تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

خبر عين التمر
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَلَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنَ الأَنْبَارِ، وَاسْتُحْكِمَتْ لَهُ، اسْتَخْلَفَ عَلَى الأَنْبَارِ الزِّبْرَقَانَ بْنَ بَدْرٍ، وَقَصَدَ لِعَيْنِ التَّمْرِ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ مِهْرَانُ بْنُ بَهْرَامَ جوبين فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَجَمِ، وَعَقَّةُ بْنُ أَبِي عَقَّةَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ النَّمِرِ وَتَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَمَنْ لافَهُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا بِخَالِدٍ قَالَ عَقَّةُ لِمِهْرَانَ:
إِنَّ الْعَرَبَ أَعْلَمُ بِقِتَالِ الْعَرَبِ، فَدَعْنَا وَخَالِدًا، قَالَ: صَدَقْتَ، لَعَمْرِي لأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِقِتَالِ الْعَرَبِ، وَإِنَّكُمْ لَمِثْلُنَا فِي قِتَالِ الْعَجَمِ فَخَدَعَهُ وَاتَّقَى بِهِ، وَقَالَ: دُونَكُمُوهُمْ وَإِنِ احْتَجْتُمْ إِلَيْنَا أَعَنَّاكُمْ فَلَمَّا مَضَى نَحْوَ خَالِدٍ قَالَتْ لَهُ الأَعَاجِمُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ لِهَذَا الْكَلْبِ! فَقَالَ: دَعُونِي فَإِنِّي لَمْ أَرُدَّ إِلا مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَشَرٌّ لَهُمْ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَنْ قَتْلَ مُلُوكَكُمْ، وَفَلَّ حَدَّكُمْ، فَاتَّقَيْتُهُ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ عَلَى خَالِدٍ فَهِيَ لَكُمْ، وَإِنْ كَانَتِ الأُخْرَى لَمْ تَبْلُغُوا مِنْهُمْ حَتَّى يَهِنُوا، فَنُقَاتِلَهُمْ وَنَحْنُ أَقْوِيَاءُ وَهُمْ مُضْعَفُونَ.
فَاعْتَرَفُوا لَهُ بِفَضْلِ الرَّأْيِ، فَلَزَمَ مِهْرَانُ الْعَيْنَ، وَنَزَلَ عَقَّةُ لِخَالِدٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ بُجَيْرُ بْنُ فُلانٍ أَحَدُ بَنِي عُتْبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَعَلَى ميسرته الهذيل ابن عِمْرَانَ، وَبَيْنَ عَقَّةَ وَبَيْنَ مِهْرَانَ رَوْحَةٌ أَوْ غَدْوَةٌ، وَمِهْرَانُ فِي الْحِصْنِ فِي رَابِطَةِ فَارِسَ، وَعَقَّةُ عَلَى طَرِيقِ الْكَرْخِ كَالْخَفِيرِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ خَالِدٌ وَهُوَ فِي تَعْبِئَةِ جُنْدِهِ، فَعَبَّى خَالِدٌ جُنْدَهُ وَقَالَ لِمُجَنِّبَتَيْهِ: اكْفُونَا مَا عِنْدَهُ، فَإِنِّي حَامِلٌ، وَوَكَّلَ بِنَفْسِهِ حَوَامِي، ثُمَّ حَمَلَ وَعَقَّةُ يُقِيمُ صُفُوفَهُ، فَاحْتَضَنَهُ فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَانْهَزَمَ صَفَّهُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الأَسْرَ، وَهَرَبَ بُجَيْرٌ وَالْهُذَيْلُ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ مِهْرَانَ هَرَبَ فِي جُنْدِهِ، وَتَرَكُوا الْحِصْنَ وَلَمَّا انْتَهَتْ فِلالُ عَقَّةَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ إِلَى الْحِصْنِ اقْتَحَمُوهُ وَاعْتَصَمُوا بِهِ، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى الْحِصْنِ وَمَعَهُ عَقَّةُ أَسِيرٌ وَعَمْرُو بْنُ الصَّعِقِ، وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ خَالِدٌ كَمَنْ كَانَ

(3/376)


يُغِيرُ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ يُحَاوِلُهُمْ سَأَلُوهُ الأَمَانَ، فَأَبَى إِلا عَلَى حُكْمِهِ فَسَلِسُوا لَهُ بِهِ فَلَمَّا فَتَحُوا دَفَعَهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَارُوا مساكًا، وَأَمَرَ خَالِدٌ بِعَقَّةَ وَكَانَ خَفِيرَ الْقَوْمِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ لِيُوئْسِ الأُسَرَاءَ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَمَّا رَآهُ الأُسَرَاءُ مَطْرُوحًا عَلَى الْجِسْرِ يَئِسُوا مِنَ الْحَيَاةِ، ثُمَّ دَعَا بِعَمْرِو بْنِ الصَّعِقِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَضَرَبَ أَعْنَاقَ أَهْلِ الْحِصْنِ أَجْمَعِينَ وَسَبَى كُلَّ مَنْ حَوَى حِصْنُهُمْ، وَغَنِمَ مَا فِيهِ، وَوَجَدَ فِي بَيْعَتِهِمْ أَرْبَعِينَ غُلامًا يَتَعَلَّمُونَ الإِنْجِيلَ، عَلَيْهِمْ بَابٌ مُغْلَقٌ، فَكَسَرَهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: رُهُنٌ، فَقَسَمَهُمْ فِي أَهْلِ الْبَلاءِ، مِنْهُمْ أَبُو زِيَادٍ مَوْلَى ثَقِيفٍ، وَمِنْهُمْ نُصَيْرٌ أَبُو مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ، وَمِنْهُمْ أَبُو عَمْرَةَ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى الشَّاعِرِ، وَسِيرِينُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سِيرِينَ، وَحُرَيْثٌ، وَعُلاثَةُ فصار ابو عمره لشرحبيل ابن حَسَنَةَ، وَحُرَيْثٌ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبَّادٍ، وَعُلاثَةُ للمعنى، وَحُمْرَانُ لِعُثْمَانَ وَمِنْهُمْ عُمَيْرٌ وَأَبُو قَيْسٍ، فَثَبَتَ عَلَى نَسَبِهِ مِنْ مَوَالِي أَهْلِ الشَّامِ الْقُدَمَاءِ، وَكَانَ نُصَيْرٌ يُنْسَبُ إِلَى بَنِي يَشْكُرَ، وَأَبُو عَمْرَةَ إِلَى بَنِي مُرَّةَ وَمِنْهُمُ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَأَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْمُهَلَّبِ بْنِ عُقْبَةَ، قَالُوا: وَلَمَّا قَدِمَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ مِنْ عِنْدِ خَالِدٍ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ مِنَ الأَخْمَاسِ وَجَّهَهُ إِلَى عِيَاضٍ، وَأَمَدَّهُ بِهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ، وَعِيَاضٌ مُحَاصِرُهُمْ وَهُمْ مُحَاصِرُوهُ، وَقَدْ أَخَذُوا عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ لَهُ: الرَّأْيُ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ خَيْرٌ مِنْ جُنْدٍ كَثِيفٍ، ابْعَثْ إِلَى خَالِدٍ فَاسْتَمِدَّهُ فَفَعَلَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولُهُ غب وَقْعَةِ الْعَيْنِ مُسْتَغُيثًا، فَعَجَلَ إِلَى عِيَاضٍ بِكِتَابِهِ: مِنْ خَالِدٍ إِلَى عِيَاضٍ إِيَّاكَ أُرِيدُ.
لبث قَلِيلا تَأْتِكَ الْحَلائِبُ ... يَحْمِلْنَ آسَادًا عَلَيْهَا الْقَاشِبُ
كَتَائِبٌ يتبعها كتائب

(3/377)


خبر دومة الجندل
قالوا: ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويم بْن الكاهل الأسلمي، وخرج في تعبيته التي دخل فيها العين، ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وقبل ما قد أتاهم وديعة في كلب وبهراء، ومسانده ابن وبرة بْن رومانس، وأتاهم ابن الحدرجان في الضجاعم، وابن الأيهم في طوائف من غسان وتنوخ، فأشجوا عياضا وشجوا به.
فلما بلغهم دنو خالد، وهم على رئيسين: أكيدر بْن عبد الملك والجودي ابن ربيعة، اختلفوا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرا منه، ولا أحد في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدا قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم.
فخرج لطيته، وبلغ ذلك خالدا، فبعث عاصم بْن عمرو معارضا له، فأخذه فقال: إنما تلقبت الأمير خالدا، فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه من شيء، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة، وعليهم الجودي بْن ربيعة، ووديعة الكلبي، وابن رومانس الكلبي، وابن الأيهم وابن الحدرجان، فجعل خالد دومة بين عسكره وعسكر عياض، وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة، لم يحملهم الحصن، فلما اطمأن خالد خرج الجودي، فنهض بوديعة فزحفا لخالد، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض، فاقتتلوا، فهزم اللَّه الجودي ووديعة علي يدي خالد، وهزم عياض من يليه، وركبهم المسلمون، فأما خالد فإنه أخذ الجودي أخذا، وأخذ الأقرع بْن حابس وديعة، وأرز بقية الناس إلى الحصن، فلم يحملهم، فلما امتلأ الحصن، أغلق من في الحصن الحصن دون أصحابهم، فبقوا حوله حرداء، وقال عاصم بْن عمرو: يا بني تميم، حلفاؤكم كلب، آسوهم واجيروهم،

(3/378)


فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها، ففعلوا وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بني تميم بهم، وأقبل خالد على الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن، ودعا خالد بالجودي فضرب عنقه، ودعا بالأسرى فضرب أعناقهم إلا أسارى كلب، فإن عاصما والأقرع وبني تميم قالوا: قد آمناهم، فأطلقهم لهم خالد، وقال: ما لي ولكم! أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام! فقال له عاصم: لا تحسدهم العافية، ولا يحوزهم الشيطان ثم أطاف خالد بالباب، فلم يزل عنه حتى اقتلعه، واقتحموا عليهم، فقتلوا المقاتلة، وسبوا الشرخ، فأقاموهم فيمن يزيد، فاشترى خالد ابنة الجودي وكانت موصوفة، وأقام خالد بدومة ورد الأقرع إلى الأنبار.
ولما رجع خالد إلى الحيرة- وكان منها قريبا حيث يصبحها- أخذ القعقاع أهل الحيرة بالتقليس، فخرجوا يتلقونه وهم يقلسون، وجعل بعضهم يقول لبعض: مروا بنا فهذا فرج الشر! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ خَالِدٌ أَقَامَ بِدومَةَ، فَظَنَّ الأَعَاجِمُ بِهِ، وَكَاتَبَهُمْ عَرَبُ الْجَزِيرَةِ غَضَبًا لِعَقَّةَ، فَخَرَجَ، زرمهرُ مِنْ بَغْدَادَ وَمَعَهُ رَوْزبَهْ يُرِيدَانِ الأَنْبَارَ، وَاتَّعَدَا حَصِيدًا وَالْخَنَافِسَ، فَكَتَبَ الزِّبْرِقَانُ وَهُوَ عَلَى الأَنْبَارِ إِلَى الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةُ خَالِدٍ عَلَى الْحِيرَةِ، فَبَعَثَ الْقَعْقَاعُ أَعْبَدَ بْنَ فَدكيٍّ السَّعْدِيَّ وَأَمَرَهُ بِالْحَصِيدِ، وَبَعَثَ عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ الْبَارِقِيَّ وَأَمَرَهُ بِالْخَنَافِسِ، وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ رَأَيْتُمَا مقدما فَأَقْدِمَا فَخَرَجَا فَحَالا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الرِّيفِ، وَأَغْلَقَاهُمَا، وَانْتَظَرَ رُوزْبَهْ وزرمهرُ بِالْمُسْلِمِينَ اجْتِمَاعَ مَنْ كَاتَبَهُمَا مِنْ رَبِيعَةَ، وَقَدْ كَانُوا تَكَاتَبُوا وَاتَّعَدُوا، فَلَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ مِنْ دُومَةَ إِلَى الْحِيرَةِ عَلَى الظهرِ وَبَلَغَهُ ذَلِكَ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى مُصَادَمَةِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ، كَرِهَ خِلافَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَعَجَلَ الْقَعْقَاعُ

(3/379)


ابن عَمْرٍو وَأَبُو لَيْلَى بْنُ فَدكِيٍّ إِلَى رُوزْبَهْ وَزرمهرُ، فَسَبَقَاهُ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، وَقَدِمَ عَلَى خَالِدٍ كِتَابُ امْرِئِ الْقَيْسِ الْكَلْبِيِّ، أَنَّ الْهُذَيْلَ بْنَ عِمْرَانَ قَدْ عَسْكَرَ بِالْمصيخِ، وَنَزَلَ رَبِيعَةُ بْنُ بُجَيْرٍ بِالثَّنِيِّ وَبِالبشرِ فِي عَسْكَرٍ غَضَبًا لِعَقَّةَ، يُرِيدَانِ زرمهر وروزبه فَخَرَجَ خَالِدٌ وَعَلَى مُقَدُّمَتِهِ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْحِيرَةِ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ، وَأَخَذَ طَرِيقَ الْقَعْقَاعِ وَأَبِي لَيْلَى إِلَى الْخَنَافِسِ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمَا بِالْعَيْنِ، فبعث القعقاع الى حصيد، وَأَمَّرَهُ عَلَى النَّاسِ، وَبَعَثَ أَبَا لَيْلَى إِلَى الخنافس، وقال: زجياهم ليجتمعوا ومن استثارهم، وَإِلا فَوَاقِعَاهُمْ فَأَبَيَا إِلا الْمَقَامِ

خبر حصيد
فلما رأى القعقاع أن زرمهر وروزبه لا يتحركان سار نحو حصيد، وعلى من مر به من العرب والعجم روزبه ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر، فأمده بنفسه، واستخلف على عسكره المهبوذان، فالتقوا بحصيد، فاقتتلوا، فقتل اللَّه العجم مقتلة عظيمة، وقتل القعقاع زرمهر، وقتل روزبه، قتله عصمة بْن عبد اللَّه أحد بني الحارث بْن طريف، من بني ضبة، وكان عصمه من البررة- وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة- فكان المسلمون خيرة وبررة وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة وأرز فلال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها
. الخنافس
وسار أبو ليلى بْن فدكي بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس، وقد أرزت فلال حصيد إلى المهبوذان، فلما أحس المهبوذان بقدومهم هرب ومن معه وأرزوا إلى المصيخ، وبه الهذيل بْن عمران، ولم يلق بالخنافس كيدا، وبعثوا إلى خالد بالخبر جميعا

(3/380)


مصيخ بني البرشاء
قالوا: ولما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إليهم، ووعد القعقاع وأبا ليلى وأعبد وعروة ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ- وهو بين حوران والقلت- وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل، فنزل الجناب فالبردان فالحنى، واستقل من الحنى، فلما كان تلك الساعة من ليله الموعد اتفقوا جميعا بالمصيخ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه، وهم نائمون من ثلاثة أوجه، فقتلوهم وأفلت الهذيل في أناس قليل، وامتلأ الفضاء قتلى، فما شبهوا بهم إلا غنما مصرعة، وقد كان حرقوص بْن النعمان قد محضهم النصح، وأجاد الرأي، فلم ينتفعوا بتحذيره، وقال حرقوص بن النعمان قبل الغارة:
الا سقيانى قبل خيل أبي بكر.
الأبيات وكان حرقوص معرسا بامرأة من بني هلال تدعى أم تغلب، فقتلت تلك الليلة، وعبادة بْن البشر وامرؤ القيس بْن بشر وقيس بْن بشر، وهؤلاء بنو الثورية من بني هلال وأصاب جرير بْن عبد اللَّه يوم المصيخ من النمر عبد العزى بْن أبي رهم بْن قرواش أخا أوس مناة، من النمر، وكان معه ومع لبيد بْن جرير كتاب من أبي بكر بإسلامهما، وبلغ أبا بكر قول عبد العزى، وقد سماه عبد اللَّه ليلة الغارة، وقال:
سبحانك اللهم رب مُحَمَّد.
فوداه وودى لبيدا- وكانا أصيبا في المعركة- وقال: أما إن ذلك ليس علي إذ نازلا أهل الحرب، وأوصى بأولادهما، وكان عمر يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك- يعني ابن نويرة- فيقول أبو بكر: كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب في ديارهم وقال عبد العزى:
أقول إذ طرق الصباح بغارة: ... سبحانك اللهم رب مُحَمَّد

(3/381)


سبحان ربي لا إله غيره ... رب البلاد ورب من يتورد
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَغَرْنَا عَلَى أَهْلِ المُصَيَّخِ، وإذا رجل يدعى باسمه حرقوص ابن النُّعْمَانِ، مِنَ النَّمِرِ، وَإِذَا حَوْلَهُ بَنُوهُ وَامْرَأَتُهُ، وَبَيْنَهُمْ جَفْنَةٌ مِنْ خَمْرٍ، وَهُمْ عَلَيْهَا عُكُوفٌ يَقُولُونَ لَهُ: وَمَنْ يَشْرَبُ هَذِهِ السَّاعَةَ وَفِي أَعْجَازِ اللَّيْلِ! فَقَالَ: اشْرَبُوا شُرْبَ وَدَاعٍ، فَمَا أَرَى أَنْ تَشْرَبُوا خَمْرًا بَعْدَهَا، هَذَا خَالِدٌ بِالْعَيْنِ وَجُنُودُهُ بِحَصِيدٍ، وَقَدْ بَلَغَهُ جَمْعُنَا وَلَيْسَ بِتَارِكِنَا، ثُمَّ قَالَ:
أَلا فَاشْرَبُوا مِنْ قَبْلِ فأصمه الظَّهْرِ ... بُعَيْدِ انْتِفَاخِ الْقَوْمِ بِالعكرِ الدثرِ
وَقَبْلَ مِنَايَانَا الْمُصِيبَة بِالْقَدَرِ ... لِحِينٍ لَعَمْرِي لا يَزِيدُ وَلا يَحْرِي
فَسَبَقَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْخَيْلِ، فَضَرَبَ رَأْسَهُ، فَإِذَا هُوَ فِي جَفْنَتِهِ، وَأَخَذْنَا بَنَاتِهِ وَقَتَلْنَا بَنِيهِ
. الثني والزميل
وقد نزل ربيعة بْن بجير التغلبي الثني والبشر غضبا لعقة، وواعد روزبه وزرمهر والهذيل فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به، تقدم إلى القعقاع وإلى أبي ليلى، بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما الليلة ليفترقوا فيها للغارة عليهم من ثلاثة أوجه، كما فعل بأهل المصيخ ثم خرج خالد من المصيخ، فنزل حوران، ثم الرنق، ثم الحماة- وهي اليوم لبني جنادة بْن زهير من كلب- ثم الزميل، وهو البشر والثني معه- وهما اليوم شرقي الرصافة- فبدأ بالثني، واجتمع هو وأصحابه، فبيته من ثلاثة أوجه بياتا ومن اجتمع له وإليه، ومن تأشب لذلك من الشبان، فجردوا فيهم السيوف، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر، واستبى الشرخ، وبعث بخمس اللَّه إلى أبي بكر مع النعمان بْن عوف بْن النعمان الشيباني، وقسم النهب والسبايا، فاشترى علي بْن ابى طالب ع بنت ربيعه

(3/382)


ابن بجير التغلبي، فاتخذها، فولدت له عمر ورقية، وكان الهذيل حين نجا أوى إلى الزميل، إلى عتاب بْن فلان، وهو بالبشر في عسكر ضخم، فبيتهم بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه سبقت إليهم الخبر عن ربيعة، فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا قبلها مثلها، وأصابوا منهم ما شاءوا، وكانت على خالد يمين: ليبغتن تغلب في دارها، وقسم خالد فيئهم في الناس، وبعث بالأخماس إلى أبي بكر مع الصباح بْن فلان المزني، وكانت في الأخماس ابنة مؤذن النمري، وليلى بنت خالد، وريحانة بنت الهذيل بْن هبيرة ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب، وبها هلال بْن عقة، وقد ارفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد، وانقشع عنها هلال فلم يلق كيدا بها

حديث الفراض
ثم قصد خالد بعد الرضاب وبغتته تغلب إلى الفراض- والفراض: تخوم الشام والعراق والجزيرة- فأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام، ونظمن نظما، أكثر فيهن الرجاز إلى ما كان قبل ذلك منهن.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحه- وشاركهما عمرو بْن مُحَمَّد، عن رجل من بني سعد، عن ظفر بْن دهى- والمهلب بْن عقبة، قالوا: فلما اجتمع المسلمون بالفراض، حميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب واياد والنمر، فأمدوهم، ثم ناهدوا خالدا، حتى إذا صار الفرات بينهم، قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم قال: خالد:
بل اعبروا إلينا، قالوا: فتنحوا حتى نعبر، فقال خالد: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنى عشرة فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل على دين، وله عقل وعلم، وو الله لينصرن ولنخذلن ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح، من أينا يجيء! ففعلوا، فاقتتلوا قتالا

(3/383)


شديدا طويلا ثم إن اللَّه عز وجل هزمهم، وقال خالد للمسلمين: ألحوا عليهم ولا ترفهوا عنهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا، ثم أذن في القفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بْن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بْن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد أنه في الساقة
. حجة خالد
قال أبو جعفر: وخرج خالد حاجا من الفراض لخمس بقين من ذي القعدة، مكتتما بحجه، ومعه عدة من أصحابه، يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال، فسار طريقا من طرق أهل الجزيرة، لم ير طريق أعجب منه، ولا أشد على صعوبته منه، فكانت غيبته عن الجند يسيرة، فما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه فقدما معا، وخالد وأصحابه محلقون، لم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه اللَّه بذلك إلا بعد، فعتب عليه وكانت عقوبته إياه أن صرفه إلى الشام وكان مسير خالد من الفراض أن استعرض البلاد متعسفا متسمتا، فقطع طريق الفراض ماء العنبري، ثم مثقبا، ثم انتهى إلى ذات عرق، فشرق منها، فأسلمه إلى عرفات من الفراض، وسمي ذلك الطريق الصد، ووافاه كتاب من أبي بكر منصرفه من حجه بالحيرة يأمره بالشام، يقاربه ويباعده.
قال أبو جعفر: قالوا: فوافى خالدا كتاب أبي بكر بالحيرة، منصرفه من حجه: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا

(3/384)


وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن، وهو ولي الجزاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عطاء بْن البكائي، عن المقطع بْن الهيثم البكائي، عن أبيه، قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولون: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل ويسمون ما بينها وبين الفراض ما يذكرون ما كان بعد احتقارا لما كان بعد فيما كان قبل.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَتَى الأَنْبَارَ فَصَالَحُوهُ عَلَى الجلاء، ثم اعطوه شيئا رضى به، وَأَنَّهُ أَغَارَ عَلَى سُوقِ بَغْدَادَ مِنْ رُسْتَاقِ الْعَالِ، وَأَنَّهُ وَجَّهَ الْمُثَنَّى فَأَغَارَ عَلَى سُوقٍ فِيهَا جَمْعٌ لِقُضَاعَةَ وَبَكْرٍ، فَأَصَابَ مَا فِي السُّوقِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، فَفَتَحَهَا عَنْوَةً، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَبَعَثَ بِالسَّبْيِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ سَبْيٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْعَجَمِ، وَسَارَ إِلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، فَقَتَلَ أكيدرَ، وَسَبَى ابْنَةَ الْجُودِي، وَرَجَعَ فَأَقَامَ بِالْحِيرَةِ.
هَذَا كله سنه اثنتى عشره
. [حوادث متفرقة]
وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدٍ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ.
وَفِيهَا مات ابو العاصي بْنُ الرَّبِيعِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَأَوْصَى إِلَى الزبير، وتزوج على ع ابْنَتَهُ وَفِيهَا اشْتَرَى عُمَرُ أَسْلَمَ مَوْلاهُ

(3/385)


وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَجَّ بِهِمْ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، عَنِ ابْنِ مَاجِدَةَ السَّهْمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فِي خِلافَتِهِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَقَدْ عَارَمْتُ غُلامًا مِنْ أَهْلِي، فَعَضَّ بِأُذْنِي فَقَطَعَ مِنْهَا- أَوْ عَضَضْتُ بِأُذْنِهِ فَقَطَعْتُ مِنْهَا- فَرَفَعَ شَأْنَنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِمَا إِلَى عُمَرَ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ كَانَ الْجَارِحُ قَدْ بَلَغَ فَلْيقد مِنْهُ فَلَمَّا انْتَهَى بِنَا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَعَمْرِي لَقَدْ بَلَغَ هَذَا! ادْعُوا لِي حَجَّامًا قَالَ: فَلَمَّا ذَكَرَ الْحَجَّامَ، قَالَ: [أَمَا إِنِّي قد سمعت النبي ص يقول:
قد اعطيت خالتي غلاما، وانا أرجو أَنْ يُبَارِكَ اللَّهُ لَهَا فِيهِ، وَقَدْ نَهَيْتُهَا أَنْ تَجْعَلَهُ حَجَّامًا أَوْ قَصَّابًا أَوْ صَائِغًا، فَاقْتَصَّ مِنْهُ] .
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَجَّ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَجَّ بِالنَّاسِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
بعض الناس يقول: لم يحج أبو بكر في خلافته، وأنه بعث سنة اثنتي عشرة على الموسم عمر بْن الخطاب، أو عبد الرحمن بْن عوف

(3/386)


ثم دخلت

سنة ثلاث عشرة

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
ففيها وجه أبو بكر رحمه اللَّه الجيوش إلى الشام بعد منصرفه من مكة إلى المدينة حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ لَمَّا قَفَلَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَجِّ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ جَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى الشَّامِ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قِبَلَ فِلَسْطِينَ، فَأَخَذَ طَرِيقَ الْمُعْرِقَةَ عَلَى أَيْلَةَ، وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ- وَهُوَ أَحَدُ الْغَوْثِ- وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْلُكُوا التبوكيةَ عَلَى الْبَلْقَاءِ مِنْ عَلْيَاءِ الشَّامِ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْتُ قَبْلُ، عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ مَضَى ذِكْرُهُمْ، قَالَ: ثُمَّ وَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ أَوَّلَ سَنَة ثَلاثَ عَشْرَةَ، فَأَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ لِوَاءُ خالد بن سعيد بن العاصي، ثم عزله قبل ان يسير، وَوَلَّى يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَانَ أَوَّلَ الأُمَرَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجُوا فِي سَبْعَةِ آلافٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ سَبَبَ عَزْلِ أَبِي بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ- فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن ابى بكر، ان خالد بن سعيد لما قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَبَّصَ بِبَيْعَتِهِ شَهْرَيْنِ، يَقُولُ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَعْزِلْنِي حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَقَدْ لَقِيَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وعثمان ابن عَفَّانٍ، فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَقَدْ طِبْتُمْ نَفْسًا عَنْ أَمْرِكُمْ يَلِيهِ غَيْرُكُمْ! فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَحْفِلْهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا عُمَرُ فَاضْطَغَنَهَا عَلَيْهِ ثُمَّ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ

(3/387)


الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ عَلَى رُبْعٍ مِنْهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَأَخَذَ عُمَرُ يَقُولُ: أَتؤمره وَقَدْ صَنَعَ مَا صَنَعَ وَقَالَ مَا قَالَ! فَلَمْ يَزَلْ بِأَبِي بَكْرٍ حَتَّى عَزَلَهُ، وَأَمَّرَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ فُضَيْلِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ صخر حارس النبي ص، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بن العاصي باليمن زمن النبي ص، وتوفى النبي ص وَهُوَ بِهَا، وَقَدِمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ دِيبَاجٍ فَلَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَصَاحَ عُمَرُ بِمَنْ يَلِيهِ: مَزَّقُوا عَلَيْهِ جُبَّتَهُ! أَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَهُوَ فِي رِجَالِنَا فِي السِّلْمِ مَهْجُورٌ! فَمَزَّقُوا جُبَّتَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، يَا بَنِي عَبْدِ مناف، اغلبتم عليها! فقال على ع: أَمُغَالَبَةً تَرَى أَمْ خِلافَةً؟ قَالَ: لا يَغَالِبُ عَلَى هَذَا الأَمْرِ أَوْلَى مِنْكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَقَالَ عُمَرُ لِخَالِدٍ: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ! وَاللَّهِ لا يَزَالُ كَاذِبٌ يَخُوضُ فِيمَا قُلْتَ ثُمَّ لا يَضُرُّ إِلا نَفْسَهُ فَأَبْلَغَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ مَقَالَتَهُ، فَلَمَّا عَقَدَ أَبُو بَكْرٍ الأَلْوِيَةَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ عَقَدَ لَهُ فِيمَنْ عَقَدَ، فَنَهَاهُ عَنْهُ عُمَرُ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمَخْذُولٌ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ التَّرْوِئَةَ، وَلَقَدْ كَذَبَ كَذِبَةً لا يُفَارِقُ الأَرْضَ مُدْلٍ بِهَا وَخَائِضٌ فِيهَا، فَلا تَسْتَنْصِرْ بِهِ فَلَمْ يَحْتَمِلْ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ رِدْءًا بِتَيْمَاءَ، أَطَاعَ عُمَرَ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ وَعَصَاهُ فِي بَعْضٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي صَفِيَّةَ التَّيْمِيِّ، تَيْمِ بْنِ شَيْبَانَ، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِأَنْ يَنْزِلَ تَيْمَاءَ، فَفَصَلَ ردءا حَتَّى يَنْزِلَ بِتَيْمَاءَ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَلا يَبْرَحَهَا، وَأَنْ يَدْعُوَ مَنْ حَوْلَهُ بِالانْضِمَامِ إِلَيْهِ، وَأَلا يَقْبَلَ إِلا مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَلا يُقَاتِلَ إِلا مَنْ قَاتَلَهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ فَأَقَامَ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَبَلَغَ الرُّومَ عِظَمُ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، فَضَرَبُوا عَلَى الْعَرَبِ الضَّاحِيَةِ الْبعوث بالشام إليهم، فَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ

(3/388)


سَعِيدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، وَبِنُزُولِ مَنِ اسْتَنْفَرَتِ الرُّومُ، وَنَفَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ بَهْرَاءَ وَكَلْبٍ وَسَلِيحٍ وَتَنُوخَ وَلَخْمٍ وَجُذَامَ وَغَسَّانَ مِنْ دُونِ زَيزَاءَ بِثَلاثٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: أَنْ أَقْدِمْ وَلا تُحْجِمْ وَاسْتَنْصِرِ اللَّهَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ خَالِدٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ تَفَرَّقُوا وَأَعْرَوْا مَنْزِلَهُمْ، فَنَزَلَهُ وَدَخَلَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ تَجَمَّعَ لَهُ فِي الإِسْلامِ، وَكَتَبَ خَالِدٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ:
أَقْدِمْ وَلا تَقْتَحِمَنَّ حَتَّى لا تُؤْتَى مِنْ خَلْفِكَ فَسَارَ فِيمَنْ كَانَ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ تَيْمَاءَ وَفِيمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ طَرَفِ الرَّمْلِ، حَتَّى نَزَلُوا فِيمَا بَيْنَ آبِلَ وَزَيزَاءَ والْقَسْطَلِ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الرُّومِ، يُدْعَى بَاهَانَ، فَهَزَمَهُ وَقَتَلَ جُنْدَهُ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَاسْتَمَدَّهُ وَقَدْ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوَائِلُ مُسْتَنْفِرِي الْيَمَنِ وَمَنْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، وَفِيهِمْ ذو الكلاع، وقدم اليه عِكْرِمَةُ قَافِلا وَغَازِيًا فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ تِهَامَةَ وَعُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ وَالسَّرْوِ.
فَكَتَبَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أُمَرَاءِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يُبَدِّلُوا مَنِ اسْتُبْدِلَ، فَكُلُّهُمُ اسْتُبْدِلَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْبِدَالِ فَقَدِمُوا عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اهْتَاجَ أَبُو بَكْرٍ لِلشَّأمِ، وَعَنَاهُ أَمْرُهُ وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَدَّ عَمْرَو بْنَ العاص على عماله كان رسول الله ص وَلاهَا إِيَّاهُ مِنْ صَدَقَاتِ سَعْدِ هُذَيْمٍ، وَعُذْرَةَ وَمَنْ لَفَّهَا مِنْ جُذَامَ، وَحَدَسٍ قَبْلَ ذِهَابِهِ إِلَى عُمَانَ فَخَرَجَ إِلَى عُمَانَ وَهُوَ عَلَى عِدَةٍ مِنْ عَمَلِهِ، إِذَا هُوَ رَجَعَ فَأَنْجَزَ لَهُ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ.
فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ اهْتِيَاجِهِ لِلشَّأمِ إِلَى عَمْرٍو: إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَدَدْتُكَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ الله ص وَلاكَهُ مَرَّةً، وَسَمَّاهُ لَكَ أُخْرَى، مَبْعَثُكَ إِلَى عمان إنجازا لمواعيد رسول الله ص، فَقَدْ وليته ثم وليته، وَقَدْ أَحْبَبْتُ- أَبَا عَبْدِ اللَّهِ- أَنْ أُفَرِّغَكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فِي حَيَاتِكَ وَمَعَادِكَ مِنْهُ، إِلا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَحَبَّ إِلَيْكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرٌو: إِنِّي سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الإِسْلامِ، وَأَنْتَ بَعْدَ اللَّهِ الرَّامِي بِهَا، وَالْجَامِعُ لَهَا، فَانْظُرْ أَشَدَّهَا وَأَخْشَاهَا وَأَفْضَلَهَا فَارْمِ بِهِ شَيْئًا إِنْ جَاءَكَ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي وَكَتَبَ الى الوليد بن عقبه بنحو ذلك، فأجابه بايثار الجهاد

(3/389)


كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَمْرٍو، وَإِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ- وَكَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَدَقَاتِ قُضَاعَةَ- وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ شَيَّعَهُمَا مَبْعَثَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَأَوْصَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ: اتَّقِ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرُ مَا تَوَاصَى بِهِ عِبَادُ اللَّهِ، إِنَّكَ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ، لا يَسَعُكَ فِيهِ الإِذْهَانُ وَالتَّفْرِيطُ وَالْغَفْلَةُ عَمَّا فِيهِ قَوَامُ دِينِكُمْ، وَعِصْمَةُ أَمْرِكُمْ، فَلا تَنِ وَلا تَفْتُرْ وَكَتَبَ إِلَيْهِمَا: اسْتَخْلِفَا عَلَى أَعْمَالِكُمَا، وَانْدُبَا مَنْ يَلِيكُمَا.
فَوَلَّى عَمْرٌو عَلَى عُلْيَا قُضَاعَةَ عَمْرَو بْنَ فُلانٍ الْعُذْرِيَّ، وَوَلَّى الْوَلِيدُ عَلَى ضَاحِيَةِ قُضَاعَةَ مِمَّا يَلِي دُومَةَ امْرَأَ الْقَيْسِ، وَنَدَبَا النَّاسَ، فَتَتَامَّ إِلَيْهِمَا بِشَرٍّ كَثِيرٍ، وَانْتَظَرَا أَمْرَ أَبِي بَكْرٍ.
وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، وَقَالَ: أَلا إِنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ جَوَامِعَ، فَمَنْ بَلَغَهَا فَهِيَ حَسْبُهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ.
عَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالْقَصْدِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ أَبْلَغُ، إِلا إِنَّهُ لا دِينَ لأَحَدٍ لا إِيمَانَ لَهُ، وَلا أَجْرَ لِمَنْ لا حسْبَةَ لَهُ، وَلا عَمَلَ لِمَنْ لا نِيَّةَ لَهُ أَلا وَإِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُخَصَّ بِهِ، هِيَ التِّجَارَةُ الَّتِي دَلَّ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَنَجَّى بِهَا مِنَ الْخِزْيِ، وَأَلْحَقَ بِهَا الْكَرَامَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
فَأَمَدَّ عَمْرًا بِبَعْضِ مَنِ انْتَدَبَ إِلَى مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَأَمَّرَهُ بِطَرِيقٍ سَمَّاهَا لَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ وَأَمَّرَهُ بِالأُرْدُنِّ، وَأَمَدَّهُ بِبَعْضِهِمْ:
وَدَعَا يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَمَّرَهُ عَلَى جُنْدٍ عَظِيمٍ، هُمْ جُمْهُورُ مَنِ انْتُدِبَ لَهُ، وَفِي جُنْدِهِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَشْبَاهُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَشَيَّعَهُ مَاشِيًا.
وَاسْتَعْمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ عَلى مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَأَمَّرَهُ عَلَى حِمْصَ وَخَرَجَ مَعَهُ وَهُمَا مَاشِيَانِ وَالنَّاسُ مَعَهُمَا وَخَلْفَهُمَا، وَأَوْصَى كُلَّ واحد منهما.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ،

(3/390)


وَمُبَشِّرٍ عَنْ سَالِمٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغَسَّانِيِّ عَنْ خَالِدٍ، وَعُبَادَةَ، قَالُوا: وَلَمَّا قَدِمَ الْوَلِيدُ عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فَسَانَدَهُ، وَقَدِمَتْ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَمَدَّهُ بِهِمْ وَسُمُّوا جَيْشَ الْبِدَالِ، وَبَلَغَهُ عَنِ الأُمَرَاءِ وَتَوَجُّهِهِمْ اليه، اقتحم على الروم طلب الْحَظْوَةَ، وَأَعْرَى ظَهْرَهُ، وَبَادَرَ الأُمَرَاءُ بِقِتَالِ الرُّومِ، وَاسْتَطْرَدَ لَهُ بَاهَانُ فَأَرَزَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَاقْتَحَمَ خَالِدٌ فِي الْجَيْشِ وَمَعَهُ ذُو الْكَلاعِ وَعِكْرِمَةُ وَالْوَلِيدُ حَتَّى يَنْزِلَ مَرْجَ الصفرِ، مِنْ بَيْنِ الْوَاقُوصَةِ وَدِمَشْقَ، فَانْطَوَتْ مَسَالِحُ بَاهَان عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الطُّرُقَ وَلا يَشْعُرُ، وَزَحَفَ لَهُ بَاهَانُ فَوَجَدَ ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ يَسْتَمْطِرُ فِي النَّاسِ، فَقَتَلُوهُمْ.
وَأَتَى الْخَبَرُ خَالِدًا، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي جَرِيدَةٍ، فَأَفْلَتَ مَنْ أَفْلَتَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ وَالإِبِلِ، وَقَدْ أُجْهِضُوا عَنْ عَسْكَرِهِمْ، وَلَمْ تَنْتَهِ بِخَالِدِ بن سعيد هزيمه عَنْ ذِي الْمَرْوَةِ، وَأَقَامَ عِكْرِمَةُ فِي النَّاسِ ردءا لهم، فرد عنهم باهان جنوده أَنْ يَطْلُبُوهُ، وَأَقَامَ مِنَ الشَّامِ عَلَى قَرِيبٍ، وَقَدْ قَدِمَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَافِدًا مِنْ عِنْدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَنَدَبَ مَعَهُ النَّاسَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَمَلِ الْوَلِيدِ، وَخَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، فَأَتَى شُرَحْبِيلُ عَلَى خَالِدٍ، فَفَصَلَ بِأَصْحَابِهِ إِلا الْقَلِيلَ، وَاجْتَمَعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أُنَاسٌ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَرَهُ بِاللِّحَاقِ بِيَزِيدَ، فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ حَتَّى لَحِقَ بِيَزِيدَ، فَلَمَّا مَرَّ بِخَالِدٍ فَصَلَ بِبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ فِي خالد بن الوليد وفي خالد ابن سعيد، فأبى ان يعطيه فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَالَ: لا أُشِيمُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَأَطَاعَهُ فِي خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ بَعْدَ مَا فَعَلَ فَعْلَتَهُ فَأَخَذَ عَمْرٌو طَرِيقَ الْمُعْرِقَةِ، وَسَلَكَ أَبُو عُبَيْدَةَ طَرِيقَهُ، وَأَخَذَ يَزِيدُ طَرِيقَ التَّبُوكِيَّةِ، وَسَلَكَ شُرَحْبِيلُ طَرِيقَهُ، وَسَمَّى لَهُمْ أَمْصَارَ الشَّامِ، وَعَرَفَ أَنَّ الرُّومَ سَتَشُغِلُهُمْ، فَأَحَبَّ أَنْ يُصْعِدَ الْمُصَوِّبَ وَيُصَوِّبَ الْمُصْعِدَ، لِئَلا يَتَوَاكَلُوا، فَكَانَ كَمَا ظَنَّ وَصَارُوا إِلَى مَا أَحَبَّ

(3/391)


كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ذَا الْمَرْوَةِ، وَأَتَى أَبَا بَكْرٍ الْخَبَرُ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ:
أَقِمْ مَكَانَكَ، فَلَعَمْرِي إِنَّكَ مِقْدَامٌ مِحْجَامٌ، نَجَّاءُ مِنَ الْغَمَرَاتِ، لا تَخُوضُهَا إِلا إِلَى حَقٍّ، وَلا تَصْبِرُ عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ خَالِدٌ: اعْذُرْنِي، قَالَ: أَخْطَلُ! أَنْتَ امْرُؤٌ جُبْنٌ لَدَى الْحَرْبِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ أَعْلَمَ بِخَالِدٍ، وَلَوْ أَطَعْتُهُمَا فِيهِ اخْتَشَيْتُهُ وَاتَّقَيْتُهُ! كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُبَشِّرٍ وَسَهْلٍ وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ وَأَبِي حَارِثَةَ، قَالُوا: وَأَوْعَبَ الْقُوَّادُ بِالنَّاسِ نَحْوَ الشَّامِ وَعِكْرِمَةُ رِدْءٌ لِلنَّاسِ، وَبَلَغَ الرُّومَ ذَلِكَ، فَكَتَبُوا إِلَى هِرَقْلَ، وَخَرَجَ هِرَقْلُ حَتَّى نَزَلَ بِحِمْصَ، فَأَعَدَّ لَهُمُ الْجُنُودَ، وَعَبَّى لَهُمُ الْعَسَاكِرَ، وَأَرَادَ اشْتِغَالَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لِكَثْرَةِ جُنْدِهِ، وَفُضُولِ رِجَالِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمْرٍو أَخَاهُ تذارقَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَخَرَجَ نَحْوَهُمْ فِي تِسْعِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ مَنْ يَسُوقُهُمْ، حَتَّى نَزَلَ صَاحِبُ السَّاقَةِ ثَنِيَّةَ جلق بِأَعْلَى فِلَسْطِينَ، وَبَعَثَ جرجةَ بْنَ توذرَا نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَسْكَرَ بِإِزَائِهِ، وَبَعَثَ الدّرَاقصَ فَاسْتَقْبَلَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، وَبَعَثَ الْفَيْقَارَ بْنَ نسطوسَ فِي سِتِّينَ أَلْفًا نَحْوَ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَهَابَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَجَمِيعُ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، سِوَى عِكْرِمَةَ فِي سِتَّةِ آلافٍ، فَفَزِعُوا جَمِيعًا بِالْكُتُبِ وَبِالرُّسُلِ إِلَى عَمْرٍو: أَنَّ مَا الرَّأْيُ؟
فَكَاتَبَهُمْ وَرَاسَلَهُمْ: أَنَّ الرَّأْيَ الاجْتِمَاعُ، وَذَلِكَ أَنَّ مِثْلَنَا إِذَا اجْتَمَعَ لَمْ يُغْلَبْ مِنْ قِلَّةٍ، وَإِذَا نَحْنُ تَفَرَّقْنَا لَمْ يَبْقَ الرَّجُلُ مِنَّا فِي عَدَدٍ يُقْرَنُ فيه لأحد ممن استقبلنا واعد لنا لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَّا فَاتَّعِدُوا الْيَرْمُوكَ لِيَجْتَمِعُوا بِهِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِمِثْلِ مَا كَاتَبُوا بِهِ عَمْرًا، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ كِتَابُهُ بِمِثْلِ رَأْيِ عَمْرٍو، بِأَنِ اجْتَمِعُوا فَتَكُونُوا عَسْكَرًا وَاحِدًا، وَالْقَوْا زُحُوفَ الْمُشْرِكِينَ بِزَحْفِ الْمُسْلِمِينَ،

(3/392)


فَإِنَّكُمْ أَعْوَانُ اللَّهِ، وَاللَّهُ نَاصِرٌ مَنْ نَصَرَهُ، وَخَاذِلٌ مَنْ كَفَرَهُ، وَلَنْ يُؤْتَى مِثْلُكُمْ مِنْ قِلَّةٍ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى الْعَشَرَةُ آلافٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ آلافِ إِذَا أَتَوْا مِنْ تِلْقَاءِ الذَّنُوبِ، فَاحْتَرِسُوا مِنَ الذَّنُوبِ، وَاجْتَمِعُوا بِالْيَرْمُوكِ مُتَسَانِدِينَ وَلْيَصِلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِأَصْحَابِهِ.
وَبَلَغَ ذَلِكَ هِرَقْلَ، فَكَتَبَ إِلَى بَطَارِقَتِهِ: أَنِ اجْتَمِعُوا لَهُمْ، وَانْزِلُوا بِالرُّومِ مَنْزِلا وَاسَعَ الْعَطَنِ، وَاسِعَ الْمِطْرَدِ، ضَيِّقَ الْمَهْرَبِ، وَعَلَى النَّاسِ التذارقُ وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ جرجةُ، وَعَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ باهانُ وَالدراقصُ، وَعَلَى الْحَرْبِ الفَيْقَارُ، وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ بَاهَانَ فِي الأَثَرِ مَدَدٌ لَكُمْ فَفَعَلُوا فَنَزَلُوا الْوَاقُوصَةَ وَهِيَ عَلَى ضِفَّةِ الْيَرْمُوكِ، وَصَارَ الْوَادِي خَنْدَقًا لَهُمْ، وَهُوَ لَهَبٌ لا يُدْرَكُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بَاهَانُ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَسْتَفِيقَ الرُّومُ وَيَأْنَسُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَتَرْجِعَ إِلَيْهِمْ أَفْئِدَتُهُمْ عَنْ طِيرَتِهَا.
وَانْتَقَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ عَسْكَرِهِمُ الَّذِي اجْتَمَعُوا به، فنزل عَلَيْهِمْ بِحِذَائِهِمْ عَلَى طَرِيقِهِمْ، وَلَيْسَ لِلرُّومِ طَرِيقٌ إِلا عَلَيْهِمْ فَقَالَ عَمْرٌو: أَيُّهَا النَّاسُ، أَبْشِرُوا، حُصِرَتْ وَاللَّهِ الرُّومُ، وَقَلَّمَا جَاءَ مَحْصُورٌ بِخَيْرٍ! فَأَقَامُوا بِإِزَائِهِمْ وَعَلَى طَرِيقِهِمْ، وَمَخْرَجِهِمْ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَشَهْرَيِ رَبِيعٍ، لا يَقْدِرُونَ مِنَ الرُّومِ عَلَى شَيْءٍ، وَلا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِمُ، اللَّهَبَ- وَهُوَ الْوَاقُوصَةُ- مِنْ وَرَائِهِمْ، وَالْخَنْدَقُ مِنْ أَمَامِهِمْ، وَلا يَخْرُجُونَ خَرْجةً إِلا أديل الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، حَتَّى إِذَا سَلَخُوا شَهْرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقَدِ اسْتَمَدُّوا أَبَا بَكْرٍ وَأَعْلَمُوهُ الشَّأْنَ فِي صَفَرٍ، فَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ لِيَلْحَقَ بِهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلُفَ عَلَى الْعِرَاقِ الْمُثَنَّى، فَوَافَاهُمْ فِي رَبِيعٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَعَمْرٍو وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَلَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَرْمُوكَ، وَاسْتَمَدُّوا أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: خَالِدٌ لَهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْعِرَاقِ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَاسْتَحَثَّهُ فِي السَّيْرِ، فَنَفَذَ خَالِدٌ لِذَلِكَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ، وَطَلَعَ بَاهَانُ عَلَى الرُّومِ، وَقَدْ قَدَّمَ قُدَّامَهُ الشَّمَامِسَةَ وَالرُّهْبَانَ وَالْقِسِّيسِينَ، يَغْرُونَهُمْ وَيُحَضِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَوَافَقَ قُدُومُ خَالِدٍ

(3/393)


قُدُومَ بَاهَانَ، فَخَرَجَ بِهِمْ بَاهَانُ كَالْمُقْتَدِرِ، فَوَلِيَ خَالِدٌ قِتَالَهُ، وَقَاتَلَ الأُمَرَاءُ مَنْ بِإِزَائِهِمْ، فَهُزِمَ بَاهَانُ، وَتَتَابَعَ الرُّومُ عَلَى الْهَزِيمَةِ، فَاقْتَحَمُوا خَنْدَقَهُمْ، وتيمنت الروم بباهان، وفرح المسلمون بخالد وحرد الْمُسْلِمُونَ وَحَرَبَ الْمُشْرِكُونَ وَهُمْ أَرْبَعُونَ وَمِائَتَا أَلْفٍ، مِنْهُمْ ثَمَانُونَ أَلْفَ مُقَيَّدٍ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْهُمْ مُسَلْسَلٌ لِلْمَوْتِ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مُرَبَّطُونَ بِالْعَمَائِمِ، وَثَمَانُونَ أَلْفَ فَارِسٍ وَثَمَانُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَالْمُسْلِمُونَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِمَّنْ كَانَ مُقِيمًا، إِلَى أَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ فِي تِسْعَةِ آلافٍ، فَصَارُوا سِتَّةً وَثلاثِينَ أَلْفًا.
وَمَرِضَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جُمَادَى الأُولَى، وَتُوُفِّيَ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، قَبْلَ الْفَتْحِ بِعَشْرِ لَيَالٍ
. خبر اليرموك
قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشام كورة، فسمى لأبي عبيدة بْن عبد اللَّه بْن الجراح حمص، وليزيد بْن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل بْن حسنة الأردن، ولعمرو بْن العاص ولعلقمة بْن مجزز فلسطين، فلما فرغا منها نزل علقمة وسار إلى مصر فلما شارفوا الشام، دهم كل أمير منهم قوم كثير، فأجمع رأيهم أن يجتمعوا بمكان واحد، وأن يلقوا جمع المشركين بجمع المسلمين.
ولما رأى خالد أن المسلمين يقاتلون متساندين قال لهم: هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعز اللَّه به الدين، ولا يدخل عليكم معه ولا منه نقيصة ولا مكروه! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: تَوَافَى إِلَيْهَا مَعَ الأُمَرَاءِ وَالْجُنُودِ الأَرْبَعَةِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَثَلاثَةُ آلافٍ مِنْ فلالِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، أَمَّرَ عليهم ابو بكر ومعاويه وَشُرَحْبِيلَ، وَعَشَرَةَ آلافٍ مِنْ أَمْدَادِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مع خالد

(3/394)


ابن الْوَلِيدِ سِوَى سِتَّةِ آلافٍ ثَبَتُوا مَعَ عِكْرِمَةَ رِدْءًا بَعْدَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، فَكَانُوا سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَكُلُّ قِتَالُهُمْ كَانَ عَلَى تَسَانُدِ، كُلِّ جُنْدٍ وَأَمِيرِهِ، لا يَجْمَعُهُمْ أَحَدٌ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ مِنَ الْعِرَاقِ وَكَانَ عَسْكَرُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالْيَرْمُوكِ مُجَاوِرًا لِعَسْكَرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَسْكَرُ شُرَحْبِيلَ مُجَاوِرًا لِعَسْكَرِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رُبَّمَا صَلَّى مَعَ عَمْرٍو، وَشُرَحْبِيلُ مَعَ يَزِيدَ.
فَأَمَّا عَمْرٌو وَيَزِيدُ فَإِنَّهُمَا كَانَا لا يُصَلِّيَانِ مَعَ أَبِي عبيده وَشُرَحْبِيلَ، وَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ تِلْكَ، فعَسَكَرَ عَلَى حدةٍ، فَصَلَّى بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَوَافَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مُتَضَايقُونَ بِمَدَدِ الرُّومِ، عَلَيْهِمْ بَاهَانُ، وَوَافَقَ الرُّومَ وَهُمْ نشاط بِمَدَدِهِمْ، فَالْتَقَوْا، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ وَأَمَدَادَهُمْ إِلَى الْخَنَادِقِ- وَالْوَاقُوصَةُ أَحَدُ حُدُودِهِ- فَلَزِمُوا خَنْدَقَهُمْ عَامَّةَ شَهْرٍ، يُحَضِّضُهُمُ الْقِسِّيسُونَ وَالشَّمَامِسَةُ وَالرُّهْبَانُ وَيَنْعَوْنَ لَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ، حَتَّى اسْتَبْصَرُوا.
فَخَرَجُوا لِلْقِتَالِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ قِتَالٌ مِثْلُهُ، فِي جُمَادَى الآخِرَةِ.
فَلَمَّا أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ خُرُوجَهُمْ، وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ مُتَسَانِدِينَ، سَارَ فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، لا يَنْبَغِي فِيهِ الْفَخْرُ وَلا الْبَغْيُ أَخْلِصُوا جِهَادَكُمْ، وَأَرِيدُوا اللَّهَ بِعَمَلِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة، عَلَى تَسَانُدٍ وَانْتِشَارٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يُحِلُّ وَلا يَنْبَغِي وَإِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ لَوْ يَعْلَمُ عِلْمَكُمْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَذَا، فَاعْمَلُوا فِيمَا لَمْ تُؤْمَرُوا بِهِ بِالَّذِي تَرَوْنَ أَنَّهُ الرَّأْيُ مِنْ وَالِيكُمْ وَمَحَبَّتِهِ، قَالُوا: فَهَاتِ، فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَبْعَثْنَا إِلا وَهُوَ يَرَى أَنَّا سَنَتَيَاسَرُ، وَلَوْ عَلِمَ بِالَّذِي كَانَ وَيَكُونُ، لَقَدْ جَمَعَكُمْ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ أَشَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَّا قَدْ غَشِيَهُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْدَادِهِمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الدُّنْيَا فَرَّقَتْ بَيْنَكُمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ، فَقَدْ أُفْرِدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِبَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ لا يَنْتَقِصُهُ مِنْهُ أَنْ دَانَ لأَحَدٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْجُنُودِ، وَلا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ أَنْ

(3/395)


دَانُوا لَهُ إِنَّ تَأْمِيرَ بَعْضَكُمْ لا يُنْقِصُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلا عِنْدَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص هَلُمُّوا فَإِنَّ هَؤُلاءِ تَهَيَّئُوا، وَهَذا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ، إِنْ رَدَدْنَاهُمْ إِلَى خَنْدَقِهِمُ الْيَوْمَ لَمْ نَزَلْ نَرُدُّهُمْ، وَإِنْ هَزَمُونَا لَمْ نُفْلَحْ بَعْدَهَا فَهَلُمُّوا فَلْنَتَعَاوَرِ الإِمَارَةَ، فَلْيَكُنْ عَلَيْهَا بَعْضُنَا الْيَوْمَ، وَالآخَرُ غَدًا، وَالآخَرُ بَعْدَ غَدٍ، حَتَّى يَتَأَمَّرَ كُلُّكُمْ، وَدَعُونِي أَلِيكُمُ الْيَوْمَ.
فَأَمَّرُوهُ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا كَخَرَجَاتِهِمْ، وَأَنَّ الأَمْرَ أَطْوَلُ مِمَّا صاروا اليه، فخرجت الروم في تعبئة لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَخَرَجَ خَالِدٌ في تعبئة لَمْ تُعَبِّهَا الْعَرَبُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ فِي سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ كُرْدُوسًا إِلَى الأَرْبَعِينَ، وَقَالَ: إِنَّ عدوكم قد كثر وطغى، وليس من التعبئة تعبئة اكثر في رَأْيِ الْعَيْنِ مِنَ الْكَرَادِيسِ فَجَعَلَ الْقَلْبَ كَرَادِيسَ، وَأَقَامَ فِيهِ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَجَعَلَ الْمَيْمَنَةَ كَرَادِيسَ وَعَلَيْهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَفِيهَا شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ.
وَجَعَلَ الْمَيْسَرَةَ كَرَادِيسَ وَعَلَيْهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ مِنْ كَرَادِيسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى كُرْدُوسٍ مَذْعُورُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَهَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَزِيَادُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَخَالِدٌ فِي كُرْدُوسٍ، وعلى فاله خالد بن سعيد دحية بْنُ خَلِيفَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَامْرُؤُ الْقَيْسِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ يُحَنَّسَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعِكْرِمَةُ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَسُهَيْلٌ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً- وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَأَبُو الأَعْوَرِ بْنُ سُفْيَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَابْنُ ذِي الْخِمَارِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَفِي الْمَيْمَنَةِ عماره بن مخشى ابن خُوَيْلِدٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَشُرَحْبِيلُ على كردوس وَمَعَهُ خالد بن

(3/396)


سَعِيدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَالسِّمْطُ بْنُ الأَسْوَدِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَذُو الْكلاعِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى آخَرَ، وَجُنْدُبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعَمْرُو بْنُ فُلانٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَلَقِيطُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ بْنِ بُجْرَةَ حَلِيفٌ لِبَنِي ظُفَرَ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَفِي الْمَيْسَرَةِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَالزُّبَيْرُ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَحَوْشَبُ ذُو ظُلَيْمٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ مَازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ مِنْ هَوَازِنَ- حَلِيفٌ لِبَنِي النَّجَّارِ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ- حَلِيفٌ لِبَنِي النَّجَّارِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَمَسْرُوقُ بْنُ فُلانٍ عَلَى كُرْدُوسٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ بَهْزِ- حَلِيفٌ لِبَنِي عِصْمَةَ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ- حَلِيفٌ لِبَنِي سَلَمَةَ- عَلَى كُرْدُوسٍ، وَقَبَاثٌ عَلَى كُرْدُوسٍ وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَكَانَ الْقَاصَّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَكَانَ عَلَى الطَّلائِعِ قُبَاثُ بْنُ أُشَيْمٍ، وَكَانَ عَلَى الأَقْبَاضِ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود.
كتب إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ نَحْوًا مِنْ حديث ابى عثمان، وقالوا جميعا: وكان القارئ الْمِقْدَادَ وَمِنَ السُّنَّةِ الَّتِي سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ص بَعْدَ بَدْرٍ أَنْ تُقْرَأَ سُورَةُ الْجِهَادِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهِيَ الأَنْفَالُ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بْنِ أُسَيْدٍ الْغَسَّانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ وَخَالِدٍ، قَالا: شهد اليرموك الف من اصحاب رسول الله ص، فِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالا:
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَسِيرُ فَيَقِفُ عَلَى الكراديس، فيقول: الله لله! إِنَّكُمْ ذَادَةُ الْعَرَبِ، وَأَنْصَارُ الإِسْلامِ، وَإِنَّهُمْ ذَادَةُ الرُّومِ وَأَنْصَارُ الشِّرْكِ! اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِكَ، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ عَلَى عِبَادِكَ! قَالا: وَقَالَ رَجُلٌ لِخَالِدٍ: مَا أَكْثَرَ الرُّومَ وَأَقَلَّ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ خَالِدٌ:

(3/397)


مَا أَقَلَّ الرُّومَ وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ! إِنَّمَا تَكْثُرُ الْجُنُودُ بِالنَّصْرِ وَتَقِلُّ بِالْخِذْلانِ، لا بِعَدَدِ الرِّجَالِ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الأَشْقَرَ بَرَاءٌ مِنْ تَوْجِيهٍ، وَأَنَّهُمْ أُضْعِفُوا فِي الْعَدَدِ- وَكَانَ فَرَسُهُ قَدْ حَفِيَ فِي مَسِيرِهِ- قَالا: فَأَمَرَ خَالِدٌ عِكْرِمَةَ والقعقاع، وكانا على مجنبى الْقَلْبِ، فَأَنْشَبَا الْقِتَالَ، وَارْتَجَزَ الْقَعْقَاعُ وَقَالَ:
يَا لَيْتَنِي أَلْقَاكَ فِي الطِّرَادِ قَبْلَ اعْتِرَامِ الْجَحْفَلِ الْوَرَّادِ وَأَنْتَ فِي حَلَبَتِكَ الْوِرَادِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
قَدْ عَلِمَتْ بَهْكَنَةُ الْجَوَارِي أَنِّي عَلَى مَكْرُمَةٍ أُحَامِي فَنَشَبَ الْقِتَالُ، وَالْتَحَمَ النَّاسُ، وَتَطَارَدَ الْفِرْسَانُ، فَإِنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَخَذَتْهُ الْخُيُولُ، وَسَأَلُوهُ الْخَبَرَ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمْ إِلا بِسَلامَةٍ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ أَمْدَادٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِمَوْتِ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَأْمِيرِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَأَبْلَغُوهُ خَالِدًا، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ، أَسَرَّهُ إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْجُنْدَ قَالَ: أَحْسَنْتَ فَقِفْ، وَأَخَذَ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ فِي كِنَانَتِهِ، وَخَافَ إِنْ هُوَ أَظْهَرَ ذَلِكَ أَنْ ينتشر لَهُ أَمْرُ الْجُنْدِ، فَوَقَفَ مَحْمِيَّةُ بْنُ زُنَيْمٍ مَعَ خَالِدٍ، وَهُوَ الرَّسُولُ، وَخَرَجَ جرجةُ، حَتَّى كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَنَادَى: لِيَخْرُجْ إِلَيَّ خَالِدٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ خَالِدٌ وَأَقَامَ أَبَا عُبَيْدَةَ مَكَانَهُ، فَوَافَقَهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَابَّتَيْهِمَا، وَقَدْ أَمِنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ جرجةُ:
يَا خَالِدُ أَصْدِقْنِي وَلا تُكْذِبْنِي فَإِنَّ الْحُرَّ لا يَكْذِبُ وَلا تُخَادِعْنِي فَإِنَّ الْكَرِيمَ لا يُخَادِعُ الْمُسْتَرْسِلَ بِاللَّهِ، هَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيُّكُمْ سَيْفًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَعْطَاكَهُ،

(3/398)


فَلا تُسِلُّهُ عَلَى قَوْمٍ إِلا هَزَمْتَهُمْ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَبِمَ سُمِّيتَ سَيْفَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ فِينَا نَبِيَّهُ ص، فَدَعَانَا فَنَفَرْنَا عَنْهُ وَنَأْيَنَا عَنْهُ جَمِيعًا ثُمَّ إِنَّ بَعْضَنَا صَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ، وَبَعْضَنَا بَاعَدَهُ وَكَذَّبَهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ وَبَاعَدَهُ وَقَاتَلَهُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ بِقُلُوبِنَا وَنَوَاصِينَا، فَهَدَانَا بِهِ، فَتَابَعْنَاهُ [فَقَالَ: أَنْتَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ!] وَدَعَا لِي بِالنَّصْرِ، فَسُمِّيتُ سَيْفَ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَأَنَا مِنْ أَشَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ صَدَقْتَنِي، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ جرجه:
يا خالد، أخبرني الا م تَدْعُونِي؟ قَالَ: إِلَى شِهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَمَنْ لَمْ يُجِبْكُمْ؟
قَالَ: فَالْجِزْيَةُ وَنَمْنَعُهُمْ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا، قَالَ: نُؤْذِنْهُ بِحَرْبٍ، ثُمَّ نُقَاتِلُهُ قَالَ: فَمَا مَنْزِلَةُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيكُمْ وَيُجِيبُكُمْ إِلَى هَذَا الأَمْرِ الْيَوْمَ؟
قَالَ: مَنْزِلَتُنَا وَاحِدَةٌ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا، شَرِيفُنَا وَوَضِيعُنَا، وَأَوَّلُنَا وَآخِرُنَا.
ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ جرجةُ: هَلْ لِمَنْ دَخَلَ فِيكُمُ الْيَوْمَ يَا خَالِدُ مِثْلُ مَا لَكُمْ مِنَ الأَجْرِ وَالذَّخْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَفْضَلُ، قَالَ: وَكَيْفَ يُسَاوِيكُمْ وَقَدْ سَبَقْتُمُوهُ؟
قَالَ: إِنَّا دَخَلْنَا فِي هَذَا الأَمْرِ، وَبَايَعْنَا نَبِيَّنَا ص وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، تَأْتِيهِ أَخْبَارُ السَّمَاءِ ويخبرنا بِالْكُتُبِ، وَيُرِينَا الآيَاتِ، وَحَقٌّ لِمَنْ رَأَى مَا رَأَيْنَا، وَسَمِعَ مَا سَمِعْنَا، أَنْ يُسْلِمَ وَيُبَايِعَ، وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْا مَا رَأَيْنَا، وَلَمْ تَسْمَعُوا مَا سَمِعْنَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْحُجَجِ، فَمَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الأَمْرِ مِنْكُمْ بِحَقِيقَةٍ وَنِيَّةٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنَّا قَالَ جرجةُ: بِاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتَنِي وَلَمْ تُخَادِعْنِي وَلَمْ تَأْلَفْنِي! قَالَ: بِاللَّهِ، لَقَدْ صَدَقْتُكَ وَمَا بِي إِلَيْكَ وَلا إِلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ وَحْشَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَوَلِيُّ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فَقَالَ: صَدَقْتَنِي، وَقَلَبَ التُّرْسَ وَمَالَ مَعَ خَالِدٍ، وَقَالَ: عَلِّمْنِي الإِسْلامَ، فَمَالَ بِهِ خَالِدٌ إِلَى فُسْطَاطِهِ، فَشَنَّ عَلَيْهِ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَحَمَلَتِ الرُّومُ مَعَ

(3/399)


انْقِلابِهِ إِلَى خَالِدٍ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا مِنْهُ حَمْلَةٌ، فَأَزَالُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلا الْمُحَامِيَةَ، عَلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَرَكِبَ خَالِدٌ وَمَعَهُ جرجةُ وَالرُّومُ خِلالَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَنَادَى النَّاسُ، فَثَابُوا، وَتَرَاجَعَتِ الرُّومُ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَزَحَفَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى تَصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ، فَضَرَبَ فِيهِمْ خَالِدٌ وَجرجةُ مِنْ لَدُنِ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى جُنُوحِ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ، ثُمَّ أُصِيبَ جرجةُ وَلَمْ يُصَلِّ صَلاةً سَجَدَ فِيهَا إِلا الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا، وَصَلَّى النَّاسُ الأُولَى وَالْعَصْرَ إِيمَاءً، وَتَضَعْضَعَ الرُّومُ، وَنَهَدَ خَالِدٌ بِالْقَلْبِ حَتَّى كَانَ بَيْنَ خَيْلِهِمْ وَرِجْلِهِمْ، وَكَانَ مُقَاتِلُهُمْ وَاسِعَ الْمَطْرَدِ، ضَيِّقَ الْمَهْرَبِ، فَلَمَّا وَجَدَتْ خَيْلُهُمْ مَذْهَبًا ذَهَبَتْ وَتَرَكُوا رِجْلَهُمْ فِي مَصَافِّهِمْ، وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ تَشْتَدُّ بِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَخَّرَ النَّاسُ الصَّلاةَ حَتَّى صَلُّوا بَعْدَ الْفَتْحِ.
وَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ خَيْلَ الرُّومِ تَوَجَّهَتْ لِلْهَرَبِ، أَفْرَجُوا لَهَا، وَلَمْ يُحَرِّجُوهَا، فَذَهَبَتْ فَتَفَرَّقَتْ فِي الْبِلادِ، وَأَقْبَلَ خَالِدٌ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى الرَّجْلِ فَفَضُّوهُمْ، فَكَأَنَّمَا هُدِمَ بِهِمْ حَائِطٌ، فَاقْتَحِمُوا فِي خَنْدَقِهِمْ، فَاقْتَحَمَهُ عَلَيْهِمْ فَعَمَدُوا إِلَى الْوَاقُوصَةِ، حَتَّى هَوَى فِيهَا الْمُقْتَرِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ من المقترنين للقتال هوى به من خشعت نَفْسُهُ، فَيَهْوِي الْوَاحِدُ بِالْعَشْرَةِ لا يُطِيقُونَهُ، كُلَّمَا هَوَى اثْنَانِ كَانَتِ الْبَقِيَّةُ أَضْعَفَ، فَتَهَافَتَ فِي الْوَاقُوصَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ أَلْفٍ، ثَمَانُونَ أَلْفَ مُقْتَرِنٍ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ مُطْلَقٍ، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنَ الْخَيْلِ وَالرَّجْلِ، فَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ يومئذ ألفا وخمسمائة، وَتَجَلَّلَ الْفَيْقَارُ وَأَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ بَرَانِسَهُمْ، ثُمَّ جَلَسُوا وَقَالُوا: لا نُحِبُّ أَنْ نَرَى يَوْمَ السُّوءِ إِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَرَى يَوْمَ السُّرُورِ، وَإِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَمْنَعَ النَّصْرَانِيَّةَ، فَأُصِيبُوا فِي تَزَمُّلِهِمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان، عن خالد

(3/400)


وعباده، قالا: اصبح خالد من تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَهُوَ فِي رِوَاقِ تذارقَ، لَمَّا دَخَلَ الْخَنْدَقَ نَزَلَهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَيْلُهُ، وَقَاتَلَ النَّاسُ حَتَّى أَصْبَحُوا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْغَسَّانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَئِذٍ: قَاتَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَأَفِرُّ مِنْكُمُ الْيَوْمَ! ثُمَّ نَادَى: مَنْ يُبَايِعُ عَلَى الْمَوْتِ؟ فَبَايَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ في أربعمائة مِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ وَفِرْسَانِهِمْ، فَقَاتَلُوا قُدَّامَ فُسْطَاطِ خَالِدٍ حَتَّى أَثْبَتُوا جَمِيعًا جِرَاحًا، وَقُتِلُوا إِلا مَنْ بَرَأَ، وَمِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ قَالَ: واتى خالد بعد ما أَصْبَحُوا بِعِكْرِمَةَ جَرِيحًا فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَبِعَمْرِو بْنِ عِكْرِمَةَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاقِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمَا، وَيَقْطُرُ فِي حُلُوقِهِمَا الْمَاءَ، وَيَقُولُ:
كَلا، زَعَمَ ابْنُ الْحَنْتَمَةِ أَنَّا لا نَسْتَشْهِدُ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ- وَكَانَ شَهِدَ الْيَرْمُوكَ هُوَ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ- أَنَّ النِّسَاءَ قَاتَلْنَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فِي جَوْلَةٍ، فَخَرَجَتْ جُوَيْرِيَةُ ابْنَةُ أَبِي سُفْيَانَ فِي جَوْلَةٍ، وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَأُصِيبَتْ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَخْرَجَ السَّهْمَ مِنْ عينه وابو حَثْمَةَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بْن يزيد بْن أرطاة ابن جهيش، قال: كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية، فخرج يومئذ رجل من الروم، فقال: من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقال للرومي: خذها وأنا الغلام الإيادي، فقال:
الرومي: أكثر اللَّه في قومي مثلك! اما والله لو أنك من قومي لآزرت الروم، فأما الآن فلا اعينهم!

(3/401)


كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وخالد:
وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك عكرمة، وعمرو بْن عكرمة، وسلمة بْن هشام، وعمرو بْن سعيد، وأبان بْن سعيد- وأثبت خالد بْن سعيد فلا يدرى أين مات بعد- وجندب بن عمرو ابن حممة الدوسي، والطفيل بْن عمرو، وضرار بْن الأزور أثبت فبقي وطليب بْن عمير بْن وهب من بني عبد بْن قصي، وهبار بن سفيان، وهشام بن العاصي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيَ خَالِدًا مَقْدَمَهُ الشَّامِ مُغِيثًا لأَهْلِ الْيَرْمُوكِ رَجُلٌ مِنْ رُومِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ، إِنَّ الرُّومَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، مِائَتَيْ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى حاميتك فافعل، فقال خالد:
أبا الروم تُخَوِّفُنِي! وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الأَشْقَرَ بَرَاءٌ مِنْ تَوْجِيهٍ، وَأَنَّهُمْ أَضْعَفُوا ضَعْفَهُمْ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُسْتَنِيرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ جُهَيْشٍ، قَالَ: قَالَ خَالِدٌ يَوْمَئِذٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْمَوْتِ وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عُمَرَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَلَّى عُمَرَ، وَكَانَ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ أَلْزَمَنِي حُبَّهُ! كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحه وعمرو ابن ميمون، قالوا: وقد كان هرقل حج قبل مهزم خالد بْن سعيد، فحج بيت المقدس، فبينا هو مقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم، وقال: أرى من الرأي الا تقاتلوا هؤلاء القوم، وان نصالحوهم، فو الله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام، وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم، خير لكم من أن يبلغوكم على الشام، ويشاركوكم في جبال الروم، فنخر أخوه ونخر ختنه، وتصدع عنه من كان حوله، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه، وأمر الأمراء ووجه إلى كل جند

(3/402)


جندا فلما اجتمع المسلمون، أمرهم بمنزل واحد واسع جامع حصين، فنزلوا بالواقوصة، وخرج فنزل حمص، فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم، وعمد إلى بصرى وافتتحها وأباح عذراء، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم! فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم، إن دينهم دين جديد يجدد لهم ثبارهم، فلا يقوم لهم أحد حتى يبلى.
فقالوا: قاتل عن دينك ولا تجبن الناس، واقض الذي عليك، قال:
وأي شيء أطلب إلا توفير دينكم! ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعث إليهم المسلمون: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته، فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه فأذن لهم فأتاه أبو عبيدة ويزيد بْن أبي سفيان كالرسول، والحارث بْن هشام وضرار بْن الأزور وأبو جندل بْن سهيل، ومع أخي الملك يومئذ ثلاثون رواقا في عسكره وثلاثون سرادقا، كلها من ديباج، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير فابرز لنا فبرز إلى فرش ممهدة، وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم! هذا أول الذل، أما الشام فلا شأم، وويل للروم من المولود المشئوم! ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا، فكان القتال حتى جاء الفتح.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مطرح، عن القاسم، عن أبي أمامة وأبي عثمان، عن يزيد بْن سنان، عن رجال من أهل الشام ومن أشياخهم، قالوا: لما كان اليوم الذي تأمر فيه خالد، هزم اللَّه الروم مع الليل، وصعد المسلمون العقبة، وأصابوا ما في العسكر، وقتل اللَّه صناديدهم ورءوسهم وفرسانهم، وقتل اللَّه أخا هرقل، وأخذ التذارق، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص، فارتحل فجعل حمص بينه وبينهم، وأمر عليها أميرا وخلفه فيها، كما كان أمر على دمشق، وأتبع المسلمون الروم حين هزموهم خيولا يثفنونهم ولما صار إلى

(3/403)


أبي عبيدة الأمر بعد الهزيمة، نادى بالرحيل، وارتحل المسلمون بزحفهم حتى وضعوا عساكرهم بمرج الصفر قال أبو أمامة: فبعثت طليعة من مرج الصفر، معي فارسان، حتى دخلت الغوطة فجستها بين أبياتها وشجراتها، فقال أحد صاحبي: قد بلغت حيث أمرت فانصرف لا تهلكنا، فقلت:
قف مكانك حتى تصبح أو آتيك فسرت حتى دفعت إلى باب المدينة، وليس في الأرض أحد ظاهر، فنزعت لجام فرسي وعلقت عليها مخلاتها، وركزت رمحي، ثم وضعت رأسي فلم أشعر إلا بالمفتاح يحرك عند الباب ليفتح، فقمت فصليت الغداة، ثم ركبت فرسي، فحملت عليه، فطعنت البواب فقتلته، ثم انكفأت راجعا، وخرجوا يطلبوننى، فجعلوا يكفون عني مخافة أن يكون لي كمين، فدفعت إلى صاحبي الأدنى الذي أمرته أن يقف، فلما رأوه قالوا: هذا كمين انتهى إلى كمينه فانصرفوا وسرت أنا وصاحبي، حتى دفعنا إلى صاحبنا الثاني، فسرنا حتى انتهينا إلى المسلمين، وقد عزم أبو عبيدة ألا يبرح حتى يأتيه رأي عمر وأمره، فأتاه فرحلوا حتى نزلوا على دمشق، وخلف باليرموك بشير بْن كعب بْن أبي الحميري في خيل كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سعيد، قال: قال قباث: كنت في الوفد بفتح اليرموك، وقد أصبنا خيرا ونفلا كثيرا، فمر بنا الدليل على ماء رجل قد كنت اتبعته في الجاهلية حين أدركت وأنست من نفسي لأصيب منه، كنت دللت عليه، فأتيته فأخبرته، فقال: قد أصبت، فإذا ريبال من ريابلة العرب قد كان يأكل في اليوم عجز جزور بأدمها ومقدار ذلك من غير العجز ما يفضل عنه إلا ما يقوتني وكان يغير على الحي ويدعني قريبا، ويقول: إذا مر بك راجز يرتجز بكذا وكذا، فأنا ذلك، فشل معي فمكثت بذلك حتى أقطعني قطيعا من مال، وأتيت به أهلي، فهو أول مال أصبته.
ثم إني رأست قومي، وبلغت مبلغ رجال العرب، فلما مر بنا على ذلك الماء

(3/404)


عرفته، فسألت عن بيته فلم يعرفوه، وقالوا: هو حي، فأتيت ببنين استفادهم بعدي، فأخبرتهم خبري، فقالوا: اغد علينا غدا، فإنه أقرب ما يكون إلى ما تحب بالغداة، فغاديتهم فأدخلت عليه، فأخرج من خدره، فأجلس لي، فلم أزل أذكره حتى ذكر، وتسمع وجعل يطرب للحديث ويستطعمنيه، وطال مجلسنا وثقلنا على صبيانهم، ففرقوه ببعض ما كان يفرق منه ليدخل خدره، فوافق ذلك عقله، فقال: قد كنت وما أفزع! فقلت: أجل، فأعطيته ولم أدع أحدا من أهله إلا أصبته بمعروف ثم ارتحلت.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ:
قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ لِقُبَاثٍ: أَأَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ الله ص؟
قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْهُ، قَالَ: فَمَا أَبْعَدُ ذِكْرِكَ؟
قَالَ: خِثْيُ الْفِيلِ لِسَنَةٍ قَالَ: وَمَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُضَاعَةَ، إِنِّي لَمَّا أَدْرَكْتُ وَآنَسْتُ مِنْ نَفْسِي سَأَلْتُ عَنْ رَجُلٍ أَكُونُ مَعَهُ وَأُصِيبُ مِنْهُ، فَدُلِلْتُ عَلَيْهِ وَاقْتَصَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ سار القوم خرج مع يزيد ابن أَبِي سُفْيَانَ يُوصِيهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِي وَيَزِيدُ رَاكِبٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ وَصِيَّتِهِ قَالَ: أُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَأَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَمَضَى يَزِيدُ، فَأَخَذَ التبوكية ثُمَّ تَبِعَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ مَدَدًا لَهُمَا عَلَى ربع، فَسَلَكُوا ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نَزَلَ بِغمرِ الْعَرَبَاتِ، وَنَزَلَتِ الرُّومُ بِثَنِيَّةِ جِلَّقَ بِأَعْلَى فِلَسْطِينَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا، عَلَيْهِمْ تذارقُ أَخُو هِرَقْلَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَ الرُّومِ وَيَسْتَمِدُّهُ وَخَرَجَ خَالِدُ بن سعيد بن العاصي، وَهُوَ بِمَرْجِ الصّفرِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ يَسْتَمْطِرُ فِيهِ، فَتَعَاوَى عَلَيْهِ

(3/405)


أَعْلاجُ الرُّومِ، فَقَتَلُوهُ، وَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَ الرُّومِ وَيَسْتَمِدُّهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ، فَحَدَّثَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْتُ قَبْلُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَّهَ بَعْدَ خُرُوجِ يَزِيدَ بن ابى سفيان موجها إِلَى الشَّامِ بِأَيَّامٍ، شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ- قَالَ: وهو شرحبيل ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَاعِ بْنِ عَمْرِو، مِنْ كِنْدَةَ، وَيُقَالُ مِنَ الأَزْدِ- فَسَارَ فِي سَبْعَةِ آلافٍ، ثُمَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فِي سَبْعَةِ آلافٍ، فَنَزَلَ يَزِيدُ الْبَلْقَاءَ، وَنَزَلَ شُرَحْبِيلُ الأُرْدُنَّ- وَيُقَالُ بُصْرَى- وَنَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْجَابِيَةَ، ثُمَّ أَمَدَّهُمْ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَنَزَلَ بِغَمْرِ الْعَرَبَاتِ، ثُمَّ رَغَّبَ النَّاسَ فِي الْجِهَادِ، فَكَانُوا يَأْتُونَ الْمَدِينَةَ فَيُوَجِّهُهُمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الشَّامِ فَمُنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِيرُ مَعَ يَزِيدَ، يَصِيرُ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَنْ أَحَبُّوا.
قَالُوا: فَأَوَّلُ صُلْحٍ كَانَ بِالشَّامِ صُلْحُ مَآبٍ، وَهِيَ فُسْطَاطٌ لَيْسَتْ بِمَدِينَةٍ، مَرَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بِهِمْ فِي طَرِيقِهِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنَ الْبَلْقَاءِ، فَقَاتَلُوهُ، ثُمَّ سَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ وَاجْتَمَعَ الرُّومُ جَمْعًا بِالْعَرْبَةِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، فَفَضَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ.
قَالُوا: فَأَوَّلُ حَرْبٍ كَانَتْ بِالشَّامِ بَعْدَ سَرِيَّةِ أُسَامَةَ بِالْعَرْبَةِ ثُمَّ أَتَوُا الدَّاثِنَةَ- وَيُقَالُ الدَّاثِنَ- فَهَزَمَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَقَتَلَ بِطْرِيقًا مِنْهُمْ ثُمَّ كَانَتْ مَرْجَ الصُّفَّرِ، اسْتُشْهِدَ فِيهَا خَالِدُ بْنُ سعيد بن العاصي، أَتَاهُمْ أدرنجَارُ فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ وَهُمْ غَارُونَ، فَاسْتُشْهِدَ خَالِدٌ وَعِدَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقِيلَ إِنَّ الْمَقْتُولَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كان ابْنًا لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَإِنَّ خَالِدًا انْحَازَ حِينَ قُتِلَ ابْنُهُ، فَوَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَمِيرًا عَلَى الأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِالشَّامِ، ضَمَّهُمْ إِلَيْهِ، فَشَخَصَ خَالِدٌ مِنَ الْحِيرَةِ فِي رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ فِي ثمانمائه- ويقال في خمسمائة- وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُ عَدُوٌّ بِصَنْدُودَاءَ، فَظَفَرَ بِهِمْ، وَخَلَّفَ بِهَا ابْنَ حَرَامٍ الأَنْصَارِيَّ، وَلَقِيَ جَمْعًا بِالْمُصَيَّخِ وَالْحَصِيدِ، عَلَيْهِمْ

(3/406)


رَبِيعَةُ بْنُ بُجَيْرٍ التَّغْلِبِيُّ، فَهَزَمَهُمْ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَسَارَ فَفَوز مِنْ قُرَاقِرَ إِلَى سَوَى، فَأَغَارَ عَلَى أَهْلِ سَوَى، وَاكْتَسَحَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلَ حُرْقُوصَ ابن النُّعْمَانِ الْبَهْرَانِيَّ، ثُمَّ أَتَى أَرْكَ فَصَالَحُوهُ، وَأَتَى تَدْمُرَ فَتَحَصَّنُوا، ثُمَّ صَالَحُوهُ، ثُمَّ أَتَى الْقَرْيَتَيْنِ، فَقَاتَلَهُمْ فَظَفَرَ بِهِمْ وَغَنِمَ، وَأَتَى حُوَارِينَ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ وَسَبَى، وَأَتَى قَصَمَ فَصَالَحَهُ بَنُو مَشْجَعَةَ مِنْ قُضَاعَةَ، وَأَتَى مَرْجَ رَاهِطٍ، فَأَغَارَ عَلَى غَسَّانَ فِي يَوْمِ فِصْحِهِمْ، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَوَجَّهَ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ إِلَى الْغَوْطَةِ، فَأَتَوْا كَنِيسَةً فَسَبَوُا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَسَاقُوا الْعِيَالَ إِلَى خَالِدٍ.
قَالَ: فَوَافَى خالدا كتاب أبي بكر بالحيرة منصرفه من حجه: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أَنْ تَدُلَّ بِعَمَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ له المن، وهو ولي الجزاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بْن عطاء، عن الهيثم البكائي، قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولون: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل، ويسمون ما بينها وبين الفراض، ما يذكرون ما كان بعد، احتقارا لما كان بعد فيما كان قبل.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن ظفر بن دهي، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ،

(3/407)


وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْمُهَلَّبِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ الأَحْمَرِيِّ، قَالُوا: كَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ وَجَّهَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بن العاصي إِلَى الشَّامِ حَيْثُ وَجَّهَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَوْصَاهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَوْصَى بِهِ خالدا وان خالد ابن سَعِيدٍ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الشَّامِ وَلَمْ يَقْتَحِمْ، وَاسْتَجْلَبَ النَّاسَ فَعَزَّ، فَهَابَتْهُ الرُّومُ، فَأَحْجَمُوا عَنْهُ، فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ وَلَكِنْ تَوَرَّدَهَا فَاسْتَطْرَدَتْ لَهُ الرُّومُ، حَتَّى أَوْرَدُوهُ الصُّفَّرَ، ثُمَّ تَعَطَّفُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَمِنَ، فَوَافَقُوا ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ مُسْتَمْطِرًا، فَقَتَلُوهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَتَى الْخَبَرُ خَالِدًا، فَخَرَجَ هَارِبًا، حَتَّى يَأْتِيَ الْبَرَّ، فَيَنْزِلَ مَنْزِلا، وَاجْتَمَعَتِ الرُّومُ إِلَى الْيَرْمُوكِ، فَنَزَلُوا بِهِ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنُشْغِلَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ عَنْ تَوَرُّدِ بِلادَنَا بِخُيُولِهِ.
وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالَّذِي كَانَ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ الى عمرو ابن الْعَاصِ- وَكَانَ فِي بِلادِ قُضَاعَةَ- بِالسَّيْرِ إِلَى الْيَرْمُوكِ، فَفَعَلَ وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَيَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْغَارَةِ، وَأَلا تُوغِلُوا حَتَّى لا يَكُونُ وَرَاءَكُمْ أَحَدٌ مِنْ عَدُوِّكُمْ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ بِفَتْحٍ مِنْ فُتُوحِ خَالِدٍ، فَسَرَّحَهُ نَحْوَ الشَّامِ فِي جُنْدٍ، وَسَمَّى لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ كَوْرَةً مِنْ كُوَرِ الشَّامِ، فَتَوَافَوْا بِالْيَرْمُوكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الرُّومُ تَوَافِيَهُمْ، نَدِمُوا عَلَى الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُمْ، وَنَسُوا الَّذِي كَانُوا يَتَوَعَّدُونَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَاهْتَمُّوا وَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، وَأَشْجَوْهُمْ وَشَجَوْا بِهِمْ، ثُمَّ نَزَلُوا الْوَاقُوصَةَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأُنْسِيَنَّ الرُّومَ وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي فَوْقَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ عَلَى الْعِرَاقِ فِي نِصْفِ النَّاسِ، فَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الشَّامَ، فَارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ بِالْعِرَاقِ وَبَعَثَ خَالِدٌ بِالأَخْمَاسِ إِلا مَا نُفِلَ مِنْهَا مَعَ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ وَبِمَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ.
وَدَعَا خَالِدٌ الأَدِلَّةَ، فَارْتَحَلَ مِنَ الْحِيرَةِ سَائِرًا إِلَى دُومَةَ، ثُمَّ طَعَنَ فِي الْبَرِّ إِلَى قُرَاقِرَ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ لِي بِطَرِيقٍ أَخْرُجُ فِيهِ مِنْ وَرَاءِ جُمُوعِ الرُّومِ!

(3/408)


فَإِنِّي إِنِ اسْتَقْبَلْتُهَا حَبَسَتْنِي عَنْ غِيَاثِ الْمُسْلِمِينَ، فَكُلُّهُمْ قَالَ: لا نَعْرِفُ إِلا طَرِيقًا لا يَحْمِلُ الْجُيُوشَ، يَأْخُذُهُ الْفَذُّ الرَّاكِبُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُغَرِّرَ بِالْمُسْلِمِينَ فَعَزَمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ إِلا رَافِعُ بْنُ عُمَيْرَةَ عَلَى تَهَيُّبٍ شَدِيدٍ، فَقَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: لا يَخْتَلِفَنَّ هَدْيُكُمْ، وَلا يَضْعُفَنَّ يَقِينُكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَعُونَةَ تَأْتِي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وَإِنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتَرِثَ بِشَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ مَعَ مَعُونَةِ اللَّهِ لَهُ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ، فَشَأْنُكَ فَطَابَقُوهُ ونَوَوْا وَاحَتَسَبُوا، وَاشْتَهَوْا مِثْلَ الَّذِي اشْتَهَى خَالِدٌ، فَأَمَرَهُمْ خَالِدٌ، فَتَرَوَّوْا لِلشفةِ لِخَمْسٍ، وَأَمَرَ صَاحِبَ كُلِّ خَيْلٍ بِقَدْرِ مَا يَسْقِيهَا، فَظَمَأَ كُلُّ قَائِدٍ مِنَ الإِبِلِ الشرفِ الْجَلالِ مَا يَكْتَفِي بِهِ، ثُمَّ سَقَوْهَا الْعَلَلَ بَعْدَ النَّهَلِ، ثُمَّ صَرُّوا آذَانَ الإِبِلِ وَكَعَمُوهَا، وَخَلَّوْا أَدْبَارَهَا، ثُمَّ رَكِبُوا مِنْ قُرَاقِرَ مُفَوِّزِينَ إِلَى سَوَى- وَهِيَ عَلَى جَانِبِهَا الآخَرِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ- فَلَمَّا سَارُوا يَوْمًا افْتَظُّوا لِكُلِّ عِدَّةٍ مِنَ الْخَيْلِ عَشْرًا مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ فَمَزَجُوا مَا فِي كُرُوشِهَا بِمَا كَانَ مِنَ الأَلْبَانِ، ثُمَّ سَقَوُا الْخَيْلَ، وَشَرِبُوا للشفةِ جَرْعًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز ابن ثعلبة، عمن حدثه من بكر بْن وائل، أن محرز بْن حريش المحاربي قال لخالد: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أمه تفض إلى سوى، فكان أدلهم.
قال أبو جعفر الطبري: وشاركهم مُحَمَّد وطلحة، قالوا: لما نزل بسوى وخشي أن يفضحهم حر الشمس، نادى خالد رافعا: ما عندك؟ قال:

(3/409)


خير، ادركتم الري، وأنتم على الماء! وشجعهم وهو متحير أرمد، وقال:
أيها الناس، انظروا علمين كأنهما ثديان فأتوا عليهما وقالوا: علمان، فقام عليهما فقال: اضربوا يمنة ويسرة- لعوسجة كقعدة الرجل- فوجدوا جذمها، فقالوا: جذم ولا نرى شجرة، فقال: احتفروا حيث شئتم، فاستثاروا أوشالا وأحساء رواء، فقال رافع: أيها الأمير، والله ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته الا مره وانا غلام مع ابى.
فاستعد واثم أغاروا والقوم لا يرون أن جيشا يقطع إليهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ظُفَرِ بْنِ دَهْيٍ، قَالَ: فَأَغَارَ بِنَا خَالِدٌ مِنَ سَوَى عَلَى مُصَيَّخِ بهمراء بِالْقَصْوَانِيِّ- مَاءٌ مِنَ الْمِيَاهِ- فَصَبَحَ الْمُصَيَّخُ وَالنَّمِرُ، وَإِنَّهُمْ لَغَارُونَ، وَإِنَّ رُفْقَةً لَتَشْرَبُ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ، وَسَاقِيهِمْ يُغَنِّيهِمْ، وَيَقُولُ:
أَلا صَبِّحَانِي قَبْلَ جَيْشِ أَبِي بَكْرٍ.
فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَاخْتَلَطَ دَمُهُ بِخَمْرِهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَ غَسَّانَ خُرُوجُ خَالِدٍ عَلَى سَوَى وَانْتِسَافُهَا، وَغَارَتُهُ عَلَى مُصَيَّخِ بَهَرَاءَ وَانْتِسَافُهَا، فَاجْتَمَعُوا بِمَرْجِ رَاهِطٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ خَالِدًا، وَقَدْ خَلَّفَ ثُغُورَ الرُّومِ وَجُنُودَهَا مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ، فَصَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَرْمُوكَ، صَمَدَ لهم، فخرج من سوى بعد ما رَجَعَ إِلَيْهَا بِسَبْيِ بَهْرَاءَ، فَنَزَلَ الرُّمَّانَتَيْنِ- عَلَمَيْنِ عَلَى الطَّرِيقِ- ثُمَّ نَزَلَ الْكَثَبَ، حَتَّى صَارَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ مَرْجِ الصُّفَّرِ، فَلَقِيَ عَلَيْهِ غَسَّانَ وَعَلَيْهِمُ الْحَارِثُ بْنُ الأَيْهَمِ، فَانْتَسَفَ عَسْكَرَهُمْ وَعِيَالاتِهِمْ وَنَزَلَ بِالْمَرْجِ أَيَّامًا، وَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالأَخْمَاسِ مَعَ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَرْجِ حَتَّى يَنْزِلَ قَنَاةَ بُصْرَى، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ افْتُتِحَتْ بِالشَّامِ عَلَى يدي خالد

(3/410)


فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ الْعِرَاقِ، وَخَرَجَ مِنْهَا، فَوَافَى الْمُسْلِمِينَ بِالْوَاقُوصَةِ، فَنَازَلَهُمْ بِهَا فِي تِسْعَةِ آلافٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: وَلَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ مِنْ حَجِّهِ وَافَاهُ كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ بِالْخُرُوجِ فِي شَطْرِ النَّاسِ، وَأَنْ يُخَلِّفَ عَلَى الشَّطْرِ الْبَاقِي الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: لا تَأْخُذَنَّ نَجْدًا إِلا خَلَّفْتَ لَهُ نَجْدًا، فَإِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَارْدُدْهُمْ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَنْتَ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَنْتَ عَلَى عَمَلِكَ، وَأَحْضَرَ خَالِدٌ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَأْثَرَ بِهِمْ عَلَى الْمُثَنَّى، وَتَرَكَ لِلْمُثَنَّى أَعْدَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صُحْبَةٌ، ثُمَّ نَظَرَ فِيمَنْ بَقِيَ، فَاخْتَلَجَ من كان قدم على النبي ص وَافِدًا أَوْ غَيْرِ وَافِدٍ، وَتَرَكَ لِلْمُثَنَّى أَعْدَادَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ، ثُمَّ قَسَّمَ الْجُنْدَ نِصْفَيْنِ، فَقَالَ الْمُثَنَّى: وَاللَّهِ لا أُقِيمُ إِلا عَلَى إِنْفَاذِ أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ كُلِّهِ فِي اسْتِصْحَابِ نِصْفِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِ النِّصْفِ، وَبِاللَّهِ مَا أَرْجُو النَّصْرَ إِلا بِهِمْ، فَأَنَّى تُعْرِينِي مِنْهُمْ! فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدٌ بَعْدَ مَا تَلَكَّأَ عَلَيْهِ أَعَاضَهُ مِنْهُمْ حَتَّى رَضِيَ، وَكَانَ فِيمَنْ أَعَاضَهُ مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ الْعِجْلِيُّ، وَبَشِيرُ بْنُ الْخَصَّاصِيَّةِ وَالْحَارِثُ بْنُ حَسَّانٍ الذُّهْلِيَّانِ، وَمَعْبَدُ بن أُمِّ مَعْبَدٍ الأَسْلَمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى الأَسْلَمِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ بِلالٍ الْمُزَنِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ، حَتَّى إِذَا رَضِيَ الْمُثَنَّى وَأَخَذَ حَاجَتَهُ، انْجَذَبَ خَالِدٌ فَمَضَى لِوَجْهِهِ وَشَيَّعَهُ الْمُثَنَّى إِلَى قُرَاقِرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحِيرَةِ فِي الْمُحَرَّمِ، فَأَقَامَ فِي سُلْطَانِهِ، وَوَضَعَ فِي الْمَسْلَحَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا عَلَى السَّيْبِ أَخَاهُ، وَمَكَانَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ عُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ، وَمَكَانَ ضِرَارِ بْنِ الأَزْوَرِ مَسْعُودًا أَخَاهُ الآخَرَ، وَسَدَّ أَمَاكِنَ كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الأُمَرَاءِ بِرِجَالٍ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْغِنَاءِ، وَوَضَعَ مَذْعُورَ بْنَ عَدِيٍّ فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَمَاكِنِ، وَاسْتَقَامَ أَهْلُ فَارِسٍ- عَلَى رَأْسِ سَنَةٍ مِنْ مَقْدَمِ خَالِدٍ الْحِيرَةِ، بَعْدَ خُرُوجِ خَالِدٍ بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ في سنه ثلاث عشره- على شهر براز بْنِ أردشيرَ بْنِ شَهْرَيَارِ مِمَّنْ يُنَاسَبُ إِلَى كِسْرَى، ثُمَّ إِلَى سَابُورَ فَوَجَّهَ إِلَى الْمُثَنَّى جُنْدًا عَظِيمًا عَلَيْهِمْ هُرْمُزُ جَاذُوَيْهِ

(3/411)


فِي عَشَرَةِ آلافٍ، وَمَعَهُ فِيلٌ، وَكَتَبَتِ الْمَسَالِحُ إِلَى الْمُثَنَّى بِإِقْبَالِهِ، فَخَرَجَ الْمُثَنَّى مِنَ الْحِيرَةِ نَحْوَهُ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْمَسَالِحَ، وَجَعَلَ عَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ الْمُعَنَّى وَمَسْعُودًا ابْنَيْ حَارِثَةَ، وَأَقَامَ لَهُ بِبَابِلَ، واقبل هرمز جاذويه، وعلى مجنبتيه الكوكبد والحركبذ وكتب الى المثنى: من شهر براز إِلَى الْمُثَنَّى، إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ جُنْدًا من وخش أَهْلِ فَارِسَ، إِنَّمَا هُمْ رُعَاةُ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَسْتُ أُقَاتِلُكَ إِلا بِهِمْ فَأَجَابَهُ الْمُثَنَّى: مِنَ المثنى الى شهر براز، إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ:
إِمَّا بَاغٍ فَذَلِكَ شَرٌّ لَكَ وَخَيْرٌ لَنَا، وَإِمَّا كَاذِبٌ فَأَعْظَمُ الْكَذَّابِينَ عُقُوبَةً وَفَضِيحَةً عِنْدَ اللَّهِ فِي النَّاسِ الْمُلُوكُ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّنَا عَلَيْهِ الرَّأْيُ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِمْ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَكُمْ إِلَى رُعَاةِ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ.
فَجَزِعَ أَهْلُ فارس من كتابه، وقالوا: انما اتى شهر براز مِنْ شُؤمِ مَوْلِدِهِ وَلُؤْمِ مَنْشَئِهِ- وَكَانَ يَسْكُنُ مَيْسَانَ- وَبَعْضُ الْبُلْدَانِ شَيْنٌ عَلَى مَنْ يَسْكُنُهُ.
وَقَالُوا لَهُ: جَرَّأْتَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا بِالَّذِي كَتَبْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَاتَبْتَ أَحَدًا فَاسْتَشِرْ فَالْتَقَوْا بِبَابِلَ، فَاقْتَتَلُوا بِعَدْوَةِ الصَّرَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الطَّرِيقِ الأَوَّلِ قِتَالا شَدِيدًا ثُمَّ إِنَّ الْمُثَنَّى وَنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اعْتَوَرُوا الْفِيلَ- وَقَدْ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصُّفُوفِ وَالْكَرَادِيسِ- فَأَصَابُوا مَقْتَلَهُ، فَقَتَلُوهُ وَهَزَمُوا أَهْلَ فَارِسَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، حَتَّى جَازُوا بِهِمْ مَسَالِحَهُمْ، فَأَقَامُوا فِيهَا، وَتَتَبَّعَ الطَّلَبُ الْفَالَةَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَدَائِنِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ السَّعْدِيُّ، وَكَانَ عَبْدَةُ قَدْ هَاجَرَ لِمُهَاجِرَةٍ حَلِيلَةٍ لَهُ حَتَّى شَهِدَ وَقْعَةَ بَابِلَ، فَلَمَّا آيَسَتْهُ رَجَعَ إِلَى الْبَادِيَةِ، فَقَالَ:
هَلْ حَبْلُ خَوْلَةَ بَعْدَ الْبَيْنِ مَوْصُولُ ... أَمْ أَنْتَ عَنْهَا بَعِيدُ الدَّارِ مَشْغُولُ!
وَلِلأَحِبَّةِ أَيَّامٌ تَذَكَّرُهَا ... وَللِنَّوَى قَبْلَ يَوْمِ الْبَيْنِ تَأْوِيلُ

(3/412)


حَلَّتْ خُوَيْلَةُ فِي حَيٍّ عَهِدْتُهُمُ ... دُونَ الْمَدَائِنِ فِيهَا الدِّيكُ وَالْفِيلُ
يُقَارِعُونَ رُءُوسَ الْعُجْمِ ضَاحِيَةً ... مِنْهُمْ فَوَارِسُ، لا عُزْلٌ وَلا مِيلُ
الْقَصِيدَةَ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يُعَدِّدُ بُيُوتَاتِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَذَكَرَ الْمُثَنَّى وَقَتْلَهُ الْفِيلَ:
وَبَيْتُ الْمُثَنَّى قَاتِلِ الْفِيلِ عَنْوَةً ... بِبَابِلَ إِذْ فِي فَارِسٍ مُلْكُ بابل
ومات شهر براز مُنْهَزِمٌ هرمزُ جَاذُوَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ فَارِسَ، وَبَقِيَ مَا دُونَ دِجْلَةَ وبُرْسَ مِنَ السَّوَادِ فِي يَدَيِ الْمُثَنَّى وَالْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ اجتمعوا بعد شهر براز عَلَى دختَ زنانَ ابْنَةِ كِسْرَى، فَلَمْ يَنْفُذْ لَهَا أَمْرٌ فَخُلِعَتْ.
وَمُلِّكَ سابورُ بْنُ شهر برازَ قَالُوا: وَلَمَّا مَلَكَ سَابورُ بْنُ شهر برازَ قَامَ بِأَمْرِهِ الْفرخزاذُ بْنُ الْبندوانِ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ آزرميدختَ ابْنَةَ كِسْرَى، فَفَعَلَ، فَغَضَبَتْ من ذلك، وقالت: يا بن عم، اتزوجني عبدى! قال: استحيى مِنْ هَذَا الْكَلامِ وَلا تُعِيدِيهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهُ زَوْجُكِ، فَبَعَثَتْ إِلَى سياوخشَ الرَّازِيِّ- وَكَانَ مِنْ فُتَّاكِ الأَعَاجِمِ- فَشَكَتْ إِلَيْهِ الَّذِي تَخَافُ، فَقَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتِ كَارِهَةً لِهَذَا فَلا تُعَاوِدِيهِ فِيهِ، وَأَرْسِلِي إِلَيْهِ وَقُولِي لَهُ: فَلْيَقُلْ لَهُ فَلْيَأْتِكِ، فَأَنَا أُكْفِيَكِهِ فَفَعَلَتْ وَفَعَلَ، وَاسْتَعَدَّ سياوخشُ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْعُرْسِ أَقْبَلَ الْفرخزاذُ حَتَّى دَخَلَ، فَثَارَ بِهِ سياوخشُ فَقَتَلَهُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَهَدَ بِهَا مَعَهُ إِلَى سَابُورَ، فَحَضَرَتْهُ ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَمَلَكَتْ آزرميدختُ بِنْتُ كِسْرَى، وَتَشَاغَلُوا بِذَلِكَ، وَأَبْطَأَ خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَخَلَّفَ الْمُثَنَّى عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَشِيرَ بْنَ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَوَضَعَ مَكَانَهُ فِي الْمَسَالِحِ سَعِيدَ بْنَ مُرَّةَ الْعِجْلِيَّ، وَخَرَجَ الْمُثَنَّى نَحْوَ أَبِي بَكْرٍ لِيُخْبِرَهُ خَبَرَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلِيَسْتَأْذِنَهُ فِي الاسْتِعَانَةِ بِمَنْ قَدْ ظَهَرَتْ

(3/413)


تَوْبَتُهُ وَنَدَمُهُ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ مِمَّنْ يَسْتَطْعِمُهُ الْغَزْوُ، وَلِيُخْبِرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُخَلِّفْ أَحَدًا أَنْشَطَ إِلَى قِتَالِ فَارِسَ وَحَرْبِهَا وَمَعُونَةِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَرِيضٌ، وَقَدْ كَانَ مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ مَخْرَجِ خَالِدٍ إِلَى الشَّامِ- مَرْضَتَهَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا- بِأَشْهُرٍ، فَقَدِمَ الْمُثَنَّى وَقَدْ أُشْفِيَ، وَعَقَدَ لِعُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِعُمُرَ، فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ: اسْمَعْ يَا عُمَرُ مَا أَقُولُ لَكَ، ثُمَّ اعْمَلْ بِهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَمُوتَ مِنْ يَوْمِي هذا- وذلك يوم الاثنين- فان انامت فَلا تُمْسِيَنَّ حَتَّى تَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَإِنْ تَأَخَّرْتُ إِلَى اللَّيْلِ فَلا تُصْبِحَنَّ حَتَّى تَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْمُثَنَّى، وَلا تَشْغِلَنَّكُمْ مُصِيبَةٌ وَإِنْ عَظُمَتْ عَنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، وَوَصِيَّةِ رَبِّكُمْ، وقد رأيتني متوفى رسول الله ص وَمَا صَنَعْتُ، وَلَمْ يُصَبِ الْخَلْقُ بِمِثْلِهِ، وَبِاللَّهِ لو انى انى عن امر رَسُولِهِ لَخَذَلَنَا وَلَعَاقَبَنَا، فَاضْطَرَمَتِ الْمَدِينَةُ نَارًا وَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى أُمَرَاءِ الشَّامِ فَارْدُدْ أَصْحَابَ خَالِدٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُهُ وَوُلاةُ أَمْرِهِ وحده واهل الضراوة منهم والجرأة عَلَيْهِمْ.
وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ اللَّيْلِ، فَدَفَنَهُ عُمَرُ لَيْلا، وَصَلَّى عَلَيْهِ فِي المسجد، وندب الناس مع المثنى بعد ما سَوِيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ عُمَرُ:
كَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسُوءُنِي أَنْ أُؤَمِّرَ خَالِدًا عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ، حِينَ أَمَرَنِي بِصَرْفِ أَصْحَابِي، وَتَرْكِ ذِكْرِهِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِلَى آزرميدختَ انْتَهَى شَأْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَحَد شِقَّيِ السَّوَادِ فِي سُلْطَانِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَتَشَاغَلَ أَهْلُ فَارِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَنْ إِزَالَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ السَّوَادِ، فِيمَا بَيْنَ مُلْكِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى قِيَامِ عُمَرَ وَرُجُوعِ الْمُثَنَّى مَعَ أَبِي عُبَيْدٍ إِلَى الْعِرَاقِ، وَالْجُمْهُورِ مِنْ جُنْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْحِيرَةِ، وَالْمَسَالِحِ بِالسَّيْبِ، وَالْغَارَاتُ تَنْتَهِي بِهِمْ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَدِجْلَةُ حِجَازٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ.
فَهَذَا حَدِيثُ الْعِرَاقِ فِي إِمَارَةِ أَبِي بكر من مبتدئه الى منتهاه

(3/414)


[ذكر وقعة أجنادين]
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَمُدَّ أَهْلَ الشَّامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَيَخْرُجُ فِيهِمْ، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَى ضَعَفَةِ النَّاسِ رَجُلا مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَتَى خَالِدًا كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ، قَالَ خَالِدٌ: هَذا عَمَلُ الاعيسر بن أم شمله- يعنى عمر ابن الْخَطَّابِ- حَسَدَنِي أَنْ يَكُونَ فَتْحُ الْعِرَاقِ عَلَى يَدِي فَسَارَ خَالِدٌ بِأَهْلِ الْقُوَّةِ مِنَ النَّاسِ وَرَدَّ الضُّعَفَاءَ وَالنِّسَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ، مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ، وَاسْتَخْلَفَ خَالِدٌ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِالْعِرَاقِ مِنْ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِمُ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيَّ ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى عَيْنِ التَّمْرِ، فَأَغَارَ عَلَى أَهْلِهَا، فَأَصَابَ مِنْهُمْ، وَرَابَطَ حِصْنًا بِهَا فِيهِ مُقَاتِلَةٌ كَانَ كِسْرَى وَضَعَهُمْ فِيهِ حَتَّى اسْتَنْزَلَهُمْ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَسَبَى مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ وَمِنْ أَبْنَاءِ تِلْكَ الْمُرَابِطَةِ سَبَايَا كَثِيرَةٍ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ مِنْ تِلْكَ السَّبَايَا أَبُو عَمْرَةَ مَوْلَى شَبَّانَ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الأَعْلَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَوْلَى الْمُعَلَّى، مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى زَهْرَةَ، وَخَيْرٌ مَوْلَى أَبِي دَاوُدَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَيَسَارٌ وَهُوَ جَدُّ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَفْلَحُ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ أَحَدُ بنى مالك بن النجار، وحمران ابن أَبَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَقَتَلَ خَالِدُ بن الوليد هلال بن عقه ابن بِشْرٍ النَّمِرِيَّ وَصَلَبَهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، ثُمَّ أَرَادَ السَّيْرَ مُفَوِّزًا مِنْ قُرَاقِرَ- وَهُوَ مَاءٌ لِكَلْبٍ إِلَى سَوَى، وَهُوَ مَاءٌ لِبَهْرَاءَ بَيْنَهُمَا خَمْسُ لَيَالٍ- فَلَمْ يَهْتَدِ خَالِدٌ الطَّرِيقَ، فَالْتَمَسَ دَلِيلا، فَدُلَّ عَلَى رَافِعِ بْنِ عُمَيْرَةَ الطَّائِيِّ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: انْطَلِقْ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذَلِكَ بِالْخَيْلِ وَالأَثْقَالِ، وَاللَّهِ إِنَّ الرَّاكِبَ الْمُفْرَدَ لَيَخَافَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَمَا يَسْلُكُهَا إِلا مُغَرِّرًا، إِنَّهَا لَخَمْسُ لَيَالٍ جِيَادٍ لا يُصَابُ فِيهَا مَاءٌ مَعَ مَضَلَّتِهَا، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: وَيْحَكَ! إِنَّهُ وَاللَّهِ إِنَّ لِي بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ قَدْ أَتَتْنِي مِنَ الأَمِيرِ عَزْمَةٌ بِذَلِكَ، فَمُرْ بِأَمْرِكَ.
قَالَ: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْمَاءِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَصُرَّ أُذُنَ نَاقَتِهِ عَلَى مَاءٍ فَلْيَفْعَلْ،

(3/415)


فَإِنَّهَا الْمَهَالِكُ إِلا مَا دَفَعَ اللَّهُ، ابْغِنِي عشرين جزورا عظاما سمانا مسان.
فَأَتَاهُ بِهِنَّ خَالِدٌ، فَعَمَدَ إِلَيْهِنَّ رَافِعٌ فَظَمَّأَهُنَّ، حَتَّى إِذَا أَجْهَدَهُنَّ عَطَشًا أَوْرَدَهُنَّ فَشَرِبْنَ حَتَّى إِذَا تَمَلأَنَّ عَمَدَ إِلَيْهِنَّ، فَقَطَعَ مَشَافِرَهُنَّ، ثُمَّ كَعَمَهُنَّ لِئَلا يَجْتَرِرْنَ، ثُمَّ أَخْلَى أَدْبَارَهُنَّ.
ثُمَّ قَالَ لِخَالِدٍ: سِرْ، فَسَارَ خَالِدٌ مَعَهُ مُغِذًّا بِالْخُيُولِ وَالأَثْقَالِ، فَكُلَّمَا نَزَلَ مَنْزِلا افْتَظَّ أَرْبَعًا مِنْ تِلْكَ الشَّوَارِفِ، فَأَخَذَ مَا فِي أَكْرَاشِهَا، فَسَقَاهُ الْخَيْلَ، ثُمَّ شَرِبَ النَّاسُ مِمَّا حَمَلُوا مَعَهُمْ مِنَ الْمَاءِ، فَلَمَّا خَشِيَ خَالِدٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الْمَفَازَةِ قَالَ لِرَافِعِ بْنِ عُمَيْرَةَ وَهُوَ أَرْمَدُ: وَيْحَكَ يَا رَافِعُ! مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ أَدْرَكْتُ الرَّيَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْعَلَمَيْنِ، قَالَ لِلنَّاسِ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ شُجَيْرَةً مِنْ عَوْسَجٍ كَقَعْدَةِ الرَّجُلِ؟ قَالُوا: مَا نَرَاهَا.
قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! هَلَكْتُمْ وَاللَّهِ إِذًا وهلكت، لا ابالكم! انْظُرُوا، فَطَلَبُوا فَوَجَدُوهَا قَدْ قُطِعَتْ وَبَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ، فَلَمَّا رَآهَا الْمُسْلِمُونَ كَبَّرُوا وَكَبَّرَ رَافِعُ بْنُ عُمَيْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: احْفُرُوا فِي أَصْلِهَا، فَحَفَرُوا فَاسْتَخْرَجُوا عَيْنًا، فَشَرِبُوا حَتَّى رُوِيَ النَّاسُ، فَاتَّصَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِخَالِدٍ الْمَنَازِلُ، فَقَالَ رَافِعٌ:
وَاللَّهِ مَا وَرَدْتُ هَذَا الْمَاءَ قَطُّ إِلا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَرَدْتُهُ مَعَ أَبِي وَأَنَا غُلامٌ، فقال شاعر من المسلمين:
لله عينا رَافِعٍ أَنَّى اهْتَدَى ... فَوْز مِنْ قُرَاقِرَ إِلَى سَوَى!
خَمْسًا إِذَا مَا سَارَهَا الْجَيْشُ بَكَى ... مَا سَارَهَا قَبْلَكَ إِنْسِيٌّ يَرَى
فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَى سَوَى، أَغَارَ عَلَى أَهْلِهِ- وَهُمْ بهراء- قبيل الصبح، وناس منهم يشربون خمرا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول:
أَلا عَلِّلانِي قَبْلَ جَيْشِ أَبِي بَكْرٍ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا قَرِيبٌ وَمَا نَدْرِي

(3/416)


الا عللانى بالزجاج وكرار ... عَلَيَّ كميت اللَّوْنِ صَافِيةً تَجْرِي
أَلا عَلِّلانِي مِنْ سُلافَةِ قَهْوَةٍ ... تُسْلِي هُمُومَ النَّفْسِ مِنْ جَيِّدِ الْخَمْرِ
أَظُنُّ خُيُولَ الْمُسْلِمِينَ وَخَالِدًا ... سَتَطْرُقُكُمْ قَبْلَ الصَّبَاحِ مِنَ الْبشْرِ
فَهَلْ لَكُمْ فِي السَّيْرِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ ... وَقَبْلَ خُرُوجِ الْمُعْصرَاتِ مِنَ الْخدْرِ!
فَيَزْعُمُونَ أَنَّ مُغَنِّيَهُمْ ذَلِكَ قُتِلَ تَحْتَ الْغَارَةِ، فَسَالَ دَمُهُ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ.
ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ، حَتَّى أَغَارَ عَلَى غَسَّانَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى قَنَاةِ بُصْرَى، وَعَلَيْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أَبِي سُفْيَانَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، فَرَابَطُوهَا حَتَّى صَالَحَتْ بُصْرَى عَلَى الْجِزْيَةِ، وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الشَّامِ فُتِحَتْ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ سَارُوا جَمِيعًا إِلَى فِلَسْطِينَ، مَدَدًا لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَمْرٌو مُقِيمٌ بِالْعَرَبَاتِ مِنْ غَوْرِ فِلَسْطِينَ، وَسَمِعَتِ الرُّومُ بِهِمْ، فَانْكَشَفُوا عَنْ جِلَّقَ إِلَى أَجْنَادِينَ، وَعَلَيْهِمْ تذارقُ أَخُو هِرَقْلَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ- وَأَجْنَادِينُ بَلَدٌ بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَبَيْتِ جِبْرِينَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ- وَسَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ سَمِعَ بِأَبِي عبيده بن الجراح وشرحبيل ابن حَسَنَةَ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حَتَّى لِقِيَهُمْ فَاجْتَمَعُوا بِأَجْنَادِينَ، حَتَّى عَسْكَرُوا عَلَيْهِمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له القبقلار، وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق بمن معه من الروم.
فأما علماء الشام فيزعمون أنما كان على الروم تذارق والله أَعْلَمَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جعفر بْن الزبير، عن عروة، قال: لما تدانى العسكران بعث

(3/417)


القبقلار رجلا عربيا- قال: فحدثت أن ذلك الرجل رجل من قضاعة، من تزيد بْن حيدان، يقال له ابن هزارف- فقال: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة، ثم ائتني بخبرهم قال: فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر، فأقام فيهم يوما وليلة، ثم أتاه فقال له: ما وراءك؟ قال:
بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، لإقامة الحق فيهم فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله ان يخلى بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم علي قال: ثم تزاحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتال المسلمين، قال للروم: لفوا رأسي بثوب، قالوا له: لم؟ قال: يوم البئيس، لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يوما أشد من هذا! قال: فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف.
وكانت وقعة أجنادين في سنة ثلاث عشرة لليلتين بقيتا من جمادى الاولى وقتل يومئذ من المسلمين جماعة، منهم سلمة بن هشام ابن المغيرة، وهبار بْن الأسود بْن عبد الأسد، ونعيم بْن عبد اللَّه النحام، وهشام بْن العاصي بْن وائل، وجماعة أخر من قريش قال: ولم يسم لنا من الأنصار أحد أصيب بها.
وفيها توفي أبو بكر لثمان ليال بقين- أو سبع بقين- من جمادى الآخرة.
رجع الحديث إلى حديث أبي زيد، عن علي بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره قال: وأتى خالد دمشق فجمع له صاحب بصرى، فسار إليه هو وأبو عبيدة، فلقيهم أدرنجا، فظفر بهم وهزمهم، فدخلوا حصنهم، وطلبوا الصلح، فصالحهم على كل رأس دينار في كل عام وجريب حنطة ثم رجع العدو للمسلمين، فتوافت جنود المسلمين والروم

(3/418)


بأجنادين، فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، فظهر المسلمون، وهزم اللَّه المشركين، وقتل خليفة هرقل، واستشهد رجال من المسلمين، ثم رجع هرقل للمسلمين، فالتقوا بالواقوصة فقاتلوهم، وقاتلهم العدو، وجاءتهم وفاة أبي بكر وهم مصافون وولاية أبي عبيدة، وكانت هذه الوقعه في رجب

ذكر مرض ابى بكر ووفاته
حَدَّثَنِي أبو زيد، عن علي بْن مُحَمَّد، بإسناده الذي قد مضى ذكره، قالوا:
توفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة في جمادى الآخرة يوم الاثنين لثمان بقين منه قالوا: وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرزة، ويقال في جذيذة، وتناول معه الحارث بْن كلدة منها، ثم كف وقال لأبي بكر: أكلت طعاما مسموما سم سنة فمات بعد سنة، ومرض خمسة عشر يوما، فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب! فقال: قد رآني، قالوا: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء.
قال أبو جعفر: ومات عتاب بْن أسيد بمكة في اليوم الذى مات فيه ابو بكر- وكانا سما جميعا- ثم مات عتاب بمكة.
وقال غير من ذكرت في سبب مرض أبي بكر الذي توفي فيه، مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ.
وَأَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحُسَيْنِ مَوْلَى آلِ مَظْعُونٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الرحمن ابن أَبِي بَكْرٍ، قَالُوا: كَانَ أَوَّلُ مَا بَدَأَ مَرَضُ أَبِي بَكْرٍ بِهِ أَنَّهُ اغْتَسَلَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا بَارِدًا فَحُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَكَانَ يَأْمُرُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَيَدُخُلُ النَّاسُ يَعُودُونَهُ، وَهُوَ يَثْقُلُ كُلَّ يَوْمٍ، وَهُوَ نَازِلٌ فِي داره

(3/419)


التي قطع له رسول الله ص وُجَاهَ دَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْيَوْمَ، وَكَانَ عُثْمَانُ أَلْزَمَهُمْ لَهُ فِي مَرَضِهِ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مِسْيَ لَيْلَةِ الثُّلاثَاءِ، لِثَمَانِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْهُجْرَةِ وَكَانَتْ خِلافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَلاثةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَعْشَرٍ يَقُولُ:
كَانَتْ خِلافَتُهُ سَنَتَيْن وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلا أَرْبَعَ لَيَالٍ، فَتُوُفِّيَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، مَجْتَمَعٌ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، اسْتَوْفَى سِنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلاثِ سِنِينَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ:
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: اسْتَكْمَلَ أَبُو بَكْرٍ بِخِلافَتِهِ سِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُوُفِّيَ وَهُوَ بِسِنِّ النبي ص.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ معاويه فقال: توفى النبي ص وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَحَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: قبض رسول الله ص وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ عَنْهُ: كَانَتْ وِلايَةُ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ وَثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَيُقَالُ: عَشَرَةَ أَيَّامٍ

(3/420)


ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذي كفن فيه ابو بكر ومن صلى عليه والوقت الذي صلي عليه فيه والوقت الذى توفى فيه
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال:
حدثنى مالك بن أَبِي الرَّحَّالِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، قَالَتْ:
قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: غَسِّلِينِي، قُلْتُ: لا أُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: يُعِينُكِ عبد الرحمن ابن أَبِي بَكْرٍ، يَصُبُّ الْمَاءَ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ صَبْرَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ، فَإِنْ عَجَزَتْ أَعَانَهَا ابْنُهُ مُحَمَّدٌ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ:
وهذا الْحَدِيثُ وَهِلٌ، وَإِنَّمَا كَانَ لِمُحَمَّدٍ يَوْمَ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ ثَلاثُ سِنِينَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، سَأَلَهَا أَبُو بَكْرٍ، فِي كَمْ كُفِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ، قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ- وَكَانَا مُمَشَّقَيْنِ- وَابْتَاعُوا لِي ثَوْبًا آخَرَ قُلْتُ: يَا أَبَهْ، إِنَّا مُوسِرُونَ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، الْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا هُمَا لِلْمُهْلَةِ وَالصَّدِيدِ حَدَّثَنِي العباس بْن الوليد، قال: أخبرنا أبي قال: حَدَّثَنَا الأوزاعي،

(3/421)


قال: حَدَّثَنِي عبد الرحمن بْن القاسم، أن أبا بكر توفي عشاء بعد ما غابت الشمس ليلة الثلاثاء، ودفن ليلا ليلة الثلاثاء.
حَدَّثَنَا أبو كريب، قال: حَدَّثَنَا غنام، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر مات ليلة الثلاثاء ودفن ليلا.
حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ، عن علي بْن مُحَمَّد بإسناده الذي قد مضى ذكريه، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حُمِلَ عَلَى السَّرِيرِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ الله ص، وَدَخَلَ قَبْرَهُ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَدْخُلَ قَبْرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كُفِيتَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ أَوْصَى- فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بْن عبد اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ- أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولانِ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَنْبِ النَّبِيِّ ص، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حُفِرَ لَهُ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ عِنْدَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصقوا اللحد يلحد النبي ص فَقُبِرَ هُنَالِكَ.
قَالَ الْحَارِثُ: حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جُعِلَ رَأْسُ أَبِي بَكْرٍ عند كتفي رسول الله ص، وَرَأْسُ عُمَرَ عِنْدَ حِقْوَيْ أَبِي بَكْرٍ.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ هَانِئٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَقُلْتُ: يَا أُمَّهِ، اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النبي ص وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلاثَةِ قُبُورٍ، لا مُشْرِفَةٍ وَلا لاطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى

(3/422)


اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمًا وَقَبْرُ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ النَّبِيِّ ص.
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال:
حدثنا أبو بكر بْن عبد الله بْن أبي سبرة، عن عمرو بْن أبي عمرو، عن المطلب بْن عبد اللَّه بْن حنطب، قال: جعل قبر ابى بكر مثل قبر النبي ص مسطحا، ورش عليه الماء، وأقامت عليه عائشة النوح.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقَامَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ النَّوْحَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى قَامَ بِبَابِهَا، فَنَهَاهُنَّ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ، فَقَالَ عُمَرُ لِهِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ: ادْخُلْ فَأَخْرِجْ إِلَيَّ ابْنَةَ أَبِي قُحَافَةَ، أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِهِشَامٍ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ: إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكَ بَيْتِي فَقَالَ عُمَرُ لِهِشَامٍ: ادْخُلْ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ، فَدَخَلَ هِشَامٌ فَأَخْرَجَ أُمَّ فَرْوَةَ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ، فَعَلاهَا بِالدِّرَّةِ، فَضَرَبَهَا ضَرَبَاتٍ، فَتَفَرَّقَ النَّوْحُ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ.
وَتَمَثَّلَ فِي مَرَضِهِ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زيد، عن على ابن مُحَمَّدٍ بِإِسْنَادِهِ- الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ:
وَكُلُّ ذِي إِبِلٍ مَوْرُوثٌ ... وَكُلُّ ذِي سَلَبٍ مَسْلُوبُ
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لا يَئُوبُ
وَكَانَ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، رَبِّ «تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»

(3/423)


ذكر الخبر عن صفة جسم أبي بكر رحمه اللَّه
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال:
حدثنا شُعَيْبُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ مَرَّ وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا، فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَجُلا أَشْبَهَ بِأَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا، فَقُلْنَا لَهَا: صِفِي أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: رَجُلٌ أَبْيَضُ نَحِيفٌ خَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ، أَجْنَأُ لا يَسْتَمْسِكُ إِزَارُهُ، يَسْتَرْخِي عَنْ حِقْوَيْهِ، مَعْرُوقُ الْوَجْهِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبْهَةِ، عَارِي الأَشَاجِعِ.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ إِسْنَادَهُ قَبْلُ:
إِنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ يُخَالِطُهُ صُفْرَةٌ، حَسَنَ القامة، نحيفا اجنا، رَقِيقًا عَتِيقًا، أَقْنَى، مَعْرُوقَ الْوَجْهِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، حَمْشَ السَّاقَيْنِ، مَمْحُوصَ الْفَخِذَيْنِ، يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَكَانَ أَبُو قُحَافَةَ حِينَ تُوُفِّيَ حَيًّا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا نُعِيَ إِلَيْهِ قَالَ: رُزْءٌ جَلِيلٌ!

ذكر نسب أبي بكر واسمه وما كان يعرف به
حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره، أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لَهُ عَتِيقٌ عَنْ عِتْقِهِ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، [لأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: أَنْتَ عَتِيقٌ مِنَ النَّارِ]

(3/424)


حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سُئِلَتْ: لِمَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ عَتِيقًا؟ فَقَالَتْ: [نَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: هَذَا عَتِيقُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ] .
وَاسْمُ أَبِيهِ عُثْمَانُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو قُحَافَةَ، قَالَ: فَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الله بن عثمان ابن عامر بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لؤي ابن غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ- وَاسْمُهُ عُثْمَانُ- بْنُ عَامِرٍ.
وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ، وَاسْمُهَا سَلْمَى بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وَأَمَّا هِشَامٌ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْهُ- ان اسم ابى بكر عتيق ابن عثمان بن عامر.
وحدثنى يُونُسُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لهيعة، عن عمارة بْن غزية، قال: سألت عبد الرحمن بْن القاسم عن اسم أبي بكر الصديق، فقال: عتيق، وكانوا إخوة ثلاثة بني أبي قحافة: عتيق ومعتق وعتيق

ذكر أسماء نساء أبي بكر الصديق رحمه اللَّه
حدث علي بْن مُحَمَّد، عمن حدثه ومن ذكرت من شيوخه، قال:
تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة- ووافقه على ذلك الواقدي والكلبي- قالوا:
وهي قتيلة ابنة عبد العزى بْن عبد بْن أسعد بْن جابر بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لؤي، فولدت له عبد اللَّه وأسماء وتزوج أيضا في الجاهلية أم رومان

(3/425)


بنت عامر بْن عميرة بْن ذهل بْن دهمان بْن الحارث بْن غنم بْن مالك ابن كنانة- وقال بعضهم: هي أم رومان بنت عامر بْن عويمر بْن عبد شمس بْن عتاب بْن أذينة بْن سبيع بْن دهمان بْن الحارث بْن غنم بْن مالك بْن كنانة- فولدت له عبد الرحمن وعائشة.
فكل هؤلاء الأربعة من أولاده، ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية.
وتزوج في الإسلام أسماء بنت عميس، وكانت قبله عند جعفر بْن أبي طالب، وهي أسماء بنت عميس بْن معد بْن تيم بْن الحارث بْن كعب ابن مالك بْن قحافة بْن عامر بْن ربيعة بْن عامر بْن مالك بْن نسر بْن وهب اللَّه بْن شهران بْن عفرس بْن حلف بْن أفتل- وهو خثعم- فولدت له مُحَمَّد بْن أبي بكر.
وتزوج أيضا في الإسلام حبيبة بنت خارجة بْن زيد بْن أبي زهير، من بني الحارث بن الخزرج، وكانت نسأ حين توفي أبو بكر، فولدت له بعد وفاته جارية سميت أم كلثوم

ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ- وَذَكَرَهُ عَنْ مِسْعَرٍ: لَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنَا أُكْفِيكَ الْمَالَ- يَعْنِي الْجَزَاءَ- وَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُكْفِيكَ الْقَضَاءَ: فَمَكَثَ عُمَرُ سَنَةً لا يَأْتِيهِ رَجُلانِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الَّذِينَ سَمَّيْتُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ قَاضِيًا فِي خِلافَتِهِ، فَمَكَثَ سَنَةً لَمْ يُخَاصَمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ.
قَالَ: وَقَالُوا: كَانَ يَكْتُبُ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَيَكْتُبُ لَهُ الأَخْبَارَ عُثْمَانُ ابن عفان رضى الله عَنْهُ، وَكَانَ يَكْتُبُ لَهُ مَنْ حَضَرَ

(3/426)


وَقَالُوا: كَانَ عَامِلَهُ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أسيد، وعلى الطائف عثمان بن ابى العاصي، وَعَلَى صَنْعَاءَ الْمُهَاجِرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَعَلَى حَضْرَمَوْتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَعَلَى خَوْلانَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى زَبِيدَ وَرِمَعَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَعَلَى الْجُنْدِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَلَى البحرين العلاء ابن الْحَضْرَمِيِّ وَبَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى نَجْرَانَ، وَبَعَثَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَوْرٍ، أَحَدِ بَنِي الْغَوْثِ إِلَى نَاحِيَةِ جُرَشَ، وَبَعَثَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ الْفِهْرِيَّ إِلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَكَانَ بِالشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، كُلُّ رجل منهم على جند، وعليهم خالد ابن الْوَلِيدِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَخِيًّا لَيِّنًا، عَالِمًا بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ يَقُولُ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ- وَنُدْبَةُ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ عُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ- فِي مَرْثِيَّتِهِ أَبَا بَكْرٍ:
أَبْلَجُ ذُو عرف وَذُو منكر مقسم المعروف رحب الفناء للمجد في منزله باديا حوض رفيع لم يخنه الإزاء والله لا يدرك أيامه ذو مئزر حاف ولا ذو رداء من يسع كي يدرك أيامه يجتهد الشد بأرض فضاء وكان- فيما ذكر الحارث، عن ابن سعد، عن عمرو بْن الهيثم أبي قطن، قال: حَدَّثَنَا الربيع عن حيان الصائغ، قال: كان نقش خاتم أبي بكر رحمه اللَّه: نعم القادر اللَّه.
قالوا: ولم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياما، وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة، وهو ابن سبع وتسعين سنة

(3/427)