تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر فتح الجزيرة
وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- افتتحت الجزيرة في رواية سيف وأما
ابن إسحاق، فإنه ذكر أنها افتتحت في سنة تسع عشرة من الهجرة، وذكر من
سبب فتحها ما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة عنه، أن
عمر كتب إلى سعد بْن أبي وقاص: إن اللَّه قد فتح على المسلمين الشام
والعراق، فابعث من عندك جندا إلى الجزيرة، وأمر عليهم أحد الثلاثة:
خالد بْن عرفطة، أو هاشم بْن عتبة، أو عياض بْن غنم.
فلما انتهى إلى سعد كتاب عمر، قال: ما أخر أمير المؤمنين عياض بْن غنم
آخر القوم إلا انه له فيه هوى ان أوليه، وأنا موليه فبعثه وبعث معه
جيشا، وبعث أبا موسى الأشعري، وابنه عمر بْن سعد- وهو غلام حدث السن
ليس إليه من الأمر شيء- وعثمان بْن أبي العاص بْن بشر الثقفي، وذلك في
سنة تسع عشرة فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرهاء فصالحه
أهلها على الجزية، وصالحت حران حين صالحت الرهاء، فصالحه أهلها على
الجزية ثم بعث أبا موسى الأشعري إلى نصيبين، ووجه عمر بْن سعد إلى رأس
العين في خيل رداء للمسلمين، وسار بنفسه في بقية الناس إلى دارا، فنزل
عليها حتى افتتحها، فافتتح أبو موسى نصيبين، وذلك في سنه تسع عشره ثم
وجه عثمان بْن أبي العاص إلى أرمينية الرابعة فكان عندها شيء من قتال،
أصيب فيه صفوان بْن المعطل السلمي شهيدا.
ثم صالح أهلها عثمان بْن أبي العاص على الجزية، على كل أهل بيت دينار
ثم كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل.
وأما في رواية سيف، فإن الخبر في ذلك، فيما كتب به إلي السري، عن شعيب،
عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا:
خرج عياض بْن غنم في أثر القعقاع، وخرج القواد- يعني حين كتب عمر إلى
سعد بتوجيه القعقاع في أربعة آلاف من جنده مددا لأبي عبيدة حين قصدته
الروم وهو بحمص- فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها،
(4/53)
فسلك سهيل بْن عدي وجنده طريق الفراض حتى
انتهى إلى الرقة، وقد ارفض أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا
بمقبل أهل الكوفة، فنزل عليهم، فأقام محاصرهم حتى صالحوه، وذلك أنهم
قالوا فيما بينهم: أنتم بين أهل العراق وأهل الشام، فما بقاؤكم على حرب
هؤلاء وهؤلاء! فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل واسط من الجزيرة،
فرأى أن يقبل منهم، فبايعوه وقبل منهم، وكان الذي عقد لهم سهيل بْن عدي
عن أمر عياض، لأنه أمير القتال وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى
أهل الذمة، وخرج عبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان، فسلك على دجلة
حتى انتهى إلى الموصل، فعبر إلى بلد حتى أتى نصيبين، فلقوه بالصلح،
وصنعوا كما صنع أهل الرقة، وخافوا مثل الذي خافوا، فكتبوا إلى عياض،
فرأى أن يقبل منهم، فعقد لهم عبد اللَّه بْن عبد اللَّه، وأجروا ما
أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة، وخرج الوليد بْن عقبة حتى قدم
على بني تغلب وعرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم الا اياد ابن
نزار، فإنهم ارتحلوا بقليتهم، فاقتحموا أرض الروم، فكتب بذلك الوليد
إلى عمر بْن الخطاب ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلا
وعبد اللَّه إليه فسار بالناس إلى حران، فأخذ ما دونها فلما انتهى
إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، وأجرى من أجاب بعد غلبه
مجرى أهل الذمة ثم إن عياضا سرح سهيلا وعبد اللَّه إلى الرهاء،
فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية، وأجرى من دونهم مجراهم، فكانت الجزيرة
أسهل البلدان أمرا، وأيسره فتحا، فكانت تلك السهولة مهجنة عليهم وعلى
من أقام فيهم من المسلمين، وقال عياض بْن غنم:
من مبلغ الأقوام أن جموعنا ... حوت الجزيرة يوم ذات زحام
جمعوا الجزيرة والغياث فنفسوا ... عمن بحمص غيابه القدام
(4/54)
إن الأعزة والأكارم معشر ... فضوا الجزيرة
عن فراخ الهام
غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ... عن غزو من يأوي بلاد الشام
ولما نزل عمر الجابية، وفرغ أهل حمص أمد عياض بْن غنم بحبيب ابن مسلمة،
فقدم على عياض مددا، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية
يسأله أن يضم إليه عياض بْن غنم إذ ضم خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه،
وصرف سهيل بْن عدي وعبد اللَّه بْن عبد اللَّه إلى الكوفة ليصرفهما إلى
المشرق، واستعمل حبيب بْن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بْن
عقبة على عرب الجزيرة، فأقاما بالجزيرة على أعمالهما.
قالوا: ولما قدم الكتاب من الوليد على عمر كتب عمر إلى ملك الروم:
إنه بلغني أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فو الله لتخرجنه
أو لننبذن إلى النصارى، ثم لنخرجنهم إليك فأخرجهم ملك الروم، فخرجوا
فتم منهم على الخروج أربعة آلاف مع أبي عدي بْن زياد، وخنس بقيتهم،
فتفرقوا فيما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم، فكل إيادي في أرض
العرب من أولئك الأربعة الآلاف، وأبى الوليد بْن عقبة أن يقبل من بني
تغلب إلا الإسلام، فقالوا له: أما من نقب على قومه في صلح سعد ومن كان
قبله فأنتم وذاك، وأما من لم ينقب عليه أحد ولم يجر ذلك لمن نقب فما
سبيلك عليه! فكتب فيهم إلى عمر، فأجابه عمر: إنما ذلك لجزيرة العرب لا
يقبل منهم فيها إلا الإسلام، فدعهم على ألا ينصروا وليدا، وأقبل منهم
إذا أسلموا فقبل منهم على ألا ينصروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من
الإسلام، فأعطى بعضهم ذلك فأخذوا به، وأبى بعضهم إلا الجزاء، فرضي منهم
بما رضي من العباد وتنوخ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَيْفٍ التغلبى، قال: كان رسول الله ص قَدْ
عَاهَدَ وَفْدَهُمْ
(4/55)
عَلَى أَلا يُنَصِّرُوا وَلِيدًا، فَكَانَ
ذَلِكَ الشَّرْطُ عَلَى الْوَفْدِ وَعَلَى مَنْ وَفَدهُمْ، وَلَمْ
يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُمَرَ قَالَ
مُسْلِمُوهُمْ: لا تَنْفُرُوهُمْ بِالْخَرَاجِ فَيَذْهَبُوا، وَلَكِنْ
أَضْعِفُوا عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ فَيَكُونَ جَزَاءً، فَإِنَّهُمْ يَغْضَبُونَ مِنْ ذِكْرِ
الْجَزَاءِ عَلَى أَلا يُنَصِّرُوا مَوْلُودًا إِذَا أَسْلَمَ
آبَاؤُهُمْ.
فَخَرَجَ وَفْدُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا بَعَثَ الوليد
اليه برءوس النصارى وبديانيهم، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَدُّوا
الْجِزْيَةَ، فَقَالُوا: لِعُمَرَ: أَبْلِغْنَا مَأْمَنَنَا، وَاللَّهِ
لَئِنْ وَضَعْتَ عَلَيْنَا الْجَزَاءَ لَنَدْخُلَنَّ أَرْضَ الرُّومِ،
وَاللَّهِ لَتَفْضَحَنَّا مِنْ بَيْنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ لَهُمْ:
أَنْتُمْ فَضَحْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَخَالَفْتُمْ أُمَّتَكُمْ فِيمَنْ
خَالَفَ وَافْتَضَحَ مِنْ عَرَبِ الضَّاحِيَةِ، وَتَاللَّهِ لتؤدُّنَّه
وَأَنْتُمْ صَغَرَةٌ قَمَأَةٌ، وَلَئِنْ هَرَبْتُمْ إِلَى الرُّومِ
لأَكْتُبَنَّ فِيكُمْ، ثُمَّ لأُسْبِيَنَّكُمْ قَالُوا: فَخُذْ مِنَّا
شَيْئًا وَلا تُسَمِّهِ جَزَاءً، فَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَنُسَمِّيهِ
جَزَاءً، وَسَمُّوهُ أَنْتُمْ مَا شِئْتُمْ [فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَمْ يُضْعِفْ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ
مَالِكٍ الصَّدَقَةَ؟] قَالَ: بَلَى، وَأَصْغَى إِلَيْهِ، فَرَضِيَ
بِهِ مِنْهُمْ جَزَاءً، فَرَجَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِي بَنِي
تَغْلِبَ عِزٌّ وَامْتِنَاعٌ، وَلا يَزَالُونَ يُنَازِعُونَ
الْوَلِيدَ، فَهَمَّ بِهِمُ الْوَلِيدُ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
إِذَا مَا عَصَبْتُ الرَّأْسَ مِنِّي بِمِشْوَذٍ ... فَغَيّكَ مِنِّي
تَغْلِبَ ابْنَةَ وَائِلِ
وَبَلَغَتْ عَنْهُ عُمَرَ، فَخَافَ أَنْ يَحْرِجُوهُ وَأَنْ يَضْعُفَ
صَبْرُهُ فَيَسْطُو عَلَيْهِمْ، فَعَزَلَهُ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ
فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ وَهِنْدَ بْنَ عَمْرٍو الْجَمَلِيَّ، وَخَرَجَ
الْوَلِيدُ وَاسْتَوْدَعَ إِبِلا لَهُ حُرَيْثَ بْنَ النُّعْمَانِ،
أَحَدُ بَنِي كِنَانَةَ بْنِ تَيْمٍ مِنْ بَنِي تغلب، وكانت مائه من
الإبل فاختانها بعد ما خَرَجَ الْوَلِيدُ.
وَكَانَ فَتْحُ الْجَزِيرَةِ فِي سَنَةِ سبع عشره في ذي الحجه
. خروج عمر بن الخطاب الى الشام
وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- خَرَجَ عُمَرُ مِنَ الْمَدِينَةِ
يُرِيدُ
(4/56)
الشَّامَ حَتَّى بَلَغَ سَرْغَ، فِي قَوْلِ
ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ
عَنْهُ، وَفِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ.
ذكر الخبر عن خروجه إليها:
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّد بْن إسحاق،
قال:
خرج عمر إلى الشام غازيا في سنة سبع عشرة، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء
الأجناد، فأخبروه أن الأرض سقيمة، فرجع بالناس إلى المدينة.
وقد كان عمر- كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد
ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ، عن عبد الله ابن عَبَّاسٍ- خَرَجَ غَازِيًا،
وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَوْعَبَ النَّاسَ
مَعَهُ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِسَرْغَ، لقيه أمراء الأجناد: ابو عبيده
ابن الْجَرَّاحِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ
حَسَنَةَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الأَرْضَ سَقِيمَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ:
اجْمَعْ إِلَيَّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، قَالَ:
فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ،
فَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: خَرَجْتَ لِوَجْهٍ تُرِيدُ فِيهِ اللَّهَ وَمَا
عِنْدَهُ، وَلا نَرَى أَنْ يَصُدَّكَ عَنْهُ بَلاءٌ عَرَضَ لَكَ
وَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: إِنَّهُ لَبَلاءٌ وَفَنَاءٌ مَا نَرَى أَنْ
تَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ:
قُومُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: اجْمَعْ لِي مُهَاجِرَةَ الأَنْصَارِ،
فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا طَرِيقَ
الْمُهَاجِرِينَ، فَكَأَنَّمَا سَمِعُوا مَا قَالُوا فَقَالُوا
مِثْلَهُ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ: قُومُوا عَنِّي، ثُمَّ
قَالَ: اجْمَعْ لِي مُهَاجِرَةَ الْفَتْحِ مِنْ قُرَيْشٍ،
فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فاستشارهم فلم يختلف عليه مِنْهُمُ اثْنَانِ،
وَقَالُوا: ارْجِعْ بِالنَّاسِ، فَإِنَّهُ بَلاءٌ وفناء قال: فقال لي
عمر: يا بن عَبَّاسٍ، اصْرُخْ فِي النَّاسِ فَقُلْ: إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظُهْرٍ،
فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ قَالَ: فَأَصَبْحَ عُمَرُ عَلَى ظُهْرٍ،
وَأَصْبَحَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ قَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا، فَقَالَ لَهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ! قَالَ:
نَعَمْ فِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ
لَوْ أَنَّ
(4/57)
رَجُلا هَبَطَ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا خَصْبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ يَرْعَى مَنْ
رَعَى الْجَدْبَةَ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَيَرْعَى مَنْ رَعَى الْخَصْبَةِ
بِقَدَرِ اللَّهِ! ثُمَّ قَالَ: لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا يَا أَبَا
عُبَيْدَةَ! ثُمَّ خَلا بِهِ بِنَاحِيَةٍ دُونَ النَّاسِ، فَبَيْنَا
النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ-
وَكَانَ مُتَخَلِّفًا عَنِ النَّاسِ لَمْ يَشْهَدْهُمْ بِالأَمْسِ-
فَقَالَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ، فَقَالَ: عِنْدِي
مِنْ هَذَا عِلْمٌ، فَقَالَ: عُمَرُ: فَأَنْتَ عِنْدَنَا الأَمِينُ
الْمُصَدَّقُ، فَمَاذَا عِنْدَكَ؟
[قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهَذَا
الْوَبَاءِ بِبَلَدٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ
وَأَنْتُمْ بِهِ فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ،] وَلا
يُخْرِجَنَّكُمْ إِلا ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ!
انْصَرِفُوا أَيُّهَا النَّاسُ، فَانْصَرَفَ بِهِمْ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن محمد بن إسحاق، عن ابن
شهاب الزهري، عن عبد اللَّه بْن عامر بْن ربيعة وسالم بْن عبد اللَّه
بْن عمر، أنهما حدثاه أن عمر إنما رجع بالناس عن حديث عبد الرحمن بْن
عوف، فلما رجع عمر رجع عمال الأجناد إلى أعمالهم وَأَمَّا سَيْفٌ،
فَإِنَّهُ رَوَى فِي ذَلِكَ مَا كتب بِهِ إِلَى السري، عن شعيب، عن
سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان وَالرَّبِيعِ، قَالُوا: وَقَعَ
الطَّاعُونُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ، وَاسْتَقَرَّ
بِالشَّامِ، وَمَاتَ فِيهِ النَّاسُ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ
الأَمْصَارِ فِي الْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ، وَارْتَفَعَ عَنِ النَّاسِ
وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ مَا خَلا الشَّامِ، فَخَرَجَ حَتَّى
إِذَا كَانَ مِنْهَا قَرِيبًا بَلَغَهُ أَنَّهُ أَشَدُّ مَا كَانَ،
فَقَالَ وقال الصحابه:
[قال رسول الله ص: إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَبَاءٌ فَلا تَدْخُلُوهَا،
وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا،]
فَرَجَعَ حَتَّى ارْتَفَعَ عَنْهَا، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ
وَبِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَوَارِيثِ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي
جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِي
الْبُلْدَانِ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ بَدَا لِي أَنْ أَطُوفَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فِي بِلْدَانِهِمْ لأَنْظُرَ فِي آثَارِهِمْ،
فَأَشِيرُوا عَلَيَّ- وَكَعْبُ الأَحْبَارِ
(4/58)
فِي الْقَوْمِ، وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ
مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ أَسْلَمَ- فَقَالَ كَعْبٌ: بِأَيِّهَا تُرِيدُ
أَنْ تَبْدَأَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بِالْعِرَاقِ،
قَالَ: فَلا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الشَّرَّ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ
وَالْخَيْرُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، فَجُزْءٌ مِنَ الْخَيْرِ
بِالْمَشْرِقِ وَتِسْعَةٌ بِالْمَغْرِبِ، وَإِنَّ جُزْءًا مِنَ
الشَّرِّ بِالْمَغْرِبِ وَتِسْعَةً بِالْمَشْرِقِ، وَبِهَا قَرْنُ
الشَّيْطَانِ، وَكُلُّ دَاءٍ عُضَالٌ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ الأَصْبَغِ، عَنْ
عَلِيٍّ، قَالَ: قَامَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ، فَقَالَ: [يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ إِنَّ الْكُوفَةَ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ
الْهِجْرَةِ، وَإِنَّهَا لَقُبَّةُ الإِسْلامِ، وَلَيَأْتِيَنَّ
عَلَيْهَا يَوْمٌ لا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلا أَتَاهَا وَحَنَّ
إِلَيْهَا، وَاللَّهِ لَيُنْصَرَنَّ بِأَهْلِهَا كَمَا انْتُصِرَ
بِالْحِجَارَةِ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ] .
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الْمطرحِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: وَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْمَغْرِبَ أَرْضُ الشَّرِّ، وَإِنَّ الشَّرَّ
قُسِّمَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَجُزْءٌ فِي النَّاسِ وَسَائِرُ الأَجْزَاءِ
بِهَا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابى يَحْيَى التَّمِيمِيِّ، عَنْ
أَبِي مَاجِدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: الْكُوفَةُ رُمْحُ اللَّهِ،
وَقُبَّةُ الإِسْلامِ، وَجُمْجُمَةُ الْعَرَبِ، يَكُفُّونَ
ثُغُورَهُمْ، وَيَمُدُّونَ الأَمْصَارَ، فَقَدْ ضَاعَتْ مَوَارِيثُ
أَهْلِ عِمْوَاسَ، فَأَبْدَأُ بِها.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عُثْمَانَ وَأَبِي
حَارِثَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالُوا: قَالَ عُمَرُ:
ضَاعَتْ مَوَارِيثُ النَّاسِ بِالشَّامِ، أَبْدَأُ بِهَا فَأُقَسِّمُ
الْمَوَارِيثَ، وَأُقِيمُ لَهُمْ مَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ أَرْجِعُ
فَأَتَقَلَّبُ فِي الْبِلادِ، وَأَنْبِذُ إِلَيْهِمْ أَمْرِي فَأَتَى
عُمَرُ الشَّامَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سِتَّ
عَشْرَةَ، وَمَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، لَمْ يَدْخُلْهَا
فِي الأُولَى مِنَ الآخِرَتَيْنِ.
كَتَبَ إِلَى السَّرِيِّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ بَكْرِ
بْنِ وَائِلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: [قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ص: قُسِّمَ الْحِفْظُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي
التُّرْكِ وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الْبُخْلُ
عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي فَارِسَ، وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ
النَّاسِ، وَقُسِّمَ السَّخَاءُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ،
(4/59)
فَتِسْعَةٌ فِي السُّودَانِ، وَجُزْءٌ فِي
سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الشَّبَقُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ
فِي الْهِنْدِ، وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الْحَيَاءُ
عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي النِّسَاءِ، وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ
النَّاسِ، وَقُسِّمَ الْحَسَدُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي
الْعَرَبِ وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ النَّاسِ، وَقُسِّمَ الْكِبْرُ
عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةٌ فِي الرُّومِ وَجُزْءٌ فِي سَائِرِ
النَّاسِ] .
واختلف في خبر طاعون عمواس وفي أي سنة كان، فقال ابن إسحاق ما حدثنا
ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه، قال: ثم دخلت سنة ثماني عشرة، ففيها
كان طاعون عمواس، فتفانى فيها الناس، فتوفى ابو عبيده ابن الجراح، وهو
أمير الناس، ومعاذ بْن جبل، ويزيد بن ابى سفيان، والحارث ابن هشام،
وسهيل بْن عمرو، وعتبة بْن سهيل، وأشراف الناس.
وحدثني أحمد بْن ثابت الرازي، قال: حَدَّثَنَا عن إسحاق بْن عيسى، عن
أبي معشر، قال: كان طاعون عمواس والجابية في سنة ثماني عشرة.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق،
عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْمُخَارِقِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْبَجَلِيِّ، قَالَ:
أَتَيْنَا أَبَا مُوسَى وَهُوَ فِي دَارِهِ بِالْكُوفَةِ لِنَتَحَدَّثَ
عِنْدَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَالَ: لا عَلَيْكُمْ أَنْ تخفوا، فقد
أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزهوا عن هذه القرية،
فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء، سأخبركم بما يكره
مما يتقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظن من اقام فاصابه
ذلك لو أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن هذا المرء المسلم فلا عليه أن
يخرج، وأن يتنزه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بْن الجراح بالشام عام
طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع، وبلغ
(4/60)
ذلك عمر، كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه:
أن سلام عليك، أما بعد، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك
فيها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي
قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، قال: يغفر
اللَّه لأمير المؤمنين! ثم كتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت
حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد
فراقهم حتى يقضي اللَّه في وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزمتك يا أمير
المؤمنين، ودعني في جندي فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير
المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد قال: ثم كتب إليه: سلام
عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضا غمقه، فارفعهم إلى أرض مرتفعة
نزهة فلما أتاه كتابه دعاني فقال: يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين
قد جاءني بما ترى، فاخرج فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم، فرجعت إلى
منزلي لأرتحل، فوجدت صاحبتي قد أصيبت، فرجعت إليه، فقلت له: والله لقد
كان في أهلي حدث، فقال: لعل صاحبتك أصيبت! قلت: نعم، قال: فأمر ببعيره
فرحل له، فلما وضع رجله في غرزة طعن، فقال: والله لقد أصبت ثم سار
بالناس حتى نزل الجابية، ورفع عن الناس الوباء.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبان
بن صالح، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ رَابةَ-
رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ
أَبِيهِ، كَانَ شَهِدَ طَاعُونَ عِمْوَاسَ- قَالَ: لَمَّا اشْتَعَلَ
الْوَجَعُ قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هذا الوجع رحمه بكم ودعوه نبيكم محمد ص،
وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ
اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ فَطُعِنَ فمات،
(4/61)
وَاسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذُ بْنُ
جَبَلٍ قَالَ: فَقَامَ خَطِيبًا بَعْدَهُ، فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ،
وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ
مُعَاذًا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لآلِ مُعَاذٍ مِنْهُ
حَظَّهُمْ، فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذٍ، فَمَاتَ
ثُمَّ قَامَ فَدَعَا بِهِ لِنَفْسِهِ، فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ،
فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ يُقَبِّلُ ظَهْرَ
كَفِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِمَا فِيكِ شَيْئًا
مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا مَاتَ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ، فَقَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ
اشْتِعَالَ النَّارِ، فتجبلوا منه في الجبال فقال ابو وائله
الْهُذَلِيُّ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص
وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِي هَذَا! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ
عَلَيْكَ مَا تَقُولُ، وَايْمِ اللَّهِ لا نُقِيمُ عَلَيْهِ ثُمَّ
خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا، وَرَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْ رَأَيِ عَمْرَو
بْنِ العاص، فو الله مَا كَرِهَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
زَيْدٍ الْجِرْمِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بَلَغَنِي هَذَا مِنْ
قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: إِنَّ هذا
الوجع رحمه بكم وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ
قَبْلَكُمْ، فَكُنْتُ أَقُولُ: كيف دعا به رسول الله ص لأُمَّتِهِ،
حَتَّى حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ لا أَتَّهِمُ عن رسول الله انه سمعه
منه، وجاءه جبريل ع فَقَالَ: إِنَّ فَنَاءَ أُمَّتِكَ يَكُونُ
بِالطَّعْنِ أَوِ الطاعون، [فجعل رسول الله ص يَقُولُ: اللَّهُمَّ
فَنَاءَ الطَّاعُونِ!] فَعَرَفْتُ أَنَّهَا الَّتِي كَانَ قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ،
قال: وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى عُمَرَ مُصَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ
وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَمَّرَ معاويه ابن أَبِي سُفْيَانَ
عَلَى جُنْدِ دِمَشْقَ وَخَرَاجِهَا، وَأَمَّرَ شُرَحْبِيلَ بْنَ
حَسَنَةَ عَلَى جُنْدِ الأُرْدُنِّ وَخَرَاجِهَا.
وَأَمَّا سَيْفٌ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ طَاعُونَ عَمْوَاسَ كَانَ فِي
سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ
(4/62)
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي
عثمان وأبي حارثة والربيع بإسنادهم، قالوا: كان ذلك الطاعون- يعنون
طاعون عمواس- موتانا لم ير مثله، طمع له العدو في المسلمين، وتخوفت له
قلوب المسلمين، كثر موته، وطال مكثه، مكث أشهرا حتى تكلم في ذلك
النَّاسِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: أَصَابَ الْبَصْرَةَ
مِنْ ذَلِكَ مَوْتٌ ذَرِيعٌ، فَأَمَرَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
غُلامًا لَهُ أَعْجَمِيًّا أَنْ يَحْمِلَ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا لَيْسَ
لَهُ وَلَدٌ غَيْرَهُ عَلَى حِمَارٍ، ثُمَّ يَسُوقَ بِهِ إِلَى
سَفَوَانَ، حَتَّى يَلْحَقَهُ فَخَرَجَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ
اتَّبَعَهُ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى سَفَوَانَ، وَدَنَا مِنَ ابْنِهِ
وَغُلامِهِ، فَرَفَعَ الْغُلامُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:
لَنْ يعجزوا اللَّه على حمار ... ولا على ذي غرة مطار
قد يصبح الموت أمام الساري
فسكت حتى انتهى إليهم، فإذا هم هم، قال: ويحك، ما قلت! قال:
ما أدري، قال: ارجع، فرجع بابنه، وعلم أنه قد أسمع آية وأريها.
قال: وعزم رجل على الخروج الى ارض بها الطاعون فتردد بعد ما طعن، فإذا
غلام له أعجمي يحدو به:
يا ايها المشعر هما لا تهم ... إنك إن تكتب لك الحمى تحم
وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- كان خروج عمر إلى الشام الخرجة
الأخيرة فلم يعد إليها بعد ذلك في قول سيف، وأما ابن إسحاق فقد مضى
ذكره
. ذكر الخبر عَنْ سَيْفٍ في ذلك، والخبر عما ذكره عن عمر في خرجته تلك
أنه أحدث في مصالح المسلمين:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن أبي عثمان
وأبي حارثة والربيع، قالوا: وخرج عمر وخلف عليا على المدينة، وخرج معه
بالصحابة
(4/63)
وأغذوا السير واتخذ أيلة طريقا، حتى إذا
دنا منها تنحى عن الطريق، واتبعه غلامه، فنزل فبال، ثم عاد فركب بعير
غلامه، وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلما تلقاه أوائل
الناس، قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم- يعني نفسه- وذهبوا هم
إلى أمامهم، فجازوه حتى انتهى هو إلي أيلة فنزلها وقيل للمتلقين: قد
دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها.
فرجعوا إليه كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ هِشَامُ بْنُ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
أَيْلَةَ، وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ دَفَعَ قَمِيصًا
لَهُ كَرَابِيسُ قَدِ انْجَابَ مُؤَخِّرُهُ عَنْ قَعْدَتِهِ مِنْ طُولِ
السَّيْرِ إِلَى الأُسْقُفِّ، وقال: اغسل هذا وارقعه، فَانْطَلَقَ
الأُسْقُفُّ بِالْقَمِيصِ، وَرَقَّعَهُ، وَخَاطَ لَهُ آخَرُ مِثْلَهُ،
فَرَاحَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ الأُسْقُفُّ:
أَمَّا هَذَا فَقَمِيصُكَ قَدْ غَسَلْتُهُ وَرَقَّعْتُهُ، وَأَمَّا
هَذَا فَكِسْوَةٌ لَكَ مِنِّي.
فَنَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَمَسَحَهُ، ثُمَّ لَبِسَ قَمِيصَهُ، وَرَدَّ
عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَمِيصَ، وَقَالَ:
هَذَا أَنْشَفُهُمَا لِلْعَرَقِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
عَطِيَّةَ وَهِلالٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ
الْعَبَّاسَ بِالْجَابِيَةِ يَقُولُ لِعُمَرَ: أَرْبَعٌ مَنْ عَمِلَ
بِهِنَّ اسْتَوْجَبَ الْعَدْلَ: الأَمَانَةُ فِي الْمَالِ،
وَالتَّسْوِيَّةُ فِي الْقَسْمِ، وَالْوَفَاءُ بالعدة، وَالْخُرُوجُ
مِنَ الْعُيُوبِ، نَظِّفْ نَفْسَكَ وَأَهْلَكَ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عُثْمَانَ وَالرَّبِيعِ
وَأَبِي حَارِثَةَ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: قَسَّمَ عُمَرُ
الأَرْزَاقَ، وَسَمَّى الشَّوَاتِيَ وَالصَّوَائِفَ، وَسَدَّ فُرُوجَ
الشَّامِ وَمَسَالِحَهَا، وَأَخَذَ يَدُورُ بِهَا، وَسَمَّى ذَلِكَ فِي
كُلِّ كَوْرَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ عَلَى
السَّوَاحِلِ مِنْ كُلِّ كَوْرَةٍ، وَعَزَلَ شُرَحْبِيلَ،
وَاسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَّرَ أَبَا عُبَيْدَةَ وَخَالِدًا
تَحْتَهُ، فَقَالَ لَهُ شُرَحْبِيلُ: أَعَنْ
(4/64)
سَخْطَةٍ عَزَلْتَنِي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لا، إِنَّكَ لَكَمَا أُحِبُّ، وَلَكِنِّي
أُرِيدُ رَجُلا أَقْوَى مِنْ رَجُلٍ، قَالَ: نَعَمْ، فَاعْذُرْنِي فِي
النَّاسِ لا تُدْرِكْنِي هُجْنَةٌ، فَقَامَ فِي النَّاسِ، فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا عَزَلْتُ شُرَحْبِيلَ عَنْ
سَخْطَةٍ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ رَجُلا أَقْوَى مِنْ رَجُلٍ وَأَمَّرَ
عَمْرَو بْنَ عَبْسَةَ عَلَى الأَهْرَاءِ، وَسَمَّى كُلَّ شَيْءٍ،
ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ بِالْوَدَاعِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي ضمرة
وأبي عمرو، عن المستورد، عن عدي بْن سهيل، قال: لما فرغ عمر من فروجه
وأموره قسم المواريث، فورث بعض الورثة من بعض، ثم أخرجها إلى الأحياء
من ورثة كل امرئ منهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي:
وخرج الحارث بْن هشام في سبعين من أهل بيته، فلم يرجع منهم إلا أربعة،
فقال المهاجر بْن خالد بْن الوليد:
من يسكن الشام يعرس به ... والشام إن لم يفننا كارب
أفنى بنى ريطة فرسانهم ... عشرون لم يقصص لهم شارب
ومن بني أعمامهم مثلهم ... لمثل هذا أعجب العاجب
طعنا وطاعونا مناياهم ... ذلك ما خط لنا الكاتب
قال: وقفل عمر من الشام إلى المدينة في ذي الحجة، وخطب حين أراد
القفول، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: ألا إني قد وليت عليكم وقضيت
الذي علي في الذي ولاني اللَّه من امركم، ان شاء الله قسطنا بينكم
فيئكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا
لكم الفروج، وبوأناكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من
شامكم، وسمينا لكم اطماعكم، وامرنا لكم باعطياتكم، وأرزاقكم ومغانمكم
(4/65)
فمن علم علم شيء ينبغي العمل به فبلغنا
نعمل به إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله وحضرت الصلاة، وقال الناس:
لو أمرت بلالا فأذن! فأمره فأذن، فما بقي احد كان ادرك رسول الله ص
وبلال يؤذن له إلا بكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم
يدركه ببكائهم، ولذكره ص
. ذكر خبر عزل خالد بن الْوَلِيد
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن أبي عثمان
وأبي حارثة، قالا: فما زال خالد على قنسرين حتى غزا غزوته التي أصاب
فيها، وقسم فيها ما أصاب لنفسه.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي
المجالد مثله.
قالوا: وبلغ عمر أن خالدا دخل الحمام فتدلك بعد النورة بثخين عصفر
معجون بخمر، فكتب إليه: بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن اللَّه قد حرم ظاهر
الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر إلا أن
تغسل كما حرم شربها، فلا تمسوها أجسادكم فإنها نجس، وإن فعلتم فلا
تعودوا.
فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر فكتب إليه عمر: إني
أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم اللَّه عليه! فانتهى
إليه ذلك.
وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- أدرب خالد بن الوليد وعياض ابن غنم
في رواية سيف عن شيوخه
(4/66)
ذكر من قال ذلك:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة
والمهلب، قالوا: وأدرب سنة سبع عشرة خالد وعياض، فسارا فأصابا أموالا
عظيمة، وكانا توجها من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو
عبيدة وخالد تحت يديه على قنسرين، وعلى دمشق يزيد بْن أبي سفيان، وعلى
الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بْن مجزز، وعلى الأهراء عمرو ابن
عبسة، وعلى السواحل عبد اللَّه بْن قيس، وعلى كل عمل عامل.
فقامت مسالح الشام ومصر والعراق على ذلك إلى اليوم لم تجز أمة إلى أخرى
عملها بعد، إلا أن يقتحموا عليهم بعد كفر منهم، فيقدموا مسالحهم بعد
ذلك، فاعتدل ذلك سنة سبع عشرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سَيْفٍ، عن أبي المجالد وأبي عثمان والربيع
وأبي حارثة، قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الصائفة
انتجعه رجال، فانتجع خالدا رجال من أهل الآفاق، فكان الأشعث بْن قيس
ممن انتجع خالدا بقنسرين، فأجازه بعشرة آلاف.
وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، كتب إليه من العراق بخروج من خرج،
ومن الشام بجائزة من أجيز فيها- فدعا البريد، وكتب معه إلى أبي عبيدة
أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمهم من أين
إجازة الأشعث، أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة
أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف.
واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم
عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد،
أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه حتى أكثر عليه، وأبو
عبيدة ساكت لا يقول شيئا، فقام بلال إليه، فقال: إن أمير المؤمنين أمر
فيك بكذا وكذا، ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته وقال: ما تقول! أمن
مالك أم من إصابة؟ قال: لا بل من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه
بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونخدم موالينا قالوا: وأقام
خالد متحيرا لا يدري امعزول
(4/67)
أم غير معزول؟ وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى
إذا طال على عمر أن يقدم ظن الذي قد كان، فكتب إليه بالإقبال، فأتى
خالد أبا عبيدة، فقال:
رحمك اللَّه، ما أردت إلى ما صنعت! كتمتني أمرا كنت أحب أن أعلمه قبل
اليوم! فقال أبو عبيدة: إني والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بدا، وقد
علمت أن ذلك يروعك قال: فرجع خالد إلى قنسرين، فخطب أهل عمله وودعهم
وتحمل، ثم أقبل إلى حمص فخطبهم وودعهم، ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على
عمر، فشكاه وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مجمل
يا عمر، فقال عمر: من اين هذا الثراء؟
قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفا فلك فقوم عمر عروضه
فخرجت إليه عشرون ألفا، فأدخلها بيت المال ثم قال: يا خالد، والله إنك
علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ
سُهَيْلٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى الأَمْصَارِ: إِنِّي لَمْ
أَعْزِلْ خَالِدًا عَنْ سَخْطَةٍ وَلا خِيَانَةٍ، وَلَكِنَّ النَّاسَ
فُتِنُوا بِهِ، فَخِفْتُ أَنْ يوكلوا إِلَيْهِ وَيُبْتُلُوا بِهِ،
فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الصَّانِعُ، وَأَلا
يَكُونُوا بِعَرَضِ فِتْنَةٍ.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ:
لَمَّا قَدِمَ خَالِدٍ عَلَى عُمَرَ قَالَ عُمَرُ مُتَمَثِّلا:
صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعٌ ... وَمَا يَصْنَعُ
الأَقْوَامُ فَاللَّهُ يَصْنَعُ
فَأَغْرَمَهُ شَيْئًا، ثُمَّ عَوَّضَهُ، وَكَتَبَ فِيهِ إِلَى الناس
بهذا الكتاب ليعذره عندهم وليبصرهم
. ذكر تجديد المسجد الحرام والتوسعه فيه
وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- اعْتَمَرَ عُمَرُ، وَبَنَى
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ- فِيمَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ- وَوَسَّعَ
فِيهِ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَهَدَمَ عَلَى
أَقْوَامٍ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا، وَوَضَعَ أَثْمَانَ دُورِهِمْ فِي
بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى أَخَذُوهَا
(4/68)
قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي
اعْتَمَرَ فِيهِ رَجَبَ، وَخَلَّفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي عُمْرَتِهِ هَذِهِ أَمَرَ بِتَجْدِيدِ
أَنْصَابِ الْحَرَمِ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ
وَالأَزْهَرَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى
وَسَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:
قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ مَكَّةَ فِي عُمْرَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ،
فَمَرَّ بِالطَّرِيقِ فَكَلَّمَهُ أَهْلُ الْمِيَاهِ أَنْ يَبْتَنُوا
مَنَازِلَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ- وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ
بِنَاءٌ- فَأَذِنَ لَهُمْ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ
أَحَقُّ بِالظِّلِّ وَالْمَاءِ.
قَالَ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُمَّ كُلْثُومٍ
ابْنَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهِيَ ابْنَةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ
رَسُولِ اللَّهِ ص، ودخل بها في ذي القعده
. ذكر خبر عزل المغيره عن البصره وولايه
ابى موسى
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى عُمَرُ أَبَا مُوسَى
الْبَصْرَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُشْخِصَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ فِي
رَبِيعٍ الأَوَّلِ- فَشَهِدَ عَلَيْهِ- فيما حَدَّثَنِي معمر، عن
الزهري، عن ابن المسيب- أبو بكرة، وشبل بْن معبد البجلي، ونافع بْن
كلدة، وزياد.
قال: وحدثني مُحَمَّد بْن يعقوب بْن عتبة، عن أبيه، قال: كان يختلف إلى
أم جميل، امرأة من بني هلال، وكان لها زوج هلك قبل ذلك من ثقيف، يقال
له الحجاج بْن عبيد، فكان يدخل عليها، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه،
فخرج المغيرة يوما من الأيام حتى دخل عليها، وقد وضعوا عليها الرصد،
فانطلق القوم الذين شهدوا جميعا، فكشفوا الستر، وقد واقعها فوفد أبو
بكرة إلى عمر، فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم،
قال: لقد جئت لشر، قال: إنما جاء بي المغيرة، ثم قص عليه القصة، فبعث
عمر أبا موسى الأشعري عاملا، وأمره
(4/69)
أن يبعث إليه المغيرة، فأهدى المغيرة لأبي
موسى عقيلة، وقال: انى رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر.
قال الواقدي: وحدثني عبد الرحمن بْن محمد بن ابى بكر بن محمد ابن عمرو
بْن حزم، عَنْ أَبِيهِ، عن مالك بْن أوس بْن الحدثان، قال:
حضرت عمر حين قدم بالمغيرة، وقد تزوج امرأة من بني مرة، فقال له:
إنك لفارغ القلب، طويل الشبق، فسمعت عمر يسأل عن المرأة فقال:
يقال لها الرقطاء، وزوجها من ثقيف، وهو من بني هلال قال أبو جعفر: وكان
سبب ما كان بين أبي بكرة والشهادة عليه- فيما كَتَبَ إِلَيَّ
السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة
وعمرو بإسنادهم، قالوا: كان الذي حدث بين أبي بكرة والمغيرة بْن شعبة
أن المغيرة كان يناغيه، وكان أبو بكرة ينافره عند كل ما يكون منه،
وكانا بالبصرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين
متقابلتين لهما في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى،
فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت ريح، ففتحت باب
الكوة، فقام أبو بكرة ليصفقه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوة
مشربته، وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا، فقاموا
فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: من هذه؟ قال: أم جميل ابنة الأفقم-
وكانت أم جميل إحدى بني عامر بْن صعصعة، وكانت غاشية للمغيرة، وتغشى
الأمراء والأشراف- وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها- فقالوا: إنما
رأينا أعجازا، ولا ندري ما الوجه؟ ثم إنهم صمموا حين قامت، فلما خرج
المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لا تصل بنا
فكتبوا إلى عمر بذلك، وتكاتبوا، فبعث عمر إِلَى أَبِي مُوسَى، فَقَالَ:
يَا أَبَا مُوسَى، إني مستعملك، إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان
وفرخ، فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل اللَّه بك فقال: يا أمير
المؤمنين،
(4/70)
أعني بعدة من أصحاب رسول اللَّه من
المهاجرين والأنصار، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا
يصلح الطعام إلا به فاستعن بمن أحببت فاستعان بتسعة وعشرين رجلا، منهم
أنس بْن مالك وعمران بْن حصين وهشام بْن عامر ثم خرج أبو موسى فيهم حتى
أناخ بالمربد، وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال: والله
ما جاء أبو موسى زائرا، ولا تاجرا، ولكنه جاء أميرا فإنهم لفي ذلك، إذ
جاء أبو موسى حتى دخل عليهم، فدفع إليه أبو موسى كتابا من عمر، وإنه
لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس، أربع كلم عزل فيها، وعاتب، واستحث،
وأمر:
أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم إليه ما في
يدك، والعجل وكتب إلى أهل البصرة: أما بعد، فإني قد بعثت أبا موسى
أميرا عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن
ذمتكم، وليحصى لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقى لكم طرقكم.
وأهدى له المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعى عقيلة، وقال:
إني قد رضيتها لك- وكانت فارهة- وارتحل: المغيرة وأبو بكرة ونافع بْن
كلدة وزياد وشبل بْن معبد البجلي حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين
المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني، مستقبلهم أو
مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة او عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم
أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي!
والله ما أتيت إلا امرأتي- وكانت شبهها- فبدأ بأبي بكرة، فشهد عليه أنه
رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، قال:
كيف رأيتهما؟ قال مستدبرهما، قال: فكيف استثبت رأسها؟ قال: تحاملت.
ثم دعا بشبل بْن معبد، فشهد بمثل ذلك، فقال: استدبرتهما أو استقبلتهما؟
(4/71)
قال: استقبلتهما وشهد نافع بمثل شهادة أبي
بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة،
فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا
قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف المرأة؟ قال:
لا، ولكن أشبهها، قال: فتنح، وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد، وقرأ: فَإِذْ
لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
الْكاذِبُونَ، فقال المغيرة:
اشفني من الأعبد، فقال: اسكت اسكت الله نامتك! اما والله لو تمت
الشهاده لرجمتك باحجارك
. فتح سوق الاهواز ومناذر ونهر تيرى
وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- فتحت سوق الأهواز ومناذر ونهر تيرى
في قول بعضهم، وفي قول آخرين: كان ذلك في سنة ست عشرة من الهجرة.
ذكر الخبر عن سبب فتح ذلك وعلى يدي من جرى:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، يَذْكُرُ أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْ
سَيْف بْن عمر، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: كان الهرمزان
أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت امته مهرجانقذق وكور الأهواز،
فهؤلاء بيوتات دون سائر أهل فارس، فلما انهزم يوم القادسية كان وجهه
إلى أمته، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل
ميسان ودستميسان من وجهين، من مناذر ونهر تيرى، فاستمد عتبة بْن غزوان
سعدا، فأمده سعد بنعيم بْن مقرن ونعيم بْن مسعود، وأمرهما أن يأتيا
أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى ووجه عتبة ابن
غزوان سلمى بْن القين وحرملة بْن مريطة- وكانا من المهاجرين مع رسول
الله ص، وهما من بني العدوية من بني حنظلة- فنزلا على حدود أرض ميسان
ودستميسان، بينهم وبين مناذر، ودعوا
(4/72)
بنى العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب
بْن وائل الكلينى، فتركا نعيما ونعيما ونكبا عنهما، وأتيا سلمى وحرملة،
وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما مترك، فإذا كان يوم كذا وكذا
فانهدا للهرمزان، فإن أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى، فنقتل
المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء اللَّه
ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بْن مالك.
قال: وكان من حديث العمي، والعمي مرة بْن مالك بْن حنظلة بْن مالك بْن
زيد مناة بْن تميم- أنه تنخت عليه وعلى العصية بن امرئ القيس أفناء معد
فعماه عن الرشد من لم ير نصره فارس على آل اردوان، فقال في ذلك كعب بْن
مالك أخوه- ويقال: صدي بْن مالك:
لقد عم عنها مرة الخير فانصمى ... وصم فلم يسمع دعاء العشائر
ليتنخ عنا رغبة عن بلاده ... ويطلب ملكا عاليا في الأساور
فبهذا البيت سمي العم، فقيل بنو العم، عموه عن الصواب بنصره أهل فارس
كقول اللَّه تبارك وتعالى: عَمُوا وَصَمُّوا، وقال يربوع بْن مالك:
لقد علمت عليا معد بأننا ... غداة التباهي غر ذاك التبادر
تنخنا على رغم العداه ولم ننخ ... بحي تميم والعديد الجماهر
نفينا عن الفرس النبيط فلم يزل ... لنا فيهم إحدى الهنات البهاتر
إذا العرب العلياء جاشت بحورها ... فخرنا على كل البحور الزواخر
وقال أيوب بْن العصية بْن امرئ القيس:
لنحن سبقنا بالتنوخ القبائلا ... وعمدا تنخنا حيث جاءوا قنابلا
وكنا ملوكا قد عززنا الأوائلا ... وفي كل قرن قد ملكنا الحلائلا
(4/73)
فلما كانت تلك الليلة ليلة الموعد من سلمى
وحرملة وغالب وكليب، والهرمزان يومئذ بين نهر تيرى بين دلث، خرج سلمى
وحرمله صبيحتها في تعبئة، وأنهضا نعيما ونعيما فالتقوا هم والهرمزان
بين دلث ونهر تيرى، وسلمى ابن القين على أهل البصرة، ونعيم بْن مقرن
على اهل الكوفه فاقتتلوا فبيناهم في ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب،
وأتى الهرمزان الخبر بأن مناذر ونهر تيرى قد أخذتا، فكسر اللَّه في
ذرعه وذرع جنده، وهزمه وإياهم، فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا منهم ما
شاءوا، وأتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا
بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار
دجيل بين الهرمزان وحرملة وسلمى ونعيم ونعيم وغالب وكليب.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عبد اللَّه
بْن المغيرة العبدي، عن رجل من عبد القيس يدعى صحارا، قال: قدمت على
هرم ابن حيان- فيما بين الدلوث ودجيل- بجلال من تمر، وكان لا يصبر عنه،
وكان جل زاده إذا تزود التمر، فإذا فني انتخب له مزاود من جلال وهم
ينفرون فيحملها فيأكلها ويطعمها حيثما كان من سهل أو جبل.
قالوا: ولما دهم القوم الهرمزان ونزلوا بحياله من الأهواز رأى ما لا
طاقة له به، فطلب الصلح، فكتبوا إلى عتبة بذلك يستأمرونه فيه، وكاتبه
الهرمزان، فأجاب عتبة الى ذلك على الاهواز كلها ومهرجانقذق، ما خلا نهر
تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنه لا يرد عليهم ما
تنقذنا.
وجعل سلمى بْن القين على مناذر مسلحة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر
تيرى وأمرها إلى كليب، فكانا على مسالح البصرة وقد هاجرت طوائف بني
العم، فنزلوا منازلهم من البصرة، وجعلوا يتتابعون على ذلك، وقد كتب
بذلك عتبة إلى عمر، ووفد وفدا منهم سلمى، وأمره أن يستخلف على عمله،
وحرملة- وكانا من الصحابة- وغالب وكليب، ووفد وفود من البصرة
(4/74)
يومئذ، فأمرهم أن يرفعوا حوائجهم، فكلهم
قال: أما العامة فأنت صاحبها، ولم يبق إلا خواص أنفسنا، فطلبوا
لأنفسهم، إلا ما كان من الأحنف ابن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين،
إنك لكما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح
العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخبر، ويسمع
بآذانهم، وإنا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البر، وإن
إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة، من العيون
العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تُخْضَدْ، وإنا معشر أهل
البصرة نزلنا سبخة هشاشة، زعقة نشاشة، طرف لها في الفلاة وطرف لها في
البحر الأجاج، يجري إليها ما جرى في مثل مريء النعامة دارنا فعمة،
ووظيفتنا ضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير،
ودرهمنا كبير، وقفيزنا صغير، وقد وسع اللَّه علينا، وزادنا في أرضنا،
فوسع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظف علينا، ونعيش بها فنظر
إلى منازلهم التي كانوا بها إلى أن صاروا إلى الحجر فنفلهموه
وأقطعهموه، وكان مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر،
فاقتسموه، وكان سائر ما كان لآل كسرى في أرض البصرة على حال ما كان في
أرض الكوفة ينزلونه من أحبوا، ويقتسمونه بينهم، لا يستأثرون به على بدء
ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسة إلى الوالي فكانت قطائع أهل البصرة نصفين:
نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع، وكان أصحاب الألفين ممن
شهد القادسية ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين
ألفا، فألحق عمر أعدادهم من أهل البصرة من أهل البلاء في الألفين حتى
ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز.
ثم قال: هذا الغلام سيد أهل البصرة، وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه
(4/75)
ويشرب برأيه، ورد سلمى وحرملة وغالبا
وكليبا إلى مناذر ونهر تيرى، فكانوا عدة فيه لكون إن كان، وليميزوا
خراجها كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب
وعمرو، قالوا: بينا الناس من أهل البصرة وذمتهم على ذلك وقع بين
الهرمزان وبين غالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف وادعاء، فحضر ذلك
سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم، فوجدا غالبا وكليبا محقين والهرمزان
مبطلا، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان أيضا ومنع ما قبله، واستعان
بالأكراد، فكثف جنده وكتب سلمى وحرملة وغالب وكليب ببغي الهرمزان وظلمه
وكفره إلى عتبة بْن غزوان، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره
بأمره، وأمدهم عمر بحرقوص بْن زهير السعدي، وكانت له صحبه من رسول الله
ص، وأمره على القتال وعلى ما غلب عليه فنهد الهرمزان بمن معه وسلمى
وحرملة وغالب وكليب، حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز أرسلوا إلى
الهرمزان: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فقال: اعبروا
إلينا، فعبروا من فوق الجسر، فاقتتلوا فوق الجسر مما يلي سوق الأهواز،
حتى هزم الهرمزان ووجه نحو رامهرمز، فأخذ على قنطرة أربك بقرية الشغر
حتى حل برامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها ونزل الجبل،
واتسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح
والأخماس إلى عمر، ووفد وفدا بذلك، فحمد اللَّه، ودعا له بالثبات
والزيادة وقال الأسود بْن سريع في ذلك- وكانت له صحبة:
لعمرك ما أضاع بنو أبينا ... ولكن حافظوا فيمن يطيع
أطاعوا ربهم وعصاه قوم ... أضاعوا أمره فيمن يضيع
مجوس لا ينهنهها كتاب ... فلاقوا كبة فيها قبوع
وولى الهرمزان على جواد ... سريع الشد يثفنه الجميع
(4/76)
وخلى سرة الأهواز كرها ... غداة الجسر إذ نجم الربيع
وقال حرقوص:
غلبنا الهرمزان على بلاد ... لها في كل ناحية ذخائر
سواء برهم والبحر فيها ... إذا صارت نواجبها بواكر
لها بحر يعج بجانبيه ... جعافر لا يزال لها زواخر |