تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
فتح تستر
وفيها فتحت تستر في قول سيف وروايته- أعني سنة سبع عشرة- وقال بعضهم:
فتحت سنة ست عشرة، وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة.
ذكر الخبر عن فتحها:
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب وعمرو،
قالوا: لما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز، وافتتح حرقوص بْن زهير سوق
الأهواز، أقام بها، وبعث جزء بْن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سرق، وقد
كان عهد إليه فيه: إن فتح اللَّه عليهم أن يتبعه جزءا، ويكون وجهه إلى
سرق فخرج جزء في أثر الهرمزان، والهرمزان متوجه إلى رامهرمز هاربا، فما
زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر، وأعجزه بها الهرمزان، فمال جزء
إلى دورق من قرية الشغر، وهي شاغرة برجلها- ودورق مدينة سرق فيها قوم
لا يطيقون منعها- فأخذها صافية، وكتب إلى عمر بذلك وإلى عتبة، وبدعائه
من هرب إلى الجزاء والمنعة، وإجابتهم إلى ذلك.
فكتب عمر إلى جزء بْن معاوية وإلى حرقوص بْن زهير بلزوم ما غلبا عليه،
وبالمقام حتى يأتيهما أمره، وكتب إليه مع عتبة بذلك، ففعلا واستأذن جزء
في عمران بلاده عمر، فأذن له، فشق الأنهار، وعمر الموات ولما
(4/77)
نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز
والمسلمون حلال فيها فيما بين يديه، طلب الصلح، وراسل حرقوصا وجزءا في
ذلك، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه عمر وإلى عتبة، يأمره أن يقبل
منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندي سابور،
والبنيان ومهرجانقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما
أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحة يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره
أكراد فارس أعانوه وذبوا عنه.
وكتب عمر إلى عتبة أن أوفد علي وفدا من صلحاء جند البصرة عشرة، فوفد
إلى عمر عشرة، فيهم الأحنف فلما قدم على عمر قال: إنك عندي مصدق، وقد
رايتك رجلا، فأخبرني اان ظلمت الذمة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟ فقال:
لا بل لغير مظلمة، والناس على ما تحب قال:
فنعم إذا! انصرفوا إلى رحالكم فانصرف الوفد إلى رحالهم، فنظر في ثيابهم
فوجد ثوبا قد خرج طرفه من عيبة فشمه، ثم قال: لمن هذا الثوب منكم؟
قال الأحنف: لي، قال: فبكم أخذته؟ فذكر ثمنا يسيرا، ثمانية أو نحوها،
ونقص مما كان أخذه به- وكان قد أخذه باثني عشر- قال: فهلا بدون هذا،
ووضعت فضلته موضعا تغني به مسلما! حصوا وضعوا الفضول مواضعها تريحوا
أنفسكم وأموالكم، ولا تسرفوا فتخسروا أنفسكم وأموالكم، إن نظر امرؤ
لنفسه وقدم لها يخلف له وكتب عمر إلى عتبة أن أعزب الناس عن الظلم،
واتقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغي، فإنكم إنما
أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدم إليكم فيما أخذ
عليكم.
فأوفوا بعهد اللَّه، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.
وبلغ عمر أن حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود
يشق على من رامه فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه
إلا على مشقة، فأسهل ولا تشق على مسلم ولا معاهد، وقم في أمرك على رجل
تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك،
وتذهب آخرتك
(4/78)
ثم إن حرقوصا تحرر يوم صفين وبقي على ذلك،
وشهد النهروان مع الحرورية
. غزو المسلمين فارس من قبل البحرين
وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- غزا المسلمون أرض فارس من قبل
البحرين فيما زعم سيف ورواه.
ذكر الخبر بذلك:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، يقول: حَدَّثَنَا شعيب، قال: حَدَّثَنَا
سيف، عن مُحَمَّد والمهلب وعمرو، قالوا: كان المسلمون بالبصرة وأرضها-
وأرضها يومئذ سوادها، والأهواز على ما هم عليه إلى ذلك اليوم، ما غلبوا
عليه منها ففي أيديهم، وما صولحوا عليه منها ففي أيدي أهله، يؤدون
الخراج ولا يدخل عليهم، ولهم الذمة والمنعة- وعميد الصلح الهرمزان وقد
قال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس
جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم، كما قال لأهل الكوفة:
وددت أن بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل
إليهم.
وكان العلاء بْن الحضرمي على البحرين أزمان أبي بكر، فعزله عمر، وجعل
قدامة بْن المظعون مكانه، ثم عزل قدامة ورد العلاء، وكان العلاء يباري
سعدا لصدع صدعه القضاء بينهما، فطار العلاء على سعد في الردة بالفضل،
فلما ظفر سعد بالقادسية، وأزاح الأكاسرة عن الدار، وأخذ حدود ما يلي
السواد، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، سر العلاء أن يصنع
شيئا في الأعاجم، فرجا أن يدال كما قد كان أديل، ولم يقدر العلاء ولم
ينظر فيما بين فضل الطاعة والمعصية بجد، وكان أبو بكر قد استعمله، وأذن
له في قتال أهل الردة، واستعمله عمر، ونهاه عن البحر، فلم يقدر في
الطاعة والمعصية وعواقبهما، فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرعوا إلى
ذلك، وفرقهم أجنادا، على أحدهما
(4/79)
الجارود بْن المعلى، وعلى الآخر السوار بْن
همام، وعلى الآخر خليد بْن المنذر بْن ساوى، وخليد على جماعة الناس،
فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر، وكان عمر لا يأذن لأحد في
ركوبه غازيا، يكره التغرير بجنده استنانا بالنبي ص وبابى بكر، لم يغز
فيه النبي ص ولا أبو بكر فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا
في إصطخر، وبإزائهم أهل فارس، وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه،
فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس، فقال: أما بعد،
فإن اللَّه إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإن هؤلاء القوم
لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنما جئتم لمحاربتهم،
والسفن والأرض لمن غلب، ف اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ،
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فأجابوه إلى ذلك
فصلوا الظهر، ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع من الأرض يدعى
طاوس، وجعل السوار يرتجز يومئذ ويذكر قومه، ويقول:
يا آل عبد القيس للقراع ... قد حفل الأمداد بالجراع
وكلهم في سنن المصاع ... يحسن ضرب القوم بالقطاع
حتى قتل وجعل الجارود يرتجز ويقول:
لو كان شيئا أمما أكلته ... أو كان ماء سادما جهرته
لكن بحرا جاءنا أنكرته.
حتى قتل ويومئذ ولي عبد اللَّه بْن السوار والمنذر بْن الجارود حياتهما
إلى أن ماتا وجعل خليد يومئذ يرتجز ويقول:
يال تميم أجمعوا النزول ... وكاد جيش عمر يزول
وكلكم يعلم ما أقول
(4/80)
انزلوا، فنزلوا فاقتتل القوم فقتل أهل فارس
مقتلة لم يقتلوا مثلها قبلها ثم خرجوا يريدون البصرة وقد غرقت سفنهم،
ثم لم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا ثم وجدوا شهرك قد أخذ على
المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم ولما بلغ عمر الذي صنع
العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر ألقي في روعه نحو من الذي كان فاشتد
غضبه على العلاء، وكتب إليه يعزله وتوعده، وأمره بأثقل الأشياء عليه،
وأبغض الوجوه إليه، بتأمير سعد عليه، وقال: الحق بسعد بْن أبي وقاص
فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد وكتب عمر إلى عتبة بْن غزوان: إن
العلاء بْن الحضرمي حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس، وعصاني،
وأظنه لم يرد اللَّه بذلك، فخشيت عليهم ألا ينصروا أن يغلبوا وينشبوا،
فاندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا فندب عتبة الناس،
وأخبرهم بكتاب عمر فانتدب عاصم بْن عمرو، وعرفجة بْن هرثمة، وحذيفة بْن
محصن، ومجزأة بْن ثور، ونهار بْن الحارث، والترجمان بْن فلان، والحصين
بْن أبي الحر، والأحنف بْن قيس، وسعد بْن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بْن
سهل، وصعصعة بْن معاوية، فخرجوا في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون
الخيل، وعليهم أبو سبرة بْن أبي رهم أحد بني مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، والمسالح على حالها بالأهواز والذمة، وهم ردء
للغازي والمقيم فسار أبو سبرة بالناس، وساحل لا يلقاه أحد، ولا يعرض
له، حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم بالطرق غب وقعة القوم
(4/81)
بطاوس، وإنما كان ولي قتالهم أهل إصطخر
وحدهم، والشذاذ من غيرهم، وقد كان أهل اصطخر حيث أخذوا على المسلمين
بالطرق، وأنشبوهم، استصرخوا عليهم أهل فارس كلهم، فضربوا إليهم من كل
وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس، وقد توافت إلى المسلمين
أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك، فاقتتلوا، ففتح
اللَّه على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا- وهي
الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة، وكانوا أفضل نوابت الأمصار،
فكانوا أفضل المصرين نابتة- ثم انكفئوا بما أصابوا، وقد عهد إليهم عتبة
وكتب إليهم بالحث وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة، فخرج أهلها إلى
منازلهم منها، وتفرق الذين تنقذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين
تنقذوا من عبد القيس في موضع سوق البحرين ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ
فارس، استأذن عمر في الحج، فأذن له، فلما قضى حجه استعفاه، فأبى أن
يعفيه، وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فدعا اللَّه ثم انصرف، فمات في بطن
نخلة، فدفن، وبلغ عمر، فمر به زائرا لقبره، وقال: أنا قتلتك، لولا أنه
أجل معلوم وكتاب مرقوم، وأثنى عليه بفضله، ولم يختط فيمن اختط من
المهاجرين، وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة ابنة غزوان، وكانت تحت
عثمان بْن عفان، وكان خباب مولاه قد لزم سمته فلم يختط، ومات عتبة بْن
غزوان على رأس ثلاث سنين ونصف من مفارقة سعد بالمدائن، وقد استخلف على
الناس أبا سبرة بْن أبي رهم، وعماله على حالهم، ومسالحه على نهر تيرى
ومناذر وسوق الاهواز وسرق والهرمزان برامهرمز مصالح عليها، وعلى السوس
والبنيان وجندى سابور ومهرجانقذق، وذلك بعد تنقذ الذين كان حمل العلاء
في البحر إلى فارس، ونزولهم البصرة.
وكان يقال لهم أهل طاوس، نسبوا إلى الوقعة واقر عمر أبا سبره
(4/82)
ابن أبي رهم على البصرة بقية السنة ثم
استعمل المغيرة بْن شعبة في السنة الثانية بعد وفاة عتبة، فعمل عليها
بقية تلك السنة والسنة التي تليها، لم ينتقض عليه أحد في عمله، وكان
مرزوقا السلامة، ولم يحدث شيئا إلا ما كان بينه وبين أبي بكرة.
ثم استعمل عمر أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثم استعمل عمر
بْن سراقة، ثم صرف عمر بْن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى
إلى البصرة من الكوفة، فعمل عليها ثانيه
ذكر فتح رامهرمز وتستر
وفي هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- كان فتح رامهرمز والسوس وتستر وفيها
أسر الهرمزان في رواية سيف ذكر الخبر عن فتح ذلك من روايته:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب
وعمرو، قالوا: ولم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج منهم،
فكتب يزدجرد إلى أهل فارس وهو يومئذ بمرو، يذكرهم الأحقاد ويؤنبهم، أن
قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد وما والاه،
والأهواز.
ثم لم يرضوا بذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحركوا وتكاتبوا:
أهل فارس وأهل الأهواز، وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة، وجاءت
الأخبار حرقوص بْن زهير، وجاءت جزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب،
فكتب سلمى وحرملة إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فسبق كتاب سلمى
حرملة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان
بْن مقرن، وعجل وابعث سويد بْن مقرن، وعبد اللَّه بْن ذي السهمين،
وجرير بْن عبد اللَّه الحميري، وجرير بْن عبد اللَّه البجلي، فلينزلوا
بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمره وكتب إلى أبي موسى
(4/83)
أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمر عليهم
سهل بن عدى- أخا سهيل ابن عدي- وابعث معه البراء بْن مالك، وعاصم بْن
عمرو، ومجزأة بْن ثور، وكعب بْن سور، وعرفجة بْن هرثمة، وحذيفة بْن
محصن، وعبد الرحمن ابن سهل، والحصين بْن معبد، وعلى أهل الكوفة واهل
البصره جميعا ابو سبره ابن ابى رهم، وكل من أتاه فمدد له.
وخرج النعمان بْن مقرن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة
بحيال ميسان، ثم أخذ البر إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى
إلى نهر تيرى فجازها، ثم جاز مناذر، ثم جاز سوق الأهواز، وخلف حرقوصا
وسلمى وحرملة، ثم سار نحو الهرمزان- والهرمزان يومئذ برامهرمز- ولما
سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع
الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم
بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالا شديدا ثم إن
اللَّه عز وجل هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز وتركها ولحق بتستر،
وسار النعمان من أربك حتى ينزل برامهرمز، ثم صعد لإيذج، فصالحه عليها
تيرويه، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز فأقام بها.
قالوا: ولما كتب عمر إلى سعد وأبي موسى، وسار النعمان وسهل، سبق
النعمان في أهل الكوفة سهلا وأهل البصرة، ونكب الهرمزان، وجاء سهل في
أهل البصرة حتى نزلوا بسوق الأهواز، وهم يريدون رامهرمز، فأتتهم الوقعة
وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أن الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا من
سوق الأهواز نحوه، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان من رامهرمز
إليها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر والنعمان
على أهل الكوفة، وأهل البصرة متساندون، وبها الهرمزان وجنوده من أهل
فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق، وكتبوا بذلك إلى عمر، واستمده
أبو سبرة فأمدهم بأبي موسى، فسار نحوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى
أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين جميعا أبو سبرة،
(4/84)
فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل وقتل
البراء بْن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح اللَّه على
المسلمين مائة مبارز، سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مجزأة بْن ثور مثل
ذلك، وقتل كعب بْن سور مثل ذلك، وقتل أبو تميمة مثل ذلك في عدة من أهل
البصرة وفي الكوفيين مثل ذلك، منهم حبيب بْن قرة، وربعي بْن عامر،
وعامر بْن عبد الأسود- وكان من الرؤساء- في ذلك ما ازدادوا به إلى ما
كان منهم، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم، يكون
عليهم مرة ولهم أخرى، حتى إذا كان في آخر زحف منها واشتد القتال قال
المسلمون: يا براء، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا! فقال: اللهم اهزمهم
لنا، واستشهدني.
قال: فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وأرزوا إلى
مدينتهم، وأحاطوا بها، فبيناهم على ذلك وقد ضاقت بهم المدينة، وطالت
حربهم، خرج إلى النعمان رجل فاستأمنه على أن يدله على مدخل يؤتون منه،
ورمى في ناحية أبي موسى بسهم فقال: قد وثقت بكم وأمنتكم واستأمنتكم على
أن دللتكم على ما تأتون منه المدينة، ويكون منه فتحها، فآمنوه في نشابة
فرمى إليهم بآخر، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء، فإنكم ستفتحونها،
فاستشار في ذلك وندب إليه، فانتدب له عامر بْن عبد قيس، وكعب بْن سور،
ومجزأة بْن ثور، وحسكة الحبطي، وبشر كثير، فنهدوا لذلك المكان ليلا،
وقد ندب النعمان أصحابه حين جاءه الرجل، فانتدب له سويد بْن المثعبة،
وورقاء بْن الحارث، وبشر بن ربيعه الخثعمى، ونافع ابن زيد الحميري،
وعبد اللَّه بْن بشر الهلالي، فنهدوا في بشر كثير، فالتقوا هم وأهل
البصرة على ذلك المخرج، وقد انسرب سويد وعبد اللَّه بْن بشر، فأتبعهم
هؤلاء وهؤلاء، حتى إذا اجتمعوا فيها- والناس على رجل من خارج- كبروا
فيها، وكبر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب، فاجتلدوا فيها، فأناموا
كل مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة، وأطاف به الذين دخلوا من مخرج
الماء، فلما عاينوه وأقبلوا قبله قال لهم: ما شئتم!
(4/85)
قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعى في
جعبتى مائه نشابه، والله ما تصلون إلي ما دام معي منها نشابه، وما يقع
لي سهم، وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل أو جريح! قالوا:
فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء،
قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدوه وثاقا، واقتسموا
ما أفاء اللَّه عليهم، فكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف، والراجل ألفا،
ودعا صاحب الرمية بها، فجاء هو والرجل الذي خرج بنفسه، فقالا: من لنا
بالأمان الذي طلبنا، علينا وعلى من مال معنا؟ قالوا: ومن مال معكم؟
قالا: من أغلق بابه عليه مدخلكم فأجازوا ذلك لهم، وقتل من المسلمين
ليلتئذ أناس كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بْن ثور، والبراء بْن
مالك.
قالوا: وخرج أبو سبرة في أثر الفل من تستر- وقد قصدوا للسوس- إلى
السوس، وخرج بالنعمان وأبي موسى ومعهم الهرمزان، حتى اشتملوا على
السوس، وأحاط المسلمون بها، وكتبوا بذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عمر بْن
سراقة بأن يسير نحو المدينة، وكتب إلى أبي موسى فرده على البصرة، وقد
رد أبا موسى على البصرة ثلاث مرات بهذه، ورد عمر عليها مرتين، وكتب إلى
زر بْن عبد اللَّه بْن كليب الفقيمي ان يسير الى جندى سابور، فسار حتى
نزل عليها، وانصرف أبو موسى إلى البصرة بعد ما أقام إلى رجوع كتاب عمر،
وأمر عمر على جند البصرة المقترب، الأسود بْن ربيعة أحد بني ربيعة بْن
مالك، وكان الأسود وَزِرٌّ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من المهاجرين- وكان الأسود قد وفد على رسول الله ص وقال: جئت
لأقترب إلى اللَّه عز وجل بصحبتك، فسماه المقترب، وكان زر قد وفد على
رسول الله ص، وقال: فنى بطني، وكثر إخوتنا، فادع اللَّه لنا، [فقال:
اللهم اوف لزرعمره، فتحول إليهم العدد- وأوفد أبو سبرة وفدا،] فيهم أنس
بْن مالك والأحنف بْن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبي موسى
البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة،
(4/86)
حتى إذا دخلوا هيئوا الهرمزان في هيئته،
فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى
الآذين، مكللا بالياقوت، وعليه حليته، كيما يراه عمر والمسلمون في
هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا
عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا
يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مروا بغلمان من أهل المدينة
يلعبون، فقالوا لهم: ما تلددكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في
ميمنة المسجد، متوسد برنسه- وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس،
فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسده فنام-
فانطلقوا ومعهم النظارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم
ولا يقظان غيره، والدرة في يده معلقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟
فقالوا: هو ذا، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه، وأصغى
الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس
ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيا، فقالوا:
بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس، فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا،
ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم، فتأمله، وتأمل ما
عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين اللَّه! وقال: الحمد لله
الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين، تمسكوا بهذا الدين،
واهتدوا بهدى نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة فقال الوفد: هذا
ملك الأهواز، فكلمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء، فرمي
عنه بكل شيء عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال عمر: هيه
يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر اللَّه! فقال: يا عمر، إنا
وإياكم في الجاهلية كان اللَّه قد خلى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم
يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم
(4/87)
غلبتمونا فقال عمر: إنما غلبتمونا في
الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا ثم قال عمر:
ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن
أخبرك، قال: لا تخف ذلك واستسقى ماء، فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت
عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتى به في إناء يرضاه، فجعلت يده
ترجف، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك
حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر:
أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في
الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد
أمنتني! فقال: كذبت! فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد أمنته، قال:
ويحك يا أنس! أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء! والله لتأتين بمخرج أو
لأعاقبنك! قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى
تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني،
والله لا أنخدع إلا لمسلم، فأسلم. ففرض له على ألفين، وأنزله
الْمَدِينَة كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن
ابى سفيان طلحه ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عِيسَى، قَالَ:
كَانَ التَّرْجُمَانَ يَوْمَ الْهُرْمُزَانِ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ إِلَى أَنْ جَاءَ الْمُتَرْجِمُ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ
يَفْقَهُ شَيْئًا مِنَ الْفَارِسِيَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُغِيرَةِ:
قُلْ لَهُ: من اى ارض أنت؟ فقال المغيره: از كدام ارضى؟ فقال: مهرجاني،
فقال: تكلم بحجتك، قال: كلام حي أو ميت؟ قال: بل كلام حي، قال: قد
أمنتني، قال: خدعتني، إن للمخدوع في الحرب حكمه، لا والله لا أؤمنك حتى
تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له على ألفين وأنزله
المدينة وقال للمغيرة:
ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها منكم أحد إلا خب، وما خب إلا دق إياكم
وإياها، فإنها تنقض الإعراب وأقبل زيد فكلمه، وأخبر عمر بقوله،
والهرمزان بقول عمر
(4/88)
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد
وطلحه وعمرو، عن الشعبى وسفيان، عن الحسن، قال: قال عمر للوفد: لعل
المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم! فقالوا:
ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال: فكيف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا
يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلا ما كان من الأحنف، فقال: يا أمير
المؤمنين، أخبرك أنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار
على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم، وإنهم لا يزالون
يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما
صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلا بانبعاثهم، وأن ملكهم هو
الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى
نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته وعز أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس
ويضربون جأشا فقال: صدقتني والله، وشرحت لي الأمر عن حقه ونظر في
حوائجهم وسرحهم.
وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند وانتهاء أهل مهرجانقذق، وأهل
كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في
الانسياح
. ذكر فتح السوس
اختلف أهل السير في أمرها، فأما المدائني فإنه- فيما حَدَّثَنِي عنه
أبو زيد- قال: لما انتهى فل جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان، دعا بخاصته
والموبذ، فقال: إن القوم لا يلقون جمعا إلا فلوه، فما ترون؟
فقال الموبذ: نرى أن تخرج فتنزل إصطخر، فإنها بيت المملكة، وتضم إليك
خزائنك، وتوجه الجنود فأخذ برأيه، وسار إلى إصبهان دعا سياه،
(4/89)
فوجهه في ثلاثمائه، فيهم سبعون رجلا من
عظمائهم، وأمره أن ينتخب من كل بلدة يمر بها من أحب، فمضى سياه وأتبعه
يزدجرد، حتى نزلوا إصطخر وأبو موسى محاصر السوس، فوجه سياه إلى السوس،
والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلبانية، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء
ونزول يزدجرد إصطخر منهزما، فسألوا أبا موسى الأشعري الصلح، فصالحهم،
وسار إلى رامهرمز وسياه بالكلبانية، وقد عظم أمر المسلمين عنده، فلم
يزل مقيما حتى صار أبو موسى إلى تستر، فتحول سياه، فنزل بين رامهرمز
وتستر، حتى قدم عمار بْن ياسر، فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا
معه من إصبهان، فقال: قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل
الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابهم في إيوانات إصطخر
ومصانع الملوك، ويشدون خيولهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس
يلقون جندا إلا فلوه، ولا ينزلون بحصن إلا فتحوه، فانظروا لأنفسكم
قالوا: رأينا رأيك، قال: فليكفني كل رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه،
فإني أرى أن ندخل في دينهم ووجهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي
موسى يأخذ شروطا على أن يدخلوا في الإسلام فقدم شيرويه على أبي موسى،
فقال: إنا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم، ولا
نقاتل معكم العرب، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث
شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير
الذي هو فوقك بذلك فقال أبو موسى: بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا،
قالوا:
لا نرضى.
وكتب أبو موسى إلى عمر بْن الخطاب، فكتب إلى أبي موسى: أعطهم ما سألوك
فكتب أبو موسى لهم، فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر، فلم يكن أبو موسى
يرى منهم جدا ولا نكاية، فقال لسياه: يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنا
نرى! قال: لسنا مثلكم في هذا الدين ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا
فيكم حرم نحامي عنهم، ولم تلحقنا بأشراف العطاء
(4/90)
ولنا سلاح وكراع وأنتم حسر فكتب أبو موسى
إلى عمر في ذلك، فكتب إليه عمر: أن ألحقهم على قدر البلاء في أفضل
العطاء وأكثر شيء أخذه أحد من العرب ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين،
ولستة منهم في الفين، وخمسمائة لسياه وخسرو- ولقبه مقلاص- وشهريار،
وشهرويه، وأفروذين فقال الشاعر:
ولما رأى الفاروق حسن بلائهم ... وكان بما يأتي من الأمر أبصرا
فسن لهم الفين فرضا وقد راى ... ثلاثمئين فرض عك وحميرا
قال: فحاصروا حصنا بفارس، فانسل سياه في آخر الليل في زي العجم حتى رمى
بنفسه إلى جنب الحصن، ونضح ثيابه بالدم، وأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا
في زيهم صريعا، فظنوا أنه رجل منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن
ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلوا عن باب الحصن وهربوا، ففتح الحصن وحده،
ودخله المسلمون، وقوم يقولون: فعل هذا الفعل سياه بتستر، وحاصروا حصنا،
فمشى خسرو إلى الحصن، فأشرف عليه رجل منهم يكلمه، فرماه خسرو بنشابة
فقتله.
وأما سيف فإنه قال في روايته مَا كتب بِهِ إِلَى السري، عَنْ شُعَيْبٍ،
عنه، عن مُحَمَّد وطلحة وعمرو ودثار أبي عمر، عن أبي عثمان، قالوا: لما
نزل أبو سبرة في الناس على السوس، وأحاط المسلمون بها، وعليهم شهريار
أخو الهرمزان، ناوشوهم مرات، كل ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف
عليهم يوما الرهبان والقسيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إن مما عهد
إلينا علماؤنا وأوائلنا، أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم فيهم
الدجال، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا
بحصارنا وجاء صرف أبي موسى إلى البصرة، وعمل على أهل البصرة المقترب
مكان أبي موسى بالسوس، واجتمع الأعاجم بنهاوند والنعمان على أهل الكوفة
محاصرا لأهل السوس مع أبي سبرة، وزر محاصر أهل نهاوند من
(4/91)
وجهه ذلك، وضرب على أهل الكوفة، البعث مع
حذيفة، وأمرهم بموافاته بنهاوند، وأقبل النعمان على التهيؤ للسير إلى
نهاوند، ثم استقل في نفسه، فناوشهم قبل مضيه، فعاد الرهبان والقسيسون،
وأشرفوا على المسلمين، وقالوا:
يا معشر العرب، لا تعنوا فإنه لا يفتحها إلا الدجال أو قوم معهم
الدجال، وصاحوا بالمسلمين وغاظوهم، وصاف بْن صياد يومئذ مع النعمان في
خيله، وناهدهم المسلمون جميعا، وقالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق، ولما
يخرج أبو موسى بعد وأتى صاف باب السوس غضبان، فدقه برجله، وقال: انفتح
فطار فتقطعت السلاسل، وتكسرت الأغلاق، وتفتحت الأبواب، ودخل المسلمون،
فألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصلح الصلح! وأمسكوا بايديهم،
فاجابوهم إلى ذلك بعد ما دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح،
ثم افترقوا.
فخرج النعمان في أهل الكوفة من الأهواز حتى نزل على ماه، وسرح أبو سبرة
المقترب حتى ينزل على جندى سابور مع زر، فأقام النعمان بعد دخول ماه،
حتى وافاه أهل الكوفة، ثم نهد بهم إلى أهل نهاوند، فلما كان الفتح رجع
صاف إلى المدينة، فأقام بها، ومات بالمدينة.
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عمن أورد فتح السوس،
قال: وقيل لأبي سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة، قال: وما لنا
بذلك! فأقره بأيديهم- قال عطية بإسناده: إن دانيال كان لزم أسياف فارس
بعد بختنصر، فلما حضرته الوفاة، ولم ير أحدا ممن هو بين ظهريهم على
الإسلام، أكرم كتاب اللَّه عمن لم يجبه ولم يقبل منه، فأودعه ربه، فقال
لابنه: ائت ساحل البحر، فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام، وضن به،
وغاب مقدار ما كان ذاهبا وجائيا، وقال:
قد فعلت، قال: فما صنع البحر حين هوى فيه؟ قال: لم أره يصنع شيئا، فغضب
وقال: والله ما فَعَلْتَ الَّذِي أَمَرْتُكَ به فخرج من عنده، ففعل مثل
فعلته الأولى، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: كيف رأيت البحر حين هوى
فيه؟ قال: ماج واصطفق، فغضب أشد من غضبه الأول، وقال:
والله ما فعلت الذي أمرتك به بعد، فعزم ابنه على إلقائه في البحر
الثالثة،
(4/92)
فانطلق إلى ساحل البحر، وألقاه فيه، فانكشف
البحر عن الارض حتى بدت، وانفجرت له الأرض عن هواء من نور، فهوى في ذلك
النور، ثم انطبقت عليه الأرض، واختلط الماء، فلما رجع إليه الثالثة
سأله فأخبره الخبر، فقال: الآن صدقت ومات دانيال بالسوس، فكان هنالك
يستسقى بجسده، فلما افتتحها المسلمون أتوا به فأقروه في أيديهم، حتى
إذا ولى ابو سبره عنهم الى جندى سابور أقام أبو موسى بالسوس وكتب إلى
عمر فيه، فكتب إليه يأمره بتوريته، فكفنه ودفنه المسلمون وكتب أبو موسى
إلى عمر بأنه كان عليه خاتم وهو عندنا فكتب إليه أن تختمه، وفي فصه نقش
رجل بين اسدين
ذكر مصالحه المسلمين اهل جندى سابور
وفيها- أعني سنة سبع عشرة- كانت مصالحة المسلمين اهل جندى سابور.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمرها:
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي عمرو وأبي
سفيان والمهلب قالوا: لما فرغ أبو سبرة من السوس خرج في جنده حتى نزل
على جندى سابور، وزر بْن عبد اللَّه بْن كليب محاصرهم، فأقاموا عليها
يغادونهم ويراوحونهم القتال، فما زالوا مقيمين عليها حتى رمي إليهم
بالأمان من عسكر المسلمين، وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم
يفجا المسلمين إلا وأبوابها تفتح، ثم خرج السرح، وخرجت الاسواق، وانبث
أهلها، فأرسل المسلمون: ان ما لكم؟ قالوا:
رميتم إلينا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمنعونا
فقالوا:
ما فعلنا، فقالوا: ما كذبنا، فسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يدعى
مكنفا كان أصله منها، هو الذي كتب لهم فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا:
إنا لا نعرف حركم من عبدكم، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه،
(4/93)
ولم نبدل، فإن شئتم فاغدروا فأمسكوا عنهم،
وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إن الله عظم الوفاء، فلا تكونون
اوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شك أجيزوهم، وفوا لهم فوفوا لهم، وانصرفوا
عنهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة
والمهلب وعمرو، قالوا: أذن عمر في الانسياح سنة سبع عشرة في بلاد فارس،
وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بْن قيس، وعرف فضله وصدقه، وفرق الأمراء
والجنود، وأمر على أهل البصرة أمراء، وأمر على أهل الكوفة أمراء، وأمر
هؤلاء وهؤلاء بأمره، وأذن لهم في الانسياح سنة سبع عشره، فساحوا في سنه
ثمان عشره، وأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمة البصرة،
فيكون هنالك حتى يحدث إليه، وبعث بألوية من ولي مع سهيل بْن عدي حليف
بني عبد الأشهل، فقدم سهيل بالألوية، ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ابن
قيس، ولواء أردشير خره وسابور إلى مجاشع بْن مسعود السلمي، ولواء إصطخر
إلى عثمان بْن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا ودارابجرد إلى سارية بْن
زنيم الكناني، ولواء كرمان مع سهيل بْن عدي، ولواء سجستان الى عاصم ابن
عمرو- وكان عاصم من الصحابة- ولواء مكران إلى الحكم بْن عمير التغلبي
فخرجوا في سنه سبع عشره، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور فلم يستتب
مسيرهم، حتى دخلت سنه ثمان عشره، وأمدهم عمر بأهل الكوفة، فأمد سهيل
بْن عدي بعبد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان، وأمد الأحنف بعلقمه ابن
النضر، وبعبد اللَّه بْن أبي عقيل، وبربعي بْن عامر، وبابن أم غزال.
وأمد عاصم بْن عمرو بعبد اللَّه بْن عمير الأشجعي، وأمد الحكم بْن عمير
بشهاب بْن المخارق المازني قال بعضهم: كان فتح السوس ورامهرمز وتوجيه
الهرمزان إلى عمر من تستر في سنه عشرين
. [أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة- أعني سنة سبع عشرة- عمر بْن الخطاب، وكان
عامله على مكة عتاب بْن أسيد، وعلى اليمن يعلى بْن أمية، وعلى اليمامة
والبحرين عثمان بن أبي العاص وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى
(4/94)
الشام من قد ذكرت أسماءهم قبل، وعلى الكوفة
وأرضها سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها أبو
موسى الأشعري- وقد ذكرت فيما مضى الوقت الذي عزل فيه عنها، والوقت الذي
رد فيه إليها أميرا وعلى القضاء- فيما قيل- أبو مريم الحنفي وقد ذكرت
من كان على الجزيرة والموصل قبل
(4/95)
سنه ثمان عشرة
ذكر الأحداث التي كانت في سنة ثمان عشرة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنه ثمان عشرة- أصابت الناس مجاعة
شديدة ولزبة، وجدوب وقحوط، وذلك هو العام الذي يسمى عام الرماده.
ذكر القحط وعام الرمادة
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّد بْن
إسحاق، قال: دخلت سنة ثمان عشرة، وفيها كان عام الرمادة وطاعون عمواس،
فتفانى فيها الناس.
وحدثني أحمد بْن ثابت الرازي، قال: حدثت عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي
معشر، قال: كانت الرماده سنه ثمان عشره
قال:
وكان في ذلك العام طاعون عمواس.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ يقول: حَدَّثَنَا شعيب، عن سيف، عن الربيع
وأبي المجالد وأبي عثمان وأبي حارثة، قالوا: وكتب أبو عبيدة إلى عمر:
إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل، فسألناهم
فتأولوا، وقالوا: خيرنا فاخترنا، قال: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» !
ولم يعزم علينا.
فكتب إليه عمر: فذلك بيننا وبينهم، «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» ،
يعني فانتهوا وجمع الناس، فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلده،
ويضمنوا الفسق من تأول عليها بمثل هذا، فإن أبى قتل.
فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن
زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين فبعث إليهم فسألهم على رءوس الناس،
فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين ثمانين، وحد القوم، وندموا على لجاجتهم،
(4/96)
وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حادث،
فحدثت الرمادة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن شبرمة عن
الشعبي بمثله.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ كِتَابُ
أَبِي عُبَيْدَةَ فِي ضِرَارٍ وَأَبِي جَنْدَلٍ، كَتَبَ إِلَى أَبِي
عُبَيْدَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ
النَّاسِ فَيَسْأَلَهُمْ:
أَحَرَامٌ الْخَمْرُ أَمْ حَلالٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: حرام، فاجلدوهم
ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَاسْتَتِبْهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: حَلالٌ،
فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ فَدَعَا بِهِمْ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: بَلْ
حَرَامٌ، فَجَلَدَهُمْ، فَاسْتَحْيُوا فَلَزِمُوا الْبُيُوتَ
وَوَسْوَسَ أَبُو جَنْدَلٍ، فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ:
إِنَّ أَبَا جَنْدَلٍ قَدْ وَسْوَسَ، إِلا أَنْ يَأْتِيَهُ اللَّهُ
عَلَى يَدَيْكَ بِفَرَجٍ، فَاكْتُبْ إِلَيْهِ وَذَكِّرْهُ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عُمَرُ وَذَكَّرَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: مِنْ عُمَرَ إِلَى
أَبِي جَنْدَلٍ «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ*» ، فَتُبْ وَارْفَعْ
رَأْسَكَ، وَابْرُزْ وَلا تَقْنَطْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ،
يَقُولُ: «يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فَلَمَّا قَرَأَهُ
عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ تَطَلَّقَ وَأُسْفِرَ عَنْهُ وَكَتَبَ إِلَى
الآخَرِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَبَرَزُوا، وَكَتَبَ إِلَى النَّاسِ:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسُكَمْ، وَمَنِ اسْتَوْجَبَ التغيير فغيروا عليه، ولا
تعيروا أحدا فيفشوا فِيكُمُ الْبَلاءُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد بن عبد
الله، عن عطاء نحوا منه، إلا أنه لم يذكر أنه كتب إلى الناس ألا
يعيروهم، وقال:
قالوا: جاشت الروم، دعونا نغزوهم، فإن قضى اللَّه لنا الشهادة فذلك،
وإلا عمدت للذي يريد فاستشهد ضرار بْن الأزور في قوم، وبقي الآخرون
فحدوا وقال أبو الزهراء القشيري في ذلك:
ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى ... وليس على صرف المنون بقادر
(4/97)
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ... ولست عن
الصهباء يوما بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر
كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنِ الرَّبِيعِ بْن
النُّعْمَانِ وَأَبِي الْمُجَالِدِ جَرَادِ بْن عمرو وأبي عثمان يزيد
بْن أسيد الغساني، وأبي حارثة محرز العبشمي بإسنادهم، ومحمد بْن عبد
اللَّه، عن كريب، قالوا:
أصابت الناس في إمارة عمر رضي اللَّه عنه سنة بالمدينة وما حولها،
فكانت تسفى إذا ريحت ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى
عمر ألا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيى الناس من أول الحيا،
فكان بذلك حتى أحيا الناس من أول الحيا، فقدمت السوق عكة من سمن ووطب
من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير
المؤمنين، قد أبر اللَّه يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة
من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني
أكره أن آكل إسرافا وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما
مسهم! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ السلمي، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كانت
في آخر سنة سبع عشرة وأول سنه ثمان عشره، وكانت الرمادة جوعا أصاب
الناس بالمدينة وما حولها فأهلكهم حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، وحتى
جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يُوسُفَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ بِذَلِكَ
وَعُمَرُ كَالْمَحْصُورِ عَنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ، حَتَّى أَقْبَلَ
بِلالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ،
فَقَالَ:
أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إليك، يقول لك رسول الله ص: لَقَدْ
عَهِدْتُكَ كَيِّسًا، وَمَا زِلْتَ عَلَى رَجُلٍ، فَمَا شَأْنُكَ!
فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتَ هَذَا؟
قَالَ: الْبَارِحَةَ، فَخَرَجَ فَنَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلاةُ
جَامِعَةٌ! فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ،
(4/98)
ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ،
أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، هَلْ تَعْلَمُونَ مِنِّي أَمْرًا غَيْرَهُ
خَيْرٌ مِنْهُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لا، قَالَ: فَإِنَّ بِلالَ بْنَ
الْحَارِثِ يَزْعُمُ ذِيَّةً وَذِيَّةً، فَقَالُوا:
صَدَقَ بِلالٌ، فَاسْتَغِثْ بِاللَّهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ- وَكَانَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ مَحْصُورًا- فَقَالَ عُمَرُ:
اللَّهُ أَكْبَرُ! بَلَغَ الْبَلاءُ مُدَّتَهُ فَانْكَشَفَ، مَا أُذِنَ
لِقَوْمٍ فِي الطَّلَبِ إِلا وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُمُ الْبَلاءُ،
فَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ:
أَغِيثُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ قَدْ
بَلَغَ جَهْدُهُمْ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ إِلَى الاسْتِسْقَاءِ،
فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْعَبَّاسِ مَاشِيًا، فَخَطَبَ
فَأَوْجَزَ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَارْضَ عَنَّا ثُمَّ انْصَرَفَ، فَمَا
بَلَغُوا الْمَنْزِلَ رَاجِعِينَ حَتَّى خَاضُوا الْغُدْرَانَ كَتَبَ
إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مبشر بْن الفضيل،
عن جبير بْن صخر، عن عاصم بْن عمر بْن الخطاب، قال: قحط الناس زمان عمر
عاما، فهزل المال، فقال أهل بيت من مزينة من أهل البادية لصاحبهم: قد
بلغنا، فاذبح لنا شاة، قال: ليس فيهن شيء، فلم يزالوا به حتى ذبح لهم
شاة، فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمداه! فأري فيما يرى النائم ان
رسول الله ص أتاه، فقال: أبشر بالحيا! ائت عمر فأقرئه مني السلام، وقل
له: إن عهدي بك وأنت وفي العهد، شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر! فجاء
حتى أتى باب عمر، فقال لغلامه:
استاذن لرسول رسول الله ص، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال:
رأيت به مسا! قال: لا، قال: فأدخله، فدخل فأخبره الخبر، فخرج فنادى في
الناس، وصعد المنبر، وقال: أنشدكم بالذي هداكم للإسلام، هل رأيتم مني
شيئا تكرهونه! قالوا: اللهم لا، قالوا: ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم
يفطن، فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء، فاستسق بنا، فنادى في الناس،
فقام فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال:
اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا،
(4/99)
ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاسقنا،
وأحي العباد والبلاد! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن
الربيع بن النُّعْمَانِ وَجَرَادٍ أَبِي الْمُجَالِدِ وَأَبِي
عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ رَجَاءٍ- وَزَادَ أَبُو
عُثْمَانَ وَأَبُو حَارِثَةَ: عَنْ عُبَادَةَ وَخَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ- قَالُوا: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أُمَرَاءِ
الأَمْصَارِ يَسْتَغِيثَهُمْ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا،
وَيَسْتَمِدَّهُمْ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي أَرْبَعَةِ آلافِ رَاحِلَةٍ مِنْ
طَعَامٍ، فَوَلاهُ قِسْمَتَهَا فِيمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا
فَرَغَ وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ،
فَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِيهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا
أَرَدْتُ اللَّهَ وَمَا قَبْلَهُ، فَلا تُدْخِلْ عَلَيَّ الدُّنْيَا،
فَقَالَ: خُذْهَا فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذْ لَمْ تَطْلُبْهُ، فَأَبَى
فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنِّي قَدْ وَلِيتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ص مِثْلَ
هَذَا، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قُلْتُ لَكَ، فَقُلْتُ لَهُ كَمَا
قُلْتَ لِي فَأَعْطَانِي فَقَبِلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَانْصَرَفَ إِلَى
عَمَلِهِ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ وَاسْتَغْنَى أَهْلُ الْحِجَازِ،
وَأحيوا مَعَ أَوَّلِ الحيا.
وَقَالُوا بِإِسْنَادِهِمْ: وَجَاءَ كِتَابُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
جَوَابَ كِتَابِ عُمَرَ فِي الاسْتِغَاثَةِ: إِنَّ البحر الشامي حفر
لمبعث رسول الله ص حَفِيرًا، فَصَبَّ فِي بَحْرِ الْعَرَبِ، فَسَدَّهُ
الرُّومُ وَالْقِبْطُ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَقُومَ سعر الطَّعَامِ
بِالْمَدِينَةِ كسعره بِمِصْرَ، حَفَرْتُ لَهُ نَهْرًا وَبَنَيْتُ له
قناطير فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنِ افْعَلْ وَعَجِّلْ ذَلِكَ،
فَقَالَ لَهُ أَهْلُ مِصْرَ: خَرَاجُكَ زَاجٍ، وَأَمِيرُكَ رَاضٍ،
وَإِنْ تَمَّ هَذَا انْكَسَرَ الْخَرَاجُ فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ
بِذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهِ انْكِسَارَ خَرَاجِ مِصْرَ
وَخَرَابَهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: اعْمَلْ فِيهِ وَعَجِّلْ،
أَخْرَبَ اللَّهُ مِصْرَ فِي عِمْرَانِ الْمَدِينَةِ وَصَلاحِهَا،
فَعَالَجَهُ عَمْرٌو وَهُوَ بِالْقُلْزُمِ، فَكَانَ سعر الْمَدِينَةِ
كَسعرِ مِصْرَ، وَلَمْ يَزِدْ ذَلِكَ مِصْرَ إِلا رَخَاءً، وَلَمْ يَرَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الرَّمَادَةِ مِثْلَهَا، حَتَّى حُبِسَ
عَنْهُمُ الْبَحْرُ مع مقتل عثمان رضى الله عنه فذلوا وتقاصروا وخشعوا
(4/100)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَزَعَمَ
الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الرَّقَّةَ وَالرُّهَا وَحَرَّانَ فُتِحَتْ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى يَدَيِ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ، وَأَنَّ عَيْنَ
الْوَرْدَةِ فتحت فيها على يدي عمير ابن سَعْدٍ وَقَدْ ذَكَرْتُ قَوْلَ
مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَزَعَمَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حَوَّلَ الْمُقَامَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي
الْحِجَّةِ إِلَى مَوْضِعِهِ الْيَوْمَ، وَكَانَ مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ
قَبْلَ ذَلِكَ وَقَالَ: مَاتَ فِي طَاعُونِ عِمْوَاسَ خَمْسَةٌ
وَعِشْرُونَ أَلْفًا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
اسْتَقْضَى عمر شريح ابن الْحَارِثِ الْكِنْدِيَّ عَلَى الْكُوفَةِ،
وَعَلَى الْبَصْرَةِ كَعْبَ بْنَ سَوْرٍ الأَزْدِيَّ.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هذه السنة عمر بن الخطاب رضي الله
عَنْهُ.
وَكَانَتْ وُلاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الأمصار الولاه الذين
كانوا عليها في سنه سبع عشره
(4/101)
سنة تسع عشرة
ذكر الأحداث التي كانت في سنة تسع عشرة
قال أبو جعفر: قَالَ أَبُو معشر- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن
ثَابِت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى عنه: إن فتح جلولاء كان في
سنة تسع عشرة على يدي سعد، وكذلك قال الواقدي.
وقال ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرهاء وحران ورأس العين ونصيبين في
سنة تسع عشرة.
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من خالفهم في ذلك قبل.
وقال أبو معشر: كان فتح قيسارية في هذه السنة- أعني سنة تسع عشرة-
وأميرها معاوية بْن أَبِي سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن
ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عنه.
وكالذي قال أبو معشر في ذلك قال الواقدي.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل وفتح
مصر في سنة عشرين، حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه.
وأما سيف بْن عمر فإنه قال: كان فتحها في سنة ست عشرة.
قال: وكذلك فتح مصر.
وقد مضى الخبر عن فتح قيسارية قبل، وأنا ذاكر خبر مصر وفتحها بعد في
قول، من قال: فتحت سنة عشرين، وفي قول من خالف ذلك.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة تسع عشرة- سالت حرة ليلى نارا-
فيما زعم الواقدي- فأراد عمر الخروج إليها بالرجال، ثم أمرهم بالصدقة
فانطفأت
(4/102)
وزعم أيضا الواقدي أن المدائن وجلولاء
فتحتا في هذه السنة، وقد مضى ذكر من خالفه في ذلك.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان عماله على الأمصار وقضاته فيها الولاة والقضاه الذين كانوا عليها
في سنه ثمان عشره
(4/103)
|