تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذكر الخبر عن الوقعة بمرج راهط بين
الضحاك بن قيس ومروان بن الحكم وتمام الخبر عن الكائن من جليل الأخبار
والأحداث فِي سنة أربع وستين
قَالَ أَبُو جَعْفَر: حَدَّثَنَا نوح بن حبيب، قَالَ: حَدَّثَنَا
هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن عوانة بن الحكم الكلبي، قَالَ: مال الضحاك بن
قيس بمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ حين سار يريد الجابية للقاء حسان بن
مَالِكٍ، فعطفهم، ثُمَّ أقبل يسير حَتَّى نزل بمرج راهط، وأظهر البيعة
لابن الزُّبَيْر وخلع بني أُمَيَّة، وبايعه عَلَى ذَلِكَ جل أهل دمشق
من أهل اليمن وغيرهم.
قَالَ: وسارت بنو أُمَيَّة ومن تبعهم حَتَّى وافوا حسان بالجابية، فصلى
بهم حسان أربعين يَوْمًا، والناس يتشاورون، وكتب الضحاك إِلَى
النُّعْمَان بن بشير وَهُوَ عَلَى حمص، وإلى زفر بن الْحَارِث وَهُوَ
عَلَى قنسرين، وإلى ناتل ابن قيس وَهُوَ عَلَى فلسطين يستمدهم، وكانوا
عَلَى طاعة ابن الزُّبَيْر، فأمده النُّعْمَان بشُرَحْبِيل بن ذي
الكلاع، وأمده زفر بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعت
الأجناد إِلَى الضحاك بالمرج.
وَكَانَ الناس بالجابية لَهُمْ أهواء مختلفة، فأما مالك بن هبيرة
السكوني فكان يهوى هوى بني يَزِيد بن مُعَاوِيَة، ويحب أن تكون الخلافة
فِيهِمْ، وأما الحصين بن نمير السكوني فكان يهوى أن تكون الخلافة
لمروان بن الحكم،
(5/535)
فَقَالَ مالك بن هبيرة لحصين بن نمير: هلم
فلنبايع لهذا الغلام الَّذِي نحن ولدنا أباه، وَهُوَ ابن أختنا، فقد
عرفت منزلتنا كَانَتْ من أَبِيهِ، فإنه يحملنا عَلَى رقاب العرب غدا-
يعني خَالِد بن يَزِيدَ- فَقَالَ الحصين: لا، لعمر اللَّه، لا تأتينا
العرب بشيخ ونأتيهم بصبي، فَقَالَ مالك: هَذَا ولم تردى تهامه ولما
يبلغ الحزام الطبيين، فَقَالُوا: مهلا يَا أَبَا سُلَيْمَان! فَقَالَ
لَهُ مالك:
وَاللَّهِ لَئِنِ استخلفت مَرْوَان وآل مَرْوَان ليحسدنك عَلَى سوطك
وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بِهَا، إن مَرْوَان أَبُو عشيرة، وأخو
عشيرة، وعم عشيرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لَهُمْ، ولكن عَلَيْكُمْ
بابن أختكم خَالِد، فَقَالَ حصين:
إني رأيت فِي المنام قنديلا معلقا من السماء، وإن من يمد عنقه إِلَى
الخلافة تناوله فلم ينله، وتناوله مَرْوَان فناله، وَاللَّهِ
لنستخلفنه، فَقَالَ لَهُ مالك:
ويحك يَا حصين! أتبايع لمروان وآل مَرْوَان وأنت تعلم أَنَّهُمْ أهل
بيت من قيس! فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم قام روح بن زنباع
الجذامي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، إنكم تذكرون عَبْد اللَّهِ بن عمر ابن الخطاب وصحبته من رسول
الله ص، وقدمه فِي الإِسْلام، وَهُوَ كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل
ضعيف، وليس بصاحب أمة مُحَمَّد الضعيف، وأما مَا يذكر الناس من عَبْد
اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ ويدعون إِلَيْهِ من أمره فهو وَاللَّهِ كما
يذكرون بأنه لابن الزبير حوارى رسول الله ص وابن أسماء ابنة أبي بكر
الصديق ذات النطاقين، وَهُوَ بعد كما تذكرون فِي قدمه وفضله، ولكن ابن
الزُّبَيْر منافق، قَدْ خلع خليفتين: يزيد وابنه معاويه ابن يَزِيدَ،
وسفك الدماء، وشق عصا الْمُسْلِمِينَ، وليس صاحب امر أمه محمد ص
المنافق، واما مروان بن الحكم، فو الله مَا كَانَ فِي الإِسْلام صدع قط
إلا كَانَ مَرْوَان ممن يشعب ذَلِكَ الصدع، وَهُوَ الَّذِي قاتل عن
أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ يوم الدار، والذي قاتل
عَلِيّ بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى لِلنَّاسِ أن يبايعوا الكبير
ويستشبوا الصغير-
(5/536)
يعني بالكبير مَرْوَان بن الحكم، وبالصغير
خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة قَالَ:
فأجمع رأي الناس عَلَى البيعة لمروان، ثُمَّ لخالد بن يزيد من بعده، ثم
لعمرو ابن سَعِيد بن الْعَاصِ من بعد خَالِد، عَلَى ان اماره دمشق
لعمرو بن سعيد ابن الْعَاصِ، وإمارة حمص لخالد بن يَزِيدَ بن معاويه
قال: فدعا حسان ابن مالك بن بحدل خَالِد بن يَزِيدَ فَقَالَ: أبني
أختي، إن الناس قَدْ أبوك لحداثة سنك، وإني وَاللَّهِ مَا أريد هَذَا
الأمر إلا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مَرْوَان إلا نظرا لكم، فَقَالَ
لَهُ خَالِد بن يَزِيدَ: بل عجزت عنا، قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا عجزت
عنك، ولكن الرأي لك مَا رأيت ثُمَّ دعا حسان بمروان فَقَالَ:
يَا مَرْوَان، إن الناس وَاللَّهِ مَا كلهم يرضى بك، فَقَالَ لَهُ
مَرْوَان: إن يرد اللَّه أن يعطنيها لا يمنعني إياها أحد من خلقه، وإن
يرد أن يمنعنيها لا يعطنيها أحد من خلقه قَالَ: فَقَالَ لَهُ حسان:
صدقت، وصعد حسان الْمِنْبَر يوم الاثنين، فَقَالَ: يا أيها الناس، إنا
نستخلف يوم الخميس إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلما كَانَ يوم الخميس بايع
لمروان، وبايع الناس لَهُ، وسار مَرْوَان إِلَى الجابية فِي الناس
حَتَّى نزل مرج راهط عَلَى الضحاك فِي أهل الأردن من كلب، وأتته
السكاسك والسكون وغسان، وربع حسان بن مالك بن بحدل إِلَى الأردن.
قَالَ: وعلى ميمنته- أعني مَرْوَان- عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ،
وعلى ميسرته عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى ميمنة الضحاك زياد بن
عَمْرو بن مُعَاوِيَة العقيلي وعلى ميسرته رجل آخر لم أحفظ اسمه،
وَكَانَ يَزِيد بن أبي النمس الغساني لم يشهد الجابية، وَكَانَ مختبئا
بدمشق، فلما نزل مَرْوَان مرج راهط ثار يزيد ابن أبي نمس بأهل دمشق فِي
عبيدها، فغلب عَلَيْهَا، وأخرج عامل الضحاك منها، وغلب عَلَى الخزائن
وبيت المال، وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح، فكان أول
فتح فتح عَلَى بني أُمَيَّة قَالَ: وقاتل مَرْوَان الضحاك عشرين ليلة
كَانَ، ثُمَّ هزم أهل المرج، وقتلوا وقتل الضحاك، وقتل يَوْمَئِذٍ من
أشراف الناس من أهل الشام ممن كَانَ مع الضحاك ثمانون رجلا كلهم كَانَ
يأخذ القطيفة، والذي كَانَ يأخذ القطيفة يأخذ ألفين فِي العطاء، وقتل
أهل الشام يَوْمَئِذٍ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها،
وقتل مع الضحاك
(5/537)
يَوْمَئِذٍ رجل من كلب من بني عليم يقال
لَهُ مالك بن يَزِيدَ بن مالك بن كعب، وقتل يَوْمَئِذٍ صاحب لواء قضاعة
حيث دخلت قضاعه الشام، وهو جد مدلج ابن المقدام بن زمل بن عَمْرو بن
رَبِيعَة بن عَمْرو الجرشي، وقتل ثور بن معن بن يَزِيدَ السلمي، وَهُوَ
الَّذِي كَانَ رد الضحاك عن رأيه قَالَ: وجاء برأس الضحاك رجل من كلب،
وذكروا أن مَرْوَان حين أتي برأسه ساءه ذَلِكَ وَقَالَ: الآن حين كبرت
سني ودق عظمي وصرت فِي مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها
ببعض! قَالَ: وذكروا أنه مر يَوْمَئِذٍ برجل قتيل فَقَالَ:
وما ضرهم غير حين النفوس ... أي أميري قريش غلب
وَقَالَ مَرْوَان حين بويع لَهُ ودعا إِلَى نفسه:
لما رأيت الأمر أمرا نهبا ... سيرت غسان لَهُمْ وكلبا
والسكسكيين رجالا غلبا ... وطيئا تأباه إلا ضربا
والقين تمشي فِي الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخرا صعبا
لا تأخذون الملك إلا غصبا ... وإن دنت قيس فقل لا قربا
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى،
قَالَ: حَدَّثَنِي رجل من بني عبد ود من أهل الشام، قَالَ: حَدَّثَنِي
من شهد مقتل الضحاك ابن قيس، قَالَ: مر بنا رجل من كلب يقال لَهُ زحنة
بن عَبْدِ اللَّهِ، كأنما يرمي بالرجال الجداء، مَا يطعن رجلا إلا
صرعه، وَلا يضرب رجلا إلا قتله، فجعلت أنظر إِلَيْهِ أتعجب من فعله ومن
قتله الرجال، إذ حمل عَلَيْهِ رجل فصرعه زحنة وتركه، فأتيته فنظرت
إِلَى المقتول فإذا هُوَ الضحاك بن قيس، فأخذت رأسه فأتيت بِهِ إِلَى
مَرْوَان، فَقَالَ: أنت قتلته؟ فقلت: لا، ولكن قتله زحنة بن عَبْدِ
اللَّهِ الكلبي، فاعجبه صدقى اياه، وتركي ادعائه، فأمر لي بمعروف،
وأحسن إِلَى زحنة
(5/538)
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد
الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، قَالَ: وَاللَّهِ إن راية
مَرْوَان يَوْمَئِذٍ لمعي، وإنه ليدفع بنعل سيفه فِي ظهري، وَقَالَ:
ادن برايتك لا أبا لك! إن هَؤُلاءِ لو قَدْ وجدوا لَهُمْ حد السيوف
انفرجوا انفراج الرأس، وانفراج الغنم عن راعيها قَالَ: وَكَانَ
مَرْوَان فِي ستة آلاف، وَكَانَ عَلَى خيله عُبَيْد اللَّهِ بن زياد،
وَكَانَ عَلَى الرجال مالك ابن هبيرة، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل:
وذكروا أن بشر بن مَرْوَان كَانَتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ راية يقاتل بِهَا
وَهُوَ يقول:
إن عَلَى الرئيس حقا حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا
قَالَ: وصرع يَوْمَئِذٍ عَبْد الْعَزِيزِ بن مَرْوَان، قَالَ: ومر
مَرْوَان يَوْمَئِذٍ برجل من محارب وَهُوَ فِي نفر يسير تحت راية يقاتل
عن مَرْوَان، فَقَالَ مَرْوَان: يرحمك اللَّه! لو أنك انضممت
بأَصْحَابك، فإني أراك فِي قلة! فَقَالَ: إن معنا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ من الملائكة مددا أضعاف من تأمرنا ننضم إِلَيْهِ،
قَالَ: فسر بِذَلِكَ مَرْوَان وضحك، وضم أناسا إِلَيْهِ ممن كَانَ
حوله، قَالَ: وخرج الناس منهزمين من المرج إِلَى أجنادهم، فانتهى أهل
حمص إِلَى حمص والنعمان بن بشير عَلَيْهَا، فلما بلغ النُّعْمَان الخبر
خرج هاربا ليلا وَمَعَهُ امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية، وَمَعَهُ
ثقله وولده، فتحير ليلته كلها، وأصبح أهل حمص فطلبوه، وَكَانَ الَّذِي
طلبه رجل من الكلاعيين يقال لَهُ عَمْرو بن الخلي فقتله، وأقبل برأس
النُّعْمَان بن بشير وبنائلة امرأته وولدها، فألقى الرأس فِي حجر أم
أبان ابنة النُّعْمَان الَّتِي كَانَتْ تحت الحجاج بن يُوسُفَ بعد.
قَالَ: فَقَالَتْ نائلة: ألقوا الرأس إلي فأنا أحق بِهِ منها، فألقي
الرأس فِي حجرها، ثُمَّ أقبلوا بهم وبالرأس حَتَّى انتهوا بهم إِلَى
حمص، فجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها، قَالَ: وخرج زفر بن
الْحَارِث من قنسرين هاربا فلحق بقرقيسيا، فلما انتهى إِلَيْهَا وعليها
عياض الجرشي وَهُوَ ابن أسلم بن كعب بن مالك بن لغز بن أسود بن كعب بن
(5/539)
حدس بن أسلم- وَكَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة
ولاه قرقيسيا، فحال عياض بين زفر وبين دخول قرقيسيا، فَقَالَ لَهُ زفر:
أوثق لك بالطلاق والعتاق إذا أنا دخلت حمامها أن أخرج منها، فلما انتهى
إِلَيْهَا ودخلها لم يدخل حمامها وأقام بِهَا، وأخرج عياضا منها، وتحصن
زفر بِهَا وثابت إِلَيْهِ قيس.
قَالَ: وخرج ناتل بن قيس الجذامي صاحب فلسطين هاربا، فلحق بابن
الزُّبَيْر بمكة، وأطبق أهل الشام عَلَى مَرْوَان، واستوثقوا لَهُ،
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عماله.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي رجل من بني عبد ود من أهل الشام- يعني
الشرقي- قَالَ: وخرج مَرْوَان حَتَّى أتى مصر بعد ما اجتمع لَهُ أمر
الشام، فقدم مصر وعليها عبد الرَّحْمَن بن جحدم القرشي يدعو إِلَى ابن
الزُّبَيْر، فخرج إِلَيْهِ فيمن مَعَهُ من بني فهر، وبعث مَرْوَان
عَمْرو بن سَعِيد الأشدق من ورائه حَتَّى دخل مصر، وقام عَلَى منبرها
يخطب الناس، وقيل لَهُمْ: قَدْ دخل عَمْرو مصر، فرجعوا، وأمر الناس
مَرْوَان وبايعوه، ثُمَّ أقبل راجعا نحو دمشق، حَتَّى إذا دنا منها
بلغه أن ابن الزُّبَيْر قَدْ بعث أخاه مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ نحو
فلسطين، فسرح إِلَيْهِ مَرْوَان عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فِي جيش،
واستقبله قبل أن يدخل الشام، فقاتله فهزم أَصْحَاب مصعب، وَكَانَ
مَعَهُ رجل من بني عذرة يقال لَهُ مُحَمَّد بن حريث بن سليم، وَهُوَ
خال بني الأشدق، فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا رأيت مثل مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ رجلا قط أشد قتالا
فارسا وراجلا، وَلَقَدْ رأيته فِي الطريق يترجل فيطرد بأَصْحَابه، ويشد
عَلَى رجليه، حَتَّى رأيتهما قَدْ دميتا قَالَ: وانصرف مَرْوَان حَتَّى
استقرت بِهِ دمشق، ورجع إِلَيْهِ عَمْرو بن سَعِيد.
قَالَ: ويقال: إنه لما قدم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من العراق، فنزل
الشام أصاب بني أُمَيَّة بتدمر، قَدْ نفاهم ابن الزُّبَيْر مِنَ
الْمَدِينَةِ ومكة، ومن الحجاز كله، فنزلوا بتدمر، وأصابوا الضحاك بن
قيس أميرا عَلَى الشام لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، فقدم ابن زياد حين
قدم ومروان يريد أن يركب إِلَى ابن الزُّبَيْر فيبايعه بالخلافة، فيأخذ
مِنْهُ الأمان لبني أُمَيَّة، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: أنشدك الله
(5/540)
تفعل، ليس هَذَا برأي أن تنطلق وأنت شيخ
قريش إِلَى أبي خبيب بالخلافة، ولكن ادع أهل تدمر فبايعهم، ثُمَّ سر
بهم وبمن معك من بني أُمَيَّة إِلَى الضحاك بن قيس حَتَّى تخرجه من
الشام، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ:
صدق وَاللَّهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، ثُمَّ أنت سيد قريش وفرعها،
وأنت أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، إنما ينظر الناس إِلَى هَذَا
الغلام- يعني خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة- فتزوج أمه فيكون فِي
حجرك، قَالَ: ففعل مَرْوَان ذَلِكَ، فتزوج أم خَالِد بن يَزِيدَ،
وَهِيَ فاختة ابنة أبي هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس ثُمَّ
جمع بني أُمَيَّة فبايعوه بالإمارة عَلَيْهِم، وبايعه أهل تدمر ثُمَّ
سار فِي جمع عظيم إِلَى الضحاك بن قيس، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بدمشق، فلما
بلغ الضحاك مَا صنع بنو أُمَيَّة ومسيرتهم إِلَيْهِ، خرج بمن تبعه من
أهل دمشق وغيرهم، فِيهِمْ زفر بن الْحَارِث، فالتقوا بمرج راهط،
فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الضحاك بن قيس الفهري وعامة أَصْحَابه،
وانهزم بقيتهم، فتفرقوا، وأخذ زفر بن الْحَارِث وجها من تِلَكَ الوجوه،
هُوَ وشابان من بني سليم فجاءت خيل مَرْوَان تطلبهم، فلما خاف السلميان
أن تلحقهم خيل مَرْوَان قَالا لزفر: يَا هَذَا، انج بنفسك، فأما نحن
فمقتولان، فمضى زفر وتركهما حَتَّى أتى قرقيسيا، فاجتمعت إِلَيْهِ قيس،
فرأسوه عَلَيْهِم، فذلك حَيْثُ يقول زفر بن الْحَارِث:
أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أَرَى الحرب لا تزداد إلا تماديا
أتاني عن مَرْوَان بالغيب أنه ... مقيد دمي أو قاطع من لسانيا
ففي العيس منجاة وفي الأرض مهرب ... إذا نحن رفعنا لهن المثانيا
فلا تحسبوني إن تغيبت غافلا ... وَلا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
(5/541)
فقد ينبت المرعى عَلَى دمن الثرى ... وتبقى
حزازات النفوس كماهيا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... وتترك قتلى راهط هي ماهيا!
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لحسان صدعا بينا متنائيا
أبعد ابن عَمْرو وابن معن تتابعا ... ومقتل همام أمني الأمانيا!
فلم تر مني نبوة قبل هَذِهِ ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
عشية أعدو بالقران فلا أَرَى ... مِنَ النَّاسِ إلا من علي وَلا ليا
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا!
فلا صلح حَتَّى تنحط الخيل بالقنا ... وتثأر من نسوان كلب نسائيا
أَلا ليت شعري هل تصيبن غارتي ... تنوخا وحيي طيئ من شفائيا
فأجابه جواس بن قعطل:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... عَلَى زفر داء من الداء باقيا
مقيما ثوى بين الضلوع محله ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا
تبكي عَلَى قتلي سليم وعامر ... وذبيان معذورا وتبكي البواكيا
دعا بسلاح ثُمَّ أحجم إذ رَأَى ... سيوف جناب والطوال المذاكيا
(5/542)
عَلَيْهَا كأسد الغاب فتيان نجدة ... إذا
شرعوا نحو الطعان العواليا
فأجابه عمر بن المخلاة الكلبي من تيم اللات بن رفيدة، فَقَالَ:
بكى زفر القيسي من هلك قومه ... بعبرة عين مَا يجف سجومها
يبكي عَلَى قتلى أصيبت براهط ... تجاوبه هام القفار وبومها
أبحنا حمى للحي قيس براهط ... وولت شلالا واستبيح حريمها
يبكيهم حران تجري دموعه ... يرجي نزارا أن تئوب حلومها
فمت كمدا أو عش ذليلا مهضما ... بحسرة نفس لا تنام همومها
إذا خطرت حولي قضاعة بالقنا ... تخبط فعل المصعبات قرومها
خبطت بهم من كادني من قبيلة ... فمن ذا إذا عز الخطوب يرومها
وَقَالَ زفر بن الْحَارِث أَيْضًا:
افي الله اما بحدل وابن بحدل ... فيحيا وأما ابن الزُّبَيْر فيقتل!
كذبتم وبيت اللَّه لا تقتلونه ... ولما يكن يوم أغر محجل
ولما يكن للمشرفية فوقكم ... شعاع كقرن الشمس حين ترجل
(5/543)
فأجابه عبد الرَّحْمَن بن الحكم، أخو
مَرْوَان بن الحكم، فَقَالَ:
أتذهب كلب قَدْ حمتها رماحها ... وتترك قتلى راهط مَا أجنت!
لحا اللَّه قيسا قيس عيلان إنها ... أضاعت ثغور الْمُسْلِمِينَ وولت
فباه بقيس فِي الرخاء وَلا تكن ... أخاها إذا مَا المشرفية سلت
قَالَ أَبُو جَعْفَر: ولما بايع حصين بن نمير مروان بن الحكم وعصا مالك
بن هبيرة فِيمَا أشار بِهِ عَلَيْهِ من بيعة خَالِد بن يَزِيدَ بن
مُعَاوِيَة، واستقر لمروان بن الحكم الملك، وَقَدْ كَانَ الحصين بن
نمير اشترط عَلَى مَرْوَان أن ينزل البلقاء من كَانَ بِالشَّامِ من
كندة، وأن يجعلها لَهُمْ مأكلة، فأعطاه ذَلِكَ، وإن بني الحكم لما
استوثق الأمر لمروان، وَقَدْ كَانُوا اشترطوا لخالد بن يَزِيدَ بن
مُعَاوِيَة شروطا، قَالَ مَرْوَان ذات يوم وَهُوَ جالس فِي مجلسه ومالك
بن هبيرة جالس عنده: إن قوما يدعون شروطا مِنْهُمْ عطارة مكحلة- يعني
مالك بن هبيرة وَكَانَ رجلا يتطيب ويكتحل- فَقَالَ مالك بن هبيرة:
هَذَا ولما تردي تهامة، ولما يبلغ الحزام الطبيين، فَقَالَ مَرْوَان:
مهلا يَا أَبَا سُلَيْمَان، إنما داعبناك، فَقَالَ مالك: هُوَ ذاك
وَقَالَ عويج الطَّائِيّ يمتدح كلبا وحميد بن بحدل:
لقد علم الأقوام وقع ابن بحدل ... وأخرى عَلَيْهِم إن بقي سيعيدها
يقودون أولاد الوجيه ولاحق ... من الريف شهرا مَا يني من يقودها
فهذا لهذا ثم انى لنافض ... على الناس أقواما كثيرا حدودها
فلولا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لأصبحت ... قضاعة أربابا وقيس عبيدها
وفي هَذِهِ السنة بايع جند خُرَاسَان لسلم بن زياد بعد موت يَزِيد بن
مُعَاوِيَة، عَلَى أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفه
(5/544)
ذكر الخبر عن فتنه
عبد الله بن خازم وبيعه سلم بن زياد
وفيها كَانَتْ فتنة عَبْد اللَّهِ بن خازم بخراسان.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ، قال: أخبرنا مسلمه ابن محارب، قَالَ: بعث سلم بن زياد بِمَا
أصاب من هدايا سمرقند وخوارزم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة مع عَبْد
اللَّهِ بن خازم، وأقام سلم واليا عَلَى خُرَاسَان حَتَّى مات يَزِيد
بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ، فبلغ سلما موته، وأتاه مقتل يَزِيد
بن زياد فِي سجستان وأسر أبي عبيدة بن زياد، وكتم الخبر سلم، فَقَالَ
ابن عرادة:
يَا أَيُّهَا الملك المغلق بابه ... حدثت أمور شأنهن عظيم
قتلى بجنزة والذين بكابل ... ويزيد أعلن شأنه المكتوم
أبني أُمَيَّة إن آخر ملككم ... جسد بحوارين ثُمَّ مقيم
طرقت منيته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم
ومرنة تبكي عَلَى نشوانه ... بالصنج تقعد تارة وتقوم
قَالَ مسلمة: فلما ظهر شعر ابن عرادة أظهر سلم موت يَزِيد بن
مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ، ودعا الناس إِلَى البيعة عَلَى الرضا
حَتَّى يستقيم أمر الناس عَلَى خليفة، فبايعوه، ثُمَّ مكثوا بِذَلِكَ
شهرين، ثُمَّ نكثوا بِهِ.
قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: وَحَدَّثَنَا شيخ من أهل خُرَاسَان، قَالَ:
لم يحب أهل خُرَاسَان أميرا قط حبهم سلم بن زياد، فسمي فِي تِلَكَ
السنين الَّتِي كَانَ بِهَا سلم أكثر من عشرين ألف مولود بسلم، من حبهم
سلما
(5/545)
قَالَ: وأخبرنا أَبُو حفص الأَزْدِيّ، عن
عمه قَالَ: لما اختلف الناس بخراسان ونكثوا بيعة سلم، خرج سلم عن
خُرَاسَان وخلف عَلَيْهَا المهلب بن أبي صفرة، فلما كَانَ بسرخس لقيه
سُلَيْمَان بن مرثد أحد بني قيس بن ثعلبة، فَقَالَ لَهُ: من خلفت عَلَى
خُرَاسَان؟ قَالَ: المهلب، فَقَالَ: ضاقت عَلَيْك نزار حَتَّى وليت
رجلا من أهل اليمن! فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان،
وولى أوس بن ثعلبة بن زفر- وَهُوَ صاحب قصر أوس بِالْبَصْرَةِ- هراة،
ومضى فلما صار بنيسابور لقيه عَبْد اللَّهِ بن خازم فَقَالَ: من وليت
خُرَاسَان؟ فأخبره، فَقَالَ: أما وجدت فِي مضر رجلا تستعمله حَتَّى
فرقت خُرَاسَان بين بكر بن وائل ومزون عمان! وَقَالَ لَهُ: اكتب لي
عهدا عَلَى خُرَاسَان، قَالَ: أوالي خُرَاسَان أنا! قَالَ: اكتب لي
عهدا وخلاك ذم.
قَالَ: فكتب لَهُ عهدا عَلَى خُرَاسَان، قَالَ: فأعني الآن بمائة ألف
درهم فأمر لَهُ بِهَا، وأقبل إِلَى مرو، وبلغ الخبر المهلب بن أبي
صفرة،، فأقبل واستخلف رجلا من بني جشم بن سَعْدِ بْنِ زَيْد مناة بن
تميم.
قَالَ: وأخبرنا المفضل بن مُحَمَّد الضبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما
صار عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى مرو بعهد سلم بن زياد، منعه الجشمي،
فكانت بينهما مناوشة، فأصابت الجشمي رمية بحجر فِي جبهته، وتحاجزوا
وخلى الجشمي بين مرو الروذ وبينه، فدخلها ابن خازم، ومات الجشمي بعد
ذَلِكَ بيومين.
قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد المدائني: حَدَّثَنَا الْحَسَن بن رشيد
الجوزجاني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية
بن يَزِيدَ وثب أهل خُرَاسَان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم عَلَى
ناحية، ووقعت الْفِتْنَة، وغلب ابن خازم عَلَى خُرَاسَان، ووقعت الحرب.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي
نعامة، قَالَ:
أقبل عَبْد اللَّهِ بن خازم فغلب عَلَى مرو، ثُمَّ سار إِلَى
سُلَيْمَان بن مرثد فلقيه
(5/546)
بمرو الروذ، فقاتله أياما، فقتل سُلَيْمَان
بن مرثد، ثُمَّ سار عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى عَمْرو بن مرثد وَهُوَ
بالطالقان فِي سبعمائة، وبلغ عمرا إقبال عَبْد اللَّهِ إِلَيْهِ وقتله
أخاه سُلَيْمَان، فأقبل إِلَيْهِ، فالتقوا عَلَى نهر قبل أن يتوافى
إِلَى ابن خازم أَصْحَابه، فأمر عَبْد اللَّهِ من كَانَ مَعَهُ فنزلوا،
فنزل وسال عن زهير بن ذؤيب العدوى، فقالوا: لم يجيء حَتَّى أقبل وَهُوَ
عَلَى حاله، فلما أقبل قيل لَهُ: هَذَا زهير قَدْ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ
عَبْد اللَّهِ: تقدم، فالتقوا فاقتتلوا طويلا، فقتل عَمْرو بن مرثد،
وانهزم أَصْحَابه، فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع عَبْد اللَّهِ ابن
خازم إِلَى مرو قَالَ: وَكَانَ الَّذِي ولي قتل عَمْرو بن مرثد زهير بن
حيان العدوى فيما يروون فَقَالَ الشاعر:
أتذهب أيام الحروب ولم تبئ ... زهير بن حيان بعمرو بن مرثد!
قال: وَحَدَّثَنَا أَبُو السري الخراساني- وَكَانَ من أهل هراة- قَالَ:
قتل عَبْد اللَّهِ بن خازم سُلَيْمَان وعمرا ابني مرثد المرثديين من
بني قيس بن ثعلبة ثُمَّ رجع إِلَى مرو، وهرب من كَانَ بمرو الروذ من
بكر بن وائل إِلَى هراة، وانضم إِلَيْهَا من كَانَ بكور خُرَاسَان من
بكر بن وائل، فكان لَهُمْ بِهَا جمع كثير عَلَيْهِم أوس بن ثعلبة،
قَالَ: فَقَالُوا لَهُ نبايعك عَلَى أن تسير إِلَى ابن خازم، وتخرج مضر
من خُرَاسَان كلها، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا بغي، وأهل البغي مخذولون،
أقيموا مكانكم هَذَا، فإن ترككم ابن خازم- وما أراه يفعل- فارضوا بهذه
الناحية، وخلوه وما هُوَ فِيهِ، فَقَالَ بنو صهيب- وهم موالي بني جحدر:
لا وَاللَّهِ لا نرضى أن نكون نحن ومضر فِي بلد، وَقَدْ قتلوا ابني
مرثد، فإن أجبتنا إِلَى هَذَا وإلا أمرنا علينا غيرك، قَالَ: إنما أنا
رجل مِنْكُمْ، فاصنعوا مَا بدا لكم، فبايعوه، وسار إِلَيْهِم ابن خازم،
واستخلف ابنه مُوسَى، وأقبل حَتَّى نزل عَلَى واد بين عسكره وبين هراة،
قَالَ: فَقَالَ البكريون لأوس: اخرج فخندق خندقا دون الْمَدِينَة
فقاتلهم فِيهِ، وتكون الْمَدِينَة من ورائنا، فَقَالَ لَهُمْ أوس:
الزموا الْمَدِينَة فإنها حصينة، وخلوا ابن خازم ومنزله الَّذِي هُوَ
فِيهِ، فإنه إن طال مقامه ضجر فأعطاكم مَا ترضون
(5/547)
بِهِ، فإن اضطررتم إِلَى القتال قاتلتم،
فأبوا وخرجوا مِنَ الْمَدِينَةِ فخندقوا خندقا دونها، فقاتلهم ابن خازم
نحوا من سنة.
قَالَ وزعم الأحنف بن الأشهب الضبي، وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن
الهنيد، سار ابن خازم إِلَى هراة وفيها جمع كثير لبكر بن وائل قَدْ
خندقوا عَلَيْهِم، وتعاقدوا عَلَى إخراج مضر إن ظفروا بخراسان، فنزل
بهم ابن خازم، فَقَالَ لَهُ هلال الضبي أحد بني ذهل، ثُمَّ أحد بني
أوس: إنما تقاتل إخوتك من بني أبيك، وَاللَّهِ إن نلت مِنْهُمْ فما
تريد مَا فِي العيش بعدهم من خير، وَقَدْ قتلت بمرو الروذ مِنْهُمْ من
قتلت، فلو أعطيتهم شَيْئًا يرضون بِهِ، أو أصلحت هَذَا الأمر! قَالَ:
وَاللَّهِ لو خرجت لَهُمْ عن خُرَاسَان مَا رضوا بِهِ، ولو استطاعوا أن
يخرجوكم من الدُّنْيَا لأخرجوكم، قَالَ لا، وَاللَّهِ لا أرمي معك
بسهم، وَلا رجل يطيعني من خندف حَتَّى تعذر إِلَيْهِم، قَالَ: فأنت
رسولي إِلَيْهِم فأرضهم، فأتى هلال إِلَى أوس بن ثعلبة فناشده اللَّه
والقرابة، وَقَالَ: أذكرك اللَّه فِي نزار أن تسفك دماءها، وتضرب بعضها
ببعض! قَالَ: لقيت بني صهيب؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَ: فالقهم، فخرج
فلقي أرقم بن مطرف الحنفي، وضمضم بن يَزِيدَ- أو عَبْد اللَّهِ بن ضمضم
بن يَزِيدَ- وعاصم بن الصلت بن الحريث الحنفيين، وجماعة من بكر بن وائل
وكلمهم بمثل مَا كلم بِهِ أوسا، فَقَالُوا: هل لقيت بني صهيب؟ فَقَالَ:
لقد عظم اللَّه أمر بني صهيب عندكم، لا لم ألقهم، قَالُوا: القهم، فأتى
بني صهيب فكلمهم، فَقَالُوا: لولا أنك رسول لقتلناك، قَالَ: أفما
يرضيكم شَيْء؟
قَالُوا: واحدة من اثنتين، إما أن تخرجوا عن خُرَاسَان وَلا يدعو
فِيهَا لمضر داع، وإما أن تقيموا وتنزلوا لنا عن كل كراع وسلاح وذهب
وفضة، قَالَ:
أفما شَيْء غير هاتين؟ قَالُوا: لا، قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ! فرجع إِلَى ابن خازم، فَقَالَ: مَا عندك؟ قَالَ: وجدت
إخوتنا قطعا للرحم، قَالَ:
قَدْ أخبرتك أن رَبِيعَة لم تزل غضابا عَلَى ربها منذ بعث الله النبي ص
من مضر
(5/548)
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأخبرنا سُلَيْمَان
بن مُجَالِد الضبي، قَالَ: أغارت الترك عَلَى قصر إسفاد وابن خازم
بهراة، فحصروا أهله، وفيه ناس من الأزد هم أكثر من فِيهِ، فهزمتهم،
فبعثوا إِلَى من حولهم من الأزد فجاءوا لينصروهم فهزمتهم الترك،
فأرسلوا إِلَى ابن خازم، فوجه إِلَيْهِم زهير بن حيان فِي بني تميم
وَقَالَ لَهُ: إياك ومشاولة الترك، إذا رأيتموهم فاحملوا عَلَيْهِم،
فأقبل فوافاهم فِي يوم بارد، قَالَ: فلما التقوا شدوا عَلَيْهِم فلم
يثبتوا لَهُمْ، وانهزمت الترك واتبعوهم حَتَّى مضى عامة الليل حَتَّى
انتهوا إِلَى قصر فِي المفازة، فأقامت الجماعة ومضى زهير فِي فوارس
يتبعهم، وَكَانَ عالما بالطريق، ثُمَّ رجع فِي نصف من الليل، وَقَدْ
يبست يده عَلَى رمحه من البرد، فدعا غلامه كعبا، فخرج إِلَيْهِ،
فأدخله، وجعل يسخن لَهُ الشحم فيضعه عَلَى يده، ودهنوه وأوقدوا لَهُ
نارا حَتَّى لان ودفى، ثُمَّ رجع إِلَى هراة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كعب
بن مَعْدَانَ الأشقري:
أتاك أتاك الغوث فِي برق عارض ... دروع وبيض حشوهن تميم
أبوا أن يضموا حشو مَا تجمع القرى ... فضمهمُ يوم اللقاء صميم
ورزقهمُ من رائحات تزينها ... ضروع عريضات الخواصر كوم
وَقَالَ ثَابِت قطنة:
فدت نفسي فوارس من تميم ... عَلَى مَا كَانَ من ضنك المقام
بقصر الباهلي وَقَدْ أراني ... أحامي حين قل بِهِ المحامي
بسيفي بعد كسر الرمح فِيهِمْ ... أذودهمُ بذي شطب حسام
أكر عَلَيْهِم اليحموم كرا ... ككر الشرب آنية المدام
فلولا اللَّه ليس لَهُ شريك ... وضربي قونس الملك الهمام
(5/549)
إذا فاظت نساء بني دثار ... أمام الترك
بادية الخدام
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الخراساني، عن أبي
حماد السلمي قَالَ: أقام ابن خازم بهراة يقاتل أوس بن ثعلبة أكثر من
سنة، فَقَالَ يوما لأَصْحَابه: قَدْ طال مقامنا عَلَى هَؤُلاءِ،
فنادوهم: يَا معشر رَبِيعَة، إنكم قَدِ اعتصمتم بخندقكم، أفرضيتم من
خُرَاسَان بهذا الخندق! فأحفظهم ذَلِكَ، فتنادى الناس للقتال، فَقَالَ
لَهُمْ أوس بن ثعلبة: الزموا خندقكم وقاتلوهم كما كنتم تقاتلونهم، وَلا
تخرجوا إِلَيْهِم بجماعتكم، قَالَ: فعصوه وخرجوا إِلَيْهِم، فالتقى
الناس، فَقَالَ ابن خازم لأَصْحَابه: اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن
غلب، فإن قتلت فأميركم شماس بن دثار العطاردي، فإن قتل فأميركم بكير بن
وشاح الثقفي.
قَالَ علي: وَحَدَّثَنَا أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة
العدوي عن عبيد بن نقيد، عن إياس بن زهير بن حيان: لما كَانَ الْيَوْم
الَّذِي هرب فِيهِ أوس بن ثعلبة وظفر ابن خازم ببكر بن وائل، قَالَ ابن
خازم لأَصْحَابه حين التقوا: إني قلع، فشدوني عَلَى السرج، واعلموا أن
علي من السلاح مَا لا أقتل قدر جزر جزورين، فان قيل لكم: انى قد قتلت
فلا تصدقوا.
قَالَ: وكانت راية بني عدي مع أبي وأنا عَلَى فرس محزم، وَقَدْ قَالَ
لنا ابن خازم: إذا لقيتم الخيل فاطعنوها فِي مناخرها، فإنه لن يطعن فرس
فِي نخرته إلا أدبر أو رمى بصاحبه، فلما سمع فرسي قعقعة السلاح وثب بي
واديا كَانَ بيني وبينهم، قَالَ: فتلقاني رجل من بكر بن وائل فطعنت
فرسه فِي نخرته، فصرعه، وحمل أبي ببني عدي، وأتبعته بنو تميم من كل
وجه، فاقتتلوا ساعة، فانهزمت بكر بن وائل حَتَّى انتهوا الى خندقهم
(5/550)
وأخذوا يمينا وشمالا، وسقط ناس فِي الخندق
فقتلوا قتلا ذريعا، وهرب أوس ابن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا
يؤتى بأسير إلا قتله حَتَّى تغيب الشمس، فكان آخر من أتي بِهِ رجل من
بني حنيفة يقال لَهُ محمية فَقَالُوا لابن خازم: قَدْ غابت الشمس،
قَالَ: وفوا بِهِ القتلى، فقتل.
قَالَ: فأخبرني شيخ من بني سعد بن زَيْد مناة أن أوس بن ثعلبه هرب وبه
جراحات إِلَى سجستان، فلما صار بِهَا أو قريبا منها مات.
وفي مقتل ابن مرثد وأمر أوس بن ثعلبة يقول الْمُغِيرَة بن حبناء، أحد
بني رَبِيعَة بن حنظلة:
وفي الحرب كنتم فِي خُرَاسَان كلها ... قتيلا ومسجونا بِهَا ومسيرا
ويوم احتواكم فِي الحفير ابن خازم ... فلم تجدوا إلا الخنادق مقبرا
ويوم تركتم فِي الغبار ابن مرثد ... وأوسا تركتم حَيْثُ سار وعسكرا
قَالَ: وأخبرني أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن جده أبي أمه، قَالَ:
قتل من بكر بن وائل يَوْمَئِذٍ ثمانية آلاف.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا التميمي، رجل من أهل خُرَاسَان، عن مولى لابن
خازم، قَالَ: قاتل ابن خازم أوس بن ثعلبة وبكر بن وائل، فظفر بهراة،
وهرب أوس وغلبه ابن خازم عَلَى هراة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابنه
مُحَمَّدا، وضم إِلَيْهِ شماس بن دثار العطاردي، وجعل بكير بن وشاح
عَلَى شرطته، وَقَالَ لهما:
ربياه فإنه ابن أختكما، فكانت أمه من بني سعد يقال لها صفية، وَقَالَ
لَهُ:
لا تخالفهما، ورجع ابن خازم إِلَى مرو
. ذكر الخبر عن تحرك الشيعة للطلب بدم
الحسين
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة تحركت الشيعة بالكوفة، واتعدوا
الاجتماع بالنخيلة فِي سنة خمس وستين للمسير إِلَى أهل الشام للطلب بدم
الْحُسَيْن بن علي، وتكاتبوا فِي ذَلِكَ
(5/551)
ذكر الخبر عن مبدإ أمرهم فِي ذَلِكَ:
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: حَدَّثَنَا أَبُو مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي
يُوسُف بن يَزِيدَ عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر الأَزْدِيّ،
قَالَ: لما قتل الْحُسَيْن بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة،
فدخل الْكُوفَة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أنها قَدْ أخطأت
خطأ كبيرا بدعائهم الْحُسَيْن إِلَى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله
إِلَى جانبهم لم ينصروه، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عَنْهُمْ فِي
مقتله إلا بقتل من قتله، أو القتل فِيهِ، ففزعوا بالكوفة إِلَى خمسة
نفر من رءوس الشيعة إِلَى سُلَيْمَان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبه مع
النبي ص، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وَكَانَ من أَصْحَاب علي
وخيارهم، وإلى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل الأَزْدِيّ، وإلى
عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي.
ثُمَّ إن هَؤُلاءِ النفر الخمسة اجتمعوا فِي منزل سُلَيْمَان بن صرد،
وكانوا من خيار أَصْحَاب علي، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم.
قَالَ: فلما اجتمعوا إِلَى منزل سُلَيْمَان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة
القوم بالكلام، فتكلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى على
نبيه ص ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدِ ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن
فنرغب إِلَى ربنا أَلا يجعلنا ممن يقول لَهُ غدا: «أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ
النَّذِيرُ» ، فإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: [العمر الَّذِي أعذر
اللَّه فِيهِ إِلَى ابن آدم ستون سنة، وليس] فينا رجل إلا وَقَدْ بلغه،
وَقَدْ كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا، حَتَّى بلا اللَّه
أخيارنا فوجدنا كاذبين فِي موطنين من مواطن ابن ابنه نبينا ص، وَقَدْ
بلغتنا قبل ذَلِكَ كتبه، وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره
عودا
(5/552)
وبدءا، وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا
حَتَّى قتل إِلَى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، وَلا جادلنا عنه
بألسنتنا، وَلا قويناه بأموالنا، وَلا طلبنا لَهُ النصرة إِلَى
عشائرنا، فما عذرنا الى ربنا وعند لقاء نبينا ص وَقَدْ قتل فينا ولده
وحبيبه، وذريته ونسله! لا وَاللَّهِ، لا عذر دون أن تقتلوا قاتله
والموالين عَلَيْهِ، أو تقتلوا فِي طلب ذَلِكَ، فعسى ربنا أن يرضى عنا
عِنْدَ ذَلِكَ، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن أيها القوم، ولوا
عَلَيْكُمْ رجلا مِنْكُمْ فإنه لا بد لكم من أَمِير تفزعون إِلَيْهِ،
وراية تحفون بِهَا، أقول قولي هَذَا وأستغفر اللَّه لي ولكم.
قَالَ: فبدر القوم رفاعة بن شداد بعد المسيب الكلام، فَحَمِدَ اللَّهَ
وأثنى عليه وصلى على النبي ص ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه
قَدْ هداك لأصوب القول، ودعوت إِلَى أرشد الأمور، بدأت بحمد اللَّه
والثناء عَلَيْهِ، والصلاة عَلَى نبيه ص، ودعوت إِلَى جهاد الفاسقين
وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع مِنْكَ، مستجاب لك، مقبول قولك،
قلت: ولوا أمركم رجلا مِنْكُمْ تفزعون إِلَيْهِ، وتحفون برايته،
وَذَلِكَ رأي قَدْ رأينا مثل الَّذِي رأيت، فإن تكن أنت ذَلِكَ الرجل
تكن عندنا مرضيا، وفينا متنصحا، وفي جماعتنا محبا، وإن رأيت رأي
أَصْحَابنا ذَلِكَ ولينا هَذَا الأمر شيخ الشيعة صاحب رَسُول الله ص،
وذا السابقه والقدم سليمان ابن صرد المحمود فِي بأسه ودينه، والموثوق
بحزمه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قَالَ: ثُمَّ تكلم عَبْد اللَّهِ بن وال وعبد اللَّه بن سَعْد، فحمدا
ربهما وأثنيا عَلَيْهِ، وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد، فذكرا
المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سُلَيْمَان بن صرد بسابقته، ورضاهما
بتوليته، فَقَالَ المسيب ابن نجبة: أصبتم ووفقتم، وأنا أَرَى مثل
الَّذِي رايتم، فولوا امركم سليمان ابن صرد
(5/553)
قَالَ أَبُو مخنف: فحدثت سُلَيْمَان بن أبي
راشد بهذا الحديث، فَقَالَ:
حَدَّثَنِي حميد بن مسلم، قَالَ: وَاللَّهِ إني لشاهد بهذا الْيَوْم،
يوم ولوا سليمان ابن صرد، وإنا يَوْمَئِذٍ لأكثر من مائة رجل من فرسان
الشيعة ووجوههم فِي داره.
قَالَ: فتكلم سُلَيْمَان بن صرد فشدد، وما زال يردد ذَلِكَ القول فِي
كل جمعة حَتَّى حفظته، بدأ فَقَالَ: أثني عَلَى اللَّه خيرا، وأحمد
آلاءه وبلاءه، وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رسوله، أَمَّا بَعْدُ، فإني وَاللَّهِ لخائف أَلا يكون
آخرنا إِلَى هَذَا الدهر الَّذِي نكدت فِيهِ المعيشة، وعظمت فِيهِ
الرزية وشمل فِيهِ الجور أولي الفضل من هَذِهِ الشيعة لما هُوَ خير،
أنا كنا نمد أعناقنا إِلَى قدوم آل نبينا، ونمنيهم النصر، ونحثهم عَلَى
القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا، وأدهنا، وتربصنا، وانتظرنا مَا يكون
حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، إذ جعل
يستصرخ فلا يصرخ، ويسأل النصف فلا يعطاه، اتخذه الفاسقون غرضا للنبل،
ودرية للرماح حَتَّى أقصدوه، وعدوا عَلَيْهِ فسلبوه أَلا انهضوا فقد
سخط ربكم، وَلا ترجعوا إِلَى الحلائل والأبناء حَتَّى يرضى اللَّه،
وَاللَّهِ مَا أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله، أو تبيروا أَلا لا
تهابوا الموت فو الله مَا هابه امرؤ قط إلا ذل، كونوا كالأولى من بني
إسرائيل إذ قَالَ لَهُمْ نبيهم: «إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» ، فما فعل
القوم؟ جثوا عَلَى الركب وَاللَّهِ، ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء
حَتَّى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر عَلَى القتل،
فكيف بكم لو قَدْ دعيتم إِلَى مثل مَا دعي القوم إِلَيْهِ! اشحذوا
السيوف، وركبوا الأسنة، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» ، حَتَّى تدعوا حين تدعون وتستنفرون
(5/554)
قَالَ: فقام خَالِد بن سَعْدِ بْنِ نفيل،
فقال: اما انا فو الله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضي ربي
لقتلتها، ولكن هَذَا أمر بِهِ قوم كَانُوا قبلنا ونهينا عنه، فأشهد
اللَّه ومن حضر مِنَ الْمُسْلِمِينَ أن كل مَا أصبحت أملكه سوى سلاحي
الَّذِي أقاتل بِهِ عدوي صدقة عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أقويهم بِهِ عَلَى
قتال القاسطين وقام أَبُو المعتمر حنش بن رَبِيعَة الكناني فَقَالَ:
وأنا أشهدكم عَلَى مثل ذَلِكَ.
فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: حسبكم، من أراد من هَذَا شَيْئًا فليأت
بماله عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده
كل مَا تريدون إخراجه من أموالكم جهزنا بِهِ ذوي الخلة والمسكنة من
أشياعكم.
قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، عن سُلَيْمَان بن أبي راشد، قَالَ:
فحدثنا حميد بن مسلم الأَزْدِيّ أن سُلَيْمَان بن صرد قَالَ لخالد بن
سَعْدِ بْنِ نفيل حين قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لو علمت أن قتلي نفسي
يخرجني من ذنبي ويرضى عني ربي لقتلتها، ولكن هَذَا أمر بِهِ قوم غيرنا
كَانُوا من قبلنا ونهينا عنه، قَالَ: أخوكم هَذَا غدا فريس أول الأسنة،
قَالَ: فلما تصدق بماله عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُ: أبشر بجزيل
ثواب اللَّه للذين لأنفسهم يمهدون.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ نفيل قَالَ: أخذت كتابا كَانَ سُلَيْمَان بن صرد كتب
بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ بالمدائن، فقرأته زمان ولي
سُلَيْمَان، قَالَ: فلما قرأته أعجبني، فتعلمته فما نسيته، كتب
إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من سُلَيْمَان بن صرد إِلَى سعد
بن حُذَيْفَة ومن قبله من الْمُؤْمِنِينَ سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا
بَعْدُ، فإن الدُّنْيَا دار قَدْ أدبر منها مَا كَانَ معروفا، وأقبل
منها مَا كَانَ منكرا، وأصبحت قَدْ تشنأت إِلَى ذوي الألباب، وأزمع
بالترحال منها عباد اللَّه الأخيار، وباعوا قليلا من الدُّنْيَا
(5/555)
لا يبقى بجزيل مثوبة عِنْدَ اللَّه لا تفنى
ان أولياء من إخوانكم، وشيعة آل نبيكم نظروا لأنفسهم فِيمَا ابتلوا
بِهِ من أمر ابن بنت نبيهم الَّذِي دعي فأجاب، ودعا فلم يجب، وأراد
الرجعة فحبس، وسأل الأمان فمنع، وترك الناس فلم يتركوه، وعدوا عَلَيْهِ
فقتلوه، ثُمَّ سلبوه وجردوه ظلما وعدوانا وغرة بِاللَّهِ وجهلا، وبعين
الله ما يعملون، وإلى اللَّه مَا يرجعون، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» ، فلما نظروا إخوانكم
وتدبروا عواقب مَا استقبلوا رأوا أن قَدْ خطئوا بخذلان الزكي الطيب
وإسلامه وترك مواساته، والنصر لَهُ خطأ كبيرا ليس لَهُمْ مِنْهُ مخرج
وَلا توبة، دون قتل قاتليه أو قتلهم حَتَّى تفنى عَلَى ذَلِكَ أرواحهم،
فقد جد إخوانكم فجدوا، وأعدوا واستعدوا، وَقَدْ ضربنا لإخواننا أجلا
يوافوننا إِلَيْهِ، وموطنا يلقوننا فِيهِ، فأما الأجل فغرة شهر ربيع
الآخر سنة خمس وستين، وأما الموطن الَّذِي يلقوننا فِيهِ فالنخيلة.
أنتم الَّذِينَ لم تزالوا لنا شيعة وإخوانا، وإلا وَقَدْ رأينا أن
ندعوكم إِلَى هَذَا الأمر الَّذِي أراد اللَّه بِهِ إخوانكم فِيمَا
يزعمون، ويظهرون لنا أَنَّهُمْ يتوبون، وإنكم جدراء بتطلاب الفضل،
والتماس الأجر، والتوبة إِلَى ربكم من الذنب، ولو كَانَ فِي ذَلِكَ حز
الرقاب، وقتل الأولاد، واستيفاء الأموال، وهلاك العشائر، مَا ضر أهل
عذراء الَّذِينَ قتلوا أَلا يكونوا الْيَوْم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ، شهداء قَدْ لقوا اللَّه صابرين محتسبين، فأثابهم ثواب
الصابرين- يعني حجرا واصحابه- وما ضر إخوانكم المقتلين صبرا، المصلبين
ظلما، والمثل بهم، المعتدى عَلَيْهِم، أَلا يكونوا أحياء مبتلين
بخطاياكم، قَدْ خير لَهُمْ فلقوا ربهم، ووفاهم اللَّه إِنْ شَاءَ
اللَّهُ أجرهم، فاصبروا رحمكم اللَّه عَلَى البأساء والضراء وحين
البأس، وتوبوا الى الله عن قريب، فو الله انكم لأحرياء الا يكون أحد من
إخوانكم صبر عَلَى شَيْء من البلاء إرادة ثوابه إلا صبرتم التماس الأجر
فِيهِ عَلَى مثله، وَلا يطلب رضاء اللَّه طالب بشيء من الأشياء ولو أنه
القتل إلا طلبتم رضا اللَّه بِهِ إن التقوى أفضل الزاد فِي الدُّنْيَا،
وما سوى ذَلِكَ يبور ويفنى، فلتعزف عنها أنفسكم، ولتكن رغبتكم فِي دار
عافيتكم، وجهاد عدو اللَّه وعدوكم، وعدو أهل بيت نبيكم
(5/556)
حَتَّى تقدموا عَلَى اللَّه تائبين راغبين،
أحيانا اللَّه وإياكم حياة طيبة، وأجارنا وإياكم من النار، وجعل
منايانا قتلا فِي سبيله عَلَى يدي أبغض خلقه إِلَيْهِ وأشدهم عداوة
لَهُ، إنه القدير عَلَى مَا يشاء، والصانع لأوليائه فِي الأشياء،
والسلام عَلَيْكُمْ.
قَالَ: وكتب ابن صرد الكتاب وبعث بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن
الْيَمَانِ مع عَبْد اللَّهِ بن مالك الطَّائِيّ، فبعث بِهِ سعد حين
قرأ كتابه إِلَى من كَانَ بالمدائن من الشيعة، وَكَانَ بِهَا أقوام من
أهل الْكُوفَة قَدْ أعجبتهم فأوطنوها وهم يقدمون الْكُوفَة فِي كل حين
عطاء ورزق، فيأخذون حقوقهم، وينصرفون إِلَى أوطانهم، فقرأ عَلَيْهِم
سعد كتاب سُلَيْمَان بن صرد ثُمَّ إنه حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنكم قَدْ كنتم مجتمعين مزمعين
عَلَى نصر الْحُسَيْن وقتال عدوه، فلم يفجأكم أول من قتله، وَاللَّهِ
مثيبكم عَلَى حسن النية وما أجمعتم عَلَيْهِ من النصر أحسن المثوبة،
وَقَدْ بعث إليكم إخوانكم يستنجدونكم ويستمدونكم، ويدعونكم إِلَى الحق
وإلى مَا ترجون لكم بِهِ عِنْدَ اللَّه أفضل الأجر والحظ، فماذا ترون؟
وماذا تقولون؟ فَقَالَ القوم بأجمعهم: نجيبهم ونقاتل معهم، ورأينا فِي
ذَلِكَ مثل رأيهم.
فقام عَبْد اللَّهِ بن الحنظل الطَّائِيّ ثُمَّ الحزمري، فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدْ
أجبنا إخواننا إِلَى مَا دعونا إِلَيْهِ، وَقَدْ رأينا مثل الَّذِي
قَدْ رأوا، فسرحني إِلَيْهِم فِي الخيل، فَقَالَ لَهُ: رويدا، لا تعجل،
استعدوا للعدو، وأعدوا لَهُ الحرب، ثُمَّ نسير وتسيرون.
وكتب سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد مع عَبْد
اللَّهِ بن مالك الطَّائِيّ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، من
سعد بن حُذَيْفَة ومن قبله من الْمُؤْمِنِينَ، سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا
بَعْدُ، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا الَّذِي دعوتنا إِلَيْهِ من الأمر
الَّذِي عَلَيْهِ رأي الملأ من إخوانك، فقد هديت لحظك، ويسرت لرشدك،
ونحن جادون مجدون، معدون مسرجون ملجمون ننتظر الأمر، ونستمع الداعي،
فإذا جَاءَ الصريخ أقبلنا ولم نعرج إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام
(5/557)
فلما قرأ كتابه سُلَيْمَان بن صرد قرأه على
اصحابه، فسروا بذلك.
قالوا: وكتب الى المثنى بن مخربه العبدي نسخة الكتاب الَّذِي كَانَ كتب
بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ وبعث بِهِ مع ظبيان بن
عمارة التميمي من بني سعد، فكتب إِلَيْهِ المثنى: أَمَّا بَعْدُ، فقد
قرأت كتابك، وأقرأته إخوانك، فحمدوا رأيك، واستجابوا لك، فنحن موافوك
إِنْ شَاءَ اللَّهُ للأجل الَّذِي ضربت وفي الموطن الَّذِي ذكرت،
والسلام عَلَيْك وكتب فِي أسفل كتابه:
تبصر كأني قَدْ أتيتك معلما ... عَلَى أتلع الهادي اجش هزيم
طويل القرا نهد الشواه مقلص ... ملح عَلَى فأس اللجام أزوم
بكل فتى لا يملأ الروع نحره ... محس لعض الحرب غير سئوم
أخي ثقة ينوي الإله بسعيه ... ضروب بنصل السيف غير أثيم
قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، عن الْحَارِث بن حصيرة، عن عَبْد
اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، قَالَ: كَانَ أول مَا ابتدعوا بِهِ من
أمرهم سنة إحدى وستين، وَهِيَ السنة الَّتِي قتل فِيهَا الْحُسَيْن
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يزل القوم فِي جمع آلة الحرب والاستعداد
للقتال، ودعاء الناس فِي السر من الشيعة وغيرها إِلَى الطلب بدم
الْحُسَيْن، فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر.
فلم يزالوا كذلك وفي ذَلِكَ حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة يوم
الخميس لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ
سنة أربع وستين، وَكَانَ بين قتل الْحُسَيْن وهلاك يَزِيد بن
مُعَاوِيَة ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام، وهلك يَزِيد وأمير العراق
عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، وخليفته بالكوفة
عَمْرو بن حريث المخزومي، فَجَاءَ إِلَى سُلَيْمَان أَصْحَابه من
الشيعة، فَقَالُوا: قَدْ مات هَذَا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإن شئت
وثبنا عَلَى عَمْرو بن حريث فأخرجناه من القصر، ثُمَّ أظهرنا الطلب بدم
الْحُسَيْن، وتتبعنا قتلته، ودعونا الناس إِلَى أهل هَذَا البيت
المستأثر عَلَيْهِم، المدفوعين عن حقهم، فَقَالُوا فِي ذَلِكَ فأكثروا،
فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَان بن صرد: رويدا، لا تعجلوا، إني قَدْ نظرت
فِيمَا تذكرون، فرأيت أن قتلة الْحُسَيْن هم أشراف أهل الْكُوفَة،
وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا مَا تريدون، وعلموا
أَنَّهُمُ المطلوبون، كَانُوا
(5/558)
أشد عَلَيْكُمْ ونظرت فيمن تبعني مِنْكُمْ
فعلمت أَنَّهُمْ لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا أنفسهم، ولم
ينكوا فِي عدوهم، وكانوا لَهُمْ جزرا، ولكن بثوا دعاتكم فِي المصر،
فادعوا إِلَى أمركم هَذَا، شيعتكم وغير شيعتكم، فإني أرجو أن يكون
الناس الْيَوْم حَيْثُ هلك هَذَا الطاغية أسرع إِلَى أمركم استجابة
مِنْهُمْ قبل هلاكه ففعلوا، وخرجت طائفة مِنْهُمْ دعاة يدعون الناس،
فاستجاب لَهُمْ ناس كثير بعد هلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة أضعاف من كَانَ
استجاب لَهُمْ قبل ذَلِكَ.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا الحصين بن يَزِيدَ، عن
رجل من مزينة قَالَ: مَا رأيت من هَذِهِ الأمة أحدا كَانَ أبلغ من
عُبَيْد اللَّهِ بن عَبْدِ اللَّهِ المري فِي منطق وَلا عظة، وَكَانَ
من دعاة أهل المصر زمان سُلَيْمَان بن صرد، وَكَانَ إذا اجتمعت
إِلَيْهِ جماعة مِنَ النَّاسِ فوعظهم بدأ بحمد اللَّه والثناء عَلَيْهِ
والصلاة عَلَى رَسُول الله ص، ثُمَّ يقول: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه
اصطفى محمدا ص عَلَى خلقه بنبوته، وخصه بالفضل كله، وأعزكم بأتباعه
وأكرمكم بالإيمان بِهِ، فحقن بِهِ دماءكم المسفوكة، وأمن بِهِ سبلكم
المخوفة، «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ» فهل خلق ربكم فِي الأولين والآخرين أعظم حقا عَلَى هَذِهِ
الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقا
عَلَى هَذِهِ الأمة من ذرية رسولها؟ لا وَاللَّهِ، مَا كَانَ وَلا يكون
لِلَّهِ أنتم! ألم تروا ويبلغكم مَا اجترم إِلَى ابن بنت نبيكم! أما
رأيتم إِلَى انتهاك القوم حرمته، واستضعافهم وحدته، وترميلهم إِيَّاهُ
بالدم، وتجرارهموه عَلَى الأرض! لم يرقبوا فِيهِ ربهم ولا قرابته من
الرسول ص، اتخذوه للنبل غرضا، وغادروه للضباع جزرا، فلله عينا من رَأَى
مثله! ولله حُسَيْن بن علي، ماذا غادروا بِهِ ذا صدق وصبر، وذا أمانة
ونجدة وحزم! ابن أول الْمُسْلِمِينَ إسلاما، وابن بنت رسول رب
العالمين، قلت حماته، وكثرت عداته حوله، فقتله عدوه، وخذله وليه فويل
للقاتل، وملامة
(5/559)
للخاذل! إن اللَّه لم يجعل لقاتله حجة،
وَلا لخاذله معذرة، إلا أن يناصح لِلَّهِ فِي التوبة، فيجاهد القاتلين،
وينابذ القاسطين، فعسى اللَّه عِنْدَ ذَلِكَ أن يقبل التوبة، ويقيل
العثرة، إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل
بيته، وإلى جهاد المحلين والمارقين، فإن قتلنا فما عِنْدَ اللَّه خير
للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هَذَا الأمر إِلَى أهل بيت نبينا.
قَالَ: وَكَانَ يعيد هَذَا الكلام علينا فِي كل يوم حَتَّى حفظه
عامتنا.
قَالَ: ووثب الناس عَلَى عَمْرو بن حريث عِنْدَ هلاك يَزِيد بن
مُعَاوِيَة، فأخرجوه من القصر، واصطلحوا عَلَى عَامِر بن مسعود بن
أُمَيَّة بن خلف الْجُمَحِيّ.
وَهُوَ دحروجة الجعل الَّذِي قَالَ لَهُ ابن همام السلولي:
اشدد يديك بزَيْد إن ظفرت بِهِ ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل
وَكَانَ كأنه إبهام قصرا، وزَيْد مولاه وخازنه، فكان يصلي بِالنَّاسِ.
وبايع لابن الزُّبَيْر، ولم يزل أَصْحَاب سُلَيْمَان بن صرد يدعون
شيعتهم وغيرهم من أهل مصرهم حَتَّى كثر تبعهم، وَكَانَ الناس الى
اتباعهم بعد هلاك يزيد ابن مُعَاوِيَة أسرع مِنْهُمْ قبل ذَلِكَ، فلما
مضت سته اشهر من هلاك يزيد ابن مُعَاوِيَة، قدم المختار بن أبي عبيد
الْكُوفَة، فقدم فِي النصف من شهر رمضان يوم الجمعة قَالَ: وقدم عَبْد
اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي من قبل عَبْد اللَّهِ
بن الزُّبَيْرِ أميرا عَلَى الْكُوفَة عَلَى حربها وثغرها، وقدم مَعَهُ
من قبل ابن الزُّبَيْر إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن
عُبَيْد اللَّهِ الأعرج أميرا على خراج الْكُوفَة، وَكَانَ قدوم عَبْد
اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي يوم الجمعة لثمان بقين
من شهر رمضان سنة أربع وستين.
قَالَ: وقدم المختار قبل عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن
مُحَمَّد بثمانية أيام، ودخل المختار الْكُوفَة، وَقَدِ اجتمعت رءوس
الشيعة ووجوهها مع سُلَيْمَان بن صرد فليس يعدلونه بِهِ، فكان المختار
إذا دعاهم إِلَى نفسه وإلى الطلب بدم الْحُسَيْن قالت لَهُ الشيعة:
هَذَا سُلَيْمَان بن صرد شيخ الشيعة، قَدِ انقادوا لَهُ واجتمعوا
(5/560)
عَلَيْهِ، فأخذ يقول للشيعة: إني قَدْ
جئتكم من قبل المهدي مُحَمَّد بن عَلِيّ ابن الحنفيه مؤتمنا مأمونا،
منتجبا ووزيرا، فو الله مَا زال بالشيعة حَتَّى انشعبت إِلَيْهِ طائفة
تعظمه وتجيبه، وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان ابن صرد،
فسُلَيْمَان أثقل خلق اللَّه عَلَى المختار.
وَكَانَ المختار يقول لأَصْحَابه: أتدرون مَا يريد هَذَا؟ يعني
سُلَيْمَان بن صرد- إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس لَهُ
بصر بالحروب، وَلا لَهُ علم بِهَا.
قَالَ: وأتى يَزِيد بن الْحَارِث بن يَزِيدَ بن رويم الشيباني عَبْد
اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ فَقَالَ: إن الناس يتحدثون أن هَذِهِ
الشيعة خارجة عَلَيْك مع ابن صرد، ومنهم طائفة أخرى مع المختار، وَهِيَ
أقل الطائفتين عددا، والمختار فِيمَا يذكر الناس لا يريد أن يخرج
حَتَّى ينظر إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ أمر سُلَيْمَان بن صرد، وَقَدِ
اجتمع لَهُ أمره، وَهُوَ خارج من أيامه هَذِهِ، فإن رأيت أن تجمع الشرط
والمقاتلة ووجوه الناس، ثُمَّ تنهض إِلَيْهِم، وننهض معك، فإذا دفعت
الى منزله دعوته، فان أجابك فحسبه، وإن قاتلك قاتلته، وَقَدْ جمعت لَهُ
وعبأت وَهُوَ مغتر، فإني أخاف عَلَيْك إن هُوَ بدأك وأقررته حَتَّى
يخرج عَلَيْك أن تشتد شوكته، وأن يتفاقم أمره.
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: اللَّه بيننا وبينهم، إن هم قاتلونا
قتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم، حَدِّثْنِي مَا يريد الناس؟ قَالَ:
يذكر الناس أَنَّهُمْ يطلبون بدم الْحُسَيْن بن علي، قَالَ: فأنا قتلت
الْحُسَيْن! لعن اللَّه قاتل الْحُسَيْن! قَالَ: وَكَانَ سُلَيْمَان بن
صرد وأَصْحَابه يريدون أن يثبوا بالكوفة، فخرج عَبْد اللَّهِ بن
يَزِيدَ حَتَّى صعد الْمِنْبَر، ثُمَّ قام فِي الناس فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني أن طائفة
من أهل هَذَا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن الَّذِي دعاهم
إِلَى ذَلِكَ مَا هُوَ؟ فقيل لي: زعموا أَنَّهُمْ يطلبون بدم
الْحُسَيْن بن علي، فرحم اللَّه هَؤُلاءِ القوم، قَدْ وَاللَّهِ دللت
على أماكنهم، وامرت بأخذهم، وقيل: ابداهم قبل
(5/561)
أن يبدءوك، فأبيت ذَلِكَ، فقلت: إن قاتلوني
قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم، وعلام يقاتلونني! فو الله مَا أنا قتلت
حسينا، وَلا أنا ممن قاتله، وَلَقَدْ أصبت بمقتله رحمة اللَّه
عَلَيْهِ! فإن هَؤُلاءِ القوم آمنون، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين
ليسيروا إِلَى من قاتل الْحُسَيْن، فقد أقبل إِلَيْهِم، وأنا لَهُمْ
عَلَى قاتله ظهير، هَذَا ابن زياد قاتل الْحُسَيْن، وقاتل خياركم
وأماثلكم، قَدْ توجه إليكم، عهد العاهد بِهِ عَلَى مسيرة ليلة من جسر
منبج، فقتاله والاستعداد لَهُ أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم،
فيقتل بعضكم بعضا، ويسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم ذَلِكَ العدو غدا
وَقَدْ رققتم، وتلك وَاللَّهِ أمنية عدوكم، وإنه قَدْ أقبل إليكم أعدى
خلق اللَّه لكم، من ولي عَلَيْكُمْ هُوَ وأبوه سبع سنين، لا يقلعان عن
قتل أهل العفاف والدين، هُوَ الَّذِي قتلكم، ومن قبله اتيتم، والذي قتل
من تثأرون بدمه، قَدْ جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم، واجعلوها بِهِ،
وَلا تجعلوها بأنفسكم، إني لم آلكم نصحا، جمع اللَّه لنا كلمتنا، وأصلح
لنا أئمتنا! قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة:
أَيُّهَا النَّاسُ، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هَذَا المداهن
الموادع، وَاللَّهِ لَئِنْ خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استقينا أن
قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده، والمولود بوالده،
ولنأخذن الحميم بالحميم، والعريف بِمَا فِي عرافته حَتَّى يدينوا للحق،
ويذلوا للطاعة فوثب إِلَيْهِ المسيب بن نجبة فقطع عَلَيْهِ منطقه ثُمَّ
قَالَ: يا بن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت وَاللَّهِ أذل من
ذَلِكَ، إنا لا نلومك عَلَى بغضنا، وَقَدْ قتلنا أباك وجدك، وَاللَّهِ
إني لأرجو الا يخرجك اللَّه من بين ظهراني أهل هَذَا المصر حَتَّى
يثلثوا بك جدك وأباك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا، وإني
وَاللَّهِ لأظن من يريد هَذَا الأمر مستنصحا لك، وقابلا قولك.
فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة: إي وَاللَّهِ، ليقتلن
وَقَدْ أدهن ثُمَّ أعلن
(5/562)
فقام إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن وال
التيمي، فَقَالَ: مَا اعتراضك يَا أخا بني تيم بن مره فيما بيننا وبين
أميرنا! فو الله مَا أنت علينا بأمير، وَلا لك علينا سلطان، إنما أنت
أَمِير الجزية، فأقبل عَلَى خراجك، فلعمر اللَّه لَئِنْ كنت مفسدا مَا
أفسد أمر هَذِهِ الأمة إلا والدك وجدك الناكثان، فكانت بهما اليدان،
وكانت عليهما دائرة السوء قَالَ: ثُمَّ أقبل مسيب بن نجبة وعبد اللَّه
بن وال عَلَى عَبْد اللَّهِ بن يزيد فقالا: اما رأيك ايها الأمير فو
الله إنا لنرجو أن تكون بِهِ عِنْدَ العامة محمودا وأن تكون عِنْدَ
الَّذِي عنيت واعتريت مقبولا فغضب أناس من عمال إِبْرَاهِيم بن
مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة وجماعة ممن كَانَ مَعَهُ، فتشاتموا دونه،
فشتمهم الناس وخصموهم.
فلما سمع ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ نزل ودخل، وانطلق
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدٍ وَهُوَ يقول: قَدْ داهن عَبْد اللَّهِ بن
يَزِيدَ أهل الْكُوفَة، وَاللَّهِ لأكتبن بِذَلِكَ إِلَى عَبْد اللَّهِ
بن الزُّبَيْرِ، فأتى شبث بن ربعي التميمي عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ
فأخبره بِذَلِكَ، فركب بِهِ وبيزيد بن الْحَارِث بن رويم حَتَّى دخل
عَلَى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة، فحلف لَهُ بِاللَّهِ مَا
أردت بالقول الَّذِي سمعت إلا العافية وصلاح ذات البين، إنما أتاني
يَزِيد بن الْحَارِث بكذا وكذا، فرأيت أن اقوم فيهم بما سمعت اراده الا
تختلف الكلمة، وَلا تتفرق الألفة، وألا يقع بأس هَؤُلاءِ القوم بينهم
فعذره وقبل مِنْهُ.
قَالَ: ثُمَّ إن أَصْحَاب سُلَيْمَان بن صرد خرجوا ينشرون السلاح
ظاهرين، ويتجهزون يجاهرون بجهازهم وما يصلحهم
. ذكر الخبر عن فراق الخوارج عبد الله بن
الزبير
وفي هَذِهِ السنة فارق عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الخوارج الَّذِينَ
كَانُوا قدموا عَلَيْهِ مكة، فقاتلوا مَعَهُ حصين بن نمير السكوني،
فصاروا إِلَى الْبَصْرَة، ثُمَّ افترقت كلمتهم فصاروا أحزابا
(5/563)
ذكر الخبر عن فراقهم ابن الزُّبَيْر والسبب
الَّذِي من أجله فارقوه والذي من أجله افترقت كلمتهم:
حدثت عن هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي، عن أبي مخنف لوط بن يَحْيَى
قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو المخارق الراسبي، قَالَ: لما ركب ابن زياد من
الخوارج بعد قتل أبي بلال مَا ركب، وَقَدْ كَانَ قبل ذَلِكَ لا يكف
عَنْهُمْ وَلا يستبقيهم غير أنه بعد قتل أبي بلال تجرد لاستئصالهم
وهلاكهم، واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزُّبَيْر بمكة، وسار اليه اهل
الشام، فتذاكروا أتى إِلَيْهِم، فَقَالَ لَهُمْ نافع بن الأزرق: إن
اللَّه قَدْ أنزل عَلَيْكُمُ الكتاب، وفرض عَلَيْكُمْ فِيهِ الجهاد،
واحتج عَلَيْكُمْ بالبيان، وَقَدْ جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولو
العدا والغشم، وهذا من قَدْ ثار بمكة، فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق
هَذَا الرجل، فإن يكن عَلَى رأينا جاهدنا مَعَهُ العدو، وإن يكن عَلَى
غير رأينا دافعنا عن البيت مَا استطعنا، ونظرنا بعد ذَلِكَ فِي أمورنا
فخرجوا حتى قدموا على عبد الله ابن الزبير، فسر بمقدمهم، ونبأهم أنه
عَلَى رأيهم، وأعطاهم الرضا مِنْ غَيْرِ توقف وَلا تفتيش، فقاتلوا
مَعَهُ حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وانصرف أهل الشام عن مكة
ثُمَّ إن القوم لقي بعضهم بعضا، فَقَالُوا: إن هَذَا الَّذِي صنعتم أمس
بغير رأي وَلا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس عَلَى
رأيكم، إنما كَانَ أمس يقاتلكم هُوَ وأبوه ينادي: يال ثأرات عُثْمَان!
فأتوه وسلوه عن عُثْمَان، فإن برئ مِنْهُ كَانَ وليكم، وإن أبى كَانَ
عدوكم.
فمشوا نحوه فَقَالُوا لَهُ: أيها الإنسان، إنا قَدْ قاتلنا معك، ولم
نفتشك عن رأيك حَتَّى نعلم أمنا أنت أم من عدونا! خبرنا مَا مقالتك فِي
عُثْمَان؟ فنظر فإذا من حوله من أَصْحَابه قليل، فَقَالَ لَهُمْ: إنكم
أتيتموني فصادفتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حَتَّى
أعلمكم من ذَلِكَ الَّذِي تريدون.
فانصرفوا، وبعث إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: البسوا السلاح، وأحضروني
بأجمعكم العشية، ففعلوا، وجاءت الخوارج، وَقَدْ أقام أَصْحَابه حوله
سماطين عليهم
(5/564)
السلاح، وقامت جماعة مِنْهُمْ عظيمة عَلَى
رأسه بأيديهم الأعمدة، فَقَالَ ابن الأزرق لأَصْحَابه: خشي الرجل
غائلتكم، وَقَدْ أزمع بخلافكم واستعد لكم، مَا ترون؟
فدنا مِنْهُ ابن الأزرق، فَقَالَ له: يا بن الزُّبَيْر، اتق اللَّه
ربك، وأبغض الخائن المستأثر، وعاد أول من سن الضلالة، وأحدث الأحداث،
وخالف حكم الكتاب، فإنك إن تفعل ذَلِكَ ترض ربك، وتنج من العذاب الأليم
نفسك، وإن تركت ذَلِكَ فأنت من الَّذِينَ استمتعوا بِخَلاقِهِمْ،
وأذهبوا فِي الحياة الدُّنْيَا طيباتهم.
يَا عبيدة بن هلال، صف لهذا الإنسان ومن مَعَهُ أمرنا الَّذِي نحن
عَلَيْهِ، والذي ندعو الناس إِلَيْهِ، فتقدم عبيدة بن هلال.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو عَلْقَمَة
الخثعمى، عن قبيصة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ القحافي، من خثعم، قَالَ: أنا
وَاللَّهِ شاهد عبيدة بن هلال، إذ تقدم فتكلم، فما سمعت ناطقا قط ينطق
كَانَ أبلغ وَلا أصوب قولا مِنْهُ، وَكَانَ يرى رأي الخوارج.
قَالَ: وإن كَانَ ليجمع القول الكثير، فِي المعنى الخطير، فِي اللفظ
اليسير.
قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا
بَعْدُ، فإن اللَّه بعث محمدا ص يدعو إِلَى عبادة اللَّه، وإخلاص
الدين، فدعا إِلَى ذَلِكَ، فأجابه الْمُسْلِمُونَ، فعمل فِيهِمْ بكتاب
الله وامره، حتى قبضه الله اليه ص، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف
أَبُو بَكْر عمر، فكلاهما عمل بالكتاب وسنة رَسُول اللَّهِ، فالحمد
لِلَّهِ رب العالمين ثُمَّ إن الناس استخلفوا عثمان بن عفان، فحمى
الاحماء، وآثر القربى، وَاسْتَعْمَلَ الفتى ورفع الدرة، ووضع السوط،
ومزق الكتاب، وحقر المسلم
(5/565)
وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول ص،
وضرب السابقين بالفضل، وسيرهم وحرمهم ثُمَّ أخذ فيء اللَّه الَّذِي
أفاءه عَلَيْهِم فقسمه بين فساق قريش، ومجان العرب، فسارت إِلَيْهِ
طائفة مِنَ الْمُسْلِمِينَ أخذ اللَّه ميثاقهم عَلَى طاعته، لا يبالون
فِي اللَّه لومة لائم، فقتلوه، فنحن لَهُمْ أولياء، ومن ابن عفان
وأوليائه برآء، فما تقول أنت يا بن الزُّبَيْر؟ قَالَ: فَحَمِدَ
اللَّهَ ابن الزُّبَيْر وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ،
فقد فهمت الذى ذكرتم، وذكرت به النبي ص، فهو كما قلت صلى الله عليه
وفوق مَا وصفته، وفهمت مَا ذكرت بِهِ أبا بكر وعمر، وَقَدْ وفقت وأصبت،
وَقَدْ فهمت الَّذِي ذكرت بِهِ عُثْمَان بن عَفَّانَ رحمة اللَّه
عَلَيْهِ، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق اللَّه الْيَوْم أعلم بابن
عفان وأمره مني، كنت مَعَهُ حَيْثُ نقم القوم عَلَيْهِ، واستعتبوه فلم
يدع شَيْئًا استعتبه القوم فِيهِ إلا أعتبهم مِنْهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ
رجعوا إِلَيْهِ بكتاب لَهُ يزعمون أنه كتبه فِيهِمْ، يأمر فِيهِ بقتلهم
فَقَالَ لَهُمْ: مَا كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت
لكم، فو الله مَا جاءوه ببينة، وَلا استحلفوه ووثبوا عَلَيْهِ فقتلوه،
وَقَدْ سمعت مَا عبته بِهِ، فليس كذلك، بل هُوَ لكل خير أهل، وأنا
أشهدكم ومن حضر أني ولي لابن عفان فِي الدُّنْيَا والآخرة، وولي
أوليائه، وعدو أعدائه، قَالُوا: فبرئ اللَّه مِنْكَ يَا عدو اللَّه،
قَالَ: فبرئ اللَّه مِنْكُمْ يَا أعداء اللَّه.
وتفرق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد اللَّه بن صفار
السعدي من بني صريم بن مقاعس، وعبد اللَّه بن إباض أَيْضًا من بني
صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز: عَبْد اللَّهِ، وعبيد اللَّه،
وَالزُّبَيْر، من بنى سليط ابن يربوع، حَتَّى أتوا الْبَصْرَة، وانطلق
أَبُو طالوت من بني زمان بن مالك بن صعب بن عَلِيّ بن مالك بن بكر بن
وائل وعبد اللَّه بن ثور أَبُو فديك من بني قيس بن ثعلبة وعطية بن
الأَسْوَدِ اليشكري إِلَى اليمامة، فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت،
ثُمَّ أجمعوا بعد ذَلِكَ عَلَى نجده ابن عَامِر الحنفي، فأما
الْبَصْرِيُّونَ
(5/566)
مِنْهُمْ فإنهم قدموا الْبَصْرَة وهم
مجمعون عَلَى رأي أبي بلال.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي أَبُو
المثنى، عن رجل من إخوانه من أهل الْبَصْرَة، أَنَّهُمُ اجتمعوا
فَقَالَتِ العامة مِنْهُمْ: لو خرج منا خارجون فِي سبيل اللَّه، فقد
كَانَتْ منا فترة منذ خرج أَصْحَابنا، فيقوم علماؤنا فِي الأرض فيكونون
مصابيح الناس يدعونهم إِلَى الدين، ويخرج أهل الورع والاجتهاد فيلحقون
بالرب، فيكونون شهداء مرزوقين عِنْدَ اللَّه أحياء.
فانتدب لها نافع بن الأزرق، فاعتقد على ثلاثمائة رجل، فخرج، وَذَلِكَ
عِنْدَ وثوب الناس بعبيد اللَّه بن زياد، وكسر الخوارج أبواب السجون
وخروجهم منها، واشتغل الناس بقتال الأزد وربيعة وبني تميم وقيس فِي دم
مسعود بن عَمْرو، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس بعضهم ببعض، فتهيئوا
واجتمعوا، فلما خرج نافع بن الأزرق تبعوه، واصطلح أهل الْبَصْرَة عَلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِث بْن عبد
المطلب يصلي بهم، وخرج ابن زياد إِلَى الشام، واصطلحت الأزد وبنو تميم،
فتجرد الناس للخوارج، فأتبعوهم وأخافوهم حَتَّى خرج من بقي مِنْهُمْ
بِالْبَصْرَةِ، فلحق بابن الأزرق، إلا قليلا مِنْهُمْ ممن لَمْ يَكُنْ
أراد الخروج يومه ذَلِكَ، مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن صفار، وعبد الله
ابن إباض، ورجال مَعَهُمَا عَلَى رأيهما ونظر نافع بن الأزرق ورأى أن
ولاية من تخلف عنه لا تنبغي، وأن من تخلف عنه لا نجاة لَهُ، فَقَالَ
لأَصْحَابه: إن اللَّه قَدْ أكرمكم بمخرجكم، وبصركم مَا عمي عنه غيركم،
ألستم تعلمون أنكم إنما خرجتم تطلبون شريعته وأمره! فأمره لكم قائد،
والكتاب لكم إمام، وإنما تتبعون سننه وأثره، فَقَالُوا: بلى، فَقَالَ:
أليس حكمكم فِي وليكم حكم النَّبِيّ ص فِي وليه، وحكمكم فِي عدوكم حكم
النَّبِيّ ص فِي عدوه، وعدوكم الْيَوْم عدو اللَّه وعدو النبي ص، كما
ان عدو النبي ص يَوْمَئِذٍ هُوَ عدو اللَّه وعدوكم الْيَوْم!
فَقَالُوا: نعم، قَالَ: فقد أنزل اللَّه تبارك وتعالى:
«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ»
(5/567)
وقال: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ» ، فقد حرم اللَّه ولايتهم، والمقام بين أظهرهم،
وإجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عَنْهُمْ، ومناكحتهم،
ومواريثهم، وَقَدِ احتج اللَّه علينا بمعرفة هَذَا، وحق علينا أن نعلم
هَذَا الدين الَّذِينَ خرجنا من عندهم، وَلا نكتم مَا أنزل اللَّه،
وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ» ، فاستجاب لَهُ إِلَى هَذَا الرأي جميع أَصْحَابه.
فكتب: من عبيد اللَّهِ نافع بن الأزرق إِلَى عَبْد اللَّهِ بن صفار
وعبد الله ابن إباض ومن قبلهما مِنَ النَّاسِ سلام عَلَى أهل طاعة
اللَّه من عباد اللَّه، فإن من الأمر كيت وكيت، فقص هَذِهِ القصة، ووصف
هَذِهِ الصفة، ثُمَّ بعث بالكتاب إليهما فأتيا بِهِ، فقرأه عَبْد
اللَّهِ بن صفار، فأخذه فوضعه خلفه، فلم يقرأه عَلَى الناس خشية أن
يتفرقوا ويختلفوا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن إباض: مَا لك لِلَّهِ
أبوك! اى شيء اصبت! اان قَدْ أصيب إخواننا، أو أسر بعضهم! فدفع الكتاب
إِلَيْهِ، فقرأه، فَقَالَ: قاتله اللَّه!، أي راى راى! صدق نافع ابن
الأزرق، لو كَانَ القوم مشركين كَانَ أصوب الناس رأيا وحكما فِيمَا
يشير بِهِ، وكانت سيرته كسيره النبي ص فِي المشركين، ولكنه قَدْ كذب
وكذبنا فِيمَا يقول، إن القوم كفار بالنعم والأحكام، وهم برآء من
الشرك، وَلا تحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذَلِكَ من أموالهم فهو علينا
حرام، فقال ابن صفار: برئ اللَّه مِنْكَ، فقد قصرت، وبرئ اللَّه من ابن
الأزرق فقد غلا، برئ اللَّه منكما جميعا، وَقَالَ الآخر:
فبرئ اللَّه مِنْكَ ومنه.
وتفرق القوم، واشتدت شوكة ابن الأزرق، وكثرت جموعه، وأقبل
(5/568)
نحو الْبَصْرَة حَتَّى دنا من الجسر، فبعث إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن
الْحَارِث مسلم بن عبيس بن كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد
مناف فِي اهل البصره |