ، فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا يُصَلِّي، ثُمَّ عَادَ لَهُ بِالثَّالِثِ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَقَدْ أَتَيْتُ

(2/558)


قَالَ: فَوَثَبَ الْمُهَاجِرِيُّ، فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ، عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذَرُوا بِهِ، وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالأَنْصَارِيِّ مِنَ الدِّمَاءِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! افلا، اهببتنى أَوَّلَ مَا رَمَاكَ! قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أَنْفِدَهَا، فلما تتابع على الرمى ركعت فَآذَنْتُكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْلا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أمرني رسول الله ص بِحِفْظِهِ لَقُطِعَ نَفَسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أَنْفِدَهَا