تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

اثنتين وعشرين

ذكر فتح همذان
قال أبو جعفر: ففيها فتحت أذربيجان، فيما حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، قال:
كانت أذربيجان سنة اثنتين وعشرين، وأميرها المغيرة بْن شعبة وكذلك قال الواقدي.
وأما سيف بْن عمر، فإنه قال فيما كتب إلي به السري عَنْ شُعَيْبٍ عنه، قال: كان فتح اذربيجان سنه ثمان عشرة من الهجرة بعد فتح همذان والري وجرجان وبعد صلح إصبهبذ طبرستان المسلمين قال: وكل ذلك كان في سنه ثمان عشرة.
قال: فكان سبب فتح همذان- فيما زعم- أن محمدا والمهلب وطلحة وعمرا وسعيدا أخبروه أن النعمان لما صرف إلى الماهين لاجتماع الأعاجم إلى نهاوند، وصرف إليه أهل الكوفة وافوه مع حذيفة، ولما فصل أهل الكوفة من حلوان وأفضوا إلى ماه هجموا على قلعه في مرج فيها مسلحه، فاستزلوهم، وكان أول الفتح، وأنزلوا مكانهم خيلا يمسكون بالقلعة، فسموا معسكرهم بالمرج، مرج القلعة، ثم ساروا من مرج القلعة نحو نهاوند، حتى إذا انتهوا إلى قلعة- فيها قوم خلفوا عليها النسير بْن ثور في عجل وحنيفة، فنسبت إليه، وافتتحها بعد فتح نهاوند ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي- أقاموا مع النسير على القلعة، فلما جمعوا فيء نهاوند والقلاع أشركوا فيها جميعا، لأن بعضهم قوى بعضا ثم وصفوا ما استقروا فيما بين مرج القلعة وبين نهاوند مما مروا به قبل ذلك فيما استقروا من المرج

(4/146)


إليها بصفاتها، وازدحمت الركاب في ثنية من ثنايا ماه، فسميت بالركاب، فقيل: ثنية الركاب وأتوا على أخرى تدور طريقها بصخرة، فسموها ملويه، فدرست اسماؤها الاولى، وسميت بصفاتها، ومروا بالجبل الطويل المشرف على الجبال، فقال قائل منهم: كأنه سن سميرة- وسميرة امرأة من المهاجرات من بني معاوية، ضبية لها سن مشرفة على أسنانها، فسمي ذلك الجبل بسنها- وقد كان حذيفة أتبع الفالة- فالة نهاوند- نعيم بْن مقرن والقعقاع بْن عمرو، فبلغا همذان، فصالحهم خسروشنوم، فرجعا عنهم، ثم كفر بعده فلما قدم عهده في العهود من عند عمر ودع حذيفة وودعه حذيفة، هذا يريد همذان، وهذا يريد الكوفة راجعا واستخلف على الماهين عمرو بْن بلال بْن الحارث.
وكان كتاب عمر إلى نعيم بْن مقرن: أن سر حتى تأتي همذان، وابعث على مقدمتك سويد بْن مقرن، وعلى مجنبتيك ربعي بْن عامر ومهلهل ابن زيد، هذا طائي، وذاك تميمي فخرج نعيم بْن مقرن في تعبيته حتى نزل ثنية العسل- وإنما سميت ثنية العسل بالعسل الذي أصابوا فيها غب وقعة نهاوند حيث أتبعوا الفالة- فانتهى الفيرزان إليها، وهي غاصة بحوامل تحمل العسل وغير ذلك، فحبست الفيرزان حتى نزل، فتوقل في الجبل وغار فرسه فأدرك فأصيب ولما نزلوا كنكور سرقت دواب من دواب المسلمين، فسمي قصر اللصوص.
ثم انحدر نعيم من الثنية حتى نزل على مدينة همذان، وقد تحصنوا منهم، فحصرهم فيها، وأخذ ما بين ذلك وبين جرميذان، واستولوا على بلاد همذان كلها فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح، على أن يجريهم ومن استجاب مجرى واحدا، ففعل، وقبل منهم الجزاء على المنعة، وفرق دستبى بين نفر من أهل الكوفة، بين عصمة بْن عبد اللَّه الضبي ومهلهل بْن زيد الطائي وسماك بْن عبيد العبسي وسماك بْن مخرمة الأسدي،

(4/147)


وسماك بْن خرشة الأنصاري، فكان هؤلاء أول من ولي مسالح دستبي.
وقاتل الديلم.
وأما الواقدي فإنه قال: كان فتح همذان والري في سنة ثلاث وعشرين.
قال: ويقال افتتح الري قرظه بن كعب.
وحدثني ربيعة بْن عثمان أن فتح همذان كان في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بْن الخطاب، وكان أميرها المغيرة بْن شعبة.
قال: ويقال: كان فتح الري قبل وفاة عمر بسنتين، ويقال: قتل عمر وجيوشه عليها.
رجع الحديث إلى حديث سيف قال: فبينما نعيم في مدينة همذان في توطئتها في اثني عشر ألفا من الجند تكاتب الديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، ثم خرج موتا في الديلم حتى ينزل بواج روذ، وأقبل الزينبي أبو الفرخان في أهل الري حتى انضم إليه، وأقبل إسفندياذ أخو رستم في أهل أذربيجان، حتى انضم إليه، وتحصن أمراء مسالح دستبي، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بْن قيس، وخرج إليهم في الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند، ولم تكن دونها، وقتل من القوم مقتلة عظيمة لا يحصون ولا تقصر ملحمتهم من الملاحم الكبار، وقد كانوا كتبوا إلى عمر باجتماعهم، ففزع منها عمر، واهتم بحربها، وتوقع ما يأتيه عنهم، فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة، فقال:
أبشير! فقال: بل عروة، فلما ثنى عليه: أبشير؟ فطن، فقال: بشير، فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر، وأخبره الخبر، فحمد اللَّه، وأمر بالكتاب فقرئ على الناس، فحمدوا اللَّه ثم قدم سماك بْن مخرمة وسماك بْن عبيد وسماك بن خرشه في وفود من وفود أهل الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك

(4/148)


وسماك وسماك، فقال: بارك اللَّه فيكم، اللهم اسمك بهم الإسلام وأيدهم بالإسلام فكانت دستبي من همذان ومسالحها إلى همذان، حتى رجع الرسول إلى نعيم بْن مقرن بجواب عمر بْن الخطاب:
أما بعد، فاستخلف على همذان، وأمد بكير بْن عبد اللَّه بسماك بْن خرشة، وسر حتى تقدم الري، فتلقى جمعهم، ثم أقم بها، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد فأقر نعيم يزيد بْن قيس الهمذاني على همذان، وسار من واج الروذ بالناس إلى الري.
وقال نعيم في واج الروذ:
لما أتاني أن موتا ورهطه ... بني باسل جروا جنود الأعاجم
نهضت إليهم بالجنود مساميا ... لأمنع منهم ذمتي بالقواصم
فجئنا إليهم بالحديد كأننا ... جبال تراءى من فروع القلاسم
فلما لقيناهم بها مستفيضة ... وقد جعلوا يسمون فعل المساهم
صدمناهم في واج روذ بجمعنا ... غداة رميناهم بإحدى العظائم
فما صبروا في حومة الموت ساعة ... لحد الرماح والسيوف الصوارم
كأنهم عند انبثاث جموعهم ... جدار تشظى لبنه للهوادم
أصبنا بها موتا ومن لف جمعه ... وفيها نهاب قسمه غير عاتم
تبعناهم حتى أووا في شعابهم ... نقتلهم قتل الكلاب الجواحم
كأنهم في واج روذ وجوه ... ضئين أصابتها فروج المخارم
وسماك بْن مخرمة هو صاحب مسجد سماك

(4/149)


وأعاد فيهم نعيم كتاب صلح همذان، وخلف عليها يزيد بْن قيس الهمذاني، وسار بالجنود حتى لحق بالري، وكان أول نسل الديلم من العرب، وقاولهم فيه نعيم
. فتح الري
قالوا: وخرج نعيم بْن مقرن من واج روذ في الناس- وقد أخربها- إلى دستبى، ففصل منها إلى الري، وقد جمعوا له، وخرج الزينبي أبو الفرخان، فلقيه الزينبي بمكان يقال له قها مسالما ومخالفا لملك الري، وقد رأى من المسلمين ما رأى مع حسد سياوخش وأهل بيته، فأقبل مع نعيم والملك يومئذ بالري سياوخش بْن مهران بْن بهرام شوبين، فاستمد أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان وقال: قد علمتم أن هؤلاء قد حلوا بالري، إنه لا مقام لكم، فاحتشدوا له، فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وقد كان الزينبي قال لنعيم: إن القوم كثير، وأنت في قلة، فابعث معي خيلا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك فبعث معه نعيم خيلا من الليل، عليهم ابن أخيه المنذر بْن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة، ولا يشعر القوم، وبيتهم نعيم بياتا فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم ثم إنهم انهزموا فقتلوا مقتلة عدوا بالقصب فيها، وأفاء اللَّه على المسلمين بالري نحوا من فيء المدائن، وصالحه الزينبي على أهل الري ومرزبه عليهم نعيم، فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي الأكبر، ومنهم شهرام وفرخان، وسقط آل بهرام، وأخرب نعيم مدينتهم، وهي التي يقال لها العتيقة- يعني مدينة الري- وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثى وكتب نعيم إلى عمر بالذي فتح اللَّه عليه مع المضارب العجلي، ووفد بالأخماس مع عتيبة بْن النهاس وأبي مفزر في وجوه من وجوه أهل الكوفة، وأمد بكير بْن عبد اللَّه بسماك بْن

(4/150)


خرشة الأنصاري بعد ما فتح الري، فسار سماك إلى أذربيجان مددا لبكير، وكتب نعيم لأهل الري كتابا:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى نعيم بْن مقرن الزينبي بْن قوله، أعطاه الأمان على أهل الري ومن كان معهم من غيرهم على الجزاء، طاقة كل حالم في كل سنة، وعلى أن ينصحوا ويدلوا ولا يغلوا ولا يسلوا، وعلى أن يقروا المسلمين يوما وليلة، وعلى أن يفخموا المسلم، فمن سب مسلما أو استخف به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل، ومن بدل منهم فلم يسلم برمته فقد غير جماعتكم وكتب وشهد وراسله المصمغان في الصلح على شيء يفتدى به منهم من غير أن يسأله النصر والمنعة، فقبل منه، وكتب بينه وبينه كتابا على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ نعيم بْن مقرن لمردانشاه مصمغان دنباوند وأهل دنباوند والخوار واللارز والشرز إنك آمن ومن دخل معك على الكف، أن تكف أهل أرضك، وتتقي من ولي الفرج بمائتي ألف درهم وزن سبعة في كل سنة، لا يغار عليك، ولا يدخل عليك إلا بإذن، ما أقمت على ذلك حتى تغير، ومن غير فلا عهد له ولا لمن لم يسلمه وكتب وشهد

فتح قومس
قالوا: ولما كتب نعيم بفتح الري مع المضارب العجلي، ووفد بالأخماس كتب إليه عمر: أن قدم سويد بْن مقرن إلى قومس، وابعث على مقدمته سماك بْن مخرمة وعلى مجنبتيه عتيبة بْن النهاس وهند بْن عمرو الجملي، ففصل سويد بْن مقرن في تعبيته من الري نحو قومس، فلم يقم له أحد، فأخذها سلما، وعسكر بها، فلما شربوا من نهر لهم يقال له ملاذ، فشا فيهم القصر، فقال لهم سويد: غيروا ماءكم حتى تعودوا كاهله، ففعلوا،

(4/151)


واستمرءوه، وكاتبه الذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والذين أخذوا المفاوز، فدعاهم إلى الصلح والجزاء، وكتب لهم:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى سويد بْن مقرن أهل قومس ومن حشوا من الأمان على أنفسهم ومللهم وأموالهم، على أن يؤدوا الجزية عن يد، عن كل حالم بقدر طاقته، وعلى أن ينصحوا ولا يغشوا، وعلى أن يدلوا، وعليهم نزل من نزل بهم من المسلمين يوما وليلة من أوسط طعامهم، وإن بدلوا واستخفوا بعهدهم فالذمة منهم بريئة وكتب وشهد.

فتح جرجان
قالوا: وعسكر سويد بْن مقرن ببسطام، وكاتب ملك جرجان رزبان صول ثم سار إليها، وكاتبه رزبان صول، وبادره بالصلح على أن يؤدي الجزاء، ويكفيه حرب جرجان، فإن غلب أعانه فقبل ذلك منه، وتلقاه رزبان صول قبل دخول سويد جرجان، فدخل معه، وعسكر بها حتى جبى إليه الخراج، وسمى فروجها، فسدها بترك دهستان، فرفع الجزاء عمن أقام يمنعها، وأخذ الخراج من سائر أهلها، وكتب بينهم وبينه كتابا:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ سويد بْن مقرن لرزبان صول ابن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل ولا غل، ومن أقام فيهم فله مثل ما لهم، ومن خرج فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، وعلى أن من سب مسلما بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه شهد سواد بْن قطبة، وهند بْن عمرو، وسماك بْن مخرمة، وعتيبة بْن النهاس وكتب في سنة ثمان عشره

(4/152)


وأما المدائني، فإنه قال- فيما حَدَّثَنَا أبو زيد، عنه: فتحت جرجان في زمن عثمان سنة ثلاثين.

فتح طبرستان
قالوا: وأرسل الإصبهبذ سويدا في الصلح، على أن يتوادعا، ويجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد، فقبل ذلك منه، وجرى ذلك لهم، وكتب له كتابا:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ سويد بْن مقرن للفرخان إصبهبذ خراسان على طبرستان وجيل جيلان من أهل العدو، إنك آمن بأمان اللَّه عز وجل على أن تكف لصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوى لنا بغيه، وتنقى من ولى فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا يتطرق أرضك، ولا يدخل عليك إلا بإذنك، سبيلنا عليكم بالإذن آمنة، وكذلك سبيلكم، ولا تؤوون لنا بغية، ولا تسلون لنا إلى عدو، ولا تغلون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم شهد سواد بْن قطبة التميمي، وهند بْن عمرو المرادي، وسماك بْن مخرمة الأسدي، وسماك بن عبيد العبسى، وعتيبة بن النهاس البكرى وكتب سنه ثمان عشرة.

فتح أذربيجان
قال: ولما افتتح نعيم همذان ثانية، وسار إلى الري من واج روذ، كتب إليه عمر: أن يبعث سماك بْن خرشة الأنصاري ممدا لبكير بْن عبد اللَّه بأذربيجان، فأخر ذلك حتى افتتح الري، ثم سرحه من الري، فسار سماك نحو بكير بأذربيجان، وكان سماك بْن خرشة وعتبة بن فرقد

(4/153)


من أغنياء العرب، وقدما الكوفة بالغنى، وقد كان بكير سار حين بعث إليها، حتى إذا طلع بحيال جرميذان- طلع عليهم إسفندياذ بن الفرخزاد مهزوما من واج روذ، فكان أول قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم اللَّه جنده، وأخذ بكير إسفندياذ أسيرا، فقال له إسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح، قال: فأمسكني عندك، فإن أهل أذربيجان إن لم اصالح عليهم او أجيء لم يقيموا لك، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم ومن كان على التحصن تحصن إلى يوم ما، فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن وقدم عليه سماك بْن خرشة ممدا وإسفندياذ في إساره، وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بْن فرقد ما يليه وقال بكير لسماك مقدمه عليه، ومازحه: ما الذي أصنع بك وبعتبة بأغنيين؟ لئن أطعت ما في نفسي لأمضين قدما ولأخلفنكما، فإن شئت أقمت معي، وإن شئت أتيت عتبة فقد أذنت لك، فإني لا أراني إلا تارككما وطالبا وجها هو أكره من هذا.
فاستعفى عمر، فكتب إليه بالإذن على أن يتقدم نحو الباب، وأمره أن يستخلف على عمله، فاستخلف عتبة على الذي افتتح منها، ومضى قدما، ودفع إسفندياذ إلى عتبة، فضمه عتبة إليه، وأمر عتبة سماك بْن خرشة- وليس بأبي دجانة- على عمل بكير الذي كان افتتح، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بْن فرقد.
قالوا: وقد كان بهرام بن الفرخزاد أخذ بطريق عتبة بْن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فهزمه عتبة، وهرب بهرام.
فلما بلغ الخبر بهزيمة بهرام ومهربه إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال: الآن تم الصلح، وطفئت الحرب، فصالحه، وأجاب إلى ذلك كلهم، وعادت أذربيجان سلما، وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر، وبعثوا بما خمسوا مما أفاء اللَّه عليهم، ووفدوا الوفود بذلك، وكان بكير قد سبق عتبة بفتح ما ولي، وتم الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام وكتب عتبة بينه

(4/154)


وبين أهل أذربيجان كتابا حيث جمع له عمل بكير إلى عمله:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عتبة بْن فرقد، عامل عمر بْن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان- سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها- كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلالته، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه وكتب جندب، وشهد بكير بْن عبد اللَّه الليثي وسماك بْن خرشة الأنصاري وكتب في سنة ثمان عشرة.
قالوا: وفيها، قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهداه له، وذلك أن عمر كان يأخذ عماله بموافاة الموسم في كل سنة يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه

فتح الباب
وفي هذه السنة كان فتح الباب في قول سيف وروايته، قال: وقالوا- يعني الذين ذكرت أسماءهم قبل: رد عمر أبا موسى الى البصره، ورده سراقة بْن عمرو- وكان يدعى ذا النور- إلى الباب، وجعل على مقدمته عبد الرحمن بْن ربيعة- وكان أيضا يدعى ذا النور- وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بْن أسيد الغفاري، وسمى للأخرى بكير بْن عبد اللَّه الليثي- وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة بْن عمرو عليه، وكتب إليه أن يلحق به-

(4/155)


وجعل على المقاسم سلمان بْن ربيعة فقدم سراقة عبد الرحمن بْن ربيعة، وخرج في الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب، قدم على بكير في أداني الباب، فاستدف ببكير، ودخل بلاد الباب على ما عباه عمر.
وأمده عمر بحبيب بْن مسلمة، صرفه إليه من الجزيرة، وبعث زياد بْن حنظلة مكانه على الجزيرة ولما أطل عبد الرحمن بْن ربيعة على الملك بالباب- والملك بها يومئذ شهربراز، رجل من أهل فارس، وكان على ذلك الفرج، وكان أصله من أهل شهربراز الملك الذي أفسد بني إسرائيل، وأعرى الشام منهم- فكاتبه شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل فأتاه، فقال:
إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة، لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين أمثال هؤلاء، ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذي الحسب حيث كان، ولست من القبج في شيء، ولا من الأرمن، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا اليوم منكم ويدي مع أيديكم، وصغوي معكم، وبارك اللَّه لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم، والقيام بما تحبون، فلا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم.
فقال عبد الرحمن: فوقي رجل قد أظلك فسر إليه، فجوزه، فسار إلى سراقة فلقيه بمثل ذلك، فقال سراقة: قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بد من الجزاء ممن يقيم ولا ينهض فقبل ذلك، وصار سنة فيمن كان يحارب العدو من المشركين، وفيمن لم يكن عنده الجزاء، إلا أن يستنفروا فتوضع عنهم جزاء تلك السنة وكتب سراقة إلى عمر بْن الخطاب بذلك، فأجازه وحسنه، وليس لتلك البلاد التي في ساحة تلك الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلا على أوفاز، وإنما هم سكان ممن حولها ومن الطراء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم، وجلوا عن قرار أرضهم، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم، واكتتبوا من سراقة بْن عمرو كتابا:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى سراقة بْن عمرو عامل أمير المؤمنين

(4/156)


عمر بن الخطاب شهربراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم الا يضاروا ولا ينتقضوا، وعلى اهل أرمينية والأبواب، الطراء منهم والتناء ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينسب رآه الوالي صلاحا، على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك إلا الحشر، والحشر عوض من جزائهم ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنزل يوما كاملا، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، وإن تركوا أخذوا به شهد عبد الرحمن بْن ربيعة، وسلمان بْن ربيعة، وبكير بْن عبد اللَّه وكتب مرضي بْن مقرن وشهد ووجه سراقة بعد ذلك بكير بْن عبد اللَّه وحبيب بْن مسلمة وحذيفة بْن أسيد وسلمان بْن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجه بكيرا إلى موقان، ووجه حبيبا إلى تفليس، وحذيفة بْن أسيد إلى من بجبال اللان، وسلمان بْن ربيعة إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبالذي وجه فيه هؤلاء النفر إلى عمر بْن الخطاب، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتم له على ما خرج عليه في سريح بغير مئونة وكان فرجا عظيما به جند عظيم، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها.
فلما استوسقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، وقد مضى أولئك القواد الذين بعثهم سراقة، فلم يفتح أحد منهم ما وجه له إلا بكير فإنه فض موقان، ثم تراجعوا على الجزية، فكتب لهم:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى بكير بْن عبد الله اهل موقان من جبال القبج الأمان على أموالهم وأنفسهم وملتهم وشرائعهم على الجزاء، دينار على كل حالم أو قيمته، والنصح، ودلالة المسلم ونزله يومه وليلته، فلهم الأمان ما أقروا ونصحوا، وعلينا الوفاء، والله المستعان فإن تركوا ذلك واستبان منهم غش فلا أمان لهم إلا أن يسلموا الغششة برمتهم، وإلا فهم متمالئون شهد الشماخ بْن ضرار والرسارس بْن جنادب، وحملة بْن جوية.
وكتب سنة إحدى وعشرين

(4/157)


قالوا: ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بْن ربيعة أقر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك، فخرج عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر، قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب قال: لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم، وتالله إن معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الردم قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول اللَّه ص ودخلوا في هذا الأمر بنية، كانوا أصحاب حياء وتكرم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرمهم، فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم بمن غيرهم فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر لم تئم فيها امرأة، ولم ييتم فيها صبي، وبلغ خيله في غزاتها البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم، ثم غزا غزوات في زمان عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدل أهل الكوفة في إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتد استصلاحا لهم، فلم يصلحهم ذلك، وزادهم فسادا أن سادهم من طلب الدنيا، وعضلوا بعثمان حتى جعل يتمثل:
وكنت وعمرا كالمسمن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بْن ربيعة، قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بْن ربيعة حال اللَّه بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل الا ومعه الملائكة تمنعه من الموت، فتحصنوا منه وهربوا، فرجع بالغنم والظفر، وذلك في إمارة عمر، ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان، ظفر كما كان يظفر، حتى إذا تبدل أهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتد فغزاهم بعد ذلك، تذامرت الترك وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون، قال: انظروا، وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من

(4/158)


المسلمين على غرة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك، فاقتتلوا فاشتد قتالهم، ونادى مناد من الجو: صبرا آل عبد الرحمن وموعدكم الجنة! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس، وأخذ الراية سلمان بْن ربيعة، فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو: صبرا آل سلمان ابن ربيعة! فقال سلمان: أو ترى جزعا! ثم خرج بالناس، وخرج سلمان وأبو هريرة الدوسي على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن.
وحدث عمرو بْن معد يكرب عن مطر بْن ثلج التميمي، قال: دخلت على عبد الرحمن بْن ربيعة بالباب وشهربراز عنده، فأقبل رجل عليه شحوبة، حتى دخل على عبد الرحمن، فجلس إلى شهربراز، وعلى مطر قباء برود يمينية، أرضه حمراء، ووشيه أسود- أو وشيه أحمر- وأرضه سوداء، فتساءلا.
ثم إن شهربراز، قال: أيها الأمير، أتدري من أين جاء هذا الرجل؟
هذا الرجل بعثته منذ سنين نحو السد لينظر ما حاله ومن دونه، وزودته مالا عظيما، وكتبت له إلى من يليني، وأهديت له، وسألته أن يكتب له إلى من وراءه، وزودته لكل ملك هدية، ففعل ذلك بكل ملك بينه وبينه، حتى انتهى إليه، فانتهى إلى الملك الذي السد في ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فأعطاه حريرة، قال: فتشكر لي البازيار، فلما انتهينا فإذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك كله، وتفرست فيه، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي البازيار: على رسلك أكافك! إنه لا يلي ملك بعد ملك إلا تقرب إلى اللَّه بأفضل ما عنده من الدنيا، فيرمي به في هذا اللهب، فشرح بضعة لحم معه، فألقاها في ذلك الهواء، وانقضت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء، فخرجت علينا العقاب باللحم في مخالبها، وإذا فيه ياقوتة، فأعطانيها،

(4/159)


وها هي هذه فتناولها شهربراز حمراء، فناولها عبد الرحمن، فنظر إليها، ثم ردها إلى شهربراز، وقال شهربراز: لهذه خير من هذا البلد- يعني الباب- وايم اللَّه لأنتم أحب إلي ملكة من آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني، وايم اللَّه لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر.
فأقبل عبد الرحمن على الرسول، وقال: ما حال هذا الردم وما شبهه؟
فقال: هذا الثوب الذي على هذا الرجل، قال: فنظر إلى ثوبي، فقال مطر بْن ثلج لعبد الرحمن بْن ربيعة: صدق والله الرجل، لقد نفذ ورأى، فقال: أجل، وصف صفة الحديد والصفر، وقال: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» إلى آخر الآية.
وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديتك؟ قال: قيمة مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان.
وزعم الواقدي أن معاوية غزا الصائفة في هذه السنة، ودخل بلاد الروم في عشرة آلاف من المسلمين
. [أخبار متفرقة]
وقال بعضهم: في هذه السنة كانت وفاة خالد بْن الوليد.
وفيها ولد يزيد بْن معاوية وعبد الملك بْن مروان.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بْن الخطاب، وكان عامله على مكة عتاب بْن أسيد، وعلى اليمن يعلى بْن أمية، وعلى سائر أمصار المسلمين الذين كانوا عماله في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل
. ذكر تعديل الفتوح بين اهل الكوفه والبصره
وفي هذه السنة عدل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم.
ذكر الخبر بذلك:
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو، وَسَعِيدٍ، قَالُوا: أَقَامَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَامِلا عَلَى الْكُوفَةِ سَنَةً في اماره

(4/160)


عُمَرَ وَبَعْضَ أُخْرَى وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ سُرَاقَةَ وهو يومئذ على البصره الى عمر ابن الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ كَثْرَةَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَجْزَ خَرَاجِهِمْ عَنْهُمْ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يُزِيدَهُمْ أَحَدَ الْمَاهَيْنِ أَوْ مَاسَبَذَانَ وَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَقَالُوا لِعَمَّارٍ: اكْتُبْ لَنَا إِلَى عُمَرَ أَنَّ رَامَهُرْمُزَ وَإِيذَجَ لَنَا دُونَهُمْ، لَمْ يُعِينُونَا عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِنَا حَتَّى افْتَتَحْنَاهُمَا، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَا لِي وَلِمَا هَاهُنَا! فَقَالَ لَهُ عُطَارِدٌ: فَعَلامَ تَدَعُ فَيْئَنَا أَيُّهَا الْعَبْدُ الأَجْدَعُ! فَقَالَ: لَقَدْ سَبَبْتَ أَحَبَّ أُذُنَيَّ إِلَيَّ وَلَمْ يَكْتُبْ فِي ذَلِكَ فَأَبْغَضُوهُ، وَلَمَّا أَبَى أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلا الْخُصُومَةَ فِيهِمَا لأَهْلِ الْبَصْرَةِ شَهِدَ لَهُمْ أَقْوَامٌ عَلَى أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَمَّنَ أَهْلَ رَامَهُرْمُزَ وَإِيذَجَ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَالنُّعْمَانِ رَاسَلُوهُمْ وَهُمْ فِي أَمَانٍ فَأَجَازَ لَهُمْ عُمَرُ ذَلِكَ، وَأَجْرَاهَا لأَهْلِ الْبَصْرَةِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَادَّعَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي إِصْبَهَانَ قَرْيَاتٍ افْتَتَحَهَا أَبُو مُوسَى دُونَ جَيٍّ، أَيَّامَ أَمَدَّهُمْ بِهِمْ عُمَرُ إِلَى عَبْدِ اللَّه بْن عَبْدِ اللَّه بْنِ عُتْبَانَ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: أَتَيْتُمُونَا مَدَدًا وَقَدِ افْتَتَحْنَا الْبِلادَ، فَآسَيْنَاكُمْ فِي الْمَغَانِمِ، وَالذِّمَّةُ ذِمَّتُنَا، وَالأَرْضُ أَرْضُنَا، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقُوا ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الأَيَّامِ وَأَهْلَ الْقَادِسِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَخَذُوا فِي أَمْرٍ آخَرَ حَتَّى قَالُوا: فَلْيُعْطُونَا نَصِيبَنَا مِمَّا نَحْنُ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهِ مِنْ سَوَادِهِمْ وَحَوَاشِيهِ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَتَرْضَوْنَ بِمَاهٍ؟ وَقَالَ لأَهْلِ الْكُوفَةِ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ نُعْطِيَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدِ الْمَاهَيْنِ؟ فَقَالُوا: مَا رَأَيْتَ أَنَّهُ يَنْبَغِي فَاعْمَلْ بِهِ، فَأَعْطَاهُمْ مَاهَ دِينَارٍ بِنَصِيبِهِمْ لِمَنْ كَانَ شَهِدَ الأَيَّامَ وَالْقَادِسِيَّةَ مِنْهُمْ إِلَى سواد البصره ومهرجانقذق، وَكَانَ ذَلِكَ لِمَنْ شَهِدَ الأَيَّامَ وَالْقَادِسِيَّةَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ- وَكَانَ مُعَاوِيَةُ هُوَ الَّذِي جَنَّدَ قِنَّسْرِينَ من رافضه العراقين ايام على، وانما كانت قنسرين رستاقا مِنْ رَسَاتِيقِ حِمْصَ حَتَّى مَصَّرَهَا مُعَاوِيَةُ وَجَنَّدَهَا بمن ترك الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَخَذَ لَهُمْ مُعَاوِيَةُ بِنَصِيبِهِمْ مِنْ فُتُوحِ الْعِرَاقِ أَذْرَبَيْجَانَ وَالْمَوْصِلَ وَالْبَابَ، فَضَمَّهَا فِيمَا ضَمَّ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ يَوْمَئِذٍ نَاقِلَةً رُمِيَتَا بِكُلِّ مَنْ كَانَ تَرَكَ هِجْرَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلْدَيْنِ، وَكَانَتِ الْبَابُ واذربيجان والجزيرة

(4/161)


وَالْمَوْصِلُ مِنْ فُتُوحِ أَهْلِ الْكُوفَةِ- نَقَلَ ذَلِكَ إِلَى مَنِ انْتَقَلَ مِنْهُمْ إِلَى الشَّامِ أَزْمَانَ عَلِيٍّ، وَإِلَى مَنْ رُمِيَتْ بِهِ الْجَزِيرَةُ وَالْمَوْصِلُ مِمَّنْ كَانَ تَرَكَ هِجْرَتَهُ أَيَّامَ عَلِيٍّ، وَكَفَرَ أَهْلُ أَرْمِينِيَّةَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ أَمَّرَ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ عَلَى الْبَابِ- وَحَبِيبٌ يَوْمَئِذٍ بِجَرْزَانَ- وَكَاتَبَ أَهْلُ تَفْلِيسَ وَتِلْكَ الْجِبَالِ، ثُمَّ نَاجَزَهُمْ، حَتَّى اسْتَجَابُوا وَاعْتَقَدُوا مِنْ حَبِيبٍ وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا بَعْدَ مَا كَاتَبَهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ إِلَى اهل تفليس من جرزان ارض الهرمز وسلم أَنْتُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكُمُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، فَإِنَّهُ قَدْ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُكُمْ تَفَلَّى، فَبَلَّغَ عَنْكُمْ، وَأَدَّى الَّذِي بَعَثْتُمْ وَذَكَرَ تَفَلَّى عَنْكُمْ أَنَّا لَمْ نَكُنْ أُمَّةً فِيمَا تَحْسَبُونَ، وَكَذَلِكَ كُنَّا حَتَّى هَدَانَا اللَّهُ عز وجل بمحمد ص، وَأَعَزَّنَا بِالإِسْلامِ بَعْدَ قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ وَذَكَرَ تفلى أَنَّكُمْ أَحْبَبْتُمْ سِلْمَنَا فَمَا كَرِهْتُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعِي، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُزْءٍ السُّلَمِيَّ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَأَهْلِ الْقُرْآنِ، وَبَعَثْتُ مَعَهُ بِكِتَابِي بِأَمَانِكُمْ، فَإِنْ رَضِيتُمْ دَفَعَهُ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ آذَنَكُمْ بِحَرْبٍ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّه لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ لأَهْلِ تَفْلِيسَ مِنْ جُرْزَانِ أَرْضِ الْهُرْمُزِ، بِالأَمَانِ عَلَى انفسكم وأموالكم وَصَوَامِعِكُمْ وَبِيَعِكُمْ وَصَلَوَاتِكُمْ، عَلَى الإِقْرَارِ بِصِغَارِ الْجِزْيَةِ، عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ دِينَارٌ وَافٍ، وَلَنَا نُصْحُكُمْ وَنَصْرُكُمْ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّنَا، وَقِرَى الْمُجْتَازِ لَيْلَةً مِنْ حَلالِ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَلالِ شَرَابِهِمْ، وَهِدَايَةِ الطَّرِيقِ فِي غَيْرِ مَا يَضُرُّ فِيهِ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ.
فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ وَأَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، فَإِخْوَانُنَا فِي الدِّينِ وَمَوَالِينَا، وَمَنْ تَوَلَّى عَنِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَحِزْبِهِ فَقَدْ آذَنَّاكُمْ بِحَرْبٍ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّه لا يحب

(4/162)


الْخَائِنِينَ شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، وَالْحَجَّاجُ، وعياض وكتب رياح، وَأُشْهِدُ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَكَفَى بِاللَّهِ شهيدا
. ذكر عزل عمار عن الكوفه
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَمَّارًا عَنِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي ذَلِكَ قَبْلُ.
ذِكْرُ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ:
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرِي بَعْضَ سَبَبِ عَزْلِهِ، وَنَذْكُرُ بَقِيَّتَهُ ذَكَرَ السَّرِيُّ- فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ- عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرِي مِنْ شُيُوخِهِ، قَالَ: قَالُوا: وَكَتَبَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، عُطَارِدٌ ذَلِكَ وَأُنَاسٌ مَعَهُ إِلَى عُمَرَ فِي عَمَّارٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَيْسَ بِأَمِيرٍ، وَلا يَحْتَمِلُ مَا هُوَ فِيهِ، وَنَزَا بِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَمَّارٍ: أَنْ أَقْبِلْ، فَخَرَجَ بوفد من اهل الكوفه، ووفد رجالا ممن يرى انهم مَعَهُ، فَكَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِمَّنْ تَخَلَّفَ، فَجَزِعَ فَقِيلَ لَهُ:
يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، مَا هَذَا الْجَزَعُ! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَحْمَدُ نَفْسِي عَلَيْهِ، وَلَقَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ- وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَمُّ الْمُخْتَارِ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَعَهُ- فَسَعِيَا بِهِ، وَأَخْبَرَا عُمَرَ بِأَشْيَاءَ يَكْرَهُهَا، فَعَزَلَهُ عُمَرُ وَلَمْ يُوَلِّهِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قِيلَ لِعَمَّارٍ: أَسَاءَكَ الْعَزْلُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَرَّنِي حِينَ اسْتُعْمِلْتُ، وَلَقَدْ سَاءَنِي حِينَ عُزِلْتُ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَمُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لأَهْلِ الْكُوفَةِ: أَيُّ مَنْزِلَيْكُمْ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ؟ - يَعْنِيَ الْكُوفَةَ أَوِ الْمَدَائِنَ- وَقَالَ: إِنِّي لأَسْأَلُكُمْ وَإِنِّي لأَعْرِفُ فَضْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ فِي وُجُوهِكُمْ، فَقَالَ جَرُيرٌ: أَمَّا مَنْزِلُنَا هَذَا الأَدْنَى فَإِنَّهُ أَدْنَى مَحِلَّةً مِنَ السَّوَادِ مِنَ الْبَرِّ، وَأَمَّا الآخَرُ فَوَعْكُ الْبَحْرِ وَغَمُّهُ وَبَعُوضُهُ

(4/163)


فَقَالَ عَمَّارٌ: كَذَبْتَ، فَقَالَ عُمَرُ لِعَمَّارٍ: بَلْ أَنْتَ أَكْذَبُ مِنْهُ، وَقَالَ:
مَا تَعْرِفُونَ مَنْ أَمِيرُكُمْ عَمَّارٍ؟ فَقَالَ جَرِيرٌ: هُوَ وَاللَّهِ غَيْرُ كَافٍ وَلا مُجْزٍ وَلا عَالِمٍ بِالسِّيَاسَةِ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زَكَرِيَّاءَ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثَّقَفِيِّ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: والله ما يدرى علام استعملته! فَقَالَ عُمَرُ: عَلامَ اسْتَعْمَلْتُكَ يَا عَمَّارُ؟ قَالَ: على الحيرة وأرضها فقال: قد سمعت بِالْحِيرَةِ تُجَّارًا تَخْتَلِفُ إِلَيْهَا، قَالَ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: عَلَى بَابِلَ وَأَرْضِهَا، قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ بِذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ.
قَالَ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَدَائِنِ وَمَا حَوْلَهَا، قَالَ: أَمَدَائِنُ كِسْرَى؟
قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَعَلَى أَيِّ شيء؟ قال: على مهرجانقذق وَأَرْضِهَا.
قَالُوا: قَدْ أَخْبَرْنَاكَ أَنَّهُ لا يَدْرِي عَلامَ بَعَثْتَهُ! فَعَزَلَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ دَعَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَسَاءَكَ حِينَ عَزَلْتُكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا فَرِحْتُ بِهِ حِينَ بَعَثْتَنِي، وَلَقَدْ سَاءَنِي حِينَ عَزَلْتَنِي فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا أَنْتَ بِصَاحِبِ عَمَلٍ، وَلَكِنِّي تَأَوَّلْتُ: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» .
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ ذَفَرَةَ النَّمَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ بمثله وزياده، فقال: او تحمد نَفْسَكَ بِمَعْرِفَةِ مَنْ تُعَالِجُهُ مُنْذُ قَدِمْت! وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا عَمَّارُ لا يَنْتَهِي بِكِ حَدُّكَ حَتَّى يُلْقِيَكَ فِي هَنَةٍ، وَتَاللَّهِ لَئِنْ أَدْرَكَكَ عُمَرُ لَتَرِقَّنَّ، وَلَئِنْ رَقَقْتَ لَتَبْتَلِيَنَّ، فَسَلِ اللَّهَ الْمَوْتَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: مَنْ تُرِيدُونَ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ؟
فَقَالُوا: أَبَا مُوسَى فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عَمَّارٍ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ سَنَةً، فَبَاعَ غُلامَهُ

(4/164)


الْعِلْفَ وَسَمِعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، يَقُولُ: ما صحبت قوما قط الا آثرتهم، وو الله مَا مَنَعَنِي أَنْ أُكَذِّبَ شُهُودَ الْبَصْرَةِ إِلا صُحْبَتُهُمْ، وَلَئِنْ صَحِبْتُكُمْ لأَمْنَحَنَّكُمْ خَيْرًا فَقَالَ الْوَلِيدُ: مَا ذَهَبَ بِأَرْضِنَا غَيْرُكَ، وَلا جَرَمَ لا تَعْمَلْ عَلَيْنَا فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ نَفَرٌ، فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا فِي أَبِي مُوسَى، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: غُلامٌ لَهُ يَتْجَرُ فِي حَشْرِنَا فَعَزَلَهُ عَنْهُمْ وَصَرَفَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَصَرَفَ عُمَرَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَقَالَ لأَصْحَابِ أَبِي مُوسَى الَّذِينَ شَخَصُوا فِي عَزْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: أَقَوِيٌّ مُشَدِّدٌ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ ضَعِيفٌ مُؤْمِنٌ؟ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا، فَتَنَحَّى، فَخَلا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَنَامَ فَأَتَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَكَلأَهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلا مِنْ عَظِيمٍ، فَهَلْ نَابَكَ مِنْ نَائِبٍ؟ قَالَ: وَأَيُّ نَائِبٍ أَعْظَمَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ لا يَرْضَوْنَ عَنْ أَمِيرٍ، وَلا يَرْضَى عَنْهُمْ أَمِيرٌ! وَقَالَ فِي ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَاخْتَطَّتِ الْكُوفَةُ حِينَ اخْتَطَّتْ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: شَأْنِي أَهْلُ الْكُوفَةِ قَدْ عَضِلُوا بِي.
وَأَعَادَ عليهم عمر المشورة التي استشار فيها، فَأَجَابَهُ الْمُغِيرَةُ فَقَالَ: أَمَّا الضَّعِيفُ الْمُسْلِمُ فَضَعْفُهُ عَلَيْكَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفَضْلُهُ لَهُ، وَأَمَّا الْقَوِيُّ الْمُشَدِّدُ فَقُوَّتُهُ لَكَ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَشِدَادُهُ عَلَيْهِ وَلَهُ فَبَعَثَهُ عَلَيْهِمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ عُمَرَ قَالَ قَبْلَ أَنِ اسْتَعْمَلَ الْمُغِيرَةَ: مَا تَقُولُونَ فِي تَوْلِيَةِ رَجُلٍ ضَعِيفٍ مُسْلِمٍ أَوْ رَجُلٍ قَوِيٍّ مُشَدِّدٍ؟ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَمَّا الضَّعِيفُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّ إِسْلامَهُ لنِفَسْهِ وَضَعْفَهُ عَلَيْكَ، وَأَمَّا الْقَوِيُّ الْمُشَدِّدُ فَإِنَّ شِدَادَهُ لِنَفْسِهِ وَقُوَّتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَإِنَّا بَاعِثُوكَ يَا مُغِيرَةُ فَكَانَ الْمُغِيرَةُ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ سَنَتَيْنِ وَزِيَادَةٍ فَلَمَّا وَدَّعَهُ الْمُغِيرَةُ لِلذَّهَابِ إِلَى الْكُوفَةِ، قَالَ لَهُ: يَا مُغِيرَةُ لِيَأْمَنْكَ الأَبْرَارُ، وَلْيَخَفْكَ الْفُجَّارُ.
ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَبْعَثَ سَعْدًا عَلَى عَمَلِ الْمُغِيرَةِ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَهُ، فَأَوْصَى بِهِ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ عُمَرَ وَسِيرَتِهِ أَنْ يَأْخُذَ عُمَّالَهُ بِمُوَافَاةِ الْحَجِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ

(4/165)


لِلسِّيَاسَةِ، وَلِيَحْجِزَهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَلِيَكُونَ لِشَكَاةِ الرعية وقتا وَغَايَةٌ يُنْهُونَهَا فِيهِ إِلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ- فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ خُرَاسَانَ- وَحَارَبَ يَزْدَجَرْدَ، وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ سَيْفٍ فَإِنَّ خُرُوجَ الأَحْنَفِ إِلَى خُرَاسَانَ كَانَ فِي سنه ثمان عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ

ذكر مصير يزدجرد إلى خراسان وما كان السبب في ذلك
اختلف أهل السير في سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه، فأما ما ذكره سيف عن أصحابه في ذلك، فإنه فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: كان يزدجرد بْن شهريار بْن كسرى- وهو يومئذ ملك فارس- لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الري، وقد جعل له محمل واحد يطبق ظهر بعيره، فكان إذا سار نام فيه ولم يعرس بالقوم فانتهوا به إلى مخاضة وهو نائم في محمله، فأنبهوه ليعلم، ولئلا يفزع إذا خاض البعير إن هو استيقظ، فعنفهم وقال: بئسما صنعتم! والله لو تركتموني لعلمت ما مدة هذه الأمة، إني رأيت أني ومحمدا تناجينا عند اللَّه، فقال له: أملكهم مائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرا ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرين ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: لك.
وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت ما مدة هذه الأمة.
فلما انتهى إلى الري، وعليها آبان جاذويه، وثب عليه فأخذه، فقال:
يا آبان جاذويه، تغدر بي! قال: لا، ولكن قد تركت ملكك، وصار في يد غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء، وما أردت غير ذلك وأخذ خاتم يزدجرد ووصل الأدم، واكتتب الصكاك وسجل السجلات بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها ورد الخاتم ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شيء في كتابه ولما صنع آبان جاذويه بيزدجرد ما صنع

(4/166)


خرج يزدجرد من الري إلى إصبهان، وكره آبان جاذويه، فَارًّا مِنْهُ وَلَمْ يَأْمَنْهُ ثُمَّ عَزَمَ على كرمان، فأتاها والنار معه، فأراد أن يضعها في كرمان، ثم عزم على خراسان، فأتى مرو، فنزلها وقد نقل النار، فبنى لها بيتا واتخذ بستانا، وبنى أزجا فرسخين من مرو إلى البستان، فكان على رأس فرسخين من مرو، واطمأن في نفسه وأمن أن يؤتى، وكاتب من مرو من بقي من الأعاجم فيما لم يفتتحه المسلمون، فدانوا له، حتى أثار أهل فارس والهرمزان فنكثوا، وثار أهل الجبال والفيرزان فنكثوا، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر للمسلمين في الانسياح، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا في الأرض، فخرج الأحنف إلى خراسان، فاخذ على مهرجانقذق، ثم خرج إلى إصبهان- وأهل الكوفة محاصرو جي- فدخل خراسان من الطبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بْن فلان العبدي ثم سار نحو مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور- وليس دونها قتال- مطرف بْن عبد اللَّه بْن الشخير والحارث بْن حسان إلى سرخس، فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد وهو بمرو الروذ إلى خاقان يستمده، وكتب إلى ملك الصغد يستمده، فخرج رسولاه نحو خاقان وملك الصغد، وكتب إلى ملك الصين يستعينه، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان، واستخلف عليها حاتم بْن النعمان الباهلي بعد ما لحقت به أمداد أهل الكوفة، على أربعة أمراء: علقمة بْن النضر النضري، وربعي بْن عامر التميمي، وعبد اللَّه بْن أبي عقيل الثقفي، وابن أم غزال الهمذاني، وخرج سائرا نحو مرو الروذ، حتى إذا بلغ ذلك يزدجرد خرج إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة، فساروا إلى بلخ، واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فهزم اللَّه يزدجرد، وتوجه في أهل فارس إلى النهر فعبر، ولحق الأحنف باهل

(4/167)


الكوفة، وقد فتح اللَّه عليهم، فبلخ من فتوح أهل الكوفة وتتابع أهل خراسان ممن شذ أو تحصن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ممن كان في مملكة كسرى، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ، فنزلها واستخلف على طخارستان ربعي بْن عامر، وهو الذي يقول فيه النجاشي- ونسبه إلى أمه، وكانت من أشراف العرب:
ألا رب من يدعى فتى ليس بالفتى ... ألا إن ربعي ابن كأس هو الفتى
طويل قعود القوم في قعر بيته ... إذا شبعوا من ثفل جفتته سقى
كتب الأحنف إلى عمر بفتح خراسان، فقال: لوددت أني لم أكن بعثت إليها جندا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار، فقال علي:
ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات، فيجتاحون في الثالثة، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلي من أن يكون بالمسلمين.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيِّ، عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ اليشكري، [عن على بن ابى طالب ع، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ عَلَى فَتْحِ خُرَاسَانَ، قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا بَحْرًا مِنْ نَارٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: وَمَا يَشْتَدُّ عَلَيْكَ مِنْ فَتْحِهَا! فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَوْضِعُ سُرُورٍ،] قَالَ: أَجَلْ وَلَكِنِّي حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُدْعَى الْوَازِعَ بْنَ زَيْدِ بْنِ خُلَيْدَةَ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ عُمَرُ غَلَبَةَ الأَحْنَفِ عَلَى الْمَرْوَيْنِ وَبَلْخَ، قَالَ: وَهُوَ الأَحْنَفُ، وَهُوَ سَيِّدُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ الْمُسَمَّى بِغَيْرِ اسْمِهِ وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الأَحْنَفِ: أَمَّا بَعْدُ، فَلا تَجُوزَنَّ النَّهْرَ وَاقْتَصِرْ عَلَى مَا دُونَهُ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ بِأَيِّ شَيْءٍ دَخَلْتُمْ عَلَى خُرَاسَانَ، فَدَاوِمُوا عَلَى الَّذِي دَخَلْتُمْ بِهِ خُرَاسَانَ يَدُمْ لَكُمُ النَّصْرُ، وإياكم ان تعبروا فتفضوا ولما بلغ رسولا يَزْدَجَرْد خَاقَان وَغَوْزَك، لَمْ يَسْتَتِبْ لَهُمَا إِنْجَادُهُ حتى عبر

(4/168)


إِلَيْهِمَا النَّهْرَ مَهْزُومًا، وَقَدِ اسْتَتَبَ فَأَنْجَدَهُ خَاقَانُ- وَالْمُلُوكُ تَرَى عَلَى أَنْفُسِهَا إِنْجَادَ الْمُلُوكِ- فَأَقْبَلَ فِي التُّرْكِ، وَحَشَرَ أَهْلُ فَرْغَانَةَ وَالصُّغْدِ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ، وَخَرَجَ يَزْدَجَرْدُ رَاجِعًا إِلَى خُرَاسَانَ، حَتَّى عَبَرَ إِلَى بَلْخَ، وَعَبَرَ مَعَهُ خَاقَانُ، فَأَرَزَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ إِلَى الأَحْنَفِ، وَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَلْخَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الأَحْنَفِ بِمَرْوِ الرُّوذِ وَكَانَ الأَحْنَفُ حِينَ بلغه عبور خاقان والصغد نهر بَلْخَ غَازِيًا لَهُ، خَرَجَ فِي عَسْكَرِهِ لَيْلا يَتَسَمَّعُ: هَلْ يَسْمَعُ بِرَأْيٍ يَنْتَفِعُ بِهِ؟ فَمَرَّ بِرَجُلَيْنِ يُنَقِّيَانِ عَلَفًا، إِمَّا تِبْنًا وَإِمَّا شَعِيرًا، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ:
لَوْ أَنَّ الأَمِيرَ أَسْنَدَنَا إِلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَكَانَ النَّهْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا خَنْدَقًا، وَكَانَ الْجَبَلُ فِي ظُهُورِنَا مِنْ أَنْ نُؤْتَى مِنْ خَلْفِنَا، وَكَانَ قِتَالُنَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ رَجَوْتُ أَنْ يَنْصُرَنَا اللَّهُ فَرَجَعَ وَاجْتَزَأَ بِهَا، وَكَانَ فِي لَيْلَةٍ مِظْلِمَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَمَعَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ قَلِيلٌ، وَإِنَّ عَدُوَّكُمْ كَثِيرٌ، فَلا يَهُولَنَّكُمْ، فَ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، ارْتَحِلُوا مِنْ مَكَانِكُمْ هَذَا، فَأَسْنِدُوا إِلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَاجْعَلُوهُ فِي ظُهُورِكُمْ، وَاجْعَلُوا النَّهْرَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ، وَقَاتِلُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَفَعَلُوا، وَقَدْ أَعَدُّوا مَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُوَ فِي عَشَرَةَ آلافٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ نَحْوٌ مِنْهُمْ وَأَقْبَلَتِ التُّرْكُ وَمَنْ أَجْلَبَتْ حَتَّى نَزَلُوا بِهِمْ، فَكَانُوا يُغَادُونَهُمْ وَيُرَاوِحُونَهُمْ وَيَتَنَحَّوْنَ عَنْهُمْ بِاللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَطَلَبَ الأَحْنَفُ عِلْمَ مَكَانِهِمْ بِاللَّيْلِ، فَخَرَجَ لَيْلَةً بَعْدَ مَا عَلِمَ عِلْمَهُمْ، طَلِيعَةً لأَصْحَابِهِ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ عَسْكَرِ خَاقَانَ فَوَقَفَ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ خَرَجَ فَارِسٌ مِنَ التُّرْكِ بِطَوْقِهِ، وَضَرَبَ بِطَبْلِهِ، ثُمَّ وَقَفَ مِنَ الْعَسْكَرِ مَوْقِفًا يَقِفُهُ مِثْلُهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الأَحْنَفُ، فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَطَعَنَهُ الأَحْنَفُ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
إِنَّ عَلَى كُلِّ رَئِيسٍ حَقَّا ... أَنْ يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا
إِنَّ لَنَا شَيْخًا بِهَا مُلَقَّى ... سَيْفُ أَبِي حَفْصِ الَّذِي تَبَقَّى
ثُمَّ وَقَفَ مَوْقِفَ التُّرْكِيِّ وَأَخَذَ طَوْقَهُ، وَخَرَجَ آخَرُ مِنَ التُّرْكِ، فَفَعَلَ

(4/169)


فِعْلَ صَاحِبِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ وَقَفَ دُونَهُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ الأَحْنَفُ، فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَطَعَنَهُ الأَحْنَفُ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
إِنَّ الرَّئِيسِ يَرْتَبِي وَيَطْلَعُ ... وَيَمْنَعُ الْخَلاءَ إِمَّا أَرْبَعُوا
ثُمَّ وَقَفَ مَوْقِفَ التُّرْكِيِّ الثَّانِي، وَأَخَذَ طَوْقَهُ، ثُمَّ خَرَجَ ثَالِثٌ مِنَ التُّرْكِ، فَفَعَلَ فِعْلَ الرَّجُلَيْنِ، وَوَقَفَ دُونَ الثَّانِي مِنْهُمَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الأَحْنَفُ، فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَطَعَنَهُ الأَحْنَفُ، فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
جَرْيُ الشُّمُوسِ نَاجِزًا بِنَاجِزِ ... مُحْتَفِلا فِي جَرْيِهِ مُشَارِزِ
ثُمَّ انْصَرَفَ الأَحْنَفُ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى دَخَلَهُ وَاسْتَعَدَّ وَكَانَ مِنْ شِيمَةِ التُّرْكِ أَنَّهُمْ لا يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجُ ثَلاثَةٌ مِنْ فُرْسَانِهِمْ كَهُؤلاءِ، كُلِّهِمْ يَضْرِبُ بِطَبْلِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّالِثِ، فَخَرَجَتِ التُّرْكُ لَيْلَتَئِذٍ بَعْدَ الثَّالِثِ، فَأَتَوْا عَلَى فُرْسَانِهِمْ مُقَتَّلِينَ، فَتَشَاءَمَ خَاقَانُ وَتَطَيَّرَ، فَقَالَ: قَدْ طَالَ مُقَامُنَا، وَقَدْ أُصِيبَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ بِمَكَانٍ لَمْ يُصَبْ بِمِثْلِهِ قَطُّ، مَا لَنَا فِي قِتَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرٍ، فَانْصَرَفُوا بِنَا، فَكَانَ وُجُوهُهُمْ رَاجِعِينَ، وَارْتَفَعَ النَّهَارُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلا يَرَوْنَ شَيْئًا، وَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِانْصِرَافِ خَاقَانَ إِلَى بَلْخَ وَقَدْ كَانَ يَزْدَجَرْدُ بْنُ شَهْرَيَارَ بْنِ كِسْرَى تَرَكَ خَاقَانَ بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَخَرَجَ إِلَى مَرْوِ الشَّاهِجَانِ، فَتَحَصَّنَ منه حاتم بْنُ النُّعْمَانِ وَمَنْ مَعَهُ، فَحَصَرَهُمْ وَاسْتَخْرَجَ خَزَائِنَهُ مِنْ مَوْضِعِهَا، وَخَاقَانُ بِبَلْخَ مُقِيمٌ لَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلأَحْنَفِ: مَا تَرَى فِي اتِّبَاعِهِمْ؟ فَقَالَ: أَقِيمُوا بِمَكَانِكُمْ وَدَعُوهُمْ وَلَمَّا جَمَعَ يَزْدَجَرْدُ مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِمَّا وَضَعَ بِمَرْوَ، فَأَعْجَلَ عَنْهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِهِ مِنْهَا، إِذْ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ خَزَائِنِ أَهْلِ فَارِسَ، وَأَرَادَ اللِّحَاقَ بِخَاقَانَ فَقَالَ لَهُ أَهْلُ فَارِسَ أَيُّ شَيْءٍ تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ فَقَالَ:
أُرِيدُ اللِّحَاقَ بِخَاقَانَ فَأَكُونُ مَعَهُ أَوْ بِالصِّينِ، فَقَالُوا لَهُ: مَهْلا، فَإِنَّ هَذَا رَأْيُ سُوءٍ، إِنَّكَ إِنَّمَا تَأْتِي قَوْمًا فِي مَمْلَكَتِهِمْ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَقَوْمَكَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ

(4/170)


بِنَا إِلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ فَنُصَالِحَهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَوْفِيَاءُ وَأَهْلُ دِينٍ، وَهُمْ يَلُونَ بِلادَنَا، وَإِنَّ عَدُوًّا يَلِينَا فِي بِلادِنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا مَمْلَكَةً مِنْ عَدُوٍّ يَلِينَا فِي بِلادِهِ وَلا دِينَ لَهُمْ، وَلا نَدْرِي مَا وَفَاؤُهُمْ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: فَدَعْ خَزَائِنَنَا نَرُدَّهَا إِلَى بِلادِنَا ومن يليها، ولا تخرجها من بلادها إِلَى غَيْرِهَا، فَأَبَى، فَقَالُوا:
فَإِنَّا لا نَدَعُكَ، فَاعْتَزَلُوا وَتَرَكُوهُ فِي حَاشِيَتِهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمُوهُ وَأَخَذُوا الْخَزَائِنَ، وَاسْتَوْلُوا عَلَيْهَا وَنَكَبُوهُ، وَكَتَبُوا إِلَى الأَحْنَفِ بِالْخَبَرِ، فَاعْتَرَضَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بِمَرْوَ يَثْفِنُونَهُ، فَقَاتَلُوهَ وَأَصَابُوهُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ، وَأَعْجَلُوهُ عَنِ الأَثْقَالِ، وَمَضَى مُوَائِلا حَتَّى قَطَعَ النَّهْرَ إِلَى فَرْغَانَةَ وَالتُّرْكِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا زَمَانَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّهُ يُكَاتِبُهُمْ وَيُكَاتِبُونَهُ، أَوْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ فَكَفَرَ أَهْلُ خُرَاسَانَ زَمَانَ عُثْمَانَ وَأَقْبَلَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الأَحْنَفِ فَصَالَحُوهُ وَعَاقَدُوهُ، وَدَفَعُوا إِلَيْهِ تِلْكَ الْخَزَائِنَ وَالأَمْوَالَ، وَتَرَاجَعُوا إِلَى بُلْدَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى أَفْضَلِ مَا كَانُوا فِي زَمَانِ الأَكَاسِرَةِ، فَكَانُوا كَأَنَّمَا هُمْ فِي مُلْكِهِمْ، إِلا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْفَى لَهُمْ وَأَعْدَلُ عَلَيْهِمْ، فَاغْتَبَطُوا وَغُبِطُوا، وَأَصَابَ الْفَارِسُ يَوْمَ يَزْدَجَرْدَ كَسَهْمِ الْفَارِسِ يَوْمِ الْقَادِسِيَّةِ.
وَلَمَّا خَلَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ زَمَانَ عُثْمَانَ أَقْبَلَ يَزْدَجَرْدُ حَتَّى نَزَلَ بِمَرْوَ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ وَأَهْلُ خُرَاسَانَ أَوَى إِلَى طَاحُونَةٍ، فَأَتَوْا عَلَيْهِ يَأْكُلُ من كرد حول الرحا، فَقَتَلُوهُ ثُمَّ رَمَوْا بِهِ فِي النَّهْرِ.
وَلَمَّا أُصِيبَ يَزْدَجَرْدُ بِمَرْوَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُخْتَبِئٌ فِي طَاحُونَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ اللِّحَاقَ بِكَرْمَانَ- فَاحْتَوَى فَيْئَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الأَحْنَفَ، فَسَارَ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ فِي النَّاسِ إِلَى بَلْخَ يُرِيدُ خَاقَانَ، وَيَتْبَعُ حَاشِيَةَ يَزْدَجَرْدَ وَأَهْلَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَخَاقَانُ وَالتُّرْكُ ببلخ فلما سمع بما القى يَزْدَجَرْدُ وَبِخُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الأَحْنَفِ مِنْ مَرْوِ الرُّوذِ نَحْوَهُ، تَرَكَ بَلْخَ وَعَبَرَ النَّهْرَ، وَأَقْبَلَ الأَحْنَفُ حَتَّى نَزَلَ بَلْخَ، وَنَزَلَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي كُوَرِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ فَنَزَلَ بِهَا، وَكَتَبَ

(4/171)


بِفَتْحِ خَاقَانَ وَيَزْدَجَرْدَ إِلَى عُمَرَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالأَخْمَاسِ، وَوَفَدَ إِلَيْهِ الْوُفُودُ.
قَالُوا: وَلَمَّا عَبَرَ خَاقَانُ النَّهْرَ، وَعَبَرَتْ مَعَهُ حَاشِيَةُ آلِ كِسْرَى، أَوْ مَنْ أَخَذَ نَحْوَ بَلْخَ مِنْهُمْ مَعَ يَزْدَجَرْدَ، لَقُوا رَسُولَ يَزْدَجَرْدَ الَّذِي كَانَ بُعِثَ الى ملك الصين، واهدى اليه معه هدايا، وَمَعَهُ جَوَابُ كِتَابِهِ مِنْ مَلِكِ الصِّينِ فَسَأَلُوهُ عَمَّا وَرَاءَهُ، فَقَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالْهَدَايَا كَافَأْنَا بِمَا تَرَوْنَ- وَأَرَاهُمْ هَدِيَّتَهُ وَأَجَابَ يَزْدَجَرْدُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ مَا كَانَ قَالَ لِي: قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ حَقًّا عَلَى الْمُلُوكِ إِنْجَادُ الْمُلُوكِ عَلَى مَنْ غَلَبَهُمْ، فَصِفْ لِي صِفَةَ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ بِلادِكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكَ تَذْكُرُ قِلَّةً مِنْهُمْ وَكَثْرَةً مِنْكُمْ، وَلا يَبْلُغُ أَمْثَالُ هَؤُلاءِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ تَصِفُ مِنْكُمْ فِيمَا أَسْمَعُ مِنْ كَثْرَتِكُمْ إِلا بِخَيْرٍ عِنْدَهُمْ وَشَرٍّ فِيكُمْ، فَقُلْتُ: سَلْنِي عَمَّا أَحْبَبْتَ، فَقَالَ: أَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ؟ قُلْتُ: يَدْعُونَنَا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلاثٍ: إِمَّا دِينُهُمْ فَإِنْ أَجَبْنَاهُمْ أَجْرُونَا مُجْرَاهُمْ، أَوِ الْجِزْيَةُ وَالْمَنَعَةُ، أَوِ الْمُنَابَذَةُ قَالَ: فَكَيْفَ طَاعَتُهُمْ أُمَرَاءَهُمْ؟ قُلْتُ: أَطْوَعُ قَوْمٍ لِمُرْشِدِهِمْ، قَالَ: فَمَا يُحِلُّونَ وَمَا يُحَرِّمُونَ؟
فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَيُحَرِّمُونَ مَا حُلِّلَ لَهُمْ، أَوْ يُحِلُّونَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قُلْتُ لا، قَالَ: فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَهْلِكُونَ أَبَدًا حَتَّى يُحِلُّوا حَرَامَهُمْ وَيُحَرِّمُوا حَلالَهُمْ ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ لِبَاسِهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُ، وَعَنْ مَطَايَاهُمْ، فَقُلْتُ:
الْخَيْلُ الْعِرَابُ- وَوَصَفْتُهَا- فَقَالَ: نِعْمَتِ الْحُصُونُ هَذِهِ! وَوَصَفْتُ لَهُ الإِبِلَ وَبُرُوكَهَا وَانْبِعَاثَهَا بِحَمْلِهَا، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَةُ دَوَابٍّ طِوَالِ الأَعْنَاقِ.
وَكَتَبَ معه الى يزدجرد كتابا: أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْكَ بِجَيْشٍ أَوَّلُهُ بِمَرْوَ وَآخِرُهُ بِالصِّينِ الْجَهَالَةُ بِمَا يَحِقُّ عَلَيَّ، وَلَكِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَ لِي رَسُولُكَ صِفَتَهُمْ لَوْ يُحَاوِلُونَ الْجِبَالَ لَهَدُّوَها، وَلَوْ خلى سربهم

(4/172)


أَزَالُونِي مَا دَامُوا عَلَى مَا وَصَفَ، فَسَالِمْهُمْ وارض منهم بالمساكنه، ولا تهجم مَا لَمْ يُهِيجُوكَ وَأَقَامَ يَزْدَجَرْدُ وَآلُ كِسْرَى بِفَرْغَانَةَ، مَعَهُمْ عَهْدٌ مِنْ خَاقَانَ وَلَمَّا وَقَعَ الرَّسُولُ بِالْفَتْحِ وَالْوَفْدُ بِالْخَبَرِ وَمَعَهُمُ الْغَنَائِمُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ قِبَلِ الأَحْنَفِ، جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ، وَأَمَرَ بِكِتَابِ الْفَتْحِ فَقُرِئَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ رسوله ص وَمَا بَعَثَهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى، وَوَعَدَ عَلَى أَتْبَاعِهِ مِنْ عَاجِلِ الثَّوَابِ وَآجِلِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَقَالَ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ*» ، فالحمد الَّذِي أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ جُنْدَهُ أَلا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مُلْكَ الْمَجُوسِيَّةِ، وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، فَلَيْسُوا يَمْلِكُونَ مِنْ بِلادِهِمْ شِبْرًا يَضُرُّ بِمُسْلِمٍ أَلا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ! أَلا وَإِنَّ الْمِصْرَيْنِ مِنْ مَسَالِحِهَا الْيَوْمَ كَأَنْتُمْ وَالْمِصْرَيْنِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْبُعْدِ، وَقَدْ وَغَلُوا فِي الْبِلادِ، وَاللَّهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ، وَمُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَمُتْبِعٌ آخِرَ ذَلِكَ أَوَّلَهُ، فَقُومُوا فِي أَمْرِهِ عَلَى رَجُلٍ يُوفِ لَكُمْ بِعَهْدِهِ، وَيُؤْتِكُمْ وَعْدَهُ، وَلا تَبَدَّلُوا وَلا تُغَيِّرُوا، فَيَسْتَبْدِلَ اللَّهُ بِكُمْ غَيْرَكُمْ، فَإِنِّي لا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ تُؤْتَى إِلا مِنْ قِبَلَكُمْ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ إِنْ أَدَّانِي أَهْلُ خُرَاسَانَ وَأَقَاصِيهِ اعْتَرَضُوا زَمَانَ عثمان ابن عَفَّانَ لِسَنَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ إِمَارَتِهِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ خَبَرِ انْتِقَاضِهِمْ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ مَقْتَلِ يَزْدَجَرْدَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ عُمَّالُهُ عَلَى الأَمْصَارِ فِيهَا عُمَّالَهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ غَيْرَ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَإِنَّ عَامِلَهُ عَلَى الْكُوفَةِ وَعَلَى الأَحْدَاثِ كَانَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ

(4/173)