تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار فِي أمر الإمارة فِي سقيفة بني ساعدة
حَدَّثَنَا هشام بْن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بْن أبي عمرة الأنصاري، أن النبي ص لما قبض اجتمعت الأنصار فِي سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد ع سعد بْن عبادة، وأخرجوا سعدا إِلَيْهِم وهو مريض، فلما اجتمعوا قَالَ لابنه أو بعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه، فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع صوته فيسمع أصحابه، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عَلَيْهِ: يا معشر الأنصار، لكم سابقة فِي الدين وفضيلة فِي الإسلام ليست لقبيله من العرب، ان محمدا ع لبث بضع عشرة سنة فِي قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، وَكَانَ ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رَسُول اللَّهِ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، حَتَّى إذا أراد بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم اللَّه الإيمان به وبرسوله، والمنع لَهُ ولأصحابه، والإعزاز لَهُ ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حَتَّى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا، حَتَّى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم لَهُ العرب، وتوفاه اللَّه وهو عنكم راض، وبكم قرير عين استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس.
فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت فِي الرأي وأصبت فِي القول، ولن نعدو ما رأيت، ونوليك هذا الأمر، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا ثُمَّ إنهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا:
نحن المهاجرون وصحابة رَسُول اللَّهِ الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا: منا أمير

(3/218)


ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا فَقَالَ سعد بْن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن! وأتى عمر الخبر، فأقبل الى منزل النبي ص، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر فِي الدار وعلى بن ابى طالب ع دائب في جهاز رسول الله ص، فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلي، فأرسل إليه: إني مشتغل، فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج إليه، فَقَالَ: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت فِي سقيفة بني ساعدة، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بْن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير! فمضيا مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بْن الجراح، فتماشوا إِلَيْهِم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بْن عدي وعويم بْن ساعدة، فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فقالوا:
لا نفعل، فجاءوا وهم مجتمعون فَقَالَ عمر بْن الْخَطَّاب: أتيناهم- وقد كنت زورت كلاما أردت أن أقوم به فيهم- فلما أن دفعت إِلَيْهِم ذهبت لأبتدئ المنطق، فَقَالَ لي أبو بكر: رويدا حَتَّى أتكلم ثُمَّ انطق بعد بما أحببت فنطق، فَقَالَ عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه.
فَقَالَ عبد الله بْن عبد الرحمن: فبدأ أبو بكر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن اللَّه بعث محمدا رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته، ليعبدوا اللَّه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثُمَّ قرأ: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» ، وقالوا: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» ، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص اللَّه المهاجرين الأولين من

(3/219)


قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة لَهُ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله فِي الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذَلِكَ إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمه في الاسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا احد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور.
قَالَ: فقام الحباب بْن المنذر بْن الجموح، فَقَالَ: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس فِي فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير.
فَقَالَ عمر: هيهات لا يجتمع اثنان فِي قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لاثم، ومتورط فِي هلكة! فقام الحباب بْن المنذر فَقَالَ: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فانه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين أنا جذيلها

(3/220)


المحكك، وعذيقها المرجب! أما واللَّه لئن شئتم لنعيدنها جذعة، فَقَالَ عمر: إذا يقتلك الله! قَالَ: بل إياك يقتل! فَقَالَ أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.
فقام بشير بْن سعد أبو النعمان بْن بشير فَقَالَ: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة فِي جهاد المشركين، وسابقة فِي هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا، فإن الله ولي المنة علينا بذلك، ألا ان محمدا ص من قريش، وقومه أحق به وأولى وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم! فَقَالَ أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا فقالا:
لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، وخليفة رَسُول اللَّهِ على الصلاة، والصلاة أفضل دين الْمُسْلِمين، فمن ذا ينبغي لَهُ أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك! ابسط يدك نبايعك.
فلما ذهبا ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب ابن المنذر: يا بشير بن سعد: عقتك عقاق، ما أحوجك إلى ما صنعت، أنفست على ابن عمك الإمارة! فَقَالَ: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله اللَّه لهم.
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بْن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بْن عباده، قال بعضهم لبعض، وفيهم اسيد ابن حضير- وَكَانَ أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا

(3/221)


أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بْن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا لَهُ من أمرهم.
قَالَ هشام: قَالَ أبو مخنف: فحدثني أبو بكر بْن محمد الخزاعي، أن أسلم أقبلت بجماعتها حَتَّى تضايق بهم السكك، فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد اللَّه بْن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بْن عبادة، فَقَالَ ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه، فَقَالَ عمر: اقتلوه قتله اللَّه! ثُمَّ قام على رأسه، فَقَالَ: لقد هممت أن أطأك حَتَّى تندر عضدك، فأخذ سعد بلحية عمر، فَقَالَ: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فَقَالَ أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ فأعرض عنه عمر وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما، أقوى على النهوض، لسمعت مني فِي أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع! احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه فِي داره، وترك أياما ثُمَّ بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فَقَالَ: أما والله حَتَّى أرميكم بما فِي كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مَعَ الإنس ما بايعتكم، حَتَّى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي.
فلما أتى أبو بكر بذلك قَالَ لَهُ عمر: لا تدعه حَتَّى يبايع فَقَالَ لَهُ بشير بْن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حَتَّى يقتل، وليس بمقتول حَتَّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضاركم، إنما هو رجل واحد فتركوه وقبلوا مشورة بشير بْن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه،

(3/222)


فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حَتَّى هلك أبو بكر رحمه الله.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثنا عمى، قال: أخبرنا سيف ابن عُمَرَ، عَنْ سَهْلٍ وَأَبِي عُثْمَان، عَنِ الضَّحَّاكِ بن خليفه، قال: لما قام الحباب ابن الْمُنْذِرِ انْتَضَى سَيْفَهُ، وَقَالَ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وعذيقها المرجب، انا ابو شبل في عريسة الأَسَدِ، يُعْزَى إِلَى الأَسَدِ فَحَامَلَهُ عُمَرُ فَضَرَبَ يَدَهُ، فَنَدَرَ السَّيْفَ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ وَثَبَ عَلَى سَعْدٍ وَوَثَبُوا عَلَى سَعْدٍ، وَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْبَيْعَةِ، وَبَايَعَ سَعْدٌ، وَكَانَتْ فَلْتَةٌ كَفَلَتَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَامَ أَبُو بَكْرٍ دُونَهَا وَقَالَ قَائِلٌ حِينَ أُوطِئَ سَعْدٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللَّهُ! إِنَّهُ مُنَافِقٌ، وَاعْتَرَضَ عُمَرُ بِالسَّيْفِ صَخْرَةً فقطعه.
حدثنا عبيد الله بن سعيد، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَوْمَئِذٍ لأَبِي بَكْرٍ:
إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ حَسَدْتُمُونِي عَلَى الإِمَارَةِ، وَإِنَّكَ وَقَوْمِي أَجْبَرْتُمُونِي عَلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالُوا: إِنَّا لَوْ أَجْبَرْنَاكَ عَلَى الْفُرْقَةِ فَصِرْتَ إِلَى الْجَمَاعَةِ كُنْتَ فِي سعه، ولكنا اجبرنا عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَلا إِقَالَةَ فِيهَا، لَئِنْ نَزَعْتَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، أَوْ فَرَّقْتَ جَمَاعَةً، لَنَضْرِبَنَّ الذى فيه عيناك
. ذكر امر ابى بكر في أول خلافته
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ- عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: نَادَى مُنَادِي أَبِي بَكْرٍ، مِنْ بَعْدِ الْغَدِ مِنْ متوفى رسول الله ص:
لِيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، أَلا لا يَبْقَيَنَّ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ مِن جُنْدِ أُسَامَةَ إِلا خَرَجَ إِلَى عَسْكَرِهِ بِالْجُرْفِ وَقَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ:

(3/223)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا مِثْلُكُمْ، وَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلَّكُمْ سَتُكَلِّفُونَنِي مَا كَانَ رَسُولُ الله ص يُطِيقُ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ وَعَصَمَهُ مِنَ الآفَاتِ، وَإِنَّمَا أَنَا مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٌ، فَإِنِ اسْتَقَمْتُ فَتَابِعُونِي، وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي، وان رسول الله ص قُبِضَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَطْلُبُهُ بمظلمة ضربه سَوْطٍ فَمَا دُونَهَا، أَلا وَإِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِذَا أَتَانِي فَاجْتَنِبُونِي، لا أُؤْثِرُ فِي أَشْعَارِكُمْ وَأَبْشَارِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي أَجَلٍ قَدْ غُيِّبَ عَنْكُمْ عِلْمُهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا يَمْضِيَ هَذَا الأَجَلُ إِلا وَأَنْتُمْ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ فَافْعَلُوا، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ إِلا بِاللَّهِ، فَسَابِقُوا فِي مَهَلٍ آجَالَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْلِمَكُمْ آجَالُكُمْ إِلَى انْقِطَاعِ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ قَوْمًا نَسَوْا آجَالَهُمْ، وَجَعَلُوا أَعْمَالَهُمْ لِغَيْرِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ الْجَدَّ الْجَدَّ! وَالْوَحَا الْوَحَا! وَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ طَالِبًا حَثِيثًا، أَجَلا مَرُّهُ سَرِيعٌ احْذَرُوا الْمَوْتَ، وَاعْتَبِرُوا بِالآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَالإِخْوَانِ، وَلا تَغْبِطُوا الأَحْيَاءَ إِلا بِمَا تَغْبِطُونَ بِهِ الأَمْوَاتِ.
وَقَامَ أَيْضًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَقْبَلُ مِنَ الأَعْمَالِ إِلا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهَهُ، فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِأَعْمَالِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا أَخْلَصْتُمْ لِلَّهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَطَاعَةٌ أَتَيْتُمُوهَا، وَخَطَأٌ ظَفَرْتُمْ بِهِ، وَضَرَائِبُ أَدَّيْتُمُوهَا، وَسَلَفٌ قَدَّمْتُمُوهُ مِنْ أَيَّامٍ فَانِيَةٍ لأُخْرَى بَاقِيَةٍ، لِحِينِ فَقْرِكُمْ وَحَاجَتِكُمْ اعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَيْنَ كَانُوا أَمْسَ، وَأَيْنَ هُمُ الْيَوْمَ! أَيْنَ الْجَبَّارُونَ! وَأَيْنَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ ذِكْرُ الْقِتَالِ وَالْغَلَبَةُ فِي مَوَاطِنِ الْحُرُوبِ! قَدْ تَضَعْضَعَ بِهِمُ الدَّهْرُ، وَصَارُوا رَمِيمًا، قَدْ تُرِكَتْ عَلَيْهِمِ الْقَالاتُ، الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَأَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ أَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَّرُوهَا، قَدْ بُعِدُوا وَنُسِيَ ذِكْرُهُمْ، وَصَارُوا كَلا شَيْءَ أَلا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِمُ التَّبِعَاتِ، وَقَطَعَ عَنْهُمُ الشَّهَوَاتِ، وَمَضَوْا وَالأَعْمَالُ أَعْمَالُهُمْ، وَالدُّنْيَا دُنْيَا غَيْرِهِمْ، وَبَقِينَا خَلَفًا بَعْدَهُمْ، فَإِنْ نَحْنُ اعْتَبَرْنَا بِهِمْ نَجَوْنَا، وَإِنِ اغْتَرَرْنَا كُنَّا مِثْلَهُمْ! أَيْنَ الْوُضَّاءُ الْحَسَنَةُ وُجُوهُهُمْ، الْمُعْجَبُونَ بِشَبَابِهِمْ! صَارُوا تُرَابًا، وَصَارَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ! أَيْنَ الَّذِينَ بَنَوُا الْمَدَائِنَ وَحَصَّنُوهَا بِالْحَوَائِطِ، وَجَعَلُوا فِيهَا الأَعَاجِيبَ! قَدْ تَرَكُوهَا

(3/224)


لِمَنْ خَلْفَهُمْ، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ خَاوِيَةً، وَهُمْ فِي ظلمات القبور، هل نحس مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا! أَيْنَ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنْ أَبْنَائِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ، قَدِ انْتَهَتْ بِهِمْ آجَالُهُمْ، فَوَرَدُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا فَحَلُّوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا لِلشَّقْوَةِ وَالسَّعَادَةِ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَلا إِنَّ اللَّهَ لا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ سَبَبٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْرًا، وَلا يَصْرِفُ عَنْهُ بِهِ سُوءًا، إِلا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَبِيدٌ مَدِينُونَ، وَأَنَّ مَا عِنْدَهُ لا يُدْرَكُ إِلا بِطَاعَتِهِ، أَمَا أَنَّهُ لا خَيْرَ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَلا شَرَّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ.
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفٌ- عَنْ هِشَامِ ابن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي الأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ، قَالَ: لَيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، إِمَّا عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ الشاتيه، لفقد نبيهم ص وَقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدُوُّهِمْ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ هَؤُلاءِ جُلُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَرَبُ- عَلَى مَا تَرَى- قَدِ انْتُقِضَتْ بِكَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْرِقَ عَنْكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ، لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخَطَّفَنِي لأَنْفَذْتُ بَعْثَ أُسَامَةَ كَمَا امر به رسول الله ص، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لأَنْفَذْتُهُ! حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالا: ثُمَّ اجْتَمْعَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْقَبَائِلِ الَّتِي غَابَتْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَخَرَجُوا وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي جُنْدِ أُسَامَةَ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ بَقِيَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمُ الْهِجْرَةُ فِي دِيَارِهِمْ، فَصَارُوا مَسَالِحَ حَوْلَ قَبَائِلِهِمْ وَهُمْ قَلِيلٌ.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ

(3/225)


وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الحسن البصرى، قال: ضرب رسول الله ص قَبْلَ وَفَاتِهِ بَعْثًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حولهم، وفيهم عمر ابن الْخَطَّابِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَلَمْ يُجَاوِزْ آخِرُهُمُ الْخَنْدَقَ، حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَوَقَفَ أُسَامَةُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ: ارْجِعْ إِلَى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فَاسْتَأْذِنْهُ، يَأْذَنْ لِي أَنْ أَرْجِعَ بِالنَّاسِ، فَإِنَّ مَعِي وُجُوهَ النَّاسِ وَحْدَهُمْ، وَلا آمَنُ عَلَى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَثِقَلِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَثْقَالِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: فَإِنْ أَبَى إِلا أَنْ نَمْضِيَ فَأَبْلِغْهُ عَنَّا، وَاطْلُبْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَ أَمْرَنَا رَجُلا أَقْدَمَ سِنًّا مِنْ أُسَامَةَ.
فَخَرَجَ عُمَرُ بِأَمْرِ أُسَامَةَ، وَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ أُسَامَةُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، لَوْ خَطَّفَتْنِي الْكِلابُ وَالذِّئَابُ لَمْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى به رسول الله ص! قَالَ: فَإِنَّ الأَنْصَارَ أَمَرُونِي أَنْ أُبَلِّغَكَ، وَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ إِلَيْكَ أَنْ تُوَلِّيَ أَمْرَهُمْ رَجُلا أَقْدَمَ سِنًّا مِنْ أُسَامَةَ، فَوَثَبَ أَبُو بَكْرٍ- وَكَانَ جَالِسًا- فَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: ثَكِلَتْكَ أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله ص وَتَأْمُرَنِي أَنْ أَنْزِعَهُ! فَخَرَجَ عُمَرُ إِلَى النَّاسِ فَقَالُوا لَهُ:
مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: امْضُوا، ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! مَا لَقِيتُ فِي سَبَبِكُمْ مِنْ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ! ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَتَاهُمْ، فَأَشْخَصَهُمْ وَشَيَّعَهُمْ وَهُوَ مَاشٍ وَأُسَامَةُ رَاكِبٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُودُ دَابَّةَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ:
يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَتَرْكَبَنَّ أَوْ لأَنْزِلَنَّ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لا تنزل وو الله لا أَرْكَبُ! وَمَا عَلَيَّ أَنْ أُغَبِّرَ قَدَمَيَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَاعَةً، فَإِنَّ لِلْغَازِي بِكُلِّ خطوه يخطوها سبعمائة حسنه تكتب له، وسبعمائة درجه ترتفع له، وترفع عنه سبعمائة خَطِيئَةٍ! حَتَّى إِذَا انْتَهَى قَالَ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعِينَنِي بِعُمَرَ فَافْعَلْ! فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قِفُوا أُوصِكُمْ بِعَشْرٍ فَاحْفَظُوهَا عَنِّي:
لا تَخُونُوا وَلا تَغِلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا طِفْلا صَغِيرًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا وَلا امْرَأَةً، وَلا تَعْقِرُوا نَخْلا وَلا تُحَرِّقُوهُ، وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً

(3/226)


مُثْمِرَةً، وَلا تَذْبَحُوا شَاةً وَلا بَقَرَةً وَلا بَعِيرًا إِلا لِمَأْكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَوْفَ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ يَأْتُونَكُمْ بِآنِيَةٍ فِيهَا أَلْوَانُ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَتَلْقَوْنَ أَقْوَامًا قَدْ فَحَصُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ وَتَرَكُوا حَوْلَهَا مِثْلَ الْعَصَائِبِ، فَاخْفِقُوهُمْ بِالسَّيْفِ خَفْقًا انْدَفِعُوا باسم الله، أفناكم اللَّهُ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ.
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْجُرْفِ، فَاسْتَقْرَى أُسَامَةَ وَبَعْثَهُ، وَسَأَلَهُ عُمَرَ فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ ما امرك به نبى الله ص، ابدا ببلاد قضاعه ثم ايت آبِلَ، وَلا تُقَصِّرَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ رسول الله ص، وَلا تَعْجَلَنَّ لِمَا خَلَفْتَ عَنْ عَهْدِهِ فَمَضَى أُسَامَةُ مُغِذًّا عَلَى ذِي الْمَرْوَةِ وَالْوَادِي، وَانْتَهَى الى ما امره به النبي ص مِنْ بَثِّ الْخُيُولِ فِي قَبَائِلِ قُضَاعَةَ وَالْغَارَةِ عَلَى آبِلَ، فَسَلِمَ وَغَنِمَ، وَكَانَ فَرَاغُهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا سِوَى مُقَامِهِ وَمُنْقَلَبِهِ رَاجِعًا.
فَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سيف- وحدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيْفٌ- عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ.
وَعَنْهُمَا، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مِثْلَهُ.

بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي
كان رسول الله ص جمع- فيما بلغنا- لباذام حين أسلم وأسلمت اليمن عمل اليمن كلها، وأمره على جميع مخاليفها، فلم يزل عامل رسول الله

(3/227)


ص أيام حياته، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه فيها شريكا حَتَّى مات باذام، فلما مات فرق عملها بين جماعة من أصحابه.
فَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ- قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عبيد بن صخر ابن لَوْذَانَ الأَنْصَارِيِّ السُّلَمِيِّ- وَكَانَ فِيمَنْ بَعَثَ النَّبِيُّ ص مع عمال اليمن في سنه عشر بعد ما حَجَّ حَجَّةَ التَّمَامِ: وَقَدْ مَاتَ بَاذَامُ، فَلِذَلِكَ فَرَّقَ عَمَلَهَا بَيْنَ شَهْرِ بْنِ بَاذَامَ، وَعَامِرِ بْنِ شَهْرٍ الْهَمْدَانِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، وَخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَالطَّاهِرِ بْنِ أَبِي هَالَةَ، وَيَعْلَى بْنِ اميه، وعمر بْنِ حَزْمٍ، وَعَلَى بِلادِ حَضْرَمَوْتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبِيَاضِيُّ وَعُكَاشَةُ بْنُ ثَوْرِ بْنِ أَصْغَرَ الغوثي، على السكاسك والسكون ومعاويه ابن كِنْدَةَ، وَبَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ مُعَلِّمًا لأَهْلِ البلدين: اليمن وحضر موت.
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ- عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بن قرص بن عباده، عن قرص الليثى، ان النبي ص رجع الى المدينة بعد ما قَضَى حَجَّةُ الإِسْلامِ، وَقَدْ وَجَّهَ إِمَارَةَ الْيَمَنِ وَفَرَّقَهَا بَيْنَ رِجَالٍ، وَأَفْرَدَ كُلَّ رَجُلٍ بِحِيَزِهِ، ووجه اماره حضر موت وَفَرَّقَهَا بَيْنَ ثَلاثَةٍ، وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِيَزِهِ، وَاسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ، وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى مَا بَيْنَ نَجْرَانَ وَرِمْعٍ وَزُبَيْدَ، وَعَامِرَ بْنَ شَهْرٍ عَلَى هَمْدَانَ، وَعَلَى صَنْعَاءَ ابْنَ بَاذَامَ، وَعَلَى عَكٍّ وَالأَشْعَرِيِّينَ الطَّاهِرَ بْنَ أَبِي هَالَةَ، وَعَلَى مَأْرِبَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ، وَعَلَى الْجُنْدِ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ وَكَانَ مُعَاذٌ مُعَلِّمًا يَتْنَقِلُ فِي عِمَالَةِ كُلِّ عَامِلٍ بِالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى أَعْمَالِ حَضْرَمَوْتَ، عَلَى السَّكَاسِكِ وَالسُّكُونِ عُكَاشَةَ بْنَ ثَوْرٍ، وَعَلَى بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدَةَ عَبْدَ اللَّهِ- أَوِ الْمُهَاجِرَ- فَاشْتَكَى فَلَمْ يَذْهَبْ حَتَّى وَجَّهَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَى حَضْرَمَوْتَ زِيَادَ بْنَ لبيد

(3/228)


الْبِيَاضِيَّ، وَكَانَ زِيَادٌ يَقُومُ عَلَى عَمَلِ الْمُهَاجِرِ، فمات رسول الله ص وَهَؤُلاءِ عُمَّالُهُ عَلَى الْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ، إِلا مَنْ قُتِلَ فِي قِتَالِ الأَسْوَدِ أَوْ مَاتَ، وَهُوَ باذام، مات ففرق النبي ص الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِهِ.
وَشَهْرٌ ابْنُهُ- يَعْنِي ابْنَ بَاذَامَ- فَسَارَ إِلَيْهِ الأَسْوَدُ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ.
وَحَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ.
فَقَالَ فِيهِ: عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَلْحَةَ ثُمَّ سائر الحديث باسناده مثل حديث ابن سعد الزُّهْرِيِّ.
قَالَ: حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى الْعَنْسِيِّ وَكَاثَرَهُ عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ الْهَمْدَانِيُّ فِي نَاحِيَتِهِ وَفَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ فِي نَاحِيَتِهِمَا، ثُمَّ تَتَابَعَ الَّذِينَ كَتَبَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ، قَالَ وَحَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ فَبَيْنَا نَحْنُ بِالْجُنْدِ قَدْ أَقَمْنَاهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَكَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْكُتُبَ، إِذْ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنَ الأَسْوَدِ: أَيُّهَا الْمُتَوَرِّدُونَ عَلَيْنَا، أَمْسِكُوا عَلَيْنَا مَا أَخَذْتُمْ مِنْ أَرْضِنَا، وَوَفِّرُوا مَا جَمَعْتُمْ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَقُلْنَا لِلرَّسُولِ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنْ كَهْفِ خُبَّانَ ثُمَّ كَانَ وَجْهُهُ إِلَى نَجْرَانَ، حَتَّى أَخَذَهَا فِي عَشْرٍ لِمَخْرَجِهِ، وَطَابَقَهُ عُوَّامُ مَذْحِجَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا، وَنَجْمَعُ جَمْعَنَا، إِذْ أَتِيَنَا فَقِيلَ: هَذَا الأَسْوَدُ بِشَعُوبٍ، وَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهِ شَهْرُ بْنُ بِاذَامَ، وَذَلِكَ لِعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ مَنْجَمِهِ فَبَيْنَا نَحْنُ نَنْتَظِرُ الْخَبَرَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدِّبْرَةُ، إِذْ أَتَانَا أَنَّهُ قَتَلَ شَهْرًا، وَهَزَمَ الأَبْنَاءَ، وَغَلَبَ عَلَى صَنْعَاءَ لِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ مَنْجَمِهِ وَخَرَجَ مُعَاذٌ هَارِبًا، حَتَّى مَرَّ بِأَبِي موسى

(3/229)


وَهُوَ بِمَأْرِبَ، فَاقْتَحَمَا حَضْرَمَوْتَ، فَأَمَّا مُعَاذٌ فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي السُّكُونِ، وَأَمَّا أَبُو مُوسَى فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي السَّكَاسِكِ مِمَّا يَلِي الْمُفُورَ وَالْمَفَازَةَ بَيْنَهُمَ وَبَيْنَ مَأْرِبَ، وَانْحَازَ سَائِرُ أُمَرَاءِ الْيَمَنِ إِلَى الطَّاهِرِ إِلا عَمْرًا وَخَالِدًا، فَإِنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالطَّاهِرُ يَوْمَئِذٍ فِي وَسَطِ بِلادِ عَكٍّ بِحِيَالِ صَنْعَاءَ وَغَلَبَ الأَسْوَدُ عَلَى مَا بَيْنَ صُهَيْدَ- مَفَازَةَ حَضْرَمَوْتَ- إِلَى عَمَلِ الطَّائِفِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ قِبَلَ عَدَنٍ، وَطَابَقَتْ عَلَيْهِ الْيَمَنُ، وَعَكٍّ بِتِهَامَةَ مُعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَسْتَطِيرُ اسْتِطَارَةَ الحريق، وكان معه سبعمائة فَارِسٍ يَوْمَ لَقِيَ شَهْرًا سِوَى الرُّكْبَانِ، وَكَانَ قُوَّادَهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الْمُرَادِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قَيْسٍ الْجَنْبِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ مُحْرِمٍ وَيَزِيدُ بْنُ حُصَيْنٍ الْحَارِثِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ الأَفْكَلِ الأَزْدِيُّ وَثَبَتَ مُلْكُهُ وَاسْتَغْلَظَ أَمْرُهُ، وَدَانَتْ لَهُ سَوَاحِلُ مِنَ السَّوَاحِلِ، حَازَ عَثْرَ وَالشَّرْجَةَ وَالْحَرْدَةَ وَغَلافِقَةَ وَعَدَنَ، وَالْجُنْدَ، ثُمَّ صَنْعَاءَ إِلَى عَمَلِ الطَّائِفِ، إِلَى الأَحْسِيَةِ وَعُلَيْبٍ، وَعَامَلَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْبَقِيَّةِ، وَعَامَلَهُ أَهْلُ الرِّدَّةِ بِالْكُفْرِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الإِسْلامِ.
وَكَانَ خَلِيفَتَهُ فِي مَذْحِجَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ، وَأَسْنَدَ أَمْرَهُ إِلَى نَفَرٍ، فَأَمَّا أَمْرُ جُنْدِهِ فَإِلَى قَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَأَسْنَدَ أَمْرَ الأَبْنَاءِ إِلَى فَيْروزٍ وَدَاذُوَيْهِ.
فَلَمَّا أَثْخَنَ فِي الأَرْضِ اسْتَخَفَّ بِقَيْسٍ وَبِفَيْرُوزَ وَدَاذُوَيْهِ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ شَهْرٍ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ فَيْرُوزَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ بِحَضْرَمَوْتَ- وَلا نَأْمَنُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا الأَسْوَدُ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْنَا جَيْشًا، أَوْ يَخْرُجَ بِحَضْرَمَوْتَ خَارِجٌ يَدَّعِيَ بِمِثْلِ مَا ادَّعَى بِهِ الأَسْوَدُ، فَنَحْنُ عَلَى ظَهْرٍ، تَزَوَّجَ مُعَاذٌ إِلَى بَنِي بَكْرَةَ، حَيٍّ مِنَ السُّكُونِ، امْرَأَةً أَخْوَالُهَا بَنُو زَنْكَبِيلَ يُقَالُ لَهَا رَمْلَةُ، فَحَدَبُوا لِصِهْرِهِ

(3/230)


عَلَيْنَا، وَكَانَ مُعَاذٌ بِهَا مُعْجَبًا، فَإِنْ كَانَ لَيَقُولُ فِيمَا يَدْعُو اللَّهَ بِهِ:
اللَّهُمَّ ابْعَثْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ السُّكُونِ، وَيَقُولُ أَحْيَانًا: اللَّهُمَّ اغفر للسكون- إذ جاءتنا كتب النبي ص يأمرنا فيها ان نبعث الرجال لمجاولته أَوْ لِمُصَاوَلَتِهِ، وَنُبَلِّغَ كُلَّ مَنْ رَجَا عِنْدَهُ شيئا من ذلك عن النبي ص فَقَامَ مُعَاذٌ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي أَمَرَ بِهِ، فَعَرَفْنَا الْقُوَّةَ وَوَثَقْنَا بِالنَّصْرِ.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف- قال: أخبرنا المستنير ابن يَزِيدَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الدُّثَيْنِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ- قَالَ السَّرِيُّ: عَنْ جُشَيْشِ بن الديلمى، وقال عبيد الله: عن جشنس بْنِ الدَّيْلَمِيِّ- قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا وَبْرُ بْنُ يحنس بكتاب النبي ص، يَأْمُرُنَا فِيهِ بِالْقِيَامِ عَلَى دِينِنَا، وَالنُّهُوضِ فِي الْحَرْبِ، وَالْعَمَلِ فِي الأَسْوَدِ: إِمَّا غَيْلَةً وَإِمَّا مُصَادَمَةً، وَأَنْ نُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ رَأَيْنَا أَنَّ عِنْدَهُ نَجْدَةً وَدِينًا فَعَمِلْنَا فِي ذَلِكَ، فَرَأَيْنَا أَمْرًا كَثِيفًا، وَرَأَيْنَاهُ قَدْ تَغَيَّرَ لِقَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ- وَكَانَ عَلَى جُنْدِهِ- فَقُلْنَا: يَخَافُ عَلَى دَمِهِ، فَهُوَ لأَوَّلُ دَعْوَةٍ، فَدَعَوْنَاهُ وَأَنْبَأْنَاهُ الشان، وابلغناه عن النبي ص، فَكَأَنَّمَا وَقَعْنَا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ فِي غَمٍّ وَضِيقٍ بِأَمْرِهِ، فَأَجَابَنَا إِلَى مَا أَحْبَبْنَا مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَنَا وَبْرُ بْنُ يُحَنِّسَ، وَكَاتَبْنَا النَّاسَ وَدَعَوْنَاهُمْ، وَأَخْبَرَهُ الشَّيْطَانُ بِشَيْءٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَيْسٍ وَقَالَ: يَا قَيْسُ، مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: عَمَدْتَ إِلَى قَيْسٍ فَأَكْرَمْتَهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ مِنْكَ كُلَّ مُدْخَلٍ، وَصَارَ فِي الْعِزِّ مِثْلَكَ، مَالَ مَيْلَ عَدُوِّكَ، وَحَاوَلَ مُلْكَكَ وَأَضْمَرَ عَلَى الْغَدْرِ! إِنَّهُ يَقُولُ: يَا أَسْوَدُ يَا أَسْوَدُ! يَا سَوْءَةُ يَا سَوْءَةُ! اقْطِفْ قُنَّتَهُ، وَخُذْ مِنْ قَيْسٍ أَعْلاهُ، وَإِلا سَلَبَكَ أَوْ قَطَفَ قُنَّتَكَ فَقَالَ قَيْسٌ- وَحَلَفَ بِهِ: كَذَبَ وَذِي الْخِمَارِ، لأَنْتَ اعظم في

(3/231)


نَفْسِي وَأَجَلُّ عِنْدِي مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ بِكَ نَفْسِي، فَقَالَ: مَا أَجْفَاكَ: أَتُكَذِّبُ الْمَلِكَ! قَدْ صَدَقَ الْمَلِكُ، وَعَرَفْتُ الآنَ أَنَّكَ تَائِبٌ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْكَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَتَانَا، فَقَالَ: يَا جُشَيْشُ، وَيَا فَيْرُوزُ، وَيَا دَاذُوَيْهِ، إِنَّهُ قَدْ قَالَ وَقُلْتُ، فَمَا الرَّأْيُ؟ فَقُلْنَا: نَحْنُ عَلَى حَذَرٍ، فَإِنَّا فِي ذَلِكَ، إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: أَلَمْ أُشْرِفْكُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ، أَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْكُمْ! فَقُلْنَا: أَقلْنَا مَرَّتَنَا هَذِهِ، فَقَالَ: لا يبلغني عنكم فاقتلكم، فنجونا ولم تكد، وَهُوَ فِي ارْتِيَابٍ مِنْ أَمْرِنَا وَأَمْرِ قَيْسٍ، وَنَحْنُ فِي ارْتِيَابٍ وَعَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، إِذْ جاءنا اعتراض عامر ابن شَهْرٍ وَذِي زَوْدٍ وَذِي مُرَّان وَذِي الْكَلاعِ وَذِي ظُلَيْمٍ عَلَيْهِ، وَكَاتَبُونَا وَبَذَلُوا لَنَا النَّصْرَ، وَكَاتَبْنَاهُمْ وَأَمَرْنَاهُمْ أَلا يُحَرِّكُوا شَيْئًا حَتَّى نُبْرِمَ الأَمْرَ- وَإِنَّمَا اهْتَاجُوا لِذَلِكَ حِينَ جَاءَ كِتَابُ النبي ص، وكتب النبي ص إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، إِلَى عَرَبِهِمْ وَسَاكِنِي الأَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ، فَثَبتُوا فَتَنَحَّوْا وَانْضَمُّوا إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ- وَبَلَغَهُ ذَلِكَ، وَأَحَسَّ بِالْهَلاكِ، وَفَرَقَ لنا الرأي، فدخلت على آذاد، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَةَ عَمِّ، قَدْ عَرَفْت بَلاءَ هَذَا الرَّجُلِ عِنْدَ قَوْمِكِ، قَتَلَ زَوْجَكِ، وَطَأْطَأَ فِي قَوْمِكِ الْقَتْلَ، وَسَفَلَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَفَضَحَ النِّسَاءَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ مُمَالأَةٍ عَلَيْهِ! فَقَالَتْ:
عَلَى أَيِّ أَمْرِهِ؟ قُلْتُ: إِخْرَاجِهِ، قَالَتْ: أَوْ قَتْلِهِ، قُلْتُ: أَوْ قَتْلِهِ، قَالَتْ: نَعَمْ وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَخْصًا أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، مَا يَقُومُ لِلَّهِ عَلَى حَقٍّ، وَلا يَنْتَهِي لَهُ عَنْ حُرْمَةٍ، فَإِذَا عَزَمْتُمْ فَأَعْلِمُونِي أُخْبِرْكُمْ بِمَأْتَى هَذَا الأَمْرِ فَأَخْرُجَ فَإِذَا فَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ يَنْتَظِرَانِي، وَجَاءَ قَيْسٌ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُنَاهِضَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ إِلَيْنَا: الْمَلِكُ يَدْعُوكَ، فَدَخَلَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ مَذْحِجَ وَهَمْدَانَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ مَعَهُمْ- قَالَ السَّرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ:

(3/232)


يَا عَيْهَلَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ غَوْثٍ، وَقَالَ عبيد الله في حديثه: يا عبهله بْنُ كَعْبِ بْنِ غَوْثٍ- أَمِنِّي تُحْصَنُ بِالرِّجَالِ! الم اخبرك الحق وتخبرني الكذابة! انه يَقُولُ: يَا سَوْءَةُ يَا سَوْءَةُ! إِلا تَقْطَعَ مِنْ قَيْسٍ يَدَهُ يَقْطَعْ قُنَّتَكَ الْعُلْيَا، حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ أَقْتُلَكَ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَمُرْ بِي بِمَا أَحْبَبْتَ، فَأَمَّا الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ فَأَنَا فيهما مخافه ان تقتلني- قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَإِمَّا قَتَلْتَنِي فَمَوْتُهُ، وَقَالَ السَّرِيُّ: اقْتُلْنِي فَمَوْتَةٌ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتٍ أَمُوتُهَا كُلَّ يَوْمٍ- فَرَقَّ لَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فأخبرنا وواطأنا، وَقَالَ: اعْمَلُوا عَمْلَكُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا فِي جَمْعٍ، فَقُمْنَا مُثُولا لَهُ، وَبِالْبَابِ مِائَةٌ مَا بَيْنَ بَقَرَةٍ وَبَعِيرٍ، فَقَامَ وَخَطَّ خَطًّا فَأُقِيمَتْ مِنْ ورائه، وَقَامَ مَنْ دُونِهَا، فَنَحَرَهَا غَيْرَ مُحْبَسَةٍ وَلا مُعْقَلَةٍ، مَا يَقْتَحِمُ الْخَطَّ مِنْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ خَلاهَا فَجَالَتْ إِلَى أَنْ زُهِقَتْ، فَمَا رَأَيْتُ أَمْرًا كَانَ أَفْظَعَ مِنْهُ، وَلا يَوْمًا أَوْحَشَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ يَا فَيْرُوزُ؟
وَبَوَّأَ لَهُ الْحَرْبَةَ- لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْحَرَكَ فَأُتْبِعَكَ هَذِهِ الْبَهِيمَةَ، فَقَالَ:
اخْتَرْتَنَا لِصِهْرِكَ وَفَضَّلْتَنَا عَلَى الأَبْنَاءِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا مَا بِعْنَا نَصِيبَنَا مِنْكَ بِشَيْءٍ، فَكَيْفَ وَقَدِ اجْتَمَعَ لَنَا بِكَ أَمْرُ آخِرَةٍ وَدُنْيَا، لا تقبلن علينا امثال مَا يَبْلُغُكَ، فَإِنَّا بِحَيْثُ تُحِبُّ فَقَالَ: اقْسِمْ هذه، فأنت اعلم بمن هاهنا، فَاجْتَمَعَ إِلَيَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ، وَجَعَلْتُ آمُرَ لِلرَّهْطِ بِالْجَزُورِ وَلأَهْلِ الْبَيْتِ بِالْبَقَرَةِ، وَلأَهْلِ الْحِلَّةِ بِعِدَّةٍ، حَتَّى أَخَذَ أَهْلُ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِقِسْطِهِمْ فَلَحِقَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى دَارِهِ- وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيَّ- رَجُلٌ يَسْعَى إِلَيْهِ بِفَيْرُوزَ، فَاسْتَمَعَ لَهُ، وَاسْتَمَعَ لَهُ فَيْرُوزٌ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا قَاتِلُهُ غَدًا وَأَصْحَابُهُ، فَاغْدُ عَلَيَّ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا بِهِ، فَقَالَ: مَهْ! فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، ثُمَّ ضَرَبَ دَابَّتَهُ دَاخِلا، فَرَجَعَ إلينا فأخبرنا

(3/233)


الْخَبَرَ، فَأَرْسَلْنَا إِلَى قَيْسٍ، فَجَاءَنَا، فَأَجْمَعَ مَلَؤُهُمْ أَنْ أَعُودَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَأُخْبِرَهَا بِعَزِيمَتَنَا لِتُخْبِرَنَا بِمَا تَأْمُرُ، فَأَتَيْتُ الْمَرْأَةَ وَقُلْتُ: مَا عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: هُوَ مُتَحَرِّزٌ مُتَحَرِّسٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْقَصْرِ شَيْءٌ إِلا وَالْحَرَسُ مُحِيطُونَ بِهِ غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّ ظَهْرَهُ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الطَّرِيقِ، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ فَانْقُبُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّكُمْ مِنْ دُونِ الْحَرَسِ، وَلَيْسَ دُونَ قَتْلِهِ شَيْءٌ وَقَالَتْ: إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِيهِ سِرَاجًا وَسِلاحًا فَخَرَجْتُ فَتَلَقَّانِي الأَسْوُد خَارِجًا مِنْ بَعْضِ مَنَازِلِهِ، فَقَالَ لِي مَا أَدْخَلَكَ عَلَيَّ؟ وَوَجَأَ رَأْسِي حَتَّى سَقَطْتُ- وَكَانَ شَدِيدًا- وَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَأَدْهَشَتْهُ عَنِّي، وَلَوْلا ذَلِكَ لَقَتَلَنِي وَقَالَتِ: ابْنُ عَمِّي جَاءَنِي زائرا، فقصرت بي! فقال: اسكتي لا ابالك، فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ! فَتَزَايَلَتْ عَنِّي، فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي فَقُلْتُ: النَّجَاءَ! الْهَرَبَ! وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، فَإِنَّا عَلَى ذَلِكَ حَيَارَى إِذْ جَاءَنِي رَسُولُهَا: لا تَدَعْنَ مَا فَارَقْتُكَ عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى اطْمَأَنَّ، فَقُلْنَا لِفَيْرُوزٍ: ائْتِهَا فَتَثَبَّتْ مِنْهَا، فَأَمَّا أَنَا فَلا سَبِيلَ لِي إِلَى الدُّخُولِ بَعْدَ النَّهْيِ فَفَعَلَ، وَإِذَا هُوَ كَانَ أَفْطَنَ منى، فلما اخبرته قالت: وَكَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَنْقُبَ عَلَى بُيُوتٍ مُبَطَّنَةٍ! يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقْلِعَ بِطَانَةَ الْبَيْتِ، فَدَخَلا فَاقْتَلَعَا الْبِطَانَةَ، ثُمَّ أَغْلَقَاهُ، وَجَلَسَ عِنْدَهَا كَالزَّائِرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا الأَسْوَدُ فَاسْتَخَفَّتْهُ غَيْرَةٌ، وَأَخْبَرَتْهُ بِرَضَاعٍ وَقَرَابَةٍ مِنْهَا عِنْدَهُ مُحَرَّمٌ، فَصَاحَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ وَجَاءَنَا بِالْخَبَرِ، فَلَمَّا أَمْسَيْنَا عَمِلْنَا فِي أَمْرِنَا، وَقَدْ وَاطَأْنَا أَشْيَاعَنَا، وَعَجِلْنَا عَنْ مُرَاسَلَةِ الْهَمْدَانِيِّينَ وَالْحِمْيَرِيِّينَ، فَنَقَبْنَا الْبَيْتَ مِنْ خَارِجٍ، ثُمَّ دَخَلْنَا وَفِيهِ سِرَاجٌ تَحْتَ جُفْنَةٍ، وَاتَّقَيْنَا بِفَيْرُوزَ، وَكَانَ أَنْجَدَنَا وَأَشَدَّنَا- فَقُلْنَا: انْظُرْ مَاذَا تَرَى! فَخَرَجَ وَنَحْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَسِ مَعَهُ فِي مَقْصُورَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ بَابِ الْبَيْتِ سَمِعَ غَطِيطًا شَدِيدًا، وَإِذَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى الْبَابِ أَجْلَسَهُ الشَّيْطَانُ فَكَلَّمَهُ عَلَى لِسَانِهِ- وَإِنَّهُ لَيَغُطَّ جَالِسًا وَقَالَ أَيْضًا: مَا لِي وَلَكَ يَا فَيْرُوزُ! فَخَشِيَ إِنْ رَجَعَ أَنْ يَهْلِكَ وَتَهْلِكَ الْمَرْأَةُ، فَعَاجَلَهُ فَخَالَطَهُ وَهُوَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَدَقَّ

(3/234)


عُنُقَهُ، وَوَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي ظَهْرِهِ فَدَقَّهُ، ثُمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِثَوْبِهِ وَهِيَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَقَالَتْ: أَيْنَ تَدَعُنِي! قَالَ: أُخْبِرُ أَصْحَابِي بِمَقْتَلِهِ، فَأَتَانَا فَقُمْنَا مَعَهُ، فَأَرَدْنَا حَزَّ رَأْسِهِ، فَحَرَّكَهُ الشَّيْطَانُ فَاضْطَرَبَ فَلَمْ يَضْبِطْهُ، فَقُلْتُ: اجْلِسُوا عَلَى صَدْرِهِ، فَجَلَسَ اثْنَانِ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِشَعْرِهِ، وَسَمِعْنَا بَرْبَرَةً فَأَلْجَمَتْهُ بِمِئْلاةٍ، وَأَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِهِ فَخَارَ كَأَشَدِّ خُوَارِ ثَوْرٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ، فَابْتَدَرَ الْحَرَسُ الْبَابَ وَهُمْ حَوْلَ الْمَقْصُورَةِ، فَقَالُوا:
مَا هَذَا، مَا هَذَا! فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: النَّبِيُّ يُوحَى إِلَيْهِ! فَخَمَدَ ثُمَّ سَمُرْنَا لَيْلَتَنَا وَنَحْنُ نَأْتَمِرُ كَيْفَ نُخْبِرُ أَشْيَاعَنَا، لَيْسَ غَيْرُنَا ثَلاثَتُنَا: فَيْرُوزُ وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسٌ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى النِّدَاءِ بِشِعَارِنَا الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَشْيَاعِنَا، ثُمَّ يُنَادَى بِالأَذَانِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى دَاذُوَيْهِ بِالشِّعَارِ، فَفَزِعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكَافِرُونَ، وَتَجَمَّعَ الْحَرَسُ فَأَحَاطُوا بِنَا، ثُمَّ نَادَيْتُ بِالأَذَانِ، وَتَوَافَتْ خُيُولُهُمْ إِلَى الْحَرَسِ، فَنَادَيْتُهُمْ:
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ عَبْهَلَةَ كَذَّابٌ! وَأَلْقَيْنَا إِلَيْهِمْ رَأْسَهُ، فَأَقَامَ وَبَرٌ الصَّلاةَ، وَشَنَّهَا الْقَوْمُ غَارَةً، ونَادَيْنَا: يَا أَهْلَ صَنْعَاءَ، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ دَاخِلٌ فَتَعَلَّقُوا بِهِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَتَعَلَّقُوا بِهِ.
وَنَادَيْنَا بِمَنْ فِي الطَّرِيقِ: تَعَلَّقُوا بِمَنِ اسْتَطَعْتُمْ! فَاخْتَطَفُوا صِبْيَانًا كَثِيرِينَ، وَانْتَهَبُوا مَا انْتَهَبُوا، ثُمَّ مَضَوْا خَارِجِينَ، فَلَمَّا بَرَزُوا فَقَدُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ فَارِسًا رُكْبَانًا، وَإِذَا أَهْلُ الدور والطرق وقد وافونا بهم، وفقدنا سبعمائة عيل فراسلونا وراسلناهم أَنْ يَتْرُكُوا لَنَا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَنَتْرُكُ لَهُمْ مَا فِي أَيْدِينَا، فَفَعَلُوا فَخَرَجُوا لَمْ يَظْفَرُوا مِنَّا بِشَيْءٍ، فَتَرَدَّدُوا فِيمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ، وَخَلَصَتْ صَنْعَاءُ وَالْجُنْدُ، وَأَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلامَ واهله، وتنافسنا الإمارة، وتراجع اصحاب النبي ص إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَاصْطَلَحْنَا عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِنَا، وَكَتَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص بالخبر، وذلك في حياه

(3/235)


النبي ص فَأَتَاهُ الْخَبَرُ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَقَدِمَتْ رُسُلُنَا، وَقَدْ مات النبي ص صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَجَابَنَا أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ- عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الشَّنَوِيِّ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، [قال: اتى الخبر النبي ص مِنَ السَّمَاءِ اللَّيْلَةَ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْعَنْسِيُّ لِيُبَشِّرَنَا، فَقَالَ: قُتِلَ الْعَنْسِيُّ الْبَارِحَةَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مُبَارَكينَ، قِيلَ: وَمَنْ هو؟ قَالَ:
فَيْرُوزُ، فَازَ فَيْرُوزُ!] حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف- عن الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ فَيْرُوزَ، قَالَ: قَتَلْنَا الأَسْوَدَ، وَعَادَ أَمْرُنَا كَمَا كَانَ، إِلا أَنَّا أَرْسَلْنَا إِلَى مُعَاذٍ، فَتَرَاضَيْنَا عَلَيْهِ، فكان يصلى بنا في صنعاء، فو الله ما صلى بنا الا ثلاثا ونحن راجون مَؤْمُلُونَ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ نَكْرَهُهُ إِلا مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْخُيُولِ الَّتِي تَتَرَدَّدُ بَيْنَنَا وَبَيَنْ نَجْرَانَ، حَتَّى أَتَانَا الْخَبَرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ الله ص، فَانْتُقِضَتِ الأُمُورُ، وَأَنْكَرْنَا كَثِيرًا مِمَّا كُنَّا نَعْرِفُ، وَاضْطَرَبَتِ الأَرْضُ حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ يَحْيَى بْنِ أَبِي عمرو السيبانى، مِنْ جُنْدِ فِلَسْطِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ص بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولا، يُقَالُ لَهُ: وَبْرُ بْنُ يَحْنُسَ الأَزْدِيُّ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى دَاذُوَيْهِ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ الأَسْوَدُ كَاهِنًا مَعَهُ شَيْطَانٌ وَتَابِعٌ لَهُ، فَخَرَجَ فَنَزَلَ عَلَى مَلَكِ الْيَمَنِ، فَقَتَلَ مَلِكَهَا وَنَكَحَ امْرَأَتَهُ وَمَلَكَ الْيَمَنَ، وَكَانَ بَاذَامُ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَخَلَفَ ابْنَهُ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَتَلَهُ وَتَزَوَّجَهَا، فَاجْتَمَعْتُ أَنَا وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ الْمُرَادِيِّ عِنْدَ وَبَرِ بْنِ يُحَنِّسَ رَسُولِ نَبِيِّ الله ص

(3/236)


نَأْتَمِرُ بِقَتْلِ الأَسْوَدِ ثُمَّ إِنَّ الأَسْوَدَ أَمَرَ النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا فِي رُحْبَةٍ مِنْ صَنْعَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَامَ فِي وَسْطِهِمْ، وَمَعَهُ حَرْبَةُ الْمَلِكِ، ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِ الْمَلِكِ فَأَوْجَرَهُ الْحَرْبَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَ فَجَعَلَ يَجْرِي فِي الْمَدِينَةِ وَدِمَاؤُهُ تَسِيلُ حَتَّى مَاتَ وَقَامَ وَسَطَ الرُّحْبَةِ، ثُمَّ دَعَا بِجُزُرٍ مِنْ وَرَاءِ الْخَطِّ فَأَقَامَهَا، وَأَعْنَاقُهَا وَرُءُوسُهَا فِي الْخَطِّ مَا يَجُزْنَهُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُنَّ بِحَرْبَتِهِ فَنَحَرَهُنَّ فَتَصَدَّعْنَ عَنْهُ، حَتَّى فَرَغَ مِنْهُنَّ، ثُمَّ أَمْسَكَ حَرْبَتَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ- يَعْنِي شَيْطَانَهُ الَّذِي مَعَهُ: إِنَّ ابْنَ الْمَكْشُوحِ مِنَ الطُّغَاةِ، يَا أَسْوَدُ اقْطَعْ قُنَّةَ راسه العليا ثم أكب رَأْسَهُ أَيْضًا يَنْظُرُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ ابْنَ الدَّيْلَمِيِّ مِنَ الطُّغَاةِ، يَا أَسْوَدُ اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُمْنَى، فلما سمعت قوله قلت: والله ما آمن أَنْ يَدْعُوَ بِي، فَيْنَحَرَنِي بِحَرْبَتِهِ كَمَا نَحَرَ هَذِهِ الْجُزُرَ، فَجَعَلْتُ أَسْتَتِرُ بِالنَّاسِ لِئَلا يَرَانِي، حَتَّى خَرَجْتُ وَلا أَدْرِي مِنْ حِذْرِي كَيْفَ آخُذُ! فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْ مَنْزِلِي لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَدَقَّ فِي رَقَبَتِي، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ يَدْعُوكَ وَأَنْتَ تَرُوغُ! ارْجِعْ، فَردَّنِي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ خَشِيتُ أَنْ يَقْتُلَنِي قَالَ: وَكُنَّا لا يَكَادُ يُفَارِقُ رَجُلا مِنَّا أَبَدًا خِنْجَرَهُ، فَأَدُسُّ يَدِي فِي خُفِّي، فَأَخَذْتُ خِنْجَرِي، ثُمَّ أَقْبَلْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِ، فَأَطْعَنَهُ بِهِ حَتَّى أَقْتُلَهُ، ثُمَّ أَقْتُلَ مَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ رَأَى فِي وَجْهِي الشَّرَّ، فَقَالَ: مَكَانَكَ! فَوَقَفْتُ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَكْبَرُ مَنْ هَاهُنَا وَأَعْلَمُهُمْ بِأَشْرَافِ أَهْلِهَا، فَاقْسِمْ هَذِهِ الْجُزُرَ بَيْنَهُمْ وَرَكِبَ فَانْطَلَقَ وَعَلَّقْتُ أُقْسِمُ اللَّحْمَ بَيْنَ أَهْلِ صَنْعَاءَ، فَأَتَانِي ذَلِكَ الَّذِي دَقَّ فِي رَقَبَتِي، فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْهَا، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ وَلا بَضْعَةً وَاحِدَةً، أَلَسْتَ الَّذِي دَقَقْتَ فِي رَقَبَتِي! فَانْطَلَقَ غَضْبَانَ حَتَّى أَتَى الأَسْوَدَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ مِنِّي وَقُلْتُ لَهُ فَلَمَّا فَرَغْتُ أَتَيْتُ الأَسْوَدَ أَمْشِي إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُ الرَّجُلَ وَهُوَ يَشْكُونِي إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الأَسْوَدُ: أَمَا وَاللَّهِ لأَذْبَحَنَّهُ ذَبْحًا! فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ فَرَغْتُ

(3/237)


مِمَّا أَمَرْتَنِي بِهِ، وَقَسَّمْتُهُ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتَ فَانْصَرِفْ فَانْصَرَفْتُ، فَبَعَثْنَا إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ: أَنَّا نُرِيدُ قَتْلَ الأَسْوَدِ، فَكَيْفَ لَنَا! فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ: أَنْ هَلُمَّ فَأَتَيْتُهَا، وَجَعَلَتِ الْجَارِيَةَ عَلَى الْبَابِ لَتُؤْذِنَنَا إِذَا جَاءَ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَهِيَ الْبَيْتَ الآخِرَ، فَحَفَرْنَا حَتَّى نَقَبْنَا نَقْبًا، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْبَيْتِ، فَأَرْسَلْنَا السِّتْرَ، فَقُلْتُ: إِنَّا نَقْتُلُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَتْ: فَتَعَالَوْا، فَمَا شَعَرْتُ بِشَيْءٍ حَتَّى إِذَا الأَسْوَدُ قَدْ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَإِذَا هُوَ مَعَنَا، فَأَخَذَتْهُ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ يَدُقُّ فِي رَقَبَتِي، وَكَفْكَفْتُهُ عَنِّي، وَخَرَجْتُ فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي بِالَّذِي صَنَعْتُ، وَأَيْقَنْتُ بِانْقِطَاعِ الْحِيلَةِ عَنَّا فِيهِ، إِذْ جَاءَنَا رَسُولُ الْمَرْأَةِ، أَلا يَكْسِرِنَّ عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ، فَإِنِّي قَدْ قُلْتُ له بعد ما خَرَجْتَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَقْوَامُ أَحْرَارٍ لَكُمْ أَحْسَابٌ! قَالَ: بَلَى، فَقُلْتُ: جَاءَنِي أَخِي يُسَلِّمُ عَلَيَّ وَيُكْرِمُنِي، فَوَقَعْتَ عَلَيْهِ تَدُقُّ فِي رَقَبَتِهِ، حتى اخرجته، فكانت هذه كرامتك اياه! فم أَزَلْ أَلُومُهُ حَتَّى لامَ نَفْسَهُ، وَقَالَ: أَهُوَ أَخُوكِ؟ فَقُلْتُ:
نَعَمْ، فَقَالَ: مَا شَعُرْتُ، فَأَقْبِلُوا اللَّيْلَةَ لِمَا أَرَدْتُمْ.
قَالَ الدَّيْلَمِيُّ: فَاطْمَأَنَّتْ أَنْفُسُنَا، وَاجْتَمَعَ لَنَا أَمْرَنَا، فَأَقْبَلْنَا مِنَ اللَّيْلِ أَنَا وَدَاذُوَيْهِ وَقَيْسٌ حَتَّى نَدْخُلَ الْبَيْتَ الأَقْصَى مِنَ النَّقَبِ الَّذِي نَقَبْنَا، فَقُلْتُ:
يَا قَيْسُ، أَنْتَ فَارِسُ الْعَرَبِ، ادْخُلْ فَاقْتُلِ الرَّجُلَ، قَالَ: إِنِّي تَأْخُذُنِي رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ عِنْدَ الْبَأْسِ، فَأَخَافُ أَنْ أَضْرِبَ الرَّجُلَ ضَرْبَةً لا تُغْنِي شَيْئًا، وَلَكِنِ ادْخُلْ أَنْتَ يَا فَيْرُوزُ، فَإِنَّكَ أَشَبُّنَا وَأَقْوَانَا، قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِي عِنْدَ الْقَوْمِ، وَدَخَلْتُ لأَنْظُرَ أَيْنَ رَأْسُ الرَّجُلِ! فَإِذَا السِّرَاجُ يُزْهِرُ، وَإِذَا هُوَ رَاقِدٌ عَلَى فُرُشٍ قَدْ غَابَ فِيهَا لا أَدْرِي أَيْنَ رَأْسُهُ مِنْ رِجْلَيْهِ! وَإِذَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ عِنْدَهُ كَانَتْ تُطْعِمُهُ رُمَّانًا حَتَّى رَقَدَ، فَأَشَرْتُ إِلَيْهَا: أَيْنَ رَأْسُهُ؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلْتُ أَمْشِي حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ لأَنْظُرَ، فَمَا أَدْرِي أَنَظَرْتُ فِي وَجْهِهِ أَمْ لا! فَإِذَا هُوَ قَدْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: إِنْ رَجَعْتُ إِلَى سَيْفِي خِفْتُ أَنْ يَفُوتَنِي وَيَأْخُذَ عُدَّةً يَمْتَنِعُ بِهَا مِنِّي، وَإِذَا شَيْطَانُهُ قَدْ أَنْذَرَهُ بِمَكَانِي وَقَدْ

(3/238)


أَيْقَظَهُ، فَلَمَّا أَبْطَأَ كَلَّمَنِي عَلَى لِسَانِهِ، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ وَيَغُطُّ، فَأَضْرِبُ بِيَدِي إِلَى رَأْسِهِ، فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ بِيَدٍ وَلِحْيَتَهُ بِيَدٍ، ثُمَّ أَلْوِي عُنُقَهُ فَدَقَقْتُهَا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِثَوْبِي، فَقَالَتْ: أُخْتُكُمْ نَصِيحَتُكُمْ! قُلْتُ:
قَدْ وَاللَّهِ قَتَلْتُهُ وَأَرَحْتُكِ مِنْهُ قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى صَاحِبَيَّ فأخبرتهما، قالا:
فارجع فاحتز راسه وائتنا بِهِ، فَدَخَلْتُ فَبَرْبَرَ فَأَلْجَمْتُهُ فَحَزَزْتُ رَأْسَهُ، فَأَتَيْتُهُمَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَنْزِلَنَا، وَعِنْدَنَا وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ الأَزْدِيُّ، فَقَامَ مَعَنَا حَتَّى ارْتَقَيْنَا عَلَى حِصْنٍ مُرْتَفِعٍ مِنْ تِلْكَ الْحُصُونِ، فَأَذَّنَ وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ بِالصَّلاةِ، ثُمَّ قُلْنَا: أَلا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَتَلَ الأَسْوَدَ الْكَذَّابَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْنَا فَرَمَيْنَا بِرَأْسِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَسْرَجُوا خُيُولَهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ غُلامًا مِنْ أَبْنَائِنَا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ نَازِلا فِيهِمْ، فَأَبْصَرْتُهُمْ فِي الْغَلَسِ مُرْدِفِي الْغِلْمَانِ، فَنَادَيْتُ أَخِي وَهُوَ أَسْفَلَ مِنِّي مَعَ النَّاسِ: أَنْ تَعَلَّقُوا بِمَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْهُمْ، أَلا تَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِالأَبْنَاءِ! فَتَعَلَّقُوا بِهِمْ، فَحَبَسْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلا، وَذَهَبُوا مِنَّا بِثَلاثِينَ غُلامًا، فَلَمَّا بَرَزُوا إِذَا هُمْ يَفْقِدُونَ سَبْعِينَ رَجُلا حِينَ تَفَقَّدُوا أَصْحَابَهُمْ، فَأَتَوْنَا فَقَالُوا:
أَرْسِلُوا إِلَيْنَا أَصْحَابَنَا، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَرْسِلُوا إِلَيْنَا أَبْنَاءَنَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْنَا الأَبْنَاءَ، وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ أَصْحَابَهُمْ.
قَالَ: [وقال رسول الله ص لأَصْحَابِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَتَلَ الأَسْوَدَ الْكَذَّابَ الْعَنْسِيَّ، قَتَلَهُ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَقَوْمٌ أَسْلَمُوا وَصَدَّقُوا،] فَكُنَّا كَأَنَّا عَلَى الأَمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ قُدُومِ الأَسْوَدِ عَلَيْنَا وَأَمِنَ الأُمَرَاءُ وَتَرَاجَعُوا، وَاعْتَذَرَ النَّاسُ وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ

(3/239)


وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف- وحدثنا عبيد الله قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف- عن جابر بْن يزيد، عن عروه ابن غزية، عن الضحاك بْن فيروز، قَالَ: كان ما بين خروجه بكهف خبان ومقتله نحوا من أربعة أشهر، وقد كان قبل ذَلِكَ مستسرا بأمره.
حَتَّى بادى بعد.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن أبي معشر ويزيد بْن عياض بْن جعد به وغسان بْن عبد الحميد وجويرية بْن أسماء، عن مشيختهم، قالوا: أمضى أبو بكر جيش أسامة بْن زيد فِي آخر ربيع الأول، وأتى مقتل العنسي فِي آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، وَكَانَ ذَلِكَ أول فتح اتى أبا بكر وهو بالمدينة
. [حوادث متفرقة]
وقال الْوَاقِدِيّ: فِي هذه السنة- أعني سنة إحدى عشرة- قدم وفد النخع فِي النصف من المحرم على رسول الله ص، رأسهم زرارة بْن عمرو، وهم آخر من قدم من الوفود.
وفيها: ماتت فاطمة ابنة رسول الله ص فِي ليلة الثلاثاء، لثلاث خلون من شهر رمضان، وهي يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها.
وذكر أن أبا بكر بْن عبد الله، حَدَّثَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أبان بْن صالح بذلك وزعم أن ابن جريج حدثه عن عمرو بْن دينار، عن أبي جعفر، قَالَ: توفيت فاطمة ع بعد النبي ص بثلاثة أشهر.
قَالَ: وحدثنا ابن جريج، عن الزهري، عن عُرْوَة، قَالَ: توفيت فاطمة بعد النبي ص بستة أشهر.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وهو أثبت عندنا.
قال: وغسلها على ع وأسماء بنت عميس

(3/240)


قَالَ: وحدثني عبد الرحمن بْن عبد العزيز بْن عبد الله بْن عثمان بْن حنيف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عمرو بْن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت: صلى عليها العباس بْن عبد المطلب.
وحدثنا أبو زيد، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، عن أبي معشر، قَالَ: دخل قبرها العباس وعلي والفضل بْن العباس.
قَالَ: وفيها توفي عبد الله بْن أبي بكر بْن أبي قحافة، وَكَانَ أصابه بالطائف سهم مَعَ النَّبِيّ ص، رماه ابو محجن، ودمل الجرح حَتَّى انتقض به فِي شوال، فمات.
وحدثني أبو زيد، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، قال: حدثنا ابو معشر ومحمد ابن إِسْحَاقَ وجويرية بْن أسماء بإسناده الَّذِي ذكرت قبل، قالوا: فِي العام الَّذِي بويع فيه أبو بكر ملك أهل فارس عليهم يزدجرد.
قَالَ أبو جعفر: وفيها كان لقاء أبي بكر رحمه الله خارجة بْن حصن الفزاري حَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد بإسناده الَّذِي ذكرت قبل، قالوا: أقام أبو بكر بالمدينة بعد وفاة رَسُول اللَّهِ ص وتوجيهه أسامة فِي جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بْن حارثة من أرض الشام، وهو الموضع الذى كان رسول الله ص امره بالمسير إليه، لم يحدث شَيْئًا، وقد جاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة، ويمنعون الزكاة.
فلم يقبل ذَلِكَ منهم وردهم، وأقام حَتَّى قدم أسامة بْن زيد بْن حارثة بعد أربعين يوما من شخوصه- ويقال: بعد سبعين يوما- فلما قدم أسامة بْن زيد استخلفه أبو بكر على المدينة وشخص- ويقال استخلف سنانا الضمري على الْمَدِينَةِ- فسار ونزل بذي القصة فِي جمادى الأولى، ويقال فِي جمادى الآخرة، وَكَانَ نوفل بْن معاويه الديلى بعثه رسول الله ص،

(3/241)


فلقيه خارجة بْن حصن بالشربة، فأخذ ما فِي يديه، فرده على بني فزارة، فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر فأول حرب كانت في الرده بعد وفاه النبي ص حرب العنسي، وقد كانت حرب العنسي باليمن، ثُمَّ حرب خارجة بْن حصن ومنظور بْن زبان بْن سيار فِي غطفان، والمسلمون غارون، فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بِهَا، ثُمَّ هزم الله المشركين.
وحدثني عبيد الله، قَالَ: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف- عن المجالد ابن سعيد، قَالَ: لما فصل أسامة كفرت الأرض وتضرمت، وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصه الا قريشا وثقيفا.
وحدثني عبيد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا عمي، قَالَ: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سَيْفٍ- عَنْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا مات رَسُول اللَّهِ ص، وفصل أسامة ارتدت العرب عوام أو خواص، وتوحى مسيلمة وطليحة، فاستغلظ أمرهما، واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد، وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه، وقدمت هَوَازِن رجلا وأخرت رجلا أمسكوا الصدقه الا ما كان من ثقيف ولفها، فإنهم اقتدى بهم عوام جديلة والأعجاز، وارتدت خواص من بني سليم، وكذلك سائر الناس بكل مكان.
قَالَ: وقدمت رسل النَّبِيّ ص من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ووفود من كان كاتبه النبي ص، وامر امره في الأسود ومسيلمه وطليحة بالأخبار والكتب، فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر، واخبروه

(3/242)


الخبر، فَقَالَ لهم أبو بكر: لا تبرحوا حَتَّى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر، وانتقاض الأمور فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي ص من كل مكان بانتقاض عامة أو خاصة، وتبسُّطهم بأنواع الميل على الْمُسْلِمين، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله ص حاربهم بالرسل فرد رسلهم بأمره، وأتبع الرسل رسلا، وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، وَكَانَ أول من صادم عبس وذبيان، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة.
حدثني عبيد الله، قَالَ: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف- عن أبي عمرو، عن زيد بْن أسلم، قَالَ: مات رسول الله ص وعماله على قضاعة، وعلى كلب امرؤ القيس بْن الأصبغ الكلبي من بني عبد الله، وعلى القين عمرو بْن الحكم، وعلى سعد هذيم معاوية بْن فلان الوائلي.
وقال السري الوالبي: فارتد وديعة الكلبي فيمن آزره من كلب، وبقي امرؤ القيس على دينه، وارتد زميل بْن قطبة القيني فيمن آزره من بني القين وبقي عمرو، وارتد معاوية فيمن آزره من سعد هذيم.
فكتب أبو بكر إلى امرئ القيس بْن فلان- وهو جد سكينة ابنة حسين- فسار لوديعة، وإلى عمرو فأقام لزميل، وإلى معاوية العذري فلما توسط أسامة بلاد قضاعة، بث الخيول فيهم وأمرهم أن ينهضوا من أقام على الإسلام إلى من رجع عنه، فخرجوا هُرَّابا، حَتَّى أرزوا إلى دومة، واجتمعوا إلى وديعة، ورجعت خيول اسامه اليه، فمضى فيها أسامة.
حَتَّى أغار على الحمقتين، فأصاب فِي بني الضبيب من جذام، وفي بني خيليل من لخم ولفها من القبيلين، وحازهم من آبل وانكفأ سالما غانما فحدثني السري، قال: حدثنا شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عن القاسم بن محمد، قال: مات رسول الله ص، واجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة، إلا ما كان من خواص أقوام فِي القبائل الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء، وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة، وطيئ على حدود أرضهم واجتمعت ثعلبة بْن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة، وتأشب، إِلَيْهِم ناس من بني كنانة، فلم تحملهم البلاد، فافترقوا فرقتين، فأقامت فرقة منهم بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بحبال فكان حبال على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج وَكَانَ على مرة بالأبرق عوف بْن فلان بْن سنان، وعلى ثعلبة وعبس الحارث ابن فلان، أحد بني سبيع، وقد بعثوا وفودا فقدموا الْمَدِينَة، فنزلوا على وجوه الناس، فأنزلوهم ما خلا عباسا فتحملوا بهم على أبي بكر، على أن يقيموا الصلاة، وعلى ألا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق، وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه- وكانت عقل الصدقة على أهل الصدقة مَعَ الصدقة- فردهم فرجع وفد من يلي الْمَدِينَة من المرتدة إِلَيْهِم، فأخبروا

(3/243)


عشائرهم بقله من اهل المدينة، وأطعموهم فيها، وجعل أبو بكر بعد ما أخرج الوفد على انقاب المدينة نفرا: عليا والزبير وطلحة وعبد الله بْن مسعود، وأخذ أهل الْمَدِينَة بحضور المسجد، وقال لهم: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا! وأدناهم منكم على بريد.
وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إِلَيْهِم عهدهم، فاستعدوا وأعدوا فما لبثوا إلا ثلاثا حَتَّى طرقوا الْمَدِينَة غارة مَعَ الليل، وخلفوا بعضهم بذي حسى، ليكونوا لهم ردءا، فوافق الغوار ليلا الأنقاب، وعليها المقاتلة، ودونهم أقوام يدرجون، فنبهوهم، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فأرسل إِلَيْهِم أبو بكر أن الزموا أماكنكم، ففعلوا وخرج فِي أهل المسجد على النواضح إِلَيْهِم، فانفش العدو، فاتبعهم المسلمون على إبلهم، حَتَّى بلغوا ذا حسى، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها، جعلوا فيها الحبال، ثُمَّ دهدهوها بأرجلهم فِي وجوه الإِبِل، فتدهده كل نحي فِي طوله، فنفرت إبل الْمُسْلِمين وهم عليها- ولا تنفر الإِبِل من شيء نفارها من الأنحاء- فعاجت بهم ما يملكونها، حَتَّى دخلت بهم الْمَدِينَة، فلم يصرع مسلم ولم يصب، فَقَالَ: فِي ذَلِكَ الخطيل بن أوس أخو الحطيئه ابن أوس:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي ... عشية يحذى بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدي بالرجال فهبنه ... الى قدر ما ان يزيد ولا يحرى
وللَّه أجناد تذاق مذاقه ... لتحسب فيما عد من عجب الدهر!

(3/245)


وأنشده الزهري: من حسب الدهر.
وقال عبد الله الليثي، وكانت بنو عبد مناة من المرتدة- وهم بنو ذبيان- فِي ذَلِكَ الأمر بذى القصة وبذى حمى:
أطعنا رَسُول اللَّهِ ما كان بيننا ... فيا لعباد الله ما لأبي بكر!
أيورثها بكرا إذا مات بعده ... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه ... وهلا خشيتم حس راغية البكر!
وإن التي سألوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى إلي من التمر
فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم اعتمادا فِي الذين أخبروهم، وهم لا يشعرون لأمر الله عز وجل الَّذِي أراده، وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبَّى الناس، ثم خرج على تعبئة من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النعمان بْن مقرن، وعلى ميسرته عبد الله بْن مقرن، وعلى الساقة سويد بْن مقرن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو فِي صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسا ولا حسا حَتَّى وضعوا فيهم السيوف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حَتَّى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال واتبعهم أبو بكر، حَتَّى نزل بذي القصة- وَكَانَ أول الفتح- ووضع بِهَا النعمان ابن مقرن فِي عدد، ورجع إلى الْمَدِينَة فذل بِهَا المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم مِنَ الْمُسْلِمين، فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن فِي المشركين كل قتلة، وليقتلن فِي كل قبيلة بمن قتلوا مِنَ الْمُسْلِمين وزيادة، وفي ذَلِكَ يقول زياد بْن حنظلة التميمي:

(3/246)


غداة سعى أبو بكر إِلَيْهِم ... كما يسعى لموتته جلال
أراح على نواهقها عليا ... ومج لهن مهجته حبال
وقال أيضا:
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا ... ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عِنْد قيامها ... صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباجها ... وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر
ثُمَّ لم يصنع إلا ذَلِكَ، حَتَّى ازداد المسلمون لَهَا ثباتا على دينهم فِي كل قبيلة، وازداد لَهَا المشركون انعكاسا من أمرهم فِي كل قبيلة، وطرقت الْمَدِينَة صدقات نفر: صفوان، الزبرقان، عدي، صفوان، ثُمَّ الزبرقان، ثُمَّ عدي، صفوان فِي أول الليل، والثاني فِي وسطه، والثالث فِي آخره وَكَانَ الَّذِي بشر بصفوان سعد بْن أبي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بْن عوف، والذي بشر بعدي عبد الله بْن مسعود وقال غيره: أبو قتادة.
قَالَ: وقال الناس لكلهم حين طلع: نذير، وقال أبو بكر: هذا بشير، هذا حام وليس بوان، فإذا نادى بالخير، قالوا: طالما بشرت بالخير! وذلك لتمام ستين يوما من مخرج أسامة وقدم أسامة بعد ذَلِكَ بأيام لشهرين وأيام، فاستخلفه أبو بكر على الْمَدِينَة، وقال لَهُ ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم.
ثُمَّ خرج فِي الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذَلِكَ الظهر، فَقَالَ لَهُ المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رَسُول اللَّهِ أن تعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلا، فإن أصيب أمرت آخر، فَقَالَ: لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي، فخرج فِي تعبيته إلى ذي حسى وذي القصة، والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه، حَتَّى نزل على أهل الربذة بالأبرق، فاقتتلوا، فهزم

(3/247)


الله الحارث وعوفا، وأخذ الحطيئة أسيرا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياما، وقد غلب بني ذبيان على البلاد وقال:
حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله! وأجلاها.
فلما غلب أهل الردة، ودخلوا فِي الباب الَّذِي خرجوا منه، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينزلوها، فمنعوا منها فاتوه في المدينة، فقالوا: علا م نمنع من نزول بلادنا! فَقَالَ: كذبتم، ليست لكم ببلاد، ولكنها موهبي ونقذى، ولم يعتبهم، وحمى الأبرق لخيول الْمُسْلِمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة، ثُمَّ حماها كلها لصدقات الْمُسْلِمين، لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات، فمنع بذلك بعضهم من بعض.
ولما فضت عبس وذبيان أرزوا إلى طليحة وقد نزل طليحة على بزاخة، وارتحل عن سميراء إليها، فأقام عليها، وقال فِي يوم الأبرق زياد بْن حنظلة:
ويوم بالأبارق قد شهدنا ... على ذبيان يلتهب التهابا
أتيناهم بداهية نسوف ... مَعَ الصديق إذ ترك العتابا
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْجَذِعِ وَحَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الرَّبَذَةِ يَلْقَى بَنِي عَبْسٍ وَذُبْيَانَ وجماعه من بنى عبد مناه ابن كِنَانَةَ، فَلَقِيَهُمْ بِالأَبْرَقِ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَفَلَّهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَمَّ جُنْدُ أُسَامَةَ، وَثَابَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ خَرَجَ إِلَى ذِي الْقُصَّةِ فَنَزَلَ بِهِمْ- وَهُوَ عَلَى بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ تِلْقَاءَ نَجْدٍ- فَقَطَعَ فِيهَا الْجُنْدَ، وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ، عَقَدَ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءً عَلَى أَحَدَ عَشَرَ جُنْدًا، وَأَمَرَ أَمِيرَ كُلَّ

(3/248)


جُنْدٍ بِاسْتِنْفَارِ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَتَخَلَّفَ بَعْضُ أَهْلِ الْقُوَّةِ لِمَنْعِ بِلادِهِمْ.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَاحَ أُسَامَةُ وَجُنْدُهُ ظَهْرَهُمْ وَجَمُّوا، وَقَدْ جَاءَتْ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ تَفْضُلُ عَنْهُمْ، قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ الْبُعُوثَ وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ، فَعَقَدَ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءً: عَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ بِطُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ، فَإِذَا فَرَغَ سَارَ إِلَى مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ بِالْبِطَاحِ ان اقام له، ولعكرمه ابن أَبِي جَهْلٍ وَأَمَرَهُ بِمُسَيْلِمَةَ، وَلِلْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَأَمَرَهُ بِجُنُودِ الْعَنْسِيِّ وَمَعُونَةِ الأَبْنَاءِ عَلَى قَيْسِ بْنِ الْمَكْشُوحِ وَمَنْ أَعَانَهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَمْضِي إِلَى كِنْدَةَ بِحَضْرَمَوْتَ، وَلِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ- وَكَانَ قَدِمَ عَلَى تَفْيِئَةِ ذَلِكَ مِنَ الْيَمَنِ وَتَرَكَ عَمَلَهُ- وَبَعَثَهُ إِلَى الْحَمِقَتَيْنِ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ، وَلِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى جِمَاعِ قُضَاعَةَ وَوَدِيعَةَ وَالْحَارِثِ، وَلِحُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَلْفَانِيِّ وَأَمَرَهُ بِأَهْلِ دَبَا وَلِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ وَأَمَرَهُ بِمُهْرَةَ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَمَلِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَبَعَثَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ فِي أَثَرِ عكرمه ابن أَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ: إِذَا فَرَغَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَالْحَقْ بِقُضَاعَةَ، وَأَنْتَ عَلَى خَيْلِكَ تُقَاتِلُ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَلِطَرِيفَةَ بْنِ حَاجِزٍ وَأَمَرَهُ بِبَنِي سُلَيْمٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ، وَلِسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَأَمَرَهُ بِتِهَامَةَ الْيَمَنِ، وَلِلْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَأَمَرَهُ بالبحرين

كتاب ابى بكر الى القبائل المرتدة ووصيته للامراء
فَفَصَلَتِ الأُمَرَاءُ مِنْ ذِي الْقُصَّةِ، وَنَزَلُوا عَلَى قَصْدِهِمْ، فَلَحِقَ بِكُلِّ أَمِيرٍ جُنْدُهُ، وَقَدْ عَهِدَ اليهم عهده، وكتب الى من بعث اليه مِنْ جَمِيعِ الْمُرْتَدَّةِ

(3/249)


حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَشَارَكَهُ فِي الْعَهْدِ وَالْكِتَابِ قَحْذَمٌ، فَكَانَتْ الْكُتُبُ إِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمُرْتَدَّةِ كِتَابًا وَاحِدًا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص إِلَى مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا مِنْ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ، أَقَامَ عَلَى إِسْلامِهِ أَوْ رَجَعَ عَنْهُ سَلامٌ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، وَلَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ الْهُدَى إِلَى الضَّلالَةِ وَالْعَمَى، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَنُكَفِّرُ مَنْ أَبَى وَنُجَاهِدُهُ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى خَلْقِهِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً، لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ فَهَدَى اللَّهُ بِالْحَقِّ مَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ.
وضرب رسول الله ص بِإِذْنِهِ مَنْ أَدْبَرَ عَنْهُ، حَتَّى صَارَ إِلَى الإِسْلامِ طَوْعًا وَكَرْهًا ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ الله ص وَقَدْ نَفَّذَ لأَمْرِ اللَّهِ، وَنَصَحَ لأُمَّتِهِ، وَقَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ وَلأَهْلِ الإِسْلامِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ، فقال: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» وَقَالَ: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ، فَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ، حَيٌّ قَيُّومٌ لا يَمُوتُ، وَلا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، حَافِظٌ لأَمْرِهِ، مُنْتَقِمٌ مِنْ عَدُوِّهِ، يَجْزِيهِ وَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ ص، وَأَنْ تَهْتَدُوا بِهُدَاهُ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِدِينِ اللَّهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ ضَالٌّ، وكل

(3/250)


مَنْ لَمْ يُعَافِهِ مُبْتَلًى، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ مَخْذُولٌ، فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ كَانَ مُهْتَدِيًا، وَمَنْ أَضَلَّهُ كَانَ ضَالا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا عَمَلٌ حَتَّى يقربه، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ صَرَفٌ وَلا عَدْلٌ.
وَقَدْ بَلَغَنِي رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِالإِسْلامِ وَعَمِلَ بِهِ، اغْتِرَارًا بِاللَّهِ، وَجَهَالَةً بِأَمْرِهِ، وَإِجَابَةً لِلشَّيْطَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» وَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» ، وَإِنِّي بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ فُلانًا فِي جَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ، وَأَمَرْتُه أَلا يُقَاتِلَ أَحَدًا وَلا يَقْتُلَهَ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى دَاعِيَةِ اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ وَأَقَرَّ وَكَفَّ وَعَمِلَ صَالِحًا قَبِلَ مِنْهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَبَى أَمَرْتُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَدِرَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحَرِّقَهُمْ بِالنَّارِ، وَيَقْتُلَهُمْ كُلَّ قتلة، وَأَنْ يَسْبِيَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ، وَلا يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ إِلا الإِسْلامَ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَنْ يُعْجِزَ اللَّهَ وَقَدْ أَمَرْتُ رَسُولِي أَنْ يَقْرَأَ كِتَابِي فِي كُلِّ مَجْمَعٍ لَكُمْ، وَالدَّاعِيَةُ الأَذَانُ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُسْلِمُونَ فَأَذَّنُوا كُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنُوا عَاجَلُوهُمْ، وَإِنْ أَذَّنُوا اسْأَلُوهُمْ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا عَاجِلُوهُمْ، وَإِنْ أَقَرُّوا قُبِلَ مِنْهُمْ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ.
فَنَفَذَتِ الرُّسُلُ بِالْكُتُبِ أَمَامَ الْجُنُودِ، وَخَرَجَتِ الأُمَرَاءُ وَمَعَهُمُ الْعُهُودُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا عَهْدٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ رَسُولِ الله ص لِفُلانٍ حِينَ بَعَثَهُ فِيمَنْ بَعَثَهُ لِقِتَالِ مَنْ رَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ سِرِّهِ وَعَلانِيَتِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي أَمْرِ اللَّهِ،

(3/251)


وَمُجَاهَدَةِ مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ، وَرَجَعَ عَنِ الإِسْلامِ إِلَى أَمَانِيِّ الشَّيْطَانِ بَعْدَ أَنْ يَعْذِرَ إِلَيْهِمْ فَيَدْعُوهُمْ بِدَاعَيَةِ الإِسْلامِ، فَإِنْ أَجَابُوهُ أَمْسَكَ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُجِيبُوهُ شَنَّ غَارَتَهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يُقِرُّوا لَهُ، ثُمَّ يُنْبِئهُمْ بِالَّذِي عَلَيْهِمْ وَالَّذِي لَهُمْ، فَيَأْخُذ مَا عَلَيْهِمْ، وَيُعْطيهمُ الَّذِي لَهُمْ، لا يُنْظِرْهُمْ، وَلا يَرُدَّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، فَمَنْ أَجَابَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَقَرَّ لَهُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ عَلَى الإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِذَا أَجَابَ الدَّعْوَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَكَانَ اللَّهُ حَسِيبَهُ بَعْدُ فِيمَا اسْتَسَرَّ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ دَاعِيَةَ اللَّهِ قُتِلَ وَقُوتِلَ حَيْثُ كَانَ، وَحَيْثُ بَلَغَ مُرَاغَمَةً، لا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ إِلا الإِسْلامَ، فَمَنْ أَجَابَهُ وَأَقَرَّ قُبِلَ مِنْهُ وَعَلِمَهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلَهُ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَتَلَ مِنْهُمْ كُلَّ قِتْلَةٍ بِالسِّلاحِ وَالنِّيرَانِ، ثُمَّ قَسَّمَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِلا الْخُمُسَ فَإِنَّهُ يُبَلِّغَنَاهُ، وَأَنْ يَمْنَعَ أَصْحَابَهُ الْعَجَلَةَ وَالْفَسَادَ، وَأَلا يَدْخُلَ فِيهِمْ حَشْوًا حَتَّى يَعْرِفَهُمْ وَيَعْلَمَ مَا هُمْ، لا يكونوا عيونا، ولئلا يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَأَنْ يَقْتَصِدَ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَرْفِقَ بِهِمْ فِي السَّيْرِ وَالْمَنْزِلِ وَيَتَفَقَّدَهُمْ، وَلا يَعْجَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَسْتَوْصِيَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَلِينِ الْقَوْلِ

(3/252)


ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف- وحدثني السري، قال: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَدْرِ بْنِ الْخَلِيلِ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالُوا: لَمَّا أَرَزَتْ عَبْسٌ وَذُبْيَانُ وَلَفَّهَا إِلَى الْبُزَاخَةِ، أَرْسَلَ طُلَيْحَةُ إِلَى جَدِيلَةَ وَالْغَوْثِ أَنْ يَنْضَمُّوا إِلَيْهِ، فتعجل إِلَيْهِ، فَتَعَجَّلَ إِلَيْهِ أُنَاسٌ مِنَ الْحَيَّيْنِ، وَأَمَرُوا قَوْمَهُمْ بِاللِّحَاقِ بِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَى طُلَيْحَةَ، وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ عَدِيًّا قَبْلَ تَوْجِيهِ خَالِدٍ مِنْ ذِي الْقُصَّةِ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: أَدْرِكْهُمْ لا يؤكلوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، وَخَرَجَ خَالِدٌ فِي أَثَرِهِ، وَأَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يبدأ بطيىء عَلَى الأَكْنَافِ، ثُمَّ يَكُونَ وَجْهَهُ إِلَى الْبُزَاخَةِ، ثُمَّ يُثَلِّثُ بِالْبِطَاحِ، وَلا يُرِيمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَوْمٍ حَتَّى يُحَدِّثَ إِلَيْهِ، وَيَأْمُرَهُ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ خَارِجٌ إِلَى خَيْبَرَ وَمُنْصَبٌّ عَلَيْهِ مِنْهَا حَتَّى يُلاقِيَهُ بِالأَكْنَافِ، أَكْنَافِ سَلْمَى، فَخَرَجَ خَالِدٌ فَازَّوَارَ عَنِ الْبُزَاخَةِ، وَجَنَحَ إِلَى أَجَأَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ خَارِجٌ إِلَى خَيْبَرَ، ثُمَّ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِمْ، فَقَعَّدَ ذَلِكَ طَيِّئًا وَبَطَّأَهُمْ عَنْ طُلَيْحَةَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ عَدِيٌّ، فَدَعَاهُمْ فَقَالُوا: لا نُبَايِعُ أَبَا الْفَصِيلِ أَبَدًا، فَقَالَ: لَقَدْ أَتَاكُمْ قَوْمٌ لَيُبِيحُنَّ حَرِيمَكُمْ، وَلَتَكُنّنَّهُ بِالْفَحْلِ الأَكْبَرِ، فَشَأْنُكُمْ بِهِ فَقَالُوا لَهُ: فَاسْتَقْبِلِ الْجَيْشَ فَنَهْنِهْهُ عَنَّا حَتَّى نَسْتَخْرِجَ مَنْ لَحِقَ بِالْبُزَاخَةِ مِنَّا، فَإِنَّا إِنْ خَالَفْنَا طُلَيْحَةَ وَهُمْ فِي يَدَيْهِ قَتَلَهُمْ أَوِ ارْتَهَنَهُمْ فَاسْتَقْبَلَ عَدِيٌّ خَالِدًا وَهُوَ بِالسُّنْحِ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ، أَمْسِكْ عَنِّي ثَلاثًا يجتمع لك خمسمائة مُقَاتِلٍ تَضْرِبُ بِهِمْ عَدُوَّكَ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُعْجِلَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَتُشَاغِلَ بِهِمْ، فَفَعَلَ فعاد عدى اليهم وقد أرسلوا إخوانهم، فَأَتَوْهُمْ مِنْ بُزَاخَةَ كَالْمَدَدِ لَهُمْ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَمْ يُتْرَكُوا، فَعَادَ عَدِيٌّ بِإِسْلامِهِمْ إِلَى خَالِدٍ، وَارْتَحَلَ خَالِدٌ نَحْوَ الأَنْسَرِ يُرِيدُ جَدِيلَةَ، فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: إِنَّ طَيِّئًا كَالطَّائِرِ، وَإِنَّ جَدِيلَةَ

(3/253)


أَحَدُ جَنَاحَيْ طَيِّئٍ، فَأَجِّلْنِي أَيَّامًا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْتَقِذَ جَدِيلَةَ كَمَا انْتَقَذَ الْغَوْثَ، فَفَعَلَ، فَأَتَاهُمْ عَدِيٌّ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى بَايَعُوهُ، فَجَاءَهُ بِإِسْلامِهِمْ، وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَلْفُ رَاكِبٍ، فَكَانَ خَيْرَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي أَرْضِ طَيِّئٍ وَأَعْظَمَهُ عَلَيْهِمْ بَرَكَةً.
وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أُسَامَةُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ، جَدَّ فِي حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ وَهُوَ فِيهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِذِي الْقُصَّةِ، مَنْزِلا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى بَرِيدٍ مِنْ نَحْوِ نَجْدٍ، فَعَبَّى هُنَالِكَ جُنُودَهُ، ثُمَّ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى النَّاسِ، وَجَعَلَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُ إِلَى خَالِدٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْمُدَ لِطُلَيْحَةَ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَهُمَا عَلَى بُزَاخَةَ، مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي أَسَدٍ، وَأَظْهِرْ أَنِّي أُلاقِيَكَ بِمَنْ مَعِي مِنْ نَحْوِ خَيْبَرَ، مَكِيدَةً، وَقَدْ أَوْعَبَ مَعَ خَالِدٍ النَّاس، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ عَدُوَّهُ فَيُرْعِبَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ بَعَثَ عُكَاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ- أَحَدَ بَنِي الْعَجْلانِ حَلِيفًا لِلأَنْصَارِ- طَلِيعَةً، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجَ طُلَيْحَةُ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ يَنْظُرَانِ وَيَسْأَلانِ: فَأَمَّا سَلَمَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ ثَابِتًا أَنْ قَتَلَهُ، وَنَادَى طُلَيْحَةُ أَخَاهُ حِينَ رَأَى أَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَاحِبِهِ أَنْ أَعِنِّي عَلَى الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ آكِلٌ، فَاعْتَوَنَا عَلَيْهِ، فَقَتَلاهُ ثُمَّ رَجَعَا، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِالنَّاسِ حَتَّى مَرُّوا بِثَابِتِ بْنِ أَقْرَمَ قَتِيلا، فَلَمْ يَفْطِنُوا لَهُ حَتَّى وَطِئَتْهُ الْمَطِيُّ بِأَخْفَافِهَا، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هُمْ بِعُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ صَرِيعًا، فَجَزِعَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: قُتِلَ سَيِّدَانِ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَفَارِسَانِ مِنْ فِرْسَانِهِمْ، فَانْصَرَفَ خَالِدٌ نَحْوَ طَيِّئٍ.
قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنِ الْمُحِلِّ ابن خَلِيفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: بَعَثْتُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ سِرْ إِلَيَّ فَأَقِمْ عِنْدِي أَيَّامًا حَتَّى أَبْعَثَ إِلَى قَبَائِلِ طَيِّئٍ، فَأَجْمَعَ لَكَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّنْ مَعَكَ، ثُمَّ أَصْحَبُكَ إِلَى عَدُوِّكَ قَالَ: فَسَارَ إِلَيَّ.
قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ سُوَيْدٍ أَنَّ بَعْضَ

(3/254)


الأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّ خَالِدًا لَمَّا رَأَى مَا بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْجَزَعِ عِنْدَ مَقْتَلِ ثَابِتٍ وَعُكَاشَةَ، قَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ إِلَى أَنْ أَمِيلَ بِكُمْ إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، كَثِيرٍ عَدَدُهُمْ، شَدِيدَةٍ شَوْكَتُهُمْ، لَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُمْ عَنِ الإِسْلامِ أَحَدٌ! فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: وَمَنْ هَذَا الْحَيُّ الَّذِي تَعْنِي؟ فَنِعْمَ وَاللَّهِ الْحَيُّ هُوَ! قَالَ لَهْمُ: طَيِّئٌ، فَقَالُوا:
وَفَّقَكَ اللَّهُ، نِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ! فَانْصَرَفَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِالْجَيْشِ فِي طَيِّئٍ.
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي جَدِيلُ بْنُ خَبَّابٍ النَّبْهَانِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ أُبَيٍّ، أَنَّ خَالِدًا جَاءَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَرَكِ، مَدِينَةِ سَلْمَى.
قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَنَّهُ نَزَلَ بِأَجَأَ، ثُمَّ تَعَبَّى لِحَرْبِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى الْتَقَيَا عَلَى بُزَاخَةَ، وَبَنُو عَامِرٍ عَلَى سَادَتِهِمْ وَقَادَتِهِمْ قَرِيبًا يَسْتَمِعُونَ وَيَتَرَبَّصُونَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدِّبْرَةُ.
قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَشْيَاخًا مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: سَأَلْنَا خَالِدًا أَنْ نَكْفِيَهُ قَيْسًا فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ حُلَفَاؤُنَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَيْسٌ بِأَوْهَنَ الشَّوْكَتَيْنِ، اصْمُدُوا إِلَى أَيِّ الْقِبْلَتَيْنِ أَحْبَبْتُمْ، فَقَالَ عَدِيٌّ: لَوْ تَرَكَ هَذَا الدِّينَ أُسْرَتِي الأَدْنَى فَالأَدْنَى مِنْ قَوْمِي لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَأَنَا أَمْتَنِعُ مِنْ جِهَادِ بَنِي أَسَدٍ لِحِلْفِهِمْ! لا لَعَمْرِ اللَّهِ لا أَفْعَلُ! فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: إِنَّ جِهَادَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا جِهَادٌ، لا تُخَالِفْ رَأْيَ أَصْحَابِكَ، امض الى احد الفريقين، وامض بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ لِقِتَالِهِمْ أَنْشَطُ.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلامِ بْنُ سُوَيْدٍ، أَنَّ خَيْلَ طَيِّئٍ كَانَتْ تَلْقَى خَيْلَ بَنِي أَسَدٍ وَفَزَارَةَ قَبْلَ قُدُومِ خالد عليهم فيتشامون وَلا يَقْتَتِلُونَ، فَتَقُولُ أَسَدٌ وَفَزَارَةُ: لا وَاللَّهِ لا نُبَايِعُ أَبَا الْفَصِيلِ أَبَدًا فَتَقُولُ لَهُمْ خَيْلُ طَيِّئٍ: أَشْهَدُ لَيُقَاتِلَنَّكُمْ حَتَّى تُكَنُّوهُ أَبَا الْفَحْلِ الأَكْبَرِ! فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق،

(3/255)


عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة، قَالَ: حدثت أن الناس لما اقتتلوا، قاتل عيينه مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة قتالا شديدا، وطليحة متلفف فِي كساء لَهُ بفناء بيت لَهُ من شعر، يتنبأ لهم، والناس يقتتلون، فلما هزت عيينة الحرب، وضرس القتال، كر على طليحة، فَقَالَ: هل جاءك جبريل بعد؟ قَالَ: لا، قَالَ:
فرجع فقاتل حَتَّى إذا ضرس القتال وهزته الحرب كر عليه فقال: لا أيا لك! أجاءك جبريل بعد؟ قَالَ: لا والله، قَالَ: يقول عيينة حلفا:
حَتَّى متى! قد والله بلغ منا! قَالَ: ثُمَّ رجع فقاتل، حَتَّى إذا بلغ كر عَلَيْهِ، فَقَالَ: هل جاءك جبريل بعد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فماذا قَالَ لك؟
قَالَ: قَالَ لي: إن لك رحا كرحاه، وحديثا لا تنساه، قَالَ: يقول عيينة: أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، يا بني فزارة هكذا، فانصرفوا، فهذا والله كذاب فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا؟ وقد كان أعد فرسه عنده، وهيأ بعيرا لامرأته النوار، فلما أن غشوه يقولون: ماذا تأمرنا؟ قام فوثب على فرسه، وحمل امرأته ثُمَّ نجا بِهَا، وقال: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثُمَّ سلك الحوشية حَتَّى لحق بالشام وارفضَّ جمعه، وقتل الله من قتل منهم، وبنو عامر قريبا منهم على قادتهم وسادتهم، وتلك القبائل من سليم وهوازن على تلك الحال، فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع، أقبل أولئك يقولون: ندخل فيما خرجنا مِنْهُ، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه فِي أموالنا وأنفسنا قَالَ أبو جعفر: وَكَانَ سبب ارتداد عيينة وغطفان ومن ارتد من طيئ مَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمِّي، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ سَيْفٍ- عَنْ طَلْحَةَ بْنِ الأعلم عن حبيب ابن رَبِيعَةَ الأَسَدِيِّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ فُلانٍ الأَسَدِيِّ، قَالَ: ارْتَدَّ طُلَيْحَةُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فادعى النبوه، فوجه النبي

(3/256)


ص ضِرَارَ بْنَ الأَزْوَرِ إِلَى عُمَّالِهِ عَلَى بَنِي أَسَدٍ فِي ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ فِي ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَنِ ارْتَدَّ، فَأَشَجُّوا طُلَيْحَةَ وَأَخَافُوهُ، وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِوَارِدَاتٍ، وَنَزَلَ الْمُشْرِكُونَ بِسَمِيرَاءَ، فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَمَاءٍ وَالْمُشْرِكُونَ فِي نُقْصَانٍ، حَتَّى هَمَّ ضِرَارٌ بِالْمَسِيرِ إِلَى طُلَيْحَةَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلا أَخَذَهُ سِلْمًا، إِلا ضَرْبَةً كَانَ ضَرَبَهَا بِالْجُرَازِ، فَنَبَا عَنْهُ، فَشَاعَتْ فِي النَّاسِ فَأُتِيَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِخَبَرِ موت نبيهم ص، وَقَالَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لِتِلْكَ الضَّرْبَةِ: إِنَّ السِّلاحَ لا يَحِيكُ فِي طُلَيْحَةَ، فَمَا أَمْسَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى عَرَفُوا النُّقْصَانَ، وَارْفَضَّ النَّاسُ إِلَى طُلَيْحَةَ، وَاسْتَطَارَ أَمْرُهُ، وَأَقْبَلَ ذُو الْخِمَارَيْنِ عَوْفٌ الْجُذَمِيُّ حَتَّى نَزَلَ بِإِزَائِنَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ثُمَامَةُ بْنُ أَوْسِ بْنِ لأَمٍ الطائي: ان معى من جديله خمسمائة، فَإِنْ دَهِمَكُمْ أَمْرٌ فَنَحْنُ بِالْقُرْدُودَةِ وَالأَنْسَرِ دُوَيْنِ الرمل وارسل اليه مهلهل بن زيد: إِنَّ مَعِي حَدَّ الْغَوْثِ، فَإِنْ دَهِمَكُمْ أَمْرٌ فَنَحْنُ بِالأَكْنَافِ بِحِيَالِ فَيْدٍ وَإِنَّمَا تَحَدَّبَتْ طَيِّئٌ عَلَى ذِي الْخِمَارَيْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَطَيِّئٍ حِلْفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كان قبل مبعث النبي ص اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ وَأَسَدٌ عَلَى طَيِّئٍ، فَأَزَاحُوهَا عَنْ دَارِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: غَوْثُهَا وَجَدِيلَتُهَا، فَكَرِهَ ذَلِكَ عَوْفٌ، فَقَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَطَفَانَ، وَتَتَابَعَ الْحَيَّانُ عَلَى الْجَلاءِ، وَأَرْسَلَ عَوْفٌ إِلَى الْحَيَّيْنِ مِنْ طَيِّئٍ، فَأَعَادَ حِلْفَهُمْ، وَقَامَ بِنُصْرَتِهِمْ، فَرَجَعُوا إِلَى دُورِهِمْ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى غَطَفَانَ، فَلَمَّا مات رسول الله ص قَامَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي غَطَفَانَ، فَقَالَ:
مَا أَعْرِفُ حُدُودَ غَطَفَانَ مُنْذُ انْقَطَعَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي أَسَدٍ، وَإِنِّي لَمُجَدِّدٌ الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا فِي الْقَدِيمِ وَمُتَابِعٌ طُلَيْحَةَ، وَاللَّهِ لأَنْ نَتَّبِعَ نَبِيًّا مِنَ الْحِلِيفَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَتَّبِعَ نَبِيًّا مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ مَاتَ مُحَمَّدٌ، وَبَقِيَ طُلَيْحَةُ فَطَابَقُوهُ عَلَى رَأْيِهِ، فَفَعَلَ وَفَعَلُوا

(3/257)


فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ غَطَفَانُ عَلَى الْمُطَابَقَةِ لِطُلَيْحَةَ هَرَبَ ضِرَارٌ وَقُضَاعِي وَسِنَانٌ وَمَنْ كَانَ قَامَ بِشَيْءٍ من امر النبي ص فِي بَنِي أَسَدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَارْفَضَّ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ، فَأَخَبُروا أَبَا بَكْرٍ الْخَبَرَ، وَأَمَرُوهُ بِالْحَذَرِ، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ: فَمَا رايت أحدا- ليس رسول الله ص- أَمْلأَ بِحَرْبٍ شَعْوَاءَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلْنَا نُخْبِرُهُ، وَلَكَأَنَّمَا نُخْبِرُهُ بِمَا لَهُ وَلا عَلَيْهِ وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ بَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَهَوَازِنَ وَطَيِّئٍ، وَتَلَقَّتْ وُفُودُ قُضَاعَةُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَحَوَّزَهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَاجْتَمَعُوا بِالْمَدِينَةِ فَنَزَلُوا عَلَى وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ، لِعَاشِرٍ مِنْ مُتَوَفَّى رَسُولِ الله ص، فَعَرَضُوا الصَّلاةَ عَلَى أَنْ يُعْفَوْا مِنَ الزَّكَاةِ، وَاجْتَمَعَ مَلأُ مَنْ أَنْزَلَهُمْ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغُوا مَا يُرِيدُونَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلا أَنْزَلَ مِنْهُمْ نَازِلا إِلا الْعَبَّاسَ ثُمَّ أَتَوْا أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَلَؤُهُمْ، إِلا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ أَبَى إِلا ما كان رسول الله ص يَأْخُذُ، وَأَبَوْا، فَرَدَّهُمْ وَأَجَّلَهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَتَطَايَرُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ.
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شعيب، قال: كان رسول الله ص قد بعث عمرو ابن الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ، مُنْصَرَفِهِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فمات رسول الله ص وَعَمْرٌو بِعُمَانَ، فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرَيْنِ وَجَدَ الْمُنْذِرَ بْنَ سَاوَى فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ الْمُنْذِرُ: أَشِرْ عَلَيَّ فِي مَالِي بِأَمْرٍ لِي وَلا عَلَيَّ، قَالَ: صَدِّقْ بِعَقَارٍ صَدَقَةً تَجْرِي مِنْ بَعْدِكَ، فَفَعَلَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَارَ فِي بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى بِلادِ بَنِي عَامِرٍ، فَنَزَلَ عَلَى قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَقُرَّةُ يُقَدِّمُ رِجْلا وَيُؤَخِّرُ رِجْلا، وَعَلَى ذَلِكَ بَنُو عَامِرٍ كُلُّهُمْ إِلا خَوَّاصٌ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَطَافَتْ بِهِ قُرَيْشٌ، وَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ مُعَسْكَرَةٌ مِنْ دَبَا إِلَى حَيْثُ انْتَهَيَتْ إِلَيْكُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَتَحَلَّقُوا حِلَقًا، وَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُرِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَى عَمْرٍو،

(3/258)


فَمَرَّ بِحَلَقَةٍ، وَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الَّذِي سمعوا من عمرو في تِلْكَ الْحَلَقَةِ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَعْدٌ، فَلَمَّا دَنَا عُمَرُ مِنْهُمْ سَكَتُوا، فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمَنِي بِالَّذِي خَلَوْتُمْ عَلَيْهِ! فَغَضِبَ طَلْحَةُ، وَقَالَ: تالله يا بن الْخَطَّابِ لَتُخْبِرَنَّا بِالْغَيْبِ! قَالَ: لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ، وَلَكِنْ أَظُنُّ قُلْتُمْ: مَا أَخْوَفُنَا على قريش من العرب واخلقهم أَلا يُقِرُّوا بِهَذَا الأَمْرِ! قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَلا تَخَافُوا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، أَنَا وَاللَّهِ مِنْكُمْ عَلَى الْعَرَبِ أَخْوَفُ مِنِّي مِنَ الْعَرَبِ عَلَيْكُمْ، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا لدخلته الْعَرَبُ فِي آثَارِكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِيهِمْ وَمَضَى إِلَى عَمْرٍو فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مُنْصَرَفَهُ من عمان- بعد وفاه رسول الله ص- بِقُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، وَحَوْلَهُ عَسْكَرٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ مِنْ أَفْنَائِهِمْ، فَذَبَحَ لَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، فَلَمَّا أَرَادَ الرِّحْلَةَ خَلا بِهِ قُرَّةُ، فَقَالَ: يَا هَذَا، إِنَّ الْعَرَبَ لا تَطِيبُ لَكُمْ نَفْسًا بِالإِتَاوَةِ، فَإِنْ أَنْتُمْ أَعْفَيْتُمُوهَا مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِهَا فَسَتَسْمَعْ لَكُمْ وَتُطِيعْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلا أَرَى أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ عَمْرٌو: أَكَفَرْتَ يَا قُرَّةُ! وَحَوْلَهُ بَنُو عَامِرٍ، فَكَرِهَ أَنْ يَبُوحَ بِمُتَابَعَتِهِمْ فَيَكْفُرُوا بِمُتَابَعَتِهِ، فَيَنْفِرَ فِي شَرٍّ، فَقَالَ: لَنَرُدَّنَّكُمْ إِلَى فَيْئَتِكُمْ- وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ الإِسْلامُ- اجْعَلُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدًا فَقَالَ عَمْرٌو:
أَتُوَعِّدُنَا بِالْعَرَبِ وَتُخَوِّفُنَا بها! موعدك حفش أمك، فو الله لأُوطِئَنَّ عَلَيْكَ الْخَيْلَ وَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَالْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَهُمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
لَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنْ أَمْرِ بَنِي عَامِرٍ وَبَيْعَتِهِمْ عَلَى مَا بَايَعَهُمْ عَلَيْهِ، أَوْثَقَ عُيَيْنَةَ بْنَ

(3/259)


حِصْنٍ وَقُرَّةَ بْنَ هُبَيْرَةَ، فَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَيْهِ قَالَ لَهُ قُرَّةُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ مُسْلِمًا، وَلِي مِنْ ذَلِكَ عَلَى إِسْلامِي عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ شَهَادَةٌ، قَدْ مَرَّ بِي فَأَكْرَمْتُهُ وَقَرَّبْتُهُ وَمَنَعْتُهُ قَالَ: فَدَعَا أَبُو بَكْرٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ: مَا تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ هَذَا؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَا قَالَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الصَّدَقَةِ، قَالَ لَهُ قُرَّةُ: حَسْبُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ! قَالَ: لا وَاللَّهِ، حَتَّى أُبَلِّغَ لَهُ كُلَّ مَا قُلْتَ، فَبَلَّغَ لَهُ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَحَقَنَ دَمَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عُتْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ نَظَرَ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ، يَنْخُسُهُ غِلْمَانُ الْمَدِينَةِ بِالْجَرِيدِ، يَقُولُونَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَكَفَرْتَ بَعْدَ إِيمَانِكَ! فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ آمَنْتُ بِاللَّهِ قَطُّ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ.
حَدَّثَنِي السَّرِيُّ، قَالَ: حدثنا شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: أخذ المسلمون رجلا من بني أسد، فأتي بِهِ خالد بالغمر- وَكَانَ عالما بأمر طليحة- فَقَالَ لَهُ خالد: حَدِّثْنَا عَنْهُ وعما يقول لكم، فزعم أن مما أتى به: والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام حَدَّثَنِي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن ابى يعقوب سعيد بن عبيد، قال: لما أرزى أهل الغمر إلى البزاخة، قام فيهم طليحة، ثُمَّ قَالَ: أمرت أن تصنعوا رحا ذات عرا، يرمي الله بِهَا من رمى، يهوي عليها من هوى، ثُمَّ عبَّى جنوده، ثُمَّ قَالَ: ابعثوا فارسين، على فرسين

(3/260)


أدهمين، من بني نصر بْن قعين، يأتيانكم بعين فبعثوا فارسين من بني قعين، فخرج هو وسلمة طليعتين.
حَدَّثَنَا السَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سَعِيدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْجَذِعِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَمَّنْ شَهِدَ بُزَاخَةَ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: لَمْ يُصِبْ خَالِدٌ عَلَى الْبُزَاخَةِ عَيْلا وَاحِدًا، كَانَتْ عِيَالاتُ بَنِي أَسَدٍ مُحْرَزَةً- وقال ابو يعقوب: بين مثقب وفلج، وَكَانَتْ عِيَالاتُ قَيْسٍ بَيْنَ فَلَجٍ وَوَاسِطَ- فَلَمْ يَعُدْ أَنِ انْهَزَمُوا، فَأَقَرُّوا جَمِيعًا بِالإِسْلامِ خَشْيَةً عَلَى الذَّرَارِي، وَاتَّقُوا خَالِدًا بِطَلِبَتِهِ، وَاسْتَحَقُّوا الأَمَانَ، ومضى طليحة، حتى نزل كلب عَلَى النَّقْعِ، فَأَسْلَمَ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا فِي كَلْبٍ حَتَّى مَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ إِسْلامُهُ هُنَالِكَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ أَسَدًا وَغَطَفَانَ وَعَامِرًا قَدْ أَسْلَمُوا، ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَرَّ بِجَنَبَاتِ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لأَبِي بَكْرٍ:
هَذَا طُلَيْحَةُ، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِ! خَلُّوا عَنْهُ، فَقَدْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلإِسْلامِ.
وَمَضَى طُلَيْحَةُ نَحْوَ مَكَّةَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ، ثُمَّ أَتَى عُمَرَ إِلَى الْبَيْعَةِ حِينَ اسْتُخْلِفَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ قَاتِلُ عُكَاشَةَ وَثَابِتٍ! وَاللَّهِ لا أُحِبُّكَ أَبَدًا فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَهِمُّ مِنْ رَجُلَيْنِ أَكْرَمَهُمَا اللَّهُ بِيَدِي، وَلَمْ يُهِنِّي بِأَيْدِيهِمَا! فَبَايَعَهُ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا خُدَعُ، مَا بَقِيَ مِنْ كَهَانَتِكَ؟ قَالَ: نَفْخَةٌ أَوْ نَفْخَتَانِ بِالْكِيرِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَارِ قَوْمِهِ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ