تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر خبر المرتدين باليمن
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَهْلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قال: توفى رسول الله ص وَعَلَى مَكَّةَ وَأَرْضِهَا عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ وَالطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ، عَتَّابٌ عَلَى بَنِي كِنَانَةَ، والطاهر على عك، وذلك ان النبي ص قَالَ: اجْعَلُوا عِمَالَةَ عَكٍّ فِي بَنِي أَبِيهَا مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، وَعَلَى الطَّائِفِ وَأَرْضِهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، عُثْمَانُ عَلَى أَهْلِ الْمَدَرِ وَمَالِكٌ عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ أَعْجَازِ هَوَازِنَ، وَعَلَى نَجْرَانَ وَأَرْضِهَا عَمْرُو بن حزم وابو سفيان ابن حَرْبٍ، عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ عَلَى الصَّلاةِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَعَلَى مَا بَيْنَ رَمْعٍ وَزَبيد إِلَى حَدِّ نَجْرَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَلَى هَمْدَانَ كُلِّهَا عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ، وَعَلَى صَنْعَاءَ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ يسانده داذويهِ وَقَيْسُ بْنُ الْمَكْشُوحِ، وَعَلَى الْجُنْدِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى مَأْربِ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَعَلَى الأَشْعَرِيِّينَ مَعَ عَكٍّ الطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْقَوْمَ، يَتْنَقِلُ فِي عَمَلِ كُلِّ عَامِلٍ، فَنَزَا بِهِمُ الأَسْوَدُ في حياه النبي ص، فحاربه النبي ع بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ، وَعَادَ أَمْرُ النبي ع كما كان قبل وفاه النبي ع بِلَيْلَةٍ، إِلا أَنَّ مَجِيئَهُمْ لَمْ يُحَرِّكِ النَّاسَ، وَالنَّاسُ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ.
فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَوْتُ النَّبِيِّ ص انْتقضت الْيَمَنُ وَالْبُلْدَانُ، وَقَدْ كَانَتْ تَذَبْذَبَتْ خُيُولُ الْعَنْسِيِّ- فِيمَا بَيْنَ نَجْرَانَ إِلَى صَنْعَاءَ فِي

(3/318)


عَرْضِ ذَلِكَ الْبَحْرِ- لا تَأْوِي إِلَى أَحَدٍ، ولا يأوي إليها احد، فعمرو بن معد يكرب بِحِيَالِ فَرْوَةَ بْنِ مسيكٍ، وَمُعَاوُيَةُ بْنُ أَنَسٍ فِي فَالَةَ الْعَنْسِيِّ يَتَرَدَّدُ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ عمال النبي ص بعد وفاه النبي ص إِلا عَمْرَو بْنِ حَزْمٍ وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَلَجَأَ سَائِرُ الْعُمَّالِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَرَضَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، فَسَلَبَهُ الصَّمْصَامَةَ.
وَرَجَعَتِ الرُّسُلُ مَعَ مَنْ رَجَعَ بِالْخَبَرِ، فَرَجَعَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالأَقْرَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَوَبْرُ بْنُ يُحَنَّسَ، فَحَارَبَ أَبُو بَكْرٍ الْمُرْتَدَّةَ جَمِيعًا بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ الله ص حَارَبَهُمْ، إِلَى أَنْ رَجَعَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مِنَ الشَّامِ، وَحَزرَ ذَلِكَ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ، إِلا ما كان من اهل ذي حمى وَذِي الْقصَّةَ ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ مصادم عِنْدَ رجوع اسامه هم فَخَرَجَ إِلَى الأَبْرَقِ فَلَمْ يَصْمُدْ لِقَوْمٍ فَيَفُلَّهُمْ إِلا اسْتَنْفَرَ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُمْ إِلَى آخَرِينَ، فَيَفُلَّ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالْمُسْتَنْفِرَةِ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ إِلَى الَّتِي تَلِيهِمْ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ أُمُورِ النَّاسِ، وَلا يَسْتَعِينُ بِالْمُرْتَدِّينَ.
فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، كَتَبَ إِلَيْهِ بِرُكُوبِ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ بِمَنْ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بِرُكُوبِ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ بِمَنْ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ، فاما عتاب فانه بعث خالد ابن أُسَيْدٍ إِلَى أَهْلِ تِهَامَةَ، وَقَدْ تَجَمَّعَتْ بِهَا جِمَاعٌ مِنْ مُدْلِجٍ، وَتَأَشَّبَ إِلَيْهِمْ شُذَّاذٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَفْنَاءِ كِنَانَةَ، عَلَيْهِمْ جُنْدُبُ بْنُ سَلْمَى، أَحَدُ بَنِي شَنُوقٍ، مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَمَلِ عَتَّابٍ جَمْعٌ غَيْرُهُ، فَالْتَقَوْا بِالأَبَارِقِ، فَفَرَّقَهُمْ وَقَتَلَهُمْ، وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي بَنِي شَنُوقٍ، فَمَا زَالُوا أَذِلاءَ قَلِيلا، وَبَرِئَتْ عِمَالَةُ عَتَّابٍ، وَأَفْلَتَ جُنْدُبٌ، فَقَالَ جُنْدُبٌ فِي ذَلِكَ:
نَدِمْتُ وَأَيْقَنْتُ الْغَداةَ بِأَنَّنِي ... أَتَيْتُ الَّتِي يَبْقَى عَلَى الْمَرْءِ عَارُهَا
شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ لا شَيْءَ غَيْرُهُ ... بَنِي مُدْلِجٍ فَاللَّهُ رَبِّي وَجَارُهَا

(3/319)


وَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بَعْثًا إِلَى شَنُوءَةَ، وَقَدْ تَجَمَّعَتْ بِهَا جُمَّاعٌ مِنَ الأَزْدِ وَبَجِيلَةَ وَخَثْعَمٍ، عَلَيْهِمْ حُمَيْضَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَعَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَالْتَقَوْا بِشَنُوءَةَ، فَهَزَمُوا تِلْكَ الْجُمَّاعَ، وَتَفَرَّقُوا عَنْ حُمَيْضَةَ وَهَرَبَ حُمَيْضَةُ فِي الْبِلادِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ:
فَضَضْنَا جَمْعَهُمْ وَالنَّقْعُ كَابٍ ... وَقَدْ تُعْدِي عَلَى الْغَدْرِ الْفُتُوقُ
وَأَبْرَقَ بَارِقٌ لَمَّا الْتَقَيْنَا ... فَعَادَتْ خُلَّبًا تِلْكَ الْبُرُوقُ

خبر الأخابث من عك
قال أبو جعفر: وكان أول منتقض بعد النبي ص بتهامة عك والأشعرون، وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي ص تجمع منهم طخارير، فأقبل إليهم طخارير من الأشعرين وخضم فانضموا إليهم، فأقاموا على الأعلاب طريق الساحل، وتأشب اليهم او زاع على غير رئيس، فكتب بذلك الطاهر بْن أبي هالة إلى أبي بكر، وسار إليهم، وكتب أيضا بمسيره إليهم، ومعه مسروق العكي حتى انتهى إلى تلك الأوزاع، على الأعلاب، فالتقوا فاقتتلوا، فهزمهم اللَّه، وقتلوهم كل قتلة، وأنتنت السبل لقتلهم، وكان مقتلهم فتحا عظيما وأجاب أبو بكر الطاهر قبل أن يأتيه كتابه بالفتح:
بلغني كتابك تخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقا وقومه إلى الأخابث بالأعلاب، فقد أصبت، فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم، وأقيموا بالأعلاب حتى يأمن طريق الأخابث، ويأتيكم أمري: فسميت تلك

(3/320)


الجموع من عك ومن تأشب إليهم إلى اليوم الأخابث، وسمي ذلك الطريق طريق الأخابث، وقال في ذلك الطاهر بْن أبي هالة.
وو الله لولا اللَّه لا شيء غيره ... لما فض بالأجراع جمع العثاعث
فلم تر عيني مثل يوم رأيته ... بجنب صحار في جموع الأخابث
قتلناهم ما بين قنة خامر ... الى القيمه الحمراء ذات النبائث
وفئنا بأموال الأخابث عنوة ... جهارا ولم نحفل بتلك الهثاهث
وعسكر طاهر على طريق الأخابث، ومعه مسروق في عك ينتظر أمر أبي بكر رحمه اللَّه.
قال أبو جعفر: ولما بلغ أهل نجران وفاه رسول الله ص وهم يومئذ اربعون ألف مقاتل، من بني الأفعى، الأمة التي كانوا بها قبل بني الحارث، بعثوا وفدا ليجددوا عهدا، فقدموا إليه فكتب لهم كتابا:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ عبد اللَّه أبي بكر خليفه رسول الله ص لأهل نجران، أجارهم من جنده ونفسه، وأجاز لهم ذمه محمد ص إلا ما رجع عنه مُحَمَّد رسول اللَّه ص بأمر اللَّه عز وجل في أرضهم وأرض العرب، ألا يسكن بها دينان، أجارهم على أنفسهم بعد ذلك وملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وعاديتهم، وغائبهم وشاهدهم، وأسقفهم ورهبانهم وبيعهم حيثما وقعت، وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير، عليهم ما عليهم، فإذا أدوه فلا

(3/321)


يحشرون ولا يعشرون ولا يغير أسقف من اسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ووفى لهم بكل ما كتب لهم رسول الله ص وعلى ما في هذا الكتاب من ذمة محمد رسول الله ص وجوار المسلمين.
وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحق شهد المسور بْن عمرو، وعمرو مولى أبي بكر.
ورد أبو بكر جرير بْن عبد اللَّه، وأمره أن يدعو من قومه من ثبت على أمر اللَّه، ثم يستنفر مقويهم، فيقاتل بهم من ولى عن أمر اللَّه، وأمره أن يأتي خثعم، فيقاتل من خرج غضبا لذي الخلصة، ومن أراد إعادته حتى يقتلهم اللَّه، ويقتل من شاركهم فيه، ثم يكون وجهه إلى نجران، فيقيم بها حتى يأتيه أمره.
فخرج جرير فنفذ لما أمره به أبو بكر، فلم يقر له أحد إلا رجال في عدة قليلة، فقتلهم وتتبعهم، ثم كان وجهه إلى نجران، فأقام بها انتظارا أمر أبي بكر رحمه اللَّه.
وكتب إلى عثمان بْن أبي العاص أن يضرب بعثا على أهل الطائف على كل مخلاف بقدره، ويولي عليهم رجلا يأمنه ويثق بناحيته، فضرب على كل مخلاف عشرين رجلا، وأمر عليهم أخاه.
وكتب إلى عتاب بْن أسيد، أن اضرب على أهل مكة وعملها خمسمائة مقو، وابعث عليهم رجلا تأمنه، فسمى من يبعث، وأمر عليهم خالد بْن أسيد، وأقام أمير كل قوم، وقاموا على رجل ليأتيهم أمر أبي بكر، وليمر عليهم المهاجر

(3/322)


ردة أهل اليمن ثانية
قال أبو جعفر: فممن ارتد ثانية منهم، قيس بْن عبد يغوث المكشوح، كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، قال: كان من حديث قيس في ردته الثانية، أنه حين وقع إليهم الخبر بموت رسول الله ص انتكث، وعمل في قتل فيروز وداذويه وجشيش، وكتب أبو بكر إلى عمير ذي مران وإلى سعيد ذي زود وإلى سميفع ذي الكلاع، وإلى حوشب ذي ظليم، وإلى شهر ذي يناف، يأمرهم بالتمسك بالذي هم عليه، والقيام بأمر اللَّه والناس، ويعدهم الجنود:
من ابى بكر خليفه رسول الله ص إلى عمير بْن أفلح ذي مران، وسعيد بْن العاقب ذي زود، وسميفع بْن ناكور ذي الكلاع وحوشب ذي ظليم، وشهر ذي يناف أما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز، وجدوا معه، فإني قد وليته.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الدَّثِينِيِّ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّرَ فَيْرُوزَ، وَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَسَانِدُونَ، هُوَ وَدَاذُوَيْهِ وَجَشِيشٌ وَقَيْسٌ، وَكَتَبَ إِلَى وُجُوهٍ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ قَيْسٌ أَرْسَلَ إِلَى ذِي الْكَلاعِ وَأَصْحَابِهِ:
إِنَّ الأَبْنَاءَ نُزَّاعٌ فِي بِلادِكُمْ، وَنُقَلاءُ فِيكُمْ، وَإِنْ تَتْرُكُوهُمْ لَنْ يَزَالُوا عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَرَى مِنَ الرَّأْيِ أَنْ أَقْتُلَ رُءُوسَهُمْ، وَأُخْرِجَهُمْ مِنْ بِلادِنَا فَتَبْرَءُوا، فَلَمْ يُمَالِئُوهُ وَلَمْ يَنْصُرُوا الأبناء، واعتزلوا وقالوا: لسنا مما هاهنا فِي شَيْءٍ، أَنْتَ صَاحِبُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُكَ.
فَتَرَبَّصَ لَهُمْ قَيْسٌ، وَاسْتَعَدَّ لِقَتْلِ رُؤَسَائِهِمْ وَتَسْيِيرِ عَامَّتِهِمْ، فكاتب قيس تلك الفالة السيارة اللحجية، وَهُمْ يَصْعَدُونَ فِي الْبِلادِ وَيُصَوِّبُونَ،

(3/323)


مُحَارِبِينَ لِجَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُمْ، فَكَاتَبَهُمْ قَيْسٌ فِي السِّرِّ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَجَّلُوا إِلَيْهِ، وَلِيَكُونَ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ وَاحِدًا، وَلِيَجْتَمِعُوا عَلَى نَفْيِ الأَبْنَاءِ مِنْ بِلادِ الْيَمَنِ فَكَتَبُوا إِلَيْهِ بِالاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ سِرَاعٌ، فَلَمْ يَفْجَأْ أَهْلَ صَنْعَاءَ إِلا الْخَبَرُ بِدُنُوِّهِمْ مِنْهَا، فَأَتَى قَيْسٌ فَيْرُوزَ فِي ذَلِكَ كَالْفرقِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَأَتَى دَاذُوَيْهِ، فَاسْتَشَارَهُمَا لِيلبسَ عَلَيْهِمَا، وَلِئَلا يَتَّهِمَاهُ، فَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ ثُمَّ إِنَّ قَيْسًا دَعَاهُمْ مِنَ الْغَدِ إِلَى طَعَامٍ، فَبَدَأَ بِدَاذُوَيْهِ، وَثَنَّى بِفَيْرُوزَ، وَثَلَّثَ بِجَشِيشٍ، فَخَرَجَ دَاذُوَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَاجَلَهُ فَقَتَلَهُ، وَخَرَجَ فَيْرُوزُ يَسِيرُ حَتَّى إِذَا دَنَا سَمِعَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى سَطْحَيْنِ تَتَحَدَّثَانِ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: هَذَا مَقْتُولٌ كَمَا قُتِلَ دَاذُوَيْهِ، فَلَقِيَهُمَا، فَعَاجَ حَتَّى يَرَى أَويَّ الْقَوْمِ الَّذِي أربئوا، فَأُخْبِرَ بِرُجُوعِ فَيْرُوزَ، فَخَرَجُوا يَرْكُضُونَ، وَرَكَضَ فَيْرُوزُ، وَتَلَقَّاهُ جَشِيشٌ، فَخَرَجَ مَعَهُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ جَبَلِ خَوْلانَ- وَهُمْ أَخْوَالُ فَيْرُوزَ- فَسَبَقَا الْخُيُولَ إِلَى الْجَبَلِ، ثُمَّ نَزَلا، فَتَوَقَّلا وَعَلَيْهِمَا خِفَافٌ سَاذِجَةٌ، فَمَا وَصَلا حَتَّى تَقَطَّعَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَانْتَهَيَا إِلَى خَوْلانَ وَامْتَنَعَ فَيْرُوزُ بِأَخْوَالِهِ، وَآلَى أَلا يَنْتَعِلَ سَاذِجًا، وَرَجَعَتِ الْخُيُولُ إِلَى قَيْسٍ، فَثَارَ بِصَنْعَاءَ فَأَخَذَهَا، وَجَبَى مَا حَوْلَهَا، مُقَدِّمًا رِجْلا وَمُؤَخِّرًا أُخْرَى، وَأَتَتْهُ خُيُولُ الأُسُودِ.
وَلَمَّا أَوَى فَيْرُوزُ إِلَى أَخْوَالِهِ خَوْلانَ فَمَنَعُوهُ وَتَأَشَّبَ إِلَيْهِ النَّاسُ، كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ فَقَالَ قَيْسٌ: وَمَا خَوْلانُ! وَمَا فَيْرُوزُ! وَمَا قَرَارٌ أَوَوْا إِلَيْهِ! وَطَابَقَ عَلَى قَيْسٍ عَوَامُّ قَبَائِلِ مَنْ كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ، وَبَقِيَ الرُّؤَسَاءُ مُعْتَزِلِينَ، وَعَمَدَ قَيْسٌ إِلَى الأَبْنَاءِ فَفَرَقَهُمْ ثَلاثَ فِرَقٍ: أَقَرَّ مَنْ أَقَامَ وَأَقَرَّ عِيَالَهُ، وَفَرَقَ عِيَالَ الَّذِينَ هَرَبُوا إِلَى فَيْرُوزَ فِرْقَتَيْنِ، فَوَجَّهَ إِحْدَاهُمَا إِلَى عَدْنٍ، لِيَحْمِلُوا فِي الْبَحْرِ، وَحَمَلَ الأُخْرَى فِي الْبَرِّ، وَقَالَ لَهُمْ جَمِيعًا: الْحَقُوا بِأَرْضِكُمْ، وَبَعَثَ مَعَهُمْ مَنْ يُسَيِّرُهُمْ، فَكَانَ عِيَالُ الدَّيْلَمِيِّ مِمَّنْ سُيِّرَ فِي الْبَرِّ

(3/324)


وَعِيَالُ دَاذُوَيْهِ مِمَّنْ سُيِّرَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَى فَيْرُوزُ أَنْ قَدِ اجْتَمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى قَيْسٍ، وَأَنَّ الْعِيَالَ قَدْ سُيِّرُوا وَعَرَّضَهُمْ لِلنَّهْبِ، وَلَمْ يَجِدْ إِلَى فراق عَسْكَرِهِ فِي تَنَقُّذِهِمْ سَبِيلا، وَبَلَغَهُ مَا قَالَ قَيْسٌ فِي اسْتِصْغَارِهِ الأَخْوَالِ وَالأَبْنَاءِ، فَقَالَ فَيْرُوزُ مُنْتَمِيًا وَمُفَاخِرًا وَذَكَرَ الظَّعْنَ:
أَلا نَادِيَا ظُعْنًا إِلَى الرَّمْلِ ذِي النَّخْلِ ... وَقُولا لَهَا أَلا يُقَالُ وَلا عَذْلِي
وَمَا ضَرَّهُمْ قَوْلُ الْعُدَاةِ لَوْ انه ... أَتَى قَوْمَهُ عَنْ غَيْرِ فُحْشٍ وَلا بخْلِ
فَدَعْ عَنْكَ ظُعْنًا بِالطَّرِيقِ الَّتِي هَوَتْ ... لِطَيَّتِهَا صَمْد الرِّمَالِ إِلَى الرَّمْلِ
وَإِنَّا وَإِنْ كَانَتْ بِصَنْعَاءَ دَارُنَا ... لَنَا نَسْلُ قَوْمٍ مِنْ عَرانِينِهِمْ نَسْلِي
وَلِلدَّيْلَمِ الرَّزَّامِ مِنْ بَعْدِ بَاسِلٍ ... أَبَى الْخَفْضَ وَاخْتَارَ الْحَرُورَ عَلَى الظِّلِّ
وَكَانَتْ مَنَابِيتُ الْعِرَاقِ جِسَامَهَا ... لِرَهْطِي إِذَا كِسْرَى مَرَاجِلُهُ تَغْلِي
وَبَاسِلٌ أَصْلِي إِنْ نَمَيْتُ وَمَنْصِبِي ... كَمَا كُلُّ عُودٍ مُنْتَهَاهُ إِلَى الأَصْلِ
هُمْ تَرَكُوا مَجْرَايَ سَهْلا وَحَصَّنُوا ... فِجَاجِي بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَالْحَسَبِ الْجَزْلِ
فَمَا عَزَّنَا فِي الْجَهْلِ مِنْ ذِي عَدَاوَةٍ ... أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُعِزَّ عَلَى الْجَهْلِ
وَلا عَاقَنَا فِي السَّلْمِ عَنْ آلِ أَحْمَدَ ... وَلا خَسَّ فِي الإِسْلامِ إِذْ أَسْلَمُوا قَبْلِي
وَإِنْ كَانَ سَجْلٌ من قبيلي أرشني ... فَإِنِّي لَرَاجٌ أَنْ يُغْرِقَهُمْ سَجْلِي
وَقَامَ فَيْرُوزُ فِي حَرْبِهِ، وَتَجَرَّدَ لَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي عُقَيْلِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَسُولا بِأَنَّهُ مُتَخَفِّرٌ بِهِمْ، يَسْتَمِدُّهُمْ وَيَسْتَنْصِرُهُمْ فِي ثُقْلِهِ عَلَى الَّذِينَ يُزْعِجُونَ أَثْقَالَ الأَبْنَاءِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَكٍّ رَسُولا يَسْتَمِدُّهُمْ وَيَسْتَنْصِرُهُمْ عَلَى الَّذِينَ يُزْعِجُونَ أَثْقَالَ الأَبْنَاءِ فَرَكِبَتْ عُقَيْلٌ وَعَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْحُلَفَاءِ يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ، فَاعْتَرَضُوا خَيْلَ قَيْسٍ فَتَنَقَّذُوا أُولَئِكَ الْعِيَالَ، وَقَتَلُوا الَّذِينَ سَيَّرُوهُمْ، وَقَصَرُوا عَلَيْهِمُ الْقُرَى، إِلَى أَنْ رَجَعَ فَيْرُوزُ إِلَى

(3/325)


صَنْعَاءَ، وَوَثَبَتْ عَكٌّ، وَعَلَيْهِمْ مَسْرُوقٌ، فَسَارُوا حَتَّى تَنَقَّذُوا عِيَالاتِ الأَبْنَاءِ، وَقَصَرُوا عَلَيْهِمُ الْقُرَى، إِلَى أَنْ رَجَعَ فَيْرُوزُ إِلَى صَنْعَاءَ، وَأَمَدَّتْ عُقَيْلٌ وَعَكٌّ فَيْرُوزَ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا أَتَتْهُ أَمْدَادُهُمْ- فِيمَنْ كَانَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ- خَرَجَ فِيمَنْ كَانَ تَأَشَّبَ إِلَيْهِ وَمَنْ أَمَدَّهُ مِنْ عَكٍّ وَعُقَيْلٍ، فَنَاهَدَ قَيْسًا فَالْتَقُوا دُونَ صَنْعَاءَ، فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَ اللَّهُ قَيْسًا فِي قَوْمِهِ وَمَنْ أُنْهِضُوا، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي جُنْدِهِ حَتَّى عَادَ مَعَهُمْ، وَعَادُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا بِهِ مُبَادِرِينَ حِينَ هَرَبُوا بَعْدَ مَقْتَلِ الْعَنْسِيِّ، وَعَلَيْهِمْ قَيْسٌ، وَتَذَبْذَبَتْ رَافِضَةُ الْعَنْسِيِّ وَقَيْسٍ مَعَهُمْ فِيمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَنَجْرَانَ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ بِإِزَاءِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ فِي طَاعَةِ الْعَنْسِيِّ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ أَمْرِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ أَنَّهُ كَانَ قَدِمَ عَلَى رسول الله ص مُسْلِمًا، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
لَمَّا رَأَيْتُ مُلُوكَ حِمْيَرَ أَعْرَضَتْ ... كَالرَّجُلِ خَانَ الرَّجُلَ عِرْقُ نَسَائِهَا
يَمَّمْتُ رَاحِلَتِي أَمَامَ مُحَمَّدٍ ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنُ ثنائها
وقال له رسول الله ص فِيمَا قَالَ لَهُ: هَلْ سَاءَكَ مَا لَقِيَ قومك يوم الرزم يا فروه او سرك؟ قَالَ: وَمَنْ يُصَبْ فِي قَوْمِهِ بِمِثْلِ الَّذِي أَصَبْتَ بِهِ فِي قَوْمِي يَوْمَ الرَّزْمِ إِلا سَاءَهُ ذَلِكَ! وَكَانَ يَوْمَ الرَّزْمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَمْدَانَ عَلَى يَغُوثَ، وَثَنٍ كَانَ يَكُونُ فِي هَؤُلاءِ مَرَّةً وَفِي هَؤُلاءِ مَرَّةً، فَأَرَادَتْ مُرادٌ أَنْ تَغْلِبَهُمْ عَلَيْهِ فِي مَرَّتِهِمْ، فَقَتَلَتْهُمْ هَمْدَانُ، وَرَئِيسُهُمُ الأَجْدَعُ أَبُو مَسْرُوقٍ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْهُمْ فِي الإِسْلامِ إِلا خَيْرًا،] فَقَالَ: قَدْ سَرَّنِي إِذْ كَانَ ذَلِكَ، فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتِ مُرَادٍ وَمَنْ نَازَلَهُمْ أَوْ نَزَلَ دَارَهُمْ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ قَدْ فَارَقَ قَوْمَهُ سَعْدَ الْعَشِيرَةِ فِي بَنِي زُبَيْدٍ واخلافها، وانحاز

(3/326)


إِلَيْهِمْ، وَأَسْلَمَ مَعَهُمْ، فَكَانَ فِيهِمْ، فَلَمَّا ارْتَدَّ الْعَنْسِيُّ وَاتَّبَعَهُ عَوَامُّ مَذْحِجٍ، اعْتَزَلَ فَرْوَةُ فِيمَنْ أَقَامَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ، وَارْتَدَّ عَمْرٌو فِيمَنِ ارْتَدَّ، فَخَلَّفَهُ الْعَنْسِيُّ، فَجَعَلَهُ بِإِزَاءِ فَرْوَةَ، فَكَانَ بِحِيَالِهِ، وَيَمْتَنِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَكَانِ صَاحِبِهِ مِنَ الْبَرَاحِ، فَكَانَا يَتَهَادَيَانِ الشِّعْرَ، فَقَالَ عَمْرٌو يَذْكُرُ إِمَارَةَ فَرْوَةَ وَيَعِيبُهَا:
وَجَدْنَا مُلْكَ فَرْوَةَ شر ملك ... حمارا ساف منخره بقذر
وكنت إذا رأيت أبا عمير ... ترى الحولاء من خُبْثٍ وَغَدْرِ
فَأَجَابَهُ فَرْوَةُ:
أَتَانِي عَنْ أَبِي ثَوْرٍ كَلامٌ ... وَقِدما كَانَ فِي الْأَبْغَالِ يَجْرِي
وَكَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ قَدِيمًا ... عَلَى مَا كَانَ مِنْ خُبْثٍ وَغَدْرِ
فَبَيْنَاهُمْ كَذَلِكَ قَدِمَ عِكْرِمَةُ أبين.
وكتب إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن سهل، عن القاسم وموسى بْن الغصن، عن ابن محيريز، قال: فخرج عكرمة من مهرة سائرا نحو اليمن حتى ورد أبين، ومعه بشر كثير من مهرة، وسعد بْن زيد، والأزد، وناجية، وعبد القيس، وحدبان من بني مالك بْن كنانة، وعمرو بْن جندب من العنبر، فجمع النخع بعد من أصاب من مدبريهم فقال لهم: كيف كنتم في هذا الأمر؟ فقالوا له: كنا في الجاهلية أهل دين، لا نتعاطى ما تتعاطى العرب بعضها من بعض، فكيف بنا إذا صرنا إلى دين عرفنا فضله، ودخلنا حبه! فسأل عنهم فإذا الأمر كما قالوا، ثبت عوامهم وهرب من كان فارق من خاصتهم، واستبرأ النخع وحمير، واقام لاجتماعهم، وأرز قيس بْن عبد يغوث لهبوط عكرمة إلى اليمن إلى عمرو بْن معديكرب، فلما ضامه وقع بينهما تنازع، فتعايرا، فقال

(3/327)


عمرو بْن معديكرب يعير قيسا غدره بالأبناء وقتله داذويه، ويذكر فراره من فيروز:
غدرت ولم تحسن وفاء ولم يكن ... ليحتمل الأسباب إلا المعود
وكيف لقيس أن ينوط نفسه ... إذا ما جرى والمضرحي المسود!
وقال قيس:
وفيت لقومي واحتشدت لمعشر ... أصابوا على الأحياء عمرا ومرثدا
وكنت لدى الأبناء لما لقيتهم ... كأصيد يسمو بالعزازة أصيدا
وقال عمرو بْن معديكرب:
فما إن داذوي لكم بفخر ... ولكن داذوي فضح الذمارا
وفيروز غداة أصاب فيكم ... وأضرب في جموعكم استجارا

ذكر خبر طاهر حين شخص مددا لفيروز
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: قد كان أبو بكر رحمه اللَّه كتب إلى طاهر بْن أبي هالة بالنزول إلى صنعاء وإعانة الأبناء، وإلى مسروق، فخرجا حتى أتيا صنعاء، وكتب إلى عبد اللَّه بْن ثور بْن أصغر، بأن يجمع إليه العرب ومن استجاب له من أهل تهامة، ثم يقيم بمكانه حتى يأتيه أمره.
وكان أول ردة عمرو بْن معديكرب أنه كان مع خالد بْن سعيد فخالفه، واستجاب للأسود، فسار إليه خالد بْن سعيد حتى لقيه، فاختلفا ضربتين، فضربه خالد على عاتقه فقطع حمالة سيفه فوقع، ووصلت الضربة إلى عاتقه، وضربه عمرو فلم يصنع شيئا، فلما أراد خالد أن يثني عليه نزل فتوقل في الجبل، وسلبه فرسه وسيفه الصمصامة،

(3/328)


ولحج عمرو فيمن لحج وصارت إلى سعيد بْن العاص الأصغر مواريث آل سعيد بْن العاص الأكبر فلما ولي الكوفة عرض عليه عمرو ابنته، فلم يقبلها، وأتاه في داره بعدة سيوف كان خالد أصابها باليمن، فقال: أيها الصمصامة؟ قال: هذا، قال: خذه فهو لك، فأخذه، ثم آكف بغلا له فضرب الإكاف فقطعه والبرذعة، وأسرع في البغل، ثم رده على سعيد، وقال: لو زرتني في بيتي وهو لي لوهبته لك، فما كنت لأقبله إذ وقع.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد عن عروة بْن غزية وموسى، عن أبي زرعه السيبانى، قال: ولما فصل المهاجر بْن أبي أمية من عند أبي بكر- وكان في آخر من فصل- اتخذ مكة طريقا، فمر بها فاتبعه خالد بْن أسيد، ومر بالطائف فاتبعه عبد الرحمن بْن أبي العاص، ثم مضى حتى إذا حاذى جرير بْن عبد اللَّه ضمه إليه، وانضم إليه عبد اللَّه بْن ثور حين حازاه، ثم قدم على أهل نجران، فانضم إليه فروة بْن مسيك، وفارق عمرو بْن معديكرب قيسا، وأقبل مستجيبا، حتى دخل على المهاجر على غير أمان، فأوثقه المهاجر، وأوثق قيسا، وكتب بحالهما إلى أبي بكر رحمه اللَّه، وبعث بهما إليه فلما سار المهاجر من نجران إلى اللحجية، والتفت الخيول على تلك الفالة استأمنوا، فأبى أن يؤمنهم، فافترقوا فرقتين، فلقي المهاجر إحداهما بعجيب، فأتى عليهم، ولقيت خيوله الأخرى بطريق الأخابث، فأتوا عليهم- وعلى الخيول عبد اللَّه- وقتل الشرداء بكل سبيل، فقدم بقيس وعمرو على أبي بكر، فقال: يا قيس، أعدوت على عباد اللَّه تقتلهم وتتخذ المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين! وهم بقتله لو وجد أمرا جليا وانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئا، وكان ذلك عملا عمل في سر لم يكن به بينة، فتجافى له عن دمه، وقال لعمرو ابن معديكرب: أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور! لو نصرت هذا

(3/329)


الدين لرفعك اللَّه ثم خلى سبيله، وردهما إلى عشائرهما، وقال عمرو:
لا جرم! لأقبلن ولا أعود.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المستنير وموسى قالا: سار المهاجر من عجيب، حتى ينزل صنعاء، وأمر أن يتبعوا شُذَّاذ القبائل الذين هربوا، فقتلوا من قدروا عليه منهم كل قتلة، ولم يعف متمردا، وقبل توبة من أناب من غير المتمردة، وعملوا في ذلك على قدر ما رأوا من آثارهم، ورجوا عندهم وكتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء وبالذي يتبع من ذلك
. ذكر خبر حضرموت في ردتهم
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن سهل ابن يُوسُفَ، عَنِ الصَّلْتِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، قال: مات رسول الله ص وَعُمَّالُهُ عَلَى بِلادِ حَضْرَمَوْتَ: زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبَيَاضِيُّ عَلَى حَضْرَمَوْتَ وَعُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ عَلَى السَّكَاسِكِ وَالسّكُونِ، وَالْمُهَاجِرُ عَلَى كِنْدَةَ- وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ص، فَبَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدُ إِلَى قِتَالِ مَنْ بِالْيَمَنِ وَالْمُضِيِّ بَعْدُ إِلَى عَمَلِهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي السائب، عطاء ابن فلان الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَالْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، أَنَّهُ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْ تبوك، فرجع رسول الله ص وَهُوَ عَلَيْهِ عَاتِبٌ، فَبَيْنَا أُمُّ سَلَمَةَ تَغْسِلُ راس رسول الله ص، قَالَتْ: كَيْفَ يَنْفَعُنِي شَيْءٌ وَأَنْتَ عَاتِبٌ عَلَى أَخِي! فَرَأَتْ مِنْهُ رِقَّةً، فَأَوْمَأَتْ إِلَى خَادِمِهَا، فدعته، فلم يزل برسول الله ص يَنْشُرُ عُذْرَهُ حَتَّى

(3/330)


عَذَرَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَمَّرَهُ عَلَى كِنْدَةَ فَاشْتَكَى وَلَمْ يُطِقِ الذَّهَابَ، فَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ لِيَقُومَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَبَرَأَ بَعْدُ، فَأَتَمَّ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إِمْرَتَهُ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ مَنْ بَيْنَ نَجْرَانَ إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ، وَلِذَلِكَ أَبْطَأَ زِيَادٌ وَعُكَّاشَةُ عَنْ مُنَاجَزَةِ كِنْدَةَ انْتِظَارًا لَهُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بن محمد، قَالَ: كَانَ سَبَبُ رِدَّةِ كِنْدَةَ إِجَابَتَهُمُ الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ حَتَّى لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلُوكَ الأَرْبَعَةَ، وَأَنَّهُمْ قَبْلَ رِدَّتِهِمْ حِينَ أَسْلَمُوا وَأَسْلَمَ أَهْلُ بِلادِ حَضْرَمَوْتَ كُلُّهُمْ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا يُوضَعُ مِنَ الصَّدَقَاتِ أَنْ يُوضَعَ صَدَقَةُ بعض حضرموت في كنده، وتوضع صَدَقَةِ كِنْدَةَ فِي بَعْضِ حَضْرَمَوْتَ، وَبَعْضُ حَضْرَمَوْتَ فِي السكُونِ وَالسكُونُ فِي بَعْضِ حَضْرَمَوْتَ فَقَالَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي وَلِيعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَسْنَا بِأَصْحَابِ إِبِلٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْنَا بِذَلِكَ عَلَى ظَهْرٍ! فَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ! قَالُوا: فَإِنَّا نَنْظُرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ظَهْرٌ فَعَلْنَا فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ ذَلِكَ الإِبَانُ، دَعَا زِيَادٌ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَضَرُوهُ، فَقَالَتْ بَنُو وَلِيعَةَ: أَبْلِغُونَا كَمَا وَعَدْتُمْ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَقَالُوا:
إِنَّ لَكُمْ ظَهْرًا، فَهَلُمُّوا فَاحْتَمِلُوا، وَلاحُوهُمْ، حَتَّى لاحُوا زِيَادًا، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ مَعَهُمْ عَلَيْنَا فَأَبَى الْحَضْرَمِيُّونَ، وَلَجَّ الْكِنْدِيُّونَ، فَرَجَعُوا إِلَى دَارِهِمْ، وَقَدَّمُوا رِجْلا وَأَخَّرُوا أُخْرَى، وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ زِيَادٌ انْتِظَارًا لِلْمُهَاجِرِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ صَنْعَاءَ، كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِكُلِّ الَّذِي صَنَعَ، وَأَقَامَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ جَوَابُ كِتَابِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَإِلَى عِكْرِمَةَ أَنْ يَسِيرَا حَتَّى يَقْدَمَا حَضْرَمَوْتَ، واقر زيادا على عمله، واذن لمن معك مِنْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ فِي الْقَفْلِ، إِلا ان يؤثر قوم الجهاد وامده بعبيده ابن سَعْدٍ فَفَعَلَ، فَسَارَ الْمُهَاجِرُ مِنْ صَنْعَاءَ يُرِيدُ حَضْرَمَوْتَ، وَسَارَ عِكْرِمَةُ مِنْ أَبْيَنَ يُرِيدُ حَضْرَمَوْتَ، فَالْتَقَيَا بِمَأْرِبٍ، ثُمَّ فوزا مِنْ صهيد، حَتَّى اقْتَحَمَا حَضْرَمَوْتَ، فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الأَشْعَثِ وَالآخَرُ على وائل

(3/331)


كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن أبيه، عن كثير بْن الصلت، قال: وكان زياد بْن لبيد حين رجع الكنديون ولجوا ولج الحضرميون، ولى صدقات بني عمرو بْن معاوية بنفسه، فقدم عليهم وهم بالرياض، فصدق أول من انتهى إليه منهم، وهو غلام، يقال له شيطان بْن حجر، فأعجبته بكرة من الصدقة، فدعا بنار فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بْن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها وظنها غيرها، فقال العداء: هذه شذرة باسمها، فقال الشيطان: صدق أخي، فإني لم أعطكموها إلا وأنا أراها غيرها، فأطلق شذرة وخذ غيرها، فإنها غير متروكة فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر ومباعدة الإسلام وتحري الشر.
فحمي وحمي الرجلان، فقال زياد: لا ولا تنعم، ولا هي لك، لقد وقع عليها ميسم الصدقة وصارت في حق اللَّه، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس، فنادى العداء: يا آل عمرو، بالرياض أضام واضطهد! إن الذليل من أكل في داره! ونادى: يا أبا السميط، فأقبل ابو السميط حارثة بن سراقه بن معديكرب، فقصد لزياد بْن لبيد وهو واقف، فقال: أطلق لهذا الفتى بكرته، وخذ بعيرا مكانها، فإنما بعير مكان بعير، فقال: ما إلى ذلك سبيل! فقال: ذاك إذا كنت يهوديا! وعاج إليها، فأطلق عقالها، ثم ضرب على جنبها، فبعثها وقام دونها، وهو يقول:
يمنعها شيخ بخديه الشيب ... ملمع كما يلمع الثوب
فأمر به زياد شبابا من حضرموت والسكون، فمغثوه وتوطئوه، وكتفوه وكتفوا أصحابه، وارتهنوهم، وأخذوا البكره فعقلوها كما كانت، وقال زياد ابن لبيد في ذلك:

(3/332)


لم يمنع الشذرة أركوب ... والشيخ قد يثنيه أرجوب
وتصايح أهل الرياض وتنادوا، وغضبت بنو معاوية لحارثة، وأظهروا أمرهم، وغضبت السكون لزياد، وغضبت له حضرموت، وقاموا جميعا دونه وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء وهؤلاء، لا تحدث بنو معاوية لمكان أسرائهم شيئا، ولا يجد أصحاب زياد على بني معاوية سبيلا يتعلقون به عليهم، فأرسل إليهم زياد: إما أن تضعوا السلاح، وإما أن تؤذنوا بحرب، فقالوا: لا نضع السلاح أبدا حتى ترسلوا أصحابنا، فقال زياد: لا يرسلون أبدا حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة يا أخابث الناس، ألستم سكان حضرموت وجيران السكون! فما عسيتم أن تكونوا وتصنعوا في دار حضرموت، وفي جنوب مواليكم! وقالت له السكون: ناهد القوم، فإنه لا يفطمهم إلا ذلك، فنهد إليهم ليلا، فقتل منهم، وطاروا عباديد، وتمثل زياد حين أصبح في عسكرهم:
وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالما ... فلما أبوا سامحت في حرب حاطب
ولما هرب القوم خلى عن النفر الثلاثة، ورجع زياد إلى منزله على الظفر ولما رجع الأسراء إلى أصحابهم ذمروهم فتذامروا، وقالوا:
لا تصلح البلدة علينا وعلى هؤلاء حتى تخلو لأحد الفريقين فأجمعوا وعسكروا جميعا، ونادوا بمنع الصدقة، فتركهم زياد لم يخرج إليهم، وتركوا المسير إليه وأرسل إليهم الحصين بْن نمير، فما زال يسفر فيما بينهم وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض، وهذه النفرة الثانية، وقال السكوني في ذلك:
لعمري وما عمرى بعرضه جانب ... ليجتلبن منها المرار بنو عمرو
كذبتم وبيت اللَّه لا تمنعونها ... زيادا، وقد جئنا زيادا على قدر

(3/333)


فأقاموا بعد ذلك يسيرا ثم إن بني عمرو بْن معاوية خصوصا خرجوا إلى المحاجر، إلى أحماء حموها، فنزل جمد محجرا، ومخوص محجرا، ومشرح محجرا، وأبضعة محجرا، وأختهم العمردة محجرا- وكانت بنو عمرو ابن معاوية على هؤلاء الرؤساء- ونزلت بنو الحارث بْن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بْن قيس محجرا، والسمط بْن الأسود محجرا، وطابقت معاوية كلها على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة إلا ما كان من شرحبيل بْن السمط وابنه، فإنهما قاما في بني معاوية، فقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل، إن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار، فكيف بالرجوع عن الجميل، وعن الحق إلى الباطل والقبيح! اللهم انا لا نمالى قومنا على هذا، وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا- يعني يوم البكرة ويوم النفره- وخرج شرحبيل بْن السمط وابنه السمط، حتى أتيا زياد بْن لبيد، فانضما إليه، وخرج ابن صالح وامرؤ القيس بْن عابس، حتى أتيا زيادا، فقالا له: بيت القوم، فإن أقواما من السكاسك قد انضموا إليهم، وقد تسرع إليهم قوم من السكون وشذاذ من حضرموت، لعلنا نوقع بهم وقعة تورث بيننا عداوة، وتفرق بيننا، وإن أبيت خشينا أن يرفضَّ الناس عنا إليهم، والقوم غارون لمكان من أتاهم، راجون لمن بقي فقال: شأنكم فجمعوا جمعهم، فطرقوهم في محاجرهم، فوجدوهم حول نيرانهم جلوسا، فعرفوا من يريدون، فأكبوا على بني عمرو بْن معاوية، وهم عدد القوم وشوكتهم، من خمسة أوجه في خمس فرق، فأصابوا مشرحا ومخوصا وجمدا وأبضعة وأختهم العمردة، أدركتهم اللعنة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، ووهنت بنو عمرو بْن معاوية، فلم يأتوا بخير بعدها، وانكفأ زياد بالسبي والأموال، وأخذوا طريقا

(3/334)


يفضي بهم إلى عسكر الأشعث وبني الحارث بْن معاوية، فلما مروا بهم فيه استغاث نسوة بني عمرو بْن معاوية ببني الحارث ونادينه: يا أشعث، يا أشعث! خالاتك خالاتك! فثار في بني الحارث فتنقذهم- وهذه الثالثة- وقال الأشعث:
منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم ... بأمعز من يوم البضيض وأصبرا
وعلم الأشعث أن زيادا وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بْن معاوية وبني عمرو بْن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بْن معاوية وبني عمرو بْن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة، فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر، وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد- مفازة ما بين مأرب وحضرموت- واستخلف على الجيش عكرمة، وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد، فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هرابا، فالتجأت إلى النجير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر:
كنا بزرقان إذ يشردكم ... بحر يزجي في موجه الحطبا
نحن قتلناكم بمحجركم ... حتى ركبتم من خوفنا السببا
إلى حصار يكون أهونه ... سبي الذراري وسوقها خببا
وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير،

(3/335)


وقد اجتمعت إليه كندة، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل، فنزل زياد على أحدها، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش، فأنزله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوطئوهم وفيمن بعث يزيد بْن قنان من بني مالك بْن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بْن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحياء أخر، وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقي سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه، جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم، فأنعم عليكم فبؤتم بنعمه، لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعض، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم:
صباح سوء لبني قتيرة ... وللأمير من بني المغيرة
وجعل راجز المسلمين زياد بْن دينار يرد عليهم:
لا توعدونا واصبروا حصيره ... نحن خيول ولد المغيره
وفي الصباح تظفر العشيره.
فلما أصبحوا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول:
أطعنهم وأنا على أوفاز ... طعنا أبوء به على مجاز

(3/336)


ويقول:
أنفذ قولي وله نفاذ ... وكل من جاورني معاذ
فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل.
وقال هشام بْن مُحَمَّد: قدم عكرمة بْن أبي جهل بعد ما فرغ المهاجر من أمر القوم مددا له، فقال زياد والمهاجر لمن معهما: إن إخوانكم قدموا مددا لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم، وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح.
وكتب إلي السري، قال: كتب أبو بكر رحمه اللَّه إلى المهاجر مع المغيرة بْن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم تظفروا، فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخرجوهم من ديارهم، فإني أكره أن أقر أقواما فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل، وخاف الرؤساء على أنفسهم، ولو صبروا حتى يجيء المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره، وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بْن الجون، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة، على ان يؤمنهم وأهليهم وان يفتحوا لهم الباب، فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق

(3/337)


الشيباني، عن سعيد بْن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يفتح لهم الباب فيدخلوا على قومه.
فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانه وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسي نفسه، عجل ودهش ثم جاء بالكتاب فختمه، ورجع فسرب الذين في الكتاب.
وقال الأجلح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه.
قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلا إلا قتلوه، ضربوا أعناقهم صبرا، وأحصي ألف امرأة ممن في النجير والخندق، ووضع على السبي والفيء الأحراس، وشاركهم كثير.
وقال كثير بْن الصلت: لما فتح الباب وفُرغ ممن في النجير، وأحصي ما أفاء اللَّه عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابه فعرضهم، فأجاز من في الكتاب، فإذا الأشعث ليس فيه، فقال المهاجر: الحمد لله الذي أخطاك نوءك يا أشعث، يا عدو اللَّه! قد كنت أشتهي أن يخزيك اللَّه.
فشده وثاقا، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا وإنه كان رجلا نسي اسمه أن يكتبه، وهو ولي المخاطبة أفذاك يبطل ذاك! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأوثرها وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عُرْف النار- كلام يمان يسمون به الغادر- وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد اللَّه، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه اللَّه بالفتح والسبايا والأسرى فدعا بالاشعث، فقال:

(3/338)


استزلك بنو وليعه، ولم تكن لتستزل لهم- ولا يرونك لذلك أهلا- وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى ان تكون دعوه رسول الله ص قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعا بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال: فإني أرى قتلك قال: فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال: نعم، قال:
ثم أتيتهم بما فوضوا إليك فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضا فلما خشي أن يقع به قال: أو تحتسب في خيرا فتطلق إساري وتقيلني عثرتي، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي- وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول الله ص، فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول الله ص، وفعل الأشعث ما فعل، فخشي ألا ترد عليه- تجدني خير أهل بلادي لدين اللَّه! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ حُمَيْدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ، أَنَّ الأَشْعَثَ لَمَّا قُدِمَ بِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: مَاذَا تَرَانِي أَصْنَعُ بِكَ، فَإِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَا عَلِمْتَ! قَالَ: تَمُنَّ على فتفكتنى مِنَ الْحَدِيدِ وَتُزَوِّجْنِي أُخْتَكَ، فَإِنِّي قَدْ رَاجَعْتُ وَأَسْلَمْتُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ فَعَلْتُ فَزَوَّجَهُ أُمَّ فَرْوَةَ ابْنَةَ أَبِي قُحَافَةَ، فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقِ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: انه

(3/339)


لَيَقْبُحُ بِالْعَرَبِ أَنْ يَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ، وَفَتَحَ الأَعَاجِمَ.
وَاسْتَشَارَ فِي فِدَاءِ سَبَايَا الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ إِلا امْرَأَةً وُلِدَتْ لِسَيِّدِهَا، وَجَعَلَ فِدَاءَ كُلِّ إِنْسَانٍ سَبْعَةَ أبعرة وسته أبعرة الا حنيفه وكنده، فَإِنَّهُ خَفَّفَ عَنْهُمْ لِقَتْلِ رِجَالِهِمْ، وَمَنْ لا يَقْدِرُ عَلَى فِدَاء لقيامهم وأهل دبا، فَتَتَبَّعَتْ رِجَالُهُمْ نِسَاءَهُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ فَوَجَدَ الأَشْعَثُ فِي بَنِي نَهْدٍ وَبَنِي غُطَيْفٍ امْرَأَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ فِيهَا يَسْأَلُ عَنْ غُرَابٍ وَعُقَابٍ، فَقِيلَ:
مَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَنَا يَوْمَ النُّجَيْرِ خَطَفَهُنَّ الْعُقْبَانُ وَالْغِرْبَانُ وَالذِّئَابُ وَالْكِلابُ فَقَالَ بَنُو غُطَيْفٍ: هَذَا غُرَابٌ، قَالَ: فَمَا مَوْضِعُهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: فِي الصِّيَانَةِ، قَالَ: فَنَعَمْ، وَانْصَرَفَ وَقَالَ عُمَرُ: لا مُلْكَ عَلَى عَرَبِيٍّ، لِلَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ.
قَالُوا: وَنَظَرَ الْمُهَاجِرُ فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَ أَبُوهَا النعمان بن الجون أهداها لرسول الله ص، فَوَصَفَهَا أَنَّهَا لَمْ تَشْتَكِ قَطُّ، فَرَدَّهَا، [وَقَالَ: لا حَاجَةَ لَنَا بِهَا، بَعْدَ أَنْ أَجْلَسَهَا بين يديه وقال له:
لَوْ كَانَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لاشْتَكَتْ] فَقَالَ الْمُهَاجِرُ لِعِكْرِمَةَ: مَتَى تَزَوَّجْتَهَا؟
قَالَ: وَأَنَا بِعَدْنٍ، فَأُهْدِيَتْ إِلَيَّ بِالْجُنْدِ، فَسَافَرْتُ بِهَا إِلَى مَأْرِبٍ، ثُمَّ أَوْرَدْتُهَا الْعَسْكَرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَهْلٍ أَنْ يُرْغَبَ فِيهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَدَعْهَا فَكَتَبَ الْمُهَاجِرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ أَبَاهَا النُّعْمَانَ بْنَ الجون اتى رسول الله ص، فَزَيَّنَهَا لَهُ حَتَّى أَمَرَهُ أَنْ يَجِيئَهُ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَهُ بِهَا قَالَ: أُزِيدُكَ أَنَّهَا لَمْ تيجع شَيْئًا قَطُّ، [فَقَالَ: لَوْ كَانَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لاشْتَكَتْ،] وَرَغِبَ عَنْهَا، فَارْغَبُوا عَنْهَا فأرسلها وبقي في قريش بعد ما أَمَرَ عُمَرُ فِي السَّبْيِ بِالْفِدَاءِ عِدَّةً، مِنْهُمْ بُشْرَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ أَبِي الْكَيْسَمِ،

(3/340)


عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُمَرَ، وَزُرْعَةُ بِنْتُ مِشْرَحٍ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَلَدَتْ لَهُ عَلِيًّا.
وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمُهَاجِرِ يُخَيِّرُهُ الْيَمَنَ أَوْ حَضْرَمَوْتَ، فَاخْتَارَ الْيَمَنَ، فَكَانَتِ الْيَمَنُ عَلَى أَمِيرَيْنِ: فَيْرُوزَ وَالْمُهَاجِرِ، وَكَانَتْ حَضْرَمَوْتَ عَلَى أَمِيرَيْنِ: عُبَيْدَةَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى كِنْدَةَ وَالسَّكَاسِكَ، وَزِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ عَلَى حَضْرَمَوْتَ.
وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَّالِ الرِّدَّةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ أَحَبَّ مَنْ أَدْخَلْتُمْ فِي أُمُورِكُمْ إِلَيَّ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ وَمَنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَأَجْمِعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَاتَّخِذُوا مِنْهَا صَنَائِعَ، وَائْذَنُوا لِمَنْ شَاءَ فِي الانْصِرَافِ، وَلا تَسْتَعِينُوا بِمُرْتَدٍّ فِي جِهَادِ عَدُوٍّ.
وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ مئناس السَّكُونِيُّ يَبْكِي أَهْلَ النُّجَيْرِ:
لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ ... لَقَدْ كُنْتُ بِالْقَتْلَى لَحَقَّ ضَنِينِ
فَلا غَرْوَ إِلا يَوْمَ اقرع بَيْنَهُمْ ... وَمَا الدَّهْرُ عِنْدِي بَعْدَهُمْ بِأَمِينِ
فَلَيْتَ جُنُوبُ النَّاسِ تَحْتَ جُنُوبِهِمْ ... وَلَمْ تَمْشِ أُنْثَى بَعْدَهُمْ لِجَنِينِ
وَكُنْتُ كَذَاتِ الْبَوِّ رِيَعَتْ فَأَقْبَلَتْ ... عَلَى بَوِّهَا إِذْ طَرَّبَتْ بِحَنِينِ
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: وَقَعَ إِلَى الْمُهَاجِرِ امْرَأَتَانِ مُغَنِّيَتَانِ، غَنَّتْ إِحْدَاهُمَا بشتم رسول الله ص، فَقَطَعَ يَدَهَا، وَنَزَعَ ثنيتَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي الَّذِي سِرْتَ بِهِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تَغَنَّتْ وَزَمَرَتْ بِشَتِيمَةِ رَسُولِ الله ص، فَلَوْلا مَا قَدْ سَبَقْتَنِي فِيهَا لأَمَرْتُكَ بِقَتْلِهَا، لأَنَّ حَدَّ الأَنْبِيَاءِ لَيْسَ يُشْبِهُ الْحُدُودَ، فَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ مُسْلِمٍ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، أَوْ مُعَاهِدٍ فَهُوَ مُحَارِبٌ غَادِرٌ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فِي الَّتِي تَغَنَّتْ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ: أَمَّا بعد، فانه

(3/341)


بلغنى انك قطعت يدا امْرَأَةٍ فِي أَنْ تَغَنَّتْ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَزَعْتَ ثنيتَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَدَّعِي الإِسْلامَ فَأَدَبٌ وَتَقْدِمَةٌ دُونَ الْمُثْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَلَعَمْرِي لَمَا صَفَحْتَ عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ، وَلَوْ كنت تَقَدَّمَتْ إِلَيْكَ فِي مِثْلِ هَذَا لَبَلَغَتْ مَكْرُوهًا، فَاقْبَلِ الدِّعَةَ وَإِيَّاكَ وَالْمُثْلَةَ فِي النَّاسِ، فَإِنَّهَا مأثم ومنفره الا في قصاص
. [حوادث متفرقة]
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى عَشَرَةَ- انصرف معاذ بن جبل من اليمن.
وستقضى أَبُو بَكْرٍ فِيهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ أَيَّامَ خِلافَتِهِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا أَمَّرَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْمَوْسِمِ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ- فِيمَا ذَكَرَهُ الَّذِينَ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ خَبَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ ذَكَرْتُ قَبْلُ فِي كِتَابِي هَذَا أَسْمَاءَهُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشَرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ تَأْمِيرِ أَبِي بَكْرٍ إِيَّاهُ بِذَلِكَ

(3/342)


ثم كانت

سنة اثنتي عشرة من الهجرة

مسير خالد الى العراق وصلح الحيرة
قال أبو جعفر، ولما فرغ خالد من أمر اليمامة، كتب إليه أبو بكر الصديق رحمه اللَّه، وخالد مقيم باليمامة- فيما حَدَّثَنَا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن الشعبي: أن سر إلى العراق حتى تدخلها، وابدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، وتألف أهل فارس، ومن كان في ملكهم من الأمم.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِيهِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَّهَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ، وَفِيهَا الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ، فَسَارَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ، فَجَعَلَ طَرِيقَهَ الْبَصْرَةَ، وَفِيهَا قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ السَّدُوسِيُّ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: اخْتُلِفَ فِي أَمْرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: مَضَى مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ مِنَ الْيَمَامَةِ إِلَى الْعِرَاقِ وَقَائِلٌ يَقُولُ: رَجَعَ مِنَ الْيَمَامَةِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْعِرَاقِ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْحِيرَةِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَمَضَى خَالِدٌ يُرِيدُ الْعِرَاقَ، حَتَّى نَزَلَ بِقَرْيَاتٍ مِنَ السَّوَادِ، يُقَالُ لَهَا: بَانِقْيَا وَبَارُوسْمَا وأُلَيْسَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، وَكَانَ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَيْهَا ابْنُ صَلُوبَا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ خالد الجزية

(3/343)


وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لابْنِ صَلُوبَا السَّوَادِيِّ- وَمَنْزِلُهُ بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ- إِنَّكَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ- إِذْ حَقَنَ دَمَهُ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ- وَقَدْ أَعْطَيْتَ عَنْ نَفْسِكَ وَعَنْ أَهْلِ خَرْجِكَ وَجَزِيرَتِكَ وَمَنْ كَانَ فِي قَرْيَتَيْكَ- بَانِقْيَا وَبَارُوسْمَا- أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَبِلْتُهَا مِنْكَ، وَرَضِيَ مَنْ مَعِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا مِنْكَ، وَلَكَ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ وَشَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ.
ثُمَّ أَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ الْحِيرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَشْرَافُهُمْ مَعَ قَبِيصَةَ بْنِ إِيَاسِ بْنِ حَيَّةَ الطَّائِيِّ- وَكَانَ أَمَّرَهُ عليها كسرى بعد النعمان ابن الْمُنْذِرِ- فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ وَلأَصْحَابِهِ: أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَيْهِ فَأَنْتُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَكُمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْكُمْ مَا عليهم، فان ابيتم فالجزية، فَإِنْ أَبَيْتُمُ الْجِزْيَةَ فَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِأَقْوَامٍ هُمْ أَحْرَصُ عَلَى الْمَوْتِ مِنْكُمْ عَلَى الْحَيَاةِ، جَاهَدْنَاكُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.
فَقَالَ لَهُ قَبِيصَةُ بْنُ إِيَاسٍ: مَا لَنَا بِحَرْبِكَ مِنْ حَاجَةٍ، بَلْ نُقِيمُ عَلَى دِينِنَا، وَنُعْطِيكَ الْجِزْيَةَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى تِسْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ أَوَّلُ جزية وقعت بالعراق، هي القريات الَّتِي صَالَحَ عَلَيْهَا ابْنَ صَلُوبَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَهُوَ بِالْيَمَامَةِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الشَّامِ، أَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِرَاقِ فَيَمُرَّ بِهَا، فَأَقْبَلَ خَالِدٌ مِنْهَا يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ النِّبَاجَ.
قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ حَمْزَةُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، أَنَّ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيَّ، سَارَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَمِّرْنِي عَلَى مَنْ قَبْلِي مِنْ قَوْمِي، أُقَاتِلُ مَنْ يَلِينِي مِنْ أَهْلِ فَارِسٍ، وَأَكْفِيكَ نَاحِيَتِي، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ فَجَمَعَ قَوْمَهُ وَأَخَذَ يُغِيرُ بِنَاحِيَةِ كَسْكَرٍ مَرَّةً، وَفِي أَسْفَلِ الْفُرَاتِ مَرَّةً، وَنَزَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ النِّبَاجَ والمثنى بن حارثة بخفان معسكر، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ

(3/344)


لِيَأْتِيَهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِكِتَابٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِطَاعَتِهِ، فَانْقَضَّ إِلَيْهِ جَوَادًا حَتَّى لَحِقَ بِهِ، وَقَدْ زَعَمَتْ بَنُو عِجْلٍ أَنَّهُ كَانَ خَرَجَ مَعَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ رَجُلٌ منهم يقال له مذعور بن عدى، نازع الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، فَتَكَاتَبَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْعِجْلِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ مَعَ خَالِدٍ إِلَى الشَّامِ، وَأَقَرَّ الْمُثَنَّى عَلَى حَالِهِ، فَبَلَغَ الْعِجْلِيُّ مِصْرَ، فَشَرُفَ بِهَا وَعَظُمَ شَأْنُهُ، فَدَارُهُ الْيَوْمَ بِهَا مَعْرُوفَةٌ، وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَسِيرُ، فَعَرَضَ لَهُ جَابَانُ صَاحِبُ أُلَيْسَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ، وَقَتَلَ جُلَّ أَصْحَابِهِ، إِلَى جَانِبِ نَهْرٍ ثَمَّ يُدْعَى نَهْرَ دَمٍ لِتِلْكَ الْوَقْعَةِ، وَصَالَحَ أَهْلَ أُلَيْسَ، وَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْحِيرَةِ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ خُيُولُ آزَاذْبَهْ صَاحِبِ خَيْلِ كِسْرَى الَّتِي كَانَتْ فِي مَسَالِحِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ، فَلَقُوهُمْ بِمُجْتَمَعِ الأَنْهَارِ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحِيرَةِ خَرَجُوا يَسْتَقْبِلُونَهُ، فِيهِمْ عَبْدُ الْمَسِيحِ بْنُ عَمْرِو بْنِ بُقَيْلَةَ وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الْمَسِيحِ: مِنْ أَيْنَ أَثَرُكَ؟ قَالَ: مِنْ ظَهْرِ أَبِي، قَالَ: مِنْ أَيْنَ خَرَجْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَطْنِ أُمِّي، قَالَ: وَيْحَكَ! عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: عَلَى الأَرْضِ، قَالَ:
وَيْلَكَ! فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي، قَالَ: وَيْحَكَ! تَعَقِلُ؟ قَالَ:
نَعَمْ وأقيد، قَالَ: إِنَّمَا أَسْأَلُكَ، قَالَ: وَأَنَا أُجِيبُكَ، قَالَ: أَسِلْمٌ أَنْتَ أَمْ حَرْبٌ؟ قَالَ: بَلْ سِلْمٌ، قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْحُصُونُ الَّتِي أَرَى؟ قَالَ:
بَنَيْنَاهَا لِلسَّفِيهِ نَحْبِسُهُ حَتَّى يَجِيءَ الْحَلِيمُ فَيَنْهَاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ خَالِدٌ:
إِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ وَإِلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ قَبِلْتُمْ فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَةِ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ شُرْبَ الْخَمْرِ فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا فِي حَرْبِكَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى تِسْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَتْ أَوَّلُ جِزْيَةٍ حُمِلَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْعِرَاقِ ثم نزل

(3/345)


عَلَى بَانِقْيَا، فَصَالَحَهُ بصُبْهُرَى بْنُ صلُوبَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَطَيْلَسَانٍ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا، وَكَانَ صَالَحَ خَالِدٌ أَهْلَ الْحِيرَةِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا لَهُ عُيُونًا، فَفَعَلُوا.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَقْرَأَنِي بَنُو بُقَيْلَةَ كِتَابَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ:
مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى مَرَازِبَةِ أَهْلِ فَارِسٍ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّ خِدْمَتَكُمْ، وَسَلَبَ مُلْكَكُمْ، وَوَهَّنَ كَيْدَكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ مَا لنَا، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي فَابْعَثُوا إِلَيَّ بِالرُّهُنِ، وَاعْتَقِدُوا مِنِّي الذمة، والا فو الذى لا إِلَهَ غَيْرُهُ لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ قَوْمًا يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَيَاةَ فَلَمَّا قَرَءُوا الْكِتَابَ، أَخَذُوا يَتَعَجَّبُونَ، وَذَلِكَ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ.
قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق وغير هشام ومن ذكرت قوله من قبل، فإنه قال في أمر خالد ومسيره إلى العراق ما حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: لَمَّا فَرَغَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنَ الْيَمَامَةِ، كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إن اللَّه فَتَحَ عَلَيْكَ فعارق حَتَّى تَلْقَى عِيَاضًا وَكَتَبَ إِلَى عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ وَهُوَ بَيْنَ النِّبَاجِ وَالْحِجَازِ: أَنْ سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ المُصَيَّخَ فَابْدَأْ بِهَا، ثُمَّ ادْخُلِ الْعِرَاقَ مِنْ أَعْلاهَا، وَعَارق حَتَّى تَلْقَى خَالِدًا وَأْذَنَا لِمَنْ شَاءَ بِالرُّجُوعِ، وَلا تَسْتَفْتِحَا بِمُتَكَارِهٍ.
وَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى خَالِدٍ وَعِيَاضٍ، وَأَذِنَا فِي الْقَفْلِ عَنْ أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ قَفَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا وَأَعْرَوْهُمَا، فَاسْتَمَدَّا أَبَا بَكْرٍ، فَأَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِالْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو التَّمِيمِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَمُدُّ رَجُلا قَدِ ارْفَضَّ عَنْهُ

(3/346)


جُنُودُهُ بِرَجُلٍ! فَقَالَ: لا يُهْزَمُ جَيْشٌ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا وَأَمَدَّ عِيَاضًا بِعَبْدِ بْنِ عَوْفٍ الْحِمْيَرِيِّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمَا أَنِ اسْتَنْفِرَا مَنْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَمَنْ ثَبَتَ عَلَى الإِسْلامِ بَعْدَ رسول الله ص، وَلا يَغْزُوَنَّ مَعَكُمْ أَحَدٌ ارْتَدَّ حَتَّى أَرَى رَأْيِي فَلَمْ يَشْهَدِ الأَيَّامَ مُرْتَدٌّ.
فَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى خَالِدٍ بِتَأْمِيرِ الْعِرَاقِ، كَتَبَ إِلَى حَرْمَلَةَ وَسَلْمَى وَالْمُثَنَّى وَمَذْعُورٍ بِاللِّحَاقِ بِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَاعِدُوا جُنُودَهُمُ الأُبُلَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَمَرَ خَالِدًا فِي كِتَابِهِ: إِذَا دَخَلَ الْعِرَاقَ أَنْ يَبْدَأَ بِفَرْجِ أَهْلِ السِّنْدِ وَالْهِنْدِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ الأُبُلَّةُ- لِيَوْمٍ قَدْ سَمَّاهُ، ثُمَّ حَشَرَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِرَاقِ، فَحَشَرَ ثَمَانِيَةَ آلاف من ربيعه ومضر إِلَى أَلْفَيْنِ كَانَا مَعَهُ، فَقَدِمَ فِي عَشَرَةِ آلافٍ عَلَى ثَمَانِيَةِ آلافٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَ الأُمَرَاءِ الأَرْبَعَةِ- يَعْنِي بِالأُمَرَاءِ الأَرْبَعَةِ: الْمُثَنَّى، وَمَذْعُورًا، وَسَلْمَى، وَحَرْمَلَةَ- فَلَقِيَ هُرْمُزَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشْرَ أَلْفًا.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ الأَسَدِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالُوا: كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، إِذْ أَمَّرَهُ عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ، أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَإِلَى عِيَاضٍ إِذْ أَمَّرَهُ عَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ، أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَعْلاهَا، ثُمَّ يَسْتَبِقَا إِلَى الْحِيرَةِ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ إِلَى الْحِيرَةِ فَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَالَ: إِذَا اجْتَمَعْتُمَا بِالْحِيرَةِ، وَقَدْ فَضَضْتُمَا مَسَالِحَ فَارِسَ وَأَمِنْتُمَا أَنْ يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلْيَكُنْ أَحَدُكُمَا رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلِصَاحِبِهِ بِالْحِيرَةِ، وَلْيَقْتَحِمِ الآخَرُ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّكُمْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ دَارَهُمْ وَمُسْتَقَرَّ عِزِّهِمُ، الْمَدَائِنَ.
حَدَّثَنَا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَتَبَ خَالِدٌ إِلَى هُرْمُزَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَعَ آزَاذْبَهْ- أَبِي الزياذبه الَّذِينَ بِالْيَمَامَةِ وَهُرْمُزُ صَاحِبُ الثَّغْرِ يَوْمَئِذٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، أَوِ اعْتَقِدْ لِنَفْسِكَ وَقَوْمِكَ

(3/347)


الذِّمَّةَ، وَأَقْرِرْ بِالْجِزْيَةِ، وَإِلا فَلا تَلُومَنَّ إِلا نَفْسَكَ، فَقَدْ جِئْتُكَ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَيَاةَ.
قَالَ سَيْفٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ- وَكَانَ قَاضِي أَهْلِ الْكُوفَةِ- قَالَ: فَرَّقَ خَالِدٌ مَخْرَجَهُ مِنَ الْيَمَامَةِ إِلَى الْعِرَاقِ جُنْدَهُ ثَلاثَ فِرَقٍ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ فَسَرَّحَ الْمُثَنَّى قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ وَدَلِيلُهُ ظفرُ، وَسَرَّحَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَعَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو وَدَلِيلاهُمَا مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ وَسَالمُ بْنُ نَصْرٍ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِيَوْمٍ، وَخَرَجَ خَالِدٌ وَدَلِيلُهُ رَافِعٌ، فَوَاعَدَهُمْ جَمِيعًا الْحَفِيرَ لِيَجْتَمِعُوا بِهِ وَلِيُصَادِمُوا بِهِ عَدُوَّهُمْ، وَكَانَ فَرْجُ الْهِنْدِ أَعْظَمَ فُرُوجِ فَارِسَ شَأْنًا، وَأَشَدَّهَا شَوْكَةً، وَكَانَ صَاحِبُهُ يُحَارِبُ الْعَرَبَ فِي الْبَرِّ وَالْهِنْد فِي الْبَحْرِ.
قَالَ- وَشَارَكَهُ الْمُهَلَّبُ بْنُ عُقْبَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِيَاهٍ الأَحْمَرِيُّ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْحَمْرَاءُ، فَيُقَالُ: حَمْرَاءُ سِيَاهٍ- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كِتَابُ خَالِدٍ عَلَى هُرْمُزَ كَتَبَ بِالْخَبَرِ إِلَى شِيرَى بْنِ كِسْرَى وَإِلَى أَرْدَشِيرَ بْنِ شِيرَى وَجَمَعَ جُمُوعَهُ، ثُمَّ تَعَجَّلَ إِلَى الْكَوَاظِمِ فِي سَرَعَانِ أَصْحَابِهِ لِيَتَلَقَّى خَالِدًا، وَسَبَقَ حَلَبَتَهُ فَلَمْ يَجِدْهَا طَرِيقَ خَالِدٍ، وَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ تَوَاعَدُوا الْحَفِيرَ، فَعَاجَ يُبَادِرُهُ إِلَى الْحَفِيرِ فَنَزَلَهُ، فَتَعَبَّى بِهِ، وَجَعَلَ عَلَى مُجَنِّبَتِهِ أَخَوَيْنِ يُلاقِيَانِ أَرْدَشِيرَ وَشِيرَى إِلَى أَرْدَشِيرَ الأَكْبَرِ، يُقَالُ لَهُمَا: قُبَاذُ وانو شجان، وَاقْتَرَنُوا فِي السَّلاسِلِ، فَقَالَ مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ: قَيَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لِعَدُوِّكُمْ، فَلا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ هَذَا طَائِرُ سُوءٍ، فَأَجَابُوهُمْ وَقَالُوا:
اما أنتم فحدثوننا أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ الْهَرَبَ فَلَمَّا أَتَى الْخَبَرُ خَالِدًا بِأَنَّ هُرْمُزَ فِي الْحَفِيرِ أَمَالَ النَّاسَ إِلَى كَاظِمَةَ، وَبَلَغَ هُرْمُزَ ذَلِكَ فَبَادَرَهُ إِلَى كَاظِمَةَ فَنَزَلَهَا وَهُوَ حَسِيرٌ، وَكَانَ مِنْ أَسْوَإِ أُمَرَاءِ ذَلِكَ الْفَرْجِ جِوَارًا لِلْعَرَبِ، فَكُلُّ الْعَرَبِ عَلَيْهِ مُغَيَّظٌ، وَقَدْ كَانُوا ضَرَبُوهُ مَثَلا فِي الْخُبْثِ حَتَّى قَالُوا: أَخْبَثُ مِنْ هُرْمُزَ، وَأَكْفَرُ مِنْ هرمز وتعبى هُرْمُزُ وَأَصْحَابُهُ وَاقْتَرَنُوا فِي السَّلاسِلِ، وَالْمَاءِ فِي أَيْدِيهِمْ وَقَدِمَ خَالِدٌ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ،

(3/348)


فَأَمَرَ مُنَادِيهِ، فَنَادَى: أَلا انْزِلُوا وَحُطُّوا أَثْقَالَكُمْ، ثُمَّ جَالَدُوهُمْ عَلَى الْمَاءِ، فَلَعَمْرِي لَيَصِيرَنَّ الْمَاءُ لأَصْبَرِ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَكْرَمِ الْجُنْدَيْنِ، فَحُطَّتِ الأَثْقَالُ وَالْخَيْلُ وُقُوفٌ، وَتَقَدَّمَ الرَّجُلُ، ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لاقاهم، فاقتتلوا، وارسل الله سحابه فاغزرت مَا وَرَاءِ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ، فَقَوَّاهُمْ بِهَا، وَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَفِي الْغَائِطِ مُقْتَرِنٌ.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَطَاءٍ الْبَكَّائِيِّ، عَنِ الْمُقَطِّعِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْبَكَّائِيِّ بِمِثْلِهِ، وَقَالُوا: وَأَرْسَلَ هُرْمُزُ أَصْحَابَهُ بِالْغَدِ لِيَغْدُرُوا بِخَالِدٍ، فَوَاطَئُوهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ هُرْمُزَ، فَنَادَى رَجُلٌ وَرَجُلٌ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ وَقَدْ عَهِدَ إِلَى فِرَسَانِهِ عَهْدَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ خَالِدٌ نَزَلَ هُرْمُزُ، وَدَعَاهُ إِلَى النِّزَالِ فَنَزَلَ خَالِدٌ فَمَشِيَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَيَا فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، واحتضنه خالد، وَحَمَلَتْ حَامِيَةُ هُرْمُزَ وَغَدَرَتْ، فَاسْتَلْحَمُوا خَالِدًا، فَمَا شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ قَتْلِهِ وَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو وَاسْتَلْحَمَ حُمَاةُ هُرْمُزَ فَأَنَامُوهُمْ، وَإِذَا خَالِدٌ يُمَاصِعُهُمْ، وَانْهَزَمَ أَهْلُ فَارِسَ، وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَجَمَعَ خَالِدٌ الرِّثَاثَ وَفِيهَا السَّلاسِلُ، فكانت وقر بعير، الف رطل، فسميت ذات السلاسل، وافلت قباذ وانو شجان.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قَالَ: كَانَ أَهْلُ فَارِسَ يَجْعَلُونَ قَلانِسَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَحْسَابِهِمْ فِي عَشَائِرِهِمْ، فَمَنْ تَمَّ شَرَفُهُ فَقِيمَةُ قَلَنْسُوَتِهِ مِائَةُ أَلْفٍ فَكَانَ هُرْمُزُ مِمَّنْ تَمَّ شَرَفُهُ، فَكَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ أَلْفٍ، فَنَفَّلَهَا أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا، وَكَانَتْ مُفَصَّصَةً بِالْجَوْهَرِ، وَتَمَامُ شرف احدهم ان يكون من بيوتات

(3/349)


حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوَيْرَةَ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ زِيَادِ بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: لَمَّا تَرَاجَعَ الطَّلَبُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، نَادَى مُنَادِي خَالِدٍ بِالرَّحِيلِ، وَسَارَ بِالنَّاسِ، وَاتَّبَعَتْهُ الأَثْقَالُ، حَتَّى يَنْزِلَ بِمَوْضِعِ الْجِسْرِ الأَعْظَمِ مِنَ الْبَصْرَةِ الْيَوْمَ، وَقَدْ أَفْلَتَ قُبَاذُ وَأَنُوشَجَانُ، وَبَعَثَ خَالِدٌ بِالْفَتْحِ وَمَا بَقِيَ مِنَ الأَخْمَاسِ وَبِالْفِيلِ، وَقَرَأَ الْفَتْحَ عَلَى النَّاسِ وَلَمَّا قَدِمَ زِرُّ بْنُ كُلَيْبٍ بِالْفِيلِ مَعَ الأَخْمَاسِ، فَطِيفَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، جَعَلَ ضَعِيفَاتُ النِّسَاءِ يَقُلْنَ: أَمِنْ خَلْقِ اللَّهِ مَا نَرَى! وَرَأَيْنَهُ مَصْنُوعًا، فَرَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ مَعَ زِرٍّ قَالَ: وَلَمَّا نَزَلَ خَالِدٌ مَوْضِعَ الْجِسْرِ الأَعْظَمِ الْيَوْمَ بِالْبَصْرَةِ، بَعَثَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، وَأَرْسَلَ مَعْقِلَ بْنَ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيَّ إِلَى الأُبُلَّةِ لِيَجْمَعَ لَهُ مَالَهَا وَالسَّبْيَ، فَخَرَجَ مَعْقِلُ حَتَّى نَزَلَ الأُبُلَّةَ فَجَمَعَ الأَمْوَالَ وَالسَّبَايَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي أَمْرِ الأُبُلَّةِ وَفَتْحِهَا خِلافُ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ السِّيَرِ، وَخِلافُ مَا جَاءَتْ بِهِ الآثَارُ الصِّحَاحُ، وَإِنَّمَا كَانَ فَتْحُ الأُبُلَّةِ أَيَّامَ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى يَدِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَنَذْكُرُ أَمْرَهَا وَقِصَّةَ فَتْحِهَا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُوَيْرَةَ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: وَخَرَجَ الْمُثَنَّى حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَهْرِ الْمَرْأَةِ، فَانْتَهَى إِلَى الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ الْمَرْأَةُ، فَخَلَّفَ الْمُعَنَّى بْنُ حَارِثَةَ عَلَيْهِ، فَحَاصَرَهَا فِي قَصْرِهَا، وَمَضَى الْمُثَنَّى إِلَى الرَّجُلِ فَحَاصَرَهُ ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُمْ عَنْوَةً، فَقَتَلَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَرْأَةَ صَالَحَتِ الْمُثَنَّى وَأَسْلَمَتْ، فَتَزَوَّجَهَا الْمُعَنَّى، وَلَمْ يُحَرِّكْ خَالِدٌ وَأُمَرَاؤُهُ الفلاحين في شيء من فتوحهم لِتَقَدُّمِ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهِ فِيهِمْ، وَسَبَى أَوْلادَ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُومُونَ بِأُمُورِ الأَعَاجِمِ، وَأَقَرَّ مَنْ لَمْ يَنْهَضْ مِنَ الْفَلاحِينَ، وَجَعَلَ لَهُمُ الذِّمَّةَ، وَبَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ فِي يَوْمِ ذَاتِ السَّلاسِلِ وَالثَّني أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالرَّاجِلِ عَلَى الثُّلُثِ من ذلك

(3/350)


8

ذكر وقعه المذار
8 قَالَ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْمذَارِ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ، وَيَوْمَئِذٍ قَالَ النَّاسُ:
صَفَرُ الأَصْفَارِ، فِيهِ يُقْتَلُ كُلُّ جَبَّارٍ، عَلَى مَجْمَعِ الأَنْهَارِ حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سَيْفٍ، عَنْ زِيَادٍ وَالْمُهَلَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن سِيَاهٍ الأَحْمَرِيِّ.
وَأَمَّا فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، فَإِنَّهُ عَنْ سيف، عن المهلب بن عقبة وزياد بن سَرْجِسَ الأَحْمَرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ الأَحْمَرِيِّ وَسُفْيَانَ الأَحْمَرِيِّ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ هُرْمُزُ كَتَبَ إِلَى أَرْدَشِيرَ وَشِيرَى بِالْخَبَرِ بِكِتَابِ خَالِدٍ إِلَيْهِ بِمَسِيرِهِ مِنَ الْيَمَامَةِ نَحْوَهُ، فَأَمَدَّهُ بِقَارِنِ بْنِ قريانسَ، فَخَرَجَ قَارِنٌ مِنَ الْمَدَائِنِ مُمِدًّا لِهُرْمُزَ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْمذارِ بَلَغَتْهُ الْهَزِيمَةُ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الْفُلالُ فَتَذَامَرُوا، وَقَالَ فُلَّالُ الأَهْوَازِ وَفَارِسَ لِفُلالِ السَّوَادِ وَالْجَبَلِ: إِنِ افْتَرَقْتُمْ لَمْ تَجْتَمِعُوا بَعْدَهَا أَبَدًا، فَاجْتَمَعُوا عَلَى الْعَوْدِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَهَذَا مَدَدُ الْمَلِكِ وَهَذَا قَارِنٌ، لَعَلَّ اللَّهَ يُديلنَا وَيُشْفِينَا مِنْ عَدُوِّنَا وَنُدْرِكُ بَعْضَ مَا أَصَابُوا مِنَّا فَفَعَلُوا وَعَسْكَرُوا بِالمذارِ، وَاسْتَعْمَلَ قَارِنٌ عَلَى مُجَنِّبَتِهِ قُبَاذُ وَأَنُوشَجَانُ، وَأَرَزَ الْمُثَنَّى وَالْمُعَنَّى إِلَى خَالِدٍ بِالْخَبَرِ، وَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى خَالِدٍ عَنْ قَارِنٍ قَسَّمَ الْفَيْءَ عَلَى مَنْ أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَنَفَّلَ مِنَ الْخُمسِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَبَعَثَ بِبَقِيَّتِهِ وَبِالْفَتْحِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَبِالْخَبَرِ عَنِ الْقَوْمِ وَبِاجْتِمَاعِهِمْ إِلَى الثني المغيث والمغاث، مع الوليد ابن عُقْبَةَ- وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ نَهْرٍ الثّنِيَّ- وَخَرَجَ خَالِدٌ سَائِرًا حَتَّى يَنْزِلَ الْمذارَ عَلَى قَارِنٍ فِي جُمُوعِهِ، فَالْتَقَوْا وَخَالِدٌ عَلَى تَعْبِيَتِهِ، فَاقْتَتَلُوا عَلَى حَنَقٍ وَحَفِيظَةٍ، وَخَرَجَ قَارِنٌ يَدْعُو لِلْبِرَازِ، فَبَرَزَ لَهُ خَالِدٌ وَأَبْيَضُ الرُّكْبَانِ مَعْقِلُ بْنُ الأَعْشَى بْنِ النَّبَّاشِ، فَابْتَدَرَاهُ، فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ مَعْقِلٌ، فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ عَاصِمٌ الأَنُوشَجَانَ، وَقَتَلَ عَدِيُّ قُبَاذَ وَكَانَ شَرَفُ قَارِنٍ قَدِ انْتَهَى، ثَمَّ لَمْ يقاتل

(3/351)


الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ أَحَدًا انْتَهَى شَرَفُهُ فِي الأَعَاجِمِ، وَقُتِلَتْ فَارِسُ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، فَضَمُّوا السُّفُنَ، وَمَنَعَتِ الْمِيَاهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَلَبِهِمْ، وَأَقَامَ خَالِدٌ بِالمذارِ، وَسلَّمَ الأَسْلابَ لِمَنْ سَلَبَهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَقَسَّمَ الْفَيْءَ وَنَفَّلَ مِنَ الأَخْمَاسِ أَهْلَ الْبَلاءِ، وَبَعَثَ بِبَقِيَّةِ الأَخْمَاسِ، وَوَفَّدَ وَفْدًا مَعَ سَعِيدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَخِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: قُتِلَ لَيْلَةَ المذارِ ثَلاثُونَ أَلْفًا سِوَى مَنْ غَرِقَ، وَلَوْلا الْمِيَاهُ لأُتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ مَنْ أَفْلَتَ إِلا عُرَاةً وَأَشْبَاهَ الْعُرَاةِ.
قَالَ سَيْفٌ، عَنْ عَمْرٍو وَالْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَ خَالِدٌ مَهْبَطَهُ الْعِرَاقِ هُرْمُزَ بِالْكَوَاظِمِ، ثُمَّ نَزَلَ الْفُرَاتَ بِشَاطِئِ دِجْلَةَ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَتَبَحْبَحَ بِشَاطِئِ دِجْلَةَ، ثُمَّ الثَّنِيِّ، وَلَمْ يَلْقَ بَعْدَ هُرْمُزَ أَحَدًا إِلا كَانَتِ الْوَقْعَةُ الآخِرَةُ أَعْظَمَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى أَتَى دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، وَزَادَ سَهْمُ الْفَارِسِ فِي يَوْمِ الثَّنِيِّ عَلَى سَهْمِهِ فِي ذَاتِ السَّلاسِلِ.
فَأَقَامَ خَالِدٌ بِالثَّنِيِّ يُسْبِي عِيَالاتِ الْمُقَاتِلَةِ وَمَنْ أَعَانَهُمْ، وَأَقَرَّ الْفَلاحِينَ وَمَنْ أَجَابَ إِلَى الْخَرَاجِ مِنْ جميع الناس بعد ما دُعُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ أُخِذَ عَنْوَةً وَلَكِنْ دُعُوا إِلَى الْجَزَاءِ، فَأَجَابُوا وَتَرَاجَعُوا، وَصَارُوا ذِمَّةً، وَصَارَتْ أَرْضُهُمْ لَهُمْ، كَذَلِكَ جَرَى مَا لَمْ يُقَسَّمْ، فَإِذَا اقْتَسَمَ فَلا.
وَكَانَ فِي السَّبْيِ حَبِيبٌ أَبُو الْحَسَنِ- يَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ- وَكَانَ نَصْرَانِيَّا، وَمَافِنَةُ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَأَبُو زِيَادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
وَأَمَّرَ عَلَى الْجُنْدِ سَعِيدَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَعَلَى الْجَزَاءِ سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيَّ، وَأَمَرَهُ بِنُزُولِ الْحَفِيرِ، وَأَمَرَهُ بِبَثِّ عُمَّالِهِ ووضع يده في الجبايه، واقام لعدوه يتجسس الاخبار

(3/352)


ذكر وقعه الولجة
ثُمَّ كَانَ أَمْرُ الْولجَةِ فِي صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ، وَالولجة مِمَّا يَلِي كَسْكَرٍ مِنَ الْبَرِّ.
حَدَّثَنَا عبيد اللَّه، قال: حَدَّثَنِي عمي، قال: حدثني سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي قال لما فرغ خالد من الثني واتى الخبر أردشير، بعث الاندرزغر، وكان فارسيا من مولدي السواد.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَرْجِسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ، قَالَ- وَفِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السري، قال: حدثنا شعيب قال: حدثنا سيف، عَنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ عُقْبَةَ وَزِيَادِ بْنِ سَرْجِسَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سِيَاهٍ- قَالُوا: لَمَّا وَقَعَ الْخَبَرُ بِأَرْدَشِيرَ بِمُصَابِ قَارِنٍ وَأَهْلِ الْمذارِ، أَرْسَلَ الأندرزغر، - وَكَانَ فَارِسِيًّا مِنْ مَوْلِدِي السَّوَادِ وَتَنَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ وُلِدَ فِي الْمَدَائِنِ وَلا نَشَأَ بِهَا- وَأَرْسَلَ بهمن جَاذُوَيْهِ فِي أَثَرِهِ فِي جَيْشٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْبُرَ طَرِيقَ الأندرزغرِ، وَكَانَ الأندرزغرُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى فَرْجِ خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ الأندرزغرُ سَائِرًا مِنَ الْمَدَائِنِ حَتَّى أَتَى كَسْكَرٍ، ثُمَّ جَازَهَا إِلَى الْولجةِ، وَخَرَجَ بهمنُ جَاذُوَيْهِ فِي أَثَرِهِ، وَأَخَذَ غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَسَلَكَ وَسْطَ السَّوَادِ، وَقَدْ حُشِرَ إِلَى الأندرزغرِ مِنْ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَكَسْكَرٍ مِنْ عَرَبِ الضَّاحِيَةِ وَالدَّهَّاقِينِ فَعَسْكَرُوا إِلَى جَنْبِ عَسْكَرِهِ بِالولجةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ لَهُ مَا أَرَادَ وَاسْتَتَمَّ أَعْجَبَهُ مَا هُوَ فِيهِ، وَأَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى خَالِدٍ، وَلَمَّا بَلَغَ خَالِدًا وَهُوَ بِالثَّنِيِّ خَبَرُ الأندرزغرِ وَنُزُولِهِ الْولجةَ، نَادَى بِالرَّحِيلِ، وَخَلَّفَ سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ، وَأَمَرَهُ بِلُزُومِ الْحَفِيرِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى مَنْ خُلِّفَ فِي أَسْفَلِ دِجْلَةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ وَقِلَّةِ الْغَفْلَةِ، وَتَرْكِ الاغْتِرَارِ، وَخَرَجَ سَائِرًا فِي الْجُنُودِ نَحْوَ الْولجةِ، حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى الأندرزغرِ وَجُنُودِهِ وَمَنْ تَأَشَّبَ إِلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، هُوَ أَعْظَمُ مِنْ قتال الثني

(3/353)


حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: نَزَلَ خَالِدٌ عَلَى الأندرزغرِ بِالولجةِ فِي صَفَرٍ، فَاقْتَتَلُوا بِهَا قِتَالا شَدِيدًا، حَتَّى ظَنَّ الْفَرِيقَانِ ان الصبر قد فرغ، وَاسْتَبْطَأَ خَالِدٌ كَمِينَهُ، وَكَانَ قَدْ وَضَعَ لَهُمْ كَمِينًا فِي نَاحِيَتَيْنِ، عَلَيْهِمْ بُسْرُ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَسَعِيدُ بْنُ مُرَّةَ الْعِجْلِيُّ، فَخَرَجَ الْكَمِينُ فِي وَجْهَيْنِ، فَانْهَزَمَتْ صُفُوفُ الأَعَاجِمِ وَوَلَّوْا، فَأَخَذَهُمْ خَالِدٌ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَالْكَمِينُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمْ يَرَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَقْتَلَ صَاحِبِهِ، وَمَضَى الأندرزغرُ فِي هَزِيمَتِهِ، فَمَاتَ عَطَشًا وَقَامَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ خَطِيبًا يُرَغِّبُهُمْ فِي بِلادِ الْعَجَمِ، وَيُزَهِّدُهُمْ فِي بِلادِ الْعَرَبِ، وَقَالَ: أَلا تَرَوْنَ إِلَى الطَّعَامِ كَرَفْغِ التُّرَابِ وَبِاللَّهِ لَوْ لَمْ يُلْزِمْنَا الْجِهَادُ فِي اللَّهِ وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَكُنْ إِلا الْمَعَاشُ لَكَانَ الرَّأْيُ أَنْ نُقَارِعَ عَلَى هَذَا الرِّيفِ حَتَّى نَكُونَ أَوْلَى بِهِ، وَنُوَلِّي الْجُوعَ وَالإِقْلالِ مَنْ تَوَلاهُ مِمَّنِ اثَّاقَلَ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَسَارَ خَالِدٌ فِي الْفَلاحِينَ بِسِيرَتِهِ فَلَمْ يَقْتُلْهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّ الْمُقَاتِلَةِ وَمَنْ أَعَانَهُمْ، وَدَعَا أَهْلَ الأَرْضِ إِلَى الْجَزَاءِ وَالذِّمَّةِ، فَتَرَاجَعُوا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ- وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قال: حدثني عمي، عن سيف- عن عمرو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: بَارَزَ خَالِدٌ يَوْمَ الولجةِ رَجُلا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ يَعْدِلُ بِأَلْفِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، وَدَعَا بِغَدَائِهِ وَأَصَابَ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ابْنًا لِجَابِرِ بْنِ بُجَيْرٍ وَابْنًا لِعَبْدِ الأَسْوَدِ

(3/354)


خبر أليس، وهي على صلب الفرات
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَأَمَّا السَّرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله عن أَبِي عُثْمَانَ، وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالا: وَلَمَّا أَصَابَ خَالِدٌ يَوْمَ الولجةِ مَنْ أَصَابَ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ نَصَارَاهُمُ الَّذِينَ أَعَانُوا أَهْلَ فَارِسٍ غَضَبَ لَهُم نَصَارَى قَوْمِهِمْ، فَكَاتَبُوا الأَعَاجِمَ وَكَاتَبَتْهُمُ الأَعَاجِمُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى أُلَيْسَ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى أُولَئِكَ النَّصَارَى مُسْلِمُو بَنِي عِجْلٍ:
عُتَيْبَةُ بْنُ النَّهَّاسِ وَسَعِيدُ بْنُ مُرَّةَ وَفُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ وَالْمُثَنَّى بْنُ لاحِقٍ ومذعور ابن عَدِيٍّ وَكَتَبَ أَرْدشِيرُ إِلَى بهمنَ جَاذُوَيْهِ، وَهُوَ بقسيانا- وَكَانَ رَافِدَ فَارِسَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِهِمْ وَبَنَوْا شُهُورَهُمْ كُلَّ شَهْرٍ عَلَى ثَلاثِينَ يَوْمًا، وَكَانَ لأَهْلِ فَارِسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَافِدٌ قَدْ نُصِّبَ لِذَلِكَ يَرْفُدُهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ، فكان رافدهم بهمن روز- أَنْ سِرْ حَتَّى تَقْدِمَ أُلَيْسَ بِجَيْشِكَ إِلَى مَنِ اجْتَمَعَ بِهَا مِنْ فَارِسَ وَنَصَارَى الْعَرَبِ فقدم بهمن جَاذُوَيْهِ جَابَانَ وَأَمَرَهُ بِالْحَثِّ، وَقَالَ: كَفْكِفْ نَفْسَكَ وَجُنْدَكَ مِنْ قِتَالِ الْقَوْمِ حَتَّى أَلْحَقَ بِكَ إِلا أَنْ يَعْجَلُوكَ فَسَارَ جَابَانُ نَحْوَ أُلَيْسَ، وَانْطَلَقَ بهمنُ جَاذُوَيْهِ إِلَى أردشيرَ لِيحدثَ بِهِ عَهْدًا، وَلِيَسْتَأْمِرَهُ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يُشِيرَ بِهِ، فَوَجَدَهُ مَرِيضًا، فَعَرَجَ عَلَيْهِ، وَأَخْلَى جَابَانُ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، وَمَضَى حَتَّى أَتَى أُلَيْسَ، فَنَزَلَ بِهَا فِي صَفَرٍ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْه الْمَسَالِحُ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَرَبِ، وَعَبْدُ الأَسْوَدِ فِي نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ بَنِي عِجْلٍ وَتَيْمِ اللاتِ وَضُبَيْعَةَ وَعَرَبِ الضَّاحِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ بُجَيْرٍ نَصْرَانِيًّا، فَسَانَدَ عَبْدَ الأَسْوَدِ، وَقَدْ كَانَ خَالِدٌ بَلَغَهُ تَجَمُّعُ عَبْدِ الأَسْوَدِ وَجَابِرٍ وَزُهَيْرٍ فيمن تأشب اليهم، فنهدلهم وَلا يَشْعُرُ بِدُنُوِّ جَابَانَ، وَلَيْسَتْ لِخَالِدٍ هِمَّةٌ إِلا مَنْ تَجَمَّعَ لَهُ مِنْ عَرَبِ الضَّاحِيَةِ

(3/355)


وَنَصَارَاهُمْ، فَأَقْبَلَ فَلَمَّا طَلَعَ عَلَى جَابَانَ بِأُلَيْسَ، قالت الأعاجم لجابان:
انعاجلهم أم نغدى الناس ولا نُرِيهِمْ إِنَّا نَحْفَلُ بِهِمْ، ثُمَّ نُقَاتِلُهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ؟
فَقَالَ جَابَانُ: إِنْ تَرَكُوكُمْ وَالتَّهَاوُنَ بِكُمْ فتهاونوا، ولكن ظني بهم ان سيعجلونكم ويعجلونكم عَنِ الطَّعَامِ فَعَصَوْهُ وَبَسَطُوا الْبُسُطَ وَوَضَعُوا الأَطْعِمَةَ، وتداعوا إليها، وتوافوا عليها فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَيْهِمْ، وَقَفَ وَأَمَرَ بِحَطِّ الأَثْقَالِ، فَلَمَّا وُضِعَتْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، وَوَكَّلَ خَالِدٌ بنفسه حوامى يحمون ظهره، ثم بدر أَمَامَ الصَّفِّ، فَنَادَى: أَيْنَ أَبْجَرُ؟ أَيْنَ عَبْدُ الأَسْوَدِ؟ أَيْنَ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ؟
رجل من جذرة، فَنَكَلُوا عَنْهُ جَمِيعًا إِلا مَالِكًا، فَبَرَزَ له، فقال له خالد:
يا بن الْخَبِيثَةِ، مَا جَرَّأَكَ عَلَيَّ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَلَيْسَ فِيكَ وَفَاءٌ! فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَجْهَضَ الأَعَاجِمَ عَنْ طَعَامِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلُوا، فَقَالَ جَابَانُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يَا قَوْمُ! أَمَا وَاللَّهِ مَا دَخَلَتْنِي مِنْ رَئِيسٍ وَحْشَةٌ قَطُّ حَتَّى كَانَ الْيَوْمُ، فَقَالُوا حَيْثُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الأَكْلِ تَجَلُّدَا: نَدَعَهَا حَتَّى نَفْرُغَ مِنْهُمْ، وَنَعُودَ إِلَيْهَا.
فَقَالَ جَابَانُ: وَأَيْضًا أَظُنُّكُمْ وَاللَّهِ لَهُمْ وَضَعْتُمُوهَا وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، فَالآنَ فَأَطِيعُونِي، سِمُّوهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَكُمْ فَأَهْوَنُ هَالِكٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكُمْ كُنْتُمْ قَدْ صَنَعْتُمْ شَيْئًا، وَأَبْلَيْتُمْ عُذْرًا فَقَالُوا: لا، اقتدارا عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ جَابَانُ عَلَى مُجَنِّبَتَيْهِ عَبْدَ الأَسْوَدِ وابجر، وخالد على تعبئته فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلِهَا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، وَالْمُشْرِكُونَ يَزِيدُهُمْ كَلَبًا وَشِدَّةً مَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ قُدُومِ بهمنَ جَاذُوَيْهِ، فَصَابَرُوا الْمُسْلِمِينَ لِلَّذِي كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُصَيِّرَهُمْ إِلَيْهِ، وَحَرِبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ خَالِدٌ: اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ أَلا أَسْتَبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا قَدَرْنَا عَلَيْهِ حَتَّى أُجْرِيَ نَهْرَهُمْ بِدِمَائِهِمْ! ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَشَفَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنَحَهُمْ أَكْتَافَهُمْ، فَأَمَرَ خَالِدٌ مُنَادِيَهُ، فَنَادَى فِي النَّاسِ: الأَسْرَ الأَسْرَ! لا تَقْتُلُوا إِلا مَنِ امْتَنَعَ، فَأَقْبَلَتِ الْخُيُولُ بِهِمْ أَفْوَاجًا مُسْتَأْسَرِينَ يُسَاقُونَ سَوْقًا، وَقَدْ وَكَّلَ بِهِم رِجَالا يَضْرِبُونَ أَعْنَاقَهُمْ فِي النَّهْرِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَطَلَبُوهُمُ الْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ،

(3/356)


حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى النَّهْرَيْنِ، وَمِقْدَارِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ جَوَانِبِ أُلَيْسَ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ وَأَشْبَاهٌ لَهُ: لَوْ أَنَّكَ قَتَلْتَ أَهْلَ الأَرْضِ لَمْ تَجْرِ دِمَاؤُهُمْ، إِنَّ الدِّمَاءَ لا تَزِيدُ عَلَى أَنْ تَرَقْرَقَ مُنْذُ نَهَيْتَ عَنِ السَّيَلانِ، وَنُهِيَتِ الأَرْضُ عَنْ نَشْفِ الدِّمَاءِ، فَأَرْسِلْ عَلَيْهَا، الْمَاءَ تَبَرَّ يَمِينُكَ وَقَدْ كَانَ صَدَّ الْمَاءَ عَنِ النَّهْرِ فَأَعَادَهُ، فَجَرَى دَمًا عَبِيطًا فَسُمِّيَ نَهْرَ الدَّمِ لِذَلِكَ الشَّأْنِ إِلَى الْيَوْمِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَشِيرُ بْنُ الْخَصَّاصِيَّةِ، قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ الأَرْضَ لَمَّا نَشَّفَتْ دَمَ ابْنِ آدَمَ نُهِيَتْ عَنْ نَشْفِ الدِّمَاءِ، وَنُهِيَ الدَّمُ عَنِ السَّيَلانِ إِلا مِقْدَارَ برْدِهِ.
وَلَمَّا هُزِمَ الْقَوْمُ وَأُجْلَوْا عَنْ عَسْكَرِهِمْ، وَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ طَلَبِهِمْ وَدَخَلُوهُ، وَقَفَ خَالِدٌ عَلَى الطَّعَامِ، فَقَالَ: قَدْ نَفَّلْتُكُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ الله ص إِذَا أَتَى عَلَى طَعَامٍ مَصْنُوعٍ نَفَّلَهُ فَقَعَدَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لِعَشَائِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَرَ الأَرْيَافَ وَلا يَعْرِفَ الرِّقَاقَ يَقُولُ: مَا هذه الرقاق الْبِيضِ! وَجَعَلَ مَنْ قَدْ عَرَفَهَا يُجِيبُهُمْ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَازِحًا: هَلْ سَمِعْتُمْ بِرَقِيقِ الْعَيْشِ؟ فَيَقُولُونَ: نعم، فيقول: هُوَ هَذَا، فَسُمِّيَ الرِّقَاقُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ، الْقَرَى.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قال: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَ، عَنْ خَالِدٍ، أَنَّ رسول الله ص نَفَلَ النَّاسَ يَوْمَ خَيْبَرَ الْخُبْزَ وَالطَّبِيخَ وَالشِّوَاءَ، وَمَا أَكَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ فِي بُطُونِهِمْ غَيْرَ مُتَأَثِّلِيهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: كَانَتْ عَلَى النَّهْرِ أَرْحَاءُ، فَطَحَنتْ بِالْمَاءِ وَهُوَ أَحْمَرُ قُوتَ الْعَسْكَرِ، ثَمَانِيَةَ عَشْرَ أَلْفًا أَوْ يَزِيدُونَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَبَعَثَ خَالِدٌ بِالْخَبَرِ مَعَ رَجُلٍ يدعى

(3/357)


جَنْدَلا مِنْ بَنِي عِجْلٍ، وَكَانَ دَلِيلا صَارِمًا، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ، وَبِفَتْحِ أُلَيْسَ، وَبِقَدْرِ الْفَيْءِ وَبِعِدَّةِ السَّبْيِ، وَبِمَا حَصَلَ مِنَ الأَخْمَاسِ، وَبِأَهْلِ الْبَلاءِ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَرَأَى صَرَامَتَهُ وَثَبَاتَ خَبَرِهِ، قَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: جَنْدَلٌ، قَالَ: وَيْهًا جَنْدلُ!
نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامًا ... وَعَوَّدَتْهُ الْكَرَّ وَالإِقْدَامَا
وَأَمَرَ لَهُ بِجَارِيَةٍ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ، فَوَلَدَتْ لَهُ.
قَالَ: وَبَلَغَتْ قَتْلاهُمْ مِنْ أُلَيْسَ سَبْعِينَ أَلْفًا جُلَّهُمْ مِنْ أَمْغِيشِيَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ لَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: قَالَ عَمِّي: سَأَلْتُ عَنْ أَمْغِيشْيَا بِالْحِيرَةِ فَقِيلَ لِي: مَنِشيَا، فَقُلْتُ لِسَيْفٍ، فَقَالَ: هَذَانِ اسْمَانِ
. حديث أمغيشيا
في صفر، وأفاءها اللَّه عز وجل بغير خيل.
حَدَّثَنَا عبيد اللَّه، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن أبي عُثْمَان وطلحه، عن المغيره، قال: لما فرغ خالد من وقعة أليس، نهض فأتى أمغيشيا، وقد أعجلهم عما فيها، وقد جلا أهلها، وتفرقوا في السواد، ومن يومئذ صارت السكرات في السواد، فأمر خالد بهدم أمغيشيا وكل شيء كان في حيزها، وكانت مصرا كالحيرة، وكان فرات بادقلى ينتهي إليها، وكانت أليس من مسالحها، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله قط.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ بَحْرِ بْنِ الفُرَاتِ العِجْلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمْ يُصِبِ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَ ذَاتِ السَّلاسِلِ وَأَمْغِيشِيَا مِثْلَ شَيْءٍ أَصَابُوهُ فِي أَمْغِيشِيَا، بَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ ألفا وخمسمائة، سِوَى النَّفَلِ الَّذِي نَفَلَهُ أَهْلُ الْبَلاءِ وَقَالُوا جَمِيعًا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ

(3/358)


بَلَغَهُ ذَلِكَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- يُخْبِرُهُمْ بِالْذِي أَتَاهُ: عَدَا أَسَدُكُمْ عَلَى الأَسَدِ فَغَلَبَهُ عَلَى خراذيله، اعجزت النساء ان ينسلن مِثْلَ خَالِدٍ!

حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أَبِي عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّ الآزَاذبَةَ كَانَ مَرْزُبَانَ الْحِيرَةِ أَزْمَانَ كِسْرَى إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَانُوا لا يَمُدُّ بَعْضَهُمْ بَعْضًا إِلا بِإِذْنِ الْمَلِكِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ نِصْفَ الشَّرَفِ، وَكَانَ قِيمَةُ قَلَنْسُوَتِهِ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا أَخْرَبَ خَالِدٌ أَمْغِيشِيَا، وَعَادَ أَهْلُهَا سكراتٍ لِدَهَاقِينِ الْقُرَى عَلِمَ الآزَاذبَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مَتْرُوكٍ، فَأَخَذَ فِي أَمْرِهِ وَتَهَيَّأَ لِحَرْبِ خَالِدٍ، وَقَدَّمَ ابْنَهُ ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِ حَتَّى عَسْكَرَ خَارِجًا مِنَ الْحِيرَةِ، وَأَمَرَ ابْنَهُ بِسَدِّ الْفُرَاتِ، وَلَمَّا اسْتَقَلَّ خَالِدٌ مِنْ أَمْغِيشِيَا وَحَمَلَ الرَّجُلَ فِي السُّفُنِ مع الانفال والانقال، لَمْ يَفْجَأْ خَالِدٌ إِلا وَالسُّفُنُ جَوَانِحٌ، فَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، فَقَالَ الْمَلاحُونَ: إِنَّ أَهْلَ فَارِسَ فَجَّرُوا الأَنْهَارَ، فَسَلَكَ الْمَاءُ غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَلا يَأْتِينَا الْمَاءُ إِلا بِسَدِّ الأَنْهَارِ، فَتَعَجَّلَ خَالِدٌ فِي خَيْلٍ نَحْوَ ابْنِ الآزَاذبَةَ، فَتَلَقَّاهُ عَلَى فَمِ العتيق خيل من خيله، فجاهم وَهُمْ آمِنُونَ لِغَارَةِ خَالِدٍ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَأَنَامَهُمْ بِالْمِقَرِّ، ثُمَّ سَارَ مِنْ فَوْرِهِ وَسَبَقَ الأَخْبَارَ إِلَى ابْنِ الآزَاذبَةَ حَتَّى يَلْقَاهُ وَجُنْدَهُ عَلَى فَمِ فُرَاتِ بَادِقْلَى، فَاقْتَتَلُوا فَأَنَامَهُمْ، وَفَجَّرَ الْفُرَاتَ وَسَدَّ الأَنْهَارِ وَسَلَكَ الْمَاءُ سَبِيلَهُ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان وطلحة عن المغيرة، وَبَحْرٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالُوا وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قال:
حدثني عمي، قال: حدثنا سيف، عن محمد عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، قَالا: لَمَّا أَصَابَ خَالِدٌ ابْنَ الآزَاذبَةَ عَلَى فَمِ فُرَاتِ بَادِقْلَى، قَصَدَ

(3/359)


لِلْحِيرَةِ، وَاسْتَلْحَقَ أَصْحَابَهُ، وَسَارَ حَتَّى يَنْزِلَ بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالنَّجَفِ، فَقَدِمَ خَالِدٌ الْخَوَرْنَقَ، وَقَدْ قَطَعَ الآزَاذبَةَ الْفُرَاتَ هَارِبًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَإِنَّمَا حَدَاهُ عَلَى الْهَرَبِ أَنَّ الْخَبَرَ وَقَعَ إِلَيْهِ بِمَوْتِ أَرْدَشِيرَ وَمُصَابِ ابْنِهِ، وَكَانَ عَسْكَرُهُ بَيْنَ الْغَرِيَّيْنِ وَالْقَصْرِ الأَبْيَضِ وَلَمَّا تَتَامَّ أَصْحَابُ خَالِدٍ إِلَيْهِ بِالْخَوَرْنَقِ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ حَتَّى يُعَسْكِرَ بِمَوْضِعِ عَسْكَرِ الآزَاذبَةَ بَيْنَ الْغَرِيَّيْنِ وَالْقَصْرِ الأَبْيَضِ، وَأَهْلِ الْحِيرَةِ مُتَحَصِّنُونَ، فَأَدْخَلَ خَالِدٌ الْحِيرَةَ الْخَيْلَ مِنْ عَسْكَرِهِ، وَأَمَّرَ بِكُلِّ قَصْرٍ رَجُلا مِنْ قُوَّادِهِ يُحَاصِرُ أَهْلَهُ وَيُقَاتِلُهُمْ، فَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ مُحَاصِرًا الْقَصْرَ الأَبْيَضَ، وَفِيهِ إِيَاسُ بْنُ قُبَيْصَةَ الطَّائِيُّ، وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ مُحَاصِرًا قَصْرَ الْعَدْسِيِّينَ وَفِيهِ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ الْمَقْتُولُ، وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ عَاشِرَ عَشَرَةِ إِخْوَة لَهُ مُحَاصِرًا قَصْرَ بَنِي مَازِنٍ، وَفِيهِ ابْنُ أَكَّالٍ، وَكَانَ الْمُثَنَّى مُحَاصِرًا قَصْرَ ابْنِ بقيله وفيه عمرو ابن عَبْدِ الْمَسِيحِ، فَدَعَوْهُمْ جَمِيعًا، وَأَجلُوهُمْ يَوْمًا، فَأَبَى أَهْلُ الْحِيرَةِ وَلَجُّوا، فَنَاوَشَهُمُ الْمُسْلِمُونَ.
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَكَذَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَقَالَ السَّرِيُّ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ- قَالَ: عَهَدَ خَالِدٌ إِلَى أُمَرَائِهِ أَنْ يَبْدَءُوا بِالدُّعَاءِ، فَإِنْ قَبِلُوا قَبِلُوا مِنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يُؤَجِّلُوهُمْ يَوْمًا، وَقَالَ: لا تُمَكِّنُوا عَدُوَّكُمْ مِنْ آذَانِكُمْ، فَيَتَرَبَّصُوا بِكُمُ الدَّوَائِرَ، وَلَكِنْ نَاجِزُوهُمْ ولا ترددوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ قِتَالِ عَدُوِّهِمْ فَكَانَ أَوَّلُ الْقُوَّاد أَنْشَبَ الْقِتَالَ بَعْدَ يَوْمٍ أَجَّلُوهُمْ فِيهِ ضِرَارَ بْنَ الأَزْوَرِ، وَكَانَ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْقَصْرِ الأَبْيَضِ، فَأَصْبَحُوا وَهُمْ مُشْرِفُونَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلاثٍ: الإِسْلامِ، أَوِ الْجَزَاءِ، أَوِ الْمُنَابَذَةِ، فَاخْتَارُوا الْمُنَابَذَةَ وَتَنَادَوْا: عَلَيْكُمُ الْخَزَازِيفُ، فَقَالَ ضِرَارٌ: تَنَحَّوْا لا يَنَالُكُمُ الرَّمْيُ، حَتَّى نَنْظُرَ فِي الَّذِي هَتَفُوا بِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ امْتَلأَ رَأْسُ

(3/360)


الْقَصْرِ مِنْ رِجَالٍ مُتَعَلِّقِي الْمَخَالِي، يَرْمُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَزَازِيفِ- وَهِيَ الْمَدَاحِي مِنَ الْخَزَفُ- فَقَالَ ضِرَارٌ: ارْشقُوهُمْ، فَدَنَوْا مِنْهُمْ فَرَشَقَوُهُمْ بِالنَّبْلِ، فَأَعْرَوْا رُءُوسَ الْحِيطَانِ، ثُمَّ بَثُّوا غَارَتَهُمْ فِيمَنْ يَلِيهِمْ، وَصَبَحَ أَمِيرُ كُلِّ قَوْمٍ أَصْحَابَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَافْتَتَحُوا الدُّورَ وَالدِّيرَاتِ، وَأَكْثَرُوا الْقَتْلَ، فَنَادَى الْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ: يَا أَهْلَ الْقُصُورِ، مَا يَقْتُلُنَا غَيْرُكُمْ فَنَادَى أَهْلُ الْقُصُورِ:
يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، قَدْ قَبِلْنَا وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ، فَادْعُوا بِنَا وَكُفُّوا عَنَّا حَتَّى تُبَلِّغُونَا خَالِدًا فَخَرَجَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ وَأَخُوهُ إِلَى ضِرَارِ بْنِ الأَزْوَرِ، وَخَرَجَ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ وَزَيْدُ بْنُ عَدِيٍّ إِلَى ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ- وَعَدِيٌّ الأَوْسَطُ الَّذِي رَثَتْهُ أُمُّهُ وَقُتِلَ يَوْمَ ذِي قَارٍ- وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَابْنُ أَكَّالٍ، هَذَا إِلَى ضِرَارِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَهَذَا إِلَى الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، فَأَرْسَلُوهُمْ إِلَى خَالِدٍ وَهُمْ عَلَى مَوَاقِفِهِمْ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، قالا: كَانَ أَوَّلُ مَنْ طَلَبَ الصُّلْحَ عَمْرَو بْنَ عبد المسيح ابن قَيْسِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ بُقَيْلَةُ- وَإِنَّمَا سُمِّيَ بُقَيْلَةَ لأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا حَارِ مَا أَنْتَ إِلا بُقَيْلَةٌ خَضْرَاءُ- وَتَتَابَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَهُمُ الرُّؤَسَاءُ إِلَى خَالِدٍ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ثِقَةٌ، لِيُصَالِحَ عَلَيْهِ أَهْلَ الْحِصْنِ، فَخَلا خَالِدٌ بِأَهْلِ كُلِّ قَصْرٍ مِنْهُمْ دُونَ الآخَرِينَ، وَبَدَأَ بِأَصْحَابِ عَدِيٍّ، وَقَالَ: وَيْحَكُمْ! مَا أَنْتُمْ! أَعَرَبٌ؟ فَمَا تَنْقِمُونَ مِنَ الْعَرَبِ! أَوْ عَجَمٌ؟ فَمَا تَنْقِمُونَ مِنَ الإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ! فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: بَلْ عَرَبٌ عَارِبَةٌ وَأُخْرَى مُتَعَرِّبَةٌ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ تُحَادُّونَا وَتَكْرَهُوا أَمْرَنَا، فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: لِيَدُلُّكَ عَلَى مَا نَقُولُ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا لِسَانٌ إِلا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ: صَدَقْتَ وَقَالَ: اخْتَارُوا وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ:
أَنْ تَدْخُلُوا فِي دِينِنَا فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا إِنْ نَهَضْتُمْ وَهَاجَرْتُمْ

(3/361)


وَإِنْ أَقَمْتُمْ فِي دِيَارِكُمْ، أَوِ الْجِزْيَةَ، أَوِ الْمُنَابَذَةَ وَالْمُنَاجَزَةَ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَتَيْتُكُمْ بِقَوْمٍ هُمْ عَلَى الْمَوْتِ أَحْرَصُ مِنْكُمْ عَلَى الْحَيَاةِ فَقَالَ: بَلْ نُعْطِيكَ الْجِزْيَةَ، فَقَالَ خَالِدٌ: تَبًّا لَكُمْ، وَيْحَكُمْ! إِنَّ الْكُفْرَ فَلاةٌ مُضِلَّةٌ، فَأَحْمَقُ الْعَرَبِ مَنْ سَلَكَهَا فَلَقِيَهُ دَلِيلانِ: أَحَدُهُمَا عَرَبِيٌّ فَتَرَكَهُ وَاسْتَدَلَّ الأَعْجَمِيَّ.
فَصَالَحُوهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَتِسْعِينَ أَلْفًا، وَتَتَابَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَأَهْدُوا لَهُ هَدَايَا، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ وَالْهَدَايَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ الْهُذَيْلِ الْكَاهِلِيِّ، فَقَبِلَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْجَزَاءِ، وَكَتبَ إِلَى خَالِدٍ أَنِ احْسِبْ لَهُمْ هَدِيَّتَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ، إِلا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَزَاءِ، وَخُذْ بَقِيَّةَ مَا عَلَيْهِمْ فَقُوِّ بِهَا أَصْحَابَكَ: وَقَالَ ابْنُ بُقَيْلَةَ:
أبعد المنذرين ارى سواما ... تروح بالخورنق والسدير!
وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصا بين مرة والحفير
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كجرب المعز في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفخور
نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساءه او سرور
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَيُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِنَحْوٍ مِنْهُ، وَقَالا: فَكَانُوا يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ وَيُقَدِّمُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ الْمَسِيحِ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ مِنَ السِّنِينَ قَالَ: مئو سنين، قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْتَ؟
قَالَ: رَأَيْتُ الْقُرَى مَنْظُومَةً مَا بَيْنَ دِمَشْقَ وَالْحِيرَةِ، تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحِيرَةِ فَلا تَزَوَّدُ إِلا رَغِيفًا فَتَبَسَّمَ خَالِدٌ، وَقَالَ:
هَلْ لَكَ من شيخك الا عمله

(3/362)


خَرِفْتَ وَاللَّهِ يَا عَمْرُو! ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْحِيرَةِ فَقَالَ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكُمْ خَبَثَةٌ خَدَعَةٌ مَكَرَةٌ! فَمَا لَكُمْ تَتَنَاوَلُونَ حَوَائِجَكُمْ بِخَرِفٍ لا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ جَاءَ! فَتَجَاهَلَ لَهُ عَمْرٌو، وَأَحَبَّ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَعْرِفُ بِهِ عَقْلُهُ، وَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا حَدَّثَهُ بِهِ، فَقَالَ: وَحَقِّكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، إِنِّي لأَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ جِئْتُ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: أَقْرَبُ أَمْ أَبْعَدُ؟ قَالَ: مَا شِئْتَ، قَالَ: مِنْ بَطْنِ أُمِّي، قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أَمَامِي، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ:
الآخِرَةَ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَقْصَى أَثَرِكَ؟ قَالَ: مِنْ صُلْبِ أَبِي، قَالَ: فَفِيمَ أَنْتَ؟
قَالَ: فِي ثِيَابِي، قَالَ: أَتَعْقِلُ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ وأقيدُ قَالَ: فَوَجَدَهُ حِينَ فره عضا، وَكَانَ أَهْلُ قَرْيَتِهِ أَعْلَمَ بِهِ- فَقَالَ خَالِدٌ: قَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا، وَقَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا، وَالْقَوْمُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِمْ فَقَالَ عَمْرٌو: أَيُّهَا الأَمِيرُ النَّمْلَةُ أَعْلَمُ بِمَا فِي بَيْتِهَا مِنَ الْجَمَلِ بِمَا فِي بَيْتِ النَّمْلَةِ وَشَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ ذِي الْجَوْشَنِ الضَّبَابِيِّ، وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ، فَقَالَ: شَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَجُلٌ مِنَ الضَّبَابِ.
قَالُوا: وَكَانَ مَعَ ابْنِ بُقَيْلَةَ مُنْصِفٌ لَهُ فَعَلَّقَ كِيسًا فِي حَقْوِهِ، فَتَنَاوَلَ خَالِدٌ الْكِيسَ، وَنَثَرَ مَا فِيهِ فِي رَاحَتِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَمْرُو؟ قَالَ:
هَذَا وَأَمَانَةِ اللَّهِ سُمُّ سَاعَةٍ، قَالَ: لم تَحْتَقِبِ السُّمَّ؟ قَالَ: خَشِيتُ أَنْ تَكُونُوا عَلَى غَيْرِ مَا رَأَيْتُ، وَقَدْ أَتَيْتُ عَلَى أَجَلِي، وَالْمَوْتُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَكْرُوهٍ أُدْخِلُهُ عَلَى قَوْمِي وَأَهْلِ قَرْيَتِي فَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّهَا لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى أَجَلِهَا، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الأَسْمَاءِ، رَبِّ الأَرْضِ وَرَبِّ السَّمَاءِ، الَّذِي لَيْسَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ دَاءٌ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَأَهْوَوْا إِلَيْهِ لِيَمْنَعُوهُ مِنْهُ، وَبَادَرَهُمْ فَابْتَلَعَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَتَمْلُكُنَّ مَا أَرَدْتُمْ مَا دَامَ مِنْكِم أَحَدٌ أَيُّهَا الْقرن وَأَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْحِيرَةِ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ أَمْرًا أَوْضَحَ إِقْبَالا!

(3/363)


وَأَبَى خَالِدٌ أَنْ يُكَاتِبَهَمُ إِلا عَلَى إِسْلامِ كَرَامَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَسِيحِ إِلَى شُوَيْلٍ، فَثَقَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: هَوِّنُوا عَلَيْكُمْ وَأَسْلِمُوني، فَإِنِّي سَأَفْتَدِي.
فَفَعَلُوا، وَكَتَبَ خَالِدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَدِيًّا وَعَمْرًا ابْنَيْ عَدِيٍّ، وَعَمْرَو بْنَ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَإِيَاسَ بْنِ قَبِيصَةَ وَحيريَّ بْنِ أَكَّالٍ- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: جبرى- وَهُمْ نُقَبَاءُ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَرَضِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْحِيرَةِ، وَأَمَرُوهُمْ بِهِ- عَاهَدَهُمْ عَلَى تِسْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، تُقْبَلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ جَزَاءً عَنْ أَيْدِيهِمْ فِي الدُّنْيَا، رُهْبَانِهِمْ وَقِسِّيسِهِمْ، إِلا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِ ذِي يَدٍ، حَبِيسًا عَنِ الدُّنْيَا، تَارِكًا لَهَا- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: إِلا مَنْ كَانَ غَيْرَ ذِي يَدٍ حَبِيسًا عَنِ الدُّنْيَا، تَارِكًا لَهَا- أَوْ سَائِحًا تَارِكًا لِلدُّنْيَا، وَعَلَى الْمَنْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَمْنَعَهُمْ، وَإِنْ غَدَرُوا بِفِعْلٍ أَوْ بِقَوْلٍ فَالذِّمَّةُ مِنْهُمْ بَرِيئَةٌ وَكَتَبَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَدَفَعَ الْكِتَابَ إِلَيْهِمْ.
فَلَمَّا كَفَرَ أَهْلُ السَّوَادِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ اسْتَخَفُّوا بِالْكِتَابِ، وَضَيَّعُوهُ، وَكَفَرُوا فِيمَنْ كَفَرَ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ فَارِسَ، فَلَمَّا افْتَتَحَ الْمُثَنَّى ثَانِيَةً، أَدْلَوا بِذَلِكَ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَيْهِ، وَعَادَ بِشَرْطٍ آخَرَ، فَلَمَّا غَلَبَ الْمُثَنَّى عَلَى الْبِلادِ كَفَرُوا وَأَعَانُوا وَاسْتَخَفُّوا وَأَضَاعُوا الْكِتَابَ فَلَمَّا افْتَتَحَهَا سَعْدٌ، وَأَدْلَوا بِذَلِكَ سَأَلَهُمْ وَاحِدًا مِنَ الشَّرْطَيْنِ، فَلَمْ يَجِيئُوا بِهِمَا، فَوَضَعَ عَلَيْهِمْ وَتَحَرَّى مَا يَرَى أَنَّهُمْ مطيقون، فوضع عليهم أربعمائة أَلْفٍ سِوَى الْحَرَزةِ- قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: سِوَى الْخرزةِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عن سيف- والسري، عن

(3/364)


شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ- عن الغصن بن الْقَاسِم الْكِنَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالا: كَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ خَالِدِ بْنِ سعيد بن العاصي إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَأْذَنَ خَالِدًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ لِيُكَلِّمَهُ فِي قَوْمِهِ وَلِيَجْمَعَهُمْ لَهُ، وَكَانُوا أَوْزَاعًا فِي الْعَرَبِ، وَلِيَتَخَلَّصَهُمْ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ لَهُ عِدَةً مِنَ النَّبِيِّ ص وَأَتَاهُ عَلَى الْعِدَةِ بِشُهُودٍ، وَسَأَلَهُ إِنْجَازَ ذَلِكَ، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ لَهُ: تَرَى شُغْلَنَا وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِغَوْثِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ بِإِزَائِهِمْ مِنَ الأَسَدَيْنِ فَارِسَ وَالرُّومِ، ثُمَّ أَنْتَ تُكَلِّفُنِي التَّشَاغُلَ بِمَا لا يُغْنِي عَمَّا هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ! دَعْنِي وَسِرْ نَحْوَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَحْكُمُ اللَّهُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى خَالِدٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ، وَلَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ بِالْعِرَاقِ إِلا مَا كَانَ بَعْدَ الْحِيرَةِ، وَلا شَيْئًا مِمَّا كَانَ خَالِدٌ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَقَالَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي أَيَّامِ الْحِيرَةِ:
سَقَى اللَّهُ قَتْلَى بِالْفُرَاتِ مُقِيمَةً ... وَأُخْرَى باثباج النِّجَافِ الْكَوَانِفِ
فَنَحْنُ وَطِئْنَا بِالْكَوَاظِمِ هُرْمُزًا ... وَبِالثَّنِيِّ قَرْنَيْ قَارِنٍ بِالْجَوَارِفِ
وَيَوْمَ أَحَطْنَا بِالْقُصُورِ تَتَابَعَتْ ... على الحيرة الروحاء إِحْدَى الْمَصَارِفِ
حَطَطْنَاهُمْ مِنْهَا وَقَدْ كَادَ عَرْشُهُمْ ... يَمِيلُ بِهِمْ، فِعْلَ الْجَبَانِ الْمُخَالِفِ
رَمَيْنَا عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَقَدْ رَأَوْا ... غَبُوقَ الْمَنَايَا حَوْلَ تِلْكَ الْمَحَارِفِ
صَبِيحَةَ قَالُوا نَحْنُ قَوْمٌ تَنَزَّلُوا ... إِلَى الرِّيفِ مِنْ أَرْضِ الْعُرَيْبِ الْمَقَانِفِ

خبر ما بعد الحيرة
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ جَمِيلٍ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا أُعْطِيَ شُوَيْلٌ كَرَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَسِيحِ

(3/365)


قُلْتُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: أَلا تَعْجَبَ مِنْ مَسْأَلَةِ شُوَيْلٍ كَرَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَسِيحِ عَلَى ضَعْفِهِ! قَالَ: كَانَ يَهْرِفُ بِهَا دَهْرَهُ، قَالَ: [وذلك انى لما سمعت رسول الله ص يَذْكُرُ مَا رُفِعَ لَهُ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَذَكَرَ الْحِيرَةَ فِيمَا رُفِعَ لَهُ، وَكَأَنَّ شُرَفَ قُصُورِهَا أَضْرَاسُ الْكِلابِ،] عَرَفَتْ أَنْ قَدْ أُرِيهَا، وَأَنَّهَا ستفتح، فلقيته مَسْأَلَتَهَا.
وَحدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، قال: قَالَ لِي عَمْرٌو وَالْمُجَالِدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- وَالسَّرِيِّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ- قَالَ: [لَمَّا قَدِمَ شُوَيْلٌ إِلَى خَالِدٍ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص يَذْكُرُ فَتْحَ الْحِيرَةَ، فَسَأَلْتُهُ كَرَامَةً، فَقَالَ: هِيَ لَكَ إِذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً] وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ صَالَحَهُمْ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهَا وَأَهْلِ قَرْيَتِهَا مَا وَقَعَتْ فِيهِ، وَأَعْظَمُوا الْخَطَرَ، فَقَالَتْ: لا تَخْطُرُوهُ، وَلَكِنِ اصْبِرُوا، مَا تَخَافُونَ عَلَى امْرَأَةٍ بَلَغَتْ ثَمَانِينَ سَنَةً! فَإِنَّمَا هَذَا رَجُلٌ أَحْمَقُ رَآنِي فِي شَبِيبَتِي فَظَنَّ أَنَّ الشَّبَابَ يَدُومُ.
فَدَفَعُوهَا إِلَى خَالِدٍ، فَدَفَعَهَا خَالِدٌ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: مَا أَرَبُكَ إِلَى عَجُوزٍ كَمَا تَرَى! فَادَنِي، قَالَ: لا، إِلا عَلَى حُكْمِي، قَالَتْ: فَلَكَ حُكْمُكَ مُرْسَلا فَقَالَ: لَسْتِ لأُمِّ شُوَيْلٍ إِنْ نَقَصْتُكِ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ! فَاسْتَكْثَرَتْ ذَلِكَ لِتَخْدَعَهُ، ثُمَّ أَتَتْهُ بِهَا فَرَجَعَتْ إِلَى أَهْلِهَا، فَتَسَامَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَعَنَّفُوهُ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ عَدَدًا يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ! فَأَبَوْا عَلَيْهِ إِلا أَنْ يُخَاصِمَهُمْ فَخَاصَمَهُمْ، فَقَالَ: كَانَتْ نِيَّتِي غَايَةَ الْعَدَدِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَدَدَ يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَرَدْتَ أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ غَيْرَهُ، نَأْخُذُ بِمَا يَظْهَرُ وَنَدَعْكَ وَنِيَّتَكَ، كَاذِبًا كُنْتَ أَوْ صَادِقًا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لَمَّا فَتَحَ خَالِدٌ الْحِيرَةَ صَلَّى صَلاةَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ لا يُسَلِّمُ فِيهِنَّ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَالَ: لَقَدْ قَاتَلْتُ يَوْمَ مُؤْتَةَ فَانْقَطَعَ فِي يدي تسعه

(3/366)


أَسْيَافٍ، وَمَا لَقِيتُ قَوْمًا كَقَوْمٍ لَقِيتُهُمْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَمَا لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَوْمًا كَأَهْلِ أُلَيْسَ! حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَمْرٍو وَالْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: صَلَّى خَالِدٌ صَلاةَ الْفَتْحِ، ثُمَّ انْصَرَفَ ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ السَّرِيِّ.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف- والسري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ- وَكَانَ قَدِمَ مَعَ جَرِيرٍ عَلَى خَالِدٍ- قَالَ: أَتَيْنَا خَالِدًا بِالْحِيرَةِ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ قَدْ شَدَّ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ يُصَلِّي فِيهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: انْدَقَّ فِي يَدِي تِسْعَةُ أَسْيَافٍ يَوْمَ مُؤْتَةَ، ثُمَّ صَبَرَتْ فِي يَدِي صَفِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ، فَمَا زَالَتْ مَعِي.
حَدَّثَنَا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عن أبي عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ بْنِ الأَعْلَمِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عتيبة والغصن ابن الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَسُفْيَانَ الأحمري عن ماهان، قال:
وَلَمَّا صَالَحَ أَهْلُ الْحِيرَةِ خَالِدًا خَرَجَ صَلُوبَا بْنُ نسطُونَا صَاحِبُ قِسِّ النَّاطِفِ، حَتَّى دَخَل عَلَى خَالِدٍ عَسْكَرَهَ، فَصَالَحَهُ عَلَى بَانِقْيَا وَبسمَا، وَضَمَنَ لَهُ مَا عَلَيْهِمَا وَعَلَى أَرْضَيْهِمَا مِنْ شَاطِئِ الْفُرَاتِ جَمِيعًا، وَاعْتَقَدَ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَقَوْمِهِ عَلَى عَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ سِوَى الْخرزةِ، خرزةِ كِسْرَى، وَكَانَتْ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا فَتَمُّوا وَتَمَّ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِ فِي حَالِ غَلَبَةِ فَارِسَ بِغَدْرٍ، وَشَارَكَهُمُ الْمُجَالِدُ فِي الْكِتَابِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِصَلُوبَا بْنِ نسطونَا وَقَوْمِهِ، إِنِّي عَاهَدْتُكُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالْمَنْعَةِ، عَلَى كُلِّ ذِي يَدٍ، بَانِقْيَا وبسما جَمِيعًا، عَلَى عَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ سِوَى الْخرزةِ، القوى على

(3/367)


قَدْرِ قُوَّتِهِ، وَالْمُقِلُّ عَلَى قَدْرِ إِقْلالِهِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ وَإِنَّكَ قَدْ نَقَبْتَ عَلَى قَوْمِكَ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ رَضُوا بِكَ، وَقَدْ قَبِلْتُ وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَضِيتُ وَرَضِيَ قَوْمُكَ، فَلَكَ الذِّمَّةُ وَالْمَنْعَةُ، فَإِنْ مَنَعْنَاكُمْ فَلَنَا الْجِزْيَةُ، وَإِلا فلا حَتَّى نَمْنَعَكُمْ شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَكَتَبَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي صَفَرٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مِكْنَفٍ، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَسُفْيَانَ عَنْ مَاهَانَ وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن أبي عُثْمَان، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: كَانَ الدَّهَّاقِينُ يَتَرَبَّصُونَ بِخَالِدٍ وَيَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْحِيرَةِ فَلَمَّا اسْتَقَامَ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَبَيْنَ خَالِدٍ، وَاسْتَقَامُوا لَهُ أَتَتْهُ دَهَّاقِينُ الْمِلْطَاطَيْنِ، وَأَتَاهُ زَاذُ بْنُ بهيشٍ دِهْقَانُ فُرَاتِ سريا، وَصلوبَا بْنُ نسطونَا بْنِ بصبهرى- هَكَذا فِي حَدِيثِ السَّرِيِّ، وقال عبيد الله: صلوبا بْنُ نسطونَا بْنِ بصبهرى- هَكَذا فِي حَدِيثِ السَّرِيِّ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: صلوبا بْنُ بصبهرى ونسطونا- فَصَالَحُوهُ عَلَى مَا بَيْنَ الْفَلالِيجِ إِلَى هرمزجرد عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ: عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ ثَقِيلٍ- وَأَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى وَمَنْ مَالَ مَعَهُمْ عَنِ الْمُقَامِ فِي دَارِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الصُّلْحِ وَضَرَبَ خَالِدٌ رِوَاقَهُ فِي عَسْكَرِهِ، وَكَتَبَ لهم كتابا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِزَاذَ بْنِ بهيش وصلوبا بن نسطونا، لَكُمُ الذِّمَّةَ وَعَلَيْكُمُ الْجِزْيَةَ، وَأَنْتُمْ ضَامِنُونَ لِمَنْ نَقَبْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْبَهْقَبَاذِ الأَسْفَلِ وَالأَوْسَطِ- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَأَنْتُمْ ضَامِنُونَ جِزْيَةَ مَنْ نقبتم عليه- على الفى الف ثقيل في كل سنه، عن كُلّ ذِي يَدٍ سِوَى مَا عَلَى بَانِقْيَا وَبسمَا وَإِنَّكُمْ قَدْ أَرْضَيْتُمُونِي وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا قَدْ أَرْضَيْنَاكُمْ وَأَهْلَ الْبَهْقَبَاذِ

(3/368)


الأَسْفَلِ، وَمَنْ دَخَلَ مَعَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَهْقَبَاذِ الأَوْسَطِ عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَيْسَ فِيهَا مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُمْ شَهِدَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَرِيرُ بْنُ عبد الله الحميرى، وبشير بن عبيد اللَّهِ بْنِ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَكَتَبَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي صَفَرَ وَبَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عُمَّالَهُ وَمَسَالِحَهُ، فَبَعَثَ فِي الْعِمَالَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَثِيمَةَ النَّصْرِيَّ، فَنَزَلَ فِي أَعْلَى الْعَمَلِ بِالْفَلالِيجِ عَلَى الْمَنْعَةِ وَقَبَضَ الْجِزْيَةَ، وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى بَانِقْيَا وَبسمَا، وَبَشِيرَ بْنَ الْخَصَّاصِيَّةِ عَلَى النَّهْرَيْنِ فَنَزَلَ الْكُوَيْفَةَ ببانبورا، وسويد بن مقرن المزنى الى نستر، فَنَزَلَ الْعَقْرَ- فَهِيَ تُسَمَّى عَقْرَ سُوَيْدٍ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَيْسَتْ بِسُوَيْدٍ الْمِنْقَرِيِّ سُمِّيَتْ- وأَطَّ بْنَ أَبِي أَطٍّ إِلَى روذمستانَ، فَنَزَلَ مَنْزِلا عَلَى نَهْرٍ سُمِّيَ ذَلِكَ النَّهْرُ بِهِ- وَيُقَالُ لَهُ:
نَهْرُ أَطٍّ إِلَى الْيَوْمِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ، فَهَؤُلاءِ كَانُوا عُمَّالَ الْخَراجِ زَمَنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ.
وَكَانَتِ الثُّغُورُ فِي زَمَنِ خَالِدٍ بِالسَّيْبِ، بَعَثَ ضِرَارَ بن الأزور وضرار ابن الْخَطَّابِ وَالْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ وَضِرَارَ بْنَ مُقَرِّنٍ وَالْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو وَبُسْرَ بْنَ أَبِي رُهْمٍ وَعُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ، فَنَزَلُوا عَلَى السَّيْبِ فِي عَرْضِ سُلْطَانِهِ فَهَؤُلاءِ أُمَرَاءُ ثُغُورِ خَالِدٍ وَأَمَرَهُمْ خَالِدٌ بِالْغَارَةِ وَالإِلْحَاحِ، فَمَخَرُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ.
قَالُوا: وَلَمَّا غَلَبَ خَالِدٌ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيِ السَّوَادِ، دَعَا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ بِرَجُلٍ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى أَهْلِ فَارِسَ وَهُمْ بِالْمَدَائِنِ مُخْتَلِفُونَ مُتَسَانِدُونَ لِمَوْتِ أَرْدَشِيرَ، إِلا أَنَّهُمْ قَدْ أَنَزَلُوا بهمنَ جَاذُوَيْهِ بِبَهُرَسِيرَ، وَكَأَنَّهُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَ بهمنَ جَاذُوَيْهِ الآزَاذبَةَ فِي أَشْبَاهٍ لَهُ، وَدَعَا صَلُوبَا بِرَجُلٍ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَإِلَى الْخَاصَّةِ وَأَمَّا الآخَرُ فَإِلَى الْعَامَّةِ، أَحَدُهُمَا حِيرِيٌّ وَالآخَرُ نِبْطِيٌّ.
وَلَمَّا قَالَ خَالِدٌ لِرَسُولِ أَهْلِ الْحِيرَةِ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: مُرَّةٌ، قَالَ: خُذِ

(3/369)


الْكِتَابَ فَأْتِ بِهِ أَهْلَ فَارِسَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُمِرَّ عَلَيْهِمْ عَيْشَهُمْ، أَوْ يُسْلِمُوا، أَوْ يُنِيبُوا وَقَالَ لِرَسُولِ صلُوبَا: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: هِزْقِيلُ، قَالَ: فَخُذِ الْكِتَابَ.
وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَزْهِقْ نُفُوسَهُمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ وَغَيْرِهِ، بِمِثْلِهِ.
وَالْكِتَابَانِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى مُلُوكِ فَارِسَ، أَمَّا بَعْدُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَلَّ نِظَامَكُمْ، وَوَهَنَ كَيْدَكُمْ، وَفَرَّقَ كَلِمَتَكُمْ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِكُمْ كَانَ شَرًّا لَكُمْ، فَادْخُلُوا فِي أَمْرِنَا نَدَعْكُمْ وَأَرْضَكُمْ، وَنُجَوِّزْكُمْ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَإِلا كَانَ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ عَلَى غَلَبٍ، عَلَى أَيْدِي قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَيَاةَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى مَرَازِبَةِ فَارِسَ، أَمَّا بَعْدُ فَأَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَإِلا فَاعْتَقِدُوا مِنِّي الذِّمَّةَ، وَأَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَإِلا فَقَدْ جِئْتُكُمْ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ، كَمَا تُحِبُّونَ شُرْبَ الْخَمْرِ.
حَدَّثَنِي عبيد الله، قال: حدثني عمي، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّد بْن نويرة، عن أبي عثمان والسري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن عبد اللَّه، عن أبي عثمان والمهلب بْن عقبة وزياد بْن سرجس، عن سياه وسفيان الأحمري، عن ماهان: أن الخراج جبي إلى خالد في خمسين ليلة، وكان الذين ضمنوه والذين هم رءوس الرساتيق رهنا في يده، فأعطى ذلك كله للمسلمين، فقووا به على أمورهم وكان أهل فارس بموت أردشير مختلفين في الملك، مجتمعين على قتال خالد، متساندين، وكانوا بذلك سنة، والمسلمون يمخرون ما دون دجلة، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر، وليست لأحد منهم ذمة إلا الذين كاتبوه واكتتبوا منه، وسائر أهل السواد جلاء، ومتحصنون، ومحاربون واكتتب عمال الخراج، وكتبوا البراءات لأهل الخراج، من نسخة واحدة:

(3/370)


بسم اللَّه الرحمن الرحيم براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها الأمير خالد بْن الوليد، وقد قبضت الذي صالحهم عليه خالد، وخالد والمسلمون لكم يد على من بدل صلح خالد، ما أقررتم بالجزية وكففتم أمانكم أمان، وصلحكم صلح، نحن لكم على الوفاء وأشهدوا لهم النفر من الصحابة الذين كان خالد أشهدهم: هشاما، والقعقاع، وجابر بْن طارق، وجريرا، وبشيرا، وحنظلة، وأزداذ، والحجاج بْن ذي العنق، ومالك بْن زيد.
حَدَّثَنَا عبيد اللَّه، قال: حَدَّثَنِي عمي، عن سيف، عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، قال: وخرج خالد وقد كتب أهل الحيرة عنه كتابا: إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد العبد الصالح والمسلمون عباد اللَّه الصالحون، على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم.
وأما السري، فإنه قال في كتابه إلي: حَدَّثَنَا شعيب، عن سيف، عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، عن هشام بْن الوليد، قال: فرغ خالد.
ثم سائر الحديث مثل حديث عبيد اللَّه بْن سعد.
حَدَّثَنَا عبيد اللَّه، قال: حدثني عمي، عن سيف- والسري، عن شعيب عن سيف- عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بْن أبي ثابت، عن ابن الهذيل الكاهلي نحوا منه، قالوا: وأمر الرسولين اللذين بعثهما أن يوافياه بالخبر، وأقام خالد في عمله سنة، ومنزله الحيرة، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام، وأهل فارس يخلعون ويملكون، ليس إلا الدفع عن بهرسير، وذلك أن شيرى بْن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بْن قباذ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه، فقتلوا كل من بين كسرى بْن قباذ وبين بهرام جور، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه

(3/371)


حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قَالَ: أَقَامَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِيمَا بَيْنَ فَتْحِ الْحِيرَةِ إِلَى خُرُوجِهِ إِلَى الشَّامِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، يُعَالِجُ عَمَلَ عِيَاضٍ الَّذِي سُمِّيَ لَهُ، وَقَالَ خَالِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ: لَوْلا مَا عَهِدَ إِلَيَّ الْخَلِيفَةُ لَمْ أَتَنَقَّذْ عِيَاضًا، وَكَانَ قَدْ شَجِيَ وَأَشْجَى بِدُومَةٍ، وَمَا كَانَ دُونَ فَتْحِ فَارِسَ شَيْءٌ، إِنَّهَا لَسُنَّةٌ كَأَنَّهَا سنة نساء وَكَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ أَلا يَقْتَحِمَ عَلَيْهِمْ وَخَلْفَهُ نِظَامٌ لَهُمْ وَكَانَ بِالْعَيْنِ عَسْكَرٌ لِفَارِسَ وَبِالأَنْبَارِ آخَرُ وَبِالْفَرَاضِ آخَرُ وَلَمَّا وَقَعَتْ كُتُبُ خَالِدٍ إِلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ تَكَلَّمَ نِسَاءُ آلِ كِسْرَى، فَوَلِيَ الْفَرْخَزَاذُ بْنُ الْبَنْدَوَانِ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ آلُ كِسْرَى عَلَى رَجُلٍ إِنْ وَجَدُوهُ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عن أبي عثمان، وَطَلْحَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْمُهَلَّبِ عَنْ سِيَاهٍ، وَسُفْيَانَ عَنْ مَاهَانَ، قَالُوا: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ عَهِدَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَأْتِيَ الْعِرَاقَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهَا، وَإِلَى عِيَاضٍ أَنْ يَأْتِيَ الْعِرَاقَ مِنْ فَوْقِهَا، وَأَيُّكُمَا مَا سَبَقَ إِلَى الْحِيرَةِ فَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْحِيرَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعْتُمَا بِالْحِيرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَدْ فَضَضْتُمَا مَسَالِحَ مَا بَيْنَ الْعَرَبِ وَفَارِسَ وَأَمِنْتُمْ أَنْ يُؤْتَى الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمْ فَلْيَقُمْ بِالْحِيرَةِ أَحَدُكُمَا، وَلْيَقْتَحِمِ الآخَرُ عَلَى الْقَوْمِ، وَجَالِدُوهُمْ عَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاتَّقُوهُ، وَآثِرُوا أَمْرَ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا يَجْتَمِعَا لَكُمْ، وَلا تُؤْثِرُوا الدُّنْيَا فَتُسْلَبُوهُمَا.
وَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَمُعَاجَلَةِ التَّوْبَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالإِصْرَارَ وَتَأْخِيرَ التَّوْبَةِ.
فَأَتَى خَالِدٌ عَلَى مَا كَانَ أُمِرَ بِهِ، وَنَزَلَ الْحِيرَةَ، وَاسْتَقَامَ لَهُ مَا بَيْنَ الْفَلالِيجِ إِلَى أَسْفَلِ السَّوَادِ، وَفَرَّقَ سَوَادَ الْحِيرَةِ يَوْمَئِذٍ عَلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيِّ.
وَبَشِيرِ بْنِ الْخَصَّاصِيَّةِ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَاشِمَةِ، وَابْنِ ذِي الْعُنُقِ، وَأَطٍّ، وَسُوَيْدٍ وَضِرَارٍ، وَفَرَّقَ سَوادَ الأُبُلَّةِ عَلَى سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَحَسْكَةَ الْحبطِيِّ، وَالْحُصَيْنِ بْنِ أَبِي الْحُرِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ عَسَلٍ، وَأَقَرَّ الْمَسَالِحَ على ثغورهم،

(3/372)


وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْحِيرَةِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو وَخَرَجَ خَالِدٌ فِي عَمَلِ عِيَاضٍ لِيَقضيَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلإِغَاثَتِهِ، فَسَلَكَ الْفَلُّوجَةَ حَتَّى نَزَلَ بِكَرْبلاءَ وَعَلَى مَسْلَحَتِهَا عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى مُقَدِّمَةِ خَالِدٍ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، لأَنَّ الْمُثَنَّى كَانَ عَلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ الَّتِي تَلِي الْمَدَائِنَ، فَكَانُوا يُغَاوِرُونَ أَهْلَ فَارِسَ، وَيَنْتَهُونَ إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ قَبْلَ خُرُوجِ خَالِدٍ مِنَ الْحِيرَةِ وَبَعْدِ خُرُوجِهِ فِي إِغَاثَةِ عِيَاضٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي روق، عَمَّنْ شَهِدَهُمْ بِمِثْلِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَقَامَ خالد على كربلاء ايام، وَشَكَا إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَثِيمَةَ الذُّبَابَ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: اصْبِرْ فَإِنِّي إِنَّمَا أريد أَنْ أَسْتَفْرِغَ الْمَسَالِحَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عِيَاضٌ فَنُسْكِنَهَا الْعَرْبَ، فَتَأْمَنَ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤْتَوْا مِنْ خَلْفِهِمْ، وَتَجَيئَنَا الْعَرَبُ أمَنَةً وَغَيْرَ مُتَعْتَعَةٍ، وَبِذَلِكَ أَمَرَنَا الْخَلِيفَةُ، وَرَأْيُهُ يَعْدِلُ نَجْدَةَ الأُمَّةِ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فِيمَا حَكَى ابْنُ وَثِيمَةَ:
لَقَدْ حُبِسَتْ فِي كَرْبِلاءِ مَطِيَّتِي ... وَفِي العين حتى عاد غثا سمينها
إذا زحلت مِنْ مَبْرَكٍ رَجَعَتْ لَهُ ... لَعَمْرُ أَبِيهَا إِنَّنِي لأُهِينُهَا
وَيَمْنَعُهَا مِنْ مَاءِ كُلِّ شَرِيعَةٍ ... رِفَاقٌ مِنَ الذِّبَّانِ زُرْقٌ عُيُونُهَا

حديث الأنبار- وهي ذات العيون- وذكر كلواذى
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وَأَصْحَابِهِمَا، قَالُوا: خَرَجَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي تَعْبِيَتِهِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا مِنَ الْحِيرَةِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَلَمَّا نَزَلَ الأَقْرَعُ الْمَنْزِلَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ إِلَى الأَنْبَارِ أَنْتَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِبِلَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْعَرَجَةَ،

(3/373)


وَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الإِقْدَامِ، وَمَعَهُمْ بَنَاتُ مُخَاضٍ، تَتْبَعُهُمْ فَلَمَّا نُودِيَ بِالرَّحِيلِ صَرُّوا الأُمَّهَاتِ، وَاحْتَقَبُوا الْمَنْتُوجَاتِ، لأَنَّهَا لَمْ تُطِقِ السَّيْرَ، فَانْتَهُوا رُكْبَانًا إِلَى الأَنْبَارِ، وَقَدْ تَحَصَّنَ أَهْلُ الأَنْبَارِ، وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، وَأَشْرَفُوا مِنْ حِصْنِهِمْ، وَعَلَى تِلْكَ الجنود شيرزاد صَاحِبُ سَابَاطَ- وَكَانَ أَعْقَلَ أَعْجَمِيٍّ يَوْمَئِذٍ وَأَسْوَدَهُ وَأَقْنَعَهُ فِي النَّاسِ: الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ- فَتَصَايَحَ عَرَبُ الأَنْبَارِ يَوْمَئِذٍ مِنَ السُّورِ، وَقَالُوا: صبح الأنبار شر، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ فقال شيرزاد: مَا يَقُولُونَ؟ فَفَسَّرَ لَهُ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَضَاءً كَادَ يُلْزِمُهُمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِدٌ مُجْتَازًا لأُصَالِحَنَّهُ، فبيناهم كَذَلِكَ قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، فَأَطَافَ بِالْخَنْدَقِ، وَأَنْشَبَ الْقِتَالَ، وَكَانَ قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنْهُ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَ بِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى رُمَاتِهِ، فَأَوْصَاهُمْ وَقَالَ:
إِنِّي أَرَى أَقْوَامًا لا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَارْمُوا عُيُونَهُمْ وَلا تَوَخُّوا غَيْرَهَا، فَرَمَوْا رَشْقًا وَاحِدًا، ثُمَّ تَابَعُوا، فَفُقِئَ أَلْفُ عَيْنٍ يَوْمَئِذٍ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ ذَاتَ الْعُيُونِ، وَتَصَايَحَ الْقَوْمُ: ذَهَبَتْ عُيُونُ أَهْلِ الأَنْبَارِ! فَقَالَ شِيرَزَاذُ: مَا يَقُولُونَ؟
فَفَسَّرَ لَهُ، فَقَالَ: آباذ آباذ فَرَاسَلَ خَالِدًا فِي الصُّلْحِ عَلى أَمْرٍ لَمْ يَرْضَهُ خَالِدٌ، فَرَدَّ رُسُلَهُ، وَأَتَى خَالِدٌ أَضْيَقَ مَكَانٍ فِي الْخَنْدَقِ بِرَذَايَا الْجَيْشِ فَنَحَرَهَا، ثُمَّ رَمَى بِهَا فِيهِ فَأَفْعَمَهُ، ثُمَّ اقْتَحَمَ الخندق- والردايا جُسُورُهُمْ- فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي الْخَنْدَقِ وَأَرَزَ القوم الى حصنهم، وراسل شيرزاد خَالِدًا فِي الصُّلْحِ عَلَى مَا أَرَادَ، فَقَبِلَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يُخَلِّيَهُ وَيُلْحِقَهُ بِمَأْمَنِهِ فِي جَرِيدَةِ خَيْلٍ، لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ وَالأَمْوَالِ شيء، فخرج شيرزاد، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى بهمنَ جَاذُوَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ لامَهُ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِي قَوْمٍ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ، وَأَصْلُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَمِعْتُهُمْ مَقْدَمَهُمْ عَلَيْنَا يَقْضُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّمَا قَضَى قَوْمٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَضَاءً إِلا وَجَبَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قاتلهم الجند،

(3/374)


فَفَقَئُوا فِيهِمْ وَفِي أَهْلِ الأَرْضِ أَلْفَ عَيْنٍ، فَعَرَفْتُ أَنَّ الْمُسَالَمَةَ أَسْلَمُ وَلَمَّا اطْمَأَنَّ خَالِدٌ بِالأَنْبَارِ وَالْمُسْلِمُونَ، وَأَمِنَ أَهْلَ الأَنْبَارِ وَظَهَرُوا، رَآهُمْ يَكْتُبُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَتَعَلَّمُونَهَا، فَسَأَلَهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ، نَزَلْنَا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَنَا- فَكَانَتْ أَوَائِلَهُمْ نَزَلُوهَا أَيَّامَ بُخْتَنَصَّرَ حِينَ أَبَاحَ الْعَرَبُ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ عَنْهَا- فَقَالَ: مِمَّنْ تَعَلَّمْتُمُ الْكِتَابَ؟ فَقَالُوا: تَعَلَّمْنَا الْخَطَّ مِنْ إِيَادٍ، وَأَنْشَدُوهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
قَوْمِي إِيَادٌ لَوْ أَنَّهُمْ أَمَمُ ... أَوْ لَوْ أَقَامُوا فَتُهْزَلُ النَّعَمُ
قَوْمٌ لَهُمْ بَاحَةُ الْعِرَاقِ إِذَا ... سَارُوا جَمِيعًا وَالْخَطُّ وَالْقَلَمُ
وَصَالَحَ خَالِدٌ مَنْ حَوْلَهُمْ، وَبَدَأَ بِأَهْلِ الْبَوَازِيجِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ أَهْلُ كَلْوَاذَى وعقد لَهُمْ، فَكَاتَبَهُمْ فَكَانُوا عيبته مِنْ وَرَاءِ دِجْلَةَ ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الأَنْبَارِ وَمَا حَوْلَهَا نَقَضُوا فِيمَا كَانَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الدُّوَلِ مَا خَلا أَهْلُ الْبَوَازِيجِ، فَإِنَّهُمْ ثَبَتُوا كَمَا ثَبَتَ أَهْلُ بَانِقْيَا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز- يعني ابن سياه- عن حبيب بْن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد قبل الوقعة إلا بني صلوبا- وهم أهل الحيرة- وكلواذى، وقرى من قرى الفرات، ثم غدروا حتى دعوا إلى الذمة بعد ما غدروا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن قيس، قال: قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكل أرض إلا بعض القلاع والحصون، فإن بعضهم صالح به، وبعضهم غلب فقلت: فهل لأهل السواد ذمة اعتقدوها قبل الهرب؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأخذ منهم صاروا ذمة

(3/375)