الأمور، ولم يحنكه السن، ولم تضرسه
التجارب، وَكَانَ لا يكاد ينظر فِي شَيْءٍ من سلطانه وَلا عمله،
وبعث إِلَى يَزِيد وفدا من أهل الْمَدِينَة فِيهِمْ عَبْد اللَّهِ
بن حنظلة الغسيل الأَنْصَارِيّ وعبد اللَّه بن أبي عَمْرو بن حفص
بن الْمُغِيرَة المخزومي، والمنذر بن الزُّبَيْرِ، ورجالا كثيرا من
أشراف أهل الْمَدِينَة، فقدموا عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة،
فأكرمهم، وأحسن إِلَيْهِم، وأعظم جوائزهم ثُمَّ انصرفوا من عنده،
وقدموا المدينة كلهم الا المنذر ابن الزُّبَيْرِ فإنه قدم عَلَى
عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بِالْبَصْرَةِ- وَكَانَ يَزِيد قَدْ أجازه
بمائة ألف درهم- فلما قدم أُولَئِكَ النفر الوفد الْمَدِينَة قاموا
فِيهِمْ فأظهروا شتم يَزِيد وعتبة، وَقَالُوا: إنا قدمنا من عِنْدَ
رجل ليس لَهُ دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده
القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخراب والفتيان، وإنا نشهدكم أنا
قَدْ خلعناه، فتابعهم الناس.
قَالَ لوط بن يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن
مساحق، أن الناس أتوا عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل فبايعوه وولوه
عَلَيْهِم.
قَالَ لوط: وَحَدَّثَنِي أَيْضًا مُحَمَّد بن عَبْدِ الْعَزِيزِ بن
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوف:
ورجع المنذر من عِنْدَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فقدم عَلَى عُبَيْد
اللَّهِ بن زياد الْبَصْرَة، فأكرمه وأحسن ضيافته، وَكَانَ لزياد
صديقا، إذ سقط إِلَيْهِ كتاب من يَزِيد بن مُعَاوِيَة حَيْثُ بلغه
أمر أَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ أن أوثق المنذر بن الزُّبَيْرِ
واحبسه عندك حَتَّى يأتيك فِيهِ امرى، فكره ذلك عبيد الله ابن زياد
لأنه ضيفه، فدعاه فأخبره بالكتاب وأقرأه إِيَّاهُ، وَقَالَ لَهُ:
إنك كنت لزياد ودا وَقَدْ أصبحت لي ضيفا، وَقَدْ آتيت إليك معروفا،
فأنا أحب أن أسدي ذَلِكَ كله بإحسان، فإذا اجتمع الناس عندي فقم
فقل:
ائذن لي فلأنصرف إِلَى بلادي، فإذا قلت: لا بل أقم عندي فإن لك
الكرامة والمواساة والأثرة، فقل: لي ضيعة وشغل، لا أجد من الانصراف
بدا فأذن لي، فإني آذن لك عِنْدَ ذَلِكَ، فالحق بأهلك.
فلما اجتمع الناس عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ قام إِلَيْهِ فاستأذنه
فَقَالَ: لا بل أقم عندي فإني مكرمك ومواسيك ومؤثرك، فَقَالَ لَهُ:
إن لي ضيعه وشغلا،
(5/480)
وَلا أجد من الانصراف بدا فأذن لي، فأذن
لَهُ فانطلق حَتَّى لحق بالحجاز، فأتى أهل الْمَدِينَة، فكان فيمن
يحرض الناس عَلَى يَزِيد، وَكَانَ من قوله يَوْمَئِذٍ: إن يَزِيد
وَاللَّهِ لقد أجازني بمائة ألف درهم، وإنه لا يمنعني مَا صنع إلي
أن أخبركم خبره، وأصدقكم عنه، وَاللَّهِ إنه ليشرب الخمر، وإنه
ليسكر حَتَّى يدع الصَّلاة، وعابه بمثل مَا عابه بِهِ أَصْحَابه
الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وأشد، فكان سَعِيد بن عَمْرو يحدث
بالكوفة أن يَزِيد بن مُعَاوِيَة بلغه قوله فِيهِ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إني آثرته وأكرمته، ففعل مَا قَدْ رأيت، فاذكره بالكذب
والقطيعة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سَعِيد بن زَيْد أَبُو المثلم أن
يَزِيد بن مُعَاوِيَة بعث النُّعْمَان بن بشير الأنصاري فقال له:
ائت الناس وقومك فافثأهم عما يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا فِي هَذَا
الأمر لم يجترئ الناس عَلَى خلافي، وبها من عشيرتي من لا أحب أن
ينهض فِي هَذِهِ الْفِتْنَة فيهلك فأقبل النُّعْمَان بن بشير فأتى
قومه، ودعا الناس إِلَيْهِ عامة، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة،
وخوفهم الْفِتْنَة، وَقَالَ لَهُمْ: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام،
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن مطيع العدوي: مَا يحملك يَا نعمان عَلَى
تفريق جماعتنا، وفساد مَا أصلح اللَّه من أمرنا! فَقَالَ
النُّعْمَان: أما وَاللَّهِ لكأني بك لو قَدْ نزلت تِلَكَ الَّتِي
تدعو إِلَيْهَا، وقامت الرجال عَلَى الركب تضرب مفارق القوم
وجباههم بالسيوف، ودارت رحا الموت بين الفريقين قَدْ هربت عَلَى
بغلتك تضرب جنبيها إِلَى مكة، وَقَدْ خلفت هَؤُلاءِ المساكين- يعني
الأنصار- يقتلون فِي سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم! فعصاه
الناس، فانصرف وَكَانَ وَاللَّهِ كما قَالَ.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عتبة وكانت العمال
فِي هَذِهِ السنة عَلَى العراق وخراسان العمال الَّذِينَ ذكرت فِي
سنة إحدى وستين.
وفي هَذِهِ السنة ولد- فِيمَا ذكر- مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ العباس
(5/481)
ثُمَّ دخلت
سنة ثلاث وستين
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذَلِكَ مَا
كَانَ من إخراج أهل الْمَدِينَة عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة
عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ،
وإظهارهم خلع يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وحصارهم من كَانَ بِهَا من بني
أُمَيَّة، ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن
نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، أن أهل الْمَدِينَة لما بايعوا
عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل عَلَى خلع يَزِيد بن مُعَاوِيَة،
وثبوا على عثمان ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ومن
بِالْمَدِينَةِ من بنى اميه ومواليهم ومن رَأَى رأيهم من قريش،
فكانوا نحوا من الف رجل، فخرجوا بجماعتهم حَتَّى نزلوا دار
مَرْوَان بن الحكم، فحاصرهم الناس فِيهَا حصارا ضعيفا قَالَ: فدعت
بنو أُمَيَّة حبيب بن كرة، وَكَانَ الَّذِي بعث إِلَيْهِ مِنْهُمْ
مَرْوَان بن الحكم وعمرو ابن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، وَكَانَ
مَرْوَان هُوَ يدبر أمرهم فأما عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ فإنما كَانَ غلاما حدثا لَمْ يَكُنْ لَهُ رأي قَالَ
عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: فَحَدَّثَنِي حبيب بن كرة، قَالَ: كنت مع
مَرْوَان، فكتب معي هُوَ وجماعة من بني أُمَيَّة كتابا إِلَى
يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأخذ الكتاب عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان
حَتَّى خرج معي إِلَى ثنية الوداع، فدفع إلي الكتاب وَقَالَ: قَدْ
أجلتك اثنتي عشرة ليلة ذاهبا واثنتي عشرة ليلة مقبلا، فوافني لأربع
وعشرين ليلة فِي هَذَا المكان تجدني إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ
الساعة جالسا أنتظرك وَكَانَ الكتاب:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه قَدْ
حصرنا فِي دار مَرْوَان بن الحكم، ومنعنا العذب، ورمينا بالجبوب،
فيا غوثاه يَا غوثاه! قَالَ: فأخذت الكتاب ومضيت بِهِ حَتَّى قدمت
عَلَى يَزِيد وَهُوَ جالس عَلَى كرسي، واضع قدميه فِي ماء طست من
وجع كَانَ يجده فيهما- ويقال: كَانَ بِهِ النقرس- فقرأه ثُمَّ
قَالَ فِيمَا بلغنا متمثلا:
(5/482)
لقد بدلوا الحلم الَّذِي من سجيتي ...
فبدلت قومي غلظة بليان
ثُمَّ قَالَ: أما يكون بنو أُمَيَّة ومواليهم ألف رجل
بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ:
قلت: بلى، وَاللَّهِ وأكثر، قَالَ: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة
من نهار! قَالَ: فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أجمع الناس
كلهم عَلَيْهِم، فلم يكن لَهُمْ بجمع الناس طاقة، قَالَ: فبعث
إِلَى عَمْرو بن سَعِيد فأقرأه الكتاب، وأخبره الخبر، وأمره أن
يسير إِلَيْهِم فِي الناس، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كنت ضبطت لك البلاد،
وأحكمت لك الأمور، فأما الآن إذ صارت إنما هي دماء قريش تهراق
بالصعيد، فلا أحب أن أكون أنا أتولى ذَلِكَ، يتولاها مِنْهُمْ من
هُوَ أبعد مِنْهُمْ مني قَالَ: فبعثني بِذَلِكَ الكتاب إِلَى مسلم
بن عُقْبَةَ المري- وَهُوَ شيخ كبير ضعيف مريض- فدفعت إِلَيْهِ
الكتاب، فقرأه، وسألني عن الخبر فأخبرته، فَقَالَ لي مثل مقالة
يَزِيد: أما يكون بنو أُمَيَّة ومواليهم وأنصارهم بِالْمَدِينَةِ
ألف رجل! قَالَ: قلت: بلى يكونون، قَالَ: فما استطاعوا أن يقاتلوا
ساعة من نهار! ليس هَؤُلاءِ بأهل أن ينصروا حَتَّى يجهدوا أنفسهم
فِي جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى دخل عَلَى يَزِيد
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تنصر هَؤُلاءِ فإنهم
الأذلاء، أما استطاعوا أن يقاتلوا يَوْمًا واحدا أو شطره أو ساعة
مِنْهُ! دعهم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يجهدوا أنفسهم فِي
جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ويستبين لك من يقاتل مِنْهُمْ عَلَى
طاعتك، ويصبر عَلَيْهَا أو يستسلم، قَالَ: ويحك! إنه لا خير فِي
العيش بعدهم، فاخرج فأنبئني نبأك، وسر بِالنَّاسِ، فخرج مناديه
فنادى: أن سيروا إِلَى الحجاز عَلَى أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة
دينار توضع فِي يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل
حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن مغيرة، قَالَ: كتب
يَزِيد إِلَى ابن مرجانة: أن اغز ابن الزُّبَيْر، فَقَالَ: لا
أجمعهما للفاسق أبدا،
(5/483)
اقتل ابن بنت رسول الله ص، وأغزو البيت!
قَالَ: وكانت مرجانة امرأة صدق، فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين
ع: ويلك! ماذا صنعت! وماذا ركبت! رجع الحديث إِلَى حديث حبيب بن
كرة قَالَ: فأقبلت حَتَّى أوافي عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان فِي
ذَلِكَ المكان فِي تِلَكَ الساعة أو بعيدها شَيْئًا.
قَالَ: فوجدته جالسا متقنعا تحت شجرة، فأخبرته بِالَّذِي كَانَ،
فسر بِهِ، فانطلقنا حَتَّى دخلنا دار مَرْوَان عَلَى جماعة بني
أُمَيَّة، فنبأتهم بِالَّذِي قدمت بِهِ، فحمدوا اللَّه عَزَّ
وَجَلَّ.
قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: حَدَّثَنِي حبيب، أنه بلغه فِي
عشرة قَالَ: فلم أبرح حَتَّى رأيت يَزِيد بن مُعَاوِيَة خرج إِلَى
الخيل يتصفحها وينظر إِلَيْهَا، قَالَ: فسمعته وَهُوَ يقول وَهُوَ
متقلد سيفا، متنكب قوسا عربية:
أبلغ أبا بكر إذا الليل سرى ... وهبط القوم عَلَى وادي القرى
عشرون ألفا بين كهل وفتى ... أجمع سكران من القوم ترى!
أم جمع يقظان نفي عنه الكرى! ... يَا عجبا من ملحد يَا عجبا!
مخادع فِي الدين يقفو بالعرى
قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: وفصل ذَلِكَ الجيش من عِنْدَ
يَزِيد وعليهم مسلم بن عُقْبَةَ، وَقَالَ لَهُ: إن حدث بك حدث
فاستخلف عَلَى الجيش حصين بن نمير السكوني، وَقَالَ لَهُ: ادع
القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا اظهرت عليهم فأبحها
ثلاثا، فما فِيهَا من مال أو رقة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا
مضت الثلاث فاكفف عن الناس، وأنظر عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فاكفف
عنه،، واستوص بِهِ خيرا،
(5/484)
وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل فِي شَيْءٍ مما
دخلوا فِيهِ، وَقَدْ أتاني كتابه وعلي لا يعلم بشيء مما أوصى بِهِ
يَزِيد بن مُعَاوِيَة مسلم بن عُقْبَةَ، وَقَدْ كَانَ عَلِيّ بن
الْحُسَيْن لما خرج بنو أُمَيَّة نحو الشام أوى إِلَيْهِ ثقل
مَرْوَان بن الحكم، وامرأته عَائِشَة بنت عُثْمَان بن عَفَّانَ،
وَهِيَ أم أبان بن مَرْوَان.
وَقَدْ حدثت عن محمد بن سعد، عن محمد بن عُمَرَ، قَالَ: لما أخرج
أهل الْمَدِينَة عُثْمَان بن مُحَمَّد مِنَ الْمَدِينَةِ، كلم
مَرْوَان بن الحكم ابن عُمَرَ أن يغيب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن
يفعل، وكلم عَلِيّ بن الْحُسَيْن، وَقَالَ:
يَا أَبَا الْحَسَن، إن لي رحما، وحرمي تكون مع حرمك، فَقَالَ:
افعل، فبعث بحرمه إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فخرج بحرمه وحرم
مَرْوَان حَتَّى وضعهم بينبع، وَكَانَ مَرْوَان شاكرا لعلي بن
الْحُسَيْن، مع صداقة كَانَتْ بينهما قديمة.
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل، قال:
وأقبل مسلم بن عُقْبَةَ بالجيش حَتَّى إذا بلغ أهل الْمَدِينَة
إقباله وثبوا عَلَى من معهم من بني أُمَيَّة، فحصروهم فِي دار
مَرْوَان، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نكف عنكم حَتَّى نستنزلكم ونضرب
أعناقكم، أو تعطونا عهد اللَّه وميثاقه لا تبغونا غائلة، وَلا
تدلوا لنا عَلَى عورة، وَلا تظاهروا علينا عدوا، فنكف عنكم ونخرجكم
عنا، فأعطوهم عهد اللَّه وميثاقه لا نبغيكم غائلة، وَلا ندل لكم
عَلَى عورة، فأخرجوهم مِنَ الْمَدِينَةِ، فخرجت بنو أُمَيَّة
بأثقالهم حَتَّى لقوا مسلم بن عُقْبَةَ بوادي القرى، وخرجت
عَائِشَة بنت عُثْمَان بن عَفَّانَ إِلَى الطائف، فتمر بعلي بن
حُسَيْن وَهُوَ بمال لَهُ إِلَى جنب الْمَدِينَة قَدِ اعتزلها
كراهية أن يشهد شَيْئًا من أمرهم، فَقَالَ لها: احملي ابني عَبْد
اللَّهِ معك إِلَى الطائف، فحملته إِلَى الطائف حَتَّى نقضت أمور
أهل الْمَدِينَة.
ولما قدمت بنو أُمَيَّة عَلَى مسلم بن عُقْبَةَ بوادي القرى دعا
بعمرو بن
(5/485)
عُثْمَانَ بن عَفَّانَ أول الناس فَقَالَ
لَهُ: أَخْبِرْنِي خبر مَا وراءك، وأشر علي، قَالَ: لا أستطيع أن
أخبرك، أخذ علينا العهود والمواثيق أَلا ندل عَلَى عورة، وَلا
نظاهر عدوا، فانتهره ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لولا أنك ابن عُثْمَان
لضربت عنقك، وايم اللَّه لا أقيلها قرشيا بعدك فخرج بِمَا لقي من
عنده إِلَى أَصْحَابه، فَقَالَ مَرْوَان بن الحكم لابنه عَبْد
الْمَلِكِ: ادخل قبلي لعله يجتزئ بك عني، فدخل عَلَيْهِ عَبْد
الْمَلِكِ، فَقَالَ: هات مَا عندك، أَخْبِرْنِي خبر الناس، وكيف
ترى؟ فَقَالَ لَهُ: نعم أَرَى أن تسير بمن معك، فتنكب هَذَا الطريق
إِلَى الْمَدِينَة، حَتَّى إذا انتهيت إِلَى أدنى نخل بِهَا نزلت،
فاستظل الناس فِي ظله، وأكلوا من صقره، حَتَّى إذا كَانَ الليل
أذكيت الحرس الليل كله عقبا بين أهل العسكر، حَتَّى إذا أصبحت صليت
بِالنَّاسِ الغداة، ثُمَّ مضيت بهم وتركت الْمَدِينَة ذات اليسار،
ثُمَّ أدرت بِالْمَدِينَةِ حَتَّى تأتيهم من قبل الحرة مشرقا،
ثُمَّ تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وَقَدْ أشرقت عَلَيْهِم وطلعت
الشمس طلعت بين أكتاف أَصْحَابك، فلا تؤذيهم، وتقع فِي وجوههم
فيؤذيهم حرها، ويصيبهم أذاها، ويرون مَا دمتم مشرقين من ائتلاق
بيضكم وحرابكم، وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم مَا لا
ترونه أنتم لشيء من سلاحهم مَا داموا مغربين، ثُمَّ قاتلهم واستعن
بِاللَّهِ عَلَيْهِم، فإن اللَّه ناصرك، إذ خالفوا الإمام، وخرجوا
من الجماعة فَقَالَ لَهُ مسلم: لِلَّهِ أبوك! أي امرئ ولد إذ ولدك!
لقد رَأَى بك خلفا ثُمَّ إن مَرْوَان دخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ:
إيه! قَالَ: أليس قَدْ دخل عَلَيْك عَبْد الْمَلِكِ! قَالَ: بلى،
وأي رجل عَبْد الْمَلِكِ! قلما كلمت من رجال قريش رجلا بِهِ شبيها،
فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني، قَالَ:
أجل، ثُمَّ ارتحل من مكانه ذَلِكَ، وارتحل الناس مَعَهُ حَتَّى نزل
المنزل الَّذِي أمره بِهِ عَبْد الْمَلِكِ، فصنع فِيهِ مَا أمره
بِهِ، ثُمَّ مضى فِي الحرة حَتَّى نزلها، فأتاهم من قبل المشرق
ثُمَّ دعاهم مسلم بن عُقْبَةَ، فَقَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، إن
أَمِير الْمُؤْمِنِينَ
(5/486)
يَزِيد بن مُعَاوِيَة يزعم أنكم الأصل،
وأني أكره هراقة دمائكم، وأني أؤجلكم ثلاثا، فمن ارعوى وراجع الحق
قبلنا مِنْهُ، وانصرفت عنكم، وسرت إِلَى هَذَا الملحد الَّذِي
بمكة، وإن أبيتم كنا قَدْ أعذرنا إليكم- وَذَلِكَ فِي ذي الحجة من
سنة أربع وستين، هكذا وجدته فِي كتابي، وَهُوَ خطأ، لأن يَزِيد هلك
فِي شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وقعة الحرة فِي ذي الحجة
من سنة ثلاث وستين يوم الأربعاء لليلتين بقيتا مِنْهُ ولما مضت
الأيام الثلاثة قَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، قَدْ مضت الأيام
الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فَقَالُوا: بل نحارب،
فَقَالَ لَهُمْ:
لا تفعلوا، بل ادخلوا فِي الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا عَلَى هَذَا
الملحد الَّذِي قَدْ جمع إِلَيْهِ المراق والفساق من كل أوب
فَقَالُوا لَهُمْ: يَا أعداء اللَّه، وَاللَّهِ لو أردتم أن تجوزوا
إِلَيْهِم مَا تركناكم حَتَّى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت
اللَّه الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فِيهِ، وتستحلوا حرمته! لا
وَاللَّهِ لا نفعل.
وَقَدْ كَانَ أهل الْمَدِينَة اتخذوا خندقا فِي جانب الْمَدِينَة،
ونزله جمع مِنْهُمْ عظيم، وَكَانَ عَلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن
زهير بن عبد عوف ابن عم عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، وَكَانَ
عَبْد اللَّهِ بن مطيع عَلَى ربع آخر فِي جانب الْمَدِينَة،
وَكَانَ معقل بن سنان الأشجعي عَلَى ربع آخر فِي جانب الْمَدِينَة،
وَكَانَ أَمِير جماعتهم عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل
الأَنْصَارِيّ، فِي أعظم تِلَكَ الأرباع وأكثرها عددا.
قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي، فذكر أن عَبْد اللَّهِ
بن مطيع كَانَ عَلَى قريش من أهل الْمَدِينَة، وعبد اللَّه بن
حنظلة الغسيل عَلَى الأنصار، ومعقل بن سنان عَلَى الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد الملك بن نوفل: وصمد مسلم
ابن عُقْبَةَ بجميع من مَعَهُ، فأقبل من قبل الحرة حَتَّى ضرب
فسطاطه عَلَى
(5/487)
طريق الْكُوفَة، ثُمَّ وجه الخيل نحو ابن
الغسيل، فحمل ابن الغسيل عَلَى الخيل فِي الرجال الَّذِينَ مَعَهُ
حَتَّى كشف الخيل، حَتَّى انتهوا إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ، فنهض فِي
وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فانصرفوا فقاتلوا قتالا شديدا.
ثُمَّ إن الفضل بْن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد
المطلب جَاءَ الى عبد الله ابن حنظلة الغسيل فقاتل فِي نحو من
عشرين فارسا قتالا شديدا حسنا، ثُمَّ قَالَ لعبد اللَّه: مر من معك
فارسا فليأتني فليقف معى، فإذا حملت فليحملوا، فو الله لا أنتهي
حَتَّى أبلغ مسلما، فإما أن أقتله، وإما أن أقتل دونه فَقَالَ
عَبْد اللَّهِ بن حنظلة لعبد اللَّه بن الضحاك من بني عبد الأشهل
من الأنصار: ناد فِي الخيل فلتقف مع الفضل بن العباس، فنادى فيهم
فجمعهم إِلَى الفضل، فلما اجتمعت الخيل إِلَيْهِ حمل عَلَى أهل
الشام فانكشفوا، فَقَالَ لأَصْحَابه: الا ترونهم كشفا لئاما!
احملوا اخرى جعلت فداكم! فو الله لَئِنْ عاينت أميرهم، لأقتلنه أو
لأقتلن دونه، ان صبر ساعه معقب سرور أبد، إنه ليس بعد لصبرنا إلا
النصر ثُمَّ حمل وحمل أَصْحَابه مَعَهُ، فانفرجت خيل أهل الشام عن
مسلم بن عُقْبَةَ فِي نحو من خمسمائة راجل جثاة عَلَى الركب، مشرعي
الأسنة نحو القوم، ومضى كما هُوَ نحو رايته حَتَّى يضرب رأس صاحب
الراية، وإن عَلَيْهِ لمغفرا، فقط المغفر، وفلق هامته فخر ميتا،
فَقَالَ: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! فظن أنه قتل مسلما،
فَقَالَ: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة، فَقَالَ مسلم: أخطأت استك
الحفرة! وإنما كَانَ ذَلِكَ غلاما لَهُ، يقال لَهُ: رومي، وَكَانَ
شجاعا.
فأخذ مسلم رايته ونادى: يَا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم
يريدون أن يدفعوا بِهِ عن دينهم، وأن يعزوا بِهِ نصر إمامهم! قبح
اللَّه قتالكم منذ الْيَوْم! مَا أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي! اما
والله ما جزاؤكم عليه الا ان تحرموا العطاء، وأن تجمروا فِي أقاصي
الثغور شدوا مع هَذِهِ الراية، ترح اللَّه وجوهكم إن لم تعتبوا!
فمشى برايته، وشدت تِلَكَ الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس،
فقتل وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبه الا نحو
(5/488)
من عشر أذرع، وقتل مَعَهُ زَيْد بن عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بن عوف، وقتل معه ابراهيم ابن نعيم العدوي، فِي رجال
من أهل الْمَدِينَة كثير.
قَالَ هِشَام، عن عوانة: وَقَدْ بلغنا فِي حديث آخر أن مسلم بن
عُقْبَةَ كَانَ مريضا يوم القتال، وأنه أمر بسرير وكرسي فوضع بين
الصفين، ثُمَّ قَالَ:
يَا أهل الشام، قاتلوا عن أميركم أو دعوا ثُمَّ زحفوا نحوهم فأخذوا
لا يصمدون لربع من تِلَكَ الأرباع إلا هزموه، وَلا يقاتلون إلا
قليلا حَتَّى تولوا.
ثُمَّ إنه أقبل إِلَى عَبْد اللَّهِ بن حنظلة فقاتله أشد القتال،
واجتمع من أراد القتال من تِلَكَ الأرباع إِلَى عَبْد اللَّهِ بن
حنظلة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فحمل الفضل ابن العباس بن ربيعه في
جماعه من وجوه النَّاسِ وفرسانهم يريد مسلم بن عُقْبَةَ، ومسلم
عَلَى سريره مريض، فَقَالَ: احملوني فضعوني فِي الصف، فوضعوه بعد
مَا حملوه أمام فسطاطه فِي الصف، وحمل الفضل بن العباس هُوَ
وأَصْحَابه أُولَئِكَ حَتَّى انتهى إِلَى السرير، وَكَانَ الفضل
أحمر، فلما رفع السيف ليضربه صاح بأَصْحَابه: إن العبد الأحمر
قاتلي، فأين أنتم يَا بني الحرائر! اشجروه بالرماح، فوثبوا
إِلَيْهِ فطعنوه حَتَّى سقط.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ثُمَّ إن خيل مسلم ورجاله أقبلت
نحو عبد الله ابن حنظلة الغسيل ورجاله بعده- كما حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ منقذ- حَتَّى دنوا مِنْهُ، وركب مسلم بن عُقْبَةَ
فرسا لَهُ، فأخذ يسير فِي أهل الشام ويحرضهم ويقول: يَا أهل الشام،
إنكم لستم بأفضل العرب فِي أحسابها وَلا أنسابها، وَلا أكثرها
عددا، وَلا أوسعها بلدا، ولم يخصصكم اللَّه بِالَّذِي خصكم بِهِ من
النصر عَلَى عدوكم، وحسن المنزلة عِنْدَ أئمتكم، إلا بطاعتكم
واستقامتكم، وإن هَؤُلاءِ القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير
اللَّه بهم، فتموا عَلَى أحسن مَا كنتم عَلَيْهِ من الطاعة يتمم
اللَّه لكم أحسن مَا ينيلكم من النصر والفلج ثُمَّ جَاءَ حَتَّى
انتهى إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ فِيهِ، وأمر الخيل أن تقدم عَلَى
ابن الغسيل وأَصْحَابه، فأخذت الخيل إذا أقدمت عَلَى الرجال فثاروا
فِي وجوهها بالرماح
(5/489)
والسيوف نفرت وابذعرت وأحجمت، فنادى
فِيهِمْ مسلم بن عُقْبَةَ: يَا أهل الشام، مَا جعلهم اللَّه أولى
بالأرض مِنْكُمْ، يَا حصين بن نمير، انزل فِي جندك، فنزل فِي أهل
حمص، فمشى إِلَيْهِم، فلما رآهم قَدْ أقبلوا يمشون تحت راياتهم نحو
ابن الغسيل قام فِي أَصْحَابه فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إن عدوكم
قَدْ أصابوا وجه القتال الَّذِي كَانَ ينبغي أن تقاتلوهم بِهِ،
وإني قَدْ ظننت أَلا تلبثوا إلا ساعة حَتَّى يفصل اللَّه بينكم
وبينهم إما لكم وإما عَلَيْكُمْ أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة،
وَاللَّهِ مَا أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان الْمُسْلِمِينَ
بأرضى مِنْهُ عنكم، وَلا عَلَى أهل بلد من بلدان العرب بأسخط
مِنْهُ عَلَى هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم ان لكل امرئ مِنْكُمْ
ميتة هُوَ ميت بِهَا، وَاللَّهِ مَا من ميتة بأفضل من ميتة
الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها، فو الله مَا كل مَا
أردتموها وجدتموها ثُمَّ مشى برايته غير بعيد، ثُمَّ وقف، وجاء ابن
نمير برايته حَتَّى أدناها، وأمر مسلم بن عُقْبَةَ عَبْد اللَّهِ
بن عضاه الأَشْعَرِيّ فمشى في خمسمائة مرام حَتَّى دنوا من ابن
الغسيل وأَصْحَابه، فأخذوا ينضحونهم بالنبل، فَقَالَ ابن الغسيل:
علام تستهدفون لَهُمْ! من أراد التعجل إِلَى الجنة فليلزم هَذِهِ
الراية، فقام إِلَيْهِ كل مستميت، فقال: الغدو الى ربكم، فو الله
إني لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريري عين، فنهض القوم بعضهم إِلَى
بعض فاقتتلوا أشد قتال رئى فِي ذَلِكَ الزمان ساعة من نهار، وأخذ
يقدم بنيه أمامه واحدا واحدا حَتَّى قتلوا بين يديه، وابن الغسيل
يضرب بسيفه، ويقول:
بعدا لمن رام الفساد وطغى ... وجانب الحق وآيات الهدى
لا يبعد الرحمن إلا من عصى.
فقتل، وقتل مَعَهُ أخوه لأمه مُحَمَّد بن ثَابِتِ بْنِ قيس بن
شماس، استقدم فقاتل حَتَّى قتل، وَقَالَ: مَا أحب أن الديلم قتلوني
مكان هَؤُلاءِ القوم، ثُمَّ قاتل حَتَّى قتل وقتل مَعَهُ مُحَمَّد
بن عَمْرو بن حزم الأنصاري، فمر عليه مروان
(5/490)
ابن الحكم وكأنه برطيل من فضة، فَقَالَ:
رحمك اللَّه! فرب سارية قَدْ رأيتك تطيل القيام فِي الصَّلاة إِلَى
جنبها.
قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: فبلغنا أن مسلم بن
عُقْبَةَ كَانَ يجلس عَلَى كرسي ويحمله الرجال وَهُوَ يقاتل ابن
الغسيل يوم الحرة وَهُوَ يقول:
أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباتين ويوم اليعمله
كل الملوك عنده مغربله ... ورمحه للوالدات مثكله
لا يلبث القتيل حَتَّى يجدله ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب لَهُ
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: وخرج مُحَمَّد بن سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاص يَوْمَئِذٍ يقاتل، فلما انهزم الناس مال عَلَيْهِم يضربهم
بسيفه حَتَّى غلبته الهزيمة، فذهب فيمن ذهب مِنَ النَّاسِ وأباح
مسلم الْمَدِينَة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأفزع
ذَلِكَ من كَانَ بِهَا من الصحابة، فخرج أَبُو سَعِيد الخدري
حَتَّى دخل فِي كهف فِي الجبل، فبصر بِهِ رجل من أهل الشام،
فَجَاءَ حَتَّى اقتحم عَلَيْهِ الغار.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَسَن بن عطية العوفي، عن أبي
سَعِيد الخدري، قَالَ: دخل إلي الشامي يمشي بسيفه، قَالَ: فانتضيت
سيفي فمشيت إِلَيْهِ لأرعبه لعله ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي،
فلما رأيت أن قَدْ جد شمت سيفي، ثُمَّ قلت لَهُ: «لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» ، فَقَالَ
لي: من أنت لِلَّهِ أبوك! فقلت: أنا أَبُو سَعِيد الخدري، قَالَ:
صاحب رَسُول الله ص؟ قلت: نعم، فانصرف عني.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: دعا الناس مسلم بن
عُقْبَةَ بقباء إِلَى البيعة، وطلب الأمان لرجلين من قريش: ليزيد
بن عَبْدِ اللَّهِ بْن زمعة بْن الأسود بْن
(5/491)
المطلب بن أسد بن عبد العزى ومُحَمَّد بن
أبي الجهم بن حُذَيْفَة العدوي ولمعقل ابن سنان الأشجعي، فأتي بهما
بعد الوقعة بيوم فقال: بايعا، فَقَالَ القرشيان:
نبايعك عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا
أقيلكم هَذَا ابدا، فقد مهما فضرب أعناقهما، فَقَالَ لَهُ
مَرْوَان: سبحان اللَّه! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت
أعناقهما! فنخس بالقضيب فِي خاصرته ثُمَّ قَالَ:
وأنت وَاللَّهِ لو قلت بمقالتهما مَا رأيت السماء إلا برقة.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وجاء معقل بن سنان، فجلس مع
القوم، فدعا بشراب ليسقى، فَقَالَ لَهُ مسلم: أي الشراب أحب إليك؟
قَالَ: العسل، قَالَ: اسقوه، فشرب حَتَّى ارتوى، فَقَالَ لَهُ:
أقضيت ريك من شرابك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لا وَاللَّهِ لا تشرب بعده
شرابا أبدا إلا الحميم فِي نار جهنم، أتذكر مقالتك لأمير
الْمُؤْمِنِينَ: سرت شهرا، ورجعت شهرا، وأصبحت صفرا، اللَّهُمَّ
غَيّر- تعني يَزِيد! فقدمه فضرب عنقه.
قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم فذكر أن مسلم بن عُقْبَةَ بعث
عَمْرو بن محرز الأشجعي فأتاه بمعقل بن سنان فَقَالَ لَهُ مسلم:
مرحبا بأبي مُحَمَّد! أراك عطشان! قَالَ: أجل، قَالَ: شوبوا لَهُ
عسلا بالثلج الَّذِي حملتموه معنا- وَكَانَ لَهُ صديقا قبل ذَلِكَ-
فشابوه لَهُ، فلما شرب معقل قَالَ لَهُ:
سقاك اللَّه من شراب الجنة، فَقَالَ لَهُ مسلم: أما وَاللَّهِ لا
تشرب بعدها شرابا أبدا حَتَّى تشرب من شراب الحميم، قال: أنشدك
الله والرحيم! فَقَالَ لَهُ مسلم: أنت الَّذِي لقيتني بطبرية ليلة
خرجت من عِنْدَ يَزِيد، فقلت: سرنا شهرا ورجعنا من عِنْدَ يَزِيد
صفرا، نرجع إِلَى الْمَدِينَة فنخلع هَذَا الفاسق، ونبايع لرجل من
أبناء المهاجرين! فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة! إني آليت
بيمين لا ألقاك فِي حرب أقدر فِيهِ عَلَى ضرب عنقك إلا فعلت،
(5/492)
ثُمَّ أمر بِهِ فقتل.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانه: واتى يزيد بن وهب بن زمعة، فَقَالَ:
بايع، قَالَ:
أبايعك عَلَى سنة عمر، قَالَ: اقتلوه، قَالَ: أنا أبايع، قَالَ: لا
وَاللَّهِ لا أقيلك عثرتك، فكلمه مَرْوَان بن الحكم- لصهر كَانَ
بينهما- فأمر بمروان فوجئت عنقه، ثُمَّ قَالَ: بايعوا عَلَى أنكم
خول ليزيد بن مُعَاوِيَة، ثُمَّ أمر بِهِ فقتل.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة، عن أبي مخنف قَالَ: قَالَ عَبْد الملك
بن نوفل ابن مساحق: ثُمَّ إن مَرْوَان أتي بعلي بن الْحُسَيْن،
وَقَدْ كَانَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن حين أخرجت بنو أُمَيَّة منع ثقل
مَرْوَان وامرأته وآواها، ثُمَّ خرجت إِلَى الطائف، فهي أم أبان
ابنة عُثْمَان بن عَفَّانَ، فبعث ابنه عَبْد اللَّهِ معها، فشكر
ذَلِكَ لَهُ مَرْوَان- وأقبل عَلِيّ بن الْحُسَيْن يمشي بين
مَرْوَان وعبد الملك يلتمس بهما عِنْدَ مسلم الأمان، فَجَاءَ
حَتَّى جلس عنده بينهما، فدعا مَرْوَان بشراب ليتحرم بِذَلِكَ من
مسلم، فأتي لَهُ بشراب، فشرب مِنْهُ مَرْوَان شَيْئًا يسيرا، ثُمَّ
ناوله عَلِيًّا، فلما وقع فِي يده قَالَ له مسلم: لا تشرب من
شرابنا، فأرعدت كفه، ولم يأمنه عَلَى نفسه، وأمسك القدح بكفه لا
يشربه وَلا يضعه، فَقَالَ: إنك إنما جئت تمشي بين هَؤُلاءِ لتأمن
عندي، وَاللَّهِ لو كَانَ هَذَا الأمر إليهما لقتلتك، ولكن أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبته، فذلك نافعك عندي،
فإن شئت فاشرب شرابك الَّذِي فِي يدك، وإن شئت دعونا بغيره،
فَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي في كفى اريد، قال: اشربها، ثم قال:
الى هاهنا، فأجلسه مَعَهُ.
قَالَ هِشَام: وَقَالَ عوانة بن الحكم: لما أتي بعلي بن الْحُسَيْن
إِلَى مسلم، قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا عَلِيّ بن
الْحُسَيْن، قَالَ: مرحبا وأهلا، ثُمَّ أجلسه مَعَهُ عَلَى السرير
والطنفسة، ثُمَّ قَالَ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أوصاني بك قبلا،
وَهُوَ يقول: إن هَؤُلاءِ الخبثاء شغلوني عنك وعن وصلتك، ثم قال
(5/493)
لعلي: لعل أهلك فزعوا! قَالَ: إي
وَاللَّهِ، فأمر بدابته فأسرجت، ثُمَّ حمله فرده عَلَيْهَا.
قَالَ هِشَام: وذكر عوانة أن عَمْرو بن عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ فيمن
خرج من بني أُمَيَّة، وأنه أتى بِهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى مسلم بن
عُقْبَةَ فَقَالَ: يَا أهل الشام، تعرفون هَذَا؟ قَالُوا: لا،
قَالَ: هَذَا الخبيث ابن الطيب، هَذَا عَمْرو بن عُثْمَانَ بن
عَفَّانَ امير المؤمنين، هيه يَا عَمْرو! إذا ظهر أهل الْمَدِينَة
قلت: أنا رجل مِنْكُمْ، وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا ابن أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ، فأمر بِهِ فنتفت لحيته،
ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الشام، إن أم هَذَا كَانَتْ تدخل الجعل فِي
فِيهَا ثُمَّ تقول: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حاجيتك، مَا فِي
فمي؟ وفي فمها مَا ساءها وناءها، فخلى سبيله، وكانت أمه من دوس.
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: فَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، عمن
حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وَحَدَّثَنِي الحارث،
قَالَ: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عُمَرَ، قَالا: كَانَتْ وقعة
الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين
وَقَالَ بعضهم: لثلاث ليال بقين مِنْهُ.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابن سعد، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن جَعْفَر، عن ابن عوف، قَالَ: حج ابن
الزُّبَيْر بِالنَّاسِ سنة ثلاث وستين، وَكَانَ يسمى يَوْمَئِذٍ
العائذ، ويرون الأمر شورى قَالَ: فلما كَانَتْ ليلة هلال المحرم
ونحن فِي منزلنا إذ قدم علينا سَعِيد مولى المسور بن مخرمة، فخبرنا
بِمَا أوقع مسلم بأهل الْمَدِينَة وما نيل مِنْهُمْ، فجاءهم امر
عظيم، فرايت القوم شهروا ووجدوا وأعدوا وعرفوا أنه نازل بهم
(5/494)
وَقَدْ ذكر من أمر وقعة الحرة ومقتل ابن
الغسيل أمر غير الَّذِي روي عن أبي مخنف، عن الَّذِينَ روى ذَلِكَ
عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ:
حدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ
أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُحَدِّثُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ
لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ
لك من اهل الدنيا يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ
بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ
فَلَمَّا هَلَكَ مُعَاوِيَةُ وَفَدَ إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَكَانَ شَرِيفًا فَاضِلا
سَيِّدًا عَابِدًا، مَعَهُ ثَمَانِيةُ بَنِينَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ
مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى بَنِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلافٍ سِوَى كِسْوَتِهِمْ وَحِمْلانِهِمْ،
فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ
أَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُكُمْ
مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا بَنِيَّ
هَؤُلاءِ لَجَاهَدْتُهُ بِهِمْ، قَالُوا: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ
أَجْدَاكَ وَأَعْطَاكَ وَأَكْرَمَكَ، قَالَ: قَدْ فَعَلَ، وَمَا
قَبِلْتُ مِنْهُ إِلا لأَتَقَوَّى بِهِ، وَحَضَّضَ النَّاسَ
فَبَايَعُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ، فَبَعَثَ مُسْلِمُ بْنُ
عُقْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى
كُلِّ مَاءٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَصَبُّوا فِيهِ زُقًّا
مِنْ قَطِرَانٍ، وَعُوِّرَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ
عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَقُوا بِدَلْوٍ حَتَّى وَرَدُوا
الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، بِجُمُوعٍ
كَثِيرَةٍ، وَهَيْئَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فَلَمَّا رَآهُمْ
أَهْلُ الشَّامِ هَابُوهُمْ وَكَرِهُوا قِتَالَهُمْ، وَمُسْلِمٌ
شَدِيدُ الْوَجَعِ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي قِتَالِهِمْ إِذْ
سَمِعُوا التَّكْبِيرَ مِنْ خَلْفِهِمْ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ،
وَأَقْحَمَ عَلَيْهِمْ بَنُو حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ، وَهُمْ
عَلَى الْجُدِّ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَكَانَ مَنْ أُصِيبَ فِي
الْخَنْدَقِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلُوا
الْمَدِينَةَ، وَهُزِمَ النَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ
مُسْتَنِدٌ إِلَى أَحَدِ بَنِيهِ يَغُطُّ نَوْمًا، فَنَبَّهَهُ
ابْنُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَرَأَى مَا صَنَعَ النَّاسُ
أَمَرَ أَكْبَرَ بَنِيهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى قُتِلَ، فَدَخَلَ
مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ، فَدَعَا النَّاسَ
لِلْبَيْعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
يَحْكُمْ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مَا
شَاءَ.
(5/495)
ثُمَّ دخلت
سنة أربع وستين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) قَالَ أَبُو جَعْفَر: فمن
ذَلِكَ مسير أهل الشام إِلَى مكة لحرب عَبْد اللَّهِ بن
الزُّبَيْرِ ومن كَانَ عَلَى مثل رأيه فِي الامتناع عَلَى يَزِيد
بن مُعَاوِيَة.
ولما فرغ مسلم بن عُقْبَةَ من قتال أهل الْمَدِينَة وإنهاب جنده
أموالهم ثلاثا، شخص بمن مَعَهُ من الجند متوجها الى مكة، كالذي ذكر
هشام ابن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد
الْمَلِكِ بن نوفل، أن مسلما خرج بِالنَّاسِ إِلَى مكة يريد ابن
الزُّبَيْر، وخلف عَلَى الْمَدِينَة روح بن زنباع الجذامي.
وأما الْوَاقِدِيّ فإنه قَالَ: خلف عَلَيْهَا عَمْرو بن محرز
الأشجعي، قَالَ:
ويقال: خلف عَلَيْهَا روح بن زنباع الجذامي.
ذكر موت مسلم بن عُقْبَةَ ورمي الكعبة وإحراقها
رجع الحديث إِلَى أبي مخنف قَالَ: حَتَّى إذا انتهى إِلَى المشلل-
ويقال:
إِلَى قفا المشلل- نزل بِهِ الموت، وَذَلِكَ فِي آخر المحرم من سنة
أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني فَقَالَ له: يا بن برذعة
الحمار، أما وَاللَّهِ لو كَانَ هَذَا الأمر إلي مَا وليتك هَذَا
الجند، ولكن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولاك بعدي، وليس لأمر أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ مرد، خذ عني أربعا: أسرع السير، وعجل الوقاع، وعم
الأخبار، وَلا تمكن قرشيا من أذنك ثُمَّ إنه مات، فدفن بقفا
المشلل.
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي: وذكر عوانة أن مسلم بن عُقْبَةَ
شخص يريد ابن الزُّبَيْر، حَتَّى إذا بلغ ثنية هرشا نزل بِهِ
الموت، فبعث إِلَى رءوس الأجناد، فَقَالَ: إن أَمِير
الْمُؤْمِنِينَ عهد إلي إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عَلَيْكُمْ
حصين بن نمير السكوني، وَاللَّهِ لو كَانَ الأمر إلي مَا فعلت،
(5/496)
ولكن أكره معصية أمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ
عِنْدَ الموت، ثُمَّ دعا بِهِ فَقَالَ: انظر يَا برذعة الحمار
فاحفظ مَا أوصيك بِهِ، عم الأخبار، وَلا ترع سمعك قريشا أبدا، وَلا
تردن أهل الشام، عن عدوهم، وَلا تقيمن إلا ثلاثا حَتَّى تناجز ابن
الزُّبَيْر الفاسق، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إني لم أعمل عملا قط
بعد شِهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عبده ورسوله أحب إلي من قتلي أهل الْمَدِينَة، وَلا أرجي عندي فِي
الآخرة ثُمَّ قَالَ لبني مرة: زراعتي الَّتِي بحوران صدقة عَلَى
مرة، وما أغلقت عَلَيْهِ فلانة بابها فهو لها- يعني أم ولده- ثُمَّ
مات.
ولما مات خرج حصين بن نمير بِالنَّاسِ، فقدم عَلَى ابن الزُّبَيْر
مكة وَقَدْ بايعه أهلها وأهل الحجاز.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: قَالَ مسلم قبل الوصية: إن ابني يزعم
أن أم ولدي هَذِهِ سقتني السم، وَهُوَ كاذب، هَذَا داء يصيبنا فِي
بطوننا أهل البيت قَالَ: وقدم عَلَيْهِ- يعني ابن الزُّبَيْر- كل
أهل الْمَدِينَة، وَقَدْ قدم عَلَيْهِ نجدة بن عَامِر الحنفي فِي
أناس من الخوارج يمنعون البيت، فَقَالَ لأخيه المنذر: مَا لهذا
الأمر ولدفع هَؤُلاءِ القوم غيري وغيرك- وأخوه المنذر ممن شهد
الحرة، ثُمَّ لحق بِهِ- فجرد إِلَيْهِم أخاه فِي الناس، فقاتلهم
ساعة قتالا شديدا.
ثُمَّ إن رجلا من أهل الشام دعا المنذر إِلَى المبارزة- قَالَ:
والشامي عَلَى بغلة لَهُ- فخرج إِلَيْهِ المنذر، فضرب كل واحد
منهما صاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتا، فجثا عَبْد اللَّهِ بن
الزُّبَيْرِ عَلَى ركبتيه وَهُوَ يقول: يَا رب أبرها من أصلها وَلا
تشدها، وَهُوَ يدعو عَلَى الَّذِي بارز أخاه ثُمَّ ان اهل الشام
شدوا عليهم شدة منكرة، وانكشف أَصْحَابه انكشافة، وعثرت بغلته
فَقَالَ: تعسا! ثُمَّ نزل وصاح بأَصْحَابه: إلي، فأقبل إِلَيْهِ
المسور بن مخرمة بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة، ومصعب بن
عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، فقاتلوا حَتَّى قتلوا جميعا
وصابرهم ابن الزُّبَيْر يجالدهم
(5/497)
حَتَّى الليل، ثُمَّ انصرفوا عنه، وهذا فِي
الحصار الأول ثُمَّ إِنَّهُمْ أقاموا عَلَيْهِ يقاتلونه بقية
المحرم وصفر كله، حَتَّى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم
السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار،
وأخذوا يرتجزون ويقولون:
خطارة مثل الفنيق المزبد ... نرمي بِهَا أعواد هَذَا المسجد
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو عوانة: جعل عَمْرو بن حوط السدوسي يقول:
كيف ترى صنيع أم فروه ... تأخذهم بين الصفا والمروه
يعني بأم فروة المنجنيق.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: سار الحصين بن نمير حين دفن مسلم بن
عُقْبَةَ بالمشلل لسبع بقين من المحرم، وقدم مكة لأربع بقين من
المحرم، فحاصر ابن الزُّبَيْر أربعا وستين يَوْمًا حَتَّى جاءهم
نعي يَزِيد بن معاويه لهلال ربيع الآخر
. ذكر الخبر عن حرق الكعبه
وفي هَذِهِ السنة حرقت الكعبة.
ذكر السبب فِي إحراقها:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: احترقت الكعبة يوم السبت لثلاث ليال
خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتي نعي يَزِيد بن
مُعَاوِيَة بتسعة وعشرين يَوْمًا، وجاء نعيه لهلال ربيع الآخر ليلة
الثلاثاء.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا رياح بن مسلم، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: كَانُوا يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شررة هبت بِهَا
الريح، فاحترقت ثياب الكعبة، واحترق خشب البيت يوم السبت لثلاث
ليال خلون من ربيع الأول.
قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن زَيْد،
قَالَ: حَدَّثَنِي عروة بن
(5/498)
أذينة، قَالَ: قدمت مكة مع أمي يوم احترقت
الكعبة قَدْ خلصت إِلَيْهَا النار، ورأيتها مجردة من الحرير، ورأيت
الركن قَدِ اسود وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: مَا أصاب الكعبة؟
فأشاروا إِلَى رجل من أَصْحَاب عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ،
قَالُوا: هَذَا احترقت بسببه، أخذ قبسا فِي رأس رمح لَهُ فطيرت
الريح بِهِ، فضربت أستار الكعبة مَا بين الركن اليماني والأسود
. ذكر خبر وفاه يزيد بن معاويه
وفيها هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وكانت وفاته بقرية من قرى حمص
يقال لها حوارين من أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول
سنة أربع وستين وَهُوَ ابن ثمان وثلاثين سنة فِي قول بعضهم.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن
يَحْيَى، عن هِشَام بن الْوَلِيد المخزومي، أن الزُّهْرِيّ، كتب
لجده أسنان الخلفاء، فكان فِيمَا كتب من ذَلِكَ: ومات يَزِيد بن
مُعَاوِيَة وَهُوَ ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة
أشهر فِي قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن
أبي معشر، أنه قَالَ: توفي يَزِيد بن مُعَاوِيَة يوم الثلاثاء
لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ،
وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية اشهر الا ثمان ليال، وصلى عَلَى
يَزِيد ابنه مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ.
وأما هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي فإنه قَالَ فِي سن يَزِيد خلاف
الَّذِي ذكره الزُّهْرِيّ، والذي قَالَ هِشَام فِي ذَلِكَ- فِيمَا
حدثنا عنه-: استخلف ابو خالد يزيد ابن مُعَاوِيَة بن أَبِي
سُفْيَانَ وَهُوَ ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر فِي هلال رجب سنة
ستين، وولي سنتين وثمانية أشهر، وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع
الأول سنة ثلاث وستين وَهُوَ ابن خمس وثلاثين، وأمه ميسون بنت بحدل
بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبى
(5/499)
ذكر عدد ولده فمنهم مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ
بن مُعَاوِيَة، يكنى أبا لَيْلَى، وَهُوَ الَّذِي يقول فِيهِ
الشاعر:
إني أَرَى فتنة قَدْ حان أولها ... والملك بعد أَبِي لَيْلَى لمن
غلبا
وخالد بن يَزِيدَ- وَكَانَ يكنى أبا هاشم، وَكَانَ يقال: إنه أصاب
عمل الكيمياء- وأبو سُفْيَان، وأمهما أم هاشم بنت أبي هاشم بْن
عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس، تزوجها بعد يَزِيد مَرْوَان،
وَهِيَ الَّتِي يقول لها الشاعر:
انعمي أم خَالِد ... رب ساع لقاعد
وعبد اللَّه بن يَزِيدَ، قيل: إنه من أرمى العرب فِي زمانه، وأمه
أم كلثوم بنت عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، وَهُوَ الأسوار، وله يقول
الشاعر:
زعم الناس ان خير قريش ... كلهم حين يذكر الأسوار
وعبد اللَّه الأصغر، وعمر، وأبو بكر، وعتبة، وحرب، وعبد
الرَّحْمَن، والربيع، ومُحَمَّد، لأمهات اولاد شتى
(5/500)
خلافة مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ
وفي هَذِهِ السنة بويع لمعاوية بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَة بْن
أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ بالخلافة، ولعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ
بالحجاز.
ولما هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة مكث الحصين بن نمير وأهل الشام
يقاتلون ابن الزُّبَيْر وأَصْحَابه بمكة- فِيمَا ذكر هِشَام عن
عوانة- أربعين يَوْمًا، قَدْ حصروهم حصارا شديدا، وضيقوا عَلَيْهِم
ثُمَّ بلغ موته ابن الزُّبَيْر وأَصْحَابه، ولم يبلغ الحصين بن
نمير وأَصْحَابه، فَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ
الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ
جِيلٍ، قَالَ: بَيْنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ يُقَاتِلُ ابْنَ
الزُّبَيْرِ، إِذْ جَاءَ مَوْتُ يَزِيدَ، فَصَاحَ بِهِمُ ابْنُ
الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ طَاغِيَتَكُمْ قَدْ هَلَكَ، فَمَنْ
شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ
فَلْيَفْعَلْ، فَمَنْ كَرِهَ فَلْيَلْحَقْ بِشَامِهِ، فَغَدَوْا
عَلَيْهِ يُقَاتِلُونَهُ.
قَالَ: فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ:
ادْنُ مِنِّي أُحَدِّثْكَ، فَدَنَا مِنْهُ فَحَدَّثَهُ، فَجَعَلَ
فَرَسُ أَحَدِهِمَا يَجْفَلُ- وَالْجَفْلُ: الرَّوَثُ- فَجَاءَ
حَمَامُ الْحَرَمِ يَلْتَقِطُ مِنَ الْجَفْلِ، فَكَفَّ الْحُصَيْنُ
فَرَسَهُ عَنْهُنَّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا لَكَ؟
قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُ فَرَسِي حَمَامِ الْحَرَمِ، فَقَالَ
لَهُ ابْنُ الزبير: اتتحرج مِنْ هَذَا وَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ
الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ لَهُ: لا أُقَاتِلُكَ، فَأْذَنْ لَنَا
نَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَنَنْصَرِفْ عَنْكَ، فَفَعَلَ فَانْصَرَفُوا
وَأَمَّا عَوَانَةُ بْنُ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا ذَكَرَ
هِشَامٌ، عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَوْتُ
يَزِيدَ- وَأَهْلُ الشَّامِ لا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، قَدْ
حَصَرُوهُ حِصَارًا شَدِيدًا وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ- أَخَذَ
يُنَادِيهِمْ هُوَ وَأَهْلُ مَكَّةَ: عَلامَ تُقَاتِلُونَ؟ قَدْ
هَلَكَ طَاغِيَتُكُمْ، وَأَخَذُوا لا يُصَدِّقُونَهُ حَتَّى قَدِمَ
ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْمُنَقِّعِ النَّخَعِيُّ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ فِي رُءُوسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَمَرَّ بِالْحُصَيْنِ
بْنِ نُمَيْرٍ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا
صِهْرٌ، وَكَانَ يَرَاهُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ يَعْرِفُ
فَضْلَهُ
(5/501)
وَإِسْلامَهُ وَشَرَفَهُ- فَسَأَلَ عَنِ
الْخَبَرِ، فَأَخْبَرَهُ بِهَلاكِ يزيد، فبعث الحصين ابن نُمَيْرٍ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: مَوْعِدٌ مَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ اللَّيْلَةُ الأَبْطَحَ، فَالْتَقَيَا،
فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: إِنْ يَكُ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ هَلَكَ
فَأَنْتَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الأَمْرِ، هَلُمَّ
فَلْنُبَايِعْكَ، ثُمَّ اخْرُجْ مَعِي إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّ
هَذَا الْجُنْدَ الَّذِينَ مَعِي هُمْ وُجُوهُ اهل الشام وفرسانهم،
فو الله لا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ، وَتُؤَمِّنُ النَّاسَ
وَتَهْدِرُ هَذِهِ الدِّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكَ، وَالَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ
الْحَرَّةِ، فَكَانَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ: مَا مَنَعَهُ
أَنْ يُبَايِعَهُمْ وَيَخْرُجَ إِلَى الشَّامِ إِلا تَطَيُّرٌ،
لأَنَّ مَكَّةَ الَّتِي مَنَعَهُ اللَّهُ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ
مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ
سَارَ مَعَهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ الشَّامَ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ
مِنْهُمُ اثْنَانِ فَزَعَمَ بَعْضُ قُرَيْشٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا
أَهْدِرُ تِلَكَ الدِّمَاءَ! أَمَا وَاللَّهِ لا أَرْضَى أَنْ
أَقْتُلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشَرَةً، وَأَخَذَ الْحُصَيْنُ
يُكَلِّمُهُ سِرًّا، وَهُوَ يَجْهَرُ جَهْرًا، وَأَخَذَ يَقُولُ:
لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ
نُمَيْرٍ:
قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَعُدُّكَ بَعْدَ هَذِهِ دَاهِيًا قَطُّ أَوْ
أَدِيبًا! قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ لَكَ رَأْيًا أَلا أَرَانِي
أُكَلِّمُكَ سِرًّا وَتُكَلِّمُنِي جَهْرًا، وَأَدْعُوكَ إِلَى
الْخِلافَةِ، وَتَعِدُنِي الْقَتْلَ وَالْهَلَكَةَ! ثُمَّ قَامَ
فَخَرَجَ وَصَاحَ فِي النَّاسِ، فَأَقْبَلَ فِيهِمْ نَحْوَ
الْمَدِينَةِ، وَنَدِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الَّذِي صَنَعَ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَمَا أَنْ أَسِيرَ إِلَى الشَّامِ فَلَسْتُ
فَاعِلا، وَأَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَكِنْ بَايِعُوا
لِي هُنَالِكَ فَإِنِّي مُؤَمِّنُكُمْ وَعَادِلٌ فِيكُمْ.
فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ تُقْدِمْ
بِنَفْسِكَ، وَوَجَدْتُ هُنَالِكَ أُنَاسًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ
هَذَا الْبَيْتِ يَطْلُبُونَهَا يُجِيبُهُمُ النَّاسُ، فَمَا أَنَا
صَانِعٌ؟ فَأَقْبَلَ بِأَصْحَابِهِ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ
الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَهُ قَتٌّ وَشَعِيرٌ، وَهُوَ
عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَى الْحُصَيْنِ، فَلَمْ يَكَدْ
يلتفت
(5/502)
إِلَيْهِ، وَمَعَ الْحُصَيْنِ بْنِ
نُمَيْرٍ فَرَسٌ لَهُ عَتِيقٌ، وَقَدْ فَنِيَ قَتُّهُ وَشَعِيرُهُ،
فَهُوَ غَرَضٌ، وَهُوَ يَسُبُّ غُلامَهُ وَيَقُولُ: مِنْ أَيْنَ
نَجِدُ هُنَا لِدَابَّتِنَا عَلَفًا! فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ: هَذَا عَلَفٌ عِنْدَنَا، فَاعْلِفْ مِنْهُ
دَابَّتَكَ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عِنْدَ ذَلِكَ بِوَجْهِهِ،
فَأَمَرَ له بما كان عِنْدِهِ مِنْ عَلَفٍ، وَاجْتَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَذُلُّوا
حَتَّى كَانَ لا يَنْفَرِدُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا أَخَذَ بِلِجَامِ
دَابَّتِهِ ثُمَّ نَكَسَ عَنْهَا، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي
مُعَسْكَرِهِمْ فَلا يَفْتَرِقُونَ.
وَقَالَتْ لَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ: لا تَبْرَحُوا حَتَّى
تَحْمِلُونَا مَعَكُمْ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا، وَمَضَى ذَلِكَ
الْجَيْشُ حَتَّى دَخَلَ الشَّامَ، وَقَدْ أَوْصَى يَزِيدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْعَةِ لابْنِهِ معاويه ابن يَزِيدَ، فَلَمْ
يَلْبَثْ إِلا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ عَوَانَةُ: اسْتَخْلَفَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ابْنَهُ
مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا أَرْبَعِينَ
يَوْمًا حَتَّى مَاتَ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما
استخلف مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ وجمع عمال أَبِيهِ، وبويع لَهُ
بدمشق، هلك بِهَا بعد أربعين يَوْمًا من ولايته.
ويكنى أبا عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ أَبُو لَيْلَى، وأمه أم هاشم بنت
أبي هاشم ابن عتبة بن رَبِيعَة، وتوفي وَهُوَ ابن ثلاث عشرة سنة
وثمانية عشر يَوْمًا.
وفي هَذِهِ السنة بايع أهل الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد،
عَلَى أن يقوم لَهُمْ بأمرهم حَتَّى يصطلح الناس عَلَى إمام
يرتضونه لأنفسهم، ثُمَّ أرسل عُبَيْد اللَّهِ رسولا إِلَى
الْكُوفَةِ يدعوهم إِلَى مثل الَّذِي فعل من ذَلِكَ أهل
الْبَصْرَة، فأبوا عَلَيْهِ، وحصبوا الوالي الَّذِي كَانَ
عَلَيْهِم، ثُمَّ خالفه أهل الْبَصْرَة أَيْضًا، فهاجت
بِالْبَصْرَةِ فتنة، ولحق عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بالشام.
(5/503)
ذكر الخبر عما كَانَ من أمر عُبَيْد
اللَّهِ بن زياد وأمر أهل الْبَصْرَة مَعَهُ بِهَا بعد موت يَزِيد
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سلمة، عن عَلِيّ بن
زيد، عن الحسن، قال: كتب الضحاك ابن قيس إِلَى قيس بن الهيثم حين
مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة: سلام عَلَيْك، أَمَّا بَعْدُ، فإن
يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَدْ مات، وَأَنْتُمْ إخواننا، فلا تسبقونا
بشيء حَتَّى نختار لأنفسنا.
حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب
بن حماد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي عيينة، قَالَ:
حَدَّثَنِي شهرك، قَالَ: شهدت عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حين مات
يَزِيد بن مُعَاوِيَة قام خطيبا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا أهل البصره، انسبوني، فو الله لتجدن مهاجر والدي ومولدي فيكم،
وداري، وَلَقَدْ وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف
مقاتل وَلَقَدْ أحصى الْيَوْم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفا، وما
أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا، وَلَقَدْ أحصي الْيَوْم مائة
وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عَلَيْكُمْ إلا وَهُوَ
فِي سجنكم هَذَا وإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة
قَدْ توفي، وَقَدِ اختلف أهل الشام، وَأَنْتُمُ الْيَوْم أكثر
الناس عددا، وأعرضه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادا، فاختاروا
لأنفسكم رجلا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه
وتابع، فإن اجتمع أهل الشام عَلَى رجل ترتضونه، دخلتم فِيمَا دخل
فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وإن كرهتم ذَلِكَ كنتم عَلَى جديلتكم حَتَّى
تعطوا حاجتكم، فما بكم إِلَى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغني
الناس عنكم
(5/504)
فقامت خطباء أهل الْبَصْرَة فَقَالُوا:
قَدْ سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا وَاللَّهِ مَا نعلم أحدا أقوى
عَلَيْهَا مِنْكَ، فهلم فلنبايعك، فَقَالَ: لا حاجة لي فِي ذَلِكَ،
فاختاروا لأنفسكم، فأبوا عَلَيْهِ، وأبى عَلَيْهِم، حَتَّى كرروا
ذَلِكَ عَلَيْهِ ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه، ثُمَّ
انصرفوا بعد البيعة وهم يقولون: لا يظن ابن مرجانة أنا نستقاد لَهُ
فِي الجماعة والفرقة، كذب وَاللَّهِ! ثُمَّ وثبوا عَلَيْهِ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ زهير: قَالَ: حَدَّثَنَا وهب، قال وحدثنا
الأسود ابن شيبان، عن خَالِد بن سمير، أن شقيق بن ثور ومالك بن
مسمع وحضين ابن المنذر أتوا عُبَيْد اللَّهِ ليلا وَهُوَ فِي دار
الإمارة، فبلغ ذَلِكَ رجلا من الحي من بني سدوس، قَالَ: فانطلقت
فلزمت دار الإمارة، فلبثوا مَعَهُ حَتَّى مضى عَلَيْهِ الليل،
ثُمَّ خرجوا ومعهم بغل موقر مالا، قَالَ: فأتيت حضينا فقلت: مر لي
من هَذَا المال بشيء، فَقَالَ: عَلَيْك ببني عمك، فأتيت شقيقا
فقلت: مر لي من هَذَا المال بشيء- قَالَ: وعلى المال مولى لَهُ
يقال لَهُ: أيوب- فَقَالَ: يَا أيوب، أعطه مائة درهم، قلت: أما
مائة درهم وَاللَّهِ لا أقبلها، فسكت عني ساعة، وسار هنيهة، فأقبلت
عَلَيْهِ فقلت:
مر لي من هَذَا المال بشيء، فَقَالَ: يَا أيوب، أعطه مائتي درهم،
قلت:
لا اقبل والله مائتين، ثم امر بثلاثمائة ثم أربعمائة، فلما انتهينا
إِلَى الطفاوة قلت:
مر لي بشيء، قَالَ: أرأيت إن لم أفعل مَا أنت صانع؟ قلت: أنطلق
وَاللَّهِ حَتَّى إذا توسطت دور الحي وضعت إصبعي فِي أذني، ثُمَّ
صرخت بأعلى صوتي: يَا معشر بكر بن وائل، هَذَا شقيق بن ثور وحضين
بن المنذر ومالك بن المسمع، قَدِ انطلقوا إِلَى ابن زياد، فاختلفوا
فِي دمائكم، قَالَ:
مَا لَهُ فعل اللَّه بِهِ وفعل! ويلك أعطه خمسمائة درهم، قَالَ:
فأخذتها ثُمَّ صبحت غاديا عَلَى مالك- قَالَ وهب: فلم أحفظ مَا أمر
له به مالك- قال:
(5/505)
ثم رايت حضينا فدخلت عَلَيْهِ، فَقَالَ:
مَا صنع ابن عمك؟ فأخبرته وقلت:
أعطني من هَذَا المال، فَقَالَ: إنا قَدْ أخذنا هَذَا المال ونجونا
بِهِ، فلن نخشى مِنَ النَّاسِ شَيْئًا، فلم يعطني شَيْئًا.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَحَدَّثَنِي أَبُو عبيدة معمر بن المثنى أن
يونس بن حبيب الجرمي حدثه، قَالَ: لما قتل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد
الحسين بن على ع وبني أَبِيهِ، بعث برءوسهم إِلَى يَزِيد بن
مُعَاوِيَة، فسر بقتلهم أولا، وحسنت بِذَلِكَ منزلة عُبَيْد
اللَّهِ عنده، ثُمَّ لم يلبث إلا قليلا حَتَّى ندم عَلَى قتل
الْحُسَيْن، فكان يقول: وما كَانَ علي لو احتملت الأذى وأنزلته معي
فِي داري، وحكمته فِيمَا يريد، وإن كَانَ علي فِي ذَلِكَ وكف ووهن
في سلطاني، حفظا لرسول الله ص ورعاية لحقه وقرابته! لعن اللَّه ابن
مرجانة، فإنه أخرجه واضطره، وَقَدْ كَانَ سأله أن يخلي سبيله ويرجع
فلم يفعل، أو يضع يده فِي يدي، أو يلحق بثغر من ثغور
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يتوفاه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فلم يفعل، فأبى
ذَلِكَ ورده عَلَيْهِ وقتله، فبغضنى بقتله الى المسلمين، وزرع لي
في قلوبهم العداوة، فبغضني البر والفاجر، بِمَا استعظم الناس من
قتلي حسينا، مَا لي ولابن مرجانة لعنه اللَّه وغضب عَلَيْهِ! ثُمَّ
إن عبيد الله بعث مولى يقال لَهُ أيوب بن حمران إِلَى الشام ليأتيه
بخبر يَزِيد، فركب عُبَيْد اللَّهِ ذات يوم حَتَّى إذا كَانَ فِي
رحبة القصابين، إذا هُوَ بأيوب بن حمران قَدْ قدم، فلحقه فأسر
إِلَيْهِ موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فرجع عُبَيْد اللَّهِ من مسيره
ذَلِكَ فأتى منزله، وأمر عَبْد اللَّهِ بن حصن أحد بني ثعلبة بن
يربوع فنادى: الصَّلاة جامعة.
قَالَ أَبُو عبيدة: وأما عمير بن معن الكاتب، فَحَدَّثَنِي قَالَ:
الَّذِي بعثه عُبَيْد اللَّهِ، حمران مولاه، فعاد عُبَيْد اللَّهِ
عَبْد اللَّهِ بن نافع أخي زياد لأمه، ثُمَّ خرج عُبَيْد اللَّهِ
ماشيا من خوخة كَانَتْ فِي دار نافع إِلَى الْمَسْجِدِ، فلما كَانَ
فِي صحنه إذا هُوَ بمولاه حمران أدنى ظلمة عِنْدَ المساء- وَكَانَ
حمران رسول عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَى مُعَاوِيَةَ حياته وإلى
يَزِيد- فلما رآه ولم يكن آن
(5/506)
لَهُ أن يقدم- قَالَ: مهيم! قَالَ: خير،
قَالَ: وما وراءك؟ قَالَ: أدنو مِنْكَ؟ قَالَ: نعم- وأسر إِلَيْهِ
موت يَزِيد واختلاف أمر الناس بِالشَّامِ، وَكَانَ يَزِيد مات يوم
الخميس للنصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين- فأقبل عُبَيْد
اللَّهِ من فوره، فأمر مناديا فنادى: الصَّلاة جامعة، فلما اجتمع
الناس صعد الْمِنْبَر فنعى يَزِيد، وعرض بثلبه لقصد يَزِيد
إِيَّاهُ قبل موته حَتَّى يخافه عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ الأحنف
لعبيد اللَّه: إنه قَدْ كَانَتْ ليزيد فِي أعناقنا بيعة، وَكَانَ
يقال: أعرض عن ذي فنن، فأعرض عنه، ثُمَّ قام عُبَيْد اللَّهِ يذكر
اختلاف أهل الشام، وَقَالَ: إني قَدْ وليتكم ثُمَّ ذكر نحو حديث
عُمَر بن شَبَّةَ، عن زهير بن حرب إِلَى: فبايعوه عن رضا مِنْهُمْ
ومشورة.
ثُمَّ قَالَ: فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بباب الدار
وحيطانه، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا فِي الفرقة!
قَالَ: فأقام عُبَيْد اللَّهِ أميرا غير كثير حَتَّى جعل سلطانه
يضعف، ويأمرنا بالأمر فلا يقضى، ويرى الرأي فيرد عَلَيْهِ، ويأمر
بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه.
قَالَ أَبُو عبيدة: فسمعت غيلان بن مُحَمَّد يحدث عن عُثْمَان
البتي، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جوشن، قَالَ: تبعت
جنازة فلما كَانَ فِي سوق الإبل إذا رجل عَلَى فرس شهباء متقنع
بسلاح وفي يده لواء، وَهُوَ يقول: أَيُّهَا النَّاسُ، هلموا إلي
أدعكم إِلَى مَا لم يدعكم إِلَيْهِ أحد، أدعوكم إِلَى العائذ
بالحرم- يعني عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ قَالَ: فتجمع إِلَيْهِ
نويس، فجعلوا يصفقون عَلَى يديه، ومضينا حَتَّى صلينا عَلَى
الجنازة، فلما رجعنا إذا هُوَ قَدِ انضم إِلَيْهِ أكثر من الأولين،
ثُمَّ أخذ بين دار قيس بن الهيثم بن أسماء بن الصلت السلمي ودار
الحارثيين قبل بني تميم فِي الطريق الَّذِي يأخذ عَلَيْهِم،
فَقَالَ: أَلا من أرادني فأنا سلمة بن ذؤيب- وَهُوَ سلمة بن ذؤيب
بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محكم بن زَيْد بن رياح بن يربوع بن حنظلة-
قَالَ: فلقيني عبد الرَّحْمَن بن بكر عِنْدَ الرحبة،
(5/507)
فأخبرته بخبر سلمة بعد رجوعي، فأتى عبد
الرَّحْمَن عُبَيْد اللَّهِ فحدثه بالحديث عني، فبعث إلي، فأتيته،
فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي خبر بِهِ عنك أَبُو بحر؟
قَالَ: فاقتصصت عَلَيْهِ القصة حَتَّى أتيت عَلَى آخرها، فأمر
فنودي عَلَى المكان:
الصَّلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أمره وأمرهم،
وما قَدْ كَانَ دعاهم إِلَى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وإنكم أبيتم
غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم مَا
قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين
أعواني وطلبتي، ثُمَّ هَذَا سلمة بن ذؤيب يدعو إِلَى الخلاف
عَلَيْكُمْ، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف
فقال الأحنف صخر بن قيس ابن مُعَاوِيَة بن حصين بن عبادة بن النزال
بن مُرَّةَ بن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ
زَيْد مناة بن تميم، والناس جميعا: نحن نأتيك بسلمة، فأتوا سلمة،
فإذا جمعه قَدْ كثف، وإذا الفتق قَدِ اتسع عَلَى الراتق، وامتنع
عَلَيْهِم، فلما رأوا ذَلِكَ قعدوا عن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فلم
يأتوه.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي غير واحد، عن سبرة بن الجارود
الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِيهِ الجارود، قَالَ: وَقَالَ عُبَيْد
اللَّهِ فِي خطبته: يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لقد لبسنا الخز
واليمنة واللين من الثياب حَتَّى لقد أجمنا ذَلِكَ وأجمته جلودنا،
فما بنا إِلَى أن نعقبها الحديد! يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لو
اجتمعتم عَلَى ذنب عير لتكسروه ما كسرتموه قال الجارود: فو الله
مَا رمي بجماح حَتَّى هرب، فتوارى عِنْدَ مسعود فلما قتل مسعود لحق
بِالشَّامِ.
قَالَ يونس: وَكَانَ فِي بيت مال عُبَيْد اللَّهِ يوم خطب الناس
قبل خروج سلمة ثمانية آلاف ألف أو أقل- وَقَالَ عَلِيّ بن
مُحَمَّد: تسعة عشر ألف
(5/508)
الف- فقال للناس: ان هذا فيئكم، فخذوا
أعطياتكم وأرزاق ذراريكم مِنْهُ، وأمر الكتبة بتحصيل الناس وتخريج
الأسماء، واستعجل الكتاب فِي ذَلِكَ حَتَّى وكل بهم من يحبسهم
بالليل فِي الديوان، وأسرجوا بالشمع.
قَالَ: فلما صنعوا مَا صنعوا وقعدوا عنه، وَكَانَ من خلاف سلمة
عَلَيْهِ مَا كَانَ، كف عن ذَلِكَ، ونقلها حين هرب، فهي إِلَى
الْيَوْم تردد فِي آل زياد، فيكون فِيهِمُ العرس أو المأتم فلا يرى
فِي قريش مثلهم، وَلا فِي قريش أحسن مِنْهُمْ فِي الغضارة والكسوة
فدعا عُبَيْد اللَّهِ رؤساء خاصة السلطان، فأرادهم أن يقاتلوا
مَعَهُ، فَقَالُوا: إن أمرنا قوادنا قاتلنا معك، فَقَالَ إخوة
عُبَيْد اللَّهِ لعبيد اللَّه: وَاللَّهِ مَا من خليفة فتقاتل عنه
فإن هزمت فئت إِلَيْهِ وإن استمددته أمدك، وَقَدْ علمت أن الحرب
دول، فلا ندري لعلها تدول عَلَيْك، وَقَدِ اتخذنا بين أظهر
هَؤُلاءِ القوم أموالا، فإن ظفروا أهلكونا وأهلكوها، فلم تبق لك
باقية وَقَالَ لَهُ أخوه عَبْد اللَّهِ لأبيه وأمه مرجانة:
وَاللَّهِ لَئِنْ قاتلت القوم لأعتمدن عَلَى ظبة السيف حَتَّى يخرج
من صلبي فلما رَأَى ذَلِكَ عُبَيْد اللَّهِ أرسل إِلَى حارث بن قيس
بن صهبان بن عون بن علاج بن مازن بن أسود بن جهضم بن جذيمة بن مالك
بن فهم، فَقَالَ لَهُ: يَا حار، إن أبي كَانَ أوصاني إن احتجت
إِلَى الهرب يَوْمًا أن اختاركم، وإن نفسي تأبى غيركم، فَقَالَ
الْحَارِث: قَدْ أبلوك فِي أبيك ما قد علمت، وابلوه فلم يجدوا عنده
وَلا عندك مكافأة، وما لك مرد إذا اخترتنا، وما أدري كيف أتاني لك
إن أخرجتك نهارا! إني أخاف أَلا أصل بك إِلَى قومي حَتَّى تقتل
وأقتل، ولكني أقيم معك حَتَّى إذا وارى دمس دمسا وهدأت القدم، ردفت
خلفي لئلا تعرف، ثُمَّ أخذتك عَلَى أخوالي بني ناجية،
(5/509)
قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: نعم مَا رأيت،
فأقام حتى إذا قيل: أخوك أم الذئب، حمله خلفه، وَقَدْ نقل تِلَكَ
الأموال فأحرزها، ثُمَّ انطلق بِهِ يمر بِهِ عَلَى الناس، وكانوا
يتحارسون مخافة الحرورية فيسأل عُبَيْد اللَّهِ أين نحن؟ فيخبره،
فلما كَانُوا فِي بني سليم قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: أين نحن؟ قَالَ:
فِي بني سليم، قَالَ:
سلمنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلما أتى بني ناجيه قال: اين نحن؟ قال:
في بني ناجية، قَالَ: نجونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فقال بنو ناجية:
من أنت؟ قَالَ: الْحَارِث بن قيس، قَالُوا: ابن أختكم، وعرف رجل
مِنْهُمْ عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ: ابن مرجانة! فأرسل سهما فوقع
فِي عمامته، ومضى بِهِ الْحَارِث حَتَّى ينزله دار نفسه فِي
الجهاضم، ثُمَّ مضى إِلَى مسعود بن عَمْرو بن عدي بن محارب بن صنيم
بن مليح بن شرطان بن معن بن مالك بن فهم، فَقَالَتِ الأزد
ومُحَمَّد بن أبي عيينة، فلما رآه مسعود قَالَ: يَا حار، قَدْ
كَانَ يتعوذ من سوء طوارق الليل، فنعوذ بِاللَّهِ من شر مَا طرقتنا
بِهِ، قَالَ الْحَارِث: لم أطرقك إلا بخير، وَقَدْ علمت أن قومك
قَدْ أنجوا زيادا فوفوا لَهُ، فصارت لَهُمْ مكرمة فِي العرب
يفتخرون بِهَا عَلَيْهِم، وَقَدْ بايعتم عُبَيْد اللَّهِ بيعة
الرضا، رضا عن مشورة، وبيعة أخرى قَدْ كَانَتْ فِي أعناقكم قبل
البيعة- يعني بيعة الجماعة- فَقَالَ لَهُ مسعود:
يَا حار، أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا فِي عُبَيْد اللَّهِ، وَقَدْ
أبلينا فِي أَبِيهِ مَا أبلينا، ثُمَّ لم نكافأ عَلَيْهِ، ولم
نشكر! مَا كنت أحسب أن هَذَا من رأيك، قَالَ الْحَارِث: إنه لا
يعاديك أحد عَلَى الوفاء ببيعتك حَتَّى تبلغه مأمنه.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما عمر فَحَدَّثَنِي قَالَ: حَدَّثَنِي
زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أبي، عن الزُّبَيْر بن الخريت، عن أبي لبيد الجهضمي، عن
الْحَارِث بن قيس، قَالَ: عرض نفسه- يعني عُبَيْد اللَّهِ بن زياد-
علي، فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إني لأعرف سوء رأي كَانَ فِي قومك،
قال: فوقفت لَهُ، فأردفته عَلَى بغلتي- وَذَلِكَ ليلا- فأخذت عَلَى
بني سليم، فَقَالَ: من هَؤُلاءِ؟ قلت: بنو سليم، قَالَ: سلمنا إِنْ
شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مررنا ببني ناجية وهم جلوس ومعهم السلاح-
وَكَانَ الناس
(5/510)
يتحارسون إذ ذاك فِي مجالسهم- فَقَالُوا:
من هَذَا؟ قلت: الْحَارِث بن قيس، قَالُوا: امض راشدا، فلما مضينا
قَالَ رجل مِنْهُمْ: هَذَا وَاللَّهِ ابن مرجانة خلفه، فرماه بسهم،
فوضعه فِي كور عمامته، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد، من هَؤُلاءِ؟
قَالَ: الَّذِينَ كنت تزعم أَنَّهُمْ من قريش، هَؤُلاءِ بنو ناجية،
قَالَ: نجونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا حارث، إنك قَدْ
أحسنت وأجملت، فهل أنت صانع ما أشير عَلَيْك؟ قَدْ علمت منزلة
مسعود بن عَمْرو فِي قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه لَهُ، فهل لك أن
تذهب بي إِلَيْهِ فأكون فِي داره، فهي وسط الأزد، فإنك إن لم تفعل
صدع عَلَيْك أمر قومك، قلت: نعم، فانطلقت بِهِ، فما شعر مسعود بشيء
حَتَّى دخلنا عَلَيْهِ وَهُوَ جالس ليلتئذ يوقد بقضيب عَلَى لبنة،
وَهُوَ يعالج خفيه قَدْ خلع أحدهما وبقي الآخر، فلما نظر فِي
وجوهنا عرفنا وَقَالَ: إنه كَانَ يتعوذ من طوارق السوء، فقلت لَهُ:
أفتخرجه بعد ما دخل عَلَيْك بيتك! قَالَ: فأمره فدخل بيت عبد
الغافر بن مسعود- وامرأة عبد الغافر يَوْمَئِذٍ خيرة بنت خفاف بن
عَمْرو- قَالَ: ثُمَّ ركب مسعود من ليلته وَمَعَهُ الْحَارِث
وجماعة من قومه، فطافوا فِي الأزد ومجالسهم، فَقَالُوا: إن ابن
زياد قَدْ فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا بِهِ، فأصبحوا فِي السلاح،
وفقد الناس ابن زياد فَقَالُوا: أين توجه؟ فَقَالُوا: مَا هُوَ إلا
فِي الأزد.
قَالَ وهب: فحدثنا أَبُو بَكْر بن الفضل، عن قبيصة بن مروان انهم
جعلوا يقولون: أين ترونه توجه؟ فَقَالَتْ عجوز من بني عقيل: أين
ترونه توجه! اندحس وَاللَّهِ فِي أجمة أَبِيهِ.
وكانت وفاة يَزِيد حين جاءت ابن زياد وفي بيوت مال الْبَصْرَة ستة
عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد طائفة منها فِي بني أَبِيهِ، وحمل
الباقي مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ دعا البخارية إِلَى القتال مَعَهُ،
ودعا بني زياد إِلَى ذَلِكَ فأبوا عَلَيْهِ.
حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عن عَبْد اللَّهِ بن جرير المازني،
قَالَ: بعث إلي شقيق بن ثور فَقَالَ لي: إنه قَدْ بلغني أن ابن
منجوف هَذَا وابن مسمع يدلجان بالليل إِلَى دار
(5/511)
مسعود ليردا ابن زياد إِلَى الدار ليصلوا
بين هذين الغارين، فيهريقوا دماءكم، ويعزوا أنفسهم، وَلَقَدْ هممت
أن أبعث إِلَى ابن منجوف فأشده وثاقا، وأخرجه عنى، فاذهب الى مسعود
فاقرا ع مني، وَقل لَهُ: إن ابن منجوف وابن مسمع يفعلان كذا وكذا،
فأخرج هَذَيْنِ الرجلين عنك قَالَ:
وَكَانَ مَعَهُ عُبَيْد اللَّهِ وعبد اللَّه ابنا زياد قَالَ:
فدخلت عَلَى مسعود وابنا زياد عنده: أحدهما عن يمينه، والآخر عن
شماله، فقلت: السلام عَلَيْك أبا قيس، قَالَ: وعليك السلام، قلت:
بعثني إليك شقيق بن ثور يقرأ عَلَيْك السلام ويقول لك: إنه بلغني،
فرد الكلام بعينه إلي فأخرجهما عنك، قال مسعود: والله فعلت ذاك،
فقال عبيد اللَّهِ: كيف أبا ثور- ونسي كنيته، إنما كان يكنى أبا
الفضل- فَقَالَ أخوه عَبْد اللَّهِ: إنا وَاللَّهِ لا نخرج عنكم،
قَدْ أجرتمونا، وعقدتم لنا ذمتكم، فلا نخرج حَتَّى نقتل بين
أظهركم، فيكون عارا عَلَيْكُمْ إِلَى يوم الْقِيَامَة.
قَالَ وهب: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بن الخريت، عن أبي لبيد، أن أهل
الْبَصْرَة اجتمعوا فقلدوا أمرهم النُّعْمَان بن صهبان الراسبي
ورجلا من مضر ليختارا لَهُمْ رجلا فيولوه عَلَيْهِم، وَقَالُوا: من
رضيتما لنا فقد رضيناه وَقَالَ غير أبي لبيد: الرجل المضري قيس بن
الهيثم السلمي قَالَ أَبُو لبيد: ورأي المضري فِي بني أُمَيَّة،
ورأي النُّعْمَان فِي بني هاشم، فَقَالَ النُّعْمَان: مَا أَرَى
أحدا أحق بهذا الأمر من فلان- لرجل من بني أُمَيَّة- قَالَ:
وَذَلِكَ رأيك؟
قَالَ: نعم، قَالَ: قَدْ قلدتك أمري، ورضيت من رضيت ثُمَّ خرجا
إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ المضري: قَدْ رضيت من رضي النُّعْمَان،
فمن سمى لكم فأنا بِهِ راض، فَقَالُوا للنعمان: مَا تقول! فَقَالَ:
مَا أَرَى أحدا غير عبد الله ابن الْحَارِث- وَهُوَ ببة- فَقَالَ
المضري: مَا هَذَا الَّذِي سميت لي؟ قَالَ:
بلى، لعمري إنه لهو، فرضي الناس بعبد اللَّه وبايعوه.
قَالَ أَصْحَابنا: دعت مضر إِلَى العباس بن الأَسْوَدِ بْنِ عوف
الزُّهْرِيّ، ابن أخي عبد الرَّحْمَن بن عوف، ودعت اليمن إِلَى
عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، فتراضى الناس إن حكموا قيس بن
الهيثم والنعمان بن صهبان الراسبي لينظرا فِي أمر الرجلين، فاتفق
(5/512)
رأيهما على أن يوليا المضري الهاشمي إِلَى
أن يجتمع أمر الناس عَلَى إمام، فقيل فِي ذَلِكَ:
نزعنا وولينا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
فلما أمروا ببة عَلَى الْبَصْرَة ولى شرطته هميان بن عدي السدوسي.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما أَبُو عبيدة فإنه- فِيمَا حَدَّثَنِي
مُحَمَّد بن علي، عن أبي سعدان، عنه- قص من خبر مسعود وعبيد اللَّه
بن زياد وأخيه غير القصة الَّتِي قصها وهب بن جرير، عمن روى
عَنْهُمْ خبرهم، قال: حدثنى مسلمه ابن محارب بن سلم بن زياد وغيره
من آل زياد، عمن أدرك ذَلِكَ مِنْهُمْ ومن مواليهم والقوم أعلم
بحديثهم، أن الْحَارِث بن قيس لم يكلم مسعودا، ولكنه آمن عُبَيْد
اللَّهِ، فحمل مَعَهُ مائة ألف درهم، ثُمَّ أتى بِهَا إِلَى أم
بسطام امرأة مسعود، وَهِيَ بنت عمه، وَمَعَهُ عُبَيْد اللَّهِ وعبد
اللَّه ابنا زياد، فاستأذن عَلَيْهَا، فأذنت لَهُ، فَقَالَ لها
الْحَارِث: قَدْ أتيتك بأمر تسودين بِهِ نساءك وتتمين بِهِ شرف
قومك، وتعجلين غنى ودنيا لك خاصة، هَذِهِ مائة ألف درهم فاقبضيها،
فهي لك، وضمي عُبَيْد اللَّهِ قالت، إني أخاف أَلا يرضى مسعود
بِذَلِكَ وَلا يقبله، فَقَالَ الْحَارِث: ألبسيه ثوبا من أثوابي،
وأدخليه بيتك، وخلي بيننا وبين مسعود، فقبضت المال، وفعلت، فلما
جَاءَ مسعود أخبرته، فأخذ برأسها، فخرج عُبَيْد اللَّهِ والحارث من
حجلتها عَلَيْهِ، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: قَدْ أجارتني ابنة عمك
عَلَيْك، وهذا ثوبك علي، وطعامك فِي بطني، وَقَدِ التف علي بيتك،
وشهد لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَارِث، وتلطفا لَهُ حَتَّى رضي.
قَالَ أَبُو عبيدة: وأعطى عُبَيْد اللَّهِ الْحَارِث نحوا من خمسين
ألفا، فلم يزل عُبَيْد اللَّهِ فِي بيت مسعود حَتَّى قتل مسعود،
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي يَزِيد بن سمير الجرمي، عن سوار
بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيد الجرمي، قَالَ: فلما هرب عُبَيْد
اللَّهِ غبر أهل الْبَصْرَة بغير أَمِير، فاختلفوا فيمن يؤمرون
عَلَيْهِم، ثُمَّ تراضوا برجلين يختاران لَهُمْ خيرة، فيرضون بِهَا
إذا اجتمعا عَلَيْهَا، فتراضوا بقيس بن الهيثم السلمي، وبنعمان بن
سفيان الراسبى- راسب بن جرم
(5/513)
ابن ربان بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن
قضاعة- أن يختارا من يرضيان لَهُمْ، فذكرا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِث بْن عبد المطلب- وأمه هند
بنت أبي سُفْيَان بن حرب بن أُمَيَّة- وكان يلقب ببه، وهو جد
سليمان ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث، وذكرا عَبْد اللَّهِ بن
الأَسْوَدِ الزُّهْرِيّ فلما أطبقا عليهما اتعدا المربد، وواعدا
الناس أن تجتمع آراؤهم عَلَى أحد هَذَيْنِ.
قَالَ: فحضر الناس، وحضرت معهم قارعه المربد، اى اعلاه، فجاء قيس
ابن الهيثم، ثُمَّ جَاءَ النُّعْمَان بعد، فتجاول قيس والنعمان،
فأرى النُّعْمَان قيسا أن هواه فِي ابن الأسود، ثُمَّ قَالَ: إنا
لا نستطيع أن نتكلم معا، وأراده أن يجعل الكلام إِلَيْهِ، ففعل قيس
وَقَدِ اعتقد أحدهما عَلَى الآخر، فأخذ النُّعْمَان عَلَى الناس
عهدا ليرضون بِمَا يختار قَالَ: ثُمَّ أتى النُّعْمَان عَبْد الله
ابن الأَسْوَدِ فأخذ بيده، وجعل يشترط عَلَيْهِ شرائط حَتَّى ظن
الناس أنه مبايعه، ثُمَّ تركه، وأخذ بيد عَبْد اللَّهِ بن
الْحَارِث، فاشترط عَلَيْهِ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ حمد اللَّه تعالى
واثنى عليه، وذكر النبي ص وحق أهل بيته وقرابته، ثُمَّ قَالَ: يا
أيها الناس، مَا تنقمون من رجل من بنى عم نبيكم ص، وأمه هند بنت
أبي سُفْيَان! فإن كَانَ فِيهِمْ فهو ابن أختكم، ثُمَّ صفق عَلَى
يده وَقَالَ: أَلا إني قَدْ رضيت لكم بِهِ، فنادوا: قَدْ رضينا،
فأقبلوا بعبد اللَّه بن الْحَارِث إِلَى دار الإمارة حَتَّى نزلها،
وَذَلِكَ فِي أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَى شرطته هيمان بن عدي السدوسي، ونادى فِي الناس: أن احضروا
البيعة، فحضروا فبايعوه، فَقَالَ الفرزدق حين بايعه:
وبايعت أقواما وفيت بعهدهم ... وبَبَّة قَدْ بايعته غير نادم
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، عن عَمْرو بن
عِيسَى، قَالَ: كَانَ منزل مالك بن مسمع الجحدري فِي الباطنة
عِنْدَ باب عَبْد اللَّهِ الإصبهاني فِي خط بنى جحدر، الَّذِي
عِنْدَ مسجد الجامع، فكان مالك يحضر المسجد، فبينا هُوَ قاعد
فِيهِ- وَذَلِكَ بعد يسير من أمر ببة- وافى الحلقة
(5/514)
رجل من ولد عَبْد اللَّهِ عَامِر بن كريز
القرشي يريد ببة، وَمَعَهُ رسالة من عبد الله ابن خازم، وبيعته
بهراة، فتنازعوا، فأغلظ القرشي لمالك، فلطم رجل من بكر بن وائل
القرشي، فتهايج من ثُمَّ من مضر وربيعة، وكثرتهم رَبِيعَة
الَّذِينَ فِي الحلقة، فنادى رجل: يال تميم! فسمعت الدعوة عصبه من
ضبة ابن أد- كَانُوا عِنْدَ القاضي- فأخذوا رماح حرس من المسجد
وترستهم، ثُمَّ شدوا عَلَى الربعيين فهزموهم، وبلغ ذَلِكَ شقيق بن
ثور السدوسي- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ رئيس بكر بن وائل- فأقبل إِلَى
الْمَسْجِدِ فَقَالَ: لا تجدن مضريا إلا قتلتموه، فبلغ ذَلِكَ مالك
بن مسمع، فأقبل متفضلا يسكن الناس، فكف بعضهم عن بعض، فمكث الناس
شهرا أو أقل، وَكَانَ رجل من بني يشكر يجالس رجلا من بني ضبة فِي
المسجد، فتذاكرا لطمة البكري القرشي، ففخر اليشكري قال: ثم قال:
ذهبت ظلفا فأحفظ الضبي بِذَلِكَ، فوجأ عنقه، فوقذه الناس فِي
الجمعة، فحمل إِلَى أهله ميتا- أعني اليشكري- فثارت بكر إِلَى
رأسهم أشيم بن شقيق، فَقَالُوا: سر بنا، فَقَالَ: بل أبعث
إِلَيْهِم رسولا، فإن سيبوا لنا حقنا وإلا سرنا إِلَيْهِم، فأبت
ذَلِكَ بكر، فأتوا مالك بن مسمع- وَقَدْ كَانَ قبل ذَلِكَ مملكا
عليهم قبل اشيم، فغلب اشيم على الرياسة حين شخص أشيم إِلَى يَزِيد
بن مُعَاوِيَة، فكتب لَهُ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد أن ردوا
الرياسة إِلَى أشيم، فأبت اللهازم، وهم بنو قيس بن ثعلبة وحلفاؤهم
عنزة وشيع اللات وحلفاؤها عجل حتى توافوهم وآل ذهل بن شيبان
وحلفاؤها يشكر، وذهل بن ثعلبة وحلفاؤها ضبيعة بن رَبِيعَة بن نزار،
أربع قبائل وأربع قبائل، وَكَانَ هَذَا الحلف فِي أهل الوبر فِي
الْجَاهِلِيَّة، فكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت فِي
الْجَاهِلِيَّة فِي هَذَا الحلف، لأنهم أهل مدر، فدخلوا فِي
الإِسْلام مع أخيهم عجل، فصاروا لهزمة، ثُمَّ تراضوا بحكم عِمْرَان
بن عصام العنزي أحد بني هميم، وردها إِلَى أشيم، فلما كَانَتْ
هَذِهِ الْفِتْنَة استخفت بكر مالك بن مسمع، فخف وجمع وأعد،
(5/515)
فطلب إِلَى الأزد أن يجددوا الحلف الَّذِي
كَانَ بينهم قبل ذَلِكَ فِي الجماعة عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة،
فَقَالَ حَارِثَة بن بدر فِي ذَلِكَ:
نزعنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
وما بات بكريّ من الدهر ليلة ... فيصبح إلا وَهْوَ للذل عارف
قَالَ: فبلغ عُبَيْد اللَّهِ الخبر- وَهُوَ فِي رحل مسعود- من
تباعد مَا بين بكر وتميم، فَقَالَ لمسعود: الق مالكا فجدد الحلف
الأول، فلقيه، فترادا ذَلِكَ، وتأبى عليهما نفر من هَؤُلاءِ
وأولئك، فبعث عُبَيْد اللَّهِ أخاه عَبْد اللَّهِ مع مسعود، فأعطاه
جزيلا من المال، حَتَّى أنفق فِي ذَلِكَ أكثر من مائتي ألف درهم
عَلَى أن يبايعوهما، وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ لأخيه: استوثق من
القوم لأهل اليمن، فجددوا الحلف وكتبوا بينهم كتابا سوى الكتابين
اللذين كانا كتبا بينهما فِي الجماعة، فوضعوا كتابا عِنْدَ مسعود
بن عَمْرو.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي بعض ولد مسعود، أن أول تسمية من
فِيهِ، الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، ووضعوا كتابا عِنْدَ الصلت
بن حريث أول تسميته ابن رجاء العوذي، من عوذ بن سود، وَقَدْ كَانَ
بينهم قبل هَذَا حلف.
قَالَ أَبُو عبيدة: وزعم مُحَمَّد بن حفص ويونس بن حبيب وهبيرة بن
حدير وزهير بن هنيد، أن مضر كَانَتْ تكثر رَبِيعَة بِالْبَصْرَةِ،
وكانت جماعة الأزد آخر من نزل بِالْبَصْرَةِ، كَانُوا حَيْثُ مصرت
الْبَصْرَة، فحول عُمَر بن الْخَطَّابِ رحمه اللَّه من تنوخ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْبَصْرَة، وأقامت جماعة الأزد لم يتحولوا،
ثُمَّ لحقوا بِالْبَصْرَةِ بعد ذَلِكَ فِي آخر خلافة مُعَاوِيَة،
وأول خلافة يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلما قدموا قالت بنو تميم
للأحنف: بادر إِلَى هَؤُلاءِ قبل أن تسبقنا إِلَيْهِم رَبِيعَة،
وَقَالَ الأحنف: إن أتوكم فاقبلوهم، وإلا لا تأتوهم فإنكم إن
أتيتموهم صرتم لَهُمْ أتباعا فأتاهم مالك بن مسمع ورئيس الأزد
يَوْمَئِذٍ مسعود بن عَمْرو المعني، فَقَالَ مالك: جددوا حلفنا
وحلف كندة فِي الْجَاهِلِيَّة، وحلف بني ذهل بن ثعلبة فِي طيئ بن
أدد من ثعل،
(5/516)
فقال الأحنف: اما إذ أتوهم فلن يزالوا
لَهُمْ أتباعا أذنابا.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي هبيرة بن حدير، عن إِسْحَاق بن
سويد، قَالَ:
فلما أن جرت بكر إِلَى نصر الأزد عَلَى مضر، وجددوا الحلف الأول،
وأرادوا أن يسيروا، قالت الأزد: لا نسير معكم إلا أن يكون الرئيس
منا، فرأسوا مسعودا عَلَيْهِم.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي مسلمة بن محارب، قَالَ: قَالَ
مسعود لعبيد اللَّه:
سر معنا حَتَّى نعيدك فِي الدار، فَقَالَ: مَا أقدر عَلَى ذَلِكَ،
امض أنت، وأمر برواحله فشدوا عَلَيْهَا أدواتها وسوادها، وتزمل فِي
أهبة السفر، وألقوا لَهُ كرسيا عَلَى باب مسعود، فقعد عَلَيْهِ،
وسار مسعود، وبعث عُبَيْد اللَّهِ غلمانا لَهُ عَلَى الخيل مع
مسعود، وَقَالَ لَهُمْ: إني لا أدري مَا يحدث فأقول: إذا كَانَ
كذا، فليأتني بعضكم بالخبر، ولكن لا يحدثن خير وَلا شر إلا أتاني
بعضكم بِهِ، فجعل مسعود لا يأتي عَلَى سكة، وَلا يتجاوز قبيلة إلا
أتى بعض أُولَئِكَ الغلمان بخبر ذَلِكَ، وقدم مسعود رَبِيعَة،
وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا جميعا سكة المربد، فَجَاءَ مسعود
حَتَّى دخل المسجد، فصعد الْمِنْبَر، وعبد اللَّه بن الْحَارِث فِي
دار الإمارة، فقيل لَهُ: إن مسعودا وأهل اليمن وربيعة قَدْ ساروا،
وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بنى تميم عليهم!
فقال: أبعدهم اللَّه! لا وَاللَّهِ لا أفسدت نفسي فِي إصلاحهم،
وجعل رجل من أَصْحَاب مسعود يقول:
لأنكحن ببه ... جارية فِي قبه
تمشط رأس لعبه.
فهذا قول الأزد وربيعة، فأما مضر فيقولون: إن أمه هند بنت أبي
سُفْيَان كَانَتْ ترقصه وتقول هَذَا، فلما لم يحل أحد بين مسعود
وبين صعود الْمِنْبَر، خرج مالك بن مسمع فِي كتيبته حَتَّى علا
الجبان من سكة المربد، ثُمَّ جعل يمر بعداد دور بني تميم حَتَّى
دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فجعل يحرق دورهم للشحناء
الَّتِي فِي صدورهم، لقتل الضبي اليشكري، ولاستعراض ابن خازم
رَبِيعَة بهراة، قَالَ: فبينا هُوَ فِي ذَلِكَ إذ أتوه فقالوا:
قتلوا
(5/517)
مسعودا، وَقَالُوا: سارت بنو تميم إِلَى
مسعود، فاقبل حتى إذا كَانَ عِنْدَ مسجد بني قيس فِي سكة المربد،
وبلغه قتل مسعود، وقف.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، قَالَ: حَدَّثَنَا
الضحاك- أو الوضاح بن خيثمة أحد بني عَبْد اللَّهِ بن دارم- قَالَ:
حَدَّثَنِي مالك بن دينار، قَالَ: ذهبت فِي الشباب الَّذِينَ ذهبوا
إِلَى الأحنف ينظرون، قَالَ: فأتيته وأتته بنو تميم، فَقَالُوا: إن
مسعودا قَدْ دخل الدار وأنت سيدنا، فَقَالَ:
لست بسيدكم، إنما سيدكم الشَّيْطَان.
وأما هبيرة بن حدير، فَحَدَّثَنِي عن إسحاق بن سويد العدوى، قال:
اتيت منزل الأحنف فِي النظارة، فأتوا الأحنف فَقَالُوا: يا أبا
بحر، وان رَبِيعَة والأزد قَدْ دخلوا الرحبة، فَقَالَ: لستم بأحق
بالمسجد مِنْهُمْ، ثُمَّ أتوه فَقَالُوا: قَدْ دخلوا الدار، فقال:
لستم بأحق بالدار مِنْهُمْ، فتسرع سلمة بن ذؤيب الرياحي، فَقَالَ:
إلي يَا معشر الفتيان، فإنما هَذَا جبس لا خير لكم عنده، فبدرت
ذؤبان بني تميم فانتدب معه خمسمائة، وهم مع ماه أفريذون، فَقَالَ
لَهُمْ سلمة: أين تريدون؟ قَالُوا: إياكم أردنا، قَالَ: فتقدموا.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، عن ابى نعامة، عن
ناشب ابن الحسحاس وحميد بن هلال، قَالا: أتينا منزل الأحنف بحضرة
المسجد، قَالا: فكنا فيمن ينظر، فأتته امرأة بمجمر فَقَالَتْ: مَا
لك وللرئاسة! تجمر فإنما أنت امرأة، فَقَالَ: است المرأة أحق
بالمجمر، فأتوه فَقَالُوا:
إن علية بنت ناجية الرياحي- وَهِيَ أخت مطر، وَقَالَ آخرون: عزة
بنت الحر الرياحية- قَدْ سلبت خلاخيلها من ساقيها، وَكَانَ منزلها
شارعا فِي رحبة بني تميم عَلَى الميضأة، وَقَالُوا: قتلوا الصباغ
الَّذِي عَلَى طريقك، وقتلوا المقعد الَّذِي كَانَ عَلَى باب
المسجد، وَقَالُوا: إن مالك بن مسمع قَدْ دخل سكة بني العدوية من
قبل الجبان، فحرق دورا، فَقَالَ الأحنف: أقيموا البينة عَلَى
هَذَا، ففي دون هَذَا مَا يحل قتالهم، فشهدوا عنده عَلَى ذَلِكَ،
(5/518)
فَقَالَ الأحنف: أجاء عباد؟ وَهُوَ عباد بن
حصين بن يَزِيدَ بن عَمْرو بن أوس بن سيف بن عزم بن حلزة بن بيان
بن سَعْدِ بْنِ الْحَارِث الحبطة بن عمرو ابن تميم، قَالُوا: لا،
ثُمَّ مكث غير طويل، فَقَالَ: أجاء عباد؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فهل
هاهنا عبس بن طلق بن رَبِيعَة بن عَامِر بن بسطام بن الحكم ابن
ظالم بن صريم بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد؟ فَقَالُوا:
نعم، فدعاه، فانتزع معجرا فِي رأسه، ثُمَّ جثا عَلَى ركبتيه، فعقده
فِي رمح ثُمَّ دفعه إِلَيْهِ، فَقَالَ: سر قَالا: فلما ولي قَالَ:
اللَّهُمَّ لا تخزها الْيَوْم، فإنك لم تخزها فِيمَا مضى وصاح
الناس: هاجت زبراء- وزبراء أمة للأحنف، وإنما كنوا بِهَا عنه-
قَالا: فلما سار عبس جَاءَ عباد فِي ستين فارسا فسأل، مَا صنع
الناس؟ فَقَالُوا: ساروا، قَالَ: ومن عَلَيْهِم؟ قَالُوا: عبس بن
طلق الصريمي، فَقَالَ عباد: أنا أسير تحت لواء عبس! فرجع والفرسان
إِلَى أهله.
فَحَدَّثَنِي زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ريحانة العريني،
قَالَ: كنت يوم قتل مسعود تحت بطن فرس الزرد بن عَبْدِ اللَّهِ
السعدي أعدو حَتَّى بلغنا شريعة القديم.
قَالَ إِسْحَاق بن سويد: فأقبلوا، فلما بلغوا أفواه السكك وقفوا،
فَقَالَ لَهُمْ ماه أفريذون بالفارسية: ما لكم يَا معشر الفتيان؟
قَالُوا: تلقونا بأسنة الرماح، فَقَالَ لَهُمْ بالفارسية: صكوهم
بالفنجقان- أي بخمس نشابات فِي رميه، بالفارسيه- والأساورة
أربعمائة، فصكوهم بألفي نشابة فِي دفعة، فأجلوا عن أبواب السكك،
وقاموا عَلَى باب المسجد، ودلفت التميمية إِلَيْهِم، فلما بلغوا
الأبواب وقفوا، فسألهم ماه أفريذون: ما لكم؟ قَالُوا: أسندوا إلينا
أطراف رماحهم، قَالَ: ارموهم أَيْضًا، فرموهم بألفي نشابة، فأجلوهم
عن الأبواب، فدخلوا المسجد، فأقبلوا ومسعود يخطب عَلَى الْمِنْبَر
ويحضض، فجعل غطفان بن أنيف بن يَزِيدَ بن فهدة، أحد بني كعب بن
عَمْرو بن
(5/519)
تميم، وَكَانَ يَزِيد بن فهدة فارسا فِي
الجاهلية يقاتل ويحض قومه ويرتحز:
يال تميم إنها مذكوره ... إن فات مسعود بِهَا مشهوره
فاستمسكوا بجانب المقصوره.
أي لا يهرب فيفوت.
قَالَ إِسْحَاق بن يَزِيدَ: فأتوا مسعودا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر
يحض، فاستنزلوه فقتلوه، وَذَلِكَ فِي أول شوال سنة أربع وستين، فلم
يكن القوم شَيْئًا، فانهزموا.
وبادر أشيم بن شقيق القوم بباب المقصورة هاربا، فطعنه أحدهم، فنجا
بِهَا، ففي ذَلِكَ يقول الفرزدق:
لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا ... وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد
إذا لصاحب مسعودا وصاحبه ... وَقَدْ تهافتت الأعفاج والكبد
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي سلام بن أبي خيرة، وسمعته أَيْضًا
من أبي الخنساء كسيب العنبري يحدث فِي حلقه يونس، قالا: سمعنا
الحسن ابن أبي الْحَسَن يقول فِي مجلسه فِي مسجد الأمير: فاقبل
مسعود من هاهنا- وأشار بيده إِلَى منازل الأزد فِي أمثال الطير-
معلما بقباء ديباج أصفر مغير بسواد، يأمر الناس بالسنة، وينهى عن
الْفِتْنَة: أَلا إن من السنة أن تأخذ فوق يديك، وهم يقولون: القمر
القمر، فو الله مَا لبثوا إلا ساعة حَتَّى صار قمرهم قميرا، فأتوه
فاستنزلوه عن الْمِنْبَر وَهُوَ عَلَيْهِ- قَدْ علم اللَّه-
فقتلوه.
قَالَ سلام فِي حديثه: قال الحسن: وجاء الناس من هاهنا- وأشار بيده
إِلَى دور بني تميم
(5/520)
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي مسلمة بن
محارب، قَالَ: فأتوا عُبَيْد اللَّهِ فَقَالُوا: قَدْ صعد مسعود
المنبر، ولم يرم دون الدار بكثاب، فبيناه فِي ذَلِكَ يتهيأ ليجيء
إِلَى الدار، إذ جاءوا فَقَالُوا: قَدْ قتل مسعود، فاغترز فِي
ركابه فلحق بِالشَّامِ، وَذَلِكَ فِي شوال سنة أربع وستين قَالَ
أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي رواد الكعبي، قَالَ: فأتى مالك بن مسمع
أناس من مضر، فحصروه فِي داره، وحرقوا، ففي ذَلِكَ يقول غطفان بن
أنيف الكعبي فِي أرجوزة:
وأصبح ابن مسمع محصورا ... يبغي قصورا دونه ودورا
حَتَّى شببنا حوله السعيرا.
ولما هرب عُبَيْد اللَّهِ بن زياد اتبعوه، فأعجز الطلبه، فانتهبوا
مَا وجدوا لَهُ، ففي ذَلِكَ يقول وافد بن خليفة بن أسماء، أحد بني
صخر بن منقر بن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد:
يَا رب جبار شديد كلبه ... قَدْ صار فينا تاجه وسلبه
مِنْهُمْ عُبَيْد اللَّهِ حين نسلبه ... جياده وبزه وننهبه
يوم التقى مقنبنا ومقنبه ... لو لم ينج ابن زياد هربه
وَقَالَ جرهم بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قيس، أحد بني العدوية فِي قتل
مسعود فِي كلمة طويلة:
ومسعود بن عَمْرو إذ أتانا ... صبحنا حد مطرور سنينا
رجا التأمير مسعود فأضحى ... صريعا قَدْ أزرناه المنونا
قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير: وأما عمر، فإنه حَدَّثَنِي
فِي أمر خروج عُبَيْد اللَّهِ إِلَى الشام، قَالَ: حَدَّثَنِي
زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير بن حازم، قَالَ: حَدَّثَنَا
الزُّبَيْر بن الخريت، قَالَ: بعث مسعود مع ابن زياد
(5/521)
مائة من الأزد، عَلَيْهِم قرة بن عَمْرو بن
قيس، حَتَّى قدموا بِهِ الشام.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عاصم النبيل، عَنْ
عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ وخلاد بن يَزِيدَ الباهلي والوليد بن
هِشَام، عن عمه، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هبيرة، عن يساف
بن شريح اليشكري، قَالَ، وحدثنيه عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ، قَالَ- قَدِ
اختلفوا فزاد بعضهم عَلَى بعض- إن ابن زياد خرج مِنَ الْبَصْرَةِ،
فَقَالَ ذات ليلة: إنه قَدْ ثقل علي ركوب الإبل، فوطئوا لي عَلَى
ذي حافر، قَالَ: فألقيت لَهُ قطيفة عَلَى حمار، فركبه وإن رجليه
لتكادان تخدان فِي الأرض قَالَ اليشكري: فإنه ليسير أمامي إذ سكت
سكتة فأطالها، فقلت فِي نفسي: هَذَا عُبَيْد اللَّهِ أَمِير العراق
أمس نائم الساعة عَلَى حمار، لو قَدْ سقط مِنْهُ أعنته، ثُمَّ قلت:
وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نائما لأنغصن عَلَيْهِ نومه، فدنوت مِنْهُ،
فقلت: أنائم أنت؟ قَالَ: لا، قلت: فما أسكتك؟
قَالَ: كنت أحدث نفسي، قلت: أفلا أحدثك مَا كنت تحدث بِهِ نفسك؟
قَالَ: هات، فو الله مَا أراك تكيس وَلا تصيب، قَالَ: قلت: كنت
تقول: ليتني لم أقتل الْحُسَيْن، قَالَ: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني
لم أكن قتلت من قتلت، قَالَ: وماذا؟ قلت: كنت تقول: ليتني لم أكن
بنيت البيضاء، قَالَ: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت
الدهاقين، قال: وماذا؟
قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
نطقت بصواب، وَلا سكت عن خطإ، أما الْحُسَيْن فإنه سار إلي يريد
قتلي، فاخترت قتله عَلَى أن يقتلني، وأما البيضاء فإني اشتريتها من
عَبْد اللَّهِ بن عُثْمَانَ الثقفي، وأرسل يَزِيد بألف ألف
فأنفقتها عَلَيْهَا، فإن بقيت فلأهلي، وإن هلكت لم آس عَلَيْهَا
مما لم أعنف فِيهِ، وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرَّحْمَن بن
أبي بكرة وزاذان فروخ وقعا فِيّ عِنْدَ مُعَاوِيَة حَتَّى ذكرا
قشور الأرز، فبلغا بخراج العراق مائه الف الف، فخيرني معاويه بين
الضمان والعزل، فكرهت العزل،
(5/522)
فكنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر
الخراج، فتقدمت إِلَيْهِ أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته
أضررت بهم، وإن تركته تركت مال اللَّه وأنا أعرف مكانه، فوجدت
الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون فِي المطالبه منكم،
مع انى قد جعلتكم أمناء عَلَيْهِم لئلا يظلموا أحدا وأما قولك في
السخاء، فو الله مَا كَانَ لي مال فأجود بِهِ عَلَيْكُمْ، ولو شئت
لأخذت بعض مالكم فخصصت بِهِ بعضكم دون بعض، فيقولون:
مَا أسخاه! ولكني عممتكم، وَكَانَ عندي أنفع لكم وأما قولك: ليتني
لم أكن قتلت من قتلت، فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملا هُوَ أقرب
إِلَى اللَّهِ عندي من قتلي من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك
بِمَا حدثت بِهِ نفسي، قلت: ليتني كنت قاتلت أهل الْبَصْرَة، فإنهم
بايعوني طائعين غير مكرهين، وايم اللَّه لقد حرصت عَلَى ذَلِكَ،
ولكن بني زياد أتوني فَقَالُوا:
إنك إذا قاتلتهم فظهروا عَلَيْك لم يبقوا منا أحدا، وان تركتهم
تغيب الرجل منا عِنْدَ أخواله وأصهاره، فرفقت لَهُمْ فلم أقاتل
وكنت أقول: ليتني كنت أخرجت اهل السجن فضربت أعناقهم، فاما إذ فاتت
هاتان فليتني كنت أقدم الشام ولم يبرموا أمرا.
قَالَ بعضهم: فقدم الشام ولم يبرموا أمرا، فكأنما كَانُوا مَعَهُ
صبيانا، وَقَالَ بعضهم: قدم الشام وَقَدْ أبرموا، فنقض مَا أبرموا
إِلَى رأيه.
وفي هَذِهِ السنة طرد أهل الْكُوفَة عَمْرو بن حريث وعزلوه
عَنْهُمْ، واجتمعوا عَلَى عَامِر بن مسعود
. ذكر الخبر عن عزلهم عَمْرو بن حريث وتأميرهم عامرا
قَالَ أَبُو جَعْفَر: ذكر الهيثم بن عدي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن
عَيَّاش، قَالَ:
(5/523)
كَانَ أول من جمع لَهُ المصران: الْكُوفَة
والبصرة زيادا وابنه، فقتلا من الخوارج ثلاثة عشر ألفا، وحبس
عُبَيْد اللَّهِ مِنْهُمْ أربعة آلاف، فلما هلك يَزِيد قام خطيبا،
فَقَالَ: إن الَّذِي كنا نقاتل عن طاعته قَدْ مات، فان أمرتموني
جبيت فيئكم، وقاتلت عدوكم وبعث بِذَلِكَ إِلَى أهل الْكُوفَة مقاتل
ابن مسمع وسعيد بن قرحا، أحد بني مازن، وخليفته عَلَى الْكُوفَة
عَمْرو بن حريث، فقاما بِذَلِكَ، فقام يَزِيد بن الْحَارِث بن رويم
الشيباني فَقَالَ:
الحمد لِلَّهِ الَّذِي أراحنا من ابن سمية، لا وَلا كرامة! فأمر
بِهِ عَمْرو فلبب ومضي بِهِ إِلَى السجن، فحالت بكر بينهم وبينه،
فانطلق يَزِيد إِلَى أهله خائفا، فأرسل إِلَيْهِ مُحَمَّد بن
الأشعث: أنك عَلَى رأيك، وتتابعت عَلَيْهِ الرسل بِذَلِكَ، وصعد
عَمْرو الْمِنْبَر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس فِي المسجد
فَقَالُوا: نؤمر رجلا إِلَى أن يجتمع الناس على خليفه، فاجمعوا على
عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين حسينا، ورجالهم متقلدو السيوف،
فأطافوا بالمنبر، فَقَالَ مُحَمَّد بن الأشعث: جَاءَ أمر غير مَا
كنا فِيهِ، وكانت كنده تقوم بأمر عمر بن سعد لانهم أخواله،
فاجتمعوا على عامر ابن مسعود، وكتبوا بِذَلِكَ إِلَى ابن
الزُّبَيْر، فأقره.
وأما عوانة بن الحكم، فإنه قال فيما ذكر هِشَام بن مُحَمَّد عنه:
لما بايع أهل الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعث وافدين من
قبله إِلَى الْكُوفَةِ: عَمْرو بن مسمع، وسعد بن القرحا التميمي،
ليعلم أهل الْكُوفَة مَا صنع أهل الْبَصْرَة، ويسألانهم البيعة
لعبيد اللَّه بن زياد، حَتَّى يصطلح الناس، فجمع الناس عَمْرو بن
حريث، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن
هَذَيْنِ الرجلين قَدْ أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إِلَى أمر
يجمع اللَّه بِهِ كلمتكم، ويصلح بِهِ ذات بينكم، فاسمعوا منهما،
واقبلوا عنهما، فإنهما برشد مَا أتياكم.
فقام عَمْرو بن مسمع، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وذكر
أهل الْبَصْرَة واجتماع رأيهم عَلَى تأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد
حَتَّى يرى الناس رأيهم فيمن يولون عليهم،
(5/524)
وَقَدْ جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون
أميرنا وأميركم واحدا، فإنما الْكُوفَة مِنَ الْبَصْرَةِ والبصرة
من الْكُوفَة، وقام ابن القرحا فتكلم نحوا من كلام صاحبه.
قَالَ: فقام يَزِيد بن الْحَارِث بن يَزِيدَ الشيباني- وَهُوَ ابن
رويم- فحصبهما أول الناس، ثُمَّ حصبهما الناس بعد، ثُمَّ قَالَ:
أنحن نبايع لابن مرجانة! لا وَلا كرامة، فشرفت تِلَكَ الفعلة
يَزِيد فِي المصر ورفعته، ورجع الوفد إِلَى الْبَصْرَة فأعلم الناس
الخبر فَقَالُوا: أهل الْكُوفَة يخلعونه، وَأَنْتُمْ تولونه
وتبايعونه! فوثب بِهِ الناس، وَقَالَ: مَا كَانَ فِي ابن زياد وصمة
إلا استجارته بالأزد.
قَالَ: فلما نابذه الناس استجار بمسعود بن عَمْرو الأَزْدِيّ،
فأجاره ومنعه، فمكث تسعين يَوْمًا بعد موت يَزِيد، ثُمَّ خرج إِلَى
الشام، وبعثت الأزد وبكر ابن وائل رجالا مِنْهُمْ مَعَهُ حَتَّى
أوردوه الشام، فاستخلف حين توجه إِلَى الشام مسعود بن عَمْرو عَلَى
الْبَصْرَة، فَقَالَتْ بنو تميم وقيس: لا نرضى وَلا نجيز وَلا نولي
إلا رجلا ترضاه جماعتنا، فَقَالَ مسعود: فقد استخلفني فلا أدع
ذَلِكَ أبدا، فخرج فِي قومه حَتَّى انتهى إِلَى القصر فدخله،
واجتمعت تميم إِلَى الأحنف بن قيس فَقَالُوا لَهُ: إن الأزد قد
دخلوا المسجد، قَالَ: ودخل المسجد فمه! إنما هُوَ لكم ولهم،
وَأَنْتُمْ تدخلونه، قَالُوا: فإنه قَدْ دخل القصر، فصعد
الْمِنْبَر وكانت خوارج قَدْ خرجوا، فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج
عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث
إِلَيْهِم إن هَذَا الرجل الَّذِي قَدْ دخل القصر لنا ولكم عدو،
فما يمنعكم من أن تبدءوا بِهِ! فجاءت عصابة مِنْهُمْ حَتَّى دخلوا
المسجد، ومسعود بن عَمْرو عَلَى الْمِنْبَر يبايع من أتاه، فيرميه
علج يقال لَهُ: مسلم من أهل فارس، دخل الْبَصْرَة فأسلم ثُمَّ دخل
فِي الخوارج، فأصاب قلبه فقتله وخرج، وجال الناس بعضهم فِي بعض
فَقَالُوا: قتل مسعود بن عَمْرو، قتلته الخوارج، فخرجت الأزد إِلَى
تِلَكَ الخوارج فقتلوا مِنْهُمْ وجرحوا، وطردوهم عن الْبَصْرَة،
ودفنوا مسعودا، فجاءهم الناس فَقَالُوا لَهُمْ: تعلمون أن بني تميم
يزعمون أَنَّهُمْ قتلوا مسعود بن عَمْرو، فبعثت الأزد تسأل عن
ذَلِكَ، فإذا أناس مِنْهُمْ يقولونه، فاجتمعت الأزد عِنْدَ ذَلِكَ
فرأسوا عَلَيْهِم زياد بن عَمْرو العتكي، ثُمَّ ازدلفوا إِلَى بني
تميم
(5/525)
وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد مالك
بن مسمع وبكر بن وائل فأقبلوا نحو بني تميم وأقبلت تميم إِلَى
الأحنف يقولون: قَدْ جَاءَ القوم، اخرج وَهُوَ متمكث، إذ جاءته
امرأة من قومه بمجمر فَقَالَتْ: يَا أحنف اجلس عَلَى هَذَا، أي
إنما أنت امرأة، فَقَالَ: استك أحق بِهَا، فما سمع منه بعد كلمه
كانت رافث منها، وَكَانَ يعرف بالحلم ثُمَّ إنه دعا برايته
فَقَالَ: اللَّهُمَّ انصرها وَلا تذللها، وإن نصرتها أَلا يظهر
بِهَا وَلا يظهر عَلَيْهَا، اللَّهُمَّ احقن دماءنا، وأصلح ذات
بيننا ثُمَّ سار وسار ابن أخيه إياس بن مُعَاوِيَة بين يديه،
فالتقى القوم فاقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثيرة،
فَقَالَتْ لَهُمْ بنو تميم: اللَّه اللَّه يَا معشر الأزد فِي
دمائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإِسْلام،
فإن كَانَتْ لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل
فينا فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينه فانا نحلف بِاللَّهِ
مَا قتلنا وَلا أمرنا، وَلا نعلم لصاحبكم قاتلا، وإن لم تريدوا
ذَلِكَ فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم فاصطلحوا، فأتاهم الأحنف بن
قيس فِي وجوه مضر إِلَى زياد بن عَمْرو العتكي، فَقَالَ:
يَا معشر الأزد، أنتم جيرتنا فِي الدار، وإخوتنا عِنْدَ القتال،
وَقَدْ آتيناكم فِي رحالكم لإطفاء حشيشتكم، وسل سخيمتكم، ولكم
الحكم مرسلا، فقولوا عَلَى أحلامنا وأموالنا، فإنه لا يتعاظمنا
ذهاب شَيْء من أموالنا كَانَ فِيهِ صلاح بيننا، فَقَالُوا: أتدون
صاحبنا عشر ديات؟ قَالَ: هي لكم، فانصرف الناس واصطلحوا، فَقَالَ
الهيثم بن الأَسْوَدِ:
أعلى بمسعود الناعي فقلت لَهُ ... نعم اليماني تجروا عَلَى الناعي
أوفى ثمانين مَا يسطيعه أحد ... فتى دعاه لرأس العده الداعي
آوى ابن حرب وَقَدْ سدت مذاهبه ... فأوسع السرب مِنْهُ أي إيساع
حَتَّى توارت بِهِ أرض وعامرها ... وَكَانَ ذا ناصر فِيهَا وأشياع
(5/526)
وقال عبيد الله بن الحر:
ما زلت أرجو الأزد حَتَّى رأيتها ... تقصر عن بنيانها المتطاول
أيقتل مسعود ولم يثأروا بِهِ ... وصارت سيوف الأزد مثل المناجل
وما خير عقل أورث الأزد ذلة ... تسب بِهِ أحياؤهم فِي المحافل
عَلَى أَنَّهُمْ شمط كأن لحاهمُ ... ثعالب فِي أعناقها كالجلاجل
واجتمع أهل الْبَصْرَة عَلَى أن يجعلوا عَلَيْهِم مِنْهُمْ أميرا
يصلي بهم حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام، فجعلوا عَبْد الْمَلِكِ
بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر شهرا، ثُمَّ جعلوا ببة- وَهُوَ
عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن عبد المطلب- فصلى بهم شهرين، ثُمَّ
قدم عَلَيْهِم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر من قبل ابن
الزُّبَيْر، فمكث شهرا، ثُمَّ قدم الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ المخزومي بعزله، فوليها الْحَارِث وَهُوَ
القباع.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما عُمَر بن شَبَّةَ، فإنه حَدَّثَنِي فِي
أمر عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر بن كريز وأمر
ببة ومسعود وقتله، وأمر عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ غير مَا قَالَ
هِشَام عن عوانة والذي حَدَّثَنِي عُمَر بن شَبَّةَ فِي ذَلِكَ أنه
قَالَ:
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن أبي مقرن عُبَيْد اللَّهِ
الدهني، قَالَ: لما بايع الناس ببة ولى ببة شرطته هميان بن عدي،
وقدم عَلَى ببة بعض أهل الْمَدِينَة، وأمر هميان بن عدي بإنزاله
قريبا مِنْهُ، فأتى هميان دارا للفيل مولى زياد الَّتِي فِي بني
سليم وهم بتفريغها لينزلها إِيَّاهُ، وَقَدْ كَانَ هرب وأقفل
أبوابه، فمنعت بنو سليم هميان حَتَّى قاتلوه، واستصرخوا عَبْد
الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر بن كريز، فأرسل بخاريته
ومواليه فِي السلاح حَتَّى طردوا هميان ومنعوه الدار، وغدا عَبْد
الْمَلِكِ من الغد إِلَى دار الإمارة ليسلم عَلَى ببة، فلقيه عَلَى
الباب رجل من بني قيس بن ثعلبة، فَقَالَ: أنت المعين علينا بالأمس!
فرفع يده فلطمه، فضرب قوم من البخارية يد القيسي فأطارها، ويقال:
بل سلم القيسي، وغضب ابن عَامِر فرجع، وغضبت لَهُ مضر فاجتمعت وأتت
بكر بن
(5/527)
وائل أشيم بن شقيق بن ثور فاستصرخوه، فأقبل
وَمَعَهُ مالك بن مسمع حَتَّى صعد الْمِنْبَر فَقَالَ: أي مضري
وجدتموه فاسلبوه وزعم بنو مسمع أن مالكا جَاءَ يَوْمَئِذٍ متفضلا
فِي غير سلاح ليرد أشيم عن رأيه ثُمَّ انصرفت بكر وَقَدْ تحاجزوا
هم والمضرية، واغتنمت الأزد ذَلِكَ، فحالفوا بكرا، وأقبلوا مع
مسعود إِلَى الْمَسْجِدِ الجامع، وفزعت تميم إِلَى الأحنف، فعقد
عمامته عَلَى قناة، ودفعها إِلَى سلمة بن ذؤيب الرياحي، فأقبل بين
يديه الأساورة حَتَّى دخل المسجد ومسعود يخطب، فاستنزلوه فقتلوه،
وزعمت الأزد أن الأزارقة قتلوه، فكانت الْفِتْنَة، وسفر بينهم
عُمَر بن عُبَيْد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الْحَارِث بن
هِشَام حَتَّى رضيت الأزد من مسعود بعشر ديات، ولزم عَبْد اللَّهِ
بن الْحَارِث بيته، وَكَانَ يتدين، وَقَالَ: مَا كنت لأصلح الناس
بفساد نفسي.
قَالَ عمر: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: فكتب أهل الْبَصْرَة إِلَى ابن
الزُّبَيْر، فكتب إِلَى أنس بن مالك يأمره بالصلاة بِالنَّاسِ،
فصلى بهم أربعين يَوْمًا.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ،
قَالَ: كتب ابن الزبير الى عمر ابن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي
بعهده عَلَى الْبَصْرَة، ووجه بِهِ إِلَيْهِ، فوافقه وَهُوَ متوجه
يريد العمرة، فكتب إِلَى عُبَيْد اللَّهِ يأمره أن يصلي
بِالنَّاسِ، فصلى بهم حَتَّى قدم عمر.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ:
حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قال: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: سمعت
مُحَمَّد بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ الناس اصطلحوا عَلَى عَبْد
اللَّهِ بن الْحَارِث الهاشمي، فولى أمرهم أربعة أشهر، وخرج نافع
بن الأزرق إِلَى الأهواز، فَقَالَ الناس لعبد اللَّه: إن الناس
قَدْ أكل بعضهم بعضا، تؤخذ المرأة من الطريق فلا يمنعها أحد حَتَّى
تفضح، قَالَ: فتريدون ماذا؟
قَالُوا: تضع سيفك، وتشد عَلَى الناس، قَالَ: مَا كنت لأصلحهم
بفساد نفسي، يَا غلام، ناولني نعلي، فانتعل ثُمَّ لحق بأهله، وأمر
الناس عَلَيْهِم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، قَالَ
أبي، عن الصعب بن زيد:
(5/528)
أن الجارف وقع وعبد اللَّه عَلَى
الْبَصْرَة، فماتت أمه فِي الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حَتَّى
استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها إِلَى حفرتها، وَهُوَ الأمير
يَوْمَئِذٍ.
حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: كَانَ ببة قَدْ
تناول فِي عمله عَلَى الْبَصْرَة أربعين ألفا من بيت المال،
فاستودعها رجلا، فلما قدم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ أميرا أخذ
عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث فحبسه، وعذب مولى لَهُ فِي ذَلِكَ
المال حَتَّى أغرمه إِيَّاهُ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، عن
القافلانى، عن يزيد ابن عَبْدِ اللَّهِ بن الشخير، قَالَ: قلت لعبد
اللَّه بن الْحَارِث بن نوفل: رأيتك زمان استعملت علينا أصبت من
المال، واتقيت الدم، فَقَالَ: إن تبعة المال أهون من تبعة الدم
. ذكر الخبر عن ولايه عامر بن مسعود
على الكوفه
وفي هَذِهِ السنة ولى أهل الْكُوفَة عَامِر بن مسعود امرهم، فذكر
هشام ابن مُحَمَّد الكلبي، عن عوانة بن الحكم، أَنَّهُمْ لما ردوا
وافدي أهل الْبَصْرَة اجتمع أشراف أهل الْكُوفَة، فاصطلحوا عَلَى
أن يصلي بهم عَامِر بن مسعود- وَهُوَ عَامِر بن مسعود بن خلف
القرشي، وَهُوَ دحروجة الجعل الَّذِي يقول فِيهِ عَبْد اللَّهِ بن
همام السلولي:
اشدد يديك بزَيْد إن ظفرت بِهِ ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل
وَكَانَ قصيرا- حَتَّى يرى الناس رأيهم، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك
يَزِيد بن مُعَاوِيَة، ثُمَّ قدم عَلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن
يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي عَلَى الصَّلاة، وإبراهيم بن
مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ عَلَى الخراج، فاجتمع
(5/529)
لابن الزُّبَيْر أهل الْكُوفَة وأهل
الْبَصْرَة ومن بالقبلة من العرب وأهل الشام، وأهل الجزيرة الا اهل
الأردن.
خلافه مروان بن الحكم
وفي هَذِهِ السنة بويع لمروان بن الحكم بالخلافة بِالشَّامِ.
ذكر السبب فِي البيعة لَهُ:
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عُمَرَ، قَالَ:
لَمَّا بُويِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَّى
الْمَدِينَةَ عُبَيْدَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ جَحْدَمٍ الْفِهْرِيَّ مِصْرَ، وَأَخْرَجَ بَنِي أُمَيَّةَ
وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ إِلَى الشَّامِ- وَعَبْدُ الْمَلِكِ
يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ- فَلَمَّا قَدِمَ حُصَيْنُ
بْنُ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ
بِمَا خَلَفَ عَلَيْهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى
الْبَيْعَةِ، فأبى فقال له ولبنى اميه: نَرَاكُمْ فِي اخْتِلاطٍ
شَدِيدٍ، فَأَقِيمُوا أَمْرَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ
شَامَكُمْ، فَتَكُونَ فِتْنَةً عَمْيَاءَ صَمَّاءَ، فَكَانَ مِنْ
رَأْيِ مَرْوَانَ أَنْ يَرْحَلَ فَيَنْطَلِقَ إِلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ فَيُبَايِعَهُ، فَقَدِمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادٍ وَاجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ بَنُو أُمَيَّةَ، وَكَانَ قَدْ
بَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ مَا يُرِيدُ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ:
اسْتَحْيَيْتُ لَكَ مِمَّا تُرِيدُ! أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ
وَسَيِّدُهَا، تَصْنَعُ مَا تَصْنَعُهُ! فَقَالَ: مَا فَاتَ شَيْءٌ
بَعْدُ، فَقَامَ مَعَهُ بَنُو أُمَيَّةَ وَمَوَالِيهِمْ،
وَتَجَمَّعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَسَارَ وَهُوَ يَقُولُ:
مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَدِمَ دِمَشْقَ وَمَنْ مَعَهُ،
وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ
دِمَشْقَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ، وَيُقِيمَ لَهُمْ
أَمْرَهُمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ أَمْرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
وَأَمَّا عَوَانَةُ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا ذَكَرَ هِشَامٌ
عَنْهُ- إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ وَابْنُهُ
مُعَاوِيَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ- فِيمَا بَلَغَنِي- أَمَرَ بَعْدَ وِلايَتِهِ
فَنُودِيَ بِالشَّامِ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ
نَظَرْتُ فِي أَمْرِكُمْ فَضَعُفْتُ عَنْهُ، فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ
رَجُلا مِثْلَ عُمَرَ بن
(5/530)
الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ
حِينَ فَزِعَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ أَجِدْهُ،
فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ سِتَّةً فِي الشُّورَى مِثْلَ سِتَّةَ
عُمَرَ، فَلَمْ أَجِدْهَا، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَمْرِكُمْ،
فَاخْتَارُوا لَهُ مَنْ أَحْبَبْتُمْ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ
وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ فَقَالَ
بَعْضُ النَّاسِ: دُسَّ إِلَيْهِ فَسُقِيَ سُمًّا، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: طُعِنَ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ عَوَانَةَ ثُمَّ قَدِمَ عُبَيْدُ
الله بن زياد دمشق وعليها الضحاك ابن قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، فَثَارَ
زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلابِيُّ بِقِنَّسْرِينَ يُبَايِعُ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَايَعَ النُّعْمَانُ بْنُ
بَشِيرٍ الأَنْصَارِيُّ بِحِمْصَ لابْنِ الزُّبَيْرِ، وكان حسان
ابن مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ بِفِلَسْطِينَ عَامِلا
لِمُعَاوِيَةَ بن ابى سفيان، ثم ليزيد ابن مُعَاوِيَةَ بَعْدَهُ،
وَكَانَ يَهْوَى هَوَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَيِّدَ أَهْلِ
فِلَسْطِينَ، فَدَعَا حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ
الْكَلْبِيُّ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ، فَقَالَ:
إِنِّي مُسْتَخْلِفُكَ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَأَدْخُلَ هَذَا
الْحَيَّ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ، وَلَسْتَ بِدُونِ رجل إذ كنت
عينهم قَاتَلْتَ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ وَخَرَجَ حَسَّانُ
بْنُ مَالِكٍ إِلَى الأُرْدُنِّ وَاسْتَخْلَفَ رَوْحَ بْنَ
زِنْبَاعٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَثَارَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ
بِرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ فَأَخْرَجَهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى
فِلَسْطِينَ، وَبَايَعَ لابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْمَدِينَةِ
أَنْ يَنْفِيَ بَنِي أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَنُفُوا
بِعِيَالاتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَقَدِمَتْ بَنُو
أُمَيَّةَ دِمَشْقَ وَفِيهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَكَانَ
النَّاسُ فَرِيقَيْنِ:
حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ بِالأُرْدُنِّ يَهْوَى هَوَى بَنِي اميه،
ويدعو اليهم، والضحاك ابن قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ بِدِمَشْقَ يَهْوَى
هَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ.
قَالَ: فَقَامَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ بِالأُرْدُنِّ، فَقَالَ: يَا
أَهْلَ الأُرْدُنِّ، مَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ
وَعَلَى قَتْلَى أَهْلِ الْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ ابْنَ
الزُّبَيْرِ مُنَافِقٌ وَأَنَّ قَتْلَى أَهْلِ الْحَرَّةِ فِي
النَّارِ، قَالَ: فَمَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ وَقَتْلاكُمْ بِالْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ
يَزِيدَ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ، قَالَ:
وَأَنَا أَشْهَدُ لَئِنْ كَانَ دِينُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَهُوَ حَيٌّ حَقًّا يَوْمَئِذٍ إِنَّهُ الْيَوْمَ وَشِيعَتَهُ
عَلَى حَقٍّ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ
وَشِيعُتُهُ عَلَى بَاطِلٍ إِنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى بَاطِلٍ
وَشِيعَتَهُ، قَالُوا لَهُ: قَدْ صَدَقْتَ، نَحْنُ نُبَايِعُكَ
عَلَى أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ
(5/531)
خَالَفَكَ مِنَ النَّاسِ، وَأَطَاعَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ، عَلَى أَنْ تُجَنِّبْنَا هَذَيْنِ الْغُلامَيْنِ،
فَإِنَّا نَكْرَهُ ذَلِكَ- يَعْنُونَ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَالِدًا- فَإِنَّهُمَا حَدِيثَةٌ
أَسْنَانُهُمَا، وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَنَا النَّاسُ
بِشَيْخٍ وَنَأْتِيَهُمْ بِصَبِيٍّ وَقَدْ كَانَ الضحاك ابن قَيْسٍ
بِدِمَشْقَ يَهْوَى هَوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَمْنَعُهُ
مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا
بِحَضْرَتِهِ، وَكَانَ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ سِرًّا، فبلغ ذلك حسان
بن مالك ابن بَحْدَلٍ، فَكَتَبَ إِلَى الضَّحَّاكِ كِتَابًا
يُعَظِّمُ فِيهِ حَقَّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَيَذْكُرُ الطَّاعَةَ
وَالْجَمَاعَةَ وَحُسْنَ بَلاءِ بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَهُ
وَصَنِيعَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِمْ،
وَيَذْكُرُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَيَقَعُ فِيهِ وَيَشْتُمُهُ،
وَيَذْكُرُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، قَدْ خَلَعَ خَلِيفَتَيْنِ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ وَدَعَا رَجُلا
مِنْ كَلْبٍ يُدْعَى نَاغِضَةَ فَسَرَّحَ بِالْكِتَابِ مَعَهُ
إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَتَبَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ
نُسْخَةَ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَدَفَعَهُ إِلَى نَاغِضَةَ، وَقَالَ:
إِنْ قَرَأَ الضَّحَّاكُ كِتَابِي عَلَى النَّاسِ وَإِلا فَقُمْ
فَاقْرَأْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ، وَكَتَبَ حَسَّانٌ
إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ،
فَقَدِمَ نَاغِضَةُ بِالْكِتَابِ عَلَى الضَّحَّاكِ فَدَفَعَهُ
إِلَيْهِ وَدَفَعَ كِتَابَ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الضَّحَّاكُ الْمِنْبَرَ فَقَامَ
إِلَيْهِ نَاغِضَةُ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ! ادْعُ
بِكِتَابِ حَسَّانٍ فَاقْرَأْهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ
الضَّحَّاكُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ
الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ:
اجْلِسْ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ:
اجْلِسْ، فَلَمَّا رَآهُ نَاغِضَةُ لا يَفْعَلْ أَخْرَجَ
الْكِتَابَ الَّذِي مَعَهُ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَامَ
الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصَدَّقَ
حَسَّانًا وَكَذَّبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَشَتَمَهُ، وَقَامَ
يَزِيدُ بْنُ أَبِي النَّمَسِ الْغَسَّانِيُّ، فَصَدَّقَ مَقَالَةَ
حَسَّانٍ وَكِتَابَهُ، وَشَتَمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَامَ
سُفْيَانُ بْنُ الأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فَصَدَّقَ مَقَالَةَ
حَسَّانٍ وَكِتَابَهُ، وَشَتَمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ.
وَقَامَ عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسان وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ تَبَعًا لَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ
الضَّحَّاكُ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ويزيد بن ابى النمس وسفيان
(5/532)
ابن الأَبْرَدِ الَّذِينَ كَانُوا
صَدَّقُوا مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَشَتَمُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ
فَحُبِسُوا، وَجَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَوَثَبَتْ
كَلْبٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ الْحَكَمِيِّ فَضَرَبُوهُ
وَحَرَّقُوهُ بِالنَّارِ، وَخَرَّقُوا ثِيَابَهُ.
وَقَامَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَصَعِدَ
مِرْقَاتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ،
وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَكَلَّمَ خَالِدُ
بْنُ يَزِيدَ بِكَلامٍ أَوْجَزَ فِيهِ لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهُ،
وَسَكَنَ النَّاسُ وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ
الْجُمُعَةَ، ثُمَّ دَخَلَ فَجَاءَتْ كَلْبٌ فَأَخْرَجُوا
سُفْيَانَ بْنَ الأَبْرَدِ، وَجَاءَتْ غَسَّانُ فَأَخْرَجُوا
يَزِيدَ بْنَ أَبِي النَّمَسِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ:
لَوْ كُنْتُ مِنْ كَلْبٍ أَوْ غَسَّانَ أُخْرِجْتُ.
قَالَ: فَجَاءَ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: خَالِدٌ وَعَبْدُ
اللَّهِ، مَعَهُمَا أَخْوَالُهُمَا مِنْ كَلْبٍ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ
السِّجْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الشَّامِ
يَوْمَ جَيْرُونَ الأَوَّلِ.
وَأَقَامَ النَّاسُ بِدِمَشْقَ، وَخَرَجَ الضَّحَّاكُ إِلَى
مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَجَلَسَ فِيهِ فَذَكَرَ يَزِيدَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ، فَوَقَعَ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ كَلْبٍ
بِعَصًا مَعَهُ فَضَرَبَهُ بِهَا، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ فِي
الْحَلَقِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، فَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاقْتَتَلُوا، قَيْسٌ تَدْعُو إِلَى
ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنُصْرَةِ الضَّحَّاكِ، وَكَلْبٌ تَدْعُو إِلَى
بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ،
وَيَتَعَصَّبُونَ لِيَزِيدَ، وَدَخَلَ الضَّحَّاكُ دَارَ
الإِمَارَةِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى صَلاةِ
الْفَجْرِ، وَكَانَ مِنَ الأَجْنَادِ نَاسٌ يَهْوَوْنَ هَوَى بَنِي
أُمَيَّةَ، وَنَاسٌ يَهْوَوْنَ هَوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَبَعَثَ
الضَّحَّاكُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ
الْغَدِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَذَكَرَ حُسْنَ بَلائِهِمْ
عِنْدَ مَوَالِيهِ وَعِنْدَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يُرِيدُ شَيْئًا
يَكْرَهُونَهُ.
قَالَ: فَتَكْتُبُونَ إِلَى حَسَّانٍ وَنَكْتُبُ، فَيَسِيرُ مِنَ
الأُرْدُنِّ حَتَّى يَنْزِلَ الْجَابِيَةَ، وَنَسِيرُ نَحْنُ
وَأَنْتُمْ حَتَّى نُوَافِيَهُ بِهَا، فَنُبَايِعَ لِرَجُلٍ
مِنْكُمْ، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ، وَكَتَبُوا إِلَى
حَسَّانٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ، وَخَرَجَ النَّاسُ
وَخَرَجَتْ بَنُو أُمَيَّةَ وَاسْتُقْبِلَتِ الرَّايَاتُ،
وَتَوَجَّهُوا يُرِيدُونَ الْجَابِيَةَ، فَجَاءَ ثَوْرُ بْنُ معن
بن يزيد ابن الأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ إِلَى الضَّحَّاكِ، فَقَالَ:
دَعَوْتَنَا إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَبَايَعْنَاكَ
(5/533)
عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَسِيرُ إِلَى
هَذَا الأَعْرَابِيِّ من كلب تستخلف ابن أخيه خالد ابن يَزِيدَ!
فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ
نُظْهِرَ مَا كُنَّا نُسِرُّ وَنَدْعُو إِلَى طَاعَةِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَنُقَاتِلُ عَلَيْهَا، فَمَالَ الضَّحَّاكُ بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ النَّاسِ فَعَطَفَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى
نَزَلَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بِمَرْجِ رَاهِطٍ
بَيْنَ الضحاك بن قيس ومروان ابن الْحَكَمِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: بُويِعَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فِي
الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مَرْوَانُ
بِالشَّامِ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِهَذَا الأَمْرِ حَتَّى
أَطْمَعَهُ فِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ حِينَ قَدِمَ
عَلَيْهِ مِنَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ
وَرَئِيسُهَا، يَلِي عَلَيْكَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ! فَذَلِكَ
حِينَ كَانَ مَا كَانَ، فَخَرَجَ إِلَى الضَّحَّاكِ فِي جَيْشٍ،
فَقَتَلَهُمْ مَرْوَانُ وَالضَّحَّاكُ يَوْمَئِذٍ فِي طَاعَةِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقُتِلَتْ قَيْسٌ بِمَرْجِ رَاهِطٍ مَقْتَلَةً
لَمْ يُقْتَلْ مِثْلَهَا فِي مَوْطِنٍ قَطُّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
عُمَرَ: حَدَّثَنِي ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، قَالَ:
قتل الضحاك يوم مَرْجِ رَاهِطٍ عَلَى أنه يدعو إِلَى عَبْد اللَّهِ
بن الزُّبَيْرِ، وكتب بِهِ إِلَى عَبْد اللَّهِ لما ذكر عنه من
طاعته وحسن رأيه.
وَقَالَ غير واحد: كَانَتِ الوقعة بمرج راهط بين الضحاك ومروان فِي
سنة أربع وستين.
وَقَدْ حدثت عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قال:
حدثنى موسى ابن يَعْقُوب، عن أبي الحويرث، قَالَ: قَالَ أهل الأردن
وغيرهم لمروان: أنت شيخ كبير، وابن يَزِيدَ غلام وابن الزُّبَيْر
كهل، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تباره بهذا الغلام، وارم
بنحرك فِي نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها، فبايعوه بالجابية
يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي مُصْعَب بن ثَابِت، عَنْ
عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أن الضحاك لما بلغه أن مَرْوَان قَدْ
بايعه من بايعه عَلَى الخلافة، بايع من معه
(5/534)
لابن الزُّبَيْر، ثُمَّ سار كل واحد منهما إِلَى صاحبه، فاقتتلوا
قتالا شديدا، فقتل الضحاك وأَصْحَابه.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي ابن أبي الزناد، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: لما ولى الْمَدِينَة عبد الرَّحْمَن بن الضحاك
كَانَ فتى شابا، فقال: ان الضحاك ابن قيس قَدْ كَانَ دعا قيسا
وغيرها إِلَى البيعة لنفسه، فبايعهم يَوْمَئِذٍ عَلَى الخلافة،
فَقَالَ لَهُ زفر بن عقيل الفهري: هَذَا الَّذِي كنا نعرف ونسمع،
وإن بني الزُّبَيْر يقولون: إنما كَانَ بايع لعبد اللَّه بن
الزُّبَيْرِ، وخرج فِي طاعته حَتَّى قتل، الباطل وَاللَّهِ يقولون،
كَانَ أول ذاك أن قريشا دعته إِلَيْهَا، فأبى عَلَيْهَا حَتَّى دخل
فِيهَا كارها