تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

. فتح مرو روذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان
وَفِي سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ مرو روذ وَالطَّالَقَانَ وَالْفَارِيَابَ وَالْجَوْزِجَانَ وَطَخَارِسْتَانَ.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا سلمة بن عُثْمَانَ وغيره، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن مسلم، عن

(4/309)


ابن سيرين، قَالَ: بعث ابن عَامِر الأحنف بن قيس الى مرو روذ، فحصر أهلها، فخرجوا إِلَيْهِم فقاتلوهم، فهزمهم الْمُسْلِمُونَ حَتَّى اضطروهم إِلَى حصنهم، فأشرفوا عَلَيْهِم، فَقَالُوا: يَا معشر العرب، مَا كنتم عندنا كما نرى، ولو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هَذِهِ، فأمهلونا ننظر يومنا، وارجعوا إِلَى عسكركم فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وَقَدْ أعدوا لَهُ الحرب، فخرج رجل من العجم مَعَهُ كتاب مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إني رسول فآمنوني، فآمنوه، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه وترجمانه، وإذا كتاب المرزبان إِلَى الأحنف، فقرأ الكتاب، قَالَ: فإذا هُوَ: إِلَى أَمِير الجيش، إنا نحمد اللَّه الَّذِي بيده الدول، يغير مَا شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة.
إنه دعاني إِلَى مصالحتك وموادعتك مَا كَانَ من إسلام جدي، وما كَانَ رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة، فمرحبا بكم وأبشروا، وأنا أدعوكم إِلَى الصلح فِيمَا بينكم وبيننا، عَلَى أن أؤدي إليكم خراجا ستين ألف درهم، وأن تقروا بيدي مَا كَانَ ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حَيْثُ قتل الحية الَّتِي أكلت الناس، وقطعت السبل من الأرضين والقرى بِمَا فِيهَا من الرجال، وَلا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شَيْئًا من الخراج، ولا تخرج المرزبه من اهل بيتى الى غيركم، فإن جعلت ذَلِكَ لي خرجت إليك، وَقَدْ بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق مِنْكَ بِمَا سألت.
قَالَ: فكتب إِلَيْهِ الأحنف: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من صخر بن قيس امير الجيش الى باذان مرزبان مرو روذ ومن مَعَهُ من الأساورة والأعاجم.
سلام عَلَى من اتبع الهدى، وآمن واتقى أَمَّا بَعْدُ، فإن ابن أخيك ماهك

(4/310)


قدم علي، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك، وَقَدْ عرضت ذَلِكَ عَلَى من معي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وأنا وهم فِيمَا عَلَيْك سواء، وَقَدْ أجبناك إِلَى مَا سألت وعرضت عَلَى أن تؤدي عن أكرتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلي وإلى الوالي من بعدي من أمراء الْمُسْلِمِينَ، إلا مَا كَانَ من الأرضين الَّتِي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطع جد أبيك لما كَانَ من قتله الحية الَّتِي أفسدت الأرض وقطعت السبل والأرض لِلَّهِ ولرسوله يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وإن عَلَيْك نصرة الْمُسْلِمِينَ وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة، إن أحب الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وأرادوه، وإن لك عَلَى ذَلِكَ نصرة الْمُسْلِمِينَ عَلَى من يقاتل من وراءك من أهل ملتك، جار لك بِذَلِكَ مني كتاب يكون لك بعدي، وَلا خراج عَلَيْك وَلا عَلَى أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كَانَ لك مِنَ الْمُسْلِمِينَ العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم، ولك بِذَلِكَ ذمتي وذمة أبي وذمم الْمُسْلِمِينَ وذمم آبائهم شهد عَلَى مَا فِي هَذَا الكتاب جزء ابن مُعَاوِيَة- أو مُعَاوِيَة بن جزء السعدي- وحمزة بن الهرماس وحميد بن الخيار المازنيان، وعياض بن ورقاء الأسيدي وكتب كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر اللَّه المحرم وختم أَمِير الجيش الأحنف بن قيس ونقش خاتم الأحنف: نعبد اللَّه.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا مصعب بن حيان، عن أخيه مقاتل بن حيان، قَالَ:
صالح ابن عَامِر أهل مرو، وبعث الأحنف فِي أربعة آلاف إِلَى طخارستان فأقبل حَتَّى نزل موضع قصر الأحنف من مرو روذ، وجمع لَهُ أهل طخارستان، وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب، فكانوا ثلاثة زحوف، ثَلاثِينَ ألفا.
وأتى الأحنف خبرهم وما جمعوا لَهُ، فاستشار الناس فاختلفوا، فبين قائل: نرجع إِلَى مرو، وقائل: نرجع الى ابرشهر، وقائل: نقيم نستمد، وقائل: نلقاهم فنناجزهم.
قَالَ: فلما أمسى الأحنف خرج يمشي فِي العسكر، ويستمع حديث الناس، فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن، وهم يتحدثون ويذكرون العدو، فَقَالَ بعضهم: الرأي للأمير أن يسير إذا أصبح، حتى

(4/311)


يلقى القوم حَيْثُ لقيهم- فإنه أرعب لَهُمْ- فيناجزهم فَقَالَ صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذَلِكَ فقد أخطأ وأخطأتم، أتأمرونه أن يلقى حد العدو مصحرا فِي بلادهم، فيلقى جمعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا! ولكن الرأي لَهُ أن ينزل بين المرغاب والجبل، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره، فلا يلقاه من عدوه وإن كثروا إلا عدد أَصْحَابه فرجع الأحنف وَقَدِ اعتقد مَا قَالَ، فضرب عسكره، وأقام فأرسل اليه اهل مرو يعرضون عليه ان يقاتلو مَعَهُ، فَقَالَ إني أكره أن أستنصر بالمشركين، فأقيموا عَلَى مَا أعطيناكم، وجعلنا بيننا وبينكم، فإن ظفرنا فنحن عَلَى مَا جعلنا لكم، وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم.
قَالَ: فوافق الْمُسْلِمِينَ صلاة العصر، فعاجلهم المشركون فناهضوهم فقاتلوهم، وصبر الفريقان حَتَّى أمسوا والأحنف يتمثل بشعر ابن جؤية الأعرجي:
أحق من لم يكره المنيه ... حزور ليست لَهُ ذريه
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا أَبُو الأشهب السعدي، عَنْ ابيه، قال: لقى الأحنف اهل مرو روذ والطالقان والفارياب والجوزجان فِي الْمُسْلِمِينَ ليلا، فقاتلهم حَتَّى ذهب عامة الليل، ثُمَّ هزمهم اللَّه، فقتلهم الْمُسْلِمُونَ حَتَّى انتهوا إِلَى رسكن- وَهِيَ على اثنى عشر فرسخا من قصر الأحنف- وَكَانَ مرزبان مرو روذ، قَدْ تربص بحمل مَا كَانُوا صالحوه عَلَيْهِ، لينظر مَا يكون من أمرهم.
قَالَ: فلما ظفر الأحنف سرح رجلين إِلَى المرزبان، وأمرهما أَلا يكلماه حَتَّى يقبضاه ففعلا فعلم أَنَّهُمْ لم يصنعوا ذاك بِهِ إلا وَقَدْ ظفروا، فحمل مَا كَانَ عَلَيْهِ.
قَالَ علي: وأخبرنا المفضل الضبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سار الأقرع بن حابس إِلَى الجوزجان، بعثه الأحنف فِي جريدة خيل إِلَى بقية كَانَتْ بقيت

(4/312)


من الزحوف الَّذِينَ هزمهم الأحنف، فقاتلهم، فجال الْمُسْلِمُونَ جولة، فقتل فرسان من فرسانهم، ثُمَّ أظفر اللَّه الْمُسْلِمِينَ بهم فهزموهم وقتلوهم، فَقَالَ كثير النهشلي:
سقى مزن السحاب إذا استهلت ... مصارع فتية بالجوزجان
إِلَى القصرين من رستاق خوط ... اقادهم هناك الاقرعان
وهي طويله

ذكر صلح الأحنف مع اهل بلخ
وفي هَذِهِ السنة، جرى صلح بين الأحنف وبين أهل بلخ.
ذكر الخبر بِذَلِكَ:
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا زهير بن الهنيد، عن إياس بن المهلب، قَالَ:
سار الأحنف من مرو الروذ إِلَى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها عَلَى أربعمائة ألف، فرضي مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَاسْتَعْمَلَ ابن عمه، وَهُوَ أسيد بن المتشمس ليأخذ مِنْهُمْ مَا صالحوه عَلَيْهِ، ومضى إِلَى خارزم، فأقام حَتَّى هجم عَلَيْهِ الشتاء، فَقَالَ لأَصْحَابه: مَا ترون؟ قَالَ لَهُ حصين: قَدْ قَالَ لك عَمْرو بن معديكرب، قَالَ: وما قَالَ؟ قَالَ: قَالَ:
إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إِلَى مَا تستطيع
قَالَ: فأمر الأحنف بالرحيل، ثُمَّ انصرف إِلَى بلخ، وَقَدْ قبض ابن عمه مَا صالحهم عَلَيْهِ، وَكَانَ وافق وَهُوَ يجيبهم المهرجان، فأهدوا إِلَيْهِ هدايا من آنية الذهب والفضة ودنانير ودراهم ومتاع وثياب، فَقَالَ ابن عم الأحنف:
هَذَا مَا صالحناكم عَلَيْهِ؟ قَالُوا: لا، ولكن هَذَا شَيْء نصنعه فِي هَذَا الْيَوْم بمن ولينا نستعطفه بِهِ، قَالَ: وما هَذَا الْيَوْم؟ قَالُوا: المهرجان، قَالَ: مَا أدري مَا هَذَا؟ وإني لأكره أن أرده، ولعله من حقي، ولكن أقبضه وأعزله

(4/313)


حتى انظر فيه، فقبضه، وقدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فَقَالُوا لَهُ مثل مَا قَالُوا لابن عمه، فَقَالَ: آتي بِهِ الأمير، فحمله إِلَى ابن عَامِر، فأخبره عنه، فَقَالَ: اقبضه يَا أَبَا بحر، فهو لك؟ قَالَ: لا حاجة لي فِيهِ، فَقَالَ ابن عَامِر: ضمه إليك يَا مسمار، قَالَ: قَالَ الْحَسَن: فضمه القرشي وَكَانَ مضما.
قَالَ علي: وأخبرنا عَمْرو بن مُحَمَّد المري، عن أشياخ من بني مرة، أن الأحنف استعمل عَلَى بلخ بشر بن المتشمس.
قَالَ علي: وأخبرنا صدقة بن حميد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بعث ابن عَامِر- حين صالح أهل مرو، وصالح الأحنف أهل بلخ- خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي إِلَى هراة وباذغيس، فافتتحهما، ثُمَّ كفروا بعد فكانوا مع قارن.
قَالَ على: وأخبرنا مسلمه، عن داود، قال: ولما رجع الأحنف إِلَى ابن عَامِر قَالَ الناس لابن عَامِر: مَا فتح عَلَى أحد مَا قَدْ فتح عَلَيْك، فارس وكرمان وسجستان وعامة خُرَاسَان! قَالَ: لا جرم، لأجعلن شكري لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ أن أخرج محرما معتمرا من موقفي هَذَا فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم عَلَى عُثْمَانَ لامه عَلَى إحرامه من خُرَاسَان، وَقَالَ: ليتك تضبط ذَلِكَ من الوقت الَّذِي يحرم مِنْهُ الناس! قَالَ علي: أَخْبَرَنَا مسلمة، عن السكن بن قَتَادَة العريني، قَالَ: استخلف ابن عَامِر عَلَى خُرَاسَان قيس بن الهيثم، وخرج ابن عَامِر منها فِي سنة اثنتين وثلاثين قَالَ: فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، فأقبل فِي أربعين ألفا، فَقَالَ لعبد اللَّه بن خازم: مَا ترى؟
قَالَ: أَرَى أن تخلي البلاد فإني أميرها، ومعي عهد من ابن عَامِر، إذا كَانَتْ حرب بخراسان فأنا أميرها- وأخرج كتابا قَدِ افتعله عمدا- فكره قيس مشاغبته، وخلاه والبلاد، وأقبل إِلَى ابن عَامِر، فلامه ابن عَامِر،

(4/314)


وَقَالَ: تركت البلاد حربا وأقبلت! قَالَ: جاءني بعهد مِنْكَ فَقَالَتْ لَهُ أمه: قَدْ نهيتك أن تدعهما فِي بلد، فإنه يشغب عَلَيْهِ.
قَالَ: فسار ابن خازم إِلَى قارن فِي أربعة آلاف، وأمر الناس فحملوا الودك، فلما قرب من عسكره أمر الناس، فَقَالَ: ليدرج كل رجل مِنْكُمْ عَلَى زج رمحه مَا كَانَ مَعَهُ من خرقة أو قطن أو صوف، ثُمَّ أوسعوه من الودك من سمن أو دهن أو زيت أو إهالة ثُمَّ سار حتى إذا امسى قدم مقدمته ستمائه، ثُمَّ أتبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النيران فِي أطراف الرماح، وجعل يقتبس بعضهم من بعض قَالَ: وانتهت مقدمته إِلَى عسكر قارن، فأتوهم نصف الليل، ولهم حرس، فناوشوهم، وهاج الناس عَلَى دهش، وكانوا آمنين فِي أنفسهم من البيات، ودنا ابن خازم مِنْهُمْ، فرأوا النيران يمنة ويسرة، وتتقدم وتتأخر، وتتخفض وترتفع، فلا يرون أحدا فهالهم ذَلِكَ، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثُمَّ غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن، وانهزم العدو فأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيا كثيرا، فزعم شيخ من بني تميم، قَالَ: كَانَتْ أم الصلت بن حريث من سبي قارن، وأم زياد بن الربيع مِنْهُمْ، وأم عون أبي عَبْد اللَّهِ بن عون الفقيه مِنْهُمْ.
قَالَ علي: حَدَّثَنَا مسلمة، قَالَ: أخذ ابن خازم عسكر قارن بِمَا كَانَ فِيهِ، وكتب بالفتح إِلَى ابن عَامِر، فرضي وأقره عَلَى خُرَاسَان، فلبث عَلَيْهَا حَتَّى انقضى أمر الجمل، فأقبل إِلَى الْبَصْرَة، فشهد وقعة ابن الحضرمي، وَكَانَ مَعَهُ فِي دار سبيل.
قَالَ علي: وأخبرنا الْحَسَن بن رشيد، عن سُلَيْمَان بن كثير العمي الخزاعي، قَالَ: جمع قارن لِلْمُسْلِمِينَ جمعا كثيرا، فضاق المسلمون بامرهم، فقال قيس

(4/315)


ابن الهيثم لعبد اللَّه بن خازم: مَا ترى؟ قَالَ: أَرَى أنك لا تطيق كثرة من قَدْ أتانا، فاخرج بنفسك إِلَى ابن عَامِر فتخبره بكثرة من قَدْ جمعوا لنا، ونقيم نحن فِي هَذِهِ الحصون ونطاولهم حَتَّى تقدم ويأتينا مددكم.
قَالَ: فخرج قيس بن الهيثم، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدا، وَقَالَ: قَدْ ولاني ابن عَامِر خُرَاسَان، فسار إِلَى قارن، فظفر بِهِ، وكتب بالفتح إِلَى ابن عَامِر، فأقره ابن عَامِر عَلَى خُرَاسَان، فلم يزل أهل الْبَصْرَةِ يغزون من لَمْ يَكُنْ صالح من أهل خُرَاسَان، فإذا رجعوا خلفوا أربعة آلاف للعقبة، فكانوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كانت الفتنة

(4/316)


ثُمَّ دخلت

سنة ثلاث وثلاثين
ففيها كَانَتْ غزوة مُعَاوِيَة حصن المرأة من أرض الروم من ناحية ملطية فِي قول الْوَاقِدِيّ.
وفيها كَانَتْ غزوة عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ أبي سرح إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد.
وفيها قدم عَبْد اللَّهِ بن عَامِر الأحنف بن قيس إِلَى خُرَاسَان وَقَدِ انتقض أهلها، ففتح المروين: مرو الشاهجان صلحا، ومرو الروذ بعد قتال شديد، وتبعه عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، فنزل أَبْرَشَهْر، ففتحها صلحا فِي قول الْوَاقِدِيّ.
وأما أَبُو معشر فإنه قَالَ- فيما حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه، قَالَ: كَانَتْ قبرس سنة ثلاث وثلاثين، وَقَدْ ذكرنا قول من خالفه فِي ذَلِكَ، والخبر عن قبرس.
وفيها: كَانَ تسيير عُثْمَان بن عَفَّانَ من سير من أهل العراق إِلَى الشام

ذكر تسيير من سير من أهل الْكُوفَة إِلَيْهَا
اختلف أهل السير فِي ذَلِكَ، فأما سَيْفٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّد وَطَلْحَةَ، قَالا: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لا يَغْشَاهُ إِلا نَازِلَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَوُجُوهُ أَهْلِ الأَيَّامِ وَأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ وَقُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْمُتَسَمِّتُونَ، وَكَانَ هَؤُلاءِ دخلته إِذَا خَلا، فَأَمَّا إِذَا جَلَسَ للناس

(4/317)


فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، فَجَلَسَ لِلنَّاسِ يوما، فدخلوا عليه، فبيناهم جُلُوسٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ خُنَيْسُ بْنُ فُلانٍ: مَا أَجْوَدَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ! فَقَالَ سَعِيدُ ابن الْعَاصِ: إِنَّ مَنْ لَهُ مِثْلُ النَّشَاسْتَجَ لَحَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ جَوَادًا، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَهُ لأَعَاشَكُمُ اللَّهُ عَيْشًا رَغْدًا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خُنَيْسٍ- وَهُوَ حَدَثٌ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْمِلْطَاطَ لَكَ- يَعْنِي مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ الَّذِي يَلِي الْكُوفَةَ- قَالُوا: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ! وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْنَا بِكَ، فَقَالَ: خُنَيْسٌ غُلامٌ فَلا تُجَازُوهُ، فَقَالُوا: يَتَمَنَّى لَهُ مِنْ سَوَادِنَا! قَالَ:
وَيَتَمَنَّى لَكُمْ أَضْعَافَهُ، قَالُوا: لا يَتَمَنَّى لَنَا وَلا لَهُ، قَالَ: مَا هَذَا بِكُمْ! قَالُوا:
أَنْتَ وَاللَّهِ أَمَرْتَهُ بِهَا، فَثَارَ إِلَيْهِ الأَشْتَرُ وَابْنُ ذِي الْحُبْكَةِ وَجُنْدُبٌ وَصَعْصَعَةُ وَابْنُ الْكَوَّاءِ وَكُمَيْلُ بن زياد وعمير بن ضائى، فَأَخَذُوهُ فَذَهَبَ أَبُوهُ لِيَمْنَعَ مِنْهُ فَضَرَبُوهُمَا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِمَا، وَجَعَلَ سَعِيدٌ يُنَاشِدُهُمْ وَيَأْبَوْنَ، حَتَّى قَضَوْا مِنْهُمَا وَطَرًا، فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو أَسَدٍ، فجاءوا وفيهم طُلَيْحَةُ فَأَحَاطُوا بِالْقَصْرِ، وَرَكِبَتِ الْقَبَائِلُ، فَعَاذُوا بِسَعِيدٍ، وقالوا: افلتنا وخلصنا.
فَخَرَجَ سَعِيدٌ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَوْمٌ تَنَازَعُوا وَتَهَاوَوْا، وَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ الْعَافِيَةَ ثم قعدوا وعادوا في حديثهم، وتراجعوا فساءهم وِرْدَهُمْ، وَأَفَاقَ الرَّجُلانِ، فَقَالَ: أَبِكُمَا حَيَاةٌ؟ قَالا: قَتَلَتْنَا غَاشِيَتُكَ، قَالَ: لا يَغْشُونِي وَاللَّهِ أَبَدًا، فَاحْفَظَا عَلَيَّ أَلْسِنَتَكُمَا وَلا تُجَرِّئَا عَلَيَّ النَّاسَ فَفَعَلا وَلَمَّا انْقَطَعَ رَجَاءُ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ ذَلِكَ قَعَدُوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَأَقْبَلُوا عَلَى الإِذَاعَةِ حَتَّى لامَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: هَذَا أَمِيرُكُمْ وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أُحَرِّكُ شَيْئًا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُحَرِّكَ شَيْئًا فَلْيُحَرِّكْهُ.
فَكَتَبَ أَشْرَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَصُلَحَاؤُهُمْ إِلَى عُثْمَانَ فِي إِخْرَاجِهِمْ، فَكَتَبَ:
إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَلْحِقُوهُمْ بِمُعَاوِيَةَ فَأَخْرِجُوهُمْ، فَذُلُّوا وَانْقَادُوا حَتَّى أَتَوْهُ- وَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ- فَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ:
إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ أَخْرَجُوا إِلَيْكَ نَفَرًا خُلِقُوا لِلْفِتْنَةِ، فَرَعْهُمْ وَقُمْ عَلَيْهِمْ،

(4/318)


فَإِنْ آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَعْيَوْكَ فَارْدُدْهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ رَحَّبَ بِهِمْ وَأَنْزَلَهُمْ كَنِيسَةً تُسَمَّى مَرْيَمَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ بِأَمْرِ عُثْمَانَ مَا كَانَ يُجْرَى عَلَيْهِمْ بِالْعِرَاقِ، وَجَعَلَ لا يَزَالُ يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لَكُمْ أَسْنَانٌ وَأَلْسِنَةٌ، وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ بِالإِسْلامِ شَرَفًا وَغَلَبْتُمُ الأُمَمَ وَحَوَيْتُمْ مَرَاتِبَهُمْ وَمَوَارِيثَهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ نَقِمْتُمْ قُرَيْشًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا لَوْ لَمْ تَكُنْ عُدْتُمْ أَذِلَّةً كَمَا كُنْتُمْ، إِنَّ أَئِمَّتَكُمْ لكم الى اليوم جنه فلا تشذوا عَنْ جُنَّتِكُمْ، وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمُ الْيَوْمَ يَصْبِرُونَ لَكُمْ عَلَى الْجَوْرِ، وَيَحْتَمِلُونَ مِنْكُمُ الْمَئُونَةَ، وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيَبْتَلِيَنَّكُمُ اللَّهُ بِمَنْ يَسُومُكُمْ، ثُمَّ لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاء لهم فِيمَا جَرَرْتُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ فِي حَيَاتِكُمْ وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ الْعَرَبِ وَلا أَمْنَعَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتُخَوِّفُنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْجُنَّةِ فَإِنَّ الْجُنَّةَ إِذَا اخْتُرِقَتْ خَلَصَ إِلَيْنَا.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَرَفْتُكُمُ الآنَ، عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي أَغْرَاكُمْ عَلَى هَذَا قِلَّةُ الْعُقُولِ، وَأَنْتَ خَطِيبُ الْقَوْمِ، وَلا أَرَى لَكَ عَقْلا، أُعَظِّمُ عَلَيْكَ أَمْرَ الإِسْلامِ، وَأُذَكِّرُكَ بِهِ، وَتُذَكِّرُنِي الْجَاهِلِيَّةَ! وَقَدْ وَعَظْتُكَ وَتَزْعُمُ لِمَا يَجِنُّكَ أَنَّهُ يُخْتَرَقُ، وَلا يُنْسَبُ مَا يُخْتَرَقُ إِلَى الْجُنَّةِ، أَخْزَى اللَّهُ أَقْوَامًا أَعْظَمُوا أَمْرَكُمْ، وَرَفَعُوا إِلَى خَلِيفَتِكُمْ! افْقَهُوا- وَلا أَظُنُّكُمْ تَفْقَهُونَ- أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَعِزَّ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ إِلا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ تَكُنْ بِأَكْثَرِ الْعَرَبِ وَلا أَشَدَّهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَكْرَمَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَمْحَضَهُمْ أَنْسَابًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَخْطَارًا، وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالنَّاسُ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا بِاللَّهِ الَّذِي لا يُسْتَذَلُّ مَنْ أَعَزَّ، وَلا يُوضَعُ مَنْ رَفَعَ، فَبَوَّأَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُتَخَطَّفُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِمْ! هَلْ تَعْرِفُونَ عُرْبًا أَوْ عُجْمًا أَوْ سُودًا أَوْ حُمْرًا إِلا قَدْ أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي بَلَدِهِ وَحُرْمَتِهِ بِدَوْلَةٍ، إِلا مَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِكَيْدٍ إِلا جَعَلَ الله

(4/319)


خَدَّهُ الأَسْفَلَ، حَتَّى أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَنَقَّذَ مَنْ أَكْرَمَ وَاتَّبَعَ دِينَهُ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا وَسُوءِ مَرَدِّ الآخِرَةِ، فَارْتَضَى لِذَلِكَ خَيْرَ خَلْقِهِ، ثُمَّ ارْتَضَى لَهُ أَصْحَابًا فَكَانَ خِيَارُهُمْ قُرَيْشًا، ثُمَّ بَنَى هَذَا الْمُلْكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْخِلافَةَ فِيهِمْ، وَلا يَصْلُحُ ذَلِكَ إِلا عَلَيْهِمْ، فَكَانَ اللَّهُ يَحُوطُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، أَفَتَرَاهُ لا يَحُوطُهُمْ وَهُمْ عَلَى دِينِهِ وَقَدْ حَاطَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا يَدِينُونَكُمْ! أُفٍّ لَكَ وَلأَصْحَابِكَ! وَلَوْ أَنَّ مُتَكَلِّمًا غَيْرَكَ تَكَلَّمَ، وَلَكِنَّكَ ابْتَدَأْتَ فَأَمَّا أَنْتَ يَا صَعْصَعَةُ فَإِنَّ قَرْيَتَكَ شَرُّ قُرَى عَرَبِيَّةً، أَنْتَنُهَا نَبْتًا، وَأَعْمَقُهَا وَادِيًا، وَأَعْرَفُهَا بِالشَّرِّ، وَأَلأَمُهَا جِيرَانًا، لَمْ يَسْكُنْهَا شَرِيفٌ قَطُّ وَلا وَضِيعٌ إِلا سُبَّ بِهَا، وَكَانَتْ عَلَيْهِ هُجْنَةً، ثُمَّ كَانُوا أَقْبَحَ الْعَرَبِ أَلْقَابًا، وَأَلأَمَهُ أَصْهَارًا، نُزَّاعَ الأُمَمِ، وَأَنْتُمْ جِيرَانُ الْخَطِّ وَفَعَلَةُ فَارِسٍ، حتى أصابتكم دعوه النبي ص وَنَكَبَتْكَ دَعْوَتُهُ، وَأَنْتَ نَزِيعُ شَطِيرٍ فِي عُمَانَ، لَمْ تَسْكُنِ الْبَحْرَيْنَ فَتُشْرِكَهُمْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ ص، فَأَنْتَ شَرُّ قَوْمِكَ، حَتَّى إِذَا أَبْرَزَكَ الإِسْلامُ، وَخَلَطَكَ بِالنَّاسِ، وَحَمَلَكَ عَلَى الأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْكَ، أَقْبَلْتَ تَبْغِي دِينَ اللَّهِ عِوَجًا، وَتَنْزَعُ إِلَى اللآمة وَالذِّلَّةِ وَلا يَضَعُ ذَلِكَ قُرَيْشًا، وَلَنْ يَضُرَّهُمْ، وَلَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ تَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ، إِنَّ الشَّيْطَانَ عَنْكُمْ غَيْرُ غَافِلٍ، قَدْ عَرَفَكُمْ بِالشَّرِّ مِنْ بَيْنِ أُمَّتِكُمْ، فَأَغْرَى بِكُمُ النَّاسَ، وَهُوَ صَارِعُكُمْ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ بِكُمْ قَضَاءً قَضَاهُ اللَّهُ، وَلا أَمْرًا أَرَادَهُ اللَّهُ، وَلا تُدْرِكُونَ بِالشَّرِّ أَمْرًا أَبَدًا إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شَرًّا مِنْهُ وَأَخْزَى.
ثُمَّ قَامَ وَتَرَكَهُمْ، فَتَذَامَرُوا فَتَقَاصَرَتْ إِلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُمْ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فَاذْهَبُوا حَيْثُ شئتم، لا والله لا ينفع الله بِكُمْ أَحَدًا وَلا يَضُرُّهُ، وَلا أَنْتُمْ بِرِجَالِ مَنْفَعَةٍ وَلا مَضَرَّةٍ، وَلَكِنَّكُمْ رِجَالُ نَكِيرٍ.
وَبُعْدٍ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ النَّجَاةَ فَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ، وَلِيَسَعَكُمْ مَا وَسِعَ الدَّهْمَاءَ، وَلا يَبْطِرَنَّكُمُ الأَنْعَامُ، فَإِنَّ الْبَطَرَ لا يَعْتَرِي الْخِيَارَ، اذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، فَإِنِّي كَاتِبٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيكُمْ

(4/320)


فَلَمَّا خَرَجُوا دَعَاهُمْ فَقَالَ: إِنِّي مُعِيدٌ عَلَيْكُمْ ان رسول الله ص كَانَ مَعْصُومًا فَوَلانِي، وَأَدْخَلَنِي فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَلانِي، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَلانِي، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ فَوَلانِي، فَلَمْ أَلِ لأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يُوَلِّنِي إِلا وَهُوَ رَاضٍ عَنِّي، وَإِنَّمَا طَلَبَ رَسُولُ الله ص لِلأَعْمَالِ أَهْلَ الْجَزَاءِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغِنَاءِ، وَلَمْ يَطْلُبْ لَهَا أَهْلَ الاجْتِهَادِ وَالْجَهْلِ بِهَا وَالضَّعْفِ عَنْهَا، وَإِنَّ اللَّهَ ذُو سَطَوَاتٍ وَنَقَمَاتٍ يَمْكُرُ بِمَنْ مَكَرَ بِهِ، فَلا تَعْرِضُوا لأَمْرٍ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ غَيْرَ مَا تُظْهِرُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ تَارِكُكُمْ حَتَّى يَخْتَبِرَكُمْ وَيُبْدِي لِلنَّاسِ سَرَائِرَكُمْ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
«الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» .
وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيَّ أَقْوَامٌ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ وَلا أَدْيَانٌ، أَثْقَلَهُمُ الإِسْلامُ، وَأَضْجَرَهُمُ الْعَدْلُ، لا يُرِيدُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ، وَلا يَتَكَلَّمُونَ بِحُجَّةٍ، إِنَّمَا هَمَّهُمُ الْفِتْنَةُ وَأَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاللَّهُ مُبْتَلِيهِمْ وَمُخْتَبِرُهُمْ، ثُمَّ فَاضِحُهُمْ وَمُخْزِيهِمْ، وَلَيْسُوا بِالَّذِينَ يَنْكُونَ أَحَدًا إِلا مَعَ غَيْرِهِمْ، فَانْهَ سَعِيدًا وَمَنْ قِبَلَهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ ليسوا لاكثر مِنْ شَغْبٍ أَوْ نَكِيرٍ.
وَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ دِمَشْقَ فَقَالُوا: لا تَرْجِعُوا إِلَى الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَشْمَتُونَ بِكُمْ، وَمِيلُوا بِنَا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَدَعُوا الْعِرَاقَ وَالشَّامَ فَأَوَوْا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَسَمِعَ بِهِمْ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- وكان مُعَاوِيَةُ قَدْ وَلاهُ حِمْصَ وَوَلَّى عَامِلَ الْجَزِيرَةِ حَرَّانَ وَالرُّقَّةَ- فَدَعَا بِهِمْ، فَقَالَ:
يَا آلَةَ الشَّيْطَانِ، لا مَرْحَبًا بِكُمْ وَلا أَهْلا! قَدْ رَجَعَ الشَّيْطَانُ مَحْسُورًا وَأَنْتُمْ بَعْدُ نِشَاطٌ، خَسَّرَ الله عبد الرحمن ان لم يؤد بكم حَتَّى يُحَسِّرْكُمْ يَا مَعْشَرَ مَنْ لا أَدْرِي أَعُرْبٌ أَمْ عُجْمٌ، لِكَيْ لا تَقُولُوا لِي مَا يَبْلُغُنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ لِمُعَاوِيَةَ، أَنَا ابْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَا ابْنُ مَنْ قَدْ عَجِمَتْهُ الْعَاجِمَاتُ، أَنَا ابْنُ فَاقِئِ الرِّدَّةِ، وَاللَّهِ لئن بلغنى يا صعصعة ابن ذُلٍّ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ مَعِي دَقَّ أَنْفَكَ ثم امصك

(4/321)


لأَطِيرَنَّ بِكَ طَيْرَةً بَعِيدَةَ الْمَهْوَى فَأَقَامَهُمْ أَشْهُرًا كُلَّمَا رَكِبَ أَمْشَاهُمْ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ صَعْصَعَةُ قال: يا بن الْحُطَيْئَةِ، أَعَلِمْتَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصْلِحْهُ الْخَيْرُ أَصْلَحَهُ الشَّرُّ! مَا لَكَ لا تَقُولُ كَمَا كَانَ يَبْلُغُنِي أَنَّكَ تَقُولُ لِسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ! فَيَقُولُ وَيَقُولُونَ:
نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، أَقِلَّنَا أَقَالَكَ اللَّهُ! فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
وَسَرَّحَ الأَشْتَرَ إِلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ فَاخْرُجُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَقِيمُوا وَخَرَجَ الأَشْتَرُ، فَأَتَى عُثْمَانَ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالنُّزُوعِ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:
سَلَّمَكُمُ اللَّهُ وَقَدِمَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ عُثْمَانُ لِلأَشْتَرِ: احْلِلْ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ؟ وَذَكَرَ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَالَ: ذَاكَ إِلَيْكُمْ، فَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بَعَثَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ إِلَى الْكُوفَةِ أَمِيرًا عَلَيْهَا، حِينَ شَهِدَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ الْوَلِيدَ بن عقبه قال: قدم سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْكُوفَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ قَالَ: فَتَضَجَّعَ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى أَخِيكَ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَمَا صَعِدَ مِنْبَرَ الْكُوفَةِ حَتَّى أَمَرَ بِهِ أَنْ يُغْسَلَ، فَنَاشَدَهُ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا قَبِيحٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَرَادَ هَذَا غَيْرُكَ لَكَانَ حَقًّا أَنْ تَذُبَّ عَنْهُ، يَلْزَمُهُ عَارُ هَذَا أَبَدًا قَالَ: فَأَبَى إِلا أَنْ يَفْعَلَ، فَغَسَلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ دَارِ الإِمَارَةِ، فَتَحَوَّلَ مِنْهَا، وَنَزَلَ دَارَ عُمَارَةَ بْنِ عُقْبَةَ، فَقَدِمَ الْوَلِيدُ عَلَى عُثْمَانَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصَمَائِهِ، فَرَأَى أَنْ يَجْلِدَهُ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي شَيْبَانُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْكُوفَةَ، فَجَعَلَ يَخْتَارُ وجوه الناس يدخلون عليه

(4/322)


وَيَسْمُرُونَ عِنْدَهُ، وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ لَيْلَةً وُجُوهُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الأَرْحَبِيُّ، وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخْعِيَّانِ، وَفِيهِمْ مَالِكٌ الأَشْتَرُ فِي رِجَالٍ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا هَذَا السَّوَادُ بُسْتَانٌ لِقُرَيْشٍ، فَقَالَ الأَشْتَرُ:
أَتَزْعُمُ أَنَّ السَّوَادَ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِأَسْيَافِنَا بُسْتَانٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ! وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ أَوْفَاكُمْ فِيهِ نَصِيبًا إِلا أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِنَا، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ الْقَوْمُ.
قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيُّ- وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ سَعِيدٍ:
أَتَرُدُّونَ عَلَى الأَمِيرِ مَقَالَتَهُ! وَأَغْلَظَ لَهُمْ، فَقَالَ الأَشْتَرُ: مِنْ هَاهُنَا! لا يَفُوتَنَّكُمُ الرَّجُلَ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَوَطَئُوهُ وطأ شَدِيدًا، حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جُرَّ بِرِجْلِهِ فَأُلْقِيَ، فَنُضِحَ بِمَاءٍ فَأَفَاقَ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَبِكَ حَيَاةٌ؟ فَقَالَ:
قَتَلَنِي مَنِ انْتَخَبْتُ- زَعَمْت- لِلإِسْلامِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا يَسْمُرُ مِنْهُمْ عِنْدِي أَحَدٌ أَبَدًا، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ يَشْتِمُونَ عُثْمَانَ وَسَعِيدًا، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى كَثُرَ مَنْ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِمْ فَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ- سَمَّاهُمْ لَهُ عَشَرَةً- يُؤَلِّبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى عَيْبِكَ وَعَيْبِي وَالطَّعْنِ فِي دِينِنَا، وَقَدْ خَشِيتُ إِنْ ثَبُتَ أَمْرُهُمْ أَنْ يَكْثُرُوا، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ: أَنْ سَيِّرْهُمْ إِلَى مُعَاوِيَةَ- وَمُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الشَّامِ- فَسَيَّرَهُمْ- وَهُمْ تِسْعَةُ نَفَرٍ- إِلَى مُعَاوِيَةَ، فِيهِمْ مَالِكٌ الأَشْتَرُ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُنَقَّعٍ، وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ النَّخَعِيُّ، وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ.
ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ السَّرِيِّ، عَنْ شُعَيْبٍ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: فقال صعصعة:
فان اخترقت الجنه، افليس يَخْلُصُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ الْجُنَّةَ لا تُخْتَرَقُ، فَضَعْ أَمْرَ قُرَيْشٍ عَلَى أَحْسَنَ مَا يَحْضُرُكَ.
وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا عَادَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقَابِلَةِ وَذَكَّرَهُمْ، قَالَ فِيمَا يَقُولُ: وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمُرُكُمْ بِشَيْءٍ إِلا قَدْ بَدَأْتُ فِيهِ بِنَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ أَكْرَمَهَا وَابْنَ أَكْرَمِهَا، إِلا مَا جَعَلَ اللَّهُ لنبيه نبى الرحمه ص، فَإِنَّ اللَّهَ انْتَخَبَهُ وَأَكْرَمَهُ، فَلَمْ يَخْلُقْ فِي أَحَدٍ مِنَ الأَخْلاقِ الصَّالِحَةِ شَيْئًا إِلا أَصْفَاهُ اللَّهُ بِأَكْرَمِهَا وَأَحْسَنِهَا، وَلَمْ يَخْلُقْ مِنَ الأَخْلاقِ السَّيِّئَةِ شَيْئًا فِي أَحَدٍ إِلا أَكْرَمَهُ اللَّهُ عنها وَنَزَّهَهُ، وَإِنِّي لأَظُنُّ أَنَّ

(4/323)


أَبَا سُفْيَانَ لَوْ وُلِدَ النَّاسُ لَمْ يَلِدْ إِلا حَازِمًا قَالَ صَعْصَعَةُ: كَذَبْتَ! قَدْ وَلَدَهُمْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، فَكَانَ فِيهِمُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالأَحْمَقُ وَالْكَيِّسُ.
فَخَرَجَ تِلَكَ اللَّيْلَةَ مِنْ عِنْدِهِمْ، ثُمَّ أَتَاهُمُ الْقَابِلَةَ، فَتَحَدَّثَ عِنْدَهُمْ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، رُدُّوا عَلَيَّ خَيْرًا أَوِ اسْكُتُوا وَتَفَكَّرُوا وَانْظُرُوا فِيمَا يَنْفَعُكُمْ وَيَنْفَعُ أَهْلِيكُمْ، وَيَنْفَعُ عَشَائِرَكُمْ، وَيَنْفَعُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَاطْلُبُوهُ تَعِيشُوا وَنَعِشْ بِكُمْ فَقَالَ صَعْصَعَةُ: لَسْتَ بِأَهْلِ ذَلِكَ، وَلا كَرَامَةَ لَكَ أَنْ تُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
فقال: او ليس مَا ابْتَدَأَتْكُمْ بِهِ أَنْ أَمَرْتُكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وطاعته وطاعه نبيه ص، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا! قَالُوا: بَلْ أَمَرْتَ بِالْفُرْقَةِ وَخِلافِ مَا جَاءَ بِهِ النبي ص قَالَ: فَإِنِّي آمُرُكُمُ الآنَ، إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ فَأَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَآمُرُكُمْ بِتَقْوَاهُ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ نبيه ص وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَكَرَاهَةِ الْفُرْقَةِ، وَأَنْ تُوَقِّرُوا أَئِمَّتَكُمْ وَتَدُلُّوهُمْ عَلَى كُلِّ حَسَنٍ مَا قَدَرْتُمْ، وَتَعِظُوهُمْ فِي لِينٍ وَلُطْفٍ فِي شَيْءٍ إِنْ كَانَ مِنْهُمْ.
فَقَالَ صَعْصَعَةُ: فَإِنَّا نَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ عَمَلَكَ، فَإِنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: مَنْ كَانَ أَبُوهُ أَحْسَنَ قَدَمًا مَنْ أَبِيكَ، وَهُوَ بِنَفْسِهِ أَحْسَنَ قَدَمًا مِنْكَ فِي الإِسْلامِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِي الإِسْلامِ قَدَمًا، وَلَغَيْرِي كَانَ أَحْسَنَ قَدَمًا مِنِّي، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي زَمَانِي أَحَدٌ أَقْوَى عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنِّي، وَلَقَدْ رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرِي أَقْوَى مِنِّي لَمْ يَكُنْ لِي عِنْدَ عُمَرَ هَوَادَةً وَلا لِغَيْرِي، وَلَمْ أُحْدِثْ مِنَ الْحَدَثِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْتَزِلَ عَمَلِي، وَلَوْ رَأَى ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّ يَدِهِ فَاعْتَزَلْتُ عَمَلَهُ، وَلَوْ قَضَى اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَرَجَوْتُ أَلا يَعْزِمَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلا وَهُوَ خَيْرٌ، فَمَهْلا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ مَا يَتَمَنَّى الشَّيْطَانُ وَيَأْمُرُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كَانَتِ الأُمُورُ تُقْضَى عَلَى رَأْيِكُمْ وَأَمَانِيِّكُمْ

(4/324)


مَا اسْتَقَامَتِ الأُمُورُ لأَهْلِ الإِسْلامِ يَوْمًا وَلا لَيْلَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَقْضِيهَا وَيُدَبِّرُهَا، وَهُوَ بَالِغُ امره، فعاودوا الخبر وَقُولُوهُ.
فَقَالُوا: لَسْتَ لِذَلِكَ أَهْلا، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ لِلَّهِ لَسَطَوَاتٍ وَنَقَمَاتٍ، وَإِنِّي لَخَائِفٌ عليكم ان تتايعوا فِي مُطَاوَعَةِ الشَّيْطَانِ حَتَّى تُحِلَّكُمْ مُطَاوَعَةُ الشَّيْطَانِ وَمَعْصِيَةُ الرَّحْمَنِ دَارَ الْهَوَانِ مِنْ نَقَمِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ الأَمْرِ، وَالْخِزْيِ الدَّائِمِ فِي الآجِلِ.
فَوَثَبُوا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ، وَاللَّهِ لَوْ رَأَى أَهْلُ الشَّامِ مَا صَنَعْتُمْ بِي وَأَنَا إِمَامُهُمْ مَا مَلَكْتُ أَنْ أَنْهَاهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَلَعَمْرِي إِنَّ صَنِيعَكُمْ لَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ أَقَامَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مُدْخَلا مَا بَقِيتُ.
ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِعَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّكَ بَعَثْتَ إِلَيَّ أَقْوَامًا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةِ الشَّيَاطِينِ وَمَا يُمْلُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَأْتُونَ النَّاسَ- زَعَمُوا- مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، فَيُشَبِّهُونَ عَلَى النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُونَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ فُرْقَةً، وَيُقَرِّبُونَ فِتْنَةً، قَدْ أَثْقَلَهُمُ الإِسْلامُ وَأَضْجَرَهُمْ، وَتَمَكَّنَتْ رُقَى الشَّيْطَانِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَقَدْ أَفْسَدُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَسْتُ آمَنُ إِنْ أَقَامُوا وَسْطَ أَهْلِ الشَّامِ أَنْ يُغْرُوهُمْ بِسِحْرِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، فَارْدُدْهُمْ إِلَى مِصْرِهِمْ، فَلْتَكُنْ دَارُهُمْ فِي مِصْرِهِمُ الَّذِي نَجَمَ فِيهِ نِفَاقُهُمْ، وَالسَّلامُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْكُوفَةِ، فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُونُوا إِلا أَطْلَقَ أَلْسِنَةً مِنْهُمْ حِينَ رَجَعُوا.
وَكَتَبَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ يَضِجُّ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى سَعِيدٍ أَنْ سَيِّرْهُمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى حِمْصَ

(4/325)


وَكَتَبَ إِلَى الأَشْتَرِ وَأَصْحَابِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُكُمْ إِلَى حِمْصَ، فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هذا فاخرجوا إليها، فإنكم لستم تالون الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ شَرًّا وَالسَّلامُ.
فَلَمَّا قَرَأَ الأَشْتَرُ الكتاب، قال: اللهم اسوانا نَظَرًا لِلرَّعِيَّةِ وَأَعْمَلُنَا فِيهِمْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَعَجِّلْ لَهُ النِّقْمَةَ.
فَكَتَبَ بِذَلِكَ سَعِيدٌ إِلَى عُثْمَانَ، وَسَارَ الأَشْتَرُ وَأَصْحَابُهُ إِلَى حِمْصَ، فَأَنْزَلَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ السَّاحِلَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ رِزْقًا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أبي إِسْحَاق الهمداني، قَالَ: اجتمع نفر بالكوفة- يطعنون عَلَى عُثْمَانَ- من أشراف أهل العراق: مالك بن الْحَارِث الأَشْتَر، وثابت بن قيس النخعي، وكميل بن زياد النخعي، وزَيْد بن صُوحَانَ العبدي، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الأَزْدِيّ، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
فكتب سَعِيد بن الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ يخبره بأمرهم، فكتب إِلَيْهِ أن سيرهم إِلَى الشام وألزمهم الدروب
. ذكر الخبر عن تسيير عُثْمَان من سير من أهل الْبَصْرَةِ إِلَى الشام
مما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: لما مضى من إمارة ابن عَامِر ثلاث سنين، بلغه أن فِي عبد القيس رجلا نازلا عَلَى حكيم بن جبلة، وَكَانَ حكيم بن جبلة رجلا لصا، إذا قفل الجيوش خنس عَنْهُمْ، فسعى فِي أرض فارس، فيغير عَلَى أهل الذمة، ويتنكر لَهُمْ، ويفسد فِي الأرض، ويصيب مَا شاء ثُمَّ يرجع فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إِلَى عُثْمَانَ فكتب إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عَامِر: أن احبسه، ومن كَانَ مثله فلا يخرجن مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى تأنسوا مِنْهُ رشدا، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها فلما قدم ابن السوداء نزل عَلَيْهِ واجتمع إِلَيْهِ نفر فطرح لَهُمُ ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا مِنْهُ، واستعظموه، وأرسل إِلَيْهِ ابن عَامِر، فسأله: مَا أنت؟ فأخبره إنه رجل من

(4/326)


أهل الكتاب، رغب فِي الإِسْلام، ورغب فِي جوارك، فَقَالَ: مَا يبلغني ذَلِكَ، اخرج عني فخرج حَتَّى أتى الْكُوفَة فأخرج منها فاستقر بمصر، وجعل يكاتبهم ويكاتبونه، ويختلف الرجال بَيْنَهُمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا:
إِنَّ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا، فَنَكَّلَ بِهِ عُثْمَانُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَزِمَ ابْنَ عَامِرٍ، فَتَذَاكَرُوا يَوْمًا الرُّكُوبَ وَالْمُرُورَ بِعَامِرِ ابن عَبْدِ قَيْسٍ- وَكَانَ مُنَقَّبَضًا عَنِ النَّاسِ- فَقَالَ حُمْرَانُ: أَلا أَسْبِقُكُمْ فَأُخْبِرُهُ! فَخَرَجَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، فَقَالَ: الأَمِيرُ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِكَ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُخْبِرَكَ، فَلَمْ يَقْطَعْ قِرَاءَتَهُ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ، فَقَامَ مِنْ عِنْدِهِ خَارِجًا.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَابِ لَقِيَهُ ابْنُ عَامِرٍ، فَقَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ امْرِئٍ لا يَرَى لآلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ فَضْلا، وَاسْتَأْذَنَ ابْنُ عَامِرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَأَطْبَقَ عَامِرٌ الْمُصْحَفَ، وَحَدَّثَهُ سَاعَةً، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: أَلا تَغْشَانَا؟
فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي الْعَرْجَاءِ يُحِبُّ الشَّرَفَ، فَقَالَ: أَلا نَسْتَعْمِلُكَ؟ فَقَالَ: حصين ابن أَبِي الْحُرِّ يُحِبُّ الْعَمَلَ، فَقَالَ: أَلا نُزَوِّجُكَ! فَقَالَ: رَبِيعَةُ بْنُ عسلٍ يُعْجِبُهُ النَّسَاءَ، قَالَ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ لا تَرَى لآلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْكَ فَضْلا، فَتَصَفَّحَ الْمُصْحَفَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ وافْتَتَحَ مِنْهُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» ، فَلَمَّا رُدَّ حُمْرَانَ تَتَبَّعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَسَعَى بِهِ، وَشَهِدَ لَهُ أَقْوَامٌ فَسَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا عَلِمُوا عِلْمَهُ أَذِنُوا لَهُ فَأَبَى وَلَزِمَ الشَّامِ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، أَنَّ عُثْمَانَ سَيَّرَ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ، أَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَضَرَبَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَتَاهُ عَنْهُ الَّذِي يُحِبُّ، أَذِنَ لَهُ.
فَقَدِمَ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، وَقَدِمَ مَعَهُ قَوْمٌ سَعَوْا بِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ، إِنَّهُ لا يَرَى التَّزْوِيجَ، وَلا يَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَلا يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ- وَكَانَ مَعَ عامر انقباض،

(4/327)


وَكَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ خُفْيَةً- فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِذَلِكَ، فَأَلْحَقَهُ بِمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَافَقَهُ وَعِنْدَهُ ثَرِيدَةٌ فَأَكَلَ أَكْلا غَرِيبًا، فَعَرَفَ أَنَّ الرَّجُلَ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يا هذا، هل تدرى فيم أُخْرِجْتَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: أُبْلِغَ الْخَلِيفَةُ أَنَّكَ لا تَأْكُلُ اللَّحْمَ، وَرَأَيْتُكَ وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ كُذِبَ عَلَيْكَ، وَأَنَّكَ لا تَرَى التَّزْوِيجَ، وَلا تَشْهَدُ الْجُمُعَةَ، قَالَ: أَمَّا الْجُمُعَةُ فَإِنِّي أَشْهَدُهَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَرْجِعُ فِي أَوَائِلِ النَّاسِ، وَأَمَّا التَّزْوِيجُ فَإِنِّي خَرَجْتُ وَأَنَا يُخْطَبُ عَلَيَّ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَقَدْ رَأَيْتَ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً لا آكُلُ ذَبَائِحَ الْقَصَّابِينَ مُنْذُ رَأَيْتُ قَصَّابًا يَجُرُّ شَاةً إِلَى مَذْبَحِهَا، ثُمَّ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى مَذْبَحِهَا، فَمَا زَالَ يَقُولُ: النِّفَاقَ النِّفَاقَ، حَتَّى وَجَبَتْ قَالَ:
فَارْجِعْ، قَالَ: لا أَرْجِعُ إِلَى بَلَدٍ اسْتَحَلَّ أَهْلُهُ مِنِّي مَا اسْتَحَلُّوا وَلَكِنِّي أُقِيمُ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِي وَكَانَ يَكُونُ فِي السَّوَاحِلِ، وَكَانَ يَلْقَى مُعَاوِيَةَ، فَيُكْثِرُ مُعَاوِيَةُ أَنْ يَقُولَ: حَاجَتُكَ؟ فَيَقُولُ: لا حَاجَةَ لِي، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ، قَالَ: تَرُدُّ عَلَيَّ مِنْ حَرِّ الْبَصْرَةِ لَعَلَّ الصَّوْمَ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَخْفَ عَلَيَّ فِي بِلادِكُمْ.
كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عُثْمَانَ، قَالا: لَمَّا قَدِمَ مسيرة أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، أَنْزَلَهُمْ دَارًا، ثُمَّ خَلا بِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ وَقَالُوا لَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ: لَمْ تُؤْتَوْا إِلا مِنَ الْحُمْقِ، وَاللَّهِ مَا أَرَى مَنْطِقًا سَدِيدًا، وَلا عُذْرًا مُبِينًا، وَلا حِلْمًا وَلا قُوَّةً، وَإِنَّكَ يَا صَعْصَعَةُ لأَحْمَقُهُمْ، اصْنَعُوا وَقُولُوا مَا شِئْتُمْ مَا لَمْ تَدَّعُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُحْتَمَلُ لَكُمْ إِلا مَعْصِيَتَهُ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَنْتُمْ أُمَرَاءُ أَنْفُسِكُمْ فَرَآهُمْ بَعْدُ وَهُمْ يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، وَيَقِفُونَ مَعَ قَاصِّ الْجَمَاعَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ يُقْرِئُ بَعْضًا، فَقَالَ: إِنَّ فِي هَذَا لَخَلَفًا مِمَّا قَدِمْتُمْ بِهِ عَلَيَّ مِنَ النِّزَاعِ إِلَى أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، اذْهَبُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ لَزِمْتُمْ جَمَاعَتَكُمْ سَعِدْتُمْ بِذَلِكَ دُونَهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَلْزَمُوهَا شَقِيتُمْ بِذَلِكَ دُونَهُمْ، وَلَمْ تَضُرُّوا أَحَدًا، فَجَزَوْهُ خَيْرًا،

(4/328)


واثنوا عليه، فقال: يا بن الْكَوَّاءِ، أَيُّ رَجُلٍ أَنَا؟ قَالَ: بَعِيدُ الثَّرَى، كَثِيرُ الْمَرْعَى، طَيِّبُ الْبَدِيهَةِ، بَعِيدُ الْغَوْرِ، الْغَالِبُ عَلَيْكَ الْحِلْمُ، رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ، سُدَّتْ بِكَ فُرْجَةً مُخَوَّفَةً قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ فَإِنَّكَ أَعْقَلُ أَصْحَابِكَ، قَالَ: كَاتَبْتُهُمْ وَكَاتَبُونِي، وَأَنْكَرُونِي وَعَرَفْتُهُمْ، فَأَمَّا أَهْلُ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَهُمْ أَحْرَصُ الأُمَّةِ عَلَى الشَّرِّ، وَأَعْجَزُهُ عَنْهُ وَأَمَّا أَهْلُ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ أَنْظَرُ النَّاسِ فِي صَغِيرٍ، وَأَرْكَبُهُ لِكَبِيرٍ وَأَمَّا أَهْلُ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُمْ يُرَدُّونَ جَمِيعًا، وَيَصْدُرُونَ شَتَّى، وَأَمَّا أَهْلُ الإحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فَهُمْ اوفى الناس بشر، وَأَسْرَعُهُ نَدَامَةً، وَأَمَّا أَهْلُ الإِحْدَاثِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَأَطْوَعُ النَّاسِ لِمُرْشِدِهِمْ، وَأَعْصَاهُ لِمُغْوِيهِمْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ.
وَزَعَمَ أَبُو مَعْشَرٍ أَنَّ فَتْحَ قُبْرُسَ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ

(4/329)