تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث المذكورة) فزعم أَبُو معشر أن غزوة
الصواري كَانَتْ فِيهَا، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أحمد، عمن حدثه، عن
إِسْحَاق، عنه وَقَدْ مضى الخبر عن هَذِهِ الغزوة وذكر من خالف أبا
معشر فِي وقتها.
وفيها كَانَ رد أهل الْكُوفَة سَعِيد بن العاص عن الكوفه.
ذكر خبر اجتماع المنحرفين على عثمان
وفي هَذِهِ السنة تكاتب المنحرفون عن عُثْمَان بن عَفَّانَ للاجتماع
لمناظرته فِيمَا كَانُوا يذكرون أَنَّهُمْ نقموا عَلَيْهِ.
ذكر الخبر عن صفة اجتماعهم لذلك وخبر الجرعة:
مما كَتَبَ إِلَيَّ بِهِ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن
المستنير بن يَزِيدَ، عن قيس بن يَزِيدَ النخعي، قَالَ: لما رجع
مُعَاوِيَة المسيرين، قَالُوا: إن العراق والشام ليسا لنا بدار،
فعَلَيْكُمْ بالجزيرة فأتوها اختيارا.
فغدا عَلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن خَالِد، فسامهم الشدة، فضرعوا لَهُ
وتابعوه.
وسرح الأَشْتَر إِلَى عُثْمَانَ، فدعا بِهِ، وَقَالَ: اذهب حَيْثُ شئت،
فَقَالَ:
أرجع إِلَى عبد الرَّحْمَن، فرجع ووفد سَعِيد بن الْعَاصِ إِلَى
عُثْمَانَ فِي سنة إحدى عشرة من إمارة عُثْمَان وقبل مخرج سَعِيد بن
الْعَاصِ من الْكُوفَة بسنة وبعض أخرى بعث الأشعث بن قيس عَلَى
أذربيجان، وسعيد بن قيس عَلَى الري، وَكَانَ سَعِيد بن قيس عَلَى
همذان، فعزل وجعل عَلَيْهَا النسير العجلي، وعلى إصبهان السَّائِب بن
الأقرع، وعلى ماه مالك بن حبيب اليربوعي، وعلى الموصل حكيم بن سلامة
الحزامي، وجرير بن عَبْدِ اللَّهِ عَلَى قرقيسياء، وسلمان
(4/330)
ابن رَبِيعَةَ عَلَى الباب، وعلى الحرب
القعقاع بن عمرو، وعلى حلوان عتيبة ابن النهاس، وخلت الْكُوفَة من
الرؤساء إلا منزوعا أو مفتونا.
فخرج يَزِيد بن قيس وَهُوَ يريد خلع عُثْمَان، فدخل المسجد، فجلس
فِيهِ، وثاب إِلَيْهِ الَّذِينَ كَانَ فِيهِ ابن السوداء يكاتبهم،
فانقض عَلَيْهِ القعقاع، فأخذ يَزِيد بن قيس، فَقَالَ: إنما نستعفي من
سَعِيد، قَالَ: هَذَا مَا لا يعرض لكم فِيهِ، لا تجلس لهذا وَلا يجتمعن
إليك، واطلب حاجتك، فلعمري لتعطينها فرجع إِلَى بيته واستأجر رجلا،
وأعطاه دراهم وبغلا عَلَى أن يأتي المسيرين وكتب إِلَيْهِم: لا تضعوا
كتابي من أيديكم حَتَّى تجيئوا، فإن أهل المصر قَدْ جامعونا فانطلق
الرجل، فأتى عَلَيْهِم وَقَدْ رجع الأَشْتَر، فدفع إِلَيْهِم الكتاب،
فَقَالُوا: مَا اسمك؟ قَالَ: بغثر، قَالُوا: ممن؟ قَالَ: من كلب،
قَالُوا: سبع ذليل يبغثر النفوس، لا حاجة لنا بك وخالفهم الأَشْتَر،
ورجع عاصيا، فلما خرج قَالَ أَصْحَابه: أخرجنا أخرجه اللَّه، لا نجد
بدا مما صنع، إن علم بنا عبد الرَّحْمَن لم يصدقنا ولم يستقلها،
فاتبعوه فلم يلحقوه، وبلغ عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمْ قَدْ رحلوا فطلبهم
فِي السواد، فسار الأَشْتَر سبعا والقوم عشرا، فلم يفجأ الناس فِي يوم
جمعة إلا والأشتر عَلَى باب المسجد يقول: أَيُّهَا النَّاسُ، إني قَدْ
جئتكم من عِنْدَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان، وتركت سعيدا يريده
عَلَى نقصان نسائكم إِلَى مائة درهم ورد أهل البلاء مِنْكُمْ إِلَى
ألفين ويقول: مَا بال أشراف النساء، وهذه العلاوة بين هَذَيْنِ
العدلين! ويزعم ان فيئكم بستان قريش، وَقَدْ سايرته مرحلة، فما زال
يرجز بِذَلِكَ حَتَّى فارقته، يقول:
ويل لأشراف النساء مني ... صمحمح كأنني من جن
فاستخف الناس، وجعل أهل الحجى ينهونه فلا يسمع مِنْهُمْ، وكانت نفجة،
فخرج يَزِيد، وأمر مناديا ينادي: من شاء ان يلحق بيزيد
(4/331)
ابن قيس لرد سَعِيد وطلب أَمِير غيره
فليفعل وبقي حلماء الناس وأشرافهم ووجوههم فِي المسجد، وذهب من سواهم،
وعمرو بن حريث يَوْمَئِذٍ الخليفة، فصعد الْمِنْبَر فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وقال: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، بعد ان كنتم عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، فلا تعودوا فِي شر قَدِ استنقذكم اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ مِنْهُ أبعد الإِسْلام وهديه وسنته لا تعرفون حقا، وَلا تصيبون
بابه! فَقَالَ القعقاع بن عَمْرو: أترد السيل عن عبابه! فاردد الفرات
عن أدراجه، هيهات! لا وَاللَّهِ لا تسكن الغوغاء إلا المشرفية ويوشك أن
تنتضى، ثُمَّ يعجون عجيج العتدان ويتمنون مَا هم فِيهِ فلا يرده اللَّه
عَلَيْهِم أبدا فاصبر، فَقَالَ: أصبر، وتحول إِلَى منزله، وخرج يزيد
ابن قيس حَتَّى نزل الجرعة، وَمَعَهُ الأَشْتَر، وَقَدْ كَانَ سَعِيد
تلبث فِي الطريق، فطلع عَلَيْهِم سَعِيد وهم مقيمون لَهُ معسكرون،
فَقَالُوا: لا حاجة لنا بك.
فَقَالَ: فما اختلفتم الآن، إنما كَانَ يكفيكم أن تبعثوا إِلَى أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ رجلا وتضعوا إلي رجلا وهل يخرج الألف لَهُمْ عقول إِلَى
رجل! ثُمَّ انصرف عَنْهُمْ وتحسوا بمولى لَهُ عَلَى بعير قَدْ حسر،
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَانَ ينبغي لسعيد أن يرجع فضرب الأَشْتَر
عنقه، ومضى سَعِيد حَتَّى قدم عَلَى عُثْمَانَ، فأخبره الخبر، فَقَالَ:
مَا يريدون؟ أخلعوا يدا من طاعة؟ قَالَ: أظهروا أَنَّهُمْ يريدون البدل
قَالَ: فمن يريدون؟ قَالَ: أبا مُوسَى، قَالَ: قَدْ أثبتنا أبا موسى
عليهم، وو الله لا نجعل لأحد عذرا، وَلا نترك لَهُمْ حجة، ولنصبرن كما
أمرنا حَتَّى نبلغ مَا يريدون ورجع من قرب عمله من الْكُوفَة، ورجع
جرير من قرقيسياء وعتيبة من حلوان وقام أَبُو مُوسَى فتكلم بالكوفة
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لا تنفروا فِي مثل هَذَا، وَلا تعودوا
لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا، فكأنكم بأمير
قَالُوا: فصل بنا، قَالَ لا، إلا عَلَى السمع والطاعة لِعُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ، قَالُوا: عَلَى السمع والطاعة لِعُثْمَانَ
(4/332)
حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ وَعَلِيُّ بْنُ
حُسَيْنِ بْنِ عِيسَى، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْعَنْبَرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: اجْتَمَعَ نَاسٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَذَاكَرُوا أَعْمَالَ عُثْمَانَ وَمَا صَنَعَ،
فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلا
يُكَلِّمُهُ، ويخبره بأحداثه، فأرسلوا اليه عامر ابن عَبْدِ اللَّهِ
التَّمِيمِيَّ ثُمَّ الْعَنْبَرِيَّ- وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى عَامِرَ
بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ- فَأَتَاهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ:
إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اجْتَمَعُوا فَنَظَرُوا فِي
أَعْمَالِكَ، فَوَجَدُوكَ قَدْ رَكِبْتَ أُمُورًا عِظَامًا، فَاتَّقِ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتُبْ إِلَيْهِ، وَانْزَعْ عَنْهَا قَالَ لَهُ
عُثْمَانُ: انْظُرْ إِلَى هَذَا، فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ
قَارِئٌ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات، فو الله مَا يَدْرِي أَيْنَ
اللَّهُ! قَالَ عَامِرٌ: أَنَا لا أَدْرِي أَيْنَ اللَّهُ! قَالَ:
نَعَمْ، وَاللَّهِ ما تدرى اين الله، قال عامر: بلى وَاللَّهِ إِنِّي
لأَدْرِي أَنَّ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ لَكَ فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ
إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَإِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَإِلَى
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَإِلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، فَجَمَعَهُمْ لِيُشَاوِرَهُمْ فِي أَمْرِهِ
وَمَا طَلَبَ إِلَيْهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا
عِنْدَهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ وُزَرَاءَ وَنُصَحَاءَ،
وَإِنَّكُمْ وُزَرَائِي وَنُصَحَائِي وَأَهْلُ ثِقَتِي، وَقَدْ صَنَعَ
النَّاسُ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَطَلَبُوا إِلَيَّ أَنْ أَعْزِلَ
عُمَّالِي، وَأَنْ أَرْجِعَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَكْرَهُونَ إِلَى مَا
يُحِبُّونَ، فَاجْتَهِدُوا رَأْيَكُمْ، وَأَشِيرُوا عَلَيَّ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ: رَأْيِي لَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِجِهَادٍ يَشْغَلُهُمْ عَنْكَ،
وَأَنْ تَجْمُرَهُمْ فِي الْمَغَازِي حَتَّى يَذِلُّوا لَكَ فَلا
يَكُونُ هِمَّةُ أَحَدِهِمْ إِلا نَفْسَهُ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ
دُبْرَةِ دَابَّتِهِ، وَقَمْلِ فَرْوِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عُثْمَانُ
عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ لَهُ: مَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كنت ترى رَأْيَنَا فَاحْسِمْ عَنْكَ
الدَّاءَ، وَاقْطَعْ عَنْكَ الَّذِي تَخَافُ، وَاعْمَلْ بِرَأْيِي
تُصِبْ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ قَادَةً مِتَى
تَهْلَكْ يتفرقوا،
(4/333)
وَلا يَجْتَمِعُ لَهُمْ أَمْرٌ، فَقَالَ
عُثْمَانُ: إِنَّ هَذَا الرَّأْيُ لَوْلا مَا فِيهِ ثُمَّ أَقْبَلَ
مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: مَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: أَرَى لَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَرُدَّ عُمَّالَكَ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَا
قِبَلَهُمْ، وَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ قِبَلِي.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ: مَا
رَأْيُكَ؟ قَالَ: أَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ النَّاسَ
أَهْلُ طَمَعٍ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ تَعْطِفْ عَلَيْكَ
قُلُوبُهُمْ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ لَهُ:
مَا رَأْيُكَ؟ قَالَ: أَرَى أَنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ النَّاسَ بِمَا
يَكْرَهُونَ، فَاعْتَزِمْ أَنْ تَعْتِدَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ
فَاعْتَزِمْ أَنْ تَعْتَزِلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَاعْتَزِمْ عَزْمًا،
وَامْضِ قُدُمًا، فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا لَكَ قَمِلَ فَرْوُكَ؟
أَهَذَا الْجَدُّ مِنْكَ! فَأُسْكِتَ عَنْهُ دَهْرًا، حَتَّى إِذَا
تَفَرَّقَ الْقُومُ قَالَ عَمْرٌو: لا وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لأَنْتَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قَدْ
عَلِمْتُ أَنْ سَيَبْلُغَ النَّاسَ قَوْلُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا،
فَأَرَدْتُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ قَوْلِي فَيَثِقُوا بِي، فَأَقُودُ
إِلَيْكَ خَيْرًا، أَوْ أَدْفَعُ عَنْكَ شَرًّا حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ،
قَالَ: حدثنا عمرو بن حماد وعلي بن حسين، قَالا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بن ابى المقدام، عن عبد الملك ابن عُمَيْرٍ
الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: جَمَعَ عُثْمَانُ أُمَرَاءَ الأَجْنَادِ:
مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي
سَرْحٍ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ
النَّاسَ قَدْ تَنَمَّرُوا لِي، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أُشِيرُ
عَلَيْكَ أَنْ تَأْمُرَ أُمَرَاءَ أَجْنَادِكَ فَيَكْفِيكَ كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا قِبَلَهُ، وَأَكْفِيكَ أَنَا أَهْلَ الشَّامِ،
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ:
أَرَى لَكَ أَنْ تَجْمُرَهُمْ فِي هَذِهِ الْبُعُوثِ حَتَّى يَهِمَّ
كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ دُبُرَ دَابَّتِهِ، وَتَشْغَلُهُمْ عَنِ
الإِرْجَافِ بِكَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: أُشِيرُ
عَلَيْكَ أَنْ تَنْظُرَ مَا أَسْخَطَهُمْ فَتُرْضِيهِمْ، ثُمَّ
تُخْرِجُ لَهُمْ هَذَا الْمَالَ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ قَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، إِنَّكَ
قَدْ رَكِبْتَ النَّاسَ بِمِثْلِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقُلْتَ وَقَالُوا،
وَزِغْتَ وَزَاغُوا، فَاعْتَدِلْ أَوِ اعْتَزِلْ، فَإِنْ أَبَيْتَ
فَاعْتَزِمْ عَزْمًا، وَامْضِ قدما، فقال له عثمان: مالك قَمِلَ
فَرْوُكَ! أَهَذَا الْجَدُّ مِنْكَ! فَأُسْكِتَ عَمْرٌو حَتَّى إِذَا
تَفَرَّقُوا قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا امير المؤمنين،
(4/334)
لأَنْتَ أَكْرَمُ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ،
وَلَكِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ بِالْبَابِ قَوْمًا قَدْ عَلِمُوا
أَنَّكَ جَمَعْتَنَا لِنُشِيرَ عَلَيْكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ
يَبْلُغَهُمْ قَوْلِي، فَأَقُودَ لَكَ خَيْرًا، أَوْ أَدْفَعَ عَنْكَ
شَرًّا فَرَدَّ عُثْمَانُ عُمَّالَهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ،
وَأَمَرَهُمْ بِالتَّضْيِيقِ عَلَى مَنْ قِبَلَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ
بِتَجْمِيرِ النَّاسِ فِي الْبُعُوثِ، وَعَزَمَ عَلَى تَحْرِيمِ
أُعْطِيَاتِهِمْ لِيُطِيعُوهُ، وَيَحْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَرَدَّ
سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ أَهْلُ
الْكُوفَةِ عَلَيْهِ بِالسِّلاحِ، فَتَلَقَّوْهُ فَرَدُّوهُ،
وَقَالُوا: لا وَاللَّهِ لا يَلِي عَلَيْنَا حُكْمًا مَا حَمَلْنَا
سُيُوفَنَا.
حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وعلي بن حُسَيْن، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ هَارُونَ بن سَعْدٍ، عن أبي يَحْيَى عمير بن سَعْد
النخعي، أنه قَالَ: كأني أنظر إِلَى الأَشْتَر مالك بن الْحَارِث
النخعي عَلَى وجهه الغبار، وَهُوَ متقلد السيف، وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ
لا يدخلها علينا مَا حملنا سيوفنا- يعني سعيدا، وَذَلِكَ يوم الجرعة،
والجرعة مكان مشرف قرب القادسية- وهناك تلقاه أهل الْكُوفَة.
حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو وَعَلِيٌّ، قَالا:
حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ
الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ الْحَدَائِيِّ- وَحَدَاءُ حَيٌّ مِنْ
مُرَادٍ- أَنَّهُ قَالَ:
دَفَعْتُ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَأَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ
بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ وَهُمَا فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَوْمَ
الْجَرَعَةِ، حَيْثُ صَنَعَ النَّاسُ بِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مَا
صَنَعُوا، وَأَبُو مَسْعُودٍ يُعَظِّمُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: مَا أَرَى
أَنْ تُرَدَّ عَلَى عَقِبَيْهَا حَتَّى يَكُونَ فِيهَا دِمَاءٌ،
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَاللَّهِ لَتُرَدَّنَّ عَلَى عَقِبَيْهَا، وَلا
يَكُونُ فِيهَا مَحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَمَا أَعْلَمُ مِنْهَا
الْيَوْمَ شيئا الا وقد علمته ومحمد ص حَيٌّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيُصْبِحَ عَلَى الإِسْلامِ ثُمَّ يُمْسِي وَمَا مَعَهُ مِنْهُ
شَيْءٌ، ثُمَّ يُقَاتِلُ أَهْلَ الْقِبْلَةِ وَيَقْتُلُهُ اللَّهُ
غَدًا، فَيَنْكُصُ قَلْبُهُ، فَتَعْلُوهُ اسْتُهُ فَقُلْتُ لأَبِي
ثَوْرٍ: فَلَعَلَّهُ قَدْ كان، قال: لا ولله مَا كَانَ فَلَمَّا رَجَعَ
(4/335)
سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ
مَطْرُودًا، أَرْسَلَ أَبَا مُوسَى أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ،
فَأَقَرُّوهُ عَلَيْهَا.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ يَحْيَى
بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَبْدٍ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَيْرٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فِي
الْفِتْنَةِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْكُتُوا، [فَإِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص يَقُولُ: مَنْ خَرَجَ وَعَلَى النَّاسِ
إِمَامٌ- وَاللَّهِ مَا قَالَ: عَادِلٌ- لِيَشُقَّ عَصَاهُمْ،
وَيُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُمْ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ] .
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قَالا:
لَمَّا اسْتَعْوَى يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ النَّاسَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ، خَرَجَ مِنْهُ ذِكْرٌ لِعُثْمَانَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ
الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى أَخَذَهُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟
أَلَكَ عَلَيْنَا فِي أَنْ نَسْتَعْفِيَ سَبِيلٌ؟ قَالَ: لا، فَهَلْ
إِلا ذَلِكَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَاسْتَعْفِ وَاسْتَجْلَبَ يَزِيدُ
أَصْحَابَهُ مِنْ حَيْثُ كَانُوا، فَرَدُّوا سَعِيدًا، وَطَلَبُوا
أَبَا مُوسَى، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ عُثْمَانُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ
أَمَّرْتُ عَلَيْكُمْ مَنِ اخْتَرْتُمْ، وَأَعْفَيْتُكُمْ مِنْ
سَعِيدٍ، وَاللَّهِ لأَفْرِشَنَّكُمْ عَرْضِي، وَلأَبْذِلَنَّ لَكُمْ
صَبْرِي، وَلأَسْتَصْلِحَنَّكُمْ بِجَهْدِي، فَلا تَدَعُوا شَيْئًا
أَحْبَبْتُمُوهُ لا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ إِلا سَأَلْتُمُوهُ، وَلا
شَيْئًا كَرِهْتُمُوهُ لا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ إِلا اسْتَعْفَيْتُمْ
مِنْهُ، أَنْزِلُ فِيهِ عند ما أَحْبَبْتُمْ، حَتَّى لا يَكُونَ لَكُمْ
عَلَيَّ حُجَّةٌ.
وَكَتَبَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الأَمْصَارِ، فَقَدِمَتْ إِمَارَةُ أَبِي
مُوسَى وَغَزْوُ حُذَيْفَةَ وَتَأَمَّرَ أَبُو مُوسَى، وَرَجَعَ
الْعُمَّالُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، وَمَضَى حُذَيْفَةُ إِلَى الْبَابِ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
لَمَّا كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ كَتَبَ أَصْحَابُ رسول
الله ص بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: أَنْ أَقْدِمُوا، فَإِنْ كُنْتُمْ
تُرِيدُونَ الْجِهَادَ فَعِنْدَنَا الْجِهَادُ.
وَكَثُرَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ، وَنَالُوا مِنْهُ أَقْبَحَ مَا
نِيلَ مِنْ احد، واصحاب رسول
(4/336)
الله ص يَرَوْنَ وَيَسْمَعُونَ، لَيْسَ
فِيهِمْ أَحَدٌ يَنْهَى وَلا يَذُبُّ إِلا نُفَيْرٌ، مِنْهُمْ، زَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ،
وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، [وَكَلَّمُوا عَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ.
فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: النَّاسُ وَرَائِي، وَقَدْ
كَلَّمُونِي فِيكَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ، وَمَا
أَعْرِفُ شَيْئًا تَجْهَلُهُ، وَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لا
تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى
شَيْءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنِبْلِغَكَهُ،
وَمَا خُصِصْنَا بِأَمْرٍ دُونَكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ،
وَصَحِبْتَ رسول الله ص وَنِلْتَ صِهْرَهُ، وَمَا ابْنُ أَبِي
قُحَافَةَ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ، وَلا ابْنُ الْخَطَّابِ
بِأَوْلَى شيء مِنَ الْخَيْرِ مِنْكَ، وَإِنَّكَ أَقْرَبُ إِلَى
رَسُولِ الله ص رَحِمًا، وَلَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ
ص مَا لَمْ يَنَالا، وَلا سَبَقَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَاللَّهَ اللَّهَ
فِي نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تُبْصِرُ مِنْ عَمَى، وَلا
تَعْلَمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الطَّرِيقَ لَوَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّ
أَعْلامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ تَعَلَّمْ يَا عُثْمَانُ أَنَّ أَفْضَلَ
عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَى،
فأقام سنه معلومه، وأمات بدعه متروكه، فو الله إِنَّ كُلا لَبِيِّنٌ،
وَإِنَّ السُّنَنَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ
لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ
إِمَامٌ جَائِرٌ، ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَعْلُومَةً،
وَأَحْيَا بِدْعَةً متروكه، وانى سمعت رسول الله ص يَقُولُ: يُؤْتَى
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ
وَلا عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ، فَيَدُورُ فِي جَهَنَّمَ كَمَا
تَدُورُ الرَّحَا، ثُمَّ يَرْتَطِمُ فِي غَمْرَةِ جَهَنَّمَ وَإِنِّي
أُحَذِّرُكَ اللَّهَ، وَأُحَذِّرُكَ سَطْوَتَهُ وَنَقَمَاتِهِ، فَإِنَّ
عَذَابَهُ شَدِيدٌ أَلِيمٌ وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ
الأُمَّةِ الْمُقْتُولُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هَذِهِ
الأُمَّةِ إِمَامٌ، فَيَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتُلْبَسُ أُمُورُهَا عَلَيْهَا، وَيَتْرُكُهُمْ
شِيَعًا، فَلا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ لِعُلُوِّ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ
فِيهَا مَوْجًا، وَيَمْرِجُونَ فيها مرجا]
(4/337)
فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ وَاللَّهِ
عَلِمْتُ، لَيَقُولُنَّ الَّذِي قُلْتَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ
مَكَانِي مَا عَنَّفْتُكَ، وَلا أَسْلَمْتُكَ، وَلا عِبْتُ عَلَيْكَ،
وَلا جِئْتُ مُنْكَرًا إِنْ وَصَلْتَ رَحِمًا، وَسَدَدْتَ خُلَّةً،
وَآوَيْتَ ضَائِعًا، وَوَلَّيْتَ شَبِيهًا بِمَنْ كَانَ عُمَرُ
يُوَلِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ
الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَيْسَ هُنَاكَ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
فَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ
تَلُومُنِي أَنْ وَلَّيْتُ ابْنَ عَامِرٍ فِي رَحِمِهِ وَقَرَابَتِهِ؟
[قَالَ عَلِيٌّ: سَأُخْبِرُكَ، ان عمر ابن الْخَطَّابِ كَانَ كُلُّ
مَنْ وَلَّى فَإِنَّمَا يَطَأُ عَلَى صِمَاخِهِ، إِنْ بَلَغَهُ عَنْهُ
حَرْفٌ جَلَبَهُ ثُمَّ بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْغَايَةِ، وَأَنْتَ لا
تَفْعَلُ، ضَعُفْتَ وَرَفَقْتَ عَلَى أَقْرِبَائِكَ] .
قَالَ عُثْمَانُ: هُمْ أَقْرِبَاؤُكَ أَيْضًا [فَقَالَ عَلِيٌّ:
لَعَمْرِي إِنَّ رَحِمَهُمْ مِنِّي لَقَرِيبَةٌ، وَلَكِنِ الْفَضْلَ
فِي غَيْرِهِمْ،] قَالَ عُثْمَانُ: هَلْ تَعْلَمْ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى
مُعَاوِيَةَ خِلافَتَهُ كُلَّهَا؟ فَقَدْ وَلَّيْتُهُ [فَقَالَ
عَلِيٌّ: أُنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ
أَخْوَفَ مِنْ عُمَرَ مِنْ يَرْفَأَ غُلامِ عُمَرَ مِنْهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَقْتَطِعُ الأُمُورَ دُونَكَ
وَأَنْتَ تَعْلَمُهَا، فَيَقُولُ لِلنَّاسِ:
هَذَا أَمْرُ عُثْمَانَ، فَيَبْلُغُكَ وَلا تُغَيِّرُ عَلَى
مُعَاوِيَةَ] ثُمَّ خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ
عَلَى أَثَرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ آفَّةٍ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ عَاهَةً، وَإِنَّ
آفَّةَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَعَاهَةَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، عَيَّابُونَ
طَعَّانُونَ، يَرُونَكُمْ مَا تُحِبُّونَ وَيُسِرُّونَ مَا
تَكْرَهُونَ، يَقُولُونَ لَكُمْ وَتَقُولُونَ، أَمْثَالُ النَّعَامِ
يَتْبَعُونَ أَوَّلَ نَاعِقٍ، أَحَبُّ مَوَارِدِهَا إِلَيْهَا
الْبَعِيدُ، لا يَشْرَبُونَ إِلا نَغَصًا وَلا يَرِدُونَ إِلا عَكِرًا،
لا يَقُومُ لَهُمْ رَائِدٌ، وَقَدْ أَعْيَتْهُمُ الأُمُورُ،
وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْمَكَاسِبُ أَلا فَقَدْ وَاللَّهِ عِبْتُمْ
عَلَيَّ بِمَا أَقْرَرْتُمْ لابْنِ الْخَطَّابِ بِمِثْلِهِ،
وَلَكِنَّهُ وَطِئَكُمْ بِرِجْلِهِ، وَضَرَبَكُمْ بِيَدِهِ،
وَقَمَعَكُمْ بِلِسَانِهِ، فَدِنْتُمْ لَهُ عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ
أَوْ كَرِهْتُمْ، وَلِنْتُ لَكُمْ، وَأَوْطَأْتُ لَكُمْ كَتِفِي،
وَكَفَّفْتُ يَدِي وَلِسَانِي عَنْكُمْ، فَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيَّ أَمَا
وَاللَّهِ لأَنَا أَعَزُّ نَفَرًا، وَأَقْرَبُ نَاصِرًا
(4/338)
وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَقْمَنُ إِنْ
قُلْتُ هَلُمَّ أُتِيَ إِلَيَّ، وَلَقَدْ أَعْدَدْتُ لَكُمْ
أَقْرَانَكُمْ، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكُمْ فُضُولا، وَكَشَّرْتُ لَكُمْ
عَنْ نَابِي، وَأَخْرَجْتُمْ مِنِّي خُلُقًا لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُهُ،
وَمَنْطِقَا لَمْ أَنْطِقْ بِهِ، فَكُفُّوا عَلَيْكُمْ أَلْسِنَتَكُمْ،
وَطَعْنَكُمْ وَعَيْبَكُمْ عَلَى وُلاتِكُمْ، فَإِنِّي قَدْ كَفَفْتُ
عَنْكُمْ مَنْ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُكَلِّمُكُمْ لَرَضِيتُمْ
مِنْهُ بِدُونِ مَنْطِقِي هَذَا أَلا فَمَا تَفْقِدُونَ مِنْ
حَقِّكُمْ؟ وَاللَّهِ مَا قَصَّرْتُ فِي بُلُوغِ مَا كَانَ يَبْلُغُ
مَنْ كَانَ قَبْلِي، وَمَنْ لَمْ تَكُونُوا تَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ
فَضْلَ فَضْلٍ مِنْ مَالٍ، فَمَا لِي لا أَصْنَعُ فِي الْفَضْلِ مَا
أُرِيدُ! فلم كنت اماما! فقام مروان ابن الْحَكَمِ، فَقَالَ: إِنْ
شِئْتُمْ حَكَّمْنَا وَاللَّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفَ،
نَحْنُ وَاللَّهِ وَأَنْتُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَرَشْنَا لَكُمْ أَعْرَاضَنَا فَنَبَتْ بِكُمْ ... مَعَارِسُكُمْ
تَبْنُونَ فِي دِمْنِ الثَّرَى
فَقَالَ عُثْمَانُ: اسْكُتْ لاسكت، دَعْنِي وَأَصْحَابِي، مَا
مَنْطِقُكَ فِي هَذَا! أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكَ أَلا تَنْطِقَ!
فَسَكَتَ مَرْوَانُ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ
بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ وَمَاتَ أَيْضًا مِسْطَحُ بْنُ
أُثَاثَةَ، وَعَاقِلُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ
لَيْثٍ، حَلِيفٌ لِبَنِي عَدِيٍّ، وَهُمَا بَدْرِيَّانِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(4/339)
سنة خمس وثلاثين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ نزول
أهل مصر ذا خشب، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق
بْن عِيسَى، عن أبي معشر، قَالَ: كَانَ ذو خشب سنة خمس وثلاثين، وكذلك
قَالَ الْوَاقِدِيُّ.
ذكر مسير من سار إِلَى ذي خشب من أهل مصر وسبب مسير من سار إِلَى ذي
المروة من أهل العراق
فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ
يَزِيدَ الْفَقْعَسِيِّ، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّهِ بن سبأ يهوديا من
أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عُثْمَان، ثُمَّ تنقل فِي بلدان
الْمُسْلِمِينَ، يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ الْبَصْرَةِ،
ثُمَّ الْكُوفَة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر عَلَى مَا يريد عِنْدَ أحد من
أهل الشام، فأخرجوه حَتَّى أتى مصر، فاعتمر فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ
فِيمَا يقول: لعجب ممن يزعم أن عِيسَى يرجع، ويكذب بأن محمدا يرجع،
وَقَدْ قَالَ اللَّه عز وجل: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» .
فمحمد أحق بالرجوع من عِيسَى قَالَ: فقبل ذَلِكَ عنه، ووضع لَهُمُ
الرجعة، فتكلموا فِيهَا ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بعد ذَلِكَ: إنه كَانَ ألف
نبي، ولكل نبي وصي، وَكَانَ علي وصي مُحَمَّد، ثُمَّ قَالَ: مُحَمَّد
خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثُمَّ قَالَ بعد ذَلِكَ: من أظلم
ممن لم يجز وصية رَسُول الله ص، ووثب على وصى رسول الله ص، وتناول أمر
الأمة! ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بعد ذَلِكَ: إن عُثْمَان أخذها بغير حق،
وهذا وصى رسول الله ص،
(4/340)
فانهضوا فِي هَذَا الأمر فحركوه، وابدءوا
بالطعن عَلَى أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
تستميلوا الناس، وادعوهم إِلَى هَذَا الأمر.
فبث دعاته، وكاتب من كَانَ استفسد فِي الأمصار وكاتبوه، ودعوا فِي السر
إِلَى مَا عَلَيْهِ رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وجعلوا يكتبون إِلَى الأمصار بكتب يضعونها فِي عيوب ولاتهم، ويكاتبهم
إخوانهم بمثل ذَلِكَ، ويكتب أهل كل مصر مِنْهُمْ إِلَى مصر آخر بما
يصنعون، فيقرؤه أُولَئِكَ فِي أمصارهم وهؤلاء فِي أمصارهم، حَتَّى
تناولوا بِذَلِكَ الْمَدِينَة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير
مَا يظهرون، ويسرون غير مَا يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافيه
مما ابتلي بِهِ هَؤُلاءِ، إلا أهل الْمَدِينَة فإنهم جاءهم ذَلِكَ عن
جميع الأمصار، فَقَالُوا:
إنا لفي عافية مما فِيهِ الناس، وجامعه مُحَمَّد وَطَلْحَة من هَذَا
المكان، قَالُوا:
فأتوا عُثْمَان، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أيأتيك عن
الناس الَّذِي يأتينا؟ قَالَ:
لا وَاللَّهِ، مَا جاءني إلا السلامة، قَالُوا: فإنا قَدْ أتانا
وأخبروه بِالَّذِي أسقطوا إِلَيْهِم، قَالَ: فأنتم شركائي وشهود
الْمُؤْمِنِينَ، فأشيروا علي، قَالُوا:
نشير عَلَيْك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إِلَى الأمصار حَتَّى يرجعوا
إليك بأخبارهم.
فدعا مُحَمَّد بن مسلمة فأرسله إِلَى الْكُوفَةِ، وأرسل أُسَامَة بن
زَيْد إِلَى الْبَصْرَة، وأرسل عمار بن ياسر إِلَى مصر، وأرسل عَبْد
اللَّهِ بن عُمَرَ إِلَى الشام، وفرق رجالا سواهم، فرجعوا جميعا قبل
عمار، فَقَالُوا: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا أنكرنا شَيْئًا، وَلا أنكره
أعلام الْمُسْلِمِينَ وَلا عوامهم، وَقَالُوا جميعا: الأمر أمر
الْمُسْلِمِينَ، إلا أن امراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عَلَيْهِم
واستبطأ الناس عمارا حَتَّى ظنوا أنه قَدِ اغتيل، فلم يفجأهم الا كتاب
من عبد الله ابن سَعْدِ بْنِ أبي سرح يخبرهم أن عمارا قَدِ استماله قوم
بمصر، وَقَدِ انقطعوا إِلَيْهِ، مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن السوداء،
وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر
(4/341)
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ،
عَنْ سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَعَطِيَّةَ، قَالُوا: كَتَبَ
عُثْمَانُ إِلَى أَهْلِ الأَمْصَارِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي آخُذُ
الْعُمَّالَ بِمُوَافَاتِي فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَقَدْ سَلَّطْتُ
الأُمَّةَ مُنْذُ وُلِّيتُ عَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلا يُرْفَعُ عَلَيَّ شَيْءٌ وَلا عَلَى أَحَدٍ
مِنْ عُمَّالِي إِلا أَعْطَيْتُهُ، وَلَيْسَ لِي وَلِعِيَالِي حَقٌّ
قِبَلَ الرَّعِيَّةِ إِلا مَتْرُوكٌ لَهُمْ، وَقَدْ رَفَعَ إِلَيَّ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنَّ أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيأمن ضَرَبَ
سِرًّا، وَشَتَمَ سِرًّا، مَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَلِيُوَافِ الْمَوْسِمَ فَلْيَأْخُذْ بِحَقِّهِ حَيْثُ كَانَ، مِنِّي
أَوْ مِنْ عُمَّالِي، أَوْ تَصَدَّقُوا فان الله يجزى المتصدقين
فَلَمَّا قُرِئَ فِي الأَمْصَارِ أَبْكَى النَّاسَ، وَدَعَوْا
لِعُثْمَانَ وَقَالُوا: إِنَّ الأُمَّةَ لَتَمَخَّضُ بِشَرٍّ وَبَعَثَ
إِلَى عُمَّالِ الأَمْصَارِ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَامِرٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَأَدْخَلَ
مَعَهُمْ فِي الْمَشُورَةِ سَعْيِدًا وَعَمْرًا، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ!
مَا هَذِهِ الشِّكَايَةُ؟
وَمَا هَذِهِ الإِذَاعَةُ؟ إِنِّي وَاللَّهِ لَخَائِفٌ أَنْ تَكُونُوا
مَصْدُوقًا عَلَيْكُمْ، وَمَا يَعْصِبُ هَذَا إِلا بِي، فَقَالُوا
لَهُ: أَلَمْ تَبْعَثْ! أَلَمْ نَرْجِعْ إِلَيْكَ الْخَبَرَ عَنِ
الْقَوْمِ! أَلَمْ يَرْجِعُوا وَلَمْ يُشَافِهْهُمْ أَحَدٌ بِشَيْءٍ!
لا وَاللَّهِ مَا صَدَقُوا وَلا بَرُّوا، وَلا نَعْلَمُ لِهَذَا
الأَمْرِ أَصْلا، وَمَا كُنْتَ لِتَأْخُذَ بِهِ أَحَدًا فَيُقِيمُكَ
عَلَى شَيْءٍ، وَمَا هِيَ إِلا إِذَاعَةً لا يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا،
وَلا الانْتِهَاءُ إِلَيْهَا.
قَالَ: فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: هَذَا
أَمْرٌ مَصْنُوعٌ يُصْنَعُ فِي السِّرِّ، فَيُلْقَى بِهِ غَيْرُ ذِي
الْمَعْرِفَةِ، فَيُخْبَرُ بِهِ، فَيُتَحَدَّثُ بِهِ فِي
مَجَالِسِهِمْ، قَالَ: فَمَا دَوَاءُ ذَلِكَ؟ قَالَ: طَلَبُ هَؤُلاءِ
الْقَوْمِ، ثُمَّ قَتْلُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يخَرْجُ هَذَا مِنْ
عِنْدِهِمْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ: خُذْ مِنَ النَّاسِ الَّذِي
عَلَيْهِمْ إِذَا أَعْطَيْتَهُمُ الَّذِي لَهُمْ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ
مِنْ أَنْ تَدَعْهُمْ قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ وَلَّيْتَنِي
فَوَلَّيْتُ قَوْمًا لا يَأْتِيكَ عَنْهُمْ إِلا الْخَيْرَ،
وَالرَّجُلانِ أَعْلَمُ بِنَاحِيَتَيْهِمَا، قَالَ: فَمَا الرَّأْيُ؟
قَالَ: حُسْنُ الأَدَبِ، قَالَ: فَمَا تَرَى يَا عَمْرُو؟ قَالَ: أَرَى
أَنَّكَ قَدْ لِنْتَ لهم، وتراخيت
(4/342)
عَنْهُمْ، وَزِدْتَهُمْ عَلَى مَا كَانَ
يَصْنَعُ عُمَرُ، فَأَرَى أَنْ تَلْزَمَ طَرِيقَةَ صَاحِبَيْكَ،
فَتَشْتَدَّ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، وَتَلِينَ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ
إِنَّ الشِّدَّةَ تَنْبَغِي لِمَنْ لا يَأْلُو النَّاسَ شَرًّا،
وَاللِّينُ لِمَنْ يَخْلُفُ النَّاسَ بِالنُّصْحِ، وَقَدْ
فَرَشْتَهُمَا جَمِيعًا اللِّينَ.
وَقَامَ عُثْمَانُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: كُلُّ
مَا أَشَرْتُمْ بِهِ عَلَيَّ قَدْ سَمِعْتُ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ بَابٌ
يُؤْتَى مِنْهُ، إِنَّ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي يُخَافُ عَلَى هَذِهِ
الأُمَّةِ كَائِنٌ، وَإِنَّ بَابَهُ الَّذِي يُغْلَقُ عَلَيْهِ
فَيُكَفْكَفُ بِهِ اللِّينُ وَالْمُؤَاتَاةُ وَالْمُتَابَعَةُ، إِلا
فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، الَّتِي لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ
أَنْ يُبَادِيَ بِعَيْبِ أَحَدِهَا، فَإِنْ سَدَّهُ شَيْءٌ فَرَفُقَ،
فَذَاكَ وَاللَّهِ لَيُفْتَحَنَّ، وَلَيْسَتْ لأَحَدٍ عَلَيَّ حُجَّةُ
حَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنِّي لم آل الناس خيرا، ولا نفسي وو
الله إِنَّ رَحَا الْفِتْنَةِ لَدَائِرَةٌ، فَطُوبَى لِعُثْمَانَ إِنْ
مَاتَ وَلَمْ يُحَرِّكْهَا كَفْكِفُوا النَّاسَ، وَهَبُوا لَهُمْ
حُقُوقَهُمْ، وَاغْتَفِرُوا لَهُمْ، وَإِذَا تُعُوطِيَتْ حُقُوقُ
اللَّهِ فَلا تُدْهِنُوا فِيهَا.
فَلَمَّا نَفَرَ عُثْمَانُ أَشْخَصَ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَعْدٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ ابْنُ عَامِرٍ وَسَعِيدٍ مَعَهُ
وَلَمَّا اسْتَقَلَّ عُثْمَانُ رَجَزَ الْحَادِي:
قَدْ عَلِمَتْ ضَوَامِرُ الْمَطِيِّ ... وَضَامِرَاتُ عَوَّجَ
الْقَسِيُّ
أَنَّ الأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ ... وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ
رَضِيُّ
وَطَلْحَةَ الْحَامِي لَهَا وَلِيُّ.
فَقَالَ كَعْبٌ وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَ عُثْمَانَ: الأَمِيرُ وَاللَّهِ
بَعْدَهُ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ- وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن بدر بن
الخليل بن عُثْمَانَ بن قطبة الأسدي، عن رجل من بني أسد، قَالَ: مَا
زال مُعَاوِيَة يطمع فِيهَا بعد مقدمه عَلَى عُثْمَانَ حين جمعهم،
فاجتمعوا إِلَيْهِ بالموسم، ثُمَّ ارتحل، فحدا بِهِ الراجز:
أن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلف رضي
قَالَ كعب: كذبت! صاحب الشهباء بعده- يعني مُعَاوِيَة- فأخبر
مُعَاوِيَة، فسأله عن الَّذِي بلغه، قَالَ: نعم، أنت الأمير بعده،
ولكنها وَاللَّهِ لا تصل إليك حَتَّى تكذب بحديثي هَذَا فوقعت فِي نفس
مُعَاوِيَة.
وشاركهم فِي هَذَا المكان أَبُو حَارِثَة وأبو عُثْمَان، عن رجاء بن
حيوة
(4/343)
وغيره قَالُوا: فلما ورد عُثْمَان
الْمَدِينَة رد الأمراء إِلَى أعمالهم، فمضوا جميعا، وأقام سَعِيد
بعدهم، فلما ودع مُعَاوِيَة عُثْمَان خرج من عنده وعليه ثياب السفر
متقلدا سيفه، متنكبا قوسه، فإذا هُوَ بنفر من الْمُهَاجِرِينَ، فِيهِمْ
طَلْحَة وَالزُّبَيْر وعلي، فقام عَلَيْهِم، فتوكأ عَلَى قوسه بعد مَا
سلم عَلَيْهِم، ثُمَّ قَالَ:
إنكم قَدْ علمتم أن هَذَا الأمر كَانَ إذ الناس يتغالبون إِلَى رجال،
فلم يكن منكم احد الا وفي فصيلته من يرئسه، ويستبد عَلَيْهِ، ويقطع
الأمر دونه، وَلا يشهده، وَلا يؤامره، حَتَّى بعث اللَّه جَلَّ وَعَزَّ
نبيه ص، وأكرم بِهِ من اتبعه، فكانوا يرئسون من جَاءَ من بعده،
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد،
فإن أخذوا بِذَلِكَ وقاموا عَلَيْهِ كَانَ الأمر أمرهم، والناس تبع
لَهُمْ، وإن أصغوا إِلَى الدُّنْيَا وطلبوها بالتغالب سلبوا ذلك، ورده
الله الى من كان يرئسهم وإلا فليحذروا الغير، فإن اللَّه عَلَى البدل
قادر، وله المشيئة فِي ملكه وأمره إني قَدْ خلفت فيكم شيخا فاستوصوا
بِهِ خيرا، وكانفوه تكونوا أسعد مِنْهُ بِذَلِكَ ثُمَّ ودعهم ومضى،
فَقَالَ علي: مَا كنت أَرَى أن فِي هَذَا خيرا، فَقَالَ الزُّبَيْر: لا
وَاللَّهِ، مَا كَانَ قط أعظم فِي صدرك وصدورنا مِنْهُ الغداة
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُوسَى
بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى طَلْحَةَ يَدْعُوهُ،
فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، وَإِذْ عَلِيٌّ
وَسَعْدٌ وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ، فَحَمِدَ اللَّهَ
مُعَاوِيَةُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:
أَنْتُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ص، وَخِيرَتُهُ فِي الأَرْضِ،
وَوُلاةُ أَمْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، لا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ
غَيْرُكُمْ، اخْتَرْتُمْ صَاحِبَكُمْ عَنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ وَلا
طَمَعٍ، وَقَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَوَلَّى عُمُرُهُ، وَلَوِ
انْتَظَرْتُمْ بِهِ الْهِرَمَ كَانَ قَرِيبًا، مَعَ أَنِّي أَرْجُو
أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ ذَلِكَ،
وَقَدْ فَشَتْ قَالَةٌ خِفْتُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَا عَتَبْتُمْ فِيهِ
مِنْ شَيْءٍ فَهَذِهِ يَدِي لَكُمْ به، ولا تطمعوا الناس في امركم، فو
الله لَئِنْ طَمِعُوا فِي ذَلِكَ لا رَأَيْتُمْ فِيهَا ابدا الا ادبارا
قال على: ومالك وَذَلِكَ! وَمَا أَدْرَاكَ لا أُمَّ لَكَ! قَالَ: دَعْ
أُمِّي مَكَانَهَا، لَيْسَتْ بِشَّرِّ أُمَّهَاتِكُمْ، قَدْ اسلمت
وبايعت النبي ص
(4/344)
، وَأَجِبْنِي فِيمَا أَقُولُ لَكَ فَقَالَ
عُثْمَانُ: صَدَقَ ابْنُ أَخِي، إِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَمَّا
وُلِّيتُ، إِنَّ صَاحِبَيَّ اللَّذَيْنِ كَانَا قَبْلِي ظَلَمَا
أَنْفُسَهُمَا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ احْتِسَابًا، وَإِنَّ
رَسُولَ الله ص كَانَ يُعْطِي قَرَابَتَهُ، وَأَنَا فِي رَهْطِ أَهْلِ
عَيْلَةٍ، وَقِلَّةِ مِعَاشٍ، فَبَسَطْتُ يَدِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
الْمَالِ، لِمَكَانِ مَا أَقُومُ بِهِ فِيهِ، وَرَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ
لِي، فَإِنْ رَأَيْتُمْ ذَلِكَ خَطَأً فَرُدُّوهُ، فَأَمْرِي
لأَمْرِكُمْ تَبَعٌ قَالُوا: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، قَالُوا:
أَعْطَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَمَرْوَانَ-
وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَعْطَى مَرْوَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ
أَلْفًا، وَابْنَ أُسَيْدٍ خَمْسِينَ أَلْفًا- فَرَدُّوا مِنْهُمَا
ذَلِكَ، فَرَضَوْا وَقَبِلُوا، وَخَرَجُوا رَاضِينَ.
رجع الحديث إِلَى حديث سيف، عن شيوخه:
وَكَانَ مُعَاوِيَة قَدْ قَالَ لِعُثْمَانَ غداة ودعه وخرج: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انطلق معي إِلَى الشام قبل أن يهجم عَلَيْك من
لا قبل لك بِهِ، فإن أهل الشام عَلَى الأمر لم يزالوا فَقَالَ: أنا لا
أبيع جوار رسول الله ص بشيء، وإن كَانَ فِيهِ قطع خيط عنقي قَالَ:
فأبعث إليك جندا مِنْهُمْ يقيم بين ظهراني أهل الْمَدِينَةِ لنائبة إن
نابت الْمَدِينَةِ أو إياك قَالَ: أنا أقتر عَلَى جيران رسول الله ص
الأرزاق بجند تساكنهم، وأضيق عَلَى أهل دار الهجرة والنصرة! قَالَ:
وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لتغتالن أو لتغزين، قَالَ: حسبي
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَقَالَ مُعَاوِيَة: يَا أيسار الجزور،
وأين أيسار الجزور! ثُمَّ خرج حَتَّى وقف عَلَى النفر، ثُمَّ مضى
وَقَدْ كَانَ أهل مصر كاتبوا أشياعهم من أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة
وجميع من أجابهم أن يثوروا خلاف أمرائهم واتعدوا يَوْمًا حَيْثُ شخص
أمراؤهم، فلم يستقم ذَلِكَ لأحد مِنْهُمْ، ولم ينهض إلا أهل الْكُوفَة،
فإن يَزِيد بن قيس الأرحبي ثار فِيهَا، واجتمع إِلَيْهِ أَصْحَابه،
وعلى الحرب يَوْمَئِذٍ القعقاع بن عَمْرو، فأتاه فأحاط الناس بهم
وناشدوهم، فَقَالَ يَزِيد للقعقاع: ما سبيلك على وعلى هؤلاء! فو الله
انى لسامع مطيع، وانى للازم لجماعتى إلا أني أستعفي ومن ترى من إمارة
سَعِيد، فَقَالَ: استعفى الخاصة من أمر قَدْ رضيته العامة؟ قَالَ:
(4/345)
فذاك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فتركهم
والاستعفاء، ولم يستطيعوا أن يظهروا غير ذَلِكَ، فاستقبلوا سعيدا،
فردوه من الجرعة، واجتمع الناس عَلَى أبي مُوسَى، وأقره عُثْمَان
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ولما رجع الأمراء لَمْ يَكُنْ للسبئية
سبيل إِلَى الخروج إِلَى الأمصار، وكاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن
يتوافوا بِالْمَدِينَةِ لينظروا فِيمَا يريدون، وأظهروا أَنَّهُمْ
يأمرون بالمعروف، ويسألون عُثْمَان عن أشياء لتطير فِي الناس، ولتحقق
عَلَيْهِ، فتوافوا بِالْمَدِينَةِ، وأرسل عُثْمَان رجلين:
مخزوميا وزهريا، فَقَالَ: انظرا مَا يريدون، واعلما علمهم- وكانا ممن
قَدْ ناله من عُثْمَان أدب، فاصطبرا للحق، ولم يضطغنا- فلما رأوهما
باثوهما وأخبروهما بِمَا يريدون، فقالا: من معكم عَلَى هَذَا من أهل
الْمَدِينَة؟ قَالُوا:
ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قَالُوا لا! قَالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟
قَالُوا: نريد أن نذكر لَهُ أشياء قَدْ زرعناها فِي قلوب الناس، ثُمَّ
نرجع إِلَيْهِم فنزعم لَهُمْ أنا قررناه بِهَا، فلم يخرج منها ولم يتب،
ثُمَّ نخرج كأنا حجاج حَتَّى نقدم فنحيط بِهِ فنخلعه، فإن أبى قتلناه
وكانت إياها، فرجعا إِلَى عُثْمَانَ بالخبر، فضحك وَقَالَ: اللَّهُمَّ
سلم هَؤُلاءِ، فإنك إن لم تسلمهم شقوا.
أما عمار فحمل عَلَى عباس بن عتبة بن أبي لهب وعركه واما محمد ابن أبي
بكر فإنه أعجب حَتَّى رَأَى أن الحقوق لا تلزمه، وأما ابن سهلة فإنه
يتعرض للبلاء فأرسل إِلَى الكوفيين والبصريين، ونادى: الصَّلاة جامعة!
وهم عنده فِي أصل الْمِنْبَر، فاقبل اصحاب رسول الله ص حَتَّى أحاطوا
بهم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وأخبرهم خبر القوم، وقام
الرجلان، فَقَالُوا جميعا: اقتلهم، [فان رسول الله ص قَالَ:
من دعا إِلَى نفسه أو إِلَى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة اللَّه
فاقتلوه] وَقَالَ عُمَر بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا أحل
لكم إلا مَا قتلتموه وأنا شريككم.
فَقَالَ عُثْمَان: بل نعفو ونقبل ونبصرهم بجهدنا، وَلا نحاد أحدا
حَتَّى يركب حدا، أو يبدي كفرا إن هَؤُلاءِ ذكروا أمورا قَدْ علموا
منها مثل الَّذِي علمتم، إلا أَنَّهُمْ زعموا أَنَّهُمْ يذاكرونيها
ليوجبوها علي عِنْدَ من لا يعلم.
وَقَالُوا: أتم الصَّلاة فِي السفر، وكانت لا تتم، أَلا وإني قدمت بلدا
(4/346)
فِيهِ أهلي، فأتممت لهذين الأمرين، أو
كذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَقَالُوا: وحميت حمى، وإني وَاللَّهِ مَا حميت، حمي قبلي، وَاللَّهِ
مَا حموا شيئا لأحد ما حموا الا غلب عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة، ثُمَّ
لم يمنعوا من رعية أحدا، واقتصروا لصدقات الْمُسْلِمِينَ يحمونها لئلا
يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثُمَّ مَا منعوا وَلا نحوا منها
أحدا الا من ساق درهما، وما لي من بعير غير راحلتين، وما لي ثاغية وَلا
راغية، وإني قَدْ وليت، وإني أكثر العرب بعيرا وشاء، فمالي الْيَوْم
شاة وَلا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَقَالُوا: كَانَ القرآن كتبا، فتركتها إلا واحدا أَلا وإن القرآن
واحد، جَاءَ من عِنْدَ واحد، وإنما أنا فِي ذَلِكَ تابع لهؤلاء، أكذلك؟
قَالُوا:
نعم، وسألوه أن يقيلهم.
وَقَالُوا: إني رددت الحكم وَقَدْ سيره رَسُول الله ص.
والحكم مكي، سيره رسول الله ص مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطائف، ثُمَّ رده
رَسُول الله ص، فرسول الله ص سيره، ورسول الله ص رده، أكذلك؟ قَالُوا:
اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَقَالُوا: استعملت الأحداث ولم أستعمل إلا مجتمعا محتملا مرضيا،
وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، وَلَقَدْ ولى من قبلي
أحدث مِنْهُمْ، وقيل في ذلك لرسول الله ص أشد مما قيل لي فِي استعماله
أُسَامَة، أكذلك؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، يعيبون لِلنَّاسِ مَا لا
يفسرون.
وَقَالُوا: إني أعطيت ابن أبي سرح مَا أفاء اللَّه عَلَيْهِ وإني إنما
نفلته خمس مَا أفاء اللَّه عَلَيْهِ من الخمس، فكان مائة ألف، وَقَدْ
أنفذ مثل ذَلِكَ أَبُو بَكْر وعمر رضي اللَّه عنهما، فزعم الجند
أَنَّهُمْ يكرهون ذَلِكَ، فرددته عَلَيْهِم وليس ذاك لهم، اكذاك؟
قَالُوا: نعم.
وَقَالُوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم عَلَى
جور، بل أحمل الحقوق عَلَيْهِم، وأما إعطاؤهم فإني مَا أعطيهم من مالي،
وَلا أستحل أموال الْمُسْلِمِينَ لنفسي، وَلا لأحد مِنَ النَّاسِ،
وَلَقَدْ كنت
(4/347)
أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي
ازمان رسول الله ص وأبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وأنا يَوْمَئِذٍ
شحيح حريص، أفحين أتيت عَلَى أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وودعت الَّذِي
لي فِي أهلي، قَالَ الملحدون مَا قَالُوا! وإني وَاللَّهِ مَا حملت
عَلَى مصر من الأمصار فضلا فيجوز ذَلِكَ لمن قاله، وَلَقَدْ رددته
عَلَيْهِم، وما قدم علي إلا الأخماس، وَلا يحل لي منها شَيْء، فولي
الْمُسْلِمُونَ وضعها فِي أهلها دوني، وَلا يتلفت من مال اللَّه بفلس
فما فوقه، وما أتبلغ مِنْهُ مَا آكل إلا مالي.
وَقَالُوا: أعطيت الأرض رجالا، وإن هَذِهِ الأرضين شاركهم فِيهَا
الْمُهَاجِرُونَ والأنصار أيام افتتحت، فمن أقام بمكان من هَذِهِ
الفتوح فهو إسوة أهله، ومن رجع إِلَى أهله لم يذهب ذَلِكَ مَا حوى
اللَّه لَهُ، فنظرت فِي الَّذِي يصيبهم مما أفاء اللَّه عَلَيْهِم
فبعته لَهُمْ بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب فنقلت إِلَيْهِم
نصيبهم، فهو فِي أيديهم دوني.
وَكَانَ عُثْمَان قَدْ قسم ماله وأرضه فِي بني أُمَيَّة، وجعل ولده
كبعض من يعطى، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف،
عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عُثْمَان مثل ذَلِكَ، وقسم فِي
بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب، ولانت حاشية عُثْمَان لأولئك
الطوائف، وأبى الْمُسْلِمُونَ إلا قتلهم، وأبى إلا تركهم، فذهبوا
ورجعوا الى بلادهم على ان يغزوه مع الحجاج كالحجاج، فتكاتبوا
وَقَالُوا: موعدكم ضواحي الْمَدِينَة فِي شوال، حَتَّى إذا دخل شوال من
سنة اثنتي عشرة، ضربوا كالحجاج فنزلوا قرب الْمَدِينَة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي
حارثة وَأَبِي عُثْمَانَ، قَالُوا: لما كَانَ فِي شوال سنة خمس وثلاثين
خرج أهل مصر فِي أربع رفاق عَلَى أربعة أمراء: المقلل يقول: ستمائه،
والمكثر يقول: ألف عَلَى الرفاق عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوى، وكنانه
بن بشر التجيبى، وعروه بن شيبم الليثى، وابو عمرو بن بديل بن ورقاء
الخزاعي وسواد بن رومان الأصبحي، وزرع بن يشكر اليافعى، وسودان ابن
حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعلى القوم جميعا
(4/348)
الغافقي بن حرب العكي، ولم يجترئوا أن
يعلموا الناس بخروجهم إِلَى الحرب، وإنما اخرجوا كالحجاج، ومعهم ابن
السوداء وخرج أهل الْكُوفَة فِي أربع رفاق، وعلى الرفاق زَيْد بن
صُوحَانَ العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد اللَّه
بن الأصم، أحد بني عَامِر بن صعصعة، وعددهم كعدد أهل مصر، وعليهم جميعا
سبعا عَمْرو بن الأصم وخرج أهل الْبَصْرَة فِي أربع رفاق، وعلى الرفاق
حكيم بن جبلة العبدى، وذريح ابن عباد العبدي، وبشر بن شريح الحطم بن
ضبيعه القيسى وابن المحرش ابن عبد بن عَمْرو الحنفي وعددهم كعدد أهل
مصر وأميرهم جميعا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم مِنَ الناس
فاما اهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عَلِيًّا، وأما أهل الْبَصْرَة فإنهم
كَانُوا يشتهون طَلْحَة، وأما أهل الْكُوفَة فإنهم كَانُوا يشتهون
الزُّبَيْر فخرجوا وهم عَلَى الخروج جميع وفي الناس شتى، لا تشك كل
فرقة إلا أن الفلج معها، وأن أمرها سيتم دون الأخريين، فخرجوا حَتَّى
إذا كَانُوا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثلاث تقدم ناس من أهل الْبَصْرَة
فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الْكُوفَة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من
أهل مصر، وتركوا عامتهم بذي المروة ومشى فِيمَا بين أهل مصر وأهل
الْبَصْرَة زياد بن النضر وعبد اللَّه بن الأصم، وقالا: لا تعجلوا وَلا
تعجلونا حَتَّى ندخل لكم الْمَدِينَة ونرتاد، فإنه بلغنا أَنَّهُمْ
قَدْ عسكروا لنا، فو الله إن كَانَ أهل الْمَدِينَة قَدْ خافونا
واستحلوا قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا علمنا أشد، وإن أمرنا
هَذَا لباطل، وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الَّذِي بلغنا باطلا لنرجعن
إليكم بالخبر.
قَالُوا: اذهبا، فدخل الرجلان فلقيا ازواج النبي ص وعليا وَطَلْحَة
وَالزُّبَيْر، وقالا: إنما نأتم هَذَا البيت، ونستعفي هَذَا الوالي من
بعض
(4/349)
عمالنا، مَا جئنا إلا لذلك، واستأذناهم
لِلنَّاسِ بالدخول، فكلهم أبى، ونهى وَقَالَ: بيض مَا يفرخن، فرجعا
إِلَيْهِم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عَلِيًّا ومن أهل الْبَصْرَة
نفر فأتوا طَلْحَة، ومن أهل الْكُوفَة نفر فأتوا الزُّبَيْر، وَقَالَ
كل فريق مِنْهُمْ: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم، ثُمَّ
كررنا حَتَّى نبغتهم، فأتى الْمِصْرِيُّونَ عَلِيًّا وَهُوَ فِي عسكر
عِنْدَ أحجار الزيت، عَلَيْهِ حلة أفواف معتم بشقيقة حمراء يمانية،
متقلد السيف، ليس عَلَيْهِ قميص، وَقَدْ سرح الْحَسَن إِلَى عُثْمَانَ
فيمن اجتمع إِلَيْهِ فالحسن جالس عِنْدَ عُثْمَان، وعلي عِنْدَ أحجار
الزيت، فسلم عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ وعرضوا لَهُ، فصاح بهم واطردهم،
وَقَالَ: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان
محمد ص، فارجعوا لاصحبكم اللَّه! قَالُوا: نعم، فانصرفوا من عنده عَلَى
ذَلِكَ.
وأتى الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَة وَهُوَ فِي جماعة أخرى إِلَى جنب علي،
وَقَدْ أرسل ابنيه إِلَى عُثْمَانَ، فسلم الْبَصْرِيُّونَ عَلَيْهِ
وعرضوا لَهُ، فصاح بهم واطردهم، وَقَالَ: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي
المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد ص.
وأتى الْكُوفِيُّونَ الزُّبَيْر وَهُوَ فِي جماعة أخرى، وَقَدْ سرح
ابنه عَبْد اللَّهِ إِلَى عُثْمَانَ، فسلموا عَلَيْهِ وعرضوا لَهُ،
فصاح بهم واطردهم، وَقَالَ: لقد علم الْمُسْلِمُونَ أن جيش ذي المروة
وذي خشب والأعوص ملعونون عَلَى لسان محمد ص، فخرج القوم وأروهم
أَنَّهُمْ يرجعون، فانفشوا عن ذي خشب والأعوص، حَتَّى انتهوا إِلَى
عساكرهم، وَهِيَ ثلاث مراحل، كي يفترق أهل الْمَدِينَة، ثُمَّ يكروا
راجعين فافترق أهل الْمَدِينَة لخروجهم.
فلما بلغ القوم عساكرهم كروا بهم، فبغتوهم، فلم يفجأ أهل الْمَدِينَة
(4/350)
إلا والتكبير فِي نواحي الْمَدِينَة،
فنزلوا فِي مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان، وَقَالُوا: من كف يده فهو
آمن.
وصلى عُثْمَان بِالنَّاسِ أياما، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدا
من كلام، فأتاهم الناس فكلموهم، وفيهم علي، فَقَالَ: مَا ردكم بعد
ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قَالُوا: أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا، وأتاهم
طَلْحَة فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مثل ذَلِكَ، وأتاهم الزُّبَيْر
فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ مثل ذَلِكَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ
وَالْبَصْرِيُّونَ: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعا، كأنما كَانُوا
عَلَى ميعاد.
فَقَالَ لَهُمْ علي: كيف علمتم يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ ويا أهل
الْبَصْرَة بِمَا لقي أهل مصر، وَقَدْ سرتم مراحل، ثُمَّ طويتم نحونا؟
هَذَا وَاللَّهِ أمر أبرم بِالْمَدِينَةِ! قَالُوا: فضعوه عَلَى مَا
شئتم، لا حاجة لنا فِي هذا الرجل، ليعتزلنا وَهُوَ فِي ذَلِكَ يصلي
بهم، وهم يصلون خلفه، ويغشى من شاء عُثْمَان وهم فِي عينه أدق من
التراب، وكانوا لا يمنعون أحدا من الكلام، وكانوا زمرا بِالْمَدِينَةِ،
يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عُثْمَان إِلَى أهل الأمصار يستمدهم: بسم الله الرحمن الرحيم، أما
بعد، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغ عن
اللَّه مَا أمره بِهِ، ثُمَّ مضى وَقَدْ قضى الَّذِي عَلَيْهِ، وخلف
فينا كتابه، فِيهِ حلاله وحرامه، وبيان الأمور الَّتِي قدر، فأمضاها
عَلَى مَا أحب العباد وكرهوا، فكان الخليفة أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أدخلت فِي الشورى عن غير علم
وَلا مسألة عن ملإ من الأمة، ثُمَّ أجمع أهل الشورى عن ملإ مِنْهُمْ
ومن الناس علي، عَلَى غير طلب مني وَلا محبة، فعملت فِيهِمْ مَا يعرفون
وَلا ينكرون، تابعا غير مستتبع، متبعا غير مبتدع، مقتديا غير متكلف.
فلما انتهت الأمور، وانتكث الشر بأهله، بدت ضغائن وأهواء عَلَى غير
إجرام وَلا ترة فِيمَا مضى إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره
بغير حجة وَلا عذر، فعابوا علي أشياء مما كَانُوا يرضون، وأشياء عن ملإ
من أهل الْمَدِينَة لا يصلح غيرها، فصبرت لَهُمْ نفسي وكففتها عَنْهُمْ
منذ سنين
(4/351)
وأنا أَرَى وأسمع، فازدادوا عَلَى اللَّه
عَزَّ وَجَلَّ جرأة، حَتَّى أغاروا علينا فِي جوار رسول الله ص وحرمه
وأرض الهجرة، وثابت إِلَيْهِم الأعراب، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو
من غزانا بأحد إلا مَا يظهرون، فمن قدر عَلَى اللحاق بنا فليلحق.
فأتى الكتاب أهل الأمصار، فخرجوا عَلَى الصعبة والذلول، فبعث
مُعَاوِيَة حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عَبْد اللَّهِ بن سَعْد
مُعَاوِيَة بن حديج السكوني، وخرج من أهل الْكُوفَة القعقاع بن عَمْرو.
وَكَانَ المحضضين بالكوفة عَلَى إعانة أهل الْمَدِينَة عقبة بن عَمْرو
وعبد الله ابن أبي أوفى وحنظلة بن الربيع التميمي، فِي أمثالهم من
اصحاب النبي ص وَكَانَ المحضضين بالكوفة من التابعين أَصْحَاب عَبْد
اللَّهِ مسروق بن الأجدع، والأسود بن يَزِيدَ، وشريح بن الْحَارِث،
وعبد اللَّه بن عكيم، فِي أمثالهم، يسيرون فِيهَا، ويطوفون عَلَى
مجالسها، يقولون: يا ايها النَّاسُ، إن الكلام الْيَوْم وليس بِهِ غدا،
وإن النظر يحسن الْيَوْم ويقبح غدا، وإن القتال يحل الْيَوْم ويحرم
غدا، انهضوا إِلَى خليفتكم، وعصمة أمركم.
وقام بِالْبَصْرَةِ عِمْرَان بن حصين وأنس بن مَالِكٍ، وهشام بن عَامِر
في أمثالهم من اصحاب النبي ص يقولون مثل ذَلِكَ، ومن التابعين كعب بن
سور وهرم بن حيان العبدي، وأشباه لهما يقولون ذَلِكَ! وقام بِالشَّامِ
عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة فِي أمثالهم من اصحاب النبي ص
يقولون مثل ذَلِكَ، ومن التابعين شريك بن خباشة النميري، وأبو مسلم
الخولاني، وعبد الرَّحْمَن بن غنم بمثل ذَلِكَ، وقام بمصر خارجة فِي
أشباه لَهُ، وَقَدْ كَانَ بعض المحضضين قَدْ شهد قدومهم، فلما رأوا
حالهم انصرفوا إِلَى أمصارهم بِذَلِكَ وقاموا فِيهِمْ.
ولما جاءت الجمعة الَّتِي عَلَى أثر نزول المصريين مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عُثْمَان فصلى
بِالنَّاسِ ثُمَّ قام عَلَى الْمِنْبَر فقال: يا هؤلاء
(4/352)
العدى، الله الله! فو الله، إن أهل
الْمَدِينَة ليعلمون أنكم ملعونون عَلَى لسان محمد ص، فامحوا الخطايا
بالصواب، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَمْحُو السَّيِّئَ إلا
بالحسن.
فقام مُحَمَّد بن مسلمة، فَقَالَ: أنا أشهد بِذَلِكَ، فأخذه حكيم بن
جبلة فأقعده، فقام زَيْد بن ثَابِت فَقَالَ: ابغني الكتاب، فثار
إِلَيْهِ من ناحية أخرى مُحَمَّد بن أبي قتيرة فأقعده، وَقَالَ فأفظع،
وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حَتَّى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا
عُثْمَان حَتَّى صرع عن الْمِنْبَر مغشيا عَلَيْهِ، فاحتمل فأدخل داره،
وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ لا يطمعون فِي أحد من أهل الْمَدِينَة أن
يساعدهم إلا فِي ثلاثة نفر، فإنهم كَانُوا يراسلونهم:
مُحَمَّد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حُذَيْفَة، وعمار بن ياسر، وشمر
أناس مِنَ النَّاسِ فاستقتلوا، مِنْهُمْ سعد بن مَالِكٍ، وأبو
هُرَيْرَة، وزَيْد بن ثَابِت، والحسن بن علي، فبعث إِلَيْهِم عُثْمَان
بعزمه لما انصرفوا فانصرفوا، وأقبل علي ع حَتَّى دخل عَلَى عُثْمَانَ،
وأقبل طَلْحَة حَتَّى دخل عَلَيْهِ، وأقبل الزُّبَيْر حَتَّى دخل
عَلَيْهِ، يعودونه من صرعته، ويشكون بثهم، ثُمَّ رجعوا إِلَى منازلهم.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن أبي عمرو، عن
الحسن، قَالَ: قلت لَهُ: هل شهدت حصر عُثْمَان؟ قَالَ: نعم، وأنا
يَوْمَئِذٍ غلام فِي أتراب لي فِي المسجد، فإذا كثر اللغط جثوت عَلَى
ركبتي أو قمت، فأقبل القوم حين أقبلوا حَتَّى نزلوا المسجد وما حوله،
فاجتمع إِلَيْهِم أناس من أهل الْمَدِينَة، يعظمون مَا صنعوا وأقبلوا
عَلَى أهل الْمَدِينَة يتوعدونهم، فبينا هم كذلك فِي لغطهم حول الباب،
فطلع عُثْمَان، فكأنما كَانَتْ نار طفئت، فعمد إِلَى الْمِنْبَر فصعده
فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عَلَيْهِ، فثار رجل، فأقعده رجل، وقام آخر
فأقعده آخر، ثُمَّ ثار القوم فحصبوا عُثْمَان حَتَّى صرع، فاحتمل
فأدخل، فصلى بهم عشرين يَوْمًا، ثُمَّ منعوه من الصَّلاة.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة
(4/353)
وأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ،
قَالُوا: صَلَّى عُثْمَانُ بِالنَّاسِ بَعْدَ مَا نَزَلُوا بِهِ فِي
الْمَسْجِدِ ثَلاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَنَعُوهُ الصَّلاةَ،
فَصَلَّى بِالنَّاسِ أَمِيرُهُمُ الْغَافِقِيُّ، دَانَ لَهُ
الْمِصْرِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ، وَتَفَرَّقَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِيطَانِهِمْ، وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ، لا
يَخْرُجُ أَحَدٌ وَلا يَجْلِسُ إِلا وَعَلَيْهِ سَيْفُهُ يَمْتَنِعُ
بِهِ مِنْ رَهَقِ الْقَوْمِ وَكَانَ الْحِصَارُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
وَفِيهِنَّ كَانَ الْقَتْلُ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ وَضَعُوا فِيهِ
السِّلاحَ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ ثَلاثِينَ يَوْمًا يَكُفُّونَ
وَأَمَّا غَيْرُ سَيْفٍ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ
مُنَاظَرَةُ الْقَوْمِ عُثْمَانَ وَسَبَبُ حِصَارِهِمْ إِيَّاهُ مَا
حَدَّثَنِي بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي
أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعَ عُثْمَانُ أَنَّ وَفْدَ أَهْلِ
مِصْرَ قَدْ أَقْبَلُوا، قَالَ:
فَاسْتَقْبَلَهُمْ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ لَهُ خَارِجَةً مِنَ
الْمَدِينَةِ- أَوْ كَمَا قَالَ- فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ، أَقْبَلُوا
نَحْوَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ- قَالَ: وَكَرِهَ أَنْ
يَقْدَمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ- قَالَ:
فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا لَهُ: ادْعُ بِالْمُصْحَفِ، قَالَ: فَدَعَا
بِالْمُصْحَفِ، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ: افْتَحِ التَّاسِعَةَ- قَالَ:
وَكَانُوا يُسَمُّونَ سُورَةَ يُونُسَ التَّاسِعَةَ- قَالَ:
فَقَرَأَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الآيةِ: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً
وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ»
قَالَ: قَالُوا لَهُ: قِفْ، فَقَالُوا لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا حَمَيْتَ
مِنَ الْحِمَى؟ آللَّهُ أَذِنَ لَكَ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرِي!
قَالَ: فَقَالَ:
امْضِهِ، نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا قَالَ: وَأَمَّا الْحِمَى فان عمر
حمى الحمى قبلي لا بل الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا وُلِّيتُ زَادَتْ إِبِلُ
الصَّدَقَةِ فَزِدْتُ فِي الْحِمَى لِمَا زَادَ فِي إِبِلِ
الصَّدَقَةِ، امْضِهِ قَالَ: فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَهُ بِالآيَةِ،
فَيَقُولُ: امْضِهِ، نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا- قَالَ: وَالَّذِي
يَتَوَلَّى كَلامَ عُثْمَانَ يَوْمَئِذٍ فِي سِنِّكَ، قَالَ:
يَقُولُ أَبُو نَضْرَةَ، يَقُولُ ذَاكَ لِي أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ أَبُو
نَضْرَةَ: وَأَنَا فِي سِنِّكَ
(4/354)
يَوْمَئِذٍ، قَالَ: وَلَمْ يَخْرُجْ
وَجْهِي يَوْمَئِذٍ، لا أَدْرِي، وَلَعَلَّهُ قَدْ قَالَ مَرَّةً
أُخْرَى:
وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلاثِينَ سَنَةً- ثُمَّ أَخَذُوهُ
بِأَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا مَخْرَجٌ قَالَ:
فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ قَالَ:
فَقَالَ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟
قَالَ: فَأَخَذُوا مِيثَاقَهُ- قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَكَتَبُوا
عَلَيْهِ شَرْطًا- قَالَ: وَأَخَذَ عليهم أَلا يَشُقُّوا عَصًا، وَلا
يُفَارِقُوا جَمَاعَةً مَا قَامَ لَهُمْ بِشَرْطِهِمْ- أَوْ كَمَا
أَخَذُوا عَلَيْهِ- قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا:
نُرِيدُ أَلا يَأْخُذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَطَاءً، فَإِنَّمَا هَذَا
الْمَالُ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ وَلِهَؤُلاءِ الشُّيُوخِ مِنْ اصحاب
رسول الله ص قَالَ: فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَأَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى
الْمَدِينَةِ رَاضِينَ.
قَالَ: فَقَامَ فَخَطَبَ، فَقَالَ: إِنِّي مَا رَأَيْتُ وَاللَّهِ
وَفْدًا فِي الأَرْضِ هُمْ خَيْرٌ لِحَوْبَاتِي مِنْ هَذَا الْوَفْدِ
الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: خَشِيتُ
مِنْ هَذَا الْوَفْدِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، أَلا مَنْ كَانَ لَهُ زَرْعٌ
فَلْيَلْحَقْ بِزَرْعِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ضَرْعٌ فَلْيَحْتَلِبْ،
إِلا إِنَّهُ لا مَالَ لَكُمْ عِنْدَنَا، إِنَّمَا هَذَا الْمَالُ
لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ ولهؤلاء الشيوخ من اصحاب رسول الله ص قَالَ:
فَغَضِبَ النَّاسُ، وَقَالُوا: هَذَا مَكْرُ بَنِي أُمَيَّةَ.
قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ الْوَفْدُ الْمِصْرِيُّونَ رَاضِينَ، فَبَيْنَا
هُمْ فِي الطَّرِيقِ إِذَا هُمْ بِرَاكِبٍ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ ثُمَّ
يُفَارِقُهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، ثم يفارقهم ويتبينهم قَالَ:
قَالُوا لَهُ: مَا لَكَ؟ إِنَّ لَكَ لأَمْرًا! مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ:
فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَامِلِهِ
بِمِصْرَ، فَفَتَّشُوهُ، فَإِذَا هُمْ بِالْكِتَابِ عَلَى لِسَانِ
عُثْمَانَ، عَلَيْهِ خَاتَمُهُ إِلَى عَامِلِهِ بِمِصْرَ أَنْ
يُصَلِّبَهُمْ أَوْ يُقَتِّلَهُمْ أَوْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ
وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلافٍ.
قَالَ: فَأَقْبَلُوا حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَأَتَوْا
عَلِيًّا، فَقَالُوا: أَلَمْ تَرَ إِلَى عَدُوِّ اللَّهِ! إِنَّهُ
كَتَبَ فِينَا بِكَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ دَمَهُ،
قُمْ مَعَنَا إِلَيْهِ، قَالَ:
وَاللَّهِ لا أَقُومُ مَعَكُمْ، إِلَى أَنْ قَالُوا: فَلِمَ كَتَبْتَ
إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ كِتَابًا
قَطُّ، قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
أَلِهَذَا تُقَاتِلُونَ، أَوْ لِهَذَا تَغْضَبُونَ! قَالَ: فَانْطَلَقَ
عَلِيٌّ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى قَرْيَةٍ قَالَ:
فَانْطَلَقُوا حَتَّى
(4/355)
دَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالُوا:
كَتَبْتَ فِينَا بِكَذَا وَكَذَا! قَالَ: فَقَالَ: إِنَّمَا هُمَا
اثْنَتَانِ: أَنْ تُقِيمُوا عَلَيَّ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
أَوْ يَمِينِي بالله الذي لا إله إلا هو ما كَتَبْتُ وَلا أَمْلَلْتُ
وَلا عَلِمْتُ قَالَ: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْكِتَابَ يُكْتَبُ
عَلَى لِسَانِ الرَّجُلِ، وَقَدْ يُنْقَشُ الْخَاتَمُ عَلَى الْخَاتَمِ
قَالَ: فَقَالُوا: فَقَدْ وَاللَّهِ أَحَلَّ اللَّهُ دَمَكَ،
وَنَقَضْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ قَالَ: فَحَاصَرُوهُ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي سَبَبِ مَسِيرِ
الْمِصْرِيِّينَ إِلَى عُثْمَانَ وَنُزُولِهِمْ ذَا خَشَبٍ أُمُورًا
كَثِيرَةً، مِنْهَا مَا قَدْ تقدم ذكريه، وَمِنْهَا مَا أَعْرَضْتُ
عَنْ ذِكْرِهِ كَرَاهَةً مِنِّي لِبَشَاعَتِهِ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي عَوْنٍ
مَوْلَى الْمسورِ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ
عَامِلا لِعُثْمَانَ، فَعَزَلَهُ عَنِ الْخَرَاجِ، وَاسْتَعْمَلَهُ
عَلَى الصَّلاةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ عَلَى
الْخَرَاجِ، ثُمَّ جَمَعَهُمَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمَّا
قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ جَعَلَ يَطْعَنُ عَلَى
عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا عثمان خاليا به، فقال: يا بن
النَّابِغَةِ، مَا أَسْرَعَ مَا قَمِلَ جِرْبَانُ جُبَّتِكَ! إِنَّمَا
عَهْدُكَ بِالْعَمَلِ عَاما أَوَّل.
أَتَطْعَنُ عَلَيَّ وَتَأْتِينِي بِوَجْهٍ وَتَذْهَبُ عَنِّي بِآخَرَ!
وَاللَّهِ لَوْلا أَكْلَةٌ مَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَالَ: فَقَالَ
عَمْرٌو: إِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ وَيَنْقُلُونُ إِلَى
وُلاتِهِمْ بَاطِلٌ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
رَعِيَّتِكَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ
عَلَى ظَلْعِكَ، وَكَثْرَةِ الْقَالَةِ فِيكَ فَقَالَ عَمْرٌو: قَدْ
كُنْتُ عَامِلا لِعَمُرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَفَارَقَنِي وَهُوَ عَنِّي
رَاضٍ قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَوْ آخَذْتُكَ
بِمَا آخَذَكَ بِهِ عُمَرُ لاسْتَقَمْتَ، وَلَكِنِّي لِنْتُ عَلَيْكَ
فَاجْتَرَأْتَ عَلَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لأَنَا أَعَزُّ مِنْكَ نَفَرًا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَبْلَ أَنْ أَلِيَ هَذَا السُّلْطَانَ فَقَالَ
عَمْرٌو: دَعْ عَنْكَ هَذَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا
بمحمد ص وَهَدَانَا بِهِ، قَدْ رَأَيْتُ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ ورايت
اباك عفان، فو الله لَلْعَاصُ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ أَبِيكَ قَالَ:
فَانْكَسَرَ عُثْمَانُ، وَقَالَ: مَا لَنَا وَلِذِكْرِ
الْجَاهِلِيَّةِ! قَالَ: وَخَرَجَ عَمْرٌو وَدَخَلَ مَرْوَانُ،
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بَلَغْتَ مَبْلَغًا
يَذْكُرُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَبَاكَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْ
هَذَا عَنْكَ، مِنْ ذِكْرِ آبَاءِ الرِّجَالِ ذَكَرُوا أَبَاهُ
(4/356)
قَالَ: فَخَرَجَ عَمْرٌو مِنْ عِنْدِ
عُثْمَانَ وَهُوَ مُحْتَقِدٌ عَلَيْهِ، يَأْتِي عَلِيًّا مَرَّةً
فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَأْتِي الزُّبَيْرَ مَرَّةً
فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَأْتِي طَلْحَةَ مَرَّةً
فَيُؤَلِّبُهُ عَلَى عُثْمَانَ، وَيَعْتَرِضَ الْحَاجَّ فَيُخْبِرُهُمْ
بِمَا أَحْدَثَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا كَانَ حَصْرُ عُثْمَانَ الأَوَّلُ،
خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَرْضٍ لَهُ
بِفِلَسْطِينَ يُقَالُ لَهَا السَّبْعُ، فَنَزَلَ فِي قَصْرٍ لَهُ
يُقَالُ لَهُ الْعَجْلانُ، وَهُوَ يَقُولُ: الْعَجَبُ مَا يَأْتِينَا
عَنِ ابْنِ عَفَّانَ! قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي قَصْرِهِ
ذَلِكَ، وَمَعَهُ ابْنَاهُ مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وسلامه ابن
رَوْحٍ الْجُذَامِيُّ، إِذْ مَرَّ بِهِمْ رَاكِبٌ، فَنَادَاهُ عَمْرٌو:
مِنْ أَيْنَ قَدِمَ الرَّجُلُ؟
فَقَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ؟ يَعْنِي
عُثْمَانَ، قَالَ: تَرَكْتُهُ مَحْصُورًا شَدِيدَ الْحِصَارِ قَالَ
عَمْرٌو: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ يَضْرُطُ الْعِيرُ
وَالْمِكْوَاةُ فِي النَّارِ فَلَمْ يَبْرَحْ مَجْلِسُهُ ذَلِكَ حَتَّى
مَرَّ بِهِ رَاكِبٌ آخَرُ، فَنَادَاهُ عَمْرٌو: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ؟
يَعْنِي عُثْمَانَ، قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ،
إِذَا حَكَكْتُ قَرْحَةً نَكَأْتُهَا، إِنْ كُنْتُ لأُحَرِّضَ
عَلَيْهِ، حَتَّى إِنِّي لأُحَرِّضَ عَلَيْهِ الرَّاعِي فِي غَنَمِهِ
فِي رَأْسِ الْجَبَلِ فَقَالَ لَهُ سَلامَةُ بْنُ رَوْحٍ: يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ، إِنَّهُ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعَرَبِ بَابٌ وَثِيقٌ
فَكَسَرْتُمُوهُ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَدْنَا
أَنْ نُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ حَافِرَةِ الْبَاطِلِ، وَأَنْ يَكُونَ
النَّاسُ فِي الْحَقِّ شَرْعًا سَوَاءٌ وَكَانَتْ عِنْدَ عَمْرٍو
أُخْتُ عُثْمَانَ لأُمِّهِ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي
مُعَيْطٍ، فَفَارَقَهَا حِينَ عَزَلَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وحدثنى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ
أَبِي حُذَيْفَةَ بِمِصْرَ يُحَرِّضَانِ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَدِمَ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَأَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
حُذَيْفَةَ بِمِصْرَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمِصْرِيُّونَ خَرَجَ عبد
الرحمن بن عديس البلوى في خمسمائة، وَأَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ
الْعُمْرَةَ، وَخَرَجُوا فِي رَجَبَ، وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَعْدٍ رَسُولا سَارَ إِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً يُخْبِرُ عُثْمَانَ
أَنَّ ابْنَ عُدَيْسٍ وَأَصْحَابَهُ قَدْ وَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ شَيَّعَهُمْ إِلَى عَجْرُودٍ، ثُمَّ
رَجَعَ وَأَظْهَرَ مُحَمَّدٌ إِنْ قَالَ: خَرَجَ الْقَوْمُ عَمَّارًا،
وَقَالَ فِي السِّرِّ: خَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى إِمَامِهِمْ فَإِنْ
نَزَعَ وَإِلا قَتَلُوهُ، وَسَارَ
(4/357)
الْقَوْمُ الْمَنَازِلَ لَمْ يَعُدُّوهَا
حَتَّى نَزَلُوا ذَا خَشَبٍ وَقَالَ عُثْمَانُ قَبْلَ قُدُومِهِمْ
حِينَ جَاءَهُ رَسُولُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ
مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُرِيدُونَ- بِزَعْمِهِمُ- الْعُمْرَةَ، وَاللَّهِ
مَا أَرَاهُمْ يُرِيدُونَهَا، وَلَكِنَّ النَّاسَ قَدْ دَخَلَ بِهِمْ،
وَأَسْرَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ، وَطَالَ عَلَيْهِمْ عُمْرَى، أَمَا
وَاللَّهِ لَئِنْ فَارَقْتُهُمْ لَيَتَمَنَّوْنَ أَنَّ عُمْرَى كَانَ
طَالَ عَلَيْهِمْ مَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ بِسَنَةٍ مِمَّا يَرَوْنَ مِنَ
الدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ، وَالإِحَنِ وَالأَثْرَةِ الظَّاهِرَةِ،
وَالأَحْكَامِ الْمُغَيِّرَةِ قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقَوْمُ ذَا
خَشَبٍ جَاءَ الْخَبَرُ أَنَّ الْقَوْمَ يُرِيدُونَ قَتْلَ عُثْمَانَ
إِنْ لَمْ يَنْزَعْ، وَأَتَى رَسُولُهُمْ إِلَى عَلِيٍّ لَيْلا،
وَإِلَى طَلْحَةَ، وَإِلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ.
وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ مَعَهُمْ إِلَى عَلِيٍّ
كِتَابًا، فَجَاءُوا بِالْكِتَابِ إِلَى عَلِيٍّ، فَلَمْ يَظْهَرَ
عَلَى مَا فِيهِ، فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانَ مَا رَأَى جَاءَ عَلِيًّا
فَدَخَلَ عليه بيته، فقال: يا بن عَمِّ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي مترك،
وَإِنَّ قَرَابَتِي قَرِيبَةٌ، وَلِي حَقٌّ عَظِيمٌ عَلَيْكَ، وَقَدْ
جَاءَ مَا تَرَى مِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، وَهُمْ مُصَبِّحِي، وَأَنَا
أَعْلَمُ أَنَّ لَكَ عِنْدَ النَّاسِ قَدْرًا، وَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ
مِنْكَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَرْكَبَ إِلَيْهِمْ فَتَرُدَّهُمْ
عَنِّي، فَإِنِّي لا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ
جَرْأَةً مِنْهُمْ عَلَيَّ، وَلْيَسْمَعْ بِذَلِكَ غَيْرُهُمْ فَقَالَ
عَلِيٌّ: عَلامَ أَرُدُّهُمْ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ أَصِيرَ إِلَى مَا
أَشَرْتَ بِهِ عَلَيَّ وَرَأَيْتَهُ لِي، وَلَسْتُ أَخْرُجُ مِنْ
يَدَيْكَ، [فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ كَلَّمْتُكَ مَرَّةً
بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ نَخْرُجُ فَتَكَلَّمَ، وَنَقُولُ
وَتَقُولُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِعْلُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ عَامِرٍ وَمُعَاوِيَةَ، أَطَعْتَهُمْ
وَعَصَيْتَنِي.
قَالَ عُثْمَانُ: فَإِنِّي أَعْصِيهِمْ وَأُطِيعُكَ] قَالَ: فَأَمَرَ
النَّاسَ، فَرَكِبُوا مَعَهُ: الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارِ قَالَ:
وَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، يُكَلِّمُهُ أَنْ
يَرْكَبَ مَعَ عَلِيٍّ فَأَبَى، فَأَرْسَلَ عثمان الى سعد بن ابى وقاص،
فكلمه أَنْ يَأْتِيَ عَمَّارًا فَيُكَلِّمُهُ أَنْ يَرْكَبَ مَعَ
عَلِيٍّ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَمَّارٍ،
فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، أَلا تَخْرُجُ فِيمَنْ يَخْرُجُ!
وَهَذَا عَلِيٌّ يَخْرُجُ فَاخْرُجْ مَعَهُ، وَارْدُدْ هَؤُلاءِ
الْقَوْمَ عَنْ إِمَامِكَ، فَإِنِّي
(4/358)
لأَحْسَبُ أَنَّكَ لَمْ تَرْكَبْ مَرْكَبًا
هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ.
قَالَ: وَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ
الْكِنْدِيِّ- وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِ عُثْمَانَ- فَقَالَ: انْطَلِقْ
فِي إِثْرِ سَعْدٍ فَاسْمَعْ مَا يَقُولُ سَعْدٌ لِعَمَّارٍ، وَمَا
يَرُدُّ عَمَّارٌ عَلَى سَعْدٍ، ثُمَّ ائْتِنِي سَرِيعًا.
قَالَ: فَخَرَجَ كَثِيرٌ حَتَّى يَجِدَ سَعْدًا عِنْدَ عَمَّارٍ
مَخْلِيًّا بِهِ، فَأَلْقَمَ عَيْنَهُ جُحْرَ الْبَابِ، فَقَامَ
إِلَيْهِ عَمَّارٌ وَلا يَعْرِفُهُ، وَفِي يَدِهِ قَضِيبٌ، فَأَدْخَلَ
الْقَضِيبُ الْجُحْرَ الَّذِي أَلْقَمَهُ كَثِيرٌ عَيْنَهُ، فَأَخْرَجَ
كَثِيرٌ عَيْنَهُ مِنَ الْجُحْرِ، وَوَلَّى مُدْبِرًا مُتَقَنِّعًا
فَخَرَجَ عَمَّارٌ فَعَرَفَ أَثَرَهُ، وَنَادَى: يَا قَلِيلُ ابْنَ
أُمِّ قَلِيلٍ! أَعَلَيَّ تَطَّلِعُ وَتَسْتَمِعُ حَدِيثِي! وَاللَّهِ
لَوْ دَرِيتُ أَنَّكَ هُوَ لَفَقَأْتُ عَيْنَكَ بِالْقَضِيبِ، فان رسول
الله ص قَدْ أَحَلَّ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ عَمَّارٌ إِلَى سَعْدٍ،
فَكَلَّمَهُ سَعْدٌ وَجَعَلَ يَفْتِلُهُ بِكُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ آخَرُ
ذَلِكَ أَنْ قَالَ عَمَّارٌ: وَاللَّهِ لا أَرُدُّهُمْ عَنْهُ أَبَدًا
فَرَجَعَ سَعْدٌ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ عَمَّارٌ،
فَاتَّهَمَ عُثْمَانُ سَعْدًا أَنْ يَكُونَ لَمْ يُنَاصِحْهُ،
فَأَقْسَمَ لَهُ سَعْدٌ بِاللَّهِ، لَقَدْ حُرِّضَ فَقَبِلَ مِنْهُ
عُثْمَانُ.
قَالَ: وركب على ع إِلَى أَهْلِ مِصْرَ، فَرَدَّهُمْ عَنْهُ،
فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صالح، عن عاصم
بن عمر، عن محمود بْنِ لبيد، قَالَ: لما نزلوا ذا خشب، كلم عثمان عليا
واصحاب رسول الله ص أن يردوهم عنه، فركب علي وركب مَعَهُ نفر من
الْمُهَاجِرِينَ، فِيهِمْ سَعِيد بن زَيْدٍ، وأبو جهم العدوي، وجبير بن
مطعم، وحكيم بن حزام، ومروان بن الحكم، وسعيد بن الْعَاصِ، وعبد
الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، وخرج من الأنصار أَبُو أسيد الساعدي وأبو
حميد الساعدي، وزَيْد بن ثَابِت، وحسان بن ثَابِت، وكعب بن مَالِكٍ،
ومعهم من العرب نيار بن مكرم وغيرهم ثلاثون رجلا، وكلمهم علي ومحمد بن
مسلمة- وهما اللذان قدما- فسمعوا مقالتهما، ورجعوا قَالَ محمود:
فأخبرني مُحَمَّد بن مسلمة، قَالَ: مَا برحنا من ذي خشب حَتَّى رحلوا
راجعين إِلَى مصر، وجعلوا يسلمون علي، فما أنسى قول عبد الرَّحْمَن بن
عديس:
أتوصينا يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن بحاجة؟ قَالَ: قلت: تتقي اللَّه وحده
لا شريك له،
(4/359)
وترد من قبلك عن إمامه، فإنه قَدْ وعدنا أن
يرجع وينزع قَالَ ابن عديس: أفعل إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: فرجع القوم
إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
لما رجع على ع إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْبَرَهُ
أَنَّهُمْ قَدْ رَجَعُوا، وَكَلَّمَهُ عَلِيٌّ كَلامًا فِي نَفْسِهِ،
قَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنِّي قَائِلٌ فِيكَ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْتُ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَيْتِهِ، قَالَ: فَمَكَثَ عُثْمَانُ ذَلِكَ
الْيَوْمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ جَاءَهُ مَرْوَانُ، فَقَالَ
لَهُ: تَكَلَّمْ وَأَعْلِمِ النَّاسَ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ قَدْ
رَجَعُوا، وَأَنَّ مَا بَلَغَهُمْ عَنْ إِمَامِهِمْ كَانَ بَاطِلا،
فَإِنَّ خُطْبَتَكَ تَسِيرُ فِي الْبِلادِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّبَ
النَّاسُ عَلَيْكَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ، فَيَأْتِيكَ مَنْ لا
تَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ قَالَ:
فَأَبَى عُثْمَانُ أَنْ يَخْرُجَ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَرْوَانُ
حَتَّى خَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ مِنْ
أَهْلِ مِصْرَ كَانَ بَلَغَهُمْ عَنْ إِمَامِهِمْ أَمْرٌ، فَلَمَّا
تَيَقَّنُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ رَجَعُوا إِلَى
بِلادِهِمْ قَالَ: فَنَادَاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ نَاحِيَةِ
الْمَسْجِدِ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ
نَهَابِيرَ وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ إِلَى اللَّهِ نَتُبْ.
قَالَ: فناداه عثمان، وانك هناك يا بن النَّابِغَةِ! قَمِلَتْ
وَاللَّهِ جُبَّتُكَ مُنْذُ تَرَكْتُكَ مِنَ الْعَمَلِ قَالَ:
فَنُودِيَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى: تُبْ إِلَى اللَّهِ وَأَظْهِرِ
التَّوْبَةَ يَكُفَّ النَّاسُ عَنْكَ قَالَ: فَرَفَعَ عُثْمَانُ
يَدَيْهِ مَدًّا وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ تَائِبٍ تَابَ إِلَيْكَ وَرَجَعَ إِلَى
مَنْزِلِهِ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نَزَلَ مَنْزِلَهُ
بِفِلَسْطِينَ، فَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ انى كُنْتُ لأَلْقَى
الرَّاعِيَ فَأُحَرِّضُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ عُثْمَانُ بَعْدَ
انْصِرَافِ الْمِصْرِيِّينَ، فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ كَلامًا
يَسْمَعُهُ النَّاسُ مِنْكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ
اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِكَ مِنَ النُّزُوعِ وَالإِنَابَةِ،
(4/360)
فَإِنَّ الْبِلادَ قَدْ تَمَخَّضَتْ
عَلَيْكَ، فَلا آمَنُ رَكْبًا آخَرِينَ يَقْدَمُونَ مِنَ الْكُوفَةِ،
فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ، ارْكَبْ إِلَيْهِمْ، وَلا أَقْدِرُ أَنْ
أَرْكَبَ إِلَيْهِمْ، وَلا أَسْمَعُ عُذْرًا.
وَيَقْدُمُ رَكْبٌ آخَرُونَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ
ارْكَبْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ رَأَيْتُنِي قَدْ قَطَعْتُ
رَحِمَكَ، وَاسْتَخْفَفْتُ بِحَقِّكَ.
قَالَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الَّتِي نَزَعَ
فِيهَا، وَأَعْطَى النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ التَّوْبَةَ، فَقَامَ
فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ
قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الناس، فو الله مَا عَابَ مَنْ عَابَ
مِنْكُمْ شَيْئًا أَجْهَلُهُ، وَمَا جِئْتُ شَيْئًا إِلا وَأَنَا
أَعْرِفُهُ، وَلَكِنِّي مَنَّتْنِي نَفْسِي وَكَذَّبَتْنِي، وَضَلَّ
عَنِي رُشْدِي، [وَلَقَدْ سمعت رسول الله ص يَقُولُ: مَنْ زَلَّ
فَلْيَتُبْ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَلْيَتُبْ، ولا يتماد فِي الْهَلَكَةِ،
إِنَّ مَنْ تَمَادَى فِي الْجَوْرِ كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الطَّرِيقِ،]
فَأَنَا أَوَّلُ مَنِ اتَّعَظَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا فَعَلْتُ
وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَمِثْلِي نَزَعَ وَتَابَ، فَإِذَا نَزَلْت
فَلْيَأْتِنِي أَشَرَافُكُمْ فليرونى رأيهم، فو الله لَئِنْ رَدَّنِي
الْحَقُّ عَبْدًا لأَسْتَنُّ بِسُنَّةِ الْعَبْدِ، وَلأَذِلَّنَّ ذُلَّ
الْعَبْدِ، وَلأَكُونَنَّ كَالْمَرْقُوقِ، إِنْ مُلِكَ صَبَرَ، وَإِنْ
عُتِقَ شَكَرَ، وَمَا عَنِ اللَّهِ مَذْهَبٌ إِلا إِلَيْهِ، فَلا
يَعْجَزَنَّ عَنْكُمْ خِيَارُكُمْ أَنْ يَدْنُوا إِلَيَّ، لَئِنْ
أَبَتْ يَمِينِي لِتُتَابِعَنِي شِمَالِي.
قَالَ: فَرَقَّ النَّاسُ لَهُ يَوْمَئِذٍ، وَبَكَى من بكى منهم، وقام
اليه سعيد ابن زَيْدٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ
بِوَاصِلٍ لَكَ مَنْ لَيْسَ مَعَكَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ!
فَأَتْمِمْ عَلَى مَا قُلْتَ فَلَمَّا نَزَلَ عُثْمَانُ وَجَدَ فِي
مَنْزِلِهِ مَرْوَانَ وَسَعِيدًا وَنَفَرًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ،
وَلَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا الْخُطْبَةَ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ
مَرْوَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَكَلَّمُ أَمْ أَصْمُتُ؟
فَقَالَتْ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ، امْرَأَةُ عُثْمَانَ
الْكَلْبِيَّةُ:
لا بَلِ اصْمُتْ، فَإِنَّهُمْ وَاللَّهِ قَاتِلُوهُ وَمُؤْثِمُوهُ،
إِنَّهُ قَدْ قَالَ مَقَالَةً لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهَا
فَأَقْبَلَ عليها مروان، فقال: ما أنت وذاك! فو الله لَقَدْ مَاتَ
أَبُوكِ وَمَا يُحْسِنُ يتوضأ، فَقَالَتْ لَهُ: مَهْلا يَا مَرْوَانُ
عَنْ ذِكْرِ الآبَاءِ، تُخْبِرُ عَنْ أَبِي وَهُوَ غَائِبٌ تَكْذِبُ
عَلَيْهِ! وَإِنَّ أَبَاكَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ، أَمَا
وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّهُ عَمُّهُ، وَأَنَّهُ يَنَالُهُ غَمُّهُ،
أَخْبَرْتُكَ عَنْهُ مَا لَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ
(4/361)
قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهَا مَرْوَانُ،
ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَكَلَّمُ أَمْ أَصْمُتُ؟
قَالَ: بَلْ تَكَلَّمْ، فَقَالَ مَرْوَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي!
وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ مَقَالَتَكَ هَذِهِ كَانَتْ وَأَنْتَ
مُمْتَنِعٌ مَنِيعٌ فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ رَضِيَ بِهَا، وَأَعَانَ
عَلَيْهَا، وَلَكِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ حِينَ بَلَغَ الْحِزَامُ
الطُّبْيَيْنِ، وَخَلَفَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَحِينَ أَعْطَى
الْخُطَّةَ الْذَلِيلَةَ الذَّلِيلُ، وَاللَّهِ لإِقَامَةٌ عَلَى
خَطِيئَةٍ تَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا أَجْمَلُ مِنْ تَوْبَةٍ
تُخَوَّفُ عَلَيْهَا، وَإِنَّكَ إِنْ شِئْتَ تَقَرَّبْتَ بِالتَّوْبَةِ
وَلَمْ تُقْرِرْ بِالْخَطِيئَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ عَلَى
الْبَابِ مِثْلُ الْجِبَالِ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ عُثْمَانُ:
فَاخْرُجْ اليهم فكلمهم، فانى استحى أَنْ أُكَلِّمَهُمْ قَالَ:
فَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى الْبَابِ وَالنَّاسُ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ قَدِ اجْتَمَعْتُمْ كَأَنَّكُمْ قَدْ
جِئْتُمْ لِنَهْبٍ! شَاهَتِ الْوُجُوهِ! كُلُّ إِنْسَانٍ آخِذٌ
بِإِذْنِ صَاحِبِهِ أَلا مَنْ أُرِيدَ! جِئْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَنْزَعُوا مُلْكَنَا مِنْ أَيْدِينَا! اخْرُجُوا عَنَّا، أَمَا
وَاللَّهِ لَئِنْ رُمْتُمُونَا لَيَمُرَّنَّ عَلَيْكُمْ مِنَّا أَمْرٌ
لا يَسُرُّكُمْ، وَلا تَحْمَدُوا غِبَّ رَأْيِكُمْ ارْجِعُوا إِلَى
مَنَازِلِكُمْ، فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ مَغْلُوبِينَ عَلَى مَا
فِي أَيْدِينَا قَالَ: فَرَجَعَ النَّاسُ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ حَتَّى
أَتَى عَلِيًّا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، [فَجَاءَ عَلِيٌّ ع مُغْضَبًا،
حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: أَمَا رَضِيتَ مِنْ مَرْوَانَ
وَلا رَضِيَ مِنْكَ إِلا بِتَحَرُّفِكَ عَنْ دِينِكَ وَعَنْ عَقْلِكَ،
مِثْلَ جَمَلِ الظَّعِينَةِ يُقَادُ حَيْثُ يُسَارُ بِهِ، وَاللَّهِ
مَا مَرْوَانُ بِذِي رَأْيٍ فِي دِينِهِ وَلا نَفْسِهِ، وَايْمُ
اللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ سَيُورِدُكَ ثُمَّ لا يُصْدِرُكَ، وَمَا أَنَا
بِعَائِدٍ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا لِمُعَاتَبَتِكَ، أَذْهَبْتَ
شَرَفَكَ، وَغَلَبْتَ عَلَى أَمْرِكَ] فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ
دَخَلَتْ عَلَيْهِ نَائِلَةُ ابْنَةُ الْفُرَافِصَةِ امْرَأَتُهُ،
فَقَالَتْ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمِي، فقالت: قد
سمعت قول على لك، وانه لَيْسَ يُعَاوِدُكَ، وَقَدْ أَطَعْتَ مَرْوَانَ
يَقُودُكَ حَيْثُ شَاءَ قَالَ:
فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَتْ: تَتَّقِي اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،
وَتَتَّبِع سُنَّةَ صَاحِبَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ، فَإِنَّكَ مَتَى
أَطَعْتَ مَرْوَانَ قَتَلَكَ، وَمَرْوَانُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ
قَدْرٌ وَلا هَيْبَةٌ وَلا مَحَبَّةٌ، وَإِنَّمَا تَرَكَكَ النَّاسُ
لِمَكَانِ مَرْوَانَ، فَأَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ فَاسْتَصْلِحْهُ،
(4/362)
فَإِنَّ لَهُ قَرَابَةً مِنْكَ، وَهُوَ لا
يُعْصَى قَالَ: فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ، فَأَبَى أَنْ
يَأْتِيَهُ، وَقَالَ: قَدْ أَعْلَمْتُهُ أَنِّي لَسْتُ بِعَائِدٍ.
قَالَ: فَبَلَغَ مَرْوَانَ مَقَالَةُ نَائِلَةَ فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَ
إِلَى عُثْمَانَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَتَكَلَّمُ أَوْ
أَسْكُتُ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ: إِنَّ بِنْتَ الْفُرَافِصَةِ
فَقَالَ عُثْمَانُ: لا تَذْكُرَنَّهَا بِحَرْفٍ فاسوى لَكَ وَجْهَكَ،
فَهِيَ وَاللَّهِ أَنْصَحُ لِي مِنْكَ.
قَالَ: فَكَفَّ مَرْوَانُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي
عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ
يَذْكُرُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ مَرْوَانَ!
خَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى النَّاسِ فَأَعْطَاهُمُ الرِّضَا، وَبَكَى
عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَكَى النَّاسُ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى لِحْيَةِ
عُثْمَانَ مُخَضَّلَةً مِنَ الدُّمُوعِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ
إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ،
اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ! وَاللَّهِ لَئِنْ رَدَّنِي
الْحَقُّ إِلَى أَنْ أَكُونَ عَبْدًا قِنًّا لأَرْضَيَنَّ بِهِ، إِذَا
دَخَلْتُ منزلي فادخلوا على، فو الله لا احتجب منكم،
وَلأُعْطِيَنَّكُمُ الرِّضَا، وَلأَزِيدَنَّكُمْ عَلَى الرِّضَا،
وَلأُنْحِيَنَّ مَرْوَانَ وَذَوِيهِ قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ أَمَرَ
بِالْبَابِ فَفُتِحَ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ،
فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُهُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى
فَتَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَأَزَالَهُ عَمَّا كَانَ يُرِيدُ، فَلَقَدْ
مَكَثَ عُثْمَانُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مَا خَرَجَ اسْتِحْيَاءً مِنَ
النَّاسِ، وَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: شَاهَتِ
الْوُجُوهُ! أَلا مَنْ أُرِيدَ! ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَإِنْ
يَكُنْ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَاجَةٌ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ يُرْسِلْ
إِلَيْهِ، وَإِلا قَرَّ فِي بَيْتِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:
فَجِئْتُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَجِدُهُ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ،
وَأَجِدُ عِنْدَهُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي
بَكْرٍ وَهُمَا يَقُولانِ:
صَنَعَ مَرْوَانُ بِالنَّاسِ وَصَنَعَ قَالَ: [فَأَقْبَلَ عَلَيَّ
عَلِيٌّ، فَقَالَ: أَحَضَرْتَ خُطْبَةَ عُثْمَانَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ،
قَالَ: أَفَحَضَرْتَ مَقَالَةَ مَرْوَانَ لِلنَّاسِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ،
قَالَ عَلِيٌّ: عِيَاذُ اللَّهِ، يَا لِلْمُسْلِمِينَ! إِنِّي إِنْ
قَعَدْتُ فِي بَيْتِي قَالَ لِي: تَرَكْتَنِي
(4/363)
وَقَرَابَتِي وَحَقِّي، وَإِنِّي إِنْ
تَكَلَّمْتُ فَجَاءَ مَا يُرِيدُ يَلْعَبُ بِهِ مَرْوَانُ، فَصَارَ
سِيقَةً لَهُ يَسُوقُهُ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ
وَصُحْبَةِ رسول الله ص] .
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى جَاءَ
رَسُولُ عُثْمَانَ: ائْتِنِي، فَقَالَ عَلِيٌّ بَصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ
عَالٍ مُغْضَبٍ: قُلْ لَهُ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْكَ وَلا
عَائِدٍ.
قَالَ: فَانْصَرَفَ الرَّسُولُ قَالَ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بَعْدَ
ذَلِكَ بِلَيْلَتَيْنِ خَائِبًا، فَسَأَلْتُ نَاتِلا غُلامَهُ: مِنْ
أَيْنَ جَاءَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: كَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ،
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: فَغَدَوْتُ فَجَلَسْتُ
مَعَ على ع، فَقَالَ لِي:
جَاءَنِي عُثْمَانُ الْبَارِحَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنِّي غَيْرُ
عَائِدٍ، وَإِنِّي فَاعِلٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: بَعْدَ مَا
تَكَلَّمْتَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ رسول الله ص، وَأَعْطَيْتَ مِنْ
نَفْسِكَ، ثُمَّ دَخَلْتَ بَيْتَكَ، وَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى النَّاسِ
فَشَتَمَهُمْ عَلَى بَابِكَ وَيُؤْذِيهِمْ! قَالَ: فَرَجَعَ وَهُوَ
يَقُولُ: قَطَعْتَ رَحِمِي وَخَذَلْتَنِي، وَجَرَّأْتَ النَّاسَ
عَلَيَّ.
فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَذُبُّ الناس عنك، ولكنى كلا جِئْتُكَ
بِهَنَةٍ أَظُنُّهَا لَكَ رِضًا جَاءَ بِأُخْرَى، فَسَمِعْتَ قَوْلَ
مَرْوَانَ عَلَيَّ، وَاسْتَدْخَلْتَ مَرْوَانَ.
قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الأَسْوَدِ: فَلَمْ أَزَلْ أَرَى عَلِيًّا مُنْكِبًا عَنْهُ لا
يَفْعَلُ مَا كَانَ يَفْعَلُ، إِلا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ
كَلَّمَ طَلْحَةَ حِينَ حُصِرَ فِي أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ
الرَّوَايَا، وَغَضِبَ فِي ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى دَخَلَتِ
الرَّوَايَا عَلَى عُثْمَانَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ صَعِدَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،
فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَقِمْ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ:
اجْلِسْ، فَجَلَسَ حَتَّى قَامَ ثَلاثًا، فَأَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ
فَجَلَسَ، فَتَحَاثَوْا بِالْحَصْبَاءِ حَتَّى مَا تُرَى السَّمَاءُ،
وَسَقَطَ عَنِ الْمِنْبَرِ، وَحُمِلَ فَأُدْخِلَ دَارَهُ مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ حُجَّابِ عُثْمَانَ، وَمَعَهُ مُصْحَفٌ
فِي يَدِهِ وَهُوَ يُنَادِي: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى
اللَّهِ» وَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ
(4/364)
أَبِي طَالِبٍ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ
مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ حَوْلَهُ، فَقَالَ: مالك يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَأَقْبَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ بِمَنْطِقٍ
وَاحِدٍ، فَقَالُوا: يَا عَلِيُّ أَهْلَكْتَنَا وَصَنَعْتَ هَذَا
الصَّنِيعَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغْتَ
الَّذِي تُرِيدُ لَتَمُرَّنَّ عَلَيْكَ الدُّنْيَا فَقَامَ عَلِيٌّ
مغضبا |