تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر الخبر عن بعث المختار جيشه للمكر بابن الزبير
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بعث المختار جيشا إلى المدينة للمكر بابن الزبير، وهو مظهر له أنه وجههم معونة له لحرب الجيش الذي كان عبد الملك بن مروان وجهه إليه لحروبه، فنزلوا وادي القرى.
ذكر الخبر عن السبب الداعي كان للمختار إلى توجيه ذلك الجيش وإلى ما صار أمرهم:
قال هشام بن مُحَمَّد: قال أبو مخنف: حدثني موسى بن عامر، قال:
لما اخرج المختار ابن مطيع من الكوفة لحق بالبصرة وكره أن يقدم ابن الزبير بمكة وهو مهزوم مفلول، فكان بالبصرة مقيما حتى قدم عليه عمر بن عبد الرحمن بن هشام، فصارا جميعا بالبصرة وكان سبب قدوم عمر البصرة أن المختار حين ظهر بالكوفة واستجمع له الأمر وهو عند الشيعة إنما يدعو إلى ابن الحنفية والطلب بدماء أهل البيت، أخذ يخادع ابن الزبير ويكتب إليه، فكتب إليه: أما بعد، فقد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك فلما وفيت لك، وقضيت الذي كان لك علي، خست بي، ولم تف بما عاهدتني عليه، ورأيت مني ما قد رأيت، فإن ترد مراجعتي أراجعك، وإن ترد مناصحتي أنصح لك وهو يريد بذلك كفه عنه، حتى يستجمع له الأمر، وهو لا يطلع الشيعة على شيء من هذا الأمر، وإذا بلغهم شيء منه أراهم أنه أبعد الناس عن ذلك قال: فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب! فدعا عُمَر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ المخزومي

(6/71)


فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليناكها، فقال: كيف وبها المختار! قال:
إنه يزعم أنه سامع مطيع قال: فتجهز بما بين الثلاثين الألف درهم إلى الأربعين ألفا، ثم خرج مقبلا إلى الكوفة قال: ويجيء عين المختار من مكة حتى أخبره الخبر، فقال له: بكم تجهز؟ قال: بما بين الثلاثين ألفا إلى الأربعين ألفا قال: فدعا المختار زائدة بن قدامة وقال له: احمل معك سبعين ألف درهم ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في المفاوز، واخرج معك مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي في خمسمائة فارس دارع رامح، عليهم البيض، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك، فإنه قد بلغنا أنك تجهزت وتكلفت قدر ذلك، فكرهنا أن تغرم، فخذها وانصرف، فإن فعل وإلا فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة.
قال: فأخذ زائدة المال، وأخرج معه الخيل، وتلقاه بالمفاوز، وعرض عليه المال، وأمره بالانصراف، فقال له: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره فدعا زائدة بالخيل وقد أكمنها في جانب، فلما رآها قد أقبلت قال: هذا الآن أعذر لي وأجمل بي، هات المال، فقال له زائدة: أما إنه لم يبعث به إليك إلا لما بينك وبينه، فدفعه إليه فأخذه، ثم مضى راجعا نحو البصرة، فاجتمع بها هو وابن مطيع في إمارة الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم أن المختار أخبر أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه به يبدأ، فخشي أن يأتيه أهل الشام من قبل المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداراه وكايده، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، والمختار لابن الزبير مكايد موادع، فكتب المختار إلى ابن الزبير:

(6/72)


أما بعد، فقد بلغني أن عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك.
فكتب إليه عبد الله بن الزبير:
أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي الناس قبلك، فإذا أتتني بيعتك صدقت مقالتك، وكففت جنودي عن بلادك، وعجل علي بتسريح الجيش الذي أنت باعثه، ومرهم فليسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم.
والسلام.
فدعا المختار شرحبيل بن ورس من همدان، فسرحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب الا سبعمائة رجل، فقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري، وهو يريد إذا دخلوا المدينة أن يبعث عليهم أميرا من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكة حتى يحاصر ابن الزبير ويقاتله بمكة، فخرج الآخر يسير قبل المدينة، وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده، فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير: إن رأيت القوم في طاعتي فاقبل منهم، وإلا فكايدهم حتى تهلكهم ففعلوا، وأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد عبى ابن ورس أصحابه، فجعل على ميمنته سلمان ابن حمير الثوري من همدان، وعلى ميسرته عياش بن جعدة الجد لي، وكانت خيله كلها في الميمنة والميسرة، فدنا فسلم عليه، ونزل هو يمشي في الرجالة، وجاء عباس في أصحابه وهم منقطعون على غير تعبئة، فيجد ابن ورس على الماء قد عبى اصحابه تعبئة القتال، فدنا منهم فسلم عليهم، ثم قال:
اخل معى هاهنا، فخلا به، فقال له: رحمك الله! ألست في طاعة ابن الزبير! فقال له ابن ورس: بلى، قال: فسر بنا إلى عدوه هذا الذي بوادي القرى، فإن ابن الزبير حدثني أنه إنما أشخصكم صاحبكم إليهم، قال ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، إنما أمرت أن أسير حتى آتي المدينة، فإذا نزلتها رأيت رأيي قال له عباس بن سهل: فإن كنت في طاعة ابن الزبير فقد

(6/73)


أمرني أن أسير بك وبأصحابك إلى عدونا الذين بوادي القرى، فقال له ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، وما أنا بمتبعك دون أن أدخل المدينة، ثم أكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره فلما رأى عباس بن سهل لجاجته عرف خلافه، فكره أن يعلمه أنه قد فطن له، فقال: فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك، فأما أنا فإني سائر إلى وادي القرى ثم جاء عباس بن سهل فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزائر كانت معه، فأهداها له، وبعث إليه بدقيق وغنم مسلخة- وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعا- فبعث عباس بن سهل إلى كل عشرة منهم شاة، فذبحوها، واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وترك القوم تعبيتهم، وأمن بعضهم بعضا، فلما رأى عباس بن سهل ما هم فيه من الشغل جمع من أصحابه نحوا من ألف رجل من ذوي البأس والنجدة ثم أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رآهم ابن ورس مقبلين إليه نادى في أصحابه، فلم يتواف إليه مائة رجل حتى انتهى إليه عباس بن سهل وهو يقول: يا شرطة الله، إلي إلي! قاتلوا المحلين، أولياء الشيطان الرجيم، فإنكم على الحق والهدى، قد غدروا وفجروا.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباسا انتهى إليهم، وهو يقول:
أنا ابن سهل فارس غير وكل ... أروع مقدام إذا الكبش نكل
وأعتلي رأس الطرماح البطل ... بالسيف يوم الروع حتى ينخزل
قال: فو الله ما اقتتلنا إلا شيئا ليس بشيء حتى قتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس بن سهل راية أمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلا نحوا من ثلاثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حمير الهمداني وعياش بن جعدة الجدلي، فلما وقعوا في يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلا نحوا من مائتي رجل، كره ناس من الناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلوا سبيلهم، فرجعوا، فمات أكثرهم في الطريق، فلما

(6/74)


بلغ المختار أمرهم، ورجع من رجع منهم، قام خطيبا فقال: ألا إن الفجار الأشرار، قتلوا الأبرار الأخيار إلا إنه كان أمرا مأتيا، وقضاء مقضيا وكتب المختار إلى ابن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني كنت بعثت إليك جندا ليذلوا لك الأعداء، وليحوزوا لك البلاد، فساروا إليك حتى إذا أظلوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغروهم بعهد الله، فلما اطمأنوا إليهم، ووثقوا بذلك منهم، وثبوا عليهم فقتلوهم، فإن رأيت أن أبعث إلى أهل المدينة من قبلي جيشا كثيفا، وتبعث إليهم من قبلك رسلا، حتى يعلم أهل المدينة أني في طاعتك، وإنما بعثت الجند إليهم عن أمرك، فافعل، فإنك ستجد عظمهم بحقكم أعرف، وبكم أهل البيت اراف لهم بآل الزبير الظلمة الملحدين، والسلام عليك.
فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد، فإن كتابك لما بلغني قرأته، وفهمت تعظيمك لحقي، وما تنوي به من سروري وإن أحب الأمور كلها إلي ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت، واعلم انى لو اردت لوجدت الناس إلي سراعا، والأعوان لي كثيرا، ولكني أعتزلهم، وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفية فودعه وَسَلَّمَ عليه، وأعطاه الكتاب وقال له: قل للمختار فليتق الله، وليكفف عن الدماء، قال:
فقلت له: أصلحك الله! او لم تكتب بهذا اليه! قال له ابن الحنفية:
قد أمرته بطاعة الله، وطاعة الله تجمع الخير كله، وتنهى عن الشر كله فلما قدم كتابه على المختار أظهر للناس أني قد أمرت بأمر يجمع البر واليسر، ويضرح الكفر والغدر
. ذكر الخبر عن قدوم الخشبيه مكة وموافاتهم الحج
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قدمت الخشبية مكة، ووافوا الحج وأميرهم أبو عبد الله الجدلي.
ذكر الخبر عن سبب قدومهم مكة:
وكان السبب في ذلك- فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف وعلي بن مُحَمَّد،

(6/75)


عن مسلمه ابن محارب- أن عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهدا إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلا، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولا يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما توعدهم به ابن الزبير فوجه ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه، وما توعدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنار، ويسألهم الا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته فقدموا على المختار، فدفعوا إليه الكتاب فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم وقد تركوا محظورا عليهم كما يحظر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق بالنار في آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزرا، وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل، كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل.
ووجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوه، ووجه ظبيان ابن عماره أخا بنى تميم ومعه أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى مُحَمَّد بن علي مع الطفيل بن عامر ومُحَمَّد بن قيس بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم في أثر بعض، وجاء أبو عبد الله حتى نزل ذات عرق في سبعين راكبا، ثم لحقه عمير بن طارق في اربعين راكبا، ويونس ابن عمران في أربعين راكبا، فتموا خمسين ومائة، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام، ومعهم الكافر كوبات، وهم ينادون: يا لثأرات الحسين! حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد

(6/76)


بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا له: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال لهم:
إني لا أستحل القتال في حرم الله فقال ابن الزبير: أتحسبون أني مخل سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا! فقال أبو عبد الله الجدلي: أي ورب الركن والمقام، ورب الحل والحرام، لتخلين سبيله أو لنجالدنك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون فقال ابن الزبير: والله ما هؤلاء إلا أكلة رأس، والله لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتى تقطف رءوسهم، فقال له قيس بن مالك: أما والله إني لأرجو إن رمت ذلك أن يوصل إليك قبل أن ترى فينا ما تحب فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة، ثم قدم أبو المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين، ومعه مال حتى دخلوا المسجد، فكبروا: يا لثأرات الحسين! فلما رآهم ابن الزبير خافهم، فخرج مُحَمَّد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبون ابن الزبير، ويستأذنون ابن الحنفية فيه، فيأبى عليهم، فاجتمع مع محمد ابن علي في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال
. ذكر الخبر عن حصار بنى تميم بخراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بني تميم بسبب قتل من قتل منهم ابنه مُحَمَّدا.
قال علي بن مُحَمَّد: حدثنا الحسن بن رشيد الجوزجاني عن الطفيل ابن مرداس العمي، قال: لما تفرقت بنو تميم بخراسان أيام ابن خازم، أتى قصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين، فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفز المزني، ومعه شعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري وزهير بن ذؤيب العدوي، وجيهان بن مشجعة الضبي، والحجاج بن ناشب العدوي، ورقبة بن الحر في فرسان بني تميم، قال: فأتاهم ابن خازم، فحصرهم وخندق خندقا حصينا قال: وكانوا يخرجون إليه

(6/77)


فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر قال: فخرج ابن خازم يوما على تعبئة من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم عثمان بن بشر بن المحتفز: انصرفوا اليوم عن ابن خازم، فلا أظن لكم به طاقة، فقال زهير بن ذؤيب العدوي: امرأته طالق إن رجع حتى ينقض صفوفهم- وإلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطم أولهم على آخرهم، واستداروا وكر راجعا، واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به:
لا ينزل إليه أحد، حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدر فيه، فخرج فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع، قال: فقال ابن خازم لأصحابه:
إذا طاعنتم زهيرا فاجعلوا في رماحكم كلاليب فأعلقوها في أداته إن قدرتم عليه، فخرج إليهم يوما وفي رماحهم كلاليب قد هيئوها له، فطاعنوه، فأعلقوا في درعه أربعة أرماح، فالتفت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، فخلوا رماحهم، فجاء يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر، قال: فأرسل ابن خازم غزوان بن جزء العدوي إلى زهير فقال:
قل له: أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف، وجعلت لك باسار طعمة تناصحني، فقال زهير لغزوان: ويحك! كيف اناصح قوما قتلوا الاشعث ابن ذؤيب! فأسقط بها غزوان عند موسى بن عبد الله بن خازم.
قال: فلما طال عليهم الحصار أرسلوا إلى ابن خازم أن خلنا نخرج فنتفرق، فقال: لا إلا أن تنزلوا على حكمي، قالوا: فإنا ننزل على حكمك، فقال لهم زهير: ثكلتكم أمهاتكم! والله ليقتلنكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت أنفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا فإما أن تموتوا جميعا وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم

(6/78)


شدة صادقة ليفرجن لكم عن مثل طريق المربد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم قال: فأبوا عليه، فقال: أما إني سأريكم، ثم خرج هو ورقبة بن الحر ومع رقبة غلام له تركي وشعبة بن ظهير قال:
فحملوا على القوم حملة منكرة، فأفرجوا لهم، فمضوا، فأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر فقال لأصحابه: قد رأيتم فأطيعوني، ومضى رقبة وغلامه وشعبة، قالوا: إن فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة، قال: أبعدكم الله! أتخلون عن أصحابكم! والله لا أكون أجزعكم عند الموت قال: ففتحوا القصر ونزلوا، فأرسل فقيدهم، ثم حملوا إليه رجلا رجلا، فأراد أن يمن عليهم، فأبى ابنه موسى، وقال: والله لئن عفوت عنهم لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري، فقال له عبد الله: أما والله إني لأعلم أن الغي فيما تأمرني به، ثم قتلهم جميعا إلا ثلاثة، قال: أحدهم الحجاج بن ناشب العدوي- وكان رمى ابن خازم وهو محاصرهم فكسر ضرسه، فحلف لئن ظفر به ليقتلنه أو ليقطعن يده، وكان حدثا، فكلمه فيه رجال من بني تميم كانوا معتزلين، من عمرو بن حنظلة، فقال رجل منهم: ابن عمي وهو غلام حدث جاهل، هبه لي، قال: فوهبه له، وقال: النجاء! لا أرينك.
قال: وجيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على ابنه مُحَمَّد يوم قتل، فقال ابن خازم: خلوا عن هذا البغل الدارج، ورجل من بني سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر قال:
وجاءوا بزهير بن ذؤيب فأرادوا حمله وهو مقيد، فأبى وأقبل يحجل حتى جلس بين يديه، فقام له ابن خازم: كيف شكرك ان اطلقتك وجعلت لك باسار طعمة؟ قال: لو لم تصنع بي إلا حقن دمي لشكرتك، فقام ابنه موسى فقال: تقتل الضبع وتترك الذيخ! تقتل اللبؤة وتترك الليث! قال: ويحك! نقتل مثل زهير! من لقتال عدو المسلمين! من لنساء العرب! قال: والله لو شركت في دم أخي أنت لقتلتك، فقام رجل من بني

(6/79)


سليم إلى ابن خازم، فقال: أذكرك الله في زهير! فقال له موسى: اتخذه فحلا لبناتك، فغضب ابن خازم، فأمر بقتله، فقال له زهير: إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقتلني على حدة، ولا تخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كراما، وأن يخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله أن لو فعلوا لذعروا بنيك هذا، وشغلوه بنفسه عن طلب الثأر بأخيه فأبوا، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالا.
فأمر به فنحي ناحية فقتل.
قال مسلمة بن محارب: فكان الأحنف بن قيس إذا ذكرهم قال:
قبح الله ابن خازم! قتل رجالا من بني تميم بابنه، صبي وغد أحمق لا يساوي علقا، ولو قتل منهم رجلا به لكان وفى.
قال: وزعمت بنو عدي أنهم لما أرادوا حمل زهير بن ذؤيب أبى واعتمد على رمحه وجمع رجليه فوثب الخندق، فلما بلغ الحريش بن هلال قتلهم قال:
أعاذل إني لم ألم في قتالهم ... وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما
أعاذل ما وليت حتى تبددت ... رجال وحتى لم أجد متقدما
أعاذل أفناني السلاح ومن يطل ... مقارعة الأبطال يرجع مكلما
أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا ... دما لازما لي دون أن تسكبا الدما
أبعد زهير وابن بشر تتابعا ... وورد أرجي في خراسان مغنما
أعاذل كم من يوم حرب شهدته ... أكر إذا ما فارس السوء أحجما
يعني بقوله: أبعد زهير، زهير بن ذؤيب، وابن بشر، عثمان بن بشر المحتفز المازني، وورد بن الفلق العنبري، قتلوا يومئذ، وقتل سُلَيْمَان بن المحتفز أخو بشر.
قال أبو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد الله، وعلى البصره الحارث

(6/80)


ابن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكانت الكوفة بها المختار غالبا عليها، وبخراسان عبد الله بن خازم.

شخوص ابراهيم بن الاشتر لحرب عبيد الله بن زياد
وفي هذه السنة شخص إبراهيم بن الأشتر متوجها الى عبيد الله ابن زياد لحربه، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة.
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح- وكان قد أدرك ذلك- قال: حدثني فضيل بن خديج- وكان قد شهد ذلك- وغيرهما، قالوا: ما هو إلا أن فرغ المختار من أهل السبيع وأهل الكناسة، فما نزل إبراهيم بن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه له لقتال أهل الشام، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وأخرج المختار معه من وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم: ممن قد شهد الحرب وجربها، وخرج معه قيس بن طهفة النهدي على ربع أهل المدينة، وأمر عبد الله بن حية الأسدي على ربع مذجج وأسد، وبعث الأسود بن جراد الكندي على ربع كندة وربيعة، وبعث حبيب بن منقذ الثوري من همدان على ربع تميم وهمدان، وخرج معه المختار يشيعه حتى إذا بلغ دير عبد الرحمن بن أم الحكم، إذا أصحاب المختار قد استقبلوه قد حملوا الكرسي على بغل أشهب كانوا يحملونه عليه، فوقفوا به على القنطرة، وصاحب امر الكرسي حوشب البرسمي، وهو يقول: يا رب عمرنا في طاعتك، وانصرنا على الأعداء، واذكرنا ولا تنسنا واسترنا، قال: وأصحابه يقولون: آمين آمين، قال فضيل: فأنا سمعت ابن نوف الهمداني يقول: قال المختار:
أما ورب المرسلات عرفا ... لنقتلن بعد صف صفا
وبعد ألف قاسطين ألفا.
قال: فلما انتهى إليهم المختار وابن الأشتر ازدحموا ازدحاما شديدا

(6/81)


على القنطرة، ومضى المختار مع إبراهيم إلى قناطر رأس الجالوت- وهي إلى جنب دير عبد الرحمن- فإذا أصحاب الكرسي قد وقفوا على قناطر رأس الجالوت يستنصرون، فلما صار المختار بين قنطرة دير عبد الرحمن وقناطر رأس الجالوت وقف، وذلك حين أراد أن ينصرف، فقال لابن الأشتر: خذ عني ثلاثا: خف الله في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم، وان لقيتهم ليلا فاستطعت الا تصبح حتى تناجزهم، وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم الليل حتى تحاكمهم إلى الله، ثم قال: هل حفظت ما أوصيتك به؟ قال: نعم، قال: صحبك الله، ثم انصرف وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمام أعين، ومنه شخص بعسكره
. ذكر امر الكرسي الذى كان المختار يستنصر به!
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج قال: لما انصرف المختار مضى إبراهيم ومعه أصحابه حتى انتهى إلى أصحاب الكرسي وقد عكفوا حوله وهم رافعوا أيديهم إلى السماء يستنصرون، فقال إبراهيم: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء- سنة بني إسرائيل، والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم- فلما جاز القنطرة إبراهيم وأصحابه انصرف أصحاب الكرسي.

ذكر الخبر عن سبب كرسي المختار الذي يستنصر به هو وأصحابه:
قال أبو جعفر: وكان بدء سببه ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله ابن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، قال: حدثني معبد بن خالد، قال: حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة، قال: أعدمت مره من الورق، فانى لكذلك إذا خرجت يوما فإذا زيات جار لي، له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر على بالي ان لو قلب للمختار في هذا! فرجعت فأرسلت إلى

(6/82)


الزيات: أرسل إلي بالكرسي، فأرسل إلي به، فأتيت المختار، فقلت: إني كنت أكتمك شيئا لم أستحل ذلك، فقد بدا لي أن أذكره لك، قال:
وما هو؟ قلت: كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه يرى أن فيه أثرة من علم، قال: سبحان الله! فأخرت هذا إلى اليوم! ابعث إليه، ابعث إليه، قال: وقد غسل وخرج عود نضار، وقد تشرب الزيت، فخرج يبص، فجيء به وقد غشي، فأمر لي باثني عشر ألفا، ثم دعا: الصلاة جامعة.
فحدثني معبد بن خالد الجدلي قال: انطلق بي وبإسماعيل بن طلحه ابن عبيد الله وشبث بن ربعي والناس يجرون إلى المسجد، فقال المختار: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وإن هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه، فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبئيه فرفعوا أيديهم، وكبروا ثلاثا، فقام شبث بن ربعي وقال: يا معشر مضر، لا تكفرن، فنحوه فذبوه وصدوه واخرجوه، قال إسحاق: فو الله إني لأرجو أنها لشبث، ثم لم يلبث أن قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل باهل الشام باجميرا، فخرج بالكرسي على بغل وقد غشي، يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتى تعاطوا الكفر، فقلت: إنا لله! وندمت على ما صنعت، فتكلم الناس في ذلك، فغيب، فلم أره بعد.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قال أبو صالح: فقال في ذلك أعشى همدان كما حدثني غير عبد الله:
شهدت عليكم انكم سبئيه ... وإني بكم يا شرطة الشرك عارف
وأقسم ما كرسيكم بسكينة ... وإن كان قد لفت عليه اللفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبام حواليه ونهد وخارف

(6/83)


وإني امرؤ أحببت آل مُحَمَّد ... وتابعت وحيا ضمنته المصاحف
وتابعت عبد الله لما تتابعت ... عليه قريش: شمطها والغطارف
وقال المتوكل الليثي:
أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أني بكرسيكم كافر
تنزو شبام حول أعواده ... وتحمل الوحي له شاكر
محمرة أعينهم حوله ... كأنهن الحمص الحادر
فأما أبو مخنف: فإنه ذكر عن بعض شيوخه قصة هذا الكرسي غير الذي ذكره عبد الله بن أحمد بالإسناد الذي حدثنا به، عن طفيل بن جعدة والذي ذكر من ذلك ما حدثنا به، عن هشام بن مُحَمَّد، عنه، قال: حدثنا هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام، أن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي- وكانت أم جعدة أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي بن ابى طالب ع لأبيه وأمه: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب، فقالوا: لا والله ما هو عندنا، وما ندري من أين نجيء به! قال: لا تكونن حمقى، اذهبوا فأتوني به، قال: فظن القوم عند ذلك أنهم لا يأتون بكرسي، فيقولون: هو هذا إلا قبله منهم، فجاءوا بكرسي فقالوا: هو هذا فقبله، قال: فخرجت شبام وشاكر ورءوس أصحاب المختار وقد عصبوه بالحرير والديباج.
قال أبو مخنف، عن موسى بن عامر أبي الأشعر الجهني: إن الكرسي لما بلغ ابن الزبير أمره قال: أين بعض جنادبة الأزد عنه! قال أبو الأشعر: لما جيء بالكرسي كان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، وكان يأتي المختار أول ما جاء ويحف به، لأن أمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب ثم إنه بعد ذلك عتب عليه فاستحيا

(6/84)


منه، فدفعه إلى حوشب البرسمي، فكان صاحبه حتى هلك المختار قال: وكان أحد عمومة الأعشى رجلا يكنى أبا أمامة يأتي مجلس أصحابه فيقول: قد وضع لنا اليوم وحي ما سمع الناس بمثله، فيه نبأ ما يكون من شيء.
قال أبو مخنف: حدثنا موسى بن عامر أنه إنما كان يصنع ذلك لهم عبد الله بن نوف، ويقول: المختار أمرني به، ويتبرأ المختار منه

(6/85)


ثم دخلت

سنة سبع وستين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك مقتل عبيد الله بن زياد ومن كان معه من أهل الشام.
ذكر الخبر عن صفة مقتله:
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: مضينا مع إبراهيم بن الأشتر ونحن نريد عبيد الله بن زياد ومن معه من اهل الشام، فخرجنا مسرعين لاننثنى، نريد أن نلقاه قبل أن يدخل أرض العراق قال: فسبقناه إلى تخوم أرض العراق سبقا بعيدا، ووغلنا في أرض الموصل، فتعجلنا إليه، وأسرعنا السير، فنلقاه بخازر إلى جنب قرية يقال لها باربيثا، بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ، وقد كان ابن الأشتر جعل على مقدمته الطفيل بن لقيط، من وهبيل من النخع رجلا من قومه، وكان شجاعا بئيسا، فلما أن دنا من ابن زياد ضم حميد بن حريث إليه، وأخذ ابن الاشتر لا يسير الا على تعبئة، وضم أصحابه كلهم إليه بخيله ورجاله، فأخذ يسير بهم جميعا لا يفرقهم، إلا أنه يبعث الطفيل بن لقيط في الطلائع حتى نزل تلك القرية.
قال: وجاء عبيد الله بن زياد حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر.
وأرسل عمير بن الحباب السلمي إلى ابن الأشتر: إني معك، وأنا أريد الليلة لقاءك، فأرسل إليه ابن الأشتر: أن القني إذا شئت، وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان يومئذ كلب وصاحبهم ابن بحدل فأتاه عمير ليلا فبايعه، وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، وقال ابن الأشتر: ما رأيك؟
أخندق علي وأتلوم يومين أو ثلاثة؟ قال عمير بن الحباب: لا تفعل، انا

(6/86)


لله! هل يريد القوم إلا هذه! إن طاولوك وماطلوك فهو خير لهم، هم كثير أضعافكم، وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا، فأتهم فإنهم إن شاموا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم، ومرة بعد مرة أنسوا بهم، واجترءوا عليهم، قال إبراهيم: الآن علمت أنك لي مناصح، صدقت، الرأي ما رأيت، أما إن صاحبي بهذا أوصاني، وبهذا الرأي أمرني قال عمير: فلا تعدون رأيه، فإن الشيخ قد ضرسته الحروب، وقاسى منها ما لم نقاس، أصبح فناهض الرجل.
ثم إن عميرا انصرف، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة الليل كله، ولم يدخل عينه غمض، حتى إذا كان في السحر الأول عبى أصحابه، وكتب كتائبه، وأمر أمراءه فبعث سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي على ميمنته، وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته، وهو أخو أبي الأحوص.
وبعث عبد الرحمن بن عبد الله- وهو أخو إبراهيم بن الأشتر لأمه- على الخيل، وكانت خيله قليلة، فضمها إليه، وكانت في الميمنة والقلب، وجعل على رجالته الطفيل بن لقيط، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك قال: فلما انفجر الفجر صلى بهم الغداة بغلس، ثم خرج بهم فصفهم، ووضع أمراء الأرباع في مواضعهم، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجالة بالرجالة، وضم الخيل إليه، وعليها أخوه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطا من الناس، ونزل إبراهيم يمشي، وقال للناس:
ازحفوا، فزحف الناس معه على رسلهم رويدا رويدا حتى أشرف على تل عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرك منهم أحد بعد- فسرح عبد الله بن زهير السلولي وهو على فرس له يتأكل تأكلا، فقال:
قرب علي فرسك حتى تأتيني بخبر هؤلاء، فانطلق، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء، فقال: قد خرج القوم على دهش وفشل، لقيني رجل منهم فما كان له هجيرى إلا يا شيعة أبي تراب، يا شيعة المختار الكذاب! فقلت: ما بيننا وبينكم أجل من الشتم، فقال لي: يا عدو الله، الام

(6/87)


تدعوننا! أنتم تقاتلون مع غير إمام، فقلت له: بل يا لثأرات الحسين، ابن رسول الله! ادفعوا إلينا عبيد الله بن زياد، فإنه قتل ابن رسول الله وسيد شباب أهل الجنة حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلهم مع الحسين، فانا لا نراه الحسين ندا فنرضى أن يكون منه قودا، وإذا دفعتموه إلينا فقتلناه ببعض موالينا الذين قتلهم جعلنا بيننا وبينكم كتاب الله، أو أي صالح من المسلمين شئتم حكما، فقال لي: قد جربناكم مرة أخرى في مثل هذا- يعني الحكمين- فغدرتم، فقلت له: وما هو؟ فقال: قد جعلنا بيننا وبينكم حكمين فلم ترضوا بحكمهما، فقلت له: ما جئت بحجة، إنما كان صلحنا على أنهما إذا اجتمعا على رجل تبعنا حكمهما، ورضينا به وبايعناه، فلم يجتمعا على واحد، وتفرقا، فكلاهما لم يوفقه الله لخير ولم يسدده، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقلت له: من أنت؟ فقال:
عدس- لبغلته يزجرها- فقلت له: ما أنصفتني، هذا أول غدرك! قال: ودعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثم مر بأصحاب الرايات كلها، فكلما مر على راية وقف عليها، ثم قال: يا أنصار الدين، وشيعة الحق، وشرطة الله، هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت رسول الله، حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتي ابن عمه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة حتى قتله وقتل اهل بيته، فو الله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول الله ص الَّذِينَ أذهب اللَّه عَنْهُمُ الرجس وطهرهم تَطْهِيراً قد جاءكم الله به، وجاءه بكم، فو الله انى لأرجو الا يكون الله جمع بينكم في هذا الموطن وبينه إلا ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم، فقد علم الله أنكم خرجتم غضبا لأهل بيت نبيكم فسار فيما بين الميمنة والميسرة، وسار في الناس كلهم فرغبهم في الجهاد، وحرضهم على القتال، ثم رجع حتى نزل تحت رايته، وزحف القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على

(6/88)


ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمى، وشر حبيل بن ذي الكلاع على الخيل وهو يمشي في الرجال، فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة، وعليها علي بن مالك الجشمي، فثبت له هو بنفسه فقتل، ثم أخذ رايته قرة بن علي، فقتل أيضا من في رجال من أهل الحفاظ قتلوا وانهزمت الميسرة، فأخذ راية علي بن مالك الجشمي عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخي حبشي بن جنادة صاحب رسول الله ص، فاستقبل أهل الميسرة حين انهزموا، فقال: إلي يا شرطة الله، فأقبل إليه جلهم، فقال: هذا أميركم يقاتل، سيروا بنا إليه، فأقبل حتى أتاه وإذا هو كاشف عن رأسه ينادي: يا شرطة الله، إلي أنا ابن الأشتر! إن خير فراركم كراركم، ليس مسيئا من أعتب فثاب إليه أصحابه، وأرسل إلى صاحب الميمنة: احمل على ميسرتهم- وهو يرجو حينئذ ان ينهزم لهم عمير ابن الحباب كما زعم، فحمل عليهم صاحب الميمنة، وهو سفيان بن يزيد ابن المغفل، فثبت له عمير بن الحباب وقاتله قتالا شديدا، فلما رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: أموا هذا السواد الأعظم، فو الله لو قد فضضناه لا نجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير ذعرتها فطارت.
قال أبو مخنف: فحدثني إبراهيم بن عبد الرحمن الأنصاري، عن ورقاء بن عازب، قال: مشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم أطعنا بالرماح قليلا، ثم صرنا إلى السيوف والعمد، فاضطر بنا بها مليا من النهار، فو الله ما شبهت ما سمعت بيننا وبينهم من وقع الحديد على الحديد إلا مياجن قصاري دار الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال: فكان ذلك كذلك، ثم إن الله هزمهم، ومنحنا أكتافهم.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن أبي صادق أن إبراهيم بن الأشتر كان يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم، فيقول له: إنه- جعلت فداك- ليس لي متقدم، فيقول: بلى، فإن أصحابك

(6/89)


يقاتلون، وإن هؤلاء لا يهربون إن شاء الله، فإذا تقدم صاحب رايته برايته شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب به رجلا إلا صرعه وكرد إبراهيم الرجال من بين يديه كأنهم الحملان، وإذا حمل برايته شد أصحابه شدة رجل واحد.
قال أبو مخنف: حدثني المشرقي أنه كان مع عبيد الله بن زياد يومئذ حديدة لا تليق شيئا مرت به، وأنه لما هزم أصحابه حمل عيينة ابن أسماء أخته هند بنت أسماء- وكانت امرأة عبيد الله بن زياد- فذهب بها وأخذ يرتجز ويقول:
إن تصرمي حبالنا فربما أرديت في الهيجا الكمي المعلما قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن إبراهيم لما شد على ابن زياد وأصحابه انهزموا بعد قتال شديد وقتلى كثيرة بين الفريقين، وإن عمير بن الحباب لما رأى أصحاب إبراهيم قد هزموا أصحاب عبيد الله بعث إليه: أجيئك الان؟ فقال: لا تأتيني حتى تسكن فورة شرطة الله، فإني أخاف عليك عاد يتهم.
وقال ابن الأشتر: قتلت رجلا وجدت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، تحت راية منفردة، على شاطئ نهر خازر فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلا، ضربه فقده بنصفين، فذهبت رجلاه في المشرق، ويداه في المغرب وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، ونادى التغلبي: اقتلوني وابن الزانية، فقتل ابن نمير.
وحدثني عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله بن المبارك، قال: حدثني الحسن بن كثير، قال: كان شريك بن جدير التغلبى مع على ع، أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علي لحق ببيت المقدس، فكان به، فلما جاءه

(6/90)


قتل الحسين، قال: أعاهد الله أن قدرت على كذا وكذا- يطلب بدم الحسين- لأقتلن ابن مرجانة أو لأموتن دونه فلما بلغه أن المختار خرج يطلب بدم الحسين أقبل إليه قال: فكان وجهه مع إبراهيم بن الأشتر، وجعل على خيل ربيعة، فقال لأصحابه: إني عاهدت الله على كذا وكذا، فبايعه ثلاثمائة على الموت، فلما التقوا حمل فجعل يهتكها صفا صفا مع أصحابه حتى وصلوا إليه، وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد والسيوف، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان ليس بينهما احد، التغلبى وعبيد الله ابن زياد، قال: وهو الذي يقول:
كل عيش قد أراه قذرا ... غير ركز الرمح في طل الفرس
قال هشام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قال: قتل شرحبيل بن ذي الكلاع، فادعى قتله ثلاثة: سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وورقاء بن عازب الأسدي، وعبيد الله بن زهير السلمي قال:
ولما هزم أصحاب عبيد الله تبعهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم فيه من كل شيء، وبلغ المختار وهو يقول لأصحابه: يأتيكم الفتح أحد اليومين إن شاء الله من قبل ابراهيم ابن الأشتر وأصحابه، قد هزموا أصحاب عبيد الله بن مرجانة قال: فخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعري، وخرج بالناس، ونزل ساباط.
قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن الشعبي، قال: كنت أنا وأبي ممن خرج معه، قال: فلما جزنا ساباط قال للناس: أبشروا فإن شرطة الله قد حسوهم بالسيوف يوما إلى الليل بنصيبين أو قريبا من نصيبين، ودوين منازلهم، إلا أن جلهم محصور بنصيبين قال: ودخلنا المدائن، واجتمعنا اليه، فصعد المنبر، فو الله إنه ليخطبنا ويأمرنا بالجد وحسن

(6/91)


الرأي والاجتهاد والثبات على الطاعة، والطلب بدماء اهل البيت ع، إذ جاءته البشرى تترى يتبع بعضها بعضا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره، وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار: يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون! قالوا: بلى والله لقد قلت ذلك، قال:
فيقول لي رجل من بعض جيراننا من الهمدانيين: اتؤمن الآن يا شعبي؟
قال: قلت بأي شيء أومن؟ أومن بأن المختار يعلم الغيب! لا أومن بذلك ابدا قال: او لم يقل لنا: إنهم قد هزموا! فقلت له: إنما زعم لنا أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل، فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم، فقلت له: من هذا الهمداني الذي يقول لك هذا؟ فقال: رجل لعمري كان شجاعا- قتل مع المختار بعد ذلك يوم حروراء- يقال له: سلمان بن حمير من الثوريين من همدان، قال: وانصرف المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر من عسكره إلى الموصل، وبعث عماله عليها، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا، وما والاها من أرض الجزيرة، وخرج أهل الكوفة الذين كان المختار قاتلهم فهزمهم، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وكان فيمن قدم على مصعب شبث بن ربعي، فقال سراقه ابن مرداس البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر وأصحابه في قتل عبيد الله ابن زياد:
أتاكم غلام من عرانين مذحج ... جري على الأعداء غير نكول
فيا بن زياد بؤ بأعظم مالك ... وذق حد ماضي الشفرتين صقيل
ضربناك بالعضب الحسام بحدة ... إذا ما أبأنا قاتلا بقتيل
جزى الله خيرا شرطة الله إنهم ... شفوا من عبيد الله أمس غليلى

(6/92)