تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
الجزء الخامس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ثم
وثلاثين
ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث وموادعة الحرب بين علي ومعاوية
فكان فِي أول شهر منها- وَهُوَ المحرم- موادعة الحرب بين علي ومعاوية،
قَدْ توادعا عَلَى ترك الحرب فِيهِ إِلَى انقضائه طمعا فِي الصلح، فذكر
هشام ابن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سعد
أَبُو المجاهد الطَّائِيّ، عن المحل بن خليفة الطَّائِيّ، قَالَ: لما
توادع علي ومعاوية يوم صفين، اختلف فِيمَا بينهما الرسل رجاء الصلح،
فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد ابن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن
خصفة إِلَى مُعَاوِيَةَ، فلما دخلوا حمد اللَّه عدي بن حاتم، ثُمَّ
قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا أتيناك ندعوك إِلَى أمر يجمع اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ بِهِ كلمتنا وأمتنا، ويحقن بِهِ الدماء، ويومن بِهِ السبل،
ويصلح بِهِ ذات البين إن ابن عمك سيد الْمُسْلِمِينَ أفضلها سابقة،
وأحسنها فِي الإِسْلام أثرا، وَقَدِ استجمع لَهُ الناس، وَقَدْ أرشدهم
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالَّذِي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك،
فانته يَا مُعَاوِيَة لا يصبك اللَّه وأَصْحَابك بيوم مثل يوم الجمل
فَقَالَ مُعَاوِيَة: كأنك إنما جئت متهددا، لم تأت مصلحا! هيهات يَا
عدي، كلا وَاللَّهِ إني لابن حرب، مَا يقعقع لي بالشنان، أما وَاللَّهِ
إنك لمن المجلبين عَلَى ابن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وإنك لمن
قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ هيهات
يا عدى ابن حاتم! قَدْ حلبت بالساعد الأشد فَقَالَ لَهُ شبث بن ربعي
وزياد بن خصفة- وتنازعا جوابا واحدا: أتيناك فِيمَا يصلحنا وإياك،
فأقبلت تضرب لنا الأمثال! دع مَا لا ينتفع بِهِ من القول والفعل،
وأجبنا فِيمَا يعمنا وإياك نفعه وتكلم يَزِيد بن قيس، فَقَالَ: إنا لم
نأتك إلا لنبلغك مَا بعثنا بِهِ إليك، ولنؤدي عنك مَا سمعنا مِنْكَ،
ونحن على ذلك لم ندع أن ننصح لك، وأن نذكر مَا ظننا أن لنا عَلَيْك
بِهِ حجة، وإنك راجع بِهِ إِلَى الألفة والجماعة
(5/5)
إن صاحبنا من قَدْ عرفت وعرف
الْمُسْلِمُونَ فضله، وَلا أظنه يخفى عَلَيْك، أن أهل الدين والفضل لن
يعدلوا بعلي، ولن يميلوا بينك وبينه، فاتق اللَّه يَا مُعَاوِيَة، وَلا
تخالف عَلِيًّا، فإنا وَاللَّهِ مَا رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى، وَلا
أزهد فِي الدُّنْيَا، وَلا أجمع لخصال الخير كلها مِنْهُ.
فَحَمِدَ الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: أما بَعْدُ، فإنكم دعوتم
إِلَى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة الَّتِي دعوتم إِلَيْهَا فمعنا
هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق
جماعتنا، وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد
ذَلِكَ عَلَيْهِ، أرأيتم قتلة صاحبنا؟
ألستم تعلمون أَنَّهُمْ أَصْحَاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم
بِهِ، ثُمَّ نحن نجيبكم إِلَى الطاعة والجماعة.
فَقَالَ لَهُ شبث: أيسرك يَا مُعَاوِيَة أنك أمكنت من عمار تقتله!
فَقَالَ مُعَاوِيَة: وما يمنعني من ذَلِكَ! وَاللَّهِ لو أمكنت من ابن
سميه ما قتلته بعثمان، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عُثْمَان فَقَالَ له
شبث: واله الارض واله السماء، ما عدلت معتدلا، لا والذي لا إله إلا
هُوَ لا تصل إِلَى عمار حَتَّى تندر الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق
الأرض الفضاء عَلَيْك برحبها.
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: إنه لو قَدْ كَانَ ذَلِكَ كَانَتِ الأرض
عَلَيْك أضيق.
وتفرق القوم عن مُعَاوِيَة، فلما انصرفوا بعث مُعَاوِيَة إِلَى زياد بن
خصفة التيمي، فخلا بِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،
وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا أخا رَبِيعَة، فإن عَلِيًّا قطع أرحامنا،
وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر عَلَيْهِ بأسرتك وعشيرتك، ثُمَّ لك
عهد اللَّه جَلَّ وَعَزَّ وميثاقه أن أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سعد أَبُو المجاهد، عن المحل بن خليفة،
قَالَ: سمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث، قَالَ: فلما قضى
(5/6)
مُعَاوِيَة كلامه حمدت اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ وأثنيت عَلَيْهِ، ثُمَّ قلت: أَمَّا بَعْدُ، فإني عَلَى بينة
من ربي وبما أنعم علي، فلن أكون ظهيرا للمجرمين، ثُمَّ قمت.
فَقَالَ مُعَاوِيَة لعمرو بن الْعَاصِ- وَكَانَ إِلَى جنبه جالسا: ليس
يكلم رجل منا رجلا مِنْهُمْ فيجيب إِلَى خير مَا لَهُمْ عضبهم اللَّه
بشر! مَا قلوبهم إلا كقلب رجل واحد.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد الأزدي، عن عبد
الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، أن مُعَاوِيَة، بعث إِلَى علي حبيب بن
مسلمة الفهري وشُرَحْبِيل بن السمط ومعن بن يَزِيدَ بن الأخنس، فدخلوا
عَلَيْهِ وأنا عنده، فَحَمِدَ اللَّهَ حبيب وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ
قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَانَ خليفة مهديا، يعمل بكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وينيب إِلَى أمر
اللَّه تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه
فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عُثْمَان- إن زعمت أنك لم تقتله- نقتلهم
بِهِ، ثُمَّ اعتزل أمر الناس فيكون أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، يولي
الناس أمرهم من أجمع عَلَيْهِ رأيهم.
[فَقَالَ لَهُ عَلِيّ بن أبي طالب: وما أنت لا أم لك والعزل وهذا
الأمر! اسكت فإنك لست هُنَاكَ وَلا بأهل لَهُ! فقام وَقَالَ لَهُ:
وَاللَّهِ لتريني بحيث تكره فَقَالَ علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك
ورجلك! لا أبقى اللَّه عَلَيْك إن أبقيت علي، أحقرة وسوءا! اذهب فصوب
وصعد مَا بدا لك] .
[وَقَالَ شُرَحْبِيل بن السمط: إني إن كلمتك فلعمري مَا كلامي إلا مثل
كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الَّذِي أجبته بِهِ؟ فَقَالَ علي:
نعم لك ولصاحبك جواب غير الَّذِي أجبته بِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه جل ثناؤه بعث محمدا ص بالحق، فأنقذ بِهِ من
الضلالة، وانتاش بِهِ من الهلكة، وجمع بِهِ من الفرقة، ثُمَّ قبضه
اللَّه إِلَيْهِ وَقَدْ أدى مَا عَلَيْهِ ص، ثُمَّ استخلف الناس أبا
بكر
(5/7)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، واستخلف أَبُو
بَكْر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأحسنا السيرة، وعدلا فِي الأمة،
وَقَدْ وجدنا عليهما أن توليا علينا- ونحن آل رسول الله ص- فغفرنا
ذَلِكَ لهما، وولي عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فعمل بأشياء عابها
الناس عَلَيْهِ، فساروا إِلَيْهِ فقتلوه، ثُمَّ أتاني الناس وأنا معتزل
أمورهم، فَقَالُوا لي: بايع، فأبيت عَلَيْهِم، فَقَالُوا لي: بايع، فإن
الأمة لا ترضى إلا بك!، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس،
فبايعتهم، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قَدْ بايعاني، وخلاف مُعَاوِيَة
الَّذِي لم يجعل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ سابقة فِي الدين، وَلا سلف
صدق فِي الإِسْلام، طليق ابن طليق، حزب من هَذِهِ الأحزاب، لم يزل لله
عز وجل ولرسوله ص وللمسلمين عدوا هُوَ وأبوه حَتَّى دخلا فِي الإِسْلام
كارهين، فلا غرو إلا خلافكم مَعَهُ، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم ص
الَّذِينَ لا ينبغي لكم شقاقهم وَلا خلافهم، وَلا أن تعدلوا بهم مِنَ
النَّاسِ أحدا أَلا إني أدعوكم إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وجل وسنة نبيه
ص وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي
ولكم، ولكل مومن ومؤمنة، ومسلم ومسلمه.
فقالا: اشهد أن عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قتل مظلوما، فَقَالَ
لهما: لا أقول إنه قتل مظلوما، وَلا إنه قتل ظالما، قَالا: فمن لم يزعم
أن عُثْمَان قتل مظلوما فنحن مِنْهُ برآء، ثُمَّ قاما فانصرفا فَقَالَ
علي: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ
إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ
ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ
مُسْلِمُونَ» ثُمَّ أقبل علي عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ: لا يكن هَؤُلاءِ
أولى بالجد فِي ضلالهم مِنْكُمْ بالجد فِي حقكم وطاعة ربكم] .
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ حُذَيْفَة، من آل عَامِر
بن جوين،
(5/8)
أن عائذ بن قيس الحزمري واثب عدي بن حاتم
فِي الراية بصفين- وكانت حزمر أكثر من بني عدي رهط حاتم- فوثب
عَلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ البولاني عِنْدَ علي،
فَقَالَ: يَا بني حزمر، عَلَى عدي تتوثبون! وهل فيكم مثل عدي أو فِي
آبائكم مثل أبي عدي! أليس بحامي القربة ومانع الماء يوم روية؟ أليس
بابن ذي المرباع وابن جواد العرب؟! أليس بابن المنهب ماله، ومانع
جاره؟! أليس من لم يغدر ولم يفجر، ولم يجهل ولم يبخل، ولم يمنن ولم
يجبن؟! هاتوا فِي آبائكم مثل ابيه، او هاتوا فيكم مثله.
او ليس افضلكم في الاسلام! او ليس وافدكم الى رسول الله ص! أليس برأسكم
يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء الوقيعة ويوم
نهاوند ويوم تستر؟! فما لكم وله! وَاللَّهِ مَا من قومكم أحد يطلب مثل
الَّذِي تطلبون فَقَالَ له على بن ابى طالب: حسبك يا بن خليفة، هلم
أيها القوم إلي، وعلي بجماعة طيئ، فأتوه جميعا، فَقَالَ علي: من كَانَ
رأسكم فِي هَذِهِ المواطن؟ قالت لَهُ طيئ: عدي فَقَالَ لَهُ ابن خليفة:
فسلهم يَا امير المؤمنين، اليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة؟ ففعل،
فَقَالُوا: نعم، فَقَالَ لَهُمْ: عدي أحقكم بالراية فسلموها لَهُ،
فَقَالَ علي- وضجت بنو الحزمر-: إني أراه رأسكم قبل الْيَوْم، وَلا
أَرَى قومه كلهم إلا مسلمين لَهُ غيركم، فاتبع فِي ذَلِكَ الكثرة
فأخذها عدي، فلما كَانَ أزمان حجر بن عدي طلب عَبْد اللَّهِ بن خليفة
ليبعث بِهِ مع حجر- وَكَانَ من أَصْحَابه- فسير إِلَى الجبلين، وَكَانَ
عدى قد مناه أن يرده، وأن يطلب فِيهِ، فطال عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ:
وتنسونني يوم الشريعة والقنا ... بصفين فِي أكتافهم قَدْ تكسرا
(5/9)
جزى ربه عني عدي بن حاتم ... برفضي وخذلاني
جزاء موفرا
اتنسى بلائي سادرا يا بن حاتم ... عشية مَا أغنت عديك حزمرا
فدافعت عنك القوم حَتَّى تخاذلوا ... وكنت أنا الخصم الألد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما ... رأوني ليثا بالأباءة مخدرا
نصرتك إذ خام القريب وأبعط البعيد ... وقد افردت نصرا موزرا
فكان جزائي أن أجرد بينكم ... سجينا، وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدة لي مِنْكَ أنك راجعي ... فلم تغن بالميعاد عني حبترا
تكتيب الكتائب وتعبئة الناس للقتال
[قَالَ: ومكث الناس حَتَّى إذا دنا انسلاخ المحرم أمر علي مرثد بن
الْحَارِث الجشمي فنادى أهل الشام عِنْدَ غروب الشمس: أَلا إن أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ يقول لكم: إني قَدِ استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا
إِلَيْهِ، واحتججت عَلَيْكُمْ بكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فدعوتكم
إِلَيْهِ، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إِلَى حق، وإني قَدْ نبذت
إليكم عَلَى سواء، إن اللَّه لا يحب الخائنين] .
ففزع أهل الشام إِلَى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج مُعَاوِيَة وعمرو بن
الْعَاصِ فِي الناس يكتبان الكتائب ويعبيان الناس، وأوقدوا النيران،
وبات علي ليلته كلها يعبي الناس، ويكتب الكتائب، ويدور فِي الناس
يحرضهم.
قَالَ أَبُو مخنف: [حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُنَا فِي كل موطن لقينا فيه معه عدوا
فيقول: لا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ
(5/10)
حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ، فَأَنْتُمْ بِحَمْدِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ على حجه، وترككم إياهم حتى يبدؤكم حُجَّةً
أُخْرَى لَكُمْ، فَإِذَا قَاتَلْتُمُوهُمْ فَهَزَمْتُمُوهُمْ فَلا
تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلا تَكْشِفُوا
عَوْرَةً، وَلا تُمَثِّلُوا بِقَتِيلٍ، فَإِذَا وَصَلْتُمْ إِلَى
رِحَالِ الْقَوْمِ فَلا تَهْتِكُوا سِتْرًا وَلا تَدْخُلُوا دَارًا
إِلا بِإِذْنٍ، وَلا تَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلا مَا
وَجَدْتُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، وَلا تُهَيِّجُوا امْرَأَةً بِأَذًى،
وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ
وَصُلَحَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ ضِعَافُ الْقُوَى وَالأَنْفُسِ] .
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحدثني إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي
صَادِقٍ، عَنِ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: [سَمِعْتُ عَلِيًّا يُحَرِّضُ
النَّاسَ فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ: يُحَرِّضُ النَّاسَ يَوْمَ صِفِّينَ،
وَيَوْمَ الْجَمَلِ، وَيَوْمَ النَّهْرِ، يَقُولُ: عِبَادَ اللَّهِ،
اتَّقُوا اللَّهَ، وَغُضُّوا الأَبْصَارَ، وَاخْفِضُوا الأَصْوَاتِ،
وَأَقِلُّوا الْكَلامَ، وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى المنازله
والمجاولة والمبارزه والمناضلة والمجالدة وَالْمُعَانَقَةِ
وَالْمُكَادَمَةِ وَالْمُلازَمَةِ، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُمُ الصَّبْرَ، وَأَنْزِلْ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ،
وَأَعْظِمْ لَهُمُ الأَجْرَ] .
فأصبح علي من الغد، فبعث عَلَى الميمنة والميسرة والرجالة والخيل قَالَ
أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي أن عَلِيًّا بعث عَلَى
خيل أهل الْكُوفَة الأَشْتَر، وعلى خيل أهل الْبَصْرَة سَهْل بن حنيف،
وعلى رجالة أهل الْكُوفَة عمار بن ياسر، وعلى رجالة اهل البصره قيس بن
سعد وهاشم ابن عتبة وَمَعَهُ رايته، ومسعر بن فدكي التميمي عَلَى قراء
أهل الْبَصْرَة، وصار أهل الْكُوفَة إِلَى عَبْد اللَّهِ بن بديل وعمار
بن ياسر.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بن جابر
الأَزْدِيّ، عَنِ الْقَاسِمِ مولى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، أن مُعَاوِيَة
بعث عَلَى ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري،، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة
الفهري، وعلى مقدمته يوم أقبل من دمشق
(5/11)
أبا الأعور السلمي- وَكَانَ عَلَى خيل أهل
دمشق- وعمرو بن الْعَاصِ عَلَى خيول أهل الشام كلها، ومسلم بن عُقْبَةَ
المري عَلَى رجالة أهل دمشق، والضحاك بن قيس عَلَى رجالة الناس كلها
وبايع رجال من أهل الشام عَلَى الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم فكان
المعقلون خمسة صفوف، وكانوا يخرجون ويصفون عشرة صفوف، وخرج أهل العراق
أحد عشر صفا فخرجوا أول يوم من صفين فاقتتلوا وعلى من خرج يَوْمَئِذٍ
من أهل الْكُوفَة الأَشْتَر، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة، وَذَلِكَ
يوم الأربعاء، فاقتتلوا قتالا شديدا جل النهار، ثُمَّ تراجعوا وَقَدِ
انتصف بعضهم من بعض، ثُمَّ خرج هاشم بن عتبة فِي خيل ورجال حسن عددها
وعدتها، وخرج إِلَيْهِ أَبُو الأعور، فاقتتلوا يومهم ذَلِكَ، يحمل
الخيل عَلَى الخيل، والرجال عَلَى الرجال، ثُمَّ انصرفوا وَقَدْ كَانَ
القوم صبر بعضهم لبعض وخرج الْيَوْم الثالث عمار بن ياسر، وخرج
إِلَيْهِ عَمْرو بن الْعَاصِ، فاقتتل الناس كأشد القتال، وأخذ عمار
يقول: يَا أهل العراق، أتريدون أن تنظروا إِلَى من عادى اللَّه ورسوله
وجاهدهما، وبغى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وظاهر المشركين، فلما رَأَى
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يعز دينه ويظهر رسوله أتى النَّبِيّ ص فأسلم،
وَهُوَ فِيمَا نرى راهب غير راغب، ثم قبض الله عز وجل رسوله ص! فو الله
إن زال بعده معروفا بعداوة المسلم، وهوادة المجرم فاثبتوا لَهُ وقاتلوه
فإنه يطفئ نور اللَّه، ويظاهر أعداء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
فكان مع عمار زياد بن النضر عَلَى الخيل، فأمره أن يحمل فِي الخيل،
فحمل، وقاتله الناس وصبروا لَهُ، وشد عمار فِي الرجال، فأزال عَمْرو بن
الْعَاصِ عن موقفه وبارز يَوْمَئِذٍ زياد بن النضر أخا لَهُ لأمه يقال
لَهُ عَمْرو بن مُعَاوِيَة بن المنتفق بن عَامِر بن عقيل- وكانت أمهما
امرأة من بني يَزِيد- فلما التقيا تعارفا فتواقفا، ثُمَّ انصرف كل واحد
منهما عن صاحبه، وتراجع الناس.
فلما كَانَ من الغد خرج مُحَمَّد بن علي وعبيد اللَّه بن عُمَرَ فِي
جمعين عظيمين، فاقتتلوا كأشد القتال ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن
عُمَرَ أرسل إِلَى ابن الحنفيه:
(5/12)
أن اخرج إلي، فَقَالَ: نعم، ثُمَّ خرج
يمشي، فبصر بِهِ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ:
من هَذَانِ المتبارزان؟ فقيل: ابن الحنفية وعبيد اللَّه بن عُمَرَ،
فحرك دابته ثُمَّ نادى مُحَمَّدا، فوقف لَهُ، فَقَالَ: أمسك دابتي،
فأمسكها، ثُمَّ مشى إِلَيْهِ علي فَقَالَ: أبرز لك، هلم إلي، فَقَالَ:
ليست لي فِي مبارزتك حاجة، فَقَالَ: بلى، فَقَالَ: لا، فرجع ابن عمر
فأخذ ابن الحنفية يقول لأبيه:
يَا أبت، لم منعتني من مبارزته؟ فو الله لو تركتني لرجوت أن أقتله،
فَقَالَ:
لو بارزته لرجوت أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك، فَقَالَ: يَا أبت أو
تبرز لهذا الفاسق! وَاللَّهِ لو أبوه سألك المبارزة لرغبت بك عنه،
[فَقَالَ علي: يَا بني، لا تقل فِي أَبِيهِ إلا خيرا] ثُمَّ إن الناس
تحاجزوا وتراجعوا.
قَالَ: فلما كَانَ الْيَوْم الخامس خرج عَبْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ
والوليد بن عُقْبَةَ فاقتتلوا قتالا شديدا، ودنا ابن عَبَّاس من
الْوَلِيد بن عُقْبَةَ، فأخذ الْوَلِيد يسب بني عبد المطلب، وأخذ يقول:
يا بن عَبَّاس، قطعتم أرحامكم، وقتلتم إمامكم، فكيف رأيتم اللَّه صنع
بكم؟! لم تعطوا مَا طلبتم، ولم تدركوا مَا أملتم، وَاللَّهِ إن شاء
مهلككم وناصر عَلَيْكُمْ فأرسل إِلَيْهِ ابن عَبَّاس: أن ابرز لي،
فأبى.
وقاتل ابن عَبَّاس يَوْمَئِذٍ قتالا شديدا، وغشي الناس بنفسه.
ثُمَّ خرج قيس بن سَعْد الأَنْصَارِيّ وابن ذي الكلاع الحميري فاقتتلوا
قتالا شديدا، ثُمَّ انصرفا، وذلك في الْيَوْم السادس.
ثُمَّ خرج الأَشْتَر، وعاد إِلَيْهِ حبيب بن مسلمة الْيَوْم السابع،
فاقتتلا قتالا شديدا، ثُمَّ انصرفا عِنْدَ الظهر، وكل غير غالب،
وَذَلِكَ يوم الثلاثاء.
قَالَ أَبُو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني عن زيد بن وهب، أن
عَلِيًّا قَالَ: حَتَّى متى لا نناهض هَؤُلاءِ القوم بأجمعنا! فقام فِي
الناس عشية الثلاثاء، ليلة الأربعاء بعد العصر، فقال: الحمد لله
الَّذِي لا يبرم مَا نقض، وما أبرم لا ينقضه الناقضون، لو شاء مَا
اختلف اثنان من خلقه، وَلا تنازعت الأمة فِي شَيْءٍ من أمره، وَلا جحد
المفضول ذا الفضل فضله، وَقَدْ ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفت
بيننا فِي هَذَا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع، فلو شاء عجل
النقمة، وَكَانَ مِنْهُ التغيير، حَتَّى
(5/13)
يكذب اللَّه الظالم، ويعلم الحق أين مصيره،
ولكنه جعل الدُّنْيَا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار،
ليجزي الَّذِينَ أساءوا بِمَا عملوا ويجزي الَّذِينَ أحسنوا بالحسنى
أَلا انكم لاقو القوم غدا، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة
القرآن، وسلوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ النصر والصبر، والقوهم بالجد
والحزم، وكونوا صادقين ثُمَّ انصرف، ووثب الناس إِلَى سيوفهم ورماحهم
ونبالهم يصلحونها، ومر بهم كعب بن جعيل التغلبي وَهُوَ يقول:
أصبحت الأمة فِي أمر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب
فقلت قولا صادقا غير كذب ... إن غدا تهلك أعلام العرب.
[قَالَ: فلما كَانَ من الليل خرج علي فعبى الناس ليلته كلها، حَتَّى
إذا أصبح زحف بِالنَّاسِ، وخرج إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فِي أهل الشام،
فأخذ علي يقول:
من هَذِهِ القبيلة؟ ومن هَذِهِ القبيلة؟ فنسبت لَهُ قبائل أهل الشام،
حَتَّى إذا عرفهم ورأى مراكزهم قَالَ للأزد: اكفوني الأزد، وَقَالَ
لخثعم: اكفوني خثعم] وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من
أهل الشام إلا أن تكون قبيلة ليس منها بِالشَّامِ أحد فيصرفها إِلَى
قبيلة أخرى تكون بِالشَّامِ، ليس مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ واحد، مثل
بجيلة لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ بِالشَّامِ إلا عدد قليل، فصرفهم إِلَى لخم
ثُمَّ تناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالا شديدا نهارهم كله،
ثُمَّ انصرفوا عِنْدَ المساء وكل غير غالب، حَتَّى إذا كَانَ غداة
الخميس صلى علي بغلس قَالَ أَبُو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب
الأزدي، عن أَبِيهِ، قَالَ:
مَا رأيت عَلِيًّا غلس بالصلاة أشد من تغليسه يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ خرج
بِالنَّاسِ الى اهل الشام فزحف اليهم، فكان يبدوهم فيسير إِلَيْهِم،
فإذا رأوه قَدْ زحف إِلَيْهِم استقبلوه بوجوههم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن أعين، عن زَيْد بن وهب الجهني،
أن عَلِيًّا خرج إِلَيْهِم غداة الأربعاء فاستقبلهم فَقَالَ:
اللَّهُمَّ رب السقف المرفوع، المحفوظ المكفوف، الَّذِي جعلته مغيضا
لليل والنهار، وجعلت
(5/14)
فِيهِ مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم،
وجعلت سكانه سبطا من الملائكة، لا يسأمون العبادة ورب هَذِهِ الأرض
الَّتِي جعلتها قرارا للأنام، والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما لا
يرى ومما يرى من خلقك العظيم ورب الفلك التي تجري فِي البحر بِمَا ينفع
الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور المحيط
بالعالم، ورب الجبال الرواسي الَّتِي جعلتها للأرض أوتادا، وللخلق
متاعا، إن أظهرتنا عَلَى عدونا فجنبنا البغي، وسددنا للحق، وإن أظهرتهم
علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقية أَصْحَابي من الْفِتْنَة.
قَالَ: وازدلف الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا كأشد القتال يومهم حَتَّى
الليل، لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا للصلاة، وكثرت القتلى بينهم،
وتحاجزوا عِنْدَ الليل وكل غير غالب، فأصبحوا من الغد، فصلى بهم علي
غداة الخميس، فغلس بالصلاة أشد التغليس، ثُمَّ بدأ أهل الشام بالخروج،
فلما رأوه قَدْ أقبل إِلَيْهِم خرجوا إِلَيْهِ بوجوههم، وعلى ميمنته
عَبْد اللَّهِ بن بديل، وعلى ميسرته عَبْد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ، وقراء
أهل العراق مع ثلاثة نفر: مع عمار ابن ياسر، ومع قيس بن سَعْدٍ، ومع
عَبْد اللَّهِ بن بديل، والناس عَلَى راياتهم ومراكزهم، وعلي فِي القلب
فِي أهل الْمَدِينَة بين أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة، وعظم من
مَعَهُ من أهل الْمَدِينَة الأنصار، وَمَعَهُ من خزاعة عدد حسن، ومن
كنانة وغيرهم من أهل الْمَدِينَة.
ثُمَّ زحف إِلَيْهِم بِالنَّاسِ، ورفع مُعَاوِيَة قبة عظيمة قَدْ ألقى
عَلَيْهَا الكرابيس وبايعه عظم الناس من أهل الشام عَلَى الموت، وبعث
خيل أهل دمشق فاحتاطت بقبته، وزحف عَبْد اللَّهِ بن بديل فِي الميمنة
نحو حبيب بن مسلمة، فلم يزل يحوزه، ويكشف خيله من الميسرة حَتَّى
اضطرهم إِلَى قبة مُعَاوِيَة عِنْدَ الظهر
(5/15)
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن
أعين، عن زَيْد بن وهب الجهني، أن ابن بديل قام فِي أَصْحَابه فَقَالَ:
أَلا إن مُعَاوِيَة ادعى مَا ليس أهله، ونازع هَذَا الأمر من ليس مثله،
وجادل بالباطل ليدحض بِهِ الحق، وصال عَلَيْكُمْ بالأعراب والأحزاب،
قَدْ زين لَهُمُ الضلالة، وزرع فِي قلوبهم حب الْفِتْنَة، ولبس
عَلَيْهِم الأمر، وزادهم رجسا إِلَى رجسهم، وَأَنْتُمْ عَلَى نور من
ربكم، وبرهان مبين فقاتلوا الطغاة الجفاة، وَلا تخشوهم، فكيف تخشونهم
وفي أيديكم كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ طاهرا مبرورا! «أَتَخْشَوْنَهُمْ
فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» ، وقد
قاتلناهم مع النبي ص مرة، وهذه ثانية، وَاللَّهِ مَا هم فِي هَذِهِ
بأتقى وَلا أزكى وَلا أرشد، قوموا إِلَى عدوكم بارك اللَّه عَلَيْكُمْ!
فقاتل قتالا شديدا هُوَ وأَصْحَابه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي عمرة
الأَنْصَارِيّ، عَنْ أَبِيهِ ومولى لَهُ، [أن عَلِيًّا حرض الناس يوم
صفين، فَقَالَ:
إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ دلكم عَلَى تجارة تنجيكم من عذاب أليم،
تشفى بكم عَلَى الخير: الإيمان بِاللَّهِ عز وجل وبرسوله ص، والجهاد
فِي سبيل اللَّه تعالى ذكره، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة فِي
جنات عدن ثُمَّ أخبركم أنه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بنيان مرصوص، فسووا صفوفكم كالبنيان
المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا عَلَى الأضراس، فإنه
أنبى للسيوف عن الهام، والتووا
(5/16)
فِي أطراف الرماح، فإنه أصون للأسنة وغضوا
الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد
للفشل، وأولى بالوقار راياتكم فلا تميلوها وَلا تزيلوها، وَلا تجعلوها
إلا بأيدي شجعانكم، فإن المانع للذمار، والصابر عِنْدَ نزول الحقائق،
هم أهل الحفاظ الَّذِينَ يحفون براياتهم ويكنفونها، يضربون حفافيها
خلفها وأمامها، وَلا يضعونها أجزأ امرؤ وقذ قرنه- رحمكم اللَّه- وآسى
أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إِلَى أخيه، فيكسب بِذَلِكَ لائمة، ويأتي
بِهِ دناءة وأني لا يكون هَذَا هكذا! وهذا يقاتل اثنين، وهذا ممسك بيده
يدخل قرنه عَلَى أخيه هاربا مِنْهُ، أو قائما ينظر إِلَيْهِ! من يفعل
هَذَا يمقته اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فلا تعرضوا لمقت اللَّه سُبْحَانَهُ
فإنما مردكم إِلَى اللَّهِ، قَالَ اللَّه عز من قائل لقوم: «لَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ
وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» وايم اللَّه لَئِنْ سلمتم من
سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد
الصبر ينزل اللَّه النصر]
. الجد فِي الحرب والقتال
قَالَ أَبُو مخنف: حدثنى ابو روق الهمدانى، أن يَزِيد بن قيس الأرحبي
حرض الناس فَقَالَ: إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه، وإن هَؤُلاءِ
القوم وَاللَّهِ إن يقاتلوننا
(5/17)
عَلَى إقامة دين رأونا ضيعناه، وإحياء حق
رأونا أمتناه، وإن يقاتلوننا إلا عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ليكونوا
جبابرة فِيهَا ملوكا، فلو ظهروا عَلَيْكُمْ- لا أراهم اللَّه ظهورا
وَلا سرورا- لزموكم بمثل سَعِيد والوليد وعبد اللَّه بن عَامِر السفيه
الضال، يخبر أحدهم فِي مجلسه بمثل ديته ودية أَبِيهِ وجده، يقول: هَذَا
لي وَلا إثم علي، كأنما أعطى تراثه عن أَبِيهِ وأمه، وإنما هُوَ مال
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، أفاءه علينا بأسيافنا وأرماحنا، فقاتلوا عباد
اللَّه القوم الظالمين، الحاكمين بغير مَا أنزل اللَّه، وَلا يأخذكم
فِي جهادهم لوم لائم، فإنهم إن يظهروا عَلَيْكُمْ يفسدوا عَلَيْكُمْ
دينكم ودنياكم، وهم من قَدْ عرفتم وخبرتم، وايم اللَّه مَا ازدادوا
إِلَى يومهم هَذَا إلا شرا.
وقاتلهم عَبْد اللَّهِ بن بديل فِي الميمنة قتالا شديدا حَتَّى انتهى
إِلَى قبة مُعَاوِيَة ثُمَّ إن الَّذِينَ تبايعوا عَلَى الموت أقبلوا
إِلَى مُعَاوِيَةَ، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل فِي الميمنة، وبعث
إِلَى حبيب بن مسلمة فِي الميسرة، فحمل بهم وبمن كَانَ مَعَهُ عَلَى
ميمنة الناس فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حَتَّى لم يبق
مِنْهُمْ إلا ابن بديل فِي مائتين او ثلاثمائة من القراء، قَدْ أسند
بعضهم ظهره إِلَى بعض، وانجفل الناس، فأمر علي سَهْل بن حنيف فاستقدم
فيمن كَانَ مَعَهُ من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة،
فاحتملتهم حَتَّى ألحقتهم بالميمنة، وَكَانَ فِي الميمنة إِلَى موقف
علي فِي القلب أهل اليمن فلما كشفوا انتهت الهزيمة إِلَى علي، فانصرف
يتمشى نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة، وثبتت رَبِيعَة.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن أعين الجهني، عن زَيْد بن وهب
(5/18)
الجهني، قَالَ: مر علي مَعَهُ بنوه نحو
الميسره، ومعه ربيعه وحدها، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبه، وما
من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه، فيكره على ذلك، فيتقدم عليه، فيحول بين
أهل الشام وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذَلِكَ فيلقيه بين يديه أو من
ورائه، فبصر بِهِ أحمر- مولى أبي سُفْيَان، أو عُثْمَان، أو بعض بني
أُمَيَّة-[فقال على: ورب الكعبة، قتلني اللَّه إن لم أقتلك أو تقتلني!]
فأقبل نحوه، فخرج إِلَيْهِ كيسان مولى علي، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى
بني أُمَيَّة، وينتهزه علي، فيقع بيده فِي جيب درعه، فيجبذه، ثُمَّ
حمله عَلَى عاتقه، فكأني أنظر إِلَى رجيلتيه، تختلفان عَلَى عنق علي،
ثُمَّ ضرب بِهِ الأرض فكسر منكبه وعضديه، [وشد ابنا علي عَلَيْهِ:
حُسَيْن ومُحَمَّد، فضرباه بأسيافهما، حتى برد، فكأني أنظر إِلَى علي
قائما وإلى شبليه يضربان الرجل، حَتَّى إذا قتلاه وأقبلا إِلَى أبيهما،
والحسن قائما قَالَ لَهُ: يَا بني، مَا منعك أن تفعل كما فعل أخواك؟
قَالَ: كفياني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ] ثُمَّ إن اهل الشام دنوا
منه وو الله مَا يزيده قربهم مِنْهُ سرعة فِي مشيه، [فَقَالَ لَهُ
الْحَسَن: مَا ضرك لو سعيت حَتَّى تنتهي إِلَى هَؤُلاءِ الَّذِينَ قَدْ
صبروا لعدوك من أَصْحَابك؟ فَقَالَ: يَا بني، إن لأبيك يَوْمًا لن
يعدوه وَلا يبطئ بِهِ عند السعي، وَلا يعجل بِهِ إِلَيْهِ المشي، إن
أباك وَاللَّهِ مَا يبالي أوقع عَلَى الموت، أو وقع الموت عَلَيْهِ] .
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي، [عن مولى للأشتر،
قَالَ: لما انهزمت ميمنة العراق وأقبل علي نحو الميسرة، مر بِهِ
الأَشْتَر يركض نحو الفزع قبل الميمنة، فَقَالَ لَهُ علي: يَا مالك،
قَالَ: لبيك،
(5/19)
قَالَ: ائت هَؤُلاءِ القوم فقل لَهُمْ: أين
فراركم من الموت الَّذِي لن تعجزوه، إِلَى الحياة الَّتِي لن تبقى لكم!
فمضى فاستقبل الناس منهزمين، فَقَالَ لَهُمْ هَذِهِ الكلمات الَّتِي
قالها لَهُ علي] وَقَالَ: إلي أَيُّهَا النَّاسُ، أنا مالك بن
الْحَارِث، أنا مالك بن الْحَارِث، ثُمَّ ظن أنه بالأشتر أعرف فِي
الناس، فَقَالَ: أنا الأَشْتَر، إلي أَيُّهَا النَّاسُ فأقبلت إِلَيْهِ
طائفة، وذهبت عنه طائفة، فنادى:
أَيُّهَا النَّاسُ، عضضتم بهن آبائكم! مَا أقبح مَا قاتلتم منذ
الْيَوْم! أَيُّهَا النَّاسُ، أخلصوا إلي مذحجا، فأقبلت إِلَيْهِ مذحج،
فَقَالَ: عضضتم بصم الجندل! مَا أرضيتم ربكم، وَلا نصحتم لَهُ فِي
عدوكم، وكيف بِذَلِكَ وَأَنْتُمْ أبناء الحروب، وأَصْحَاب الغارات،
وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان، الَّذِينَ
لم يكونوا يسبقون بثأرهم، وَلا تطل دماؤهم، وَلا يعرفون فِي موطن بخسف،
وَأَنْتُمْ حد أهل مصركم، وأعد حي فِي قومكم، وما تفعلوا فِي هَذَا
الْيَوْم، فإنه مأثور بعد الْيَوْم، فاتقوا مأثور الأحاديث فِي غد،
واصدقوا عدوكم اللقاء فإن اللَّه مع الصادقين والذي نفس مالك بيده مَا
من هَؤُلاءِ- وأشار بيده إِلَى أهل الشام- رجل عَلَى مثال جناح بعوضة
من محمد ص أنتم ما احسنتم القراع، اجلوا سواد وجهي يرجع فِي وجهي دمي.
عَلَيْكُمْ بهذا السواد الأعظم، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لو قَدْ فضه
تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدمه قَالُوا: خذ بنا حَيْثُ
أحببت وصمد نحو عظمهم فِيمَا يلي الميمنة، فأخذ يزحف إِلَيْهِم،
ويردهم، ويستقبله شباب من همدان- وكانوا ثمانمائه مقاتل يَوْمَئِذٍ-
وَقَدِ انهزموا آخر الناس، وكانوا قَدْ صبروا فِي الميمنة حَتَّى أصيب
مِنْهُمْ ثمانون ومائة رجل، وقتل مِنْهُمْ أحد عشر رئيسا، كلما قتل
مِنْهُمْ رجل أخذ الراية آخر، فكان الأول كُرَيْب بن شريح، ثُمَّ
شرحبيل ابن شريح، ثُمَّ مرثد بن شريح، ثُمَّ هبيرة بن شريح، ثُمَّ يريم
بن شريح،
(5/20)
ثُمَّ سمير بن شريح، فقتل هَؤُلاءِ الإخوة
السته جميعا ثم أخذ الراية سفيان ابن زَيْد، ثُمَّ عبد بن زَيْدٍ،
ثُمَّ كُرَيْب بن زَيْدٍ، فقتل هَؤُلاءِ الإخوة الثلاثة جميعا، ثُمَّ
أخذ الراية عميرة بن بشير، ثُمَّ الْحَارِث بن بشير، فقتلا، ثُمَّ أخذ
الراية وهب بن كُرَيْب أخو القلوص، فأراد أن يستقبل، فَقَالَ لَهُ رجل
من قومه: انصرف بهذه الراية- رحمك اللَّه- فقد قتل أشراف قومك حولها،
فلا تقتل نفسك وَلا من بقي من قومك، فانصرفوا وهم يقولون: ليت لنا
عدتنا من العرب يحالفوننا عَلَى الموت، ثُمَّ نستقدم نحن وهم فلا ننصرف
حَتَّى نقتل أو نظفر فمروا بالأشتر وهم يقولون هَذَا القول، فَقَالَ
لَهُمُ الأَشْتَر:
إلي أنا أحالفكم وأعاقدكم عَلَى أَلا نرجع أبدا حَتَّى نظفر أو نهلك
فأتوه فوقفوا مَعَهُ، ففي هَذَا القول قَالَ كعب بن جعيل التغلبي:
وهمدان رزق تبتغي من تحالف
وزحف الأَشْتَر نحو الميمنة، وثاب إِلَيْهِ ناس تراجعوا من أهل الصبر
والحياء والوفاء، فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها، وَلا لجمع إلا حازه
ورده، فإنه لكذلك إذ مر بزياد بن النضر يحمل إِلَى العسكر، فَقَالَ: من
هَذَا؟ فقيل: زياد بن النضر، استلحم عَبْد اللَّهِ بن بديل وأَصْحَابه
فِي الميمنة، فتقدم زياد فرفع لأهل الميمنة رايته، فصبروا، وقاتل
حَتَّى صرع، ثُمَّ لم يمكثوا إلا كلا شَيْء حَتَّى مر بيزيد بن قيس
الأرحبي محمولا نحو العسكر، فَقَالَ الأَشْتَر: من هَذَا؟ فَقَالُوا:
يَزِيد بن قيس، لما صرع زياد ابن النضر رفع لأهل الميمنة رايته، فقاتل
حَتَّى صرع، فَقَالَ الأَشْتَر: هَذَا وَاللَّهِ الصبر الجميل، والفعل
الكريم، أَلا يستحي الرجل أن ينصرف لا يقتل
(5/21)
وَلا يقتل، أو يشفى بِهِ عَلَى القتل!
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، عن الحر بن الصياح
النخعي، أن الأَشْتَر يَوْمَئِذٍ كَانَ يقاتل عَلَى فرس لَهُ فِي يده
صفيحة يمانية، إذا طأطأها خلت فِيهَا ماء منصبا، وإذا رفعها كاد يعشى
البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول:
الغمرات ثُمَّ ينجلينا
قَالَ: فبصر بِهِ الْحَارِث بن جمهان الجعفي والأشتر متقنع فِي الحديد،
فلم يعرفه، فدنا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: جزاك اللَّه خيرا منذ الْيَوْم
عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وجماعة المسلمين! فعرفه الاشتر، فقال يا بن
جمهان، مثلك يتخلف عن مثل موطني هَذَا الَّذِي أنا فِيهِ! فنظر
إِلَيْهِ ابن جمهان فعرفه، فكان من اعظم الرجال واطوله- وكان في لحيته
خفه- قليله- فَقَالَ: جعلت فداك! لا وَاللَّهِ مَا علمت بمكانك إلا
الساعة، وَلا أفارقك حَتَّى أموت قَالَ:
ورآه منقذ وحمير ابنا قيس الناعطيان، فَقَالَ منقذ لحمير: مَا فِي
العرب مثل هَذَا، إن كَانَ مَا أَرَى من قتاله على نيته، فَقَالَ لَهُ
حمير: وهل النية إلا مَا تراه يصنع! قَالَ: إني أخاف أن يكون يحاول
ملكا قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن مولى للأشتر:، إنه
(5/22)
لما اجتمع إِلَيْهِ عظم من كَانَ انهزم عن
الميمنة حرضهم، ثُمَّ قَالَ: عضوا عَلَى النواجذ من الأضراس، واستقبلوا
القوم بهامكم، وشدوا شدة قوم موتورين ثأرا بآبائهم وإخوانهم، حناقا
عَلَى عدوهم، قَدْ وطنوا عَلَى الموت أنفسهم كيلا يسبقوا بوتر، وَلا
يلحقوا فِي الدُّنْيَا عارا، وايم اللَّه مَا وتر قوم قط بشيء أشد
عَلَيْهِم من أن يوتروا دينهم، وإن هَؤُلاءِ القوم لا يقاتلونكم إلا عن
دينكم ليميتوا السنة، ويحيوا البدعة، ويعيدوكم فِي ضلالة قَدْ أخرجكم
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ منها بحسن البصيرة فطيبوا عباد اللَّه أنفسا
بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم عَلَى اللَّه، وَاللَّهِ عنده جنات
النعيم وإن الفرار من الزحف فِيهِ السلب للعز، والغلبة عَلَى الفيء،
وذل المحيا والممات، وعار الدُّنْيَا والآخرة.
وحمل عَلَيْهِم حَتَّى كشفهم، فألحقهم بصفوف مُعَاوِيَة بين صلاة العصر
والمغرب، وانتهى إِلَى عَبْد اللَّهِ بن بديل وَهُوَ فِي عصبة من
القراء بين المائتين والثلثمائه، وَقَدْ لصقوا بالأرض كأنهم جثا فكشف
عَنْهُمْ أهل الشام، فأبصروا إخوانهم قَدْ دنوا مِنْهُمْ، فَقَالُوا:
مَا فعل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالُوا: حي صالح فِي الميسرة، يقاتل
الناس أمامه، فَقَالُوا: الحمد لِلَّهِ، قَدْ كنا ظننا أن قَدْ هلك
وهلكتم وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن بديل لأصحابه: استقدموا بنا، فأرسل
الاشتر اليه: الا تفعل، أثبت مع الناس فقاتل، فإنه خير لَهُمْ وأبقى لك
ولأَصْحَابك فأبى، فمضى كما هُوَ نحو مُعَاوِيَة، وحوله كأمثال الجبال،
وفي يده سيفان، وَقَدْ خرج فهو أمام أَصْحَابه، فأخذ كلما دنا مِنْهُ
رجل ضربه فقتله، حَتَّى قتل سبعة، ودنا من مُعَاوِيَة فنهض إِلَيْهِ
الناس من كل جانب، وأحيط بِهِ وبطائفة من أَصْحَابه، فقاتل حَتَّى قتل،
وقتل ناس من اصحابه، ورجعت طائفه قد جرحوا منهزمين، فبعث الاشتر ابن
جمهان الجعفي فحمل عَلَى أهل الشام الَّذِينَ يتبعون من نجا من
أَصْحَاب ابن بديل حَتَّى نفسوا عَنْهُمْ، وانتهوا إِلَى الأَشْتَر،
فَقَالَ لَهُمْ: ألم يكن رأيي لكم خيرا من رأيكم لأنفسكم! الم آمر كم
أن تثبتوا مع الناس! وَكَانَ مُعَاوِيَة قَالَ لابن بديل وَهُوَ
(5/23)
يضرب قدما: أترونه كبش القوم! فلما قتل
أرسل إِلَيْهِ، فَقَالَ: انظروا من هُوَ؟ فنظر إِلَيْهِ ناس من أهل
الشام فَقَالُوا: لا نعرفه، فأقبل إِلَيْهِ حَتَّى وقف عَلَيْهِ،
فَقَالَ: بلى، هَذَا عَبْد اللَّهِ بن بديل، وَاللَّهِ لو استطاعت نساء
خزاعة أن تقاتلنا فضلا عَلَى رجالها لفعلت، مدوه، فمدوه، فَقَالَ:
هَذَا وَاللَّهِ كما قَالَ الشاعر:
أخو الحرب إن عضت بِهِ الحرب عضها ... وإن شمرت يَوْمًا بِهِ الحرب
شمرا
والبيت لحاتم طيئ وإن الأَشْتَر زحف إِلَيْهِم فاستقبله مُعَاوِيَة بعك
والأشعرين، فَقَالَ الأَشْتَر لمذحج: اكفونا عكا، ووقف فِي همدان
وَقَالَ لكندة: اكفونا الأشعرين، فاقتتلوا قتالا شديدا، وأخذ يخرج
إِلَى قومه فيقول: إنما هم عك، فاحملوا عَلَيْهِم، فيجثون عَلَى الركب
ويرتجزون:
يَا ويل أم مذحج من عك ... هاتيك أم مذحج تبكي
فقاتلوهم حَتَّى المساء ثُمَّ إنه قاتلهم فِي همدان وناس من طوائف
الناس، فحمل عَلَيْهِم فأزالهم عن مواقفهم حَتَّى ألحقهم بالصفوف
الخمسة المعقلة بالعمائم حول مُعَاوِيَة، ثُمَّ شد عَلَيْهِم شدة أخرى
فصرع الصفوف الأربعة، - وكانوا معقلين بالعمائم- حَتَّى انتهوا إِلَى
الخامس الَّذِي حول مُعَاوِيَة، ودعا مُعَاوِيَة بفرس فركب- وَكَانَ
يقول: أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الأطنابة من الأنصار- كَانَ جاهليا،
والأطنابة امرأة من بلقين:
أبت لي عفتي وحياء نفسي ... وإقدامي عَلَى البطل المشيح
وإعطائي عَلَى المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
فمنعني هَذَا القول من الفرار
(5/24)
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مالك بن أعين
الجهني، عن زَيْد بن وهب، أن عَلِيًّا لما رَأَى ميمنته قَدْ عادت
إِلَى مواقعها ومصافها وكشفت من بإزائها من عدوها حَتَّى ضاربوهم فِي
مواقفهم ومراكزهم، أقبل حَتَّى انتهى إِلَيْهِم [فَقَالَ: إني قَدْ
رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، يحوزكم الطغاة الجفاة وأعراب أهل
الشام، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن
وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون، فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكركم بعد
انحيازكم، وجب عَلَيْكُمْ مَا وجب عَلَى المولي يوم الزحف دبره، وكنتم
من الهالكين، ولكن هون وجدي، وشفى بعض أحاح نفسي، أني رأيتكم بأخرة
حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تحسونهم
بالسيوف، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطرده الهيم، فالآن فاصبروا،
نزلت عَلَيْكُمُ السكينة وثبتكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ باليقين، ليعلم
المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق نفسه، إن فِي الفرار موجدة اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ عَلَيْهِ، والذل اللازم، والعار الباقي، واعتصار الفيء من يده،
وفساد العيش عَلَيْهِ وإن الفار مِنْهُ لا يَزِيد فِي عمره، وَلا يرضي
ربه، فموت المرء محقا قبل إتيان هَذِهِ الخصال، خير من الرضا بالتأنيس
لها، والإقرار عَلَيْهَا] .
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جابر الأحمسي، أن راية بجيلة بصفين كَانَتْ فِي أحمس بن
الغوث بن أنمار مع أبي شداد- وَهُوَ قيس بن مكشوح بن هلال بن الْحَارِث
بن عَمْرو بن جابر بن على ابن اسلم بن احمس بن الغوث- وقالت لَهُ
بجيلة: خذ رايتنا، فَقَالَ: غيري خير لكم مني، قَالُوا: مَا نريد غيرك،
قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس
المذهب قَالُوا: اصنع مَا شئت،
(5/25)
فأخذها ثُمَّ زحف، حَتَّى انتهى بهم إِلَى
صاحب الترس المذهب- وَكَانَ فِي جماعة عظيمة من أَصْحَاب مُعَاوِيَة،
وذكروا أنه عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد المخزومي- فاقتتل
الناس هنالك قتالا شديدا، فشد بسيفه نحو صاحب الترس، فتعرض لَهُ رومي،
مولى لمعاوية فيضرب قدم أبي شداد فيقطعها، ويضربه أَبُو شداد فيقتله،
وأشرعت إِلَيْهِ الأسنة فقتل، وأخذ الراية عبد الله ابن قلع الأحمسي
وَهُوَ يقول:
لا يبعد اللَّه أبا شداد ... حَيْثُ أجاب دعوة المنادي
وشد بالسيف على الأعادي ... نعم الفتى كان لدى الطراد
وفي طعان الرجل والجلاد
فقاتل حَتَّى قتل، فأخذ الراية أخوه عبد الرَّحْمَن بن قلع، فقاتل
حَتَّى قتل، ثُمَّ أخذها عفيف بن إياس، فلم تزل فِي يده حَتَّى تحاجز
الناس، وقتل حازم بن أبي حازم الأحمسي- أخو قيس بن أبي حازم-
يَوْمَئِذٍ، وقتل نعيم بن صهيب بن العلية البجلي يَوْمَئِذٍ، فأتى ابن
عمه وسميه نعيم بن الحارث ابن العلية مُعَاوِيَة- وَكَانَ مَعَهُ-
فَقَالَ: إن هَذَا القتيل ابن عمي، فهبه لي أدفنه، فَقَالَ: لا تدفنه
فليس لذلك أهلا، وَاللَّهِ مَا قدرنا عَلَى دفن ابن عفان رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إلا سرا قَالَ: وَاللَّهِ لتأذنن فِي دفنه أو لألحقن
بهم ولأدعنك.
قَالَ مُعَاوِيَة: أترى أشياخ العرب قَدْ أحالتهم أمورهم، فأنت تسألني
فِي دفن ابن عمك! ادفنه إن شئت أو دع فدفنه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن حصيرة الأَزْدِيّ، عن
أشياخ من النمر من الأزد، أن مخنف بن سليم لما ندبت الأزد للأزد، حمد
اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن من الخطإ الجليل، والبلاء
العظيم، أنا صرفنا إِلَى قومنا وصرفوا إلينا، وَاللَّهِ مَا هي إلا
أيدينا نقطعها بأيدينا، وما هي إلا أجنحتنا نجدها بأسيافنا، فإن نحن لم
نؤاس جماعتنا، ولم نناصح صاحبنا كفرنا، وان
(5/26)
نحن فعلنا فعزنا أبحنا، ونارنا أخمدنا،
فَقَالَ لَهُ جندب بن زهير: وَاللَّهِ لو كنا آباءهم وولدناهم- أو كنا
أبناءهم وولدونا- ثُمَّ خرجوا من جماعتنا، وطعنوا عَلَى إمامنا وإذا هم
الحاكمون بالجور عَلَى أهل ملتنا وذمتنا، مَا افترقنا بعد أن اجتمعنا
حَتَّى يرجعوا عما هم عَلَيْهِ، ويدخلوا فِيمَا ندعوهم إِلَيْهِ، أو
تكثر القتلى بيننا وبينهم.
فَقَالَ لَهُ مخنف- وَكَانَ ابن خالته: أعز اللَّه بك النيه، وَاللَّهِ
مَا علمت صغيرا وكبيرا إلا مشئوما، وَاللَّهِ مَا ميلنا الرأي قط أيهما
نأتي أو أيهما ندع- فِي الْجَاهِلِيَّة وَلا بعد أن أسلمنا- إلا اخترت
أعسرهما وأنكدهما، اللَّهُمَّ إن تعافي أحب إلينا من أن تبتلي، فأعط كل
امرئ منا مَا يسألك.
وَقَالَ أَبُو بريدة بن عوف: اللَّهُمَّ احكم بيننا بِمَا هُوَ أرضى لك
يَا قوم إنكم تبصرون مَا يصنع الناس، وإن لنا الأسوة بِمَا عَلَيْهِ
الجماعة إن كنا عَلَى حق، وإن يكونوا صادقين فإن أسوة فِي الشر-
وَاللَّهِ مَا علمنا- ضرر فِي المحيا والممات وتقدم جندب بن زهير،
فبارز رأس أزد الشام، فقتله الشامي، وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عَبْد
اللَّهِ من بني ثعلبة، وقتل مع مخنف من رهطه عَبْد اللَّهِ وخالد ابنا
ناجد، وعمرو وعامر ابنا عويف، وعبد اللَّه بن الحجاج وجندب بن زهير،
وأبو زينب بن عوف بن الْحَارِث، وخرج عَبْد اللَّهِ بن أبي الحصين
الأَزْدِيّ فِي القراء الذين مع عمار بن الْحَارِث، وخرج عَبْد اللَّهِ
بن أبي الحصين الأَزْدِيّ فِي القراء الَّذِينَ مع عمار بن ياسر فأصيب
مَعَهُ.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن أشياخ النمر،
أن عقبة بن حديد النمري قَالَ يوم صفين: أَلا إن مرعى الدُّنْيَا قَدْ
أصبح هشيما، وأصبح شجرها خضيدا، وجديدها سملا، وحلوها مر المذاق.
أَلا وإني أنبئكم نبأ امرئ صادق: إني قَدْ سئمت الدُّنْيَا وعزفت نفسي
عنها،
(5/27)
وَقَدْ كنت أتمنى الشهادة، وأتعرض لها فِي
كل جيش وغاره، فأبى الله عز وجل إلا أن يبلغني هَذَا الْيَوْم أَلا
وإني متعرض لها من ساعتي هَذِهِ، قَدْ طمعت أَلا أحرمها، فما تنتظرون
عباد اللَّه بجهاد من عادى اللَّه؟ خوفا من الموت القادم عَلَيْكُمُ،
الذاهب بأنفسكم لا محالة، أو من ضربة كف بالسيف تستبدلون الدُّنْيَا
بالنظر فِي وجه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وموافقة النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين فِي دار القرار! مَا هَذَا بالرأي السديد ثُمَّ مضى
فَقَالَ:
يَا إخوتي، قَدْ بعت هَذِهِ الدار بالتي أمامها، وهذا وجهى إليها لا
يبرح وجوهكم، وَلا يقطع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ رجاءكم فتبعه إخوته:
عُبَيْد اللَّهِ وعوف ومالك، وَقَالُوا:
لا نطلب رزق الدُّنْيَا بعدك، فقبح اللَّه العيش بعدك! اللَّهُمَّ إنا
نحتسب أنفسنا عندك! فاستقدموا فقاتلوا حَتَّى قتلوا قَالَ أَبُو مخنف:
حدثنى صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عَبْدِ اللَّهِ الضبابي، قَالَ:
شهدت صفين مع الحي ومعنا شمر بن ذي الجوشن الضبابي، فبارزه أدهم بن
محرز الباهلي، فضرب أدهم وجه شمر بالسيف، وضربه شمر ضربة لم تضرره،
فرجع شمر إِلَى رحله فشرب شربة- وَكَانَ قَدْ ظمئ- ثُمَّ أخذ الرمح،
فأقبل وَهُوَ يقول:
إني زعيم لأخي باهله ... بطعنة إن لم أصب عاجله
أو ضربة تحت القنا والوغى ... شبيهة بالقتل أو قاتله
ثُمَّ حمل عَلَى أدهم فصرعه، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ بتلك.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَمْرو بن عَمْرو بن عوف بن مالك الجشمي
أن بشر بن عصمة المزني كَانَ لحق بمعاوية، فلما اقتتل الناس بصفين بصر
(5/28)
بشر بن عصمة بمالك بن العقدية- وَهُوَ مالك
بن الجلاح الجشمي، ولكن العقدية غلبت عَلَيْهِ- فرآه بشر وَهُوَ يفري
فِي أهل الشام فريا عجيبا، وَكَانَ رجلا مسلما شجاعا، فغاظ بشرا مَا
رَأَى مِنْهُ، فحمل عَلَيْهِ فطعنه فصرعه، ثُمَّ انصرف، فندم لطعنته
إِيَّاهُ جبارا، فقال:
وانى لأرجو من مليكي تجاوزا ... ومن صاحب الموسوم فِي الصدر هاجس
دلفت لَهُ تحت الغبار بطعنة ... عَلَى ساعة فِيهَا الطعان تخالس
فبلغت مقالته ابن العقدية، فَقَالَ:
أَلا أبلغا بشر بن عصمة أنني ... شغلت وألهاني الَّذِينَ أمارس
فصادفت مني غرة وأصبتها ... كذلك والأبطال ماض وخالس
ثُمَّ حمل عَبْد اللَّهِ بن الطفيل البكائي عَلَى جمع لأهل الشام، فلما
انصرف حمل عَلَيْهِ رجل من بني تميم- يقال لَهُ قيس بن قرة، ممن لحق
بمعاوية من أهل العراق- فيضع الرمح بين كتفي عبد الله بن الطفيل،
ويعترضه يزيد ابن مُعَاوِيَة، ابن عم عَبْد اللَّهِ بن الطفيل، فيضع
الرمح بين كتفي التميمي، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ طعنته لأطعننك،
فَقَالَ: عَلَيْك عهد اللَّه وميثاقه لئن رفعت السنان على ظهر صاحبك
لترفعن سنانك عني! فَقَالَ لَهُ: نعم، لك بِذَلِكَ عهد اللَّه، فرفع
السنان عن ابن الطفيل، ورفع يَزِيد السنان عن التميمي، فَقَالَ: ممن
أنت؟ قَالَ: من بني عَامِر، فَقَالَ لَهُ: جعلني اللَّه فداكم! أينما
إلفكم إلفكم كراما، وإني لحادي عشر رجلا من أهل بيتي ورهطي قتلتموهم
الْيَوْم، وأنا كنت آخرهم فلما رجع الناس إِلَى الْكُوفَةِ عتب عَلَى
يَزِيد بن الطفيل فِي بعض مَا يعتب فِيهِ الرجل عَلَى ابن عمه، فَقَالَ
لَهُ:
ألم ترني حاميت عنك مناصحا ... بصفين إذ خلاك كل حميم
ونهنهت عنك الحنظلي وَقَدْ أتى ... عَلَى سابح ذي ميعة وهزيم!
(5/29)
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن
خديج، قَالَ: خرج رجل من أهل الشام يدعو إِلَى المبارزة، فخرج إِلَيْهِ
عبد الرَّحْمَن بن محرز الكندي، ثُمَّ الطمحي، فتجاولا ساعة ثُمَّ إن
عبد الرَّحْمَن حمل عَلَى الشامي فطعنه فِي ثغرة نحره فصرعه، ثُمَّ نزل
إِلَيْهِ فسلبه درعه وسلاحه، فإذا هُوَ حبشي، فَقَالَ: إنا لِلَّهِ!
لمن أخطرت نفسي! لعبد أسود! وخرج رجل من عك يسأل المبارزة، فخرج
إِلَيْهِ قيس بن فهدان الكناني، ثُمَّ البدني، فحمل عَلَيْهِ العكي
فضربه واحتمله أَصْحَابه فَقَالَ قيس بن فهدان:
لقد علمت عك بصفين أننا ... إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا
ونحمل رايات الطعان بحقها ... فنوردها بيضا ونصدرها حمرا
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن قيس بن فهدان كَانَ
يحرض أَصْحَابه فيقول: شدوا إذا شددتم جميعا، وإذا انصرفتم فأقبلوا
معا، وغضوا الأبصار، وأقلوا اللفظ، واعتوروا الأقران، وَلا يؤتين من
قبلكم العرب قَالَ: وقتل نهيك بن عزير- من بني الْحَارِث بن عدي وعمرو
بن يَزِيدَ من بني ذهل، وسعيد بن عَمْرو- وخرج قيس بن يَزِيدَ وَهُوَ
ممن فر إِلَى مُعَاوِيَةَ من علي، فدعا إِلَى المبارزة، فخرج إِلَيْهِ
أخوه أَبُو العمرطة بن يَزِيدَ، فتعارفا، فتواقفا وانصرفا إِلَى
النَّاسِ، فأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ حُذَيْفَة من آل عَامِر بن
جوين الطَّائِيّ، أن طيئا يوم صفين قاتلت قتالا شديدا، فعبيت لَهُمْ
جموع كثيرة، فجاءهم حمزة بن مالك الهمداني، فَقَالَ: ممن أنتم، لِلَّهِ
أنتم! فقال عبد الله ابن خليفة البولاني- وَكَانَ شيعيا شاعرا خطيبا:
نحن طيئ السهل، وطيئ
(5/30)
الرمل، وطيئ الجبل، الممنوع ذي النخل، نحن
حماة الجبلين، إِلَى مَا بين العذيب والعين، نحن طيئ الرماح، وطيئ
النطاح، وفرسان الصباح.
فَقَالَ حمزة بن مالك: بخ بخ! إنك لحسن الثناء عَلَى قومك، فَقَالَ:
إن كنت لم تشعر بنجدة معشر ... فأقدم علينا ويب غيرك تشعر
ثُمَّ اقتتل الناس أشد القتال، فأخذ يناديهم ويقول: يَا معشر طيئ، فدى
لكم طارفي وتالدي! قاتلوا عَلَى الأحساب، وأخذ يقول:
أنا الَّذِي كنت إذا الداعي دعا ... مصمما بالسيف ندبا أروعا
فأنزل المستلئم المقنعا ... وأقتل المبالط السميدعا
وَقَالَ بشر بن العسوس الطَّائِيّ ثُمَّ الملقطي:
يَا طيئ السهول والأجبال ... أَلا انهدوا بالبيض والعوالي
وبالكماة مِنْكُمُ الأبطال ... فقارعوا أئمة الجهال
السالكين سبل الضلال
ففقئت يَوْمَئِذٍ عين ابن العسوس، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَلا ليت عيني هَذِهِ مثل هَذِهِ ... فلم أمش فِي الآناس إلا بقائد
ويا ليتني لم أبق بعد مطرف ... وسعد وبعد المستنير بن خَالِد
فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم ... إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد
(5/31)
ويا ليت رجلي ثُمَّ طنت بنصفها ... ويا ليت
كفي ثُمَّ طاحت بساعدي
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو الصلت التيمي، قَالَ: حَدَّثَنِي
أشياخ محارب أنه كَانَ مِنْهُمْ رجل يقال لَهُ خنثر بن عبيدة بن
خَالِدٍ، وَكَانَ من أشجع الناس، فلما اقتتل الناس يوم صفين، جعل يرى
أَصْحَابه منهزمين، فأخذ ينادي: يَا معشر قيس، أطاعة الشَّيْطَان آثر
عندكم من طاعة الرحمن! الفرار فِيهِ معصية اللَّه سُبْحَانَهُ وسخطه،
والصبر فِيهِ طاعة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ورضوانه، فتختارون سخط اللَّه
تعالى عَلَى رضوانه، ومعصيته عَلَى طاعته! فإنما الراحة بعد الموت لمن
مات محاسبا لنفسه وقال:
لا والت نفس امرى ولى الدبر ... أنا الَّذِي لا ينثني وَلا يفر
وَلا يرى مع المعازيل الغدر.
فقاتل حتى ارتث: ثم انه خرج مع الخمسمائة الَّذِينَ كَانُوا اعتزلوا مع
فروة بن نوفل الأشجعي، فنزلوا بالدسكرة والبندنيجين، فقاتلت النخع
يَوْمَئِذٍ قتالا شديدا، فأصيب مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ بكر بن هوذة وحيان
بن هوذة وشعيب بن نعيم من بني بكر النخع، وربيعة بن مالك بن وهبيل،
وأبي بن قيس أخو عَلْقَمَة بن قيس الفقيه، وقطعت رجل عَلْقَمَة
يَوْمَئِذٍ، فكان يقول: مَا أحب أن رجلي أصح مَا كَانَتْ، وإنها لمما
أرجو بِهِ حسن الثواب من ربي عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ: لقد كنت أحب أن
أَرَى فِي نومي أخي أو بعض إخواني، فرأيت أخي فِي النوم فقلت: يَا أخي،
ماذا قدمتم عَلَيْهِ؟
فَقَالَ لي: إنا التقينا نحن والقوم، فاحتججنا عِنْدَ اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ، فحججناهم، فما سررت منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا
(5/32)
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سويد بن حية
الأسدي، عن الحضين ابن المنذر، [أن أناسا كَانُوا أتوا عَلِيًّا قبل
الوقعة فَقَالُوا لَهُ: إنا لا نرى خَالِد بن المعمر إلا قَدْ كاتب
مُعَاوِيَة، وَقَدْ خشينا أن يتابعه فبعث إِلَيْهِ علي وإلى رجال من
أشرافنا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا
بَعْدُ يَا معشر رَبِيعَة، فأنتم أنصاري ومجيبو دعوتي ومن أوثق حي فِي
العرب فِي نفسي، وَقَدْ بلغني أن مُعَاوِيَة قَدْ كاتب صاحبكم خَالِد
بن المعمر، وَقَدْ أتيت بِهِ، وجمعتكم لأشهدكم عَلَيْهِ ولتسمعوا
أَيْضًا مَا أقوله ثُمَّ أقبل عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا خَالِد بن
المعمر، إن كَانَ مَا بلغني حقا فإني أشهد اللَّه ومن حضرني مِنَ
الْمُسْلِمِينَ أنك آمن حَتَّى تلحق بأرض العراق أو الحجاز أو أرض لا
سلطان لمعاوية فِيهَا، وإن كنت مكذوبا عَلَيْك، فإن صدورنا تطمئن إليك
فحلف بِاللَّهِ مَا فعل،] وَقَالَ رجال منا كثير: لو كنا نعلم أنه فعل
أمثلناه، فَقَالَ شقيق بن ثور السدوسي: مَا وفق خَالِد بن المعمر أن
نصر مُعَاوِيَة وأهل الشام عَلَى علي وربيعة، فَقَالَ زياد بن خصفة
التيمي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، استوثق من ابن المعمر بالإيمان لا
يغدرنك.
فاستوثق مِنْهُ، ثُمَّ انصرفنا [فلما كَانَ يوم الخميس انهزم الناس من
قبل الميمنة، فجاءنا علي حَتَّى انتهى إلينا وَمَعَهُ بنوه، فنادى بصوت
عال جهير، كغير المكترث لما فِيهِ الناس: لمن هَذِهِ الرايات؟ قلنا:
رايات رَبِيعَة، فَقَالَ:
بل هي رايات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، عصم اللَّه أهلها، فصبرهم، وثبت
أقدامهم.
ثُمَّ قَالَ لي: يَا فتى، أَلا تدني رايتك هَذِهِ ذراعا؟ قلت: نعم
وَاللَّهِ وعشرة أذرع، فقمت بِهَا فأدنيتها، حَتَّى قَالَ: إن حسبك
مكانك، فثبت حَيْثُ أمرني، واجتمع أَصْحَابي] .
قَالَ ابو مخنف: حدثنا ابو الصلت التيمى، قَالَ: سمعت أشياخ الحي
(5/33)
من تيم اللَّه بن ثعلبة يقولون: إن راية
رَبِيعَة، أهل كوفتها وبصرتها، كَانَتْ مع خَالِد بن المعمر من أهل
الْبَصْرَة قَالَ: وسمعتهم يقولون: ان خالد ابن المعمر وسفيان بن ثور
السدوسي اصطلحا عَلَى أن وليا راية بكر بن وائل من أهل الْبَصْرَة
الحضين بن المنذر الذهلي، وتنافسا فِي الراية، وقالا:
هَذَا فتى منا لَهُ حسب، نجعلها لَهُ حَتَّى نرى من رأينا.
ثُمَّ إن عَلِيًّا ولى خَالِد بن المعمر بعد راية رَبِيعَة كلها قَالَ:
وضرب مُعَاوِيَة لحمير بسهمهم عَلَى ثلاث قبائل، لم تكن لأهل العراق
قبائل أكثر عددا منها يَوْمَئِذٍ: عَلَى رَبِيعَة وهمدان ومذحج، فوقع
سهم حمير عَلَى رَبِيعَة، فَقَالَ ذو الكلاع: قبحك اللَّه من سهم! كرهت
الضراب! فأقبل ذو الكلاع فِي حمير ومن تعلقها، ومعهم عُبَيْد اللَّهِ
بن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ فِي أربعة آلاف من قراء أهل الشام، وعلى
ميمنتهم ذو الكلاع، فحملوا عَلَى رَبِيعَة، وهم ميسرة أهل العراق،
وفيهم ابن عَبَّاس، وَهُوَ عَلَى الميسرة، فحمل عَلَيْهِم ذو الكلاع
وعبيد اللَّه بن عُمَرَ حملة شديدة بخيلهم ورجلهم، فتضعضعت رايات
رَبِيعَة إلا قليلا من الأخيار والأبدال قَالَ: ثُمَّ إن أهل الشام
انصرفوا، فلم يمكثوا إلا قليلا حَتَّى كروا، وعبيد اللَّه بن عُمَرَ
يقول: يَا أهل الشام، إن هَذَا الحي من أهل العراق قتلة عُثْمَان بن
عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأنصار عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ، وإن
هزمتم هَذِهِ القبيلة أدركتم ثأركم فِي عُثْمَان وهلك عَلِيّ بن أبي
طالب وأهل العراق، فشدوا عَلَى الناس شدة، فثبتت لَهُمْ رَبِيعَة،
وصبروا صبرا حسنا إلا قليلا من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل
الصبر مِنْهُمْ والحفاظ، فلم يزولوا، وقاتلوا قتالا شديدا.
فلما رَأَى خَالِد بن المعمر ناسا من قومه انصرفوا انصرف، ولما رَأَى
أَصْحَاب الرايات قَدْ ثبتوا ورأى قومه قَدْ صبروا رجع وصاح بمن انهزم،
وأمرهم بالرجوع،
(5/34)
فَقَالَ: من أراد من قومه أن يتهمه، أراد
الانصراف فلما رآنا قَدْ ثبتنا رجع إلينا وَقَالَ هُوَ: لما رأيت رجالا
منا انهزموا رأيت أن أستقبلهم وأردهم إليكم، وأقبلت إليكم فيمن أطاعني
مِنْهُمْ، فَجَاءَ بأمر مشبه قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي رجل من بكر
بن وائل، عن محرز بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ العجلي، أن خالدا قَالَ
يَوْمَئِذٍ: يَا معشر رَبِيعَة، إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أتى بكل
رجل مِنْكُمْ من منبته ومسقط رأسه، فجمعكم فِي هَذَا المكان جمعا لم
يجمعكم مثله منذ نشر كم فِي الأرض، فإن تمسكوا بأيديكم، وتنكلوا عن
عدوكم، وتزولوا عن مصافكم لا يرض اللَّه فعلكم، وَلا تقدموا مِنَ
النَّاسِ صغيرا أو كبيرا إلا يقول: فضحت رَبِيعَة الذمار، وحاصت عن
القتال، وأتيت من قبلها العرب، فإياكم ان يتشاءم بكم العرب والمسلمون
الْيَوْم وإنكم إن تمضوا مقبلين مقدمين، وتصيروا محتسبين فإن الإقدام
لكم عاده، والصبر منكم سجيه، واصبروا ونيتكم صادقه أن تؤجروا، فإن ثواب
من نوى مَا عِنْدَ اللَّه شرف الدُّنْيَا وكرامة الآخرة، ولن يضيع
اللَّه أجر من أحسن عملا.
فقام رجل من ربيعه فَقَالَ: ضاع وَاللَّهِ أمر رَبِيعَة حين جعلت إليك
أمورها! تأمرنا أَلا نزول وَلا نحول حَتَّى تقتل أنفسنا، وتسفك دماءنا!
أَلا ترى الناس قَدِ انصرف جلهم! فقام إِلَيْهِ رجال من قومه فنهروه
وتناولوه بألسنتهم فَقَالَ لَهُمْ خَالِد: أخرجوا هَذَا من بينكم، فإن
هَذَا إن بقي فيكم
(5/35)
ضركم، وإن خرج مِنْكُمْ لم ينقصكم، هَذَا
الَّذِي لا ينقص العدد، وَلا يملأ البلد، برحك اللَّه من خطيب قوم
كرام! كيف جنبت السداد! واشتد قتال رَبِيعَة وحمير وعبيد اللَّه بن
عُمَرَ حَتَّى كثرت بينهم القتلى، فقتل سمير بن الريان بن الْحَارِث
العجلي، وَكَانَ من أشد الناس بأسا قَالَ أَبُو مخنف: حدثنى جعفر بن
أبي الْقَاسِم العبدي، عن يَزِيد بن عَلْقَمَة، عن زَيْد بن بدر
العبدي، أن زياد بن خصفة أتى عبد القيس يوم صفين وَقَدْ عبيت قبائل
حمير مع ذي الكلاع- وفيهم عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ-
لبكر بن وائل، فقوتلوا قتالا شديدا، خافوا فِيهِ الهلاك.
فَقَالَ زياد بن خصفة: يَا عبد القيس، لا بكر بعد الْيَوْم فركبنا
الخيول، ثُمَّ مضينا فواقفناهم، فما لبثنا إلا قليلا حَتَّى أصيب ذو
الكلاع، وقتل عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
فَقَالَتْ همدان: قتله هانئ بن خطاب الأرحبي، وقالت حضر موت: قتله مالك
بن عمرو التنعي، وقالت بكر ابن وائل: قتله محرز بن الصحصح من بني عائش
بن مالك بن تيم اللَّه بن ثعلبة، وأخذ سيفه ذا الوشاح، فأخذ بِهِ
مُعَاوِيَة بالكوفة بكر بن وائل، فَقَالُوا:
إنما قتله رجل منا من أهل الْبَصْرَة، يقال لَهُ: محرز بن الصحصح، فبعث
إِلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ فأخذ مِنْهُ السيف، وَكَانَ رأس النمر بن قاسط
عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو من بني تيم الله بن النمر
(5/36)
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: الَّذِي قتل
عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ محرز بن الصحصح، وأخذ
سيفه ذا الوشاح، سيف عمر، وفي ذَلِكَ قول كعب بن جعيل التغلبي:
أَلا إنما تبكي العيون لفارس ... بصفين أجلت خيله وَهُوَ واقف
يبدل من أسماء أسياف وائل ... وَكَانَ فتى لو أخطأته المتالف
تركن عُبَيْد اللَّهِ بالقاع مسندا ... تمج دم الخرق العروق الذوارف
وَهِيَ أكثر من هَذَا وقتل مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ بشر بن مُرَّةَ بن
شُرَحْبِيل، والحارث بن شُرَحْبِيل، وكانت أسماء ابنة عطارد بن حاجب
التميمي تحت عُبَيْد اللَّهِ بن عُمَرَ، ثُمَّ خلف عَلَيْهَا الْحَسَن
بن علي.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي ابن أخي غياث بن لقيط البكري أن عَلِيًّا
حَيْثُ انتهى إِلَى رَبِيعَة، تبارت رَبِيعَة بينها، فَقَالُوا: ان
اصيب على فيكم وقد ألجأ إِلَى رايتكم افتضحتم وَقَالَ لَهُمْ شقيق بن
ثور: يَا معشر رَبِيعَة، لا عذر لكم فِي العرب إن وصل إِلَى علي فيكم
وفيكم رجل حي، وإن منعتموه فمجد الحياة اكتسبتموه فقاتلوا قتالا شديدا
حين جاءهم علي لم يكونوا قاتلوا مثله، ففي ذَلِكَ قَالَ علي:
لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما
يقدمها فِي الموت حَتَّى يزيرها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما
أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا ... بأسيافنا حَتَّى تولى وأحجما
جزى اللَّه قوما صابروا فِي لقائهم ... لدى الموت قوما ما اعف وأكرما!
(5/37)
واطيب اخبارا وأكرم شيمة ... إذا كَانَ
أصوات الرجال تغمغما
رَبِيعَة أعني أَنَّهُمْ أهل نجدة ... وبأس إذا لاقوا جسيما عرمرما
مقتل عمار بن ياسر
قال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة الحنفي، أن عمار بن ياسر خرج
إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك فِي
أن أقذف بنفسي فِي هَذَا البحر لفعلته، اللَّهُمَّ إنك تعلم أني لو
أعلم أن رضاك فِي أن أضع ظبة سيفي فِي صدري ثُمَّ أنحني عَلَيْهَا
حَتَّى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم الْيَوْم عملا هُوَ أرضى لك
من جهاد هَؤُلاءِ الفاسقين، ولو أعلم أن عملا من الأعمال هُوَ أرضى لك
مِنْهُ لفعلته.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير الأَزْدِيّ، قَالَ: سمعت
عمارا يقول: وَاللَّهِ إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب مِنْهُ
المبطلون، وايم اللَّه لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا
عَلَى الحق، وأنهم عَلَى الباطل.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الأَعْوَرُ، عَنْ حَبَّةَ بْنِ جُوَيْنٍ
الْعُرَنِّيِّ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو مَسْعُودٍ إِلَى
حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِنِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا
بِكُمَا، مَا خَلَفْتُمَا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَحَدًا أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْكُمَا فَأَسْنَدْتُهُ إِلَى أَبِي مَسْعُودٍ، فَقُلْنَا:
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، حَدِّثْنَا فَإِنَّا نَخَافُ الْفِتَنَ،
فَقَالَ: عَلَيْكُمَا بِالْفِئَةِ التي فيها
(5/38)
ابن سميه، [انى سمعت رسول الله ص يَقُولُ:
تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ النَّاكِبَةُ عَنِ الطَّرِيقِ،
وَإِنَّ آخِرَ رِزْقِهِ ضَيَاحٌ مِنْ لَبَنٍ] قَالَ حَبَّةُ:
فَشَهِدْتُهُ يَوْمَ صِفِّينَ وَهُوَ يَقُولُ: ائْتُونِي بِآخِرِ
رِزْقٍ لِي مِنَ الدُّنْيَا، فَأُتِيَ بِضَيَاحٍ مِنْ لَبَنٍ فِي
قَدَحٍ أَرْوَحَ لَهُ حَلَقَةٌ حَمْرَاءُ، فَمَا أَخْطَأَ حُذَيْفَةُ
مِقْيَاسَ شَعْرَةٍ، فَقَالَ:
الْيَوْمُ أَلْقَى الأَحِبَّةَ ... مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ
وَاللَّهِ لَوْ ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أَنَّا عَلَى
الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: الْمَوْتُ
تَحْتَ الأَسَلِ، وَالْجَنَّةُ تَحْتَ الْبَارِقَةِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، عَنْ خَلَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ
أَبِي نُوَيْرَةَ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ وَحُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ
الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ
أَعْيَنَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ
عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ مَنْ
يَبْتَغِي رِضْوَانَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلا يَئُوبُ إِلَى مَالٍ وَلا
وَلَدٍ! فَأَتَتْهُ عِصَابَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، اقْصِدُوا بِنَا نَحْوَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَبْغُونَ دَمَ
ابْنِ عَفَّانَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ
مَا طَلَبْتُهُمْ بِدَمِهِ، وَلَكِنِ الْقَوْمُ ذَاقُوا الدُّنْيَا
فَاسْتَحَبُّوهَا وَاسْتَمْرَءُوهَا وَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ إِذَا
لَزِمَهُمْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَرَّغُونَ فِيهِ مِنْ
دُنْيَاهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سَابِقَةٌ فِي الإِسْلامِ
يَسْتَحِقُّونَ بِهَا طَاعَةَ النَّاسِ وَالْوِلايَةَ عَلَيْهِمْ،
فَخَدَعُوا أَتْبَاعَهُمْ أَنْ قَالُوا: إِمَامُنَا قُتِلَ مَظْلُومًا،
لِيَكُونُوا بِذَلِكَ جَبَابِرَةً مُلُوكًا، وَتِلْكَ مَكِيدَةٌ
بَلَغُوا بِهَا مَا تَرَوْنَ، وَلَوْلا هِيَ ما تبعهم من الناس
رَجُلانِ اللَّهُمَّ إِنْ تَنْصُرْنَا فَطَالَمَا نُصِرْتَ، وَإِنْ
تَجْعَلْ لَهُمُ الأَمْرَ فَادَّخِرْ لَهُمْ بِمَا أَحْدَثُوا فِي
عِبَادِكَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ثُمَّ مَضَى، وَمَضَتْ تِلَكَ
الْعِصَابَةُ الَّتِي أَجَابَتْهُ حَتَّى دَنَا مِنْ عَمْرٍو فَقَالَ:
يَا عَمْرُو، بِعْتَ دِينَكَ بِمِصْرَ، تَبًّا لَكَ تَبًّا! طَالَمَا
بَغَيْتَ فِي الإِسْلامِ عوجا وقال لعبيد الله ابن عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ: صَرَعَكَ اللَّهُ! بِعْتَ دِينَكَ مِنْ عَدِوِّ
الإِسْلامِ وَابْنِ عَدُوِّهِ،
(5/39)
قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَطْلُبُ بِدَمِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ: أَشْهَدُ
عَلَى عِلْمِي فِيكَ أَنَّكَ لا تَطْلُبُ بِشَيْءٍ مِنْ فِعْلِكَ
وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُقْتَلِ الْيَوْمَ
تَمُتْ غَدًا، فَانْظُرْ إِذَا أُعْطِيَ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ
نِيَّاتِهِمْ مَا نِيَّتُكَ.
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ وَهُوَ يَقُولُ لِعَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ قَاتَلْتَ صَاحِبَ هَذِهِ الرَّايَةِ ثَلاثًا
مَعَ رَسُولِ الله ص، وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ مَا هِيَ بِأَبَرَّ وَلا
أَتْقَى.
حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بن
صالح، قَالَ: حَدَّثَنَا عطاء بن مسلم، عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: قَالَ
أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمي: كنا مع علي بصفين، فكنا قَدْ وكلنا بفرسه
رجلين يحفظانه ويمنعانه من أن يحمل، فكان إذا حانت منهما غفلة يحمل فلا
يرجع حَتَّى يخضب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حَتَّى انثنى سيفه،
فألقاه إِلَيْهِم، وَقَالَ: لولا أنه انثنى مَا رجعت- فَقَالَ الأعمش:
هَذَا وَاللَّهِ ضرب غير مرتاب، فَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن:
سمع القوم شَيْئًا فأدوه وما كَانُوا بكذابين- قَالَ: ورأيت عمارا لا
يأخذ واديا من أودية صفين إلا تبعه من كَانَ هُنَاكَ من أَصْحَاب محمد
ص، ورايته جاء الى المرقال هاشم بن عتبة وَهُوَ صاحب راية علي،
فَقَالَ:
يَا هاشم، أعورا وجبنا! لا خير فِي أعور لا يغشى البأس، فإذا رجل بين
الصفين قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ ليخلفن إمامه، وليخذلن جنده، وليصبرن
جهده، اركب يَا هاشم، فركب، ومضى هاشم يقول:
أعور يبغي أهله محلا ... قَدْ عالج الحياة حَتَّى ملا
لا بد أن يفل او يفلا
(5/40)
وعمار يقول: تقدم يَا هاشم، الجنة تحت ظلال
السيوف، والموت فِي أطراف الأسل، وَقَدْ فتحت أبواب السماء، وتزينت
الحور العين.
الْيَوْم ألقى الأحبة ... مُحَمَّدا وحزبه
فلم يرجعا وقتلا- قال: يفيد لك علمهما من كَانَ هُنَاكَ من أَصْحَاب
رَسُولِ اللَّهِ ص، أنهما كانا علما- فلما كَانَ الليل قلت: لأدخلن
إِلَيْهِم حَتَّى أعلم: هل بلغ منهم قتل عمار مَا بلغ منا! وكنا إذا
توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إِلَيْهِم، فركبت فرسي وَقَدْ
هدأت الرجل، ثُمَّ دخلت فإذا أنا بأربعة يتسايرون: مُعَاوِيَة، وأبو
الأعور السلمي، وعمرو بن الْعَاصِ، وعبد اللَّه بن عَمْرو- وَهُوَ خير
الأربعة- فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني مَا يقول أحد الشقين،
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ لأبيه: يَا أبت، قتلتم هَذَا الرجل فِي يومكم
هَذَا، [وَقَدْ قَالَ فيه رسول الله ص مَا قَالَ! قَالَ: وما قَالَ؟
قَالَ: ألم تكن معنا ونحن نبني المسجد، والناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة
لبنة، وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين، فغشي عَلَيْهِ، فأتاه
رَسُول الله ص، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا بن سمية!
الناس ينقلون حجرا حجرا، ولبنة لبنة، وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين
لبنتين رغبة مِنْكَ فِي الأجر! وأنت ويحك مع ذَلِكَ تقتلك الفئة
الباغية!] فدفع عَمْرو صدر فرسه، ثُمَّ جذب مُعَاوِيَة إِلَيْهِ،
فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَة، أما تسمع مَا يقول عَبْد اللَّهِ! قَالَ: وما
يقول؟ فأخبره الخبر، فَقَالَ مُعَاوِيَة: إنك شيخ أخرق، وَلا تزال تحدث
بالحديث وأنت تدحض في بولك! او نحن قتلنا عمارا! إنما قتل عمارا من
جَاءَ بِهِ فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عمارا من
جَاءَ بِهِ، فلا أدري من كَانَ أعجب؟ هُوَ أو هم! قَالَ أَبُو جَعْفَر:
[وَقَدْ ذكر أن عمارا لما قتل قَالَ علي لربيعة وهمدان:
أنتم درعي ورمحي،] فانتدب لَهُ نحو من اثني عشر ألفا، وتقدمهم علي
عَلَى بغلته فحمل وحملوا مَعَهُ حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صف
(5/41)
إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إِلَيْهِ،
حَتَّى بلغوا مُعَاوِيَة، وعلي يقول:
أضربهم وَلا أَرَى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الحاويه
ثُمَّ نادى معاويه، [فقال على: علا م يقتل الناس بيننا! هلم أحاكمك
إِلَى اللَّهِ، فأينا قتل صاحبه استقامت لَهُ الأمور، فَقَالَ لَهُ
عَمْرو: أنصفك الرجل، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا أنصف، وإنك لتعلم أنه لم
يبارزه رجل قط إلا قتله، قَالَ لَهُ عَمْرو: وما يجمل بك إلا مبارزته،
فَقَالَ مُعَاوِيَة: طمعت فِيهَا بعدي] .
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عبد الرَّحْمَن بْن أبي عمرة، عن سُلَيْمَان الحضرمي، قَالَ: قلت
لأبي عمرة: أَلا تراهم، مَا أحسن هيئتهم! يعني أهل الشام، وَلا ترانا
مَا أقبح رعيتنا! فَقَالَ: عَلَيْك نفسك فأصلحها، ودع الناس فإن
فِيهِمْ مَا فِيهِمْ
. خبر هاشم بن عتبة المرقال وذكر ليلة الهرير
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو سلمة، أن هاشم بن عتبة
الزُّهْرِيّ دعا الناس عِنْدَ المساء: أَلا من كَانَ يريد اللَّه
والدار الآخرة فإلي، فأقبل إِلَيْهِ ناس كثير، فشد فِي عصابة من
أَصْحَابه عَلَى أهل الشام مرارا، فليس من وجه يحمل عَلَيْهِ إلا صبر
لَهُ وقاتل فِيهِ قتالا شديدا، فَقَالَ لأَصْحَابه:
(5/42)
لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فو الله ما
ترون فيهم الا حميه العرب وصبرا تحت راياتها، وعند مراكزها، وإنهم لعلى
الضلال، وإنكم لعلى الحق يَا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا
إِلَى عدونا عَلَى تؤدة رويدا، ثُمَّ اثبتوا وتناصروا، واذكروا اللَّه،
وَلا يسأل رجل أخاه، وَلا تكثروا الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجاهدوهم
محتسبين، حَتَّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم وَهُوَ خير الحاكمين.
ثُمَّ إنه مضى فِي عصابة مَعَهُ من القراء، فقاتل قتالا شديدا هُوَ
وأَصْحَابه عِنْدَ المساء حَتَّى رأوا بعض مَا يسرون بِهِ، قَالَ:
فإنهم لكذلك إذ خرج عَلَيْهِم فتى شاب وَهُوَ يقول:
أنا ابن أرباب الملوك غسان ... والدائن الْيَوْم بدين عُثْمَان
إني أتاني خبر فأشجان ... أن عَلِيًّا قتل ابن عفان
ثُمَّ يشد فلا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم يشم ويلعن ويكثر الكلام،
فَقَالَ لَهُ هاشم بن عتبة: يَا عَبْد اللَّهِ، إن هَذَا الكلام، بعده
الخصام، وان هذا القتال، بعده الحساب، فاتق اللَّه فإنك راجع إِلَى
اللَّهِ فسائلك عن هَذَا الموقف وما أردت بِهِ قَالَ: فإني أقاتلكم لأن
صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي، وَأَنْتُمْ لا تصلون أَيْضًا، وأقاتلكم لأن
صاحبكم قتل خليفتنا، وَأَنْتُمْ أردتموه عَلَى قتله فَقَالَ لَهُ هاشم:
وما أنت وابن عفان! إنما قتله أَصْحَاب مُحَمَّد وأبناء أَصْحَابه
وقراء الناس، حين أحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، وهم أهل الدين،
وأولى بالنظر فِي أمور الناس مِنْكَ ومن أَصْحَابك، وما أظن أمر هَذِهِ
الأمة وأمر هَذَا الدين أهمل طرفة عين فَقَالَ لَهُ: أجل، وَاللَّهِ لا
أكذب، فإن الكذب يضر وَلا ينفع قَالَ: فإن أهل هَذَا الأمر أعلم بِهِ،
فخله وأهل العلم بِهِ قَالَ: مَا أظنك وَاللَّهِ إلا نصحت لي، قَالَ:
وأما
(5/43)
قولك: إن صاحبنا لا يصلي، فهو أول من صلى،
مع رسول الله وأفقه خلق اللَّه فِي دين اللَّه، وأولى بالرسول. وأما كل
من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب اللَّه لا ينام الليل تهجدا، فلا يغوينك
عن دينك هَؤُلاءِ الأشقياء المغرورون.
فَقَالَ الفتى: يَا عَبْد اللَّهِ، إني أظنك امرأ صالحا، فتخبرني: هل
تجد لي من توبة؟ فَقَالَ: نعم يَا عَبْد اللَّهِ، تب إِلَى اللَّهِ يتب
عَلَيْك، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب المتطهرين
قَالَ: فجشر وَاللَّهِ الفتى الناس راجعا، فَقَالَ لَهُ رجل من أهل
الشام: خدعك العراقي، خدعك العراقي، قَالَ: لا، ولكن نصح لي وقاتل هاشم
قتالا شديدا هُوَ وأَصْحَابه، وَكَانَ هاشم يدعى المرقال، لأنه كَانَ
يرقل فِي الحرب، فقاتل هُوَ وأَصْحَابه حَتَّى أبروا عَلَى من يليهم،
وحتى رأوا الظفر، وأقبلت إِلَيْهِم عِنْدَ المغرب كتيبة لتنوخ فشدوا
عَلَى الناس، فقاتلهم وَهُوَ يقول:
أعور يبغي أهله محلا ... قَدْ عالج الحياة حَتَّى ملا
يتلهم بذي الكعوب تلا.
فزعموا أنه قتل يَوْمَئِذٍ تسعة او عشره وحمل عَلَيْهِ الْحَارِث بن
المنذر التنوخي فطعنه فسقط، وأرسل إِلَيْهِ علي: أن قدم لواءك، فَقَالَ
لِرَسُولِهِ:
انظر إِلَى بطني، فإذا هُوَ قَدْ شق، فَقَالَ الأَنْصَارِيّ الحجاج بن
غزية:
فإن تفخروا بابن البديل وهاشم ... فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا
ونحن تركنا بعد معترك اللقا ... أخاكم عُبَيْد اللَّهِ لحما ملحبا
(5/44)
ونحن أحطنا بالبعير وأهله ... ونحن سقيناكم
سماما مقشبا
هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مالك بن اعين الجهنى،
عن زيد ابن وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ
مِنْ أَهْلِ الشام فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَهُمْ
يَشْتُمُونَهُ، فَخُبِّرَ بِذَلِكَ، فَوَقَفَ فِيمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ
أَصْحَابِهِ فَقَالَ: انْهَدُوا إِلَيْهِمْ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ
والوقار، وقار الاسلام، وسيما الصالحين، فو الله لأَقْرَبُ قَوْمٌ مِنَ
الْجَهْلِ قَائِدُهُمْ وَمُؤَذِّنُهُمْ مُعَاوِيَةُ وَابْنُ
النَّابِغَةِ، وَأَبُو الأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي مُعَيْطٍ
شَارِبُ الْخَمْرِ الْمَجْلُودُ حَدًّا فِي الإِسْلامِ، وهم اولى من
يقومون فينقصوننى ويجدبوننى، وَقَبْلَ الْيَوْمِ مَا قَاتَلُونِي،
وَأَنَا إِذْ ذَاكَ أَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَهُمْ يَدْعُونَنِي
إِلَى عِبَادَةِ الأصنام، الحمد لله، قديما عاداني الفاسقون قعيدهم
الله الم يقبحوا! أَنَّ هَذَا لَهُوَ الْخَطْبُ الْجَلِيلُ، إِنَّ
فُسَّاقًا كَانُوا غَيْرَ مَرْضِيِّينَ، وَعَلَى الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ
مُتَخَوِّفِينَ، خَدَعُوا شَطْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَشْرَبُوا
قُلُوبَهُمْ حُبَّ الْفِتْنَةِ، وَاسْتَمَالُوا أَهْوَاءَهُمْ
بِالإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، قَدْ نَصَبُوا لَنَا الْحَرْبَ فِي
إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اللَّهُمَّ فَافْضُضْ
خِدْمَتَهُمْ، وَشَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ، وَأَبْسِلْهُمْ بِخَطَايَاهُمْ
فَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي نُمَيْرُ بْنُ وَعْلَةَ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِأَهْلِ رَايَةٍ فَرَآهُمْ لا
يَزَولُونَ عَنْ مَوْقِفِهِمْ، فَحَرَّضَ عَلَيْهِمُ النَّاسَ،
وَذَكَرَ أَنَّهُمْ غَسَّانُ، [فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ لَنْ يَزَولُوا
عَنْ مَوْقِفِهِمْ دُونَ طَعْنِ دِرَاكٍ يُخْرِجُ مِنْهُمُ النَّسَمَ،
وَضَرْبٌ يُفْلَقُ مِنْهُ الْهَامُ، وَيُطِيحُ بِالْعِظَامِ،
وَتَسْقُطُ مِنْهُ المعاصم والأكف، وحتى تصدع جِبَاهُهُمْ بِعُمُدِ
الْحَدِيدِ، وَتَنْتَشِرُ حَوَاجِبُهُمْ عَلَى الصُّدُورِ
وَالأَذْقَانِ أَيْنَ أَهْلُ الصَّبْرِ، وَطُلابُ الأَجْرِ! فَثَابَ
إِلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ
(5/45)
الْمُسْلِمِينَ، فَدَعَا ابْنَهُ
مُحَمَّدًا، فَقَالَ: امْشِ نَحْوَ أَهْلِ هَذِهِ الرَّايَةِ مَشْيًا
رُوَيْدًا عَلَى هَيْنَتِكَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَعْتَ فِي صُدُورِهِمُ
الرِّمَاحَ، فَأَمْسِكْ حَتَّى يَأْتِيَكَ رَأْيِي] .
فَفَعَلَ، وَأَعَدَّ عَلِيٌّ مِثْلَهُمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ
فَأَشْرَعَ بِالرِّمَاحِ فِي صُدُورِهِمْ أَمَرَ عَلِيٌ الَّذِينَ
أَعَدَّ فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ، وَأَنْهَضَ مُحَمَّدًا بِمَنْ مَعَهُ
فِي وُجُوهِهِمْ، فَزَالُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ
رِجَالا، ثُمَّ اقْتَتَلَ النَّاسُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قِتَالا
شَدِيدًا، فَمَا صَلَّى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا إِيمَاءً.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر الكندي، أن عَبْد اللَّهِ بن
كعب المرادي قتل يوم صفين، فمر بِهِ الأسود بن قيس المرادي، فَقَالَ:
يَا أسود، قال:
لبيك! وعرفه وهو باخر رمق، فقال: عز والله على مصرعك، أما وَاللَّهِ لو
شهدتك لآسيتك، ولدافعت عنك، ولو عرفت الَّذِي أشعرك لأحببت أَلا يتزايل
حَتَّى أقتله أو ألحق بك ثُمَّ نزل إِلَيْهِ فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إن
كَانَ جارك ليأمن بوائقك، وإن كنت لمن الذاكرين اللَّه كثيرا، أوصني
رحمك اللَّه! فَقَالَ: أوصيك بتقوى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وأن تناصح
أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وتقاتل معه المحلين حتى يظهر أو تلحق بِاللَّهِ
قَالَ: وأبلغه عني السلام، وقل لَهُ: قاتل عن المعركة حَتَّى تجعلها
خلف ظهرك، فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره كَانَ العالي، ثُمَّ لم
يلبث أن مات، [فأقبل الأسود إِلَى علي فأخبره، فَقَالَ رحمه اللَّه!
جاهد فينا عدونا فِي الحياة، ونصح لنا فِي الوفاة] .
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاق مولى بني
المطلب، ان عبد الرحمن ابن حنبل الْجُمَحِيّ، هُوَ الَّذِي أشار عَلَى
علي بهذا الرأي يوم صفين.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: جعل ابن حنبل يقول يَوْمَئِذٍ:
إن تقتلوني فأنا ابن حنبل أنا الَّذِي قَدْ قلت فيكم نعثل
(5/46)
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف: قَالَ
أَبُو مخنف فاقتتل الناس تِلَكَ الليلة كلها حَتَّى الصباح، وَهِيَ
ليلة الهرير، حَتَّى تقصفت الرماح ونفد النبل، وصار الناس إِلَى
السيوف، وأخذ علي يسير فِيمَا بين الميمنة والميسرة، ويأمر كل كتيبة من
القراء أن تقدم عَلَى الَّتِي تليها، فلم يزل يفعل ذَلِكَ بِالنَّاسِ
ويقوم بهم حَتَّى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر فِي ميمنة
الناس، وابن عباس فِي الميسرة، وعلي فِي القلب، والناس يقتتلون من كل
جانب، وَذَلِكَ يوم الجمعة، وأخذ الأَشْتَر يزحف بالميمنة ويقاتل
فِيهَا، وَكَانَ قَدْ تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إِلَى ارتفاع
الضحى، وأخذ يقول لأَصْحَابه: ازحفوا قيد هَذَا الرمح، وَهُوَ يزحف بهم
نحو أهل الشام، فإذا فعلوا قَالَ: ازحفوا قاد هَذَا القوس، فإذا فعلوا
سألهم مثل ذَلِكَ، حَتَّى مل أكثر الناس الإقدام، فلما رَأَى ذَلِكَ
الأَشْتَر قَالَ: أعيذكم بِاللَّهِ أن ترضعوا الغنم سائر الْيَوْم،
ثُمَّ دعا بفرسه، وترك رايته مع حيان بن هوذة النخعي، وخرج يسير فِي
الكتائب ويقول: من يشتري نفسه من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ويقاتل مع
الأَشْتَر، حَتَّى يظهر أو يلحق بِاللَّهِ! فلا يزال رجل مِنَ النَّاسِ
قَدْ خرج إِلَيْهِ، وحيان بن هوذة.
قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عمارة بن ربيعة الجرمي،
قَالَ: مر بي وَاللَّهِ الأَشْتَر فأقبلت مَعَهُ، واجتمع إِلَيْهِ ناس
كثير، فأقبل حَتَّى رجع إِلَى المكان الَّذِي كَانَ بِهِ الميمنة، فقام
بأَصْحَابه، فَقَالَ: شدوا شدة، - فدى لكم عمي وخالي- ترضون بِهَا
الرب، وتعزون بِهَا الدين، إذا شددت فشدوا، ثُمَّ نزل فضرب وجه دابته،
ثُمَّ قَالَ لصاحب رايته: قدم بِهَا، ثُمَّ شد عَلَى القوم، وشد مَعَهُ
أَصْحَابه، فضرب أهل الشام حَتَّى انتهى بهم إِلَى عسكرهم، ثُمَّ
إِنَّهُمْ قاتلوه عِنْدَ العسكر قتالا شديدا، فقتل صاحب رايته، وأخذ
علي- لما رَأَى من الظفر من قبله- يمده بالرجال.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ:
حَدَّثَنِي سُلَيْمَان
(5/47)
قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ
جُوَيْرِيَةَ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَوْمَ صِفِّينَ
لِوَرْدَانَ: تَدْرِي مَا مَثَلِي وَمَثَلُكَ! مَثَلُ الأَشْقَرِ إِنْ
تَقَدَّمَ عُقِرَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ نُحِرَ، لَئِنْ تَأَخَّرْتَ
لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، ائْتُونِي بِقَيْدٍ، فَوَضَعَهُ فِي رِجْلَيْهِ
فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لأُورِدَنَّكَ
حِيَاضَ الْمَوْتِ، ضَعْ يَدَكَ عَلَى عَاتِقِي، ثُمَّ جَعَلَ
يَتَقَدَّمُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحْيَانًا، وَيَقُولُ:
لأُورِدَنَّكَ: حِيَاضَ الْمَوْتِ.
رجع الحديث إِلَى حديث ابى مخنف فلما رَأَى عَمْرو بن الْعَاصِ أن أمر
أهل العراق قَدِ اشتد، وخاف فِي ذَلِكَ الهلاك، قَالَ لمعاوية: هل لك
فِي أمر اعرضه عليك لا يزيدنا اجتماعا، وَلا يزيدهم إلا فرقة؟ قَالَ:
نعم، قَالَ: نرفع المصاحف ثُمَّ نقول: مَا فِيهَا حكم بيننا وبينكم،
فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فِيهِمْ من يقول: بلى، ينبغي أن نقبل،
فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قَالُوا: بلى، نقبل مَا فِيهَا، رفعنا هَذَا
القتال عنا وهذه الحرب إِلَى أجل أو إِلَى حين فرفعوا المصاحف بالرماح
وَقَالُوا: هَذَا كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بيننا وبينكم، من لثغور
أهل الشام بعد أهل الشام! ومن لثغور العراق بعد أهل العراق! فلما رَأَى
الناس المصاحف قَدْ رفعت، قَالُوا: نجيب إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ وننيب إِلَيْهِ
. مَا روي من رفعهم المصاحف ودعائهم إِلَى الحكومة
قَالَ أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأَزْدِيّ، [عَنْ أَبِيهِ
أن عَلِيًّا قَالَ: عباد اللَّه، امضوا عَلَى حقكم وصدقكم قتال عدوكم،
فإن مُعَاوِيَة وعمرو بن الْعَاصِ وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن
أبي سرح
(5/48)
والضحاك بن قيس، ليسوا بأَصْحَاب دين وَلا
قرآن، أنا أعرف بهم مِنْكُمْ، قَدْ صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا،
فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم! إِنَّهُمْ مَا رفعوها، ثُمَّ لا
يرفعونها وَلا يعلمون بِمَا فِيهَا، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنا
ومكيدة، فَقَالُوا لَهُ: مَا يسعنا أن ندعى إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ فنأبى أن نقبله، فَقَالَ لَهُمْ: فإني إنما قاتلتهم ليدينوا
بحكم هَذَا الكتاب، فإنهم قَدْ عصوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أمرهم
ونسوا عهده، ونبذوا كتابه فَقَالَ لَهُ مسعر بن فدكي التميمي وزَيْد بن
حصين الطَّائِيّ ثُمَّ السنبسي، فِي عصابة مَعَهُمَا من القراء
الَّذِينَ صاروا خوارج بعد ذَلِكَ: يَا علي، أجب إِلَى كتاب اللَّه
عَزَّ وَجَلَّ إذ دعيت إِلَيْهِ، وإلا ندفعك برمتك إِلَى القوم، أو
نفعل كما فعلنا بابن عفان، إنه علينا أن نعمل بِمَا فِي كتاب اللَّه
عَزَّ وَجَلَّ فقبلناه، وَاللَّهِ لتفعلنها أو لنفعلنها بك قَالَ:
فاحفظوا عني نهيي إياكم، واحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني
تقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا مَا بدا لكم! قَالُوا لَهُ: إما لا فابعث
إِلَى الأَشْتَر فليأتك] .
قَالَ أَبُو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن رجل من النخع، أنه
رَأَى إِبْرَاهِيم بن الأَشْتَر دخل عَلَى مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ،
قَالَ:
كنت عِنْدَ علي حين أكرهه الناس عَلَى الحكومة، وَقَالُوا: ابعث إِلَى
الأَشْتَر فليأتك، قَالَ: فأرسل على الى الاشتر يزيد بن هاني السبيعي:
أن ائتني، فأتاه فبلغه، فَقَالَ: قل لَهُ ليس هَذِهِ الساعة الَّتِي
ينبغي لك أن تزيلني فِيهَا عن موقفي، إني قَدْ رجوت أن يفتح لي، فلا
تعجلني فرجع يزيد بن هاني إِلَى علي فأخبره، فما هُوَ إلا أن انتهى
إلينا، فارتفع الرهج، وعلت الأصوات من قبل الأَشْتَر، فَقَالَ لَهُ
القوم: وَاللَّهِ مَا نراك إلا أمرته أن يقاتل، قَالَ:
من أين ينبغي أن تروا ذَلِكَ! رأيتموني ساررته؟ اليس انما كلمته على
رؤسكم
(5/49)
علانية، وأنتم تسمعوننى! قَالُوا: فابعث
إِلَيْهِ فليأتك، وإلا وَاللَّهِ اعتزلناك.
قَالَ لَهُ: ويحك يَا يَزِيد! قل لَهُ: أقبل إلي فإن الْفِتْنَة قَدْ
وقعت، فأبلغه ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: ألرفع المصاحف؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
أما وَاللَّهِ لقد ظننت حين رفعت أنها ستوقع اختلافا وفرقة، إنها مشورة
ابن العاهرة، أَلا ترى مَا صنع اللَّه لنا! أينبغي أن أدع هَؤُلاءِ
وأنصرف عَنْهُمْ! وَقَالَ يَزِيد بن هانئ:
فقلت لَهُ: أتحب أنك ظفرت هاهنا، وأن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بمكانه
الَّذِي هُوَ بِهِ يفرج عنه أو يسلم؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، سبحان
اللَّه! قَالَ: فإنهم قَدْ قَالُوا:
لترسلن إِلَى الأَشْتَر فليأتينك أو لنقتلنك كما قتلنا ابن عفان فأقبل
حَتَّى انتهى إِلَيْهِم فَقَالَ: يَا أهل العراق، يَا أهل الذل والوهن،
احين علوتم القوم ظهرا، وظنوا أنكم لَهُمْ قاهرون، رفعوا المصاحف
يدعونكم إِلَى مَا فِيهَا! وَقَدْ وَاللَّهِ تركوا مَا أمر اللَّه
عَزَّ وَجَلَّ به فيها، وسنه من انزلت عليه ص، فلا تجيبوهم، أمهلوني
عدو الفرس، فإني قَدْ طمعت فِي النصر، قَالُوا: إذا ندخل معك فِي
خطيئتك، قَالَ: فحدثوني عنكم، وَقَدْ قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى
كنتم محقين! أحين كنتم تقاتلون وخياركم يقتلون! فأنتم الان إذ أمسكتم
عن القتال مبطلون، أم الآن أنتم محقون، فقتلاكم الَّذِينَ لا تنكرون
فضلهم فكانوا خيرا مِنْكُمْ فِي النار إذا! قَالُوا: دعنا مِنْكَ يَا
أشتر، قاتلناهم فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وندع قتالهم لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ، إنا لسنا مطيعيك وَلا صاحبك، فاجتنبنا، فَقَالَ: خدعتم
وَاللَّهِ فانخدعتم، ودعيتم إِلَى وضع الحرب فأجبتم يَا أَصْحَاب
الجباه السود، كنا نظن صلواتكم زهادة فِي الدُّنْيَا وشوقا إِلَى لقاء
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فلا أَرَى فراركم إلا إِلَى الدُّنْيَا من
الموت، أَلا قبحا يَا أشباه النيب الجلالة! وما أنتم برائين بعدها عزا
أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون! فسبوه، فسبهم، فضربوا وجه دابته
بسياطهم، وأقبل يضرب بسوطه وجوه دوابهم، [وصاح بهم علي
(5/50)
فكفوا، وَقَالَ لِلنَّاسِ: قَدْ قبلنا أن
نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما،] فَجَاءَ الأشعث بن قيس إِلَى علي
فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَى الناس إلا قَدْ رضوا، وسرهم أن يجيبوا القوم
إِلَى مَا دعوهم إِلَيْهِ من حكم القرآن، فإن شئت أتيت مُعَاوِيَة
فسألته مَا يريد، فنظرت مَا يسأل، قَالَ: ائته إن شئت فسله، فأتاه
فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَة، لأي شَيْء رفعتم هَذِهِ المصاحف؟ قَالَ:
لنرجع نحن وَأَنْتُمْ إِلَى مَا أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فِي
كتابه، تبعثون مِنْكُمْ رجلا ترضون بِهِ، ونبعث منا رجلا، ثُمَّ نأخذ
عليهما أن يعملا بِمَا فِي كتاب اللَّه لا يعدوانه، ثُمَّ نتبع مَا
اتفقا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الأشعث بن قيس: هَذَا الحق، فانصرف إِلَى
علي فأخبره بِالَّذِي قَالَ مُعَاوِيَة، فَقَالَ الناس: فإنا قَدْ
رضينا وقبلنا، فَقَالَ أهل الشام: فإنا قَدِ اخترنا عَمْرو بن
الْعَاصِ، فقال الاشعث وأولئك الَّذِينَ صاروا خوارج بعد: فإنا قَدْ
رضينا بأبي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، [قَالَ علي: فإنكم قَدْ عصيتموني فِي
أول الأمر، فلا تعصوني الآن، إني لا أَرَى أن أولي أبا مُوسَى] .
فَقَالَ الأشعث وزَيْد بن حصين الطَّائِيّ ومسعر بن فدكي: لا نرضى إلا
بِهِ، فإنه مَا كَانَ يحذرنا مِنْهُ وقعنا فِيهِ، [قَالَ علي: فإنه ليس
لي بثقة، قَدْ فارقني، وخذل الناس عني ثُمَّ هرب مني حَتَّى آمنته بعد
أشهر، ولكن هَذَا ابن عَبَّاس نوليه ذَلِكَ، قَالُوا: مَا نبالي أنت
كنت أم ابن عَبَّاس! لا نريد إلا رجلا هُوَ مِنْكَ ومن مُعَاوِيَة
سواء، ليس إِلَى واحد منكما بأدنى مِنْهُ إِلَى الآخر، فَقَالَ علي:
فإني أجعل الأَشْتَر] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي،
أن الأشعث قَالَ: وهل سعر الأرض غير الأَشْتَر؟! قَالَ أَبُو مخنف، عن
عبد الرَّحْمَن بن جندب، عَنْ أَبِيهِ: إن الأشعث قَالَ: وهل نحن إلا
فِي حكم الأَشْتَر! قَالَ علي: وما حكمه؟ قَالَ:
حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حَتَّى يكون مَا أردت وما أراد،
قَالَ:
فقد أبيتم إلا أبا مُوسَى! قَالُوا: نعم، قَالَ: فاصنعوا مَا أردتم،
فبعثوا إِلَيْهِ
(5/51)
وَقَدِ اعتزل القتال، وَهُوَ بعرض، فأتاه
مولى لَهُ، فَقَالَ: إن الناس قَدِ اصطلحوا، فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ رب
العالمين! قَالَ: قَدْ جعلوك حكما؟ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ راجِعُونَ! وجاء أَبُو مُوسَى حَتَّى دخل العسكر، وجاء
الأَشْتَر حَتَّى أتى عَلِيًّا فَقَالَ: ألزني بعمرو بن العاص، فو الله
الَّذِي لا إله إلا هُوَ، لَئِنْ ملأت عيني مِنْهُ لأقتلنه، وجاء
الأحنف فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنك قَدْ رميت بحجر
الأرض، وبمن حارب اللَّه ورسوله أنف الإِسْلام، وإني قَدْ عجمت هَذَا
الرجل وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة، قريب القعر، وإنه لا يصلح
لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو مِنْهُمْ حَتَّى يصير فِي أكفهم، ويبعد
حَتَّى يصير بمنزلة النجم مِنْهُمْ، فإن أبيت أن تجعلني حكما، فاجعلني
ثانيا أو ثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولن يحل عقدة أعقدها
إلا عقدت لك أخرى أحكم منها [فأبى الناس إلا أبا مُوسَى والرضا
بالكتاب، فَقَالَ الأحنف: فإن أبيتم إلا أبا مُوسَى فأدفئوا ظهره
بالرجال فكتبوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما تقاضى
عَلَيْهِ علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عَمْرو:
اكتب اسمه واسم أَبِيهِ، هُوَ أميركم فأما أميرنا فلا، وَقَالَ لَهُ
الأحنف:
لا تمح اسم إمارة الْمُؤْمِنِينَ، فإني أتخوف إن محوتها أَلا ترجع إليك
أبدا، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا، فأبى ذَلِكَ علي مليا من
النهار، ثُمَّ إن الأشعث بن قيس قَالَ: امح هَذَا الاسم برحه اللَّه!
فمحي وَقَالَ:
علي: اللَّه أكبر، سنة بسنة، ومثل بمثل، وَاللَّهِ إني لكاتب بين يدي
رَسُول الله ص يوم الحديبية إذ قَالُوا: لست رَسُول اللَّهِ، وَلا نشهد
لك بِهِ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فكتبه، فَقَالَ عَمْرو بن
الْعَاصِ:
سبحان اللَّه! ومثل هَذَا أن نشبه بالكفار ونحن مؤمنون! فقال على: يا
بن النَّابِغَةِ، ومتى لم تكن للفاسقين وليا، وللمسلمين عدوا! وهل تشبه
إلا أمك الَّتِي وضعت بك! فقام فَقَالَ: لا يجمع بيني وبينك مجلس أبدا
بعد هَذَا الْيَوْم، فَقَالَ لَهُ علي: وإني لأرجو أن يطهر اللَّه
عَزَّ وَجَلَّ مجلسي مِنْكَ ومن أشباهك وكتب الكتاب]
(5/52)
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ
الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الأَحْنَفُ، أَنَّ
مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ أَنِ امْحُ هَذَا الاسْمَ إِنْ
أَرَدْتَ أَنْ يكون صلح، فَاسْتَشَارَ- وَكَانَتْ لَهُ قُبَّةٌ
يَأْذَنُ لِبَنِي هَاشِمٍ فِيهَا، وَيَأْذَنُ لِي مَعَهُمْ- قَالَ: مَا
تَرَوْنَ فِيمَا كَتَبَ بِهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ امْحُ هَذَا الاسم؟ -
قال مبارك: يعنى امير المؤمنين-[قال: برحه الله! فان رسول الله ص حِينَ
وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ كَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَأَبَوْا
ذَلِكَ حَتَّى كَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ له: ايها الرجل مالك وما لرسول الله ص!
إِنَّا وَاللَّهِ مَا حَابَيْنَاكَ بِبَيْعَتِنَا، وَإِنَّا لَوْ
عَلِمْنَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْكَ
لَبَايَعْنَاهُ، ثُمَّ قَاتَلْنَاكَ، وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ
لَئِنْ مَحَوْتَ هَذَا الاسْمَ الَّذِي بَايَعْتَ عَلَيْهِ
وَقَاتَلْتَهُمْ لا يَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا.
قَالَ: وَكَانَ وَاللَّهِ كما قَالَ قَالَ: قلما وزن رأيه برأي رجل إلا
رجح عَلَيْهِ] .
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف وكتب الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا تقاضى عَلَيْهِ عَلِيّ بن أَبِي
طَالِبٍ ومعاوية بن أَبِي سُفْيَانَ، قاضى علي عَلَى أهل الْكُوفَة ومن
معهم من شيعتهم من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، وقاضى مُعَاوِيَة عَلَى
أهل الشام ومن كَانَ معهم من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، إنا ننزل
عِنْدَ حكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وكتابه، وَلا يجمع بيننا غيره، وإن
كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بيننا من فاتحته إِلَى خاتمته، نحيي مَا
أحيا، ونميت مَا أمات، فما وجد الحكمان فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ-
وهما أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيّ عَبْد اللَّهِ بن قيس وعمرو بن
الْعَاصِ القرشي- عملا بِهِ، وما لم يجدا فِي كتاب اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة وأخذ الحكمان من علي
ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة مِنَ النَّاسِ، أنهما
آمنان عَلَى أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار عَلَى الَّذِي
يتقاضيان عَلَيْهِ، وعلى الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين من الطائفتين
كلتيهما عهد اللَّه وميثاقه أنا عَلَى
(5/53)
مَا فِي هَذِهِ الصحيفة، وأن قَدْ وجبت
قضيتهما على المؤمنين، فان الا من والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما
ساروا عَلَى أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وشاهدهم وغائبهم، وعلى عَبْد
اللَّهِ بن قيس وعمرو بن الْعَاصِ عهد اللَّه وميثاقه أن يحكما بين
هَذِهِ الأمة، وَلا يرداها فِي حرب وَلا فرقة حَتَّى يعصيا، وأجل
القضاء إِلَى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذَلِكَ أخراه عَلَى تراض منهما،
وإن توفي أحد الحكمين فإن أَمِير الشيعة يختار مكانه، وَلا يألو من أهل
المعدلة والقسط، وإن مكان قضيتهما الَّذِي يقضيان فِيهِ مكان عدل بين
أهل الْكُوفَة وأهل الشام، وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فِيهِ إلا من
أرادا، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود، ثُمَّ يكتبان شهادتهما عَلَى
مَا فِي هَذِهِ الصحيفة،.
وهم أنصار عَلَى من ترك مَا فِي هَذِهِ الصحيفة، وأراد فِيهِ إلحادا
وظلما اللَّهُمَّ إنا نستنصرك عَلَى من ترك مَا فِي هَذِهِ الصحيفة.
شهد من أَصْحَاب علي الأشعث بن قيس الكندي، وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ،
وسعيد بن قيس الهمدانى، وورقاء بن سمي البجلي، وعبد اللَّه بن محل
العجلي، وحجر بن عدي الكندي، وعبد اللَّه بن الطفيل العامري، وعقبه ابن
زياد الحضرمي، ويزيد بن حجية التيمي، ومالك بن كعب الهمداني ومن
أَصْحَاب مُعَاوِيَة أَبُو الأعور السلمى عمرو بن سفيان، وحبيب مسلمة
الفهري، والمخارق بن الْحَارِث الزبيدي، وزمل بن عَمْرو العذري، وحمزة
بن مالك الهمداني، وعبد الرَّحْمَن بن خَالِد المخزومي، وسبيع بن
يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ، وعلقمة بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ، وعتبة بن
أَبِي سُفْيَانَ، ويزيد بن الحر العبسي.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، عن عمارة بن رَبِيعَة
الجرمي، قَالَ: لما كتبت الصحيفة دعي لها الأَشْتَر فَقَالَ: لا صحبتني
يميني، وَلا نفعتني بعدها شمالي، إن خط لي فِي هَذِهِ الصحيفة اسم
عَلَى صلح
(5/54)
ولا موادعه او لست عَلَى بينة من ربي، ومن
ضلال عدوي! او لستم قَدْ رأيتم الظفر لو لم تجمعوا عَلَى الجور!
فَقَالَ لَهُ الأشعث بن قيس:
إنك وَاللَّهِ مَا رأيت ظفرا وَلا جورا، هلم إلينا فإنه لا رغبة بك
عنا، فَقَالَ:
بلى وَاللَّهِ لرغبة بي عنك فِي الدُّنْيَا للدنيا والآخرة للآخرة،
وَلَقَدْ سفك اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بسيفي هَذَا دماء رجال مَا أنت عندي
خير مِنْهُمْ، وَلا أحرم دما، قَالَ عمارة: فنظرت إِلَى ذَلِكَ الرجل
وكأنما قصع عَلَى أنفه الحمم- يعني الأشعث.
قَالَ أَبُو مخنف، عن أبي جناب، قَالَ: خرج الأشعث بِذَلِكَ الكتاب
يقرؤه عَلَى الناس، ويعرضه عَلَيْهِم، فيقرءونه، حَتَّى مر بِهِ عَلَى
طائفة من بني تميم فِيهِمْ عروة بن أدية، وَهُوَ أخو أبي بلال، فقرأه
عَلَيْهِم، فَقَالَ عروة ابن أدية: تحكمون فِي أمر اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ الرجال! لا حكم إلا لِلَّهِ، ثُمَّ شد بسيفه فضرب بِهِ عجز
دابته ضربة خفيفة، واندفعت الدابة، وصاح بِهِ أَصْحَابه، أن أملك يدك،
فرجع، فغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن، فمشى الأحنف بن قيس
السعدي ومعقل بن قيس الرياحي، ومسعر بن فدكي، وناس كثير من بني تميم،
فتنصلوا إِلَيْهِ واعتذروا، فقبل وصفح.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو زَيْد عَبْد اللَّهِ الأودي، أن
رجلا من أود كَانَ يقال لَهُ عَمْرو بن أوس، قاتل مع علي يوم صفين،
فاسره معاويه في أسارى كثيرين، فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ:
اقتلهم، فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن أوس: إنك خالي، فلا تقتلني، وقامت
إِلَيْهِ بنو أود فَقَالُوا: هب لنا أخانا، فَقَالَ: دعوه، لعمري
لَئِنْ كَانَ صادقا فلنستغنين عن شفاعتكم، ولئن كَانَ كاذبا لتأتين
(5/55)
شفاعتكم من ورائه، فَقَالَ لَهُ: من أين
انا خالك! فو الله مَا كَانَ بيننا وبين أود مصاهرة، قَالَ: فإن أخبرتك
فعرفته فهو أماني عندك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ألست تعلم أن أم حبيبة ابنه
ابى سفيان زوج النبي ص؟
قال: بلى، قال: فانى ابنها، وأنت أخوها، فأنت خالي، فَقَالَ
مُعَاوِيَة:
لِلَّهِ أبوك! مَا كَانَ فِي هَؤُلاءِ واحد يفطن لها غيره ثُمَّ قَالَ
للأوديين:
أيستغني عن شفاعتكم! خلوا سبيله.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي نمير بن وعلة الهمداني، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، أن أسارى كَانَ أسرهم علي يوم صفين كثير، فخلى سبيلهم،
فأتوا مُعَاوِيَة، وإن عمرا ليقول- وَقَدْ أسر أَيْضًا أسارى كثيرة:
اقتلهم، فما شعروا إلا بأسرائهم قَدْ خلي سبيلهم، فَقَالَ مُعَاوِيَة:
يَا عَمْرو، لو أطعناك فِي هَؤُلاءِ الأسرى وقعنا فِي قبيح من الأمر،
أَلا ترى قَدْ خلي سبيل أسارانا! وأمر بتخلية سبيل من فِي يديه من
الأسارى.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بن يَزِيدَ، عن حميد بن
مسلم، عن جندب بن عَبْدِ اللَّهِ، [أن عَلِيًّا قَالَ لِلنَّاسِ يوم
صفين: لقد فعلتم فعله ضعضعت قوه، واسقطت منه، وأوهنت وأورثت وهنا وذلة،
ولما كنتم الأعلين، وخاف عدوكم الاجتياح، واستحر بهم القتل ووجدوا ألم
الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إِلَى مَا فِيهَا ليفثئوكم عَنْهُمْ،
ويقطعوا الحرب فِيمَا بينكم وبينهم، ويتربصوا بكم ريب المنون خديعة
ومكيدة، فأعطيتموهم مَا سألوا، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجوزوا! وايم
اللَّه مَا أظنكم بعدها توافقون رشدا، وَلا تصيبون باب حزم] .
قَالَ أَبُو جَعْفَر: فكتب كتاب القضية بين علي ومعاوية- فِيمَا قيل-
يوم
(5/56)
الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع
وثلاثين من الهجرة، عَلَى أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة
الجندل فِي شهر رمضان، مع كل واحد منهما أربعمائة من أَصْحَابه وأتباعه
فَحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان
بْنُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ
صَعْصَعَةُ بْنُ صَوْحَانَ يَوْمَ صِفِّينَ حِينَ رَأَى النَّاسَ
يَتَبَارَوْنَ: أَلا اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا، تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ
لَئِنْ ظَهَرَ عَلِيٌّ لَيَكُونَنَّ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِنْ ظَهَرَ مُعَاوِيَةُ لا يَقِرُّ
لِقَائِلٍ بِقَوْلِ حَقٍّ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَصْبَحَ أَهْلُ الشَّامِ قَدْ نَشَرُوا
مَصَاحِفَهُمْ، وَدَعَوْا إِلَى مَا فِيهَا، فَهَابَ أَهْلُ
الْعِرَاقَيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَكَّمُوا الْحَكَمَيْنِ، فَاخْتَارَ
أَهْلُ الْعِرَاقِ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ، وَاخْتَارَ أَهْلُ
الشَّامِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَتَفَرَّقَ أَهْلُ صِفِّينَ حِينَ
حَكَمَ الْحَكَمَانِ، فَاشْتَرَطَا أَنْ يَرْفَعَا مَا رَفَعَ
الْقُرْآنُ، وَيَخْفِضَا مَا خَفَضَ الْقُرْآنَ، وَأَنْ يَخْتَارَا
لأُمَّةِ محمد ص، وَأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ،
فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا لِذَلِكَ اجْتَمَعَا مِنَ الْعَامِ
الْمُقْبِلِ بِأَذْرُحَ.
فلما انصرف علي خالفت الحرورية وخرجت- وَكَانَ ذَلِكَ أول مَا ظهرت-
فآذنوه بالحرب، وردوا عَلَيْهِ: أن حكم بني آدم فِي حكم اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ، وَقَالُوا:
لا حكم إلا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ! وقاتلوا، فلما اجتمع الحكمان بأذرح،
وافاهم الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فيمن حضر مِنَ النَّاسِ، فأرسل الحكمان
إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ وعبد اللَّه بن
الزُّبَيْرِ فِي إقبالهم فِي رجال كثير، ووافى مُعَاوِيَة بأهل الشام،
وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا، فَقَالَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ
لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحدا مِنَ النَّاسِ برأي يبتدعه
يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قَالُوا: لا نرى أحدا يعلم
ذَلِكَ، قال: فو الله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما
وأراجعهما فدخل عَلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وبدأ بِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا
عَبْد اللَّهِ، أَخْبَرَنِي عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة،
فإنا قَدْ شككنا فِي الأمر الَّذِي تبين لكم من هَذَا القتال، ورأينا
(5/57)
أن نستأني ونتثبت حَتَّى تجتمع الأمة!
قَالَ: أراكم معشر المعتزله خلف الأبرار، وأمام الفجار! فانصرف
الْمُغِيرَة ولم يسأله عن غير ذَلِكَ، حَتَّى دخل عَلَى أبي مُوسَى
فَقَالَ لَهُ مثل مَا قَالَ لعمرو، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أراكم أثبت
الناس رأيا، فيكم بقية الْمُسْلِمِينَ، فانصرف الْمُغِيرَة ولم يسأله
عن غير ذَلِكَ، فلقي الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ مَا قَالَ من ذوي الرأي من
قريش، فَقَالَ: لا يجتمع هَذَانِ عَلَى أمر واحد، فلما اجتمع الحكمان
وتكلما قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: يَا أَبَا مُوسَى، رأيت أول مَا تقضي
بِهِ من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم،
قَالَ أَبُو مُوسَى: وما ذاك؟ قَالَ: ألست تعلم أن مُعَاوِيَة وأهل
الشام قَدْ وفوا، وقدموا للموعد الَّذِي واعدناهم إِيَّاهُ؟ قَالَ:
بلى، قَالَ عَمْرو: اكتبها، فكتبها أَبُو مُوسَى، قَالَ عَمْرو: يَا
أَبَا مُوسَى، أأنت عَلَى أن نسمي رجلا يلي أمر هَذِهِ الأمة؟ فسمه لي،
فإن أقدر عَلَى أن أتابعك فلك علي أن أتابعك، وإلا فلي عَلَيْك أن
تتابعني! قَالَ أَبُو مُوسَى: أسمي لك عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ،
وَكَانَ ابن عمر فيمن اعتزل، قَالَ عَمْرو: إني أسمي لك مُعَاوِيَة بن
أَبِي سُفْيَانَ، فلم يبرحا مجلسهما حَتَّى استبا، ثُمَّ خرجا إِلَى
النَّاسِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إني وجدت مثل عَمْرو مثل الَّذِينَ
قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها» ، فلما سكت أَبُو مُوسَى تكلم
عَمْرو فَقَالَ: ايها الناس وجدت مثل أبي مُوسَى كمثل الَّذِي قَالَ
عَزَّ وَجَلَّ: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» ، وكتب كل واحد
منهما مثله الَّذِي ضرب لصاحبه إِلَى الأمصار.
قَالَ ابن شهاب: فقام مُعَاوِيَة عشية فِي الناس، فأثنى عَلَى اللَّه
جل ثناؤه بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فمن كَانَ
متكلما فِي الأمر فليطلع لنا قرنه، قَالَ ابن عمر: فأطلقت حبوتى، فاردت
ان اقول قولا يتكلم فِيهِ رجال قاتلوا أباك عَلَى الإِسْلام، ثُمَّ
خشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة، أو يسفك فِيهَا دم، أو أحمل فِيهَا
عَلَى غير رأي، فكان مَا وعد اللَّه عز وجل
(5/58)
فِي الجنان أحب إلي من ذَلِكَ فلما انصرف
إِلَى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فَقَالَ: مَا منعك أن تتكلم حين سمعت
الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذَلِكَ، ثُمَّ خشيت أن أقول كلمة تفرق بين
جميع، أو يسفك فِيهَا دم، أو أحمل فِيهَا عَلَى غير رأي، فكان مَا وعد
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ من الجنان أحب إلي من ذَلِكَ قَالَ: قَالَ حبيب:
فقد عصمت.
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن
خديج الكندي، [قَالَ: قيل لعلي بعد مَا كتبت الصحيفة: إن الأَشْتَر لا
يقر بِمَا فِي الصحيفة، وَلا يرى إلا قتال القوم، قَالَ علي: وأنا
وَاللَّهِ مَا رضيت وَلا أحببت أن ترضوا، فإذ أبيتم إلا أن ترضوا فقد
رضيت، فإذ رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا، وَلا التبديل بعد الإقرار،
إلا أن يعصى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ويتعدى كتابه، فقاتلوا من ترك أمر
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وأما الَّذِي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عَلَيْهِ فليس من أُولَئِكَ،
ولست أخافه عَلَى ذَلِكَ، يَا ليت فيكم مثله اثنين! يَا ليت فيكم مثله
واحدا يرى فِي عدوي مَا أَرَى، إذا لخفت علي مئونتكم، ورجوت أن يستقيم
لي بعض أودكم، وَقَدْ نهيتكم عما أتيتم فعصيتموني، وكنت أنا وَأَنْتُمْ
كما قَالَ أخو هوازن:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فَقَالَتْ طائفة ممن مَعَهُ: ونحن مَا فعلنا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إلا مَا فعلت، قَالَ: نعم، فلم كَانَتْ إجابتكم إياهم
إِلَى وضع الحرب عنا! وأما القضية فقد استوثقنا لكم فِيهَا، وَقَدْ
طمعت أَلا تضلوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ رب العالمين] .
فكان الكتاب فِي صفر والأجل رمضان إِلَى ثمانية أشهر، إِلَى أن يلتقي
الحكمان ثُمَّ إن الناس دفنوا قتلاهم، وأمر علي الأعور فنادى فِي الناس
بالرحيل
(5/59)
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما انصرفنا من صفين أخذنا غير طريقنا الَّذِي
أقبلنا فِيهِ، أخذنا عَلَى طريق البر عَلَى شاطئ الفرات، حَتَّى
انتهينا إِلَى هيت، ثُمَّ أخذنا عَلَى صندوداء، فخرج الأنصاريون بنو
سعد بن حرام، فاستقبلوا عَلِيًّا، فعرضوا عَلَيْهِ النزول، فبات
فِيهِمْ ثُمَّ غدا، وأقبلنا مَعَهُ، حَتَّى إذا جزنا النخيلة، ورأينا
بيوت الْكُوفَة، إذا نحن بشيخ جالس فِي ظل بيت عَلَى وجهه أثر المرض،
فأقبل إِلَيْهِ علي ونحن مَعَهُ حَتَّى سلم عَلَيْهِ وَسَلَّمنا
مَعَهُ، فرد ردا حسنا ظننا أن قَدْ عرفه، [قَالَ لَهُ علي:
أَرَى وجهك منكفئا فمن مه؟ أمن مرض؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فلعلك كرهته،
قَالَ: مَا أحب أنه بغيري، قَالَ أليس احتسابا للخير فِيمَا أصابك
مِنْهُ؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك من أنت يَا
عَبْد اللَّهِ؟ قَالَ: أنا صالح بن سليم، قَالَ: ممن؟ قَالَ: أما الأصل
فمن سلامان طيئ، وأما الجوار والدعوة ففي بني سليم بن مَنْصُورٍ،
فَقَالَ: سبحان اللَّه! مَا أحسن اسمك واسم أبيك واسم أدعيائك واسم من
اعتزيت إِلَيْهِ! هل شهدت معنا غزاتنا هَذِهِ؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ
مَا شهدتها، وَلَقَدْ أردتها ولكن مَا ترى من أثر لحب الحمى خزلني
عنها، فَقَالَ:
«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ
لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ» .
خبرني مَا تقول الناس فِيمَا كَانَ بيننا وبين أهل الشام؟ قَالَ:
فِيهِمُ المسرور فِيمَا كَانَ بينك وبينهم- وأولئك أغشاء الناس- وفيهم
المكبوت الآسف بِمَا كَانَ من ذَلِكَ- وأولئك نصحاء الناس لك- فذهب
لينصرف فَقَالَ: قَدْ صدقت، جعل اللَّه مَا كَانَ من شكواك حطا
لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فِيهِ، ولكنه لا يدع عَلَى العبد ذنبا] إلا
[حطه، وإنما أجر فِي القول باللسان والعمل باليد] والرجل، [وإن اللَّه
جل ثناؤه ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالما جما من عباده الجنة]
قَالَ: ثُمَّ
(5/60)
مضى علي غير بعيد، فلقيه عَبْد اللَّهِ بن
وديعة الأَنْصَارِيّ، فدنا مِنْهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وسايره،
[فَقَالَ لَهُ: مَا سمعت الناس يقولون فِي أمرنا؟ قَالَ:
مِنْهُمُ المعجب بِهِ، ومنهم الكاره لَهُ، كما قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
«وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» فَقَالَ
لَهُ: فما قول ذوي الرأي فِيهِ؟
قَالَ: أما قولهم فِيهِ فيقولون إن عَلِيًّا كَانَ لَهُ جمع عظيم
ففرقه، وَكَانَ لَهُ حصن حصين فهدمه، فحتى متى يبني مَا هدم، وحتى متى
يجمع مَا فرق! فلو أنه كَانَ مضى بمن أطاعه- إذ عصاه من عصاه- فقاتل
حَتَّى يظفر أو يهلك إذا كَانَ ذَلِكَ الحزم فَقَالَ علي: أنا هدمت أم
هم هدموا! أنا فرقت أم هم فرقوا! أما قولهم: إنه لو كَانَ مضى بمن
أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حَتَّى يظفر أو يهلك، إذا كَانَ ذلك
الحزم، فو الله مَا غبي عن رأيي ذَلِكَ، وإن كنت لسخيا بنفسي عن
الدُّنْيَا، طيب النفس بالموت، وَلَقَدْ هممت بالإقدام عَلَى القوم،
فنظرت إِلَى هَذَيْنِ قَدِ ابتدراني- يعني الْحَسَن والحسين- ونظرت
إِلَى هَذَيْنِ قَدِ استقدماني- يعني عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر
ومُحَمَّد بن علي- فعلمت أن هذين ان هلكا انقطع نسل محمد ص من هَذِهِ
الأمة، فكرهت ذَلِكَ، وأشفقت عَلَى هَذَيْنِ أن يهلكا، وَقَدْ علمت أن
لولا مكاني لم يستقدما- يعني مُحَمَّد بن علي وعبد اللَّه بن جَعْفَر-
وايم اللَّه لَئِنْ لقيتهم بعد يومي هَذَا لألقينهم وليسوا معي فِي
عسكر وَلا دار] ثُمَّ مضى حَتَّى إذا جزنا بني عوف إذا نحن عن أيماننا
بقبور سبعة أو ثمانية، فَقَالَ علي:
مَا هَذِهِ القبور؟ فَقَالَ قدامة بن العجلان الأزدي: يا امير
المؤمنين، ان خباب ابن الأرت توفي بعد مخرجك، فأوصى بأن يدفن فِي
الظهر، وَكَانَ الناس إنما يدفنون فِي دورهم وأفنيتهم، فدفن بالظهر
رحمه اللَّه، ودفن الناس [إِلَى جنبه، فَقَالَ علي: رحم اللَّه خبابا،
فقد أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلي فِي جسمه أحوالا!
وإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ* مَنْ أَحْسَنَ
(5/61)
عَمَلًا. ثُمَّ جَاءَ حَتَّى وقف عَلَيْهِم
فَقَالَ: السلام عَلَيْكُمْ يَا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة،
من الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات أنتم لنا سلف فارط،
ونحن لكم تبع، بكم عما قليل لاحقون اللَّهُمَّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز
بعفوك عنا وعنهم! وَقَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل منها خلقكم،
وفيها معادكم، منها يبعثكم، وعليها يحشركم، طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل
للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ!] ثُمَّ أقبل
حَتَّى حاذى سكة الثوريين، ثُمَّ قَالَ: خشوا، ادخلوا بين هَذِهِ
الأبيات.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عاصم الفائشي،
قَالَ: [مر علي بالثوريين، فسمع البكاء، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الأصوات؟
فقيل لَهُ: هَذَا البكاء عَلَى قتلى صفين، فَقَالَ: أما إني أشهد لمن
قتل مِنْهُمْ صابرا محتسبا بالشهادة] ثُمَّ مر بالفائشيين، فسمع
الأصوات، فَقَالَ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ مضى حَتَّى مر بالشباميين، فسمع
رجة شديدة، فوقف، فخرج إِلَيْهِ حرب بن شُرَحْبِيل الشبامي، [فَقَالَ
علي: أيغلبكم نساؤكم! أَلا تنهونهن عن هَذَا الرنين! فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لو كَانَتْ دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا
عَلَى ذَلِكَ، ولكن قتل من هَذَا الحي ثمانون ومائة قتيل، فليس دار إلا
وفيها بكاء، فأما نحن معشر الرجال فإنا لا نبكي، ولكن نفرح لَهُمْ،
أَلا نفرح لَهُمْ بالشهادة! قَالَ علي: رحم اللَّه قتلاكم وموتاكم!
وأقبل يمشي مَعَهُ وعلي راكب، فَقَالَ لَهُ علي: ارجع، ووقف ثُمَّ
قَالَ لَهُ: ارجع، فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي، ومذلة للمؤمن]
ثُمَّ مضى حَتَّى مر بالناعطيين- وَكَانَ جلهم عثمانية- فسمع رجلا
مِنْهُمْ يقال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن يزيد، من بنى عبيد من الناعطيين
يقول: وَاللَّهِ مَا صنع علي شَيْئًا، ذهب ثُمَّ انصرف فِي غير شَيْء!
فلما نظروا إِلَى علي أبلسوا، فَقَالَ: وجوه قوم ما رأوا الشام
(5/62)
العالم ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: قوم فارقناهم آنفا خير من هَؤُلاءِ،
ثُمَّ أنشأ يقول:
أخوك الَّذِي إن أجرضتك ملمة ... من الدهر لم يبرح لبثك واجما
وليس أخوك بِالَّذِي إن تشعبت ... عَلَيْك الأمور ظل يلحاك لائما
ثُمَّ مضى، فلم يزل يذكر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى دخل القصر.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا أَبُو جناب الكلبي، عن عمارة بن
رَبِيعَة، قَالَ:
خرجوا مع علي إِلَى صفين وهم متوادون أحباء، فرجعوا متباغضين أعداء،
مَا برحوا من عسكرهم بصفين حَتَّى فشا فِيهِمُ التحكيم، وَلَقَدْ
أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط، يقول الخوارج:
يَا أعداء اللَّه، أدهنتم فِي أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وحكمتم!
وَقَالَ الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا فلما دخل علي الْكُوفَة
لم يدخلوا مَعَهُ حَتَّى أتوا حروراء، فنزل بِهَا مِنْهُمُ اثنا عشر
ألفا، ونادى مناديهم: إن أَمِير القتال شبث بن ربعي التميمي وأمير
الصَّلاة عَبْد اللَّهِ بن الكواء اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح،
والبيعة لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر |