تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثلاث وعشرين
فكان فيها فتح إصطخر في قول أبي معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي،
قال: حدثنا محدث، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت إصطخر
الأولى وهمذان سنة ثلاث وعشرين وقال الواقدي مثل ذلك وقال سيف: كان فتح
إصطخر بعد توج الآخرة.
ذكر الخبر عن فتح توج
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد، وطلحة
والمهلب وعمرو، قالوا: خرج أهل البصرة الذين وجهوا إلى فارس أمراء على
فارس، ومعهم سارية بْن زنيم ومن بعث معهم إلى ما وراء ذلك، وأهل فارس
مجتمعون بتوج، فلم يصمدوا لجمعهم بجموعهم، ولكن قصد كل أمير كورة منهم
قصد إمارته وكورته التي أمر بها، وبلغ ذلك أهل فارس، فافترقوا إلى
بلدانهم، كما افترق المسلمون ليمنعوها، وكانت تلك هزيمتهم وتشتت أمورهم
وتفريق جموعهم، فتطير المشركون من ذلك، وكأنما كانوا ينظرون إلى ما
صاروا إليه، فقصد مجاشع بْن مسعود لسابور وأردشير خرة فيمن معه من
المسلمين، فالتقوا بتوج وأهل فارس، فاقتتلوا ما شاء اللَّه ثم إن
اللَّه عز وجل هزم أهل توج للمسلمين، وسلط عليهم المسلمين، فقتلوهم كل
قتلة، وبلغوا منهم ما شاءوا، وغنمهم ما في عسكرهم فحووه، وهذه توج
الآخرة، ولم يكن لها بعدها شوكة، والأولى التي تنقذ فيها جنود العلاء
أيام طاوس، الوقعة التي اقتتلوا فيها، والوقعتان الأولى والآخرة
كلتاهما متساجلتان.
ثم دعوا إلى الجزية والذمة، فراجعوا وأقروا، وخمس مجاشع الغنائم، وبعث
(4/174)
بها، ووفد وفدا، وقد كانت البشراء والوفود
يجازون وتقضى لهم حوائجهم، لسنة جرت بذلك من رسول الله ص كتب إلي السري
عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال:
خرجنا مع مجاشع بن مسعود غازين توج، فحاصرناها، وقاتلناهم ما شاء
اللَّه، فلما افتتحناها وحوينا نهبها نهبا كثيرا، وقتلنا قتلى عظيمة،
وكان علي قميص قد تخرق، فأخذت إبرة وسلكا وجعلت أخيط قميصي بها ثم إني
نظرت إلى رجل في القتلى عليه قميص فنزعته، فأتيت به الماء، فجعلت أضربه
بين حجرين حتى ذهب ما فيه، فلبسته، فلما جمعت الرثة، قام مجاشع خطيبا،
فحمد اللَّه، وأثنى عليه، فقال: أيها الناس لا تغلوا، فإنه من غل جاء
بما غل يوم القيامة ردوا ولو المخيط فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته
في الأخماس
فتح إصطخر
قال: وقصد عثمان بْن أبي العاص لإصطخر، فالتقى هو وأهل إصطخر بجور
فاقتتلوا ما شاء اللَّه ثم إن اللَّه عز وجل فتح لهم جور، وفتح
المسلمون إصطخر، فقتلوا ما شاء اللَّه، وأصابوا ما شاءوا، وفر من فر ثم
إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة، فراسلوه وراسلهم، فأجابه الهربذ
وكل من هرب أو تنحى، فتراجعوا وباحوا بالجزاء، وقد كان عثمان لما هزم
القوم جمع إليه ما أفاء اللَّه عليهم، فخمسه، وبعث بالخمس إلى عمر،
وقسم أربعة أخماس المغنم في الناس، وعفت الجند عن النهاب، وأدوا
الأمانة، واستدقوا الدنيا فجمعهم عثمان، ثم قام فيهم، وقال: إن هذا
الأمر لا يزال مقبلا، ولا يزال أهله معافين مما يكرهون، ما لم يغلوا،
فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم
(4/175)
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ
أَبِي سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
الْعَاصِ يَوْمَ إِصْطَخْرَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ
خَيْرًا كَفَّهُمْ، وَوَفَّرَ أَمَانَتَهُمْ، فَاحْفَظُوهَا، فَإِنَّ
أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةَ، فَإِذَا
فَقَدْتُمُوهَا جُدِّدَ لَكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ فُقْدَانُ شَيْءٍ مِنْ
أُمُورِكُمْ.
ثُمَّ إِنَّ شَهْرَكَ خُلِعَ فِي آخِرِ إِمَارَةِ عُمَرَ وَأَوَّلِ
إِمَارَةِ عُثْمَانَ، وَنَشَطَ أَهْلُ فَارِسَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى
النَّقْضِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي العاص ثانيه، وبعث
معه جنود أَمَدَّ بِهِمْ، عَلَيْهِمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ،
وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ، فَالْتَقَوْا بِفَارِسَ، فَقَالَ
شَهْرَكُ لابْنِهِ وَهُوَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
قَرْيَةٍ تُدْعَى رِيشَهْرَ ثَلاثَةُ فَرَاسِخَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ قَرَارِهِمُ اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخًا:
يَا بُنَيَّ، اين يكون غداؤنا؟ هاهنا أَوْ رِيشَهْرَ؟ فَقَالَ: يَا
أَبَتِ إِنْ تَرَكُونَا فلا يكون غداؤنا هاهنا وَلا رِيشَهْرَ، وَلا
يَكُونَنَّ إِلا فِي الْمَنْزِلِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا أَرَاهُمْ
يَتْرُكُونَنَا فَمَا فَرَغَا مِنْ كَلامِهِمَا حَتَّى أَنْشَبَ
الْمُسْلِمُونَ الْقِتَالَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، قُتِلَ
فِيهِ شَهْرَكُ وَابْنُهُ، وَقَتَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِنْهُمْ
مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَوَلِيَ قَتْلَ شَهْرَكَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ دُهْمَانَ، أَخُو عُثْمَانَ.
وَأَمَّا أَبُو مَعْشَرٍ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَتْ فَارِسُ الأُولَى
وَإِصْطَخْرُ الآخِرَةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ قَالَ:
وَكَانَتْ فَارِسُ الآخِرَةَ وَجُورُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ،
حَدَّثَنِي بذلك أحمد بْن ثابت الرازي، قال: حَدَّثَنِي من سمع إسحاق
بْن عيسى، يذكر ذلك عن أبي معشر وحدثني عبد اللَّه بْن أحمد بْن شبويه
المروزي، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حدثنا سليمان بن صالح، قال: حدثني
عبيد اللَّه، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ،
قَالَ: كان عثمان بْن أبي العاص أرسل إلى البحرين، فأرسل أخاه الحكم
بْن أبي العاص في ألفين إلى توج، وكان كسرى قد فر عن المدائن، ولحق
بجور من فارس.
قال: فحدثني زياد مولى الحكم بْن أبي العاص، عن الحكم بْن أبي العاص،
قال: قصد إلي شهرك- قال عبيد: وكان كسرى أرسله- قال الحكم: فصعد إلي في
الجنود فهبطوا من عقبه، عليهم الحديد، فخشيت
(4/176)
ان تعشوا أبصار الناس، فأمرت مناديا، فنادى
أن من كان عليه عمامة فليلفها على عينيه، ومن لم يكن عليه عمامة فليغمض
بصره، وناديت أن حطوا عن دوابكم فلما رأى شهرك ذلك حط أيضا ثم ناديت:
أن اركبوا، فصففنا لهم وركبوا، فجعلت الجارود العبدي على الميمنة وأبا
صفرة على الميسرة- يعني أبا المهلب- فحملوا على المسلمين فهزموهم، حتى
ما أسمع لهم صوتا، فقال لي الجارود: أيها الأمير، ذهب الجند، فقلت: إنك
سترى أمرك، فما لبثنا أن رجعت خيلهم، ليس عليها فرسانها، والمسلمون
يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرءوس بين يدي، ومعي بعض ملوكهم- يقال له
المكعبر، فارق كسرى ولحق بي- فأتيت برأس ضخم، فقال المكعبر: هذا رأس
الأزدهاق- يعني شهرك- فحوصروا في مدينة سابور، فصالحهم- وملكهم
أذربيان- فاستعان الحكم بأذربيان على قتال أهل إصطخر، ومات عمر رضي
اللَّه عنه، فبعث عثمان عبيد اللَّه بْن معمر مكانه، فبلغ عبيد اللَّه
أن أذربيان يريد أن يغدر بهم، فقال له: إني أحب أن تتخذ لأصحابي طعاما،
وتذبح لهم بقرة، وتجعل عظامها في الجفنة التي تليني، فإني أحب أن أتمشش
العظام ففعل، فجعل يأخذ العظم الذي لا يكسر الا بالفئوس، فكسره بيده،
فيتمخخه- وكان من أشد الناس- فقام الملك، فأخذ برجله، وقال: هذا مقام
العائذ فأعطاه عهدا، فاصابت عبيد الله منجنيفه، فأوصاهم، فقال: إنكم
ستفتحون هذه المدينة إن شاء اللَّه فاقتلوهم بي فيها ساعة ففعلوا
فقتلوا منهم بشرا كثيرا.
وكان عثمان بْن أبي العاص لحق الحكم، وقد هزم شهرك، فكتب إلى عمر:
أن بيني وبين الكوفة فرجة أخاف أن يأتيني العدو منها وكتب صاحب الكوفة
بمثل ذلك: إن بيني وبين كذا فرجة فاتفق عنده الكتابان، فبعث أبا موسى
في سبعمائة، فانزلهم البصره
(4/177)
ذكر فتح فسا
ودارابجرد
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب وعمرو،
قالوا: وقصد ساريه بن زنيم، فسا ودارابجرد، حتى انتهى إلى عسكرهم، فنزل
عليهم وحاصرهم ما شاء اللَّه ثم إنهم استمدوا، فتجمعوا وتجمعت إليهم
أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم، وجمع كثير، فرأى عمر في تلك
الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من
الغد: الصلاة جامعة! حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج
إليهم، وكان أريهم والمسلمون بصحراء، إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن
أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد ثم قام فقال:
يأيها الناس، إني رأيت هذين الجمعين- وأخبر بحالهما- ثم قال: يا سارية،
الجبل، الجبل! ثم أقبل عليهم، وقال: إن لله جنودا، ولعل بعضها أن
يبلغهم، ولما كانت تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على
الإسناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد، فهزمهم اللَّه
لهم، وكتبوا بذلك إلى عمر واستيلائهم على البلد ودعاء أهله وتسكينهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي
عُمَرَ دِثَارِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي
عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بنى مازن، قال: كَانَ عُمَرُ
قَدْ بَعَثَ سَارِيَةَ بْنَ زُنَيْمٍ الدؤلى إِلَى فَسَا
وَدَارَابَجِرْدَ، فَحَاصَرَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ تَدَاعَوْا
فَأَصْحَرُوا لَهُ، وَكَثَرُوهُ فَأَتَوْهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
فَقَالَ عُمَرُ وَهُوَ يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةَ: يَا سَارِيَةُ
بْنَ زُنَيْمٍ، الْجَبَلَ، الْجَبَلَ! وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ
وَإِلَى جَنْبِ الْمُسْلِمِينَ جَبَلٌ، إِنْ لَجَئُوا إِلَيْهِ لَمْ
يُؤْتَوْا إِلا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَلَجَئُوا إِلَى الْجَبَلِ،
ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ، فَأَصَابَ مَغَانِمَهُمْ، وَأَصَابَ
فِي الْمَغَانِمِ سَفَطًا فِيهِ جَوْهَرٌ، فَاسْتَوْهَبَهُ
الْمُسْلِمِينَ لِعُمَرَ، فَوَهَبُوهُ لَهُ،
(4/178)
فَبَعَثَ بِهِ مَعَ رَجُلٍ، وَبِالْفَتْحِ
وَكَانَ الرُّسُلُ وَالْوَفْدُ يُجَازُونَ وَتُقْضَى لَهُمْ
حَوَائِجُهُمْ، فَقَالَ لَهُ سَارِيَةُ: اسْتَقْرِضْ مَا تَبْلُغُ بِهِ
وَمَا تُخْلِفُهَ لأَهْلِكَ عَلَى جَائِزَتِكَ فَقَدِمَ الرَّجُلُ
الْبَصْرَةَ، فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ،
فَوَجَدَهُ يُطْعِمُ النَّاسَ، وَمَعَهُ عَصَاهُ الَّتِي يَزْجَرُ
بِهَا بَعِيرَهُ، فَقَصَدَ لَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِهَا، فَقَالَ:
اجْلِسْ، فَجَلَسَ حَتَّى إِذَا أَكَلَ الْقَوْمُ انْصَرَفَ عُمَرُ،
وَقَامَ فَأَتْبَعَهُ، فَظَنَّ عُمَرُ أَنَّهُ رَجُلٌ لَمْ يَشْبَعْ،
فَقَالَ حِينَ انْتَهَى إِلَى بَابِ دَارِهِ: ادْخُلْ- وَقَدْ أَمَرَ
الْخَبَّازَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْخُوَانِ إِلَى مَطْبَخِ
الْمُسْلِمِينَ- فَلَمَّا جَلَسَ فِي الْبَيْتِ أُتِيَ بِغَدَائِهِ
خُبْزٍ وَزَيْتٍ وَمِلْحِ جَرِيشٍ، فَوُضِعَ وَقَالَ:
أَلا تَخْرُجِينَ يَا هَذِهِ فَتَأْكُلِينَ؟ قَالَتْ: إِنِّي لأَسْمَعُ
حِسَّ رَجُلٍ، فَقَالَ: أَجَلْ، فَقَالَتْ: لَوْ أَرَدْتَ أَنْ
أَبْرُزَ لِلرِّجَالِ اشْتَرَيْتَ لِي غَيْرَ هَذِهِ الْكِسْوَةِ،
فَقَالَ:
أَوَمَا تَرْضِينَ أَنْ يُقَالَ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ
وَامْرَأَةُ عُمَرَ! فَقَالَتْ: مَا أَقَلَّ غِنَاءَ ذَلِكَ عَنِّي!
ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ادْنُ فَكُلْ، فَلَوْ كَانَتْ رَاضِيَةً
لَكَانَ أَطْيَبَ مِمَّا تَرَى، فَأَكَلا حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ:
رَسُولُ سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلا، ثُمَّ أَدْنَاهُ حَتَّى مَسَّتْ
رُكْبَتُهُ رُكْبَتَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ
سَأَلَهُ عَنْ سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ، فاخبره، ثم اخبره بقصة الدرج،
فنظر إِلَيْهِ ثُمَّ صَاحَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: لا وَلا كَرَامَةَ
حَتَّى تَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْجُنْدِ فَتُقَسِّمَهُ بَيْنَهُمْ
فَطَرَدَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ
أَنْضَيْتُ إِبِلِي وَاسْتُقْرِضْتُ فِي جَائِزَتِي، فَأَعْطِنِي مَا
أَتَبَلَّغُ بِهِ، فَمَا زَالَ عَنْهُ حَتَّى أَبْدَلَهُ بَعِيرًا
بِبَعِيرِهِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَأَخَذَ بَعِيرَهُ فَأَدْخَلَهُ
فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَرَجَعَ الرَّسُولُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ
مَحْرُومًا حَتَّى قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَنَفَذَ لأَمْرِ عُمَرَ،
وَقَدْ كَانَ سَأَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ سَارِيَةَ، وَعَنِ
الْفَتْحِ وَهَلْ سَمِعُوا شَيْئًا يَوْمَ الْوَقْعَةِ؟ فَقَالَ:
نَعَمْ، سَمِعْنَا: يَا سَارِيَةُ، الْجَبَلَ، وَقَدْ كِدْنَا
نَهْلَكُ، فَلَجَأْنَا إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ سَيْفٍ، عَنِ
الْمُجَالِدِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، مِثْلَ حَدِيثِ عَمْرٍو
(4/179)
ذكر فتح كرمان
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب
وعمرو، قالوا: وقصد سهيل بْن عدي إلى كرمان، ولحقه عبد اللَّه بْن عبد
اللَّه بْن عتبان، وعلى مقدمة سهيل بْن عدي النسير بْن عمرو العجلي،
وقد حشد له أهل كرمان، واستعانوا بالقفس، فاقتتلوا في أدنى أرضهم،
ففضهم اللَّه، فأخذوا عليهم بالطريق، وقتل النسير مرزبانها، فدخل سهيل
من قبل طريق القرى اليوم إلى جيرفت، وعبد اللَّه بْن عبد اللَّه من
مفازة شير، فأصابوا ما شاءوا من بعير أو شاء، فقوموا الإبل والغنم
فتحاصوها بالأثمان لعظم البخت على العراب، وكرهوا أن يزيدوا، وكتبوا
إلى عمر، فكتب إليهم: إن البعير العربي إنما قوم بتعيير اللحم، وذلك
مثله، فإذا رأيتم أن في البخت فضلا فزيدوا فإنما هي من قيمه.
وأما المدائني، فإنه ذكر أن علي بْن مجاهد أخبره عن حنبل بْن أبي
حريدة- وكان قاضي قهستان- عن مرزبان قهستان، قال: فتح كرمان عبد اللَّه
بْن بديل بْن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر بْن الخطاب، ثم أتى الطبسين
من كرمان، ثم قدم على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إني افتتحت الطبسين
فأقطعنيهما، فأراد أن يفعل، فقيل لعمر: إنهما رستاقان عظيمان، فلم
يقطعه إياهما، وهما بابا خراسان.
ذكر فتح سجستان
قالوا: وقصد عاصم بْن عمرو لسجستان، ولحقه عبد اللَّه بْن عمير،
فاستقبلوهم فالتقوا هم وأهل سجستان في أدنى أرضهم، فهزموهم ثم أتبعوهم،
حتى حصروهم بزرنج، ومخروا أرض سجستان ما شاءوا ثم إنهم طلبوا الصلح على
زرنج وما احتازوا من الأرضين، فأعطوه، وكانوا قد اشترطوا في صلحهم ان
فدا فدها حمى، فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروا خشية
(4/180)
أن يصيبوا منها شيئا، فيخفروا فتم أهل
سجستان على الخراج والمسلمون على الإعطاء، فكانت سجستان أعظم من
خراسان، وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة، وكانت فيما
بين السند إلى نهر بلخ بحياله، فلم تزل أعظم البلدين، وأصعب الفرجين،
وأكثرهما عددا وجندا، حتى زمان معاوية، فهرب الشاه من أخيه- واسم أخي
الشاه يومئذ رتبيل- إلى بلد فيها يدعى آمل، ودانوا لسلم بْن زياد، وهو
يومئذ على سجستان، ففرح بذلك وعقد لهم، وأنزلهم بتلك البلاد، وكتب إلى
معاوية بذلك يري أنه قد فتح عليه فقال معاوية: إن ابن أخي ليفرح بأمر
إنه ليحزنني وينبغي له أن يحزنه، قالوا: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال:
لأن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء قوم نكر غدر،
فيضطرب الحبل غدا، فأهون ما يجيء منهم أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها
وتم لهم على عهد ابن زياد، فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه،
وغلب على آمل، وخاف رتبيل الشاه فاعتصم منه بمكانه الذي هو به اليوم،
ولم يرضه ذلك حين تشاغل الناس عنه حتى طمع في زرنج، فغزاها فحصرهم حتى
أتتهم الأمداد من البصرة، فصار رتبيل والذين جاءوا معه، فنزلوا تلك
البلاد شجا لم ينتزع إلى اليوم، وقد كانت تلك البلاد مذللة إلى أن مات
معاوية
فتح مكران
قالوا: وقصد الحكم بْن عمرو التغلبي لمكران، حتى انتهى إليها، ولحق به
شهاب بْن المخارق بْن شهاب، فانضم إليه، وأمده سهيل بْن عدي، وعبد
اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عتبان بأنفسهما، فانتهوا إلى دوين النهر،
وقد انفض أهل مكران إليه حتى نزلوا على شاطئه، فعسكروا، وعبر إليهم
راسل ملكهم ملك السند، فازدلف بهم مستقبل المسلمين.
فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام، بعد ما كان
(4/181)
قد انتهى إليه أوائلهم، وعسكروا به ليلحق
أخراهم، فهزم اللَّه راسل وسلبه، وأباح المسلمين عسكره، وقتلوا في
المعركة مقتلة عظيمة، وأتبعوهم يقتلونهم أياما، حتى انتهوا إلى النهر
ثم رجعوا فأقاموا بمكران.
وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدي، واستأمره في
الفيلة، فقدم صحار على عمر بالخبر والمغانم، فسأله عمر عن مكران- وكان
لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه- فقال: يا أمير
المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها
قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر
منها فقال: أسجاع أنت أم مخبر؟
قال: لا بل مخبر، قال: لا، والله لا يغزوها جيش لي ما أطعت، وكتب إلى
الحكم بْن عمرو وإلى سهيل ألا يجوزن مكران أحد من جنودكما، واقتصرا على
ما دون النهر، وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام، وقسم أثمانها على من
أفاءها اللَّه عليه.
وقال الحكم بْن عمرو في ذلك:
لقد شبع الأرامل غير فخر ... بفيء جاءهم من مكران
أتاهم بعد مسغبة وجهد ... وقد صفر الشتاء من الدخان
فإني لا يذم الجيش فعلي ... ولا سيفي يذم ولا سناني
(4/182)
غداة أدفع الأوباش دفعا ... إلى السند
العريضة والمداني
ومهران لنا فيما أردنا ... مطيع غير مسترخي العنان
فلولا ما نهى عنه أميري ... قطعناه إلى البدد الزواني
خبر بيروذ من الأهواز
قالوا: ولما فصلت الخيول إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد
وغيرهم، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى حين سارت الجنود إلى الكور أن
يسير حتى ينتهي إلى ذمة البصرة، كي لا يؤتى المسلمون من خلفهم، وخشي أن
يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف، أو يخلفوا في أعقابهم، فكان الذي
حذر من اجتماع أهل بيروذ، وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، فخرج أبو موسى
حتى ينزل ببيروذ على الجمع الذي تجمعوا بها في رمضان، فالتقوا بين نهر
تيرى ومناذر، وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل فارس والأكراد،
ليكيدوا المسلمين، وليصيبوا منهم عورة، ولم يشكوا في واحده من اثنتين
فقام المهاجرين زياد وقد تحنط واستقتل، فقال لأبي موسى: أقم على كل
صائم لما رجع فأفطر فرجع أخوه فيمن رجع لإبرار القسم، وإنما أراد بذلك
توجيه أخيه عنه لئلا يمنعه من الاستقتال، وتقدم فقاتل حتى قتل، ووهن
اللَّه المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة، وأقبل اخوه الربيع، فقال: هيئ
يا والع الدنيا، واشتد جزعه عليه، فرق أبو موسى للربيع للذي رآه دخله
من مصاب أخيه، فخلفه عليهم في جند، وخرج أبو موسى حتى بلغ إصبهان، فلقي
بها جنود أهل الكوفة محاصري جي، ثم انصرف إلى البصرة، بعد
(4/183)
ظفر الجنود، وقد فتح اللَّه على الربيع بْن
زياد أهل بيروذ من نهر تيرى، وأخذ ما كان معهم من السبي، فتنقى أبو
موسى رجالا منهم ممن كان لهم فداء- وقد كان الفداء أرد على المسلمين من
أعيانهم وقيمتهم فيما بينهم- ووفد الوفود والأخماس، فقام رجل من عنزة
فاستوفده، فأبى، فخرج فسعى به فاستجلبه عمر، وجمع بينهما فوجد أبا موسى
أعذر إلا في أمر خادمه، فضعفه فرده إلى عمله، وفجر الآخر، وتقدم إليه
في ألا يعود لمثلها.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد، وطلحة والمهلب وعمرو،
قالوا: لما رجع أبو موسى عن إصبهان بعد دخول الجنود الكور، وقد هزم
الربيع اهل بيروذ، وجمع السبي والأموال، فغدا على ستين غلاما من أبناء
الدهاقين تنقاهم وعزلهم، وبعث بالفتح إلى عمر، ووفد وفدا فجاءه رجل من
عنزة، فقال: اكتبني في الوفد، فقال: قد كتبنا من هو أحق منك، فانطلق
مغاضبا مراغما، وكتب أبو موسى إلى عمر: إن رجلا من عنزة يقال له ضبة
بْن محصن، كان من أمره وقص قصته.
فلما قدم الكتاب والوفد والفتح على عمر قدم العنزي فأتى عمر فسلم عليه،
فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبا ولا أهلا! فقال:
أما المرحب فمن اللَّه، وأما الأهل فلا أهل، فاختلف إليه ثلاثا، يقول
له هذا ويرد عليه هذا، حتى إذا كان في اليوم الرابع، دخل عليه، فقال:
ماذا نقمت على أميرك؟ قال: تنقى ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه،
وله جارية تدعى عقيلة، تغدى جفنة وتعشى جفنة، وليس منا رجل يقدر على
ذلك، وله قفيزان، وله خاتمان، وفوض الى زياد ابن أبي سفيان- وكان زياد
يلي أمور البصرة- وأجاز الحطيئة بألف.
فكتب عمر كل ما قال
(4/184)
فبعث إلى أبي موسى، فلما قدم حجبه أياما،
ثم دعا به، ودعا ضبة بْن محصن، ودفع إليه الكتاب، فقال: اقرأ ما كتبت،
فقرأ: أخذ ستين غلاما لنفسه فقال أبو موسى: دللت عليهم وكان لهم فداء
ففديتهم، فأخذته فقسمته بين المسلمين، فقال ضبة: والله ما كذب ولا
كذبت، وقال: له قفيزان، فقال أبو موسى: قفيز لأهلي أقوتهم، وقفيز
للمسلمين في أيديهم، يأخذون به أرزاقهم، فقال ضبة: والله ما كذب ولا
كذبت، فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر، وعلم أن ضبة قد صدقه
قال: وزياد يلي أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلي، قال: وجدت له نبلا
ورأيا، فأسندت إليه عملي.
قال: وأجاز الحطيئه بألف، قال: سددت قمه بمالي أن يشتمني، فقال: قد
فعلت ما فعلت فرده عمر وقال: إذا قدمت فأرسل إلي زيادا وعقيلة، ففعل،
فقدمت عقيلة قبل زياد، وقدم زياد فقام بالباب، فخرج عمر وزياد بالباب
قائم، وعليه ثياب بياض كتان، فقال له: ما هذه الثياب؟ فأخبره، فقال: كم
أثمانها؟ فأخبره بشيء يسير، وصدقه، فقال له: كم عطاؤك؟ قال ألفان، قال:
ما صنعت في أول عطاء خرج لك؟ قال: اشتريت والدتي فأعتقتها، واشتريت في
الثاني ربيبي عبيدا فأعتقته، فقال: وفقت، وسأله عن الفرائض والسنن
والقرآن، فوجده فقيها فرده، وأمر أمراء البصرة أن يشربوا برأيه، وحبس
عقيلة بالمدينة وقال عمر: ألا إن ضبة العنزي غضب على أبي موسى في الحق
أن أصابه، وفارقه مراغما أن فاته أمر من أمور الدنيا، فصدق عليه وكذب،
فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى النار وكان
الحطيئة قد لقيه فأجازه في غزاة بيروذ، وكان أبو موسى قد ابتدأ حصارهم
وغزاتهم حتى فلهم، ثم جازهم ووكل بهم الربيع، ثم
(4/185)
رجع إليهم بعد الفتح فولي القسم.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، عن أسيد
بْن المتشمس بن أخي الأحنف بْن قيس، قال: شهدت مع أبي موسى يوم إصبهان
فتح القرى، وعليها عبد اللَّه بْن ورقاء الرياحي وعبد اللَّه بْن ورقاء
الأسدي ثم إن أبا موسى صرف إلى الكوفة، واستعمل على البصرة عمر بْن
سراقة المخزومي، بدوي.
ثم إن أبا موسى رد على البصرة، فمات عمر وأبو موسى على البصرة على
صلاتها، وكان عملها مفترقا غير مجموع، وكان عمر ربما بعث إليه فأمد به
بعض الجنود، فيكون مددا لبعض الجيوش
ذكر خبر سلمة بْن قيس الأشجعي والأكراد
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَنَابٍ،
قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُحَجَّلِ الرُّدَيْنِيُّ، عَنْ مَخْلَدٍ
الْبَكْرِيِّ وَعَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
بُرَيْدَةَ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ إِذَا اجْتَمَعَ
إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلا
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَيْشٌ،
فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ الأَشْجَعِيَّ فَقَالَ: سِرْ
بِاسْمِ اللَّهِ، قَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ،
فَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إِلَى
ثَلاثِ خِصَالٍ: ادْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا
فَاخْتَارُوا دَارَهُمْ فَعَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمُ الزَّكَاةُ،
وَلَيْسَ لهم في فيء المسلمين نَصِيبٌ، وَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ
يَكُونُوا مَعَكُمْ فَلَهُمْ مِثْلُ الَّذِي لَكُمْ، وَعَلَيْهِمْ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْكُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إِلَى
الْخَرَاجِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْخَرَاجِ فَقَاتِلُوا عَدُوَّهُمْ
مِنْ وَرَائِهِمْ، وَفَرِّغُوهُمْ لِخَرَاجِهِمْ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ
فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، فَإِنْ
(4/186)
أَبَوْا فَقَاتِلُوهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ
نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ تَحَصَّنُوا مِنْكُمْ فِي حِصْنٍ
فَسَأَلُوكُمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ
رَسُولِهِ، فَلا تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكُمْ لا
تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِمْ! وَإِنْ سَأَلُوكُمْ
أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ فَلا
تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَأَعْطُوهُمْ
ذِمَمَ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَلا تَغِلُّوا وَلا
تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا قَالَ
سَلَمَةُ: فَسِرْنَا حَتَّى لَقِينَا عَدُوَّنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ،
فَدَعْوَنَاهُمْ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
فَأَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوا، فَدَعْوَنَاهُمْ إِلَى الْخَرَاجِ
فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا، فَقَاتَلْنَاهُمْ فَنَصَرَنَا اللَّهُ
عَلَيْهِمْ، فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَيْنَا الذُّرِّيَّةَ،
وَجَمَعْنَا الرِّثَّةَ، فَرَأَى سَلَمَةُ بْنُ قَيْسٍ شَيْئًا مِنْ
حِلْيَةٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لا يبلغ فيكم شيئا، فتطيب أنفسكم أن
نَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ لَهُ بُرْدًا
وَمَئُونَةً؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَدْ طَابَتْ أَنْفُسُنَا قَالَ:
فَجَعَلَ تِلْكَ الْحِلْيَةَ فِي سَفَطٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِرَجُلٍ مِنْ
قَوْمِهِ، فَقَالَ: ارْكَبْ بِهَا، فَإِذَا أَتَيْتَ الْبَصْرَةَ
فَاشْتَرِ عَلَى جَوَائِزِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَاحِلَتَيْنِ،
فَأَوْقِرْهُمَا زَادًا لَكَ وَلِغُلامِكَ، ثُمَّ سِرْ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: فَفَعَلْتُ، فَأَتَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُغَدِّي
النَّاسَ مُتِّكَئًا عَلَى عَصًا كَمَا يَصْنَعُ الرَّاعِي وَهُوَ
يَدُورُ عَلَى الْقِصَاعِ، يَقُولُ: يَا يَرْفَأْ، زِدْ هَؤُلاءِ
لَحْمًا، زِدْ هَؤُلاءِ خُبْزًا، زِدْ هَؤُلاءِ مَرَقَةً، فَلَمَّا
دَفَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسْتُ فِي أَدْنَى النَّاسِ،
فَإِذَا طَعَامٌ فِيهِ خُشُونَةٌ طَعَامِي، الَّذِي مَعِي أَطْيَبُ
مِنْهُ فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ قِصَاعِهِمْ قَالَ: يَا يَرْفأُ،
ارْفَعْ قِصَاعَكَ ثُمَّ أَدْبِرْ، فَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَل دَارًا،
ثُمَّ دَخَلَ حُجْرَةً، فَاسْتَأْذَنْتُ وَسَلَّمْتُ، فَأَذِنَ لِي،
فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى مَسْحٍ مُتَّكِئٍ
عَلَى وِسَادَتَيْنِ مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّتَيْنِ لِيفًا، فَنَبَذَ
إِلَيَّ بِإِحْدَاهُمَا، فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، وَإِذَا بَهْوٌ فِي
صُفَّةٍ فِيهَا بَيْتٌ عَلَيْهِ سَتِيرٌ، فَقَالَ: يَا أُمَّ
كُلْثُومٍ، غَدَاءَنَا! فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ خُبْزَةً بِزَيْتٍ فِي
عَرَضِهَا مِلْحٌ لَمْ يُدَقَّ، فَقَالَ: يَا أُمَّ كُلْثُومٍ، أَلا
تَخْرُجِينَ إِلَيْنَا تَأْكُلِينَ مَعَنَا مِنْ هَذَا؟ قَالَتْ:
إِنِّي أَسْمَعُ عِنْدَكَ حِسَّ رَجُلٍ،
(4/187)
قَالَ: نَعَمْ وَلا أَرَاهُ مِنْ أَهْلِ
الْبَلَدِ- قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْنِي-
قَالَتْ: لَوْ أَرَدْتَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الرِّجَالِ لَكَسْوَتَنِي
كَمَا كَسَا ابْنُ جَعْفَرٍ امْرَأَتَهُ، وَكَمَا كَسَا الزُّبَيْرُ
امْرَأَتَهُ، وَكَمَا كَسَا طَلْحَةُ امْرَأَتَهُ! قال: او ما
يَكْفِيكِ أَنْ يُقَالَ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ وَامْرَأَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ! فَقَالَ:
كُلْ، فَلَوْ كَانَتْ رَاضِيَةً لأَطْعَمَتْكَ أَطْيَبَ مِنْ هَذَا
قَالَ: فَأَكَلْتُ قَلِيلا- وَطَعَامِي الَّذِي مَعِي أَطْيَبُ مِنْهُ-
وَأَكَلَ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ أَكْلا مِنْهُ مَا
يَتَلَبَّسُ طَعَامُهُ بِيَدِهِ وَلا فَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: اسْقُونَا،
فَجَاءُوا بِعُسٍّ مِنْ سُلْتٍ فَقَالَ: أَعْطِ الرَّجُلَ، قَالَ:
فَشَرِبْتُ قَلِيلا، سُوَيْقِي الَّذِي مَعِي أَطْيَبُ مِنْهُ، ثُمَّ
أَخَذَهُ فَشَرِبَهُ حَتَّى قَرَعَ الْقَدَحُ جَبْهَتَهُ، وَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا فَأَشْبَعَنَا، وَسَقَانَا
فَأَرْوَانَا قَالَ: قُلْتُ: قَدْ أَكَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
فَشَبِعَ، وشرب فروى، حَاجَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ:
وَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا رَسُولُ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ،
قَالَ: مَرْحَبًا بِسَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ وَرَسُولِهِ، حَدِّثْنِي عَنِ
الْمُهَاجِرِينَ كَيْفَ هُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُمْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تُحِبُّ مِنَ السَّلامَةِ وَالظَّفَرِ عَلَى
عَدُوِّهِمْ قَالَ: كَيْفَ أَسْعَارُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ:
أَرْخَصُ أَسْعَارٍ قَالَ: كَيْفَ اللَّحْمُ فِيهِمْ فَإِنَّهَا
شَجَرَةُ الْعَرَبِ وَلا تَصْلُحُ الْعَرَبُ إِلا بِشَجَرَتِهَا؟
قَالَ: قُلْتُ: الْبَقَرَةُ فِيهِمْ بِكَذَا، وَالشَّاةُ فِيهِمْ
بِكَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سِرْنَا حَتَّى لقينا عدونا من
المشركين فدعوناهم إلى ما أَمَرْتَنَا بِهِ مِنَ الإِسْلامِ فَأَبَوْا،
فَدَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْخَرَاجِ فَأَبَوْا، فَقَاتَلْنَاهُمْ
فَنَصَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلْنَا المقاتلة، وسبينا الذرية،
وجمعنا الرثة، فرأى سلمة فِي الرِّثَّةِ حِلْيَةً، فَقَالَ لِلنَّاسِ:
إِنَّ هَذَا لا يبلغ فيكم شيئا، فتطيب أنفسكم أن أَبْعَثَ بِهِ إِلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ فَاسْتَخْرَجْتُ سَفَطِي،
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى تِلْكَ الْفُصُوصِ مِنْ بَيْنِ أَحْمَرَ
وَأَصْفَرَ وَأَخْضَرَ، وَثَبَ ثُمَّ جَعَلَ يَدَهُ فِي خَاصِرَتِهِ،
ثُمَّ قَالَ: لا أَشْبَعَ اللَّهُ إِذًا بَطْنَ عُمَرُ! قَالَ: فَظَنَّ
النِّسَاءُ أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَغْتَالَهُ، فَجِئْنَ إِلَى
السِّتْرِ، فَقَالَ: كُفَّ مَا جِئْتَ بِهِ، يَا يَرْفَأُ، جَأْ
عُنُقَهُ قَالَ: فَأَنَا
(4/188)
أُصْلِحُ سَفَطِي وَهُوَ يَجَأُ عُنُقِي!
قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أبدع بِي فَاحْمِلْنِي، قَالَ: يَا
يرفا أعطه راحلتين مِنَ الصَّدَقَةِ، فَإِذَا لَقِيتَ أَفْقَرَ
إِلَيْهِمَا مِنْكَ فَادْفَعْهُمَا إِلَيْهِ قُلْتُ: أَفْعَلُ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ تُفَرَّقِ
الْمُسْلِمُونَ فِي مَشَاتِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ هَذَا فِيهِمْ
لأَفْعَلَنَّ بِكَ وَبِصَاحِبَكَ الْفَاقِرَةَ.
قَالَ: فَارْتَحَلْتُ حَتَّى أَتَيْتَ سَلَمَةَ، فَقُلْتُ: مَا بَارَكَ
اللَّهُ لِي فِيمَا اخْتَصَصْتَنِي بِهِ، اقْسِمْ هَذَا فِي النَّاسِ
قَبْلَ ان تصيبني وَإِيَّاكَ فَاقِرَةٌ، فَقَسَّمَهُ فِيهِمْ،
وَالْفَصُّ يُبَاعُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَسِتَّةِ دَرَاهِمَ، وَهُوَ
خَيْرٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَأَمَّا السَّرِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ- فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ
يَذْكُرُ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ- قال: لقيت رسول سلمه ابن قَيْسٍ
الأَشْجَعِيُّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا اجْتَمَعَ
إِلَيْهِ جَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ
فِي حَدِيثِهِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ سَيْفٍ: وَأَعْطُوهُمْ ذِمَمَ
أَنْفُسِكُمْ قَالَ:
فَلَقِينَا عَدُوَّنَا مِنَ الأَكْرَادِ، فَدَعَوْنَاهُمْ.
وَقَالَ أَيْضًا: وَجَمَعْنَا الرِّثَّةَ، فَوَجَدَ فِيهَا سَلَمَةُ
حُقَّتَيْنِ جَوْهَرًا، فَجَعَلَهَا فِي سَفَطٍ.
وَقَالَ أيضا: او ما كَفَاكَ أَنْ يُقَالَ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ امْرَأَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ!
قَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ عَنِّي لَقَلِيلُ الْغَنَاءِ، قَالَ: كُلْ.
وَقَالَ أَيْضًا: فَجَاءُوا بِعُسٍّ مِنْ سُلْتٍ، كُلَّمَا حَرَّكُوهُ
فَارَ فَوْقَهُ مِمَّا فِيهِ، وَإِذَا تَرَكُوهُ سَكَنَ ثُمَّ قَالَ:
اشْرَبْ، فَشَرِبْتُ قَلِيلا، شَرَابِي الَّذِي مَعِي أَطْيَبُ مِنْهُ،
فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَضَرَبَ بِهِ جَبْهَتَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ
لَضَعِيفُ الأَكْلِ، ضَعِيفُ الشُّرْبِ.
وَقَالَ أَيْضًا: قُلْتُ: رَسُولُ سَلَمَةَ، قَالَ: مَرْحَبًا
بِسَلَمَةَ وَبِرَسُولِهِ، وَكَأَنَّمَا خَرَجْتُ مِنْ صُلْبِهِ،
حَدِّثْنِي عَنِ الْمُهَاجِرِينَ
(4/189)
وَقَالَ أَيْضًا: ثُمَّ قَالَ: لا أَشْبَعَ
اللَّهُ إِذًا بَطْنَ عُمَرُ! قَالَ: وَظَنَّ النِّسَاءُ أَنِّي قَدِ
اغْتَلْتُهُ، فَكَشَفْنَ السِّتْرَ، وَقَالَ: يَا يَرْفَأُ، جَأْ
عُنُقَهُ، فَوَجَأَ عُنُقِي وَأَنَا أَصِيحُ، وَقَالَ: النَّجَاءَ،
وَأَظُنُّكَ سَتُبْطِئُ وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ
غَيْرُهُ لَئِنْ تُفَرَّقِ النَّاسُ إِلَى مَشَاتِيهِمْ وَسَائِرُ
الْحَدِيثِ نَحْوُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ.
وَحَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ
بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ الْحَوْشَبِيُّ،
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ دينار، عن منصور ابن
الْمُعْتَمِرِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ الأَسْدِيِّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الَّذِي جَرَى بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَسَلَمَةَ
بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: نَدَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ إِلَى
سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ الأَشْجَعِيِّ بِالْحِيرَةِ، فَقَالَ:
انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ جَعْفَرٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَحَجَّ عُمَرُ بِأَزْوَاجِ رسول الله ص فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا بِالنَّاسِ،
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، عن
الواقدى
. ذكر الخبر عن وفاه عمر
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاتُهُ.
ذكر الخبر عن مقتله:
حَدَّثَنِي سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن المسور بن مخرمة.
- وكانت أمه عاتكة بِنْتُ عَوْفٍ- قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ يَوْمًا يَطُوفُ فِي السُّوقِ، فَلَقِيَهُ أَبُو
لُؤْلُؤَةَ غُلامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا،
فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعِدْنِي عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ
شُعْبَةَ، فَإِنَّ عَلَيَّ خَرَاجًا كَثِيرًا،
(4/190)
قَالَ: وَكَمْ خَرَاجُكَ؟ قَالَ:
دِرْهَمَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، قَالَ: وَأَيْشِ صِنَاعَتُكَ؟
قَالَ: نَجَّارٌ، نَقَّاشٌ، حَدَّادٌ، قَالَ: فَمَا أَرَى خَرَاجَكَ
بِكَثِيرٍ عَلَى مَا تَصْنَعُ مِنَ الأَعْمَالِ، قَدْ بَلَغَنِي
أَنَّكَ تقول: لو اردت ان اعمل رحا تَطْحَنُ بِالرِّيحِ فَعَلْتُ،
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ لي رحا، قال: لئن سلمت لاعملن لك رحا
يَتَحَدَّثُ بِهَا مَنْ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، ثُمَّ انْصَرَفَ
عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَقَدْ
تَوَعَّدَنِيَ الْعَبْدُ آنِفًا! قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ إِلَى
مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَهُ كَعْبُ الأَحْبَارِ
فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اعْهَدْ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ
فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ:
أَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْرَاةِ، قَالَ
عُمَرُ: آللَّهِ انك لتجد عمر ابن الْخَطَّابِ فِي التَّوْرَاةِ؟
قَالَ: اللَّهُمَّ لا، وَلَكِنِّي أَجِدُ صِفَتَكَ وَحِلْيَتَكَ،
وَأَنَّهُ قَدْ فَنَى أَجَلُكَ- قَالَ: وَعُمَرُ لا يُحِسُّ وَجَعًا
وَلا أَلَمًا- فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَهُ كَعْبٌ، فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَهَبَ يَوْمٌ وَبَقِيَ يَوْمَانِ، قَالَ:
ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ غَدِ الْغَدِ، فَقَالَ: ذَهَبَ يَوْمَانِ وَبَقِيَ
يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهِيَ لَكَ إِلَى صَبِيحَتِهَا قَالَ: فَلَمَّا
كَانَ الصُّبْحُ خَرَجَ عُمَرُ إِلَى الصَّلاةِ، وَكَانَ يُوَكِّلُ
بِالصُّفُوفِ رِجَالا، فَإِذَا اسْتَوَتْ جَاءَ هُوَ فَكَبَّرَ قَالَ:
وَدَخَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ فِي النَّاسِ، فِي يَدِهِ خِنْجَرٌ لَهُ
رَأْسَانِ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، فَضَرَبَ عُمَرَ سِتَّ ضَرَبَاتٍ،
إِحْدَاهُنَّ تَحْتَ سُرَّتِهِ، وَهِيَ الَّتِي قتلته، وقتل معه كليب
ابن أَبِي الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيَّ- وَكَانَ خَلْفَهُ- فَلَمَّا
وَجَدَ عُمَرَ حُرَّ السِّلاحِ سَقَطَ، وَقَالَ: أَفِي النَّاسِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
هُوَ ذَا، قَالَ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ: فَصَلَّى
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعُمَرُ طَرِيحٌ، ثُمَّ احْتُمِلَ
فَأُدْخِلَ دَارَهُ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَالَ:
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْهَدَ إِلَيْكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ نَعَمْ، إِنْ أَشَرْتَ عَلَيَّ قَبِلْتُ مِنْكَ، قَالَ:
وَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، أَتُشِيرُ عَلَيَّ
بِذَلِكَ؟
قَالَ: اللَّهُمَّ لا، قَالَ: وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ فِيهِ أَبَدًا،
قَالَ: فَهَبْ لِي صَمْتًا
(4/191)
حتى اعهد الى النفر الذين توفى رسول الله ص
وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ ادْعُ لِي عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ
وَسَعْدًا قَالَ: وَانْتَظِرُوا أَخَاكُمْ طَلْحَةَ ثَلاثًا فَإِنْ
جَاءَ وَإِلا فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ
إِنْ وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ بَنِي
هَاشِمٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ
إِنْ وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ بَنِي أَبِي
مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا سَعْدُ إِنْ
وَلِيتَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا أَنْ تَحْمِلَ أَقَارِبَكَ
عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، قُومُوا فَتَشَاوَرُوا ثُمَّ اقْضُوا
أَمْرَكُمْ، وَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ ثُمَّ دَعَا أَبَا
طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ: قُمْ عَلَى بَابِهِمْ، فَلا تَدَعْ
أَحَدًا يَدْخُلُ إِلَيْهِمْ، وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي
بِالأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ، أَنْ
يُحْسِنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ،
وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْعَرَبِ، فَإِنَّهَا مَادَّةُ
الإِسْلامِ، أَنْ يُؤْخَذَ من صدقاتهم حقها فيوضع فِي فُقَرَائِهِمْ،
وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِذِمَّةِ رسول الله ص أَنْ
يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ! تَرَكْتُ
الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي عَلَى أَنْقَى مِنَ الرَّاحَةِ، يَا عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اخْرُجْ فَانْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي؟ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَتَلَكَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلامُ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَجْعَلْ مَنِيَّتِي بِيَدِ رَجُلٍ سَجَدَ لِلَّهِ سَجْدَةً وَاحِدَةً،
يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَسَلْهَا
أَنْ تَأْذَنَ لِي أَنْ أُدْفَنَ مَعَ النبي ص وَأَبِي بَكْرٍ، يَا
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، إِنِ اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فَكُنْ مَعَ
الأَكْثَرِ، وَإِنْ كَانُوا ثَلاثَةً وَثَلاثَةً فَاتْبَعِ الْحِزْبَ
الَّذِي فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ ائْذَنْ
لِلنَّاسِ، قَالَ:
فَجَعَلَ يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارَ
فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: أَعَنْ مَلإٍ مِنْكُمْ
كَانَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: مَعَاذَ اللَّهِ! قَالَ: وَدَخَلَ فِي
النَّاسِ كَعْبٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَأَوْعَدَنِي كَعْبٌ ثَلاثًا أُعِدُّهَا ... وَلا شَكَّ أَنَّ
الْقَوْلَ مَا قَالَ لِي كَعْبُ
(4/192)
وَمَا بِي حِذَارُ الْمَوْتِ إِنِّي
لَمَيِّتٌ ... وَلَكِنْ حِذَارُ الذَّنْبِ يَتْبَعُهُ الذَّنْبُ
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ دَعَوْتَ
الطَّبِيبَ! قَالَ: فَدُعِيَ طَبِيبٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
كَعْبٍ، فَسَقَاهُ نَبِيذًا فَخَرَجَ النَّبِيذُ مُشْكَلا، قَالَ:
فَاسْقُوهُ لبنا، قال: فخرج اللبن محضا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، اعْهَدْ، قَالَ: قَدْ فَرَغْتُ.
قَالَ: ثُمَّ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ لثلاث ليال بقين من ذي
الحجة سنة ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ.
قَالَ: فَخَرَجُوا بِهِ بُكْرَةَ يَوْمِ الأَرْبِعَاءِ، فَدُفِنَ فِي
بَيْتِ عَائِشَةَ مَعَ النَّبِيِّ ص وَأَبِي بَكْرٍ قَالَ: وَتَقَدَّمَ
صُهَيْبٌ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلانِ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص: عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ، قَالَ: فَتَقَدَّمَ
وَاحِدٌ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ، وَالآخَرُ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ،
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:
لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، مَا أَحْرَصَكُمَا عَلَى الإِمْرَةِ! أَمَا
عَلِمْتُمَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ:
لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ! فَتَقَدَّمَ صُهَيْبٌ فَصَلَّى
عَلَيْهِ قَالَ: وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ الْخَمْسَةُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ وَفَاتَهُ كَانَتْ فِي
غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
ذِكْرُ من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر،
قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بْن مُحَمَّد بْن سعد، عن أبيه قال: طعن
عمر رضى الله تعالى عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة
ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين، فكانت
ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين ليلة، من متوفى أبي بكر، على
رأس اثنتين وعشرين سنة وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما من الهجرة وبويع
لعثمان بْن عفان يوم الاثنين لثلاث مضين من المحرم قال: فذكرت ذلك
لعثمان الأخنسي، فقال: ما أراك إلا وهلت، توفي
(4/193)
عمر رضي اللَّه تعالى عنه لأربع ليال بقين
من ذي الحجة، وبويع لعثمان بْن عفان لليلة بقيت من ذي الحجة، فاستقبل
بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين.
وحدثني أحمد بْن ثابت الرازي، قال: حَدَّثَنَا محدث، عن إسحاق ابن
عيسى، عن أبي معشر، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي
الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة
أيام، ثم بويع عثمان بْن عفان.
قال أبو جعفر: وأما المدائني، فإنه قال فيما حَدَّثَنِي عمر عنه، عن
شريك، عن الأعمش- أو عن جابر الجعفي- عن عوف بْن مالك الأشجعي وعامر
بْن أبي مُحَمَّد، عن أشياخ من قومه، وعثمان بْن عبد الرحمن، عن ابني
شهاب الزهري، قالوا: طعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة.
قال: وقال غيرهم: لست بقين من ذي الحجة.
وأما سيف، فإنه قال فيما كَتَبَ إِلَيَّ به السَّرِيُّ يَذْكُرُ أَنَّ
شُعَيْبًا حَدَّثَهُ عَنْهُ، عَنِ خليد بن ذفره ومجالد، قال: استخلف
عثمان لثلاث مضين من المحرم سنة أربع وعشرين، فخرج فصلى بالناس العصر،
وزاد: ووفد فاستن به.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن عمرو، عن
الشعبي، قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان، لثلاث مضين من المحرم، وقد
دخل وقت العصر، وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج
فصلى بالناس، وزاد الناس مائة، ووفد أهل الأمصار، وصنع فيهم.
وهو أول من صنع ذلك.
وحدثت عن هشام بْن مُحَمَّد، قال: قتل عمر لثلاث ليال بقين من ذي الحجة
سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام
(4/194)
|