تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر الخبر عن خروج
صالح بن مسرح وعن سبب خروجه
وكان سبب خروجه- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن
علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي- أن صالح بن مسرح التميمي كان
رجلا ناسكا مخبتا مصفر الوجه، صاحب عبادة، وأنه كان بدارا وأرض الموصل
والجزيرة له أصحاب يقرئهم القرآن ويفقههم ويقص عليهم، فكان قبيصة بن
عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده، وكان ممن يرى رأيهم،
فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم، ففعل.
وكان قصصه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ» اللهم إنا لا نعدل بك، ولا نحفد إلا إليك، ولا نعبد إلا
إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير ونشهد أن
مُحَمَّدا عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ
رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا
إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين، وجاهد المشركين، حتى توفاه الله
صلى الله عليه وَسَلَّمَ.
أوصيكم بتقوى الله والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر
الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب
العبد فيما
(6/216)
عند الله، وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة
ذكر الموت يخيف العبد من ربه حتى يجأر إليه، ويستكين له، وإن فراق
الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: «وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ.
» وإن حب المؤمنين للسبب الذي تنال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا
الله وإياكم من الصادقين الصابرين ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن
بعث فيهم رسولا من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم
في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما، حتى قبضه الله، صلوات الله
عليه، ثم ولي الأمر من بعده التقي الصديق على الرضا من المسلمين،
فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله- رحمه الله- واستخلف عمر،
فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله، ولم
يحنق في الحق على جرته، ولم يخف في الله لومة لائم، حتى لحق به رحمة
الله عليه، وولي المسلمين من بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وعطل الحدود،
وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون
فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي أمر الناس من بعده
علي بن أبي طالب، فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل
الضلال، وركن وأدهن، فنحن من علي وأشياعه برآء، فتيسروا رحمكم الله
لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة وللخروج من دار
الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين
باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة،
ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل
بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم، وحلائلكم
ودنياكم، وان اشتد لذلك كرهكم وجزعكم ألا فبيعوا الله أنفسكم
(6/217)
طائعين وأموالك تدخلوا الجنة آمنين،
وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين
يهدون بالحق وبه يعدلون.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة، قال: بينا
أصحاب صالح يختلفون إليه إذ قال لهم ذات يوم: ما ادرى ما تنتظرون! حتى
متى أنتم مقيمون! هذا الجور قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه
الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعدا عن الحق، وجرأة على الرب،
فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء
إلى الحق مثل الذي تريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي
أي وقت إن خرجنا نحن خارجون.
قال: فتراسل أصحاب صالح، وتلاقوا في ذلك، فبينا هم في ذلك إذ قدم عليهم
المحلل بن وائل اليشكري بكتاب من شبيب إلى صالح بن مسرح: أما بعد، فقد
علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان
ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك منا أحدا، وإن أردت
تأخير ذلك اليوم أعلمتني، فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني
المنية ولما أجاهد الظالمين.
فيا له غبنا، ويا له فضلا متروكا! جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله
الله ورضوانه، والنظر إلى وجهه، ومرافقة الصالحين في دار السلام،
والسلام عليك.
قال: فلما قدم على صالح المحلل بن وائل بذلك الكتاب من شبيب كتب إليه
صالح:
أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطأ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأ من
المسلمين نبأني بنبإ مخرجك ومقدمك، فنحمد الله على قضاء ربنا وقد قدم
علي رسولك بكتابك، فكل ما فيه قد فهمته، ونحن
(6/218)
في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من
الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا، ثم اخرج بنا متى ما أحببت، فإنك ممن
لا يستغنى عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور والسلام عليك.
فلما قدم على شبيب كتابه بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه، منهم اخوه
مصاد بن يزيد بن نعيم، والمحلل بن وائل اليشكري، والصقر ابن حاتم من
بني تيم بن شيبان، وإبراهيم بن حجر أبو الصقير من بني محلم، والفضل بن
عامر من بني ذهل بن شيبان، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح بدارا،
فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله! فو الله ما تزداد السنة إلا دروسا،
ولا يزداد المجرمون إلا طغيانا فبث صالح رسله في أصحابه، وواعدهم
الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين فاجتمع بعضهم إلى بعض،
وتهيئوا، وتيسروا للخروج في تلك الليلة، واجتمعوا جميعا عنده في تلك
الليلة لميعاده.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: والله إني لمع شبيب
بالمدائن إذ حدثنا عن مخرجهم، قال: لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح
بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر
والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت:
يا أمير المؤمنين، كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل
الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم
برأيك، أما أنا فأرى أن نقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا،
فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله، واستحوذ عليهم
الشيطان فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك
وليقاتلنك من يزري عليك، والدعاء أقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجة عليهم
قال: فقلت له: فكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم
وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا
ولنا قال: فأحسن القول وأصاب، رحمة الله عليه وعلينا قال أبو مخنف:
فحدثني رجل من بني محلم أن صالح بن مسرح
(6/219)
قال لأصحابه ليلة خرج: اتقوا الله عباد
الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قوما يريدونكم،
وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصي في
الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فلا تعيبوا
على قوم أعمالا ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسؤلون،
وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمُحَمَّد بن مروان في هذا الرستاق،
فابدءوا بها، فشدوا عليها، فاحملوا أراجلكم، وتقووا بها على عدوكم
فخرجوا فأخذوا تلك الليلة الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وصارت رجالتها
فرسانا، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل
نصيبين وأهل سنجار، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين- وقيل في مائة
وعشرة- قال: وبلغ مخرجهم مُحَمَّد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة،
فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدي بن عدي بن عميرة من بني الحارث بن
معاوية بن ثور في خمسمائة، فقال له: أصلح الله الأمير! أتبعثني إلى رأس
الخوارج منذ عشرين سنة! قد خرج معه رجال من ربيعة قد سموا لي، كانوا
يعازوننا، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة رجل قال له: فانى
ازيدك خمسمائة أخرى، فسر إليهم في ألف، فسار من حران في الف رجل، فكان
أول جيش سار إلى صالح وسار إليه عدي، وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي
رجلا يتنسك، فأقبل حتى إذا نزل دوغان نزل بالناس وسرح إلى صالح بن مسرح
رجلا دسه إليه من بني خالد من بني الورثة، يقال له: زياد بن عبد الله،
فقال: إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأتي بلدا آخر
فتقاتل أهله، فإن عديا للقائك كاره، فقال له صالح: ارجع اليه، فقل له:
إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك من هذا
البلد إلى غيره، وإن كنت على رأي الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا،
فان شئنا
(6/220)
بدأنا بك، وإن شئنا رحلنا إلى غيرك فانصرف
إليه الرسول فأبلغه ما أرسل به، فقال له: ارجع إليه فقل له: إني والله
ما أنا على رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك، فقاتل غيري، فقال صالح
لأصحابه: اركبوا، فركبوا وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى
بأصحابه حتى يأتي عدى بن عدى بن عميرة في سوق دوغان وهو قائم يصلي
الضحى، فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم، فلما بصروا بها تنادوا، وجعل
صالح شبيبا في كتيبة في ميمنة أصحابه، وبعث سويد بن سليم الهندي من بني
شيبان في كتيبة في ميسرة أصحابه، ووقف هو في كتيبة في القلب، فلما دنا
منهم رآهم على غير تعبئة، وبعضهم يجول في بعض، فأمر شبيبا فحمل عليهم،
ثم حمل سويد عليهم فكانت هزيمتهم ولم يقاتلوا، وأتي عدي بن عدي بدابته
وهو يصلي فركبها ومضى على وجهه، وجاء صالح ابن مسرح حتى نزل عسكره وحوى
ما فيه، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتى دخلوا على مُحَمَّد بن مروان،
فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث
بن جعونة من بني ربيعة بن عامر بن صعصعة فبعثه في ألف وخمسمائة،
ودعاهما، فقال:
أخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وعجلا الخروج، وأغذا السير،
فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه، فخرجا من عنده فأغذا السير، وجعلا
يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: إنه توجه نحو آمد، فأتبعاه حتى
انتهيا إليه، وقد نزل على أهل آمد فنزلا ليلا، فخندقا وانتهيا إليه
وهما متساندان كل واحد منهما في أصحابه على حدته، فوجه صالح شبيبا إلى
الحارث بن جعونة العامري في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد بن جزء
البسلمى قال أبو مخنف: فحدثني المحلمي، قال: انتهوا إلينا في أول وقت
العصر، فصلى بنا صالح العصر، ثم عبانا لهم فاقتتلنا كأشد قتال اقتتله
قوم قط، وجعلنا والله نرى الظفر يحمل الرجل منا على العشرة منهم
فيهزمهم، وعلى العشرين فكذلك، وجعلت خيلهم لا تثبت لخيلنا
(6/221)
فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وأمرا جل من
معهما فترجل، فعند ذلك جعلنا لا نقدر منهم على الذي نريد، إذا حملنا
عليهم استقبلتنا رجالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل، وخيلهم
تطاردنا في خلال ذلك، فقاتلناهم إلى المساء حتى حال الليل بيننا
وبينهم، وقد أفشوا فينا الجراحه، وافشيناها فيهم، وقد قتلوا منا نحوا
من ثلاثين رجلا، وقتلنا منهم اكثر من سبعين، وو الله ما أمسينا حتى
كرهناهم وكرهونا، فوقفنا مقابلهم ما يقدمون علينا.
وما نقدم عليهم، فلما أمسوا رجعوا إلى عسكرهم، ورجعنا إلى عسكرنا
فصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر ثم إن صالحا دعا شبيبا ورءوس أصحابه
فقال: يا أخلائي، ماذا ترون؟ فقال شبيب: أرى أنا قد لقينا هؤلاء القوم
فقاتلناهم، وقد اعتصموا بخندقهم، فلا أرى أن نقيم عليهم، فقال صالح:
وأنا أرى ذلك، فخرجوا من تحت ليلتهم سائرين، فمضوا حتى قطعوا أرض
الجزيرة، ثم دخلوا أرض الموصل فساروا فيها حتى قطعوها ومضوا حتى قطعوا
الدسكرة.
فلما بلغ ذلك الحجاج سرح إليهم الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني
في ثلاثة آلاف رجل من أهل الكوفة، ألف من المقاتلة الأولى، وألفين من
الفرض الذي فرض لهم الحجاج فسار حتى إذا دنا من الدسكرة خرج صالح بن
مسرح نحو جلولاء وخانقين، واتبعه الحارث ابن عميرة حتى انتهى إلى قرية
يقال لها المدبج من أرض الموصل على تخوم ما بينها وبين أرض جوخى، وصالح
يومئذ في تسعين رجلا، فعبى الحارث ابن عميرة يومئذ أصحابه، وجعل على
ميمنته أبا الرواغ الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، ثم
شد عليهم- وذلك بعد العصر- وقد جعل أصحابه ثلاثة كراديس، فهو في كردوس،
وشبيب في كردوس في ميمنته، وسويد بن سليم في كردوس في الميسرة، في كل
كردوس منهم ثلاثون رجلا.
فلما شد عليهم الحارث بن عميرة في جماعة أصحابه انكشف سويد
(6/222)
ابن سليم، وثبت صالح بن مسرح فقتل، وضارب
شبيب حتى صرع، فوقع في رجالة، فشد عليهم فانكشفوا، فجاء حتى انتهى الى
موقف صالح ابن مسرح فأصابه قتيلا، فنادى: إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا
به، فقال لأصحابه: ليعجل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن
عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن، ونرى رأينا، ففعلوا ذلك حتى
دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا بشبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا،
وقال لأصحابه: أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه فإنهم لا يقدرون على
أن يخرجوا منه حتى نصبحهم فنقتلهم ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى
عسكرهم، فأشرف شبيب عليهم وطائفة من أصحابه، فقال بعض أولئك الفرض: يا
بني الزواني، ألم يخزكم الله! فقالوا:
يا فساق، نعم تقاتلوننا لقتالنا إياكم إذ أعماكم الله عن الحق الذي نحن
عليه، فما عذركم عند الله في الفري على أمهاتنا! فقال لهم حلماؤهم:
إنما هذا من قول شباب فينا سفهاء، والله ما يعجبنا قولهم ولا نستحله.
وقال شبيب لأصحابه: يا هؤلاء، ما تنتظرون! فو الله لئن صبحكم هؤلاء
غدوة إنه لهلاككم، فقالوا له: مرنا بأمرك، فقال لهم: إن الليل أخفى
للويل، بايعوني ومن شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم،
فإنهم لذلك منكم آمنون، وأنا أرجو أن ينصركم الله عليهم قالوا: فابسط
يدك فلنبايعك، فبايعوه، ثم جاءوا ليخرجوا، وقد صار بابهم جمرا، فأتوا
باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم قطعوا عليها، فلم يشعر
الحارث بن عميرة ولا أهل العسكر إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في
جوف عسكرهم، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا لهم
العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن، فكان ذلك الجيش أول جيش هزمه
شبيب، وأصيب صالح بن مسرح يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى
الأولى من سنه
(6/223)
خبر دخول شبيب
الكوفه وما كان من امره مع الحجاج
وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة ومعه زوجته غزالة.
ذكر الخبر عن دخوله الكوفة وما كان من أمره وأمر الحجاج بها والسبب
الذي دعا شبيبا إلى ذلك:
وكان السبب في ذلك- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن
علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي- أن شبيبا لما قتل صالح بن مسرح
بالمدبج وبايعه أصحاب صالح، ارتفع إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن سيار
بن المضاء التيمي تيم شيبان، فدعاه إلى الخروج معه، وكان يعرفه قبل ذلك
إذ كانا في الديوان والمغازي، فاشترط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين
فارسا، ثم لا يغيب عنه إلا ثلاث ليال عددا.
ففعل، فانتخب ثلاثين فارسا، فانطلق بهم نحو عنزة، وإنما أرادهم ليشفى
نفسه منهم لقتلهم أخاه فضالة، وذلك أن فضالة كان خرج قبل ذلك في ثمانية
عشر نفسا حتى نزل ماء يقال له الشجرة من ارض الجبال، عليه أثلة عظيمة،
وعليه عنزة، فلما رأته عنزه قال بعضهم لبعض:
نقتلهم ثم نغدو بهم الى الأمير فنعطى ونحبى، فأجمعوا على ذلك فقالت بنو
نصر أخواله: لعمر الله لا نساعدكم على قتل ولدنا فنهضت عنزة إليهم
فقاتلوهم فقتلوهم، وأتوا برءوسهم عبد الملك بن مروان، فلذلك أنزلهم
بانقيا، وفرض لهم، ولم تكن لهم فرائض قبل ذلك إلا قليلة، فقال سلامة بن
سيار، أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه:
وما خلت أخوال الفتى يسلمونه ... لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر
قال: وكان خروج أخيه فضالة قبل خروج صالح بن مسرح وشبيب
(6/224)
فلما بايع سلامة شبيبا اشترط عليه هذا
الشرط، فخرج في ثلاثين فارسا حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة
منهم بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته، وقد أكبت على ابن
لها وهو غلام حين احتلم، فقالت وأخرجت ثديها إليه: أنشدك برحم هذا يا
سلامة! فقال: لا والله، ما رأيت فضالة مذ أناخ بعمر الشجرة- يعني أخاه-
لتقومن عنه، أو لأجمعن حافتك بالرمح، فقامت عن ابنها عند ذلك فقتله قال
أبو مخنف: فحدثني المفضل بن بكر من بني تيم بن شيبان أن شبيبا أقبل في
أصحابه نحو راذان، فلما سمعت به طائفه من بنى تيم ابن شيبان خرجوا
هرابا منه، ومعهم ناس من غيرهم قليل، فأقبلوا حتى نزلوا دير خرزاد إلى
جنب حولايا، وهم نحو من ثلاثة آلاف، وشبيب في نحو من سبعين رجلا أو
يزيدون قليلا، فنزل بهم، فهابوه وتحصنوا منه.
ثم إن شبيبا سرى في اثني عشر فارسا من أصحابه إلى أمه، وكانت في سفح
ساتيدما نازلة في مظلة من مظال الأعراب: فقال: لآتين بأمي فلأجعلنها في
عسكري فلا تفارقني أبدا حتى أموت أو تموت وخرج رجلان من بني تيم بن
شيبان تخوفا على أنفسهما فنزلا من الدير، فلحقا بجماعه من قومهما وهم
نزول بالحال منهم على مسيرة ساعة من النهار، وخرج شبيب، في أولئك الرهط
في أولهم وهم اثنا عشر، يريد أمه بالسفح، فإذا هو بجماعة من بني تيم بن
شيبان غارين في أموالهم مقيمين، لا يرون أن شبيبا يمر بهم لمكانهم الذي
هم به، ولا يشعر بهم، فحمل عليهم في فرسانه تلك، فقتل منهم ثلاثين
شيخا، فيهم حوثرة بن أسد ووبرة بن عاصم اللذان كانا نزلا من الدير،
فلحقا بالجبال، ومضى شبيب إلى أمه فحملها من السفح، فأقبل بها، وأشرف
رجل من أصحاب الدير من بكر بن وائل على أصحاب شبيب، وقد استخلف شبيب
أخاه على أصحابه مصاد بن يزيد، ويقال لذلك الرجل الذي أشرف عليهم سلام
بن حيان، فقال لهم: يا قوم، القرآن بيننا وبينكم، ألم تسمعوا قول الله:
«وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» ،
(6/225)
قالوا: بلى، قال لهم: فكفوا عنا حتى نصبح،
ثم نخرج إليكم على أمان لنا منكم، لكيلا تعرضوا لنا بشيء نكرهه حتى
تعرضوا علينا أمركم هذا، فإن نحن قبلناه حرمت عليكم أموالنا ودماؤنا،
وكنا لكم إخوانا، وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم
رأيكم فيما بيننا وبينكم، قالوا لهم: فهذا لكم فلما أصبحوا خرجوا
إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، ووصفوا لهم أمرهم، فقبلوا ذلك
كله، وخالطوهم، ونزلوا إليهم، فدخل بعضهم إلى بعض، وجاء شبيب وقد
اصطلحوا، فأخبره أصحابه خبرهم، فقال: أصبتم ووفقتم وأحسنتم.
ثم إن شبيبا ارتحل فخرجت معه طائفة وأقامت طائفة جانحة، وخرج يومئذ معه
إبراهيم بن حجر المحلمي أبو الصقير كان مع بني تيم بن شيبان نازلا
فيهم، ومضى شبيب في أداني أرض الموصل وتخوم أرض جوخى، ثم ارتفع نحو
أذربيجان، وأقبل سفيان بن أبي العالية الخثعمي في خيل قد كان أمر أن
يدخل بها طبرستان، فأمر بالقفول، فأقبل راجعا في نحو من ألف فارس،
فصالح صاحب طبرستان.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمه عن سفيان بن
ابى العاليه الخثعمي إن كتاب الحجاج أتاه: أما بعد، فسر حتى تنزل
الدسكرة فيمن معك، ثم أقم حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة الهمداني بن
ذي المشعار، وهو الذي قتل صالح بن مسرح وخيل المناظر، ثم سر إلى شبيب
حتى تناجزه فلما أتاه الكتاب أقبل حتى نزل الدسكرة، ونودي في جيش
الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن: أن برئت الذمة من رجل من جيش الحارث
بن عميرة لم يواف سفيان بن أبي العالية بالدسكرة.
قال: فخرجوا حتى أتوه، وأتته خيل المناظر، وكانوا خمسمائة، عليهم سوره
بن أبجر التميمي من بني أبان بن دارم، فوافوه إلا نحوا من خمسين رجلا
تخلفوا عنه، وبعث إلى سفيان بن أبي العاليه الا تبرح العسكر حتى آتيك
فعجل سفيان فارتحل في طلب شبيب، فلحقه بخانقين في سفح جبل على ميمنته
خازم بن سفيان الخثعمي من بنى
(6/226)
عمرو بن شهران، وعلى ميسرته عدي بن عميرة
الشيباني، وأصحر لهم شبيب، ثم ارتفع عنهم حتى كأنه يكره لقاءه، وقد
أكمن له أخاه مصادا معه خمسون في هزم من الأرض.
فلما رأوه جمع أصحابه ثم مضى في سفح الجبل مشرقا فقالوا:
هرب عدو الله فاتبعوه، فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: أيها الناس، لا
تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض ونسير بها، فإن يكونوا قد أكمنوا لنا
كمينا كنا قد حذرناه، وإلا فإن طلبهم لن يفوتنا فلم يسمع منه الناس،
وأسرعوا في آثارهم فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم.
ولما راى الكمين ان قد جاوزوهم خرجوا إليهم، فحمل عليهم شبيب من
أمامهم، وصاح بهم الكمين من ورائهم، فلم يقاتلهم أحد، وكانت الهزيمة،
فثبت ابن أبي العالية في نحو من مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدا حسنا،
حتى ظن أنه انتصف من شبيب وأصحابه فقال سويد بن سليم لأصحابه: أمنكم
أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العاليه؟ فو الله لئن عرفته لأجهدن نفسي
في قتله، فقال شبيب: أنا من أعرف الناس به، أما ترى صاحب الفرس الأغر
الذي دونه المرامية! فإنه ذلك، فإن كنت تريده فأمهله قليلا ثم قال: يا
قعنب، اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم، فخرج قعنب في عشرين فارتفع
عليهم.
فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا يتنقضون ويتسللون، وحمل سويد
بن سليم على سفيان بن أبي العالية فطاعنه، فلم تصنع رمحاهما شيئا، ثم
اضطربا بسيفيهما ثم اعتنق كل منهما صاحبه، فوقعا الى الارض يعتركان، ثم
تحاجزوا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا، وأتى سفيان غلام له يقال له غزوان،
فنزل عن برذونه، وقال: اركب يا مولاي، فركب سفيان، وأحاط به أصحاب
شبيب، فقاتل دونه غزوان فقتل، وكانت معه رايته وأقبل سفيان بن أبي
العاليه حتى انتهى الى بابل مهروذ،
(6/227)
فنزل بها، وكتب إلى الحجاج:
أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني اتبعت هذه المارقة حتى
لحقتهم بخانقين فقاتلتهم، فضرب الله وجوههم، ونصرنا عليهم، فبينا نحن
كذلك إذ أتاهم قوم كانوا غيبا عنهم، فحملوا على الناس فهزموهم، فنزلت
في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم، حتى خررت بين القتلى، فحملت
مرتثا، فاتى بي بابل مهروذ، فها انا بها والجند الذين وجههم إلي الأمير
وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا ما نزلت
بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف، ويعتذر بغير العذر والسلام فلما قرأ
الحجاج الكتاب قال: من صنع كما صنع هذا، وأبلى كما أبلى فقد أحسن ثم
كتب إليه:
أما بعد، فقد أحسنت البلاء، وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل
مأجورا إلى أهلك والسلام.
وكتب إلى سورة بن أبجر:
أما بعد فيابن أم سورة، ما كنت خليقا أن تجترئ على ترك عهدي وخذلان
جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى الخيل التي
بالمدائن، فلينتخب منهم خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى
تلقى هذه المارقة، واحزم في أمرك، وكد عدوك، فإن أفضل أمر الحرب حسن
المكيدة والسلام.
فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عميرة إلى المدائن، وكان بها الف
فارس، فانتخب منهم خمسمائة، ثم دخل على عبد الله بن أبي عصيفير- وهو
أمير المدائن في إمارته الأولى- فسلم عليه، فأجازه بألف درهم، وحمله
على فرس، وكساه أثوابا ثم إنه خرج من عنده، فأقبل بأصحابه حتى قدم بهم
على سورة بن أبجر ببابل مهروذ، فخرج في طلب شبيب، وشبيب
(6/228)
يجول في جوخى وسورة في طلبه، فجاء شبيب حتى
انتهى إلى المدائن، فتحصن منه أهل المدائن وتحرزوا، ووهى أبنية المدائن
الأولى، فدخل المدائن، فأصاب بها دواب جند كثيرة، فقتل من ظهر له ولم
يدخلوا البيوت، فأتي فقيل له: هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك، فخرج في
أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزلوا به وتوضئوا وصلوا، ثم أتوا
مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن ابى طالب ع، فاستغفروا لإخوانهم،
وتبرءوا من علي وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر
النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته
عيونه فأخبرته بمنزل شبيب بالنهروان، فدعا رءوس أصحابه فقال: إنهم قلما
يلقون مصحرين أو على ظهر إلا انتصفوا منكم، وظهروا عليكم، وقد حدثت
أنهم لا يزيدون على مائه رجل الا قليلا، وقد رايت ان انتخبكم فاسير في
ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فآتيهم الآن إذ هم آمنون
لبياتكم، فو الله إني لأرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم الذين صرعوا
منهم بالنهروان من قبل فقالوا: اصنع ما أحببت فاستعمل على عسكره حازم
بن قدامه الخثعمى، وانتخب من اصحابه ثلاثمائه رجل من أهل القوة والجلد
والشجاعة، ثم أقبل بهم نحو النهروان، وبات شبيب وقد أذكى الحرس، فلما
دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم، فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم.
فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا واستعدوا، فحمل عليهم
سورة وأصحابه فثبتوا لهم، وضاربوهم حتى صد عنهم سورة وأصحابه، ثم صاح
شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا له العرصة، وحملوا عليهم معه، وجعل
شبيب يضرب ويقول:
من ينك العير ينك نيّاكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا
فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم حتى أقبل
بهم نحو المدائن، فدفع إليهم وقد تحمل وتعدى الطريق الذي
(6/229)
فيه شبيب، واتبعه شبيب وهو يرجو أن يلحقه
فيصيب عسكره، ويصيب بهزيمته أهل العسكر، فأغذ السير في طلبهم، فانتهوا
إلى المدائن فدخلوها، وجاء شبيب حتى انتهى إلى بيوت المدائن، فدفع
إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي عصيفير في أهل المدائن، فرماهم
الناس بالنبل، ورموا من فوق البيوت بالحجارة، فارتفع شبيب بأصحابه عن
المدائن، فمر على كلواذا فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج فأخذها، ثم خرج
يسير في أرض جوخى، ثم مضى نحو تكريت، فبينا ذلك الجند في المدائن إذ
أرجف الناس بينهم، فقالوا: هذا شبيب قد دنا، وهو يريد أن يبيت أهل
المدائن الليلة، فارتحل عامة الجند فلحقوا بالكوفة.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة الخثعمي،
قال: والله لقد هربوا من المدائن وقالوا: نبيت الليلة، وإن شبيبا
لبتكبريت، قال:
ولما قدم الفل على الحجاج سرح الجزل بن سعيد بن شرحبيل بن عمرو الكندي.
قال أبو مخنف: حدثنا النضر بن صالح العبسي وفضيل بن خديج الكندي أن
الحجاج لما أتاه الفل قال: قبح الله سورة! ضيع العسكر والجند، وخرج
يبيت الخوارج، أما والله لأسوأنه، وكان بعد قد حبسه ثم عفا عنه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن الحجاج دعا الجزل- وهو
عثمان بن سعيد- فقال له: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا
تعجل عجلة الخرق، ولا تحجم إحجام الواني الفرق، هل فهمت؟ لله أنت يا
أخا بني عمرو بن معاوية! فقال: نعم أصلح الله الأمير قد فهمت، قال له:
فاخرج فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس، فقال: أصلح الله
الأمير! لا تبعثن معي أحدا من أهل هذا الجند المفلول المهزوم، فإن
الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت الا ينفعك والمسلمين منهم أحد، قال له:
فإن ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت ثم دعا أصحاب الدواوين
فقال: اضربوا على
(6/230)
الناس البعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس،
من كل ربع الف رجل، وعجلوا ذلك، فجمعت العرفاء، وجلس أصحاب الدواوين،
وضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف فأمرهم بالعسكر فعسكروا، ثم نودي فيهم
بالرحيل، ثم ارتحلوا ونادى منادي الحجاج: أن برئت الذمة من رجل أصبناه
من هذا البعث متخلفا، قال: فمضى الجزل بن سعيد، وقد قدم بين يديه عياض
بن أبي لينة الكندي على مقدمته، فخرج حتى أتى المدائن، فأقام بها
ثلاثا، وبعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس وبرذون وبغلين وألفي درهم، ووضع
للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام حتى ارتحلوا، فأصاب الناس
ما شاءوا من تلك الجزر والعلف الذي وضع لهم ابن أبي عصيفير ثم إن الجزل
بن سعيد خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه
الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسوج إلى طسوج، ولا يقيم له
إرادة أن يفرق الجزل أصحابه، ويتعجل إليه فيلقاه في يسير من الناس على
غير تعبئة فعجل الجزل لا يسير الا على تعبئة، ولا ينزل إلا خندق على
نفسه خندقا، فلما طال ذلك على شبيب أمر أصحابه ذات ليلة فسروا.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبا دعانا ونحن بدير بيرما
ستون ومائة رجل، فجعل على كل أربعين من أصحابه رجلا، وهو في أربعين،
وجعل أخاه مصادا في أربعين، وبعث سويد بن سليم في أربعين، وبعث المحلل
بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل
دير يزدجرد، قال: فدعانا عند ذلك فعبانا هذه التعبئة، وأمرنا فعلقنا
على دوابنا، وقال لنا: تيسروا فإذا قضمت دوابكم فاركبوا، وليسر كل امرئ
منكم مع أميره الذي أمرناه عليه، ولينظر كل امرئ منكم ما يأمره أميره
فليتبعه ودعا أمراءنا فقال لهم: إني أريد أن أبيت هذا العسكر الليلة،
ثم قال لأخيه مصاد: ايتهم فارتفع من فوقهم حتى تأتيهم من ورائهم من قبل
حلوان، وسآتيهم أنا من أمامي من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل
المشرق، وأتهم أنت يا محلل من قبل المغرب، وليلج
(6/231)
كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه،
ولا تقلعوا عنهم، تحملون وتكرون عليهم، وتصيحون بهم حتى يأتيكم أمري
فلم نزل على تلك التعبئة، وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، حتى
إذا قضمت دوابنا- وذلك أول الليل أول ما هدأت العيون- خرجنا حتى
انتهينا الى دير الخراره، فإذا للقوم مسلحة، عليهم عياض بن أبي لينة،
فما هو إلا أن انتهينا إليهم، فحمل عليهم مصاد أخو شبيب في أربعين
رجلا، وكان أمام شبيب، وقد كان أراد أن يسبق شبيبا حتى يرتفع عليهم
ويأتيهم من ورائهم كما أمره، فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا ساعة،
وقاتلوهم ثم إنا دفعنا إليهم جميعا، فحملنا عليهم فهزمناهم، وأخذوا
الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلا قريب من ميل.
فقال لنا شبيب: اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم
إن استطعتم، فأتبعناهم والله ملظين بهم، ملحين عليهم، ما نرفه عنهم وهم
منهزمون، ما لهم همة إلا عسكرهم، فانتهوا إلى عسكرهم، ومنعهم أصحابهم
أن يدخلوا عليهم، ورشقونا بالنبل، وكانت عيون لهم قد أتتهم فأخبرتهم
بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليه، وتحرز ووضع هذه المسلحة الذين
لقيناهم بدير الخرارة، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان على الطريق، فلما
أن دفعنا إلى هذه المسلحة التي كانت بدير الخرارة فألحقناهم بعسكر
جماعتهم ورجعت المسالح الأخر حتى اجتمعت، ومنعها أهل العسكر دخول
العسكر وقالوا لهم: قاتلوا، وانضحوا عنكم بالنبل قال أبو مخنف: وحدثني
جرير بن الحسين الكندي، قال: كان على المسلحتين الأخريين عاصم بن حجر
على التي تلي حلوان، وواصل ابن الحارث السكوني على الأخرى فلما أن
اجتمعت المسالح جعل شبيب يحمل عليها حتى اضطرها إلى الخندق، ورشقهم أهل
العسكر بالنبل حتى ردوهم عنهم فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم قال
لأصحابه سيروا ودعوهم، فمضى على الطريق نحو حلوان حتى إذا كان قريبا
(6/232)
من موضع قباب حسين بن زفر من بني بدر بن
فزارة- وإنما كانت قباب حسين بن زفر بعد ذلك- قال: لأصحابه: انزلوا
فأقضموا وأصلحوا نبلكم وتروحوا وصلوا ركعتين، ثم اركبوا، فنزلوا ففعلوا
ذلك ثم إنه أقبل بهم راجعا إلى عسكر أهل الكوفة أيضا، وقال: سيروا على
تعبيتكم التي عبأتكم عليها بدير بيرما أول الليل، ثم أطيفوا بعسكرهم
كما أمرتكم، فأقبلوا قال: فأقبلنا معه وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم
إليهم، وقد أمنونا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا قريبا منهم،
فانتهينا إليهم قبيل الصبح فأحطنا بعسكرهم، ثم صيحنا بهم من كل جانب،
فإذا هم يقاتلوننا من كل جانب، ويرموننا بالنبل ثم إن شبيبا بعث إلى
أخيه مصاد وهو يقاتلهم من نحو الكوفة أن أقبل إلينا وخل لهم سبيل
الطريق الى الكوفه فاقبل اليه، وترك ذلك الوجه، وجعلنا نقاتلهم من تلك
الوجوه الثلاثة حتى أصبحنا، فأصبحنا ولم تستفل منهم شيئا، فسرنا
وتركناهم فجعلوا يصيحون بنا: أين يا كلاب النار! أين أيتها العصابة
المارقة! أصبحوا نخرج إليكم، فارتفعنا عنهم نحوا من ميل ونصف، ثم نزلنا
فصلينا الغداة، ثم أخذنا الطريق على براز الروذ، ثم مضينا إلى جرجرايا
وما يليها، فأقبلوا في طلبنا.
قال أبو مخنف: فحدثني مولى لنا يدعى غاضرة أو قيصر، قال: كنت مع الناس
تاجرا وهم في طلب الحرورية وعلينا الجزل بن سعيد، فجعل يتبعهم فلا يسير
الا على تعبئة، ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في ارض
جوخى وغيرها يكسر الخراج، وطال ذلك على الحجاج، فكتب إليه كتابا، فقرئ
على الناس:
أما بعد، فإني بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتباع
هذه المارقة الضالة المضلة حتى تلقاها، فلا تقلع عنها حتى تقتلها
وتفنيها، فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من
المضي لما أمرتك به من مناهضتهم ومناجزتهم والسلام.
فقرئ الكتاب علينا ونحن بقطراثا ودير أبي مريم، فشق ذلك على
(6/233)
الجزل، وأمر الناس بالسير، فخرجوا في طلب
الخوارج جادين، وأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل.
قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمداني ثم البرسمي أن الحجاج
بعث سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وعهد إليه إن لقيت المارقة فازحف
إليهم ولا تناظرهم ولا تطاولهم وواقفهم واستعن بالله عليهم، ولا تصنع
صنيع الجزل، واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع واقبل بجزل في
طلب شبيب حتى انتهوا إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره، وخندق عليه وجاء
إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا، فقام فيهم خطيبا
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم.
أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين، وهم قد خربوا بلادكم،
وكسروا خراجكم، وأنتم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن
يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم، ونزلوا بلدا سوى بلدكم، فاخرجوا على اسم
الله إليهم.
فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: ما
تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل، فقال له
الجزل: أقم أنت في جماعه الجيش، فارسهم وراجلهم، واصحر له، فو الله
ليقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك، فإن ذلك شر لهم وخير لك فقال له: قف أنت
في الصف، فقال: يا سعيد بن مجالد، ليس لي فيما صنعت رأي، أنا بريء من
رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين فقال: هو رأيي إن اصبت، فالله
وفقني له، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برآء، قال: فوقف الجزل في صف أهل
الكوفة وقد أخرجهم من الخندق، وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة
الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الرواسي، ووقف الجزل
في جماعتهم
(6/234)
واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس
معه، وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل قطيطيا، وأمر دهقانها أن يشتري
لهم ما يصلحهم، ويتخذ لهم غداء، ففعل، ودخل مدينة قطيطيا وأمر بالباب
فأغلق، فلم يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل ذلك.
العسكر، فصعد الدهقان السور فنظر إلى الجند مقبلين قد دنوا من حصنه،
فنزل وقد تغير لونه، فقال له شبيب: ما لي أراك متغير اللون! فقال له
الدهقان: قد جاءتك الجنود من كل ناحية، قال: لا بأس، هل أدرك غداؤنا؟
قال:
نعم، قال: فقربه، وقد أغلق الباب، وأتي بالغداء، فتغدى وتوضأ وصلى
ركعتين، ثم دعا ببغل له فركبه.
ثم إنهم اجتمعوا على باب المدينة، فأمر بالباب ففتح، ثم خرج على بغله
فحمل عليهم وقال: لا حكم إلا للحكم الحكيم، أنا أبو مدله، اثبتوا إن
شئتم وجعل سعيد يجمع قومه وخيله، ويزلفها في أثره، ويقول:
ما هؤلاء! إنما هم أكلة رأس، فلما رآهم شبيب قد تقطعوا وانتشروا لف
خيله كلها، ثم جمعها، ثم قال: استعرضوهم استعراضا، وانظروا الى أميرهم،
فو الله لأقتلنه أو يقتلني وحمل عليهم مستعرضا لهم، فهزمهم وثبت سعيد
بن المجالد، ثم نادى أصحابه: إلي إلي، أنا ابن ذي مران! وأخذ قلنسوته
فوضعها على قربوس سرجه، وحمل عليه شبيب فعممه السيف، فخالط دماغه، فخر
ميتا، وانهزم ذلك الجيش، وقتلوا كل قتلة، حتى انتهوا إلى الجزل، ونزل
الجزل ونادى: أيها الناس، إلي.
وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن كان أميركم القادم قد هلك
فأميركم الميمون النقيبة المبارك حي لم يمت، فقاتل الجزل قتالا شديدا
حتى حمل من بين القتلى، فحمل إلى المدائن مرتثا، وقدم فل أهل ذلك
العسكر الكوفة، وكان من أشد الناس بلاء يومئذ خالد بن
(6/235)
نهيك من بني ذهل بن معاوية وعياض بن أبي
لينة، حتى استنقذاه وهو مرتث هذا حديث طائفة من الناس، والحديث الآخر
قتالهم فيما بين دير أبي مريم إلى براز الروز ثم إن الجزل كتب إلى
الحجاج.
قال: وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد فآمنهم،
وذلك اليوم يوم سوقهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، فأحب أن يؤمنهم، وكان
أصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دواب وثيابا وأشياء ليس لهم منها بد،
ثم أخذ بهم نحو الكوفة، وساروا أول الليل حتى نزلوا عقر الملك الذي يلي
قصر ابن هبيرة ثم أغذ السير من الغد، فبات بين حمام عمر بن سعد وبين
قبين فلما بلغ الحجاج مكانه بعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فبعثه
في ألفي فارس نقاوة، وقال له:
اخرج إلى شبيب فالقه، واجعل ميمنة وميسرة، ثم انزل إليه في الرجال فإن
استطرد ذلك فدعه ولا تتبعه فخرج فعسكر بالسبخة، فبلغه أن شبيبا قد
أقبل، فأقبل نحوه وكأنما يساقون الى الموت، وامر الحجاج عثمان ابن قطن
فعسكر بالناس بالسبخة، ونادى: ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات
الليلة بالكوفة لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة! وأمر سويد بن عبد
الرحمن أن يسير في الألفين اللذين معه حتى يلقى شبيبا فعبر بأصحابه إلى
زرارة وهو يعبئهم ويحرضهم إذ قيل له: قد غشيك شبيب، فنزل ونزل معه جل
أصحابه، وقدم رايته ومضى إلى أقصى زرارة، فأخبر أن شبيبا قد أخبر
بمكانك فتركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات وهو يريد الكوفة من غير الوجه
الذي أنت به ثم قيل له: أما تراهم! فنادى:
في أصحابه، فركبوا في آثارهم.
وإن شبيبا أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل: إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون
بالسبخة، فلما بلغهم مكان شبيب صاح بعضهم ببعض
(6/236)
وجالوا، وهموا ان يدخلوا الكوفه حتى قيل
لهم: إن سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل.
قال هشام: وأخبرني عمر بن بشير، قال: لما نزل شبيب الدير أمر بغنم تهيأ
له، فصعد الدهقان، ثم نزل وقد تغير لونه، فقال: مالك! قال: قد والله
جاءك جمع كثير، قال: أبلغ الشواء بعد؟ قال: لا، قال: دعه.
قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال: قد والله أحاطوا بالجوسق، قال:
هات شواءك، فجعل يأكل غير مكترث لهم، فلما فرغ توضأ وصلى بأصحابه
الأولى، ثم تقلد سيفين بعد ما لبس درعه، وأخذ عمود حديد ثم قال: أسرجوا
لي البغلة، فقال أخوه مصاد: أفي هذا اليوم تسرج بغلة! قال: نعم
أسرجوها، فركبها، ثم قال: يا فلان، أنت على الميمنة وأنت يا فلان على
الميسرة، وقال لمصاد: أنت في القلب، وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم
قال: فخرج اليهم وهو يحكم، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار
بينهم وبين الدير نحو من ميل.
قال: وجعل سعيد يقول: يا معشر همدان، أنا ابن ذي مران، إلي إلي ووجه
سربا مع ابنه وقد أحس أنها تكون عليه، فننظر شبيب إلى.
مصاد فقال: أثكلنيك الله إن لم أثكله ولده قال: ثم علاه بالعمود، فسقط
ميتا، وانهزم أصحابه وما قتل بينهم يومئذ إلا قتيل واحد قال:
وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى أتوا الجزل، فناداهم الجزل: أيها
الناس، إلي إلي وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن يكن أميركم
هذا القادم قد هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة، أقبلوا إليه، وقاتلوا
معه، فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزما، وقاتل الجزل قتالا
شديدا حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض ابن أبي لينة حتى
استنقذاه وهو مرتث، وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، فأتي بالجزل
حتى أدخل المدائن، وكتب إلى الحجاج بن يوسف.
قال أبو مخنف: حدثني بذلك ثابت مولى زهير:
(6/237)
أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني
خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير
إلي فيهم ورأيه، فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم
إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك، ولقد أرادني العدو بكل ريده فلم يصب
مني غرة، حتى قدم علي سعيد بن مجالد رحمة الله عليه، ولقد امرته
بالتؤده، ونهيته عن العجله، وامرته الا يقاتلهم إلا في جماعة الناس
عامة فعصاني، وتعجل إليهم في الخيل، فأشهدت عليه أهل المصرين أني بريء
من رأيه الذي رأى، وأني لا أهوى ما صنع فمضى فأصيب تجاوز الله عنه،
ودفع الناس إلي، فنزلت ودعوتهم إلي، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت،
فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس
ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها
ويعافى من مثلها فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده، وعن
مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه يستبين له عند ذلك أني قد
صدقته ونصحت له والسلام.
فكتب إليه الحجاج:
أما بعد، فقد أتاني كتابك وقرأته، وفهمت كل ما ذكرت فيه، وقد صدقتك في
كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على
عدوك، وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه، فقد رضيت عجلته
وتؤدتك، فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة، وأما تؤدتك فإنها لم تدع
الفرصة إذا أمكنت، وترك الفرصة إذا لم تمكن حزم، وقد أصبت وأحسنت
البلاء، وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحه، وقد اشخصت
إليك حيان
(6/238)
ابن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت
إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام.
فقدم عليه حيان بن أبجر الكناني من بني فراس- وهم يعالجون الكي وغيره-
فكان يداويه، وبعث إليه عبد الله بن أبي عصيفير بألف درهم، وكان يعوده
ويتعاهده باللطف والهدية قال: وأقبل شبيب نحو المدائن، فعلم أنه لا
سبيل له إلى أهلها مع المدينة، فأقبل حتى انتهى إلى الكرخ، فعبر دجلة
إليه، وبعث إلى أهل سوق بغداد وهو بالكرخ أن اثبتوا في سوقكم فلا بأس
عليكم- وكان ذلك يوم سوقهم- وقد كان بلغه أنهم يخافونه قال: ويخرج سويد
حتى جعل بيوت مزينة وبني سليم في ظهره وظهور أصحابه، وحمل عليهم شبيب
حملة منكرة، وذلك عند المساء، فلم يقدر منهم على شيء، فأخذ على بيوت
الكوفة نحو الحيرة، وأتبعه سويد لا يفارقه حتى قطع بيوت الكوفة كلها
إلى الحيرة، وأتبعه سويد حتى انتهى إلى الحيرة، فيجده قد قطع قنطرة
الحيرة ذاهبا، فتركه وأقام حتى أصبح، وبعث إليه الحجاج أن أتبعه
فأتبعه، ومضى شبيب حتى أغار في أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع
في البر من وراء خفان في أرض يقال لها الغلظة، فيصيب رجالا من بني
الورثة، فحمل عليهم، فاضطرهم إلى جدد من الأرض، فجعلوا يرمونه واصحابه
بالحجارة من حجارة الأرحاء كانت حولههم، فلما نفدت وصل إليهم فقتل منهم
ثلاثة عشر رجلا، منهم حنظلة بن مالك ومالك بن حنظلة وحمران بن مالك،
كلهم من بني الورثة.
قال أبو مخنف: حدثني بذلك عطاء بن عرفجة بن زياد بن عبد الله الورثي
ومضى شبيب حتى يأتي بني أبيه على اللصف ماء لرهطه وعلى ذلك الماء الفزر
بن الأسود، وهو أحد بني الصلت، وهو الذي كان ينهى شبيبا عن رأيه، وأن
يفسد بني عمه وقومه، فكان شبيب يقول: والله لئن ملكت سبعة أعنة لأغزون
الفزر فلما غشيهم شبيب
(6/239)
في الخيل سأل عن الفزر فاتقاه الفزر، فخرج
على فرس لا تجارى من وراء البيوت، فذهب عليها في الأرض، وهرب منه
الرجال، ورجع وقد أخاف أهل البادية حتى أخذ على القطقطانة، ثم على قصر
مقاتل، ثم أخذ على شاطئ الفرات حتى أخذ على الحصاصة، ثم على الأنبار،
ثم مضى حتى دخل دقوقاء، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان فتركه الحجاج وخرج
إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فما شعر
الناس بشيء حتى جاء كتاب من ماذرواسب دهقان بابل مهروذ وعظيمها إلى
عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني
فذكر أن شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، أحببت
إعلامك ذلك لترى رأيك، ثم لم ألبث إلا ساعة حتى جاءني جابيان من جباتي
فحدثاني أنه قد نزل خانيجار فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج
بالبصرة، فلما قرأه الحجاج أقبل جوادا إلى الكوفة، وأقبل شبيب يسير حتى
انتهى إلى قرية يقال لها حربى على شاطئ دجلة فعبر منها، فقال: ما اسم
هذه القرية؟ فقالوا: حربى، فقال: حرب يصلى بها عدوكم، وحرب تدخلونه
بيوتهم، إنما يتطير من يقوف ويعيف، ثم ضرب رايته وقال لأصحابه: سيروا،
فأقبل حتى نزل عقرقوفا، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين، لو
تحولت بنا من هذه القرية المشئومة الاسم، قال.
وقد تطيرت أيضا! والله لا أتحول عنها حتى أسير إلى عدوي منها، إنما
شؤمها إن شاء الله على عدوكم تحملون عليهم فيها، فالعقر لهم ثم قال
لأصحابه: يا هؤلاء، إن الحجاج ليس بالكوفة، وليس دون الكوفة إن شاء
الله شيء، فسيروا بنا فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكتب عروة إلى
الحجاج أن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل فطوى الحجاج
المنازل، واستبقا إلى الكوفة، ونزلها الحجاج صلاة الظهر، ونزل شبيب
السبخة صلاة المغرب، فصلى المغرب والعشاء، ثم أصاب هو وأصحابه من
الطعام شيئا يسيرا، ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة، فجاء شبيب حتى
انتهى إلى السوق، ثم شد حتى ضرب باب القصر بعموده
(6/240)
قال أبو المنذر: رأيت ضربة شبيب بباب القصر
قد أثرت أثرا عظيما، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبة، ثم قال:
وكأن حافرها بكل خميلة ... كيل يكيل به شحيح معدم
عبد دعى من ثمو أصله ... لا بل يقال أبو أبيهم يقدم
ثم اقتحموا المسجد الأعظم وكان كبيرا لا يفارقه قوم يصلون فيه، فقتل
عقيل بن مصعب الوادعى وعدي بن عمرو الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم مولى
عنبسة بن أبي سفيان، وقتلوا أزهر بن عبد الله العامري، ومروا بدار حوشب
وهو على الشرط فوقفوا على بابه وقالوا: إن الأمير يدعو حوشبا، فأخرج
ميمون غلامه برذون حوشب ليركبه حوشب، فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد
اتهمهم، فأراد أن يدخل، فقالوا له: كما أنت، حتى يخرج صاحبك فسمع حوشب
الكلام، فأنكر القوم، فخرج إليهم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم، وذهب
لينصرف، فعجلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب، وقتلوا غلامه ميمونا، وأخذوا
برذونه ومضوا حتى مروا بالجحاف ابن نبيط الشيباني من رهط حوشب، فقال له
سويد: انزل إلينا، فقال له: ما تصنع بنزولي! قال له سويد: أقضيك ثمن
البكرة التي كنت ابتعت منك بالبادية، فقال له الجحاف: بئس ساعة القضاء
هذه الساعة، وبئس قضاء الدين هذا المكان! أما ذكرت أمانتك إلا والليل
مظلم، وأنت على ظهر فرسك! قبح الله يا سويد دينا لا يصلح ولا يتم إلا
بقتل ذوي القرابة وسفك دماء هذه الأمة.
قال: ثم مضوا فمروا بمسجد بني ذهل فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلي في
مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفا إلى منزله، فشدوا عليه
ليقتلوه، فقال: اللهم إني أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم.
اللهم إني عنهم ضعيف، فانتصر لي منهم! فضربوه حتى قتلوه، ثم مضوا حتى
خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة
(6/241)
قال هشام: قال أبو بكر بن عياش: واستقبله
النضر بن قعقاع ابن شور الذهلي، وأمه ناجية بنت هانئ بن قبيصة بن هانئ
الشيباني فأبطره حين نظر إليه- قال: يعني بقوله: أبطره أفزعه- فقال:
السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، قال له سويد مبادرا: أمير
المؤمنين، ويلك! فقال: أمير المؤمنين حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو
المردمة، وأمر الحجاج المنادي فنادى: يا خيل الله اركبي وأبشري، وهو
فوق باب القصر، وثم مصباح مع غلام له قائم، فكان أول من جاء إليه من
الناس عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي الغصة، ومعه مواليه، وناس
من أهله، فقال: أنا عثمان بن قطن، أعلموا الأمير مكاني فليأمر بأمره،
فقال له ذلك الغلام: قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير، وجاء الناس من كل
جانب، وبات عثمان فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح.
ثم ان الحجاج بعث بسر بن غالب الأسدي من بني والبة في ألفي رجل، وزائدة
بن قدامة الثقفي في ألفي رجل، وأبا الضريس مولى بني تميم في ألف من
الموالي، وأعين- صاحب حمام أعين مولى بشر بن مروان- في ألف رجل، وكان
عبد الملك بن مروان قد بعث مُحَمَّد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب
له عليها عهده، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإذا قدم عليك مُحَمَّد بن
موسى فجهز معه ألفي رجل إلى سجستان، وعجل سراحه وأمر عبد الملك
مُحَمَّد بن موسى بمكاتبة الحجاج، فلما قدم مُحَمَّد ابن موسى جعل
يتحبس في الجهاز، فقال له نصحاؤه: تعجل أيها الأمير إلى عملك، فإنك لا
تدري ما يكون من أمر الحجاج! وما يبدو له فأقام على حاله، وحدث من أمر
شبيب ما حدث، فقال الحجاج لمحمد ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله: تلقى
شبيبا وهذه الخارجة فتجاهدهم ثم تمضي إلى عملك، وبعث الحجاج مع هؤلاء
الأمراء أيضا عبد الأعلى بن
(6/242)
عبد الله بن عامر بن كريز القرشي وزياد بن
عمرو العتكي، وخرج شبيب حيث خرج من الكوفة، فأتى المردمة وبها رجل من
حضرموت على العشور يقال له ناجية بن مرثد الحضرمي، فدخل الحمام ودخل
عليه شبيب فاستخرجه فضرب عنقه، واستقبل شبيب النضر بن القعقاع بن شور-
وكان مع الحجاج حين أقبل من البصرة، فلما طوى الحجاج المنازل خلفه
وراءه- فلما رآه شبيب ومعه أصحابه عرفه، فقال له شبيب: يا نضر بن
القعقاع، لا حكم إِلَّا لِلَّهِ*- وإنما أراد شبيب بمقالته له تلقينه،
فلم يفهم النضر- فقال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ،
فقال أصحاب شبيب: يا أمير المؤمنين، كأنك إنما تريد بمقالتك أن تلقنه
فشدوا على نضر فقتلوه.
قال: واجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذي فيه
جماعة أولئك القواد، وأخذ نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في
جريدة خيل نقاوه الف وثمانمائه فارس، وقال له: اتبع شبيبا حتى تواقعه
حيثما أدركته، إلا أن يكون منطلقا ذاهبا فاتركه ما لم يعطف عليك أو
ينزل فيقيم لك، فلا تبرح إن هو أقام حتى تواقعه، فخرج زحر حتى انتهى
إلى السيلحين، وبلغ شبيبا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر
على ميمنته عبد الله بن كناز النهدي، وكان شجاعا، وعلى ميسرته عدى بن
عدى بن عميرة الكندى الشيباني، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة، ثم
اعترض بها الصف، فوجف وجيفا، واضطرب حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل
زحر بن قيس، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه، وظن القوم أنهم قد
قتلوه، فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات
بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضعة عشر جراحة ما بين ضربة
وطعنة، فمكث أياما، ثم أتى الحجاج وعلى وجهه وجراحه القطن، فأجلسه
الحجاج معه على السرير، وقال لمن حوله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل
الجنة يمشي بين الناس وهو
(6/243)
شهيد فلينظر إلى هذا وقال أصحاب شبيب لشبيب
وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا: قد هزمنا لهم جندا، وقتلنا لهم أميرا من
أمرائهم عظيما، انصرف بنا الآن وافرين، فقال لهم: إن قتلنا هذا الرجل،
وهزيمتنا هذا الجند، قد أرعبت هذه الأمراء والجنود التي بعثت في طلبكم،
فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون الحجاج من شيء وأخذ
الكوفة إن شاء الله فقالوا: نحن لرأيك سمع تبع، ونحن طوع يديك.
قال: فانقض بهم جوادا حتى يأتي نجران- وهي نجران الكوفة ناحية عين
التمر-، ثم سأل عن جماعة القوم فخبر باجتماعهم بروذبار في أسفل الفرات
في بهقباذ الأسفل، على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة فبلغ الحجاج
مسيره إليهم، فبعث إليهم عبد الرحمن بن الغرق مولى ابن أبي عقيل- وكان
على الحجاج كريما- فقال له: الحق بجماعتهم- يعني جماعة الأمراء-
فأعلمهم بمسير المارقة إليهم، وقل لهم: إن جمعكم قتال فأمير الناس
زائدة بن قدامة، فأتاهم ابن الغرق فأعلمهم ذلك، وانصرف عنهم.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: انتهى إلينا شبيب وفينا
سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة، وقد عبى كل أمير أصحابه على
حدة، ففي ميمنتنا زياد بن عمرو العتكي، وفي ميسرتنا بشر بن غالب
الأسدي، وكل أمير واقف في أصحابه فأقبل شبيب حتى وقف على تل، فأشرف على
الناس وهو على فرس له كميت أغر، فنظر إلى تعبيتهم، ثم رجع إلى أصحابه،
فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد
بن سليم، فتقف في ميمنتنا، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت على
ميسرتنا، وجاء شبيب في كتيبه حتى وقف مقابل القلب قال: وخرج زائده ابن
قدامة يسير في الناس فيما بين ميمنتهم إلى ميسرتهم يحرض الناس ويقول:
(6/244)
يا عباد الله، أنتم الكثيرون الطيبون، وقد
نزل بكم القليلون الخبيثون، فاصبروا- جعلت لكم الفداء- لكرتين أو ثلاث
تكرون عليهم، ثم هو النصر ليس بينه حاجز ولا دونه شيء ألا ترون إليهم
والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، إنما هم السراق المراق،
إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيئكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى
منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة،
غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم، ثم
انصرف إلى موقفه.
قال: ويحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفهم، وثبت زياد في
نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا، ثم كر عليهم ثانية، ثم
اطعنوا ساعة.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: أنا والله فيهم يومئذ، قال:
اطعنا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا، وقاتل زياد بن عمرو
قتالا شديدا، وجعل ينادي: يا خيلي، ويشد بالسيف فيقاتل قتالا شديدا،
فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشجع العرب وأشده قتالا، وما يعرض
له قال: ثم انا ارتفعنا عنهم آخرا فإذا هم يتقوضون، فقال له أصحابه:
ألا تراهم يتقوضون! احمل عليهم، فقال لهم شبيب: خلوهم حتى يخفوا،
فتركوهم قليلا، ثم حمل عليهم الثالثه فانهزموا فنظرت الى زياد ابن عمرو
وإنه ليضرب بالسيف وما من سيف يضرب به إلا نبا عنه وهو مجفف، ولقد
رأيته اعتوره أكثر من عشرين سيفا فما ضره من ذلك شيء ثم إنه انهزم وقد
جرح جراحة يسيرة، وذلك عند المساء.
قال: ثم شددنا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزمناه، وما قاتلنا
كثير قتال، وقد ضارب ساعة، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن
عمرو، فمضينا منهزمين حتى انتهينا إلى مُحَمَّد بن موسى بن طلحة عند
المغرب، فقاتلنا قتالا شديدا وصبر لنا
(6/245)
ذكر هِشَام عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط، أن أخا شبيب مصادا حمل على بشر
بن غالب وهو في الميسرة، فأبلى وكرم والله وصبر، فنزل ونزل معه رجال من
أهل الصبر نحو من خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا عن آخرهم، وكان
فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الأزدي، وأمه زرارة امرأة ولدت في الأزد،
فيقال لهم بنو زرارة، فلما قتلوه وانهزم أصحابه مالوا فشدوا على أبي
الضريس مولى بني تميم، وهو يلي بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف
أعين، ثم شدوا عليه وعلى أعين جميعا فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى
زائدة بن قدامة، فلما انتهوا إليه نزل ونادى: يا اهل الاسلام، والارض
الأرض، إلي إلي! لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم، فقاتلهم
عامة الليل حتى كان السحر ثم إن شبيبا شد عليه في جماعة من أصحابه
فقتله وأصحابه وتركهم ربضة حوله من أهل الحفاظ.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب قال: سمعت
زائده ابن قدامه ليلتئذ رافعا صوته يقول: يايها الناس، اصبروا وصابروا،
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ.
» ثم والله ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل.
قال أبو مخنف: وحدثني فروه بن لقيط ان أبا الصقير الشيباني ذكر أنه قتل
زائدة بن قدامة، وقد حاجه في ذلك آخر يقال له الفضل ابن عامر قال: ولما
قتل شبيب زائدة بن قدامة دخل أبو الضريس وأعين جوسقا عظيما، وقال شبيب
لأصحابه: ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم إلى البيعة
عند الفجر.
قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت فيمن قدم إليه فبايعه وهو واقف على فرس
وخيله واقفة دونه، فكل من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه، وأخذ سلاحه
منه، ثم يدنى من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين، ثم يخلى سبيله قال:
وإنا لكذلك إذ انفجر الفجر ومُحَمَّد بن
(6/246)
موسى بن طلحة بن عبيد الله في أقصى العسكر،
معه عصابة من أصحابه قد صبروا، فلما انفجر الفجر أمر مؤذنه فأذن، فلما
سمع شبيب الأذان قال: ما هذا؟ فقال: هذا مُحَمَّد بن موسى بن طلحة بن
عبيد الله لم يبرح، فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا،
نحوا هؤلاء عنا وانزلوا بنا فلنصل قال: فنزل فأذن هو، ثم استقدم فصلى
بأصحابه، فقرأ:
«وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» ، و «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ
بِالدِّينِ» ، ثم سلم، ثم ركبوا فحمل عليهم فانكشفت طائفة.
من أصحابه، وثبتت طائفة قال فروة: فما أنسى قوله وقد غشيناه وهو يقاتل
بسيفه وهو يقول:
«الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ
لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكاذِبِينَ» قال: وضارب حتى قتل قال: فسمعت أصحابي يقولون: إن شبيبا
هو الذي قتله ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شيء، وهرب الذين
كانوا بايعوا شبيبا، فلم يبق منهم أحد.
وقد ذكر من أمر مُحَمَّد بن موسى بن طلحة غير أبي مخنف أمرا غير الذي
ذكرته عنه، والذي ذكر من ذلك أن عبد الملك بن مروان كان ولى مُحَمَّد
بن موسى بن طلحة سجستان، فكتب إليه الحجاج: أنك عامل كل بلد مررت به،
وهذا شبيب في طريقك فعدل إليه مُحَمَّد، فأرسل إليه شبيب: إنك امرؤ
مخدوع، قد اتقى بك الحجاج، وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك
الله لا آذيتك، فأبى إلا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد إليه الرسول،
فأبى إلا قتاله، فدعا إلى البراز، فبرز إليه البطين ثم قعنب ثم سويد،
فأبى إلا شبيبا، فقالوا لشبيب: قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم هذه
الأشراف! فبرز إليه شبيب، وقال: إني أنشدك الله في دمك، فإن لك جوارا
فأبى إلا قتاله، فحمل عليه شبيب فضربه بعصا حديد
(6/247)
فيها اثنا عشر رطلا بالشامي، فهشم بها بيضة
عليه ورأسه فسقط، ثم كفنه ودفنه، وابتاع ما غنموا من عسكره، فبعث به
إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن أهب ما
غنمت لأهل الردة.
قال عمر بن شبة: قال أبو عبيدة: كان محمد بن موسى مع عمر ابن عبيد الله
بن معمر بفارس، وشهد معه قتال أبي فديك وكان على ميمنته، وشهر بالنجدة
وشدة البأس وزوجه عمر بن عبيد الله بن معمر ابنته أم عثمان وكانت أخته
تحت عبد الملك بن مروان- فولاه سجستان، فمر بالكوفة وبها الحجاج بن
يوسف، فقيل للحجاج: إن صار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك
فلجأ إليه أحد ممن تطلب، منعك منه، قال: فما الحيلة؟ قيل: تأتيه وتسلم
عليه، وتذكر نجدته وبأسه وأن شبيبا في طريقه، وأنه قد أعياك، وأنك ترجو
أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكر ذلك وشهرته ففعل، فعدل إليه
مُحَمَّد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، فواقعه شبيب، فقال له شبيب:
إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك لو
قد التقت حلقتا البطان قد أسلموك، فصرعت مصرع أصحابك، فأطعني وانطلق
لشأنك، فإني أنفس بك عن الموت، فأبى مُحَمَّد بن موسى، فبارزه شبيب
فقتله رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف قَالَ عبد الرحمن: لقد كان فيمن
بايعه تلك الليلة أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما بايعه قال له
شبيب: ألست أبا بردة! قال: بلى، قال شبيب لأصحابه: يا أخلائي، أبو هذا
أحد الحكمين، فقالوا: الا نقتل هذا؟ فقال: ان هذا لاذنب له فيما صنع
أبوه، قالوا: أجل قال: وأصبح شبيب: فأتى مقبلا نحو القصر الذي فيه أبو
الضريس وأعين
(6/248)
فرموه بالنبل، وتحصنا منه، فأقام ذلك اليوم
عليهم، ثم شخص عنهم، فقال له أصحابه: ما دون الكوفة أحد يمنعنا، فنظر
فإذا اصحابه قد جرحوا، فقال لهم: ما عليكم أكثر مما قد فعلتم، فخرج بهم
على نفر، ثم على الصراة، ثم على بغداد، ثم خرج إلى خانيجار فأقام بها.
قال: ولما بلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر ظن أنه يريد المدائن-
وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يده من أرض الكوفة أكثر-
فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، ودعاه وسرحه إلى المدائن،
وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان.
فخرج مسرعا حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج عبد الله بن أبي عصيفير، وكان
بها الجزل مقيما أشهرا يداوي جراحته، وكان ابن أبي عصيفير يعوده
ويكرمه، فلما قدم عثمان بن قطن المدائن لم يعده، ولم يكن يتعاهده ولا
يلطفه بشيء، فقال الجزل: اللهم زد ابن عصيفير جودا وكرما وفضلا، وزد
عثمان بن قطن ضيقا وبخلا قال: ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن
الاشعث فقال: انتخب الناس، واخرج في طلب هذا العدو، فأمره بنخبة ستة
آلاف، فانتخب فرسان الناس ووجوههم، واخرج من قومه ستمائه من كندة
وحضرموت، واستحثه الحجاج بالعسكر، فعسكر بدير عبد الرحمن، فلما أراد
الحجاج إشخاصهم كتب إليهم:
أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء، ووليتم الدبر يوم الزحف، وذلك دأب
الكافرين، وإني قد صفحت عنكم مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة وإني أقسم لكم
بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا أكون أشد عليكم من
هذا العدو الذى تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتستترون منه
بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه، ولم يجعل
عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر
وقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
(6/249)
والسلام عليكم.
قال: ثم سرح ابن الأصم مؤذنه، فاتى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث عند
طلوع الشمس، فقال له: ارتحل الساعة وناد في الناس: أن برئت الذمة عن
رجل من هذا البعث وجدناه متخلفا فخرج عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث
في الناس حتى مر بالمدائن فنزل يوما وليلة، وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم
نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا، ثم أقبلوا حتى دخل على عثمان بن قطن،
ثم أتى الجزل فسأله عن جراحته، وسأله ساعة وحدثه ثم ان الجزل قال له:
يا بن عم: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل، والله
لكأنما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم، الفارس
منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم، فإني قد قاتلتهم
وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني، وكان لهم الفضل علي، وإذا خندقت
علي وقاتلتهم في مضيق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر، فلا
تلقهم وأنت تستطيع إلا في تعبئة أو في خندق ثم إنه ودعه، فقال له
الجزل: هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنها لا تجاري فأخذها ثم خرج بالناس
نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد
الرحمن في طلبه، حتى إذا كان على التخوم أقام، وقال: إنما هو في أرض
الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه، فكتب إليه الحجاج بن يوسف:
أما بعد، فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو
تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده- والسلام.
فخرج عبد الرحمن حين قرأ كتاب الحجاج في طلب شبيب، فكان شبيب يدعه حتى
إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه
عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه قد تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا
انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وادنى
(6/250)
المرامية، فلا يصيب له غرة ولا له علة،
فيمضي ويدعه.
قال: ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل اليه، جعل
يخرج إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله، فينزل على مسيرة عشرين فرسخا، ثم
يقيم في ارض غليظه حزنه، فيجيء عبد الرحمن، فإذا دنا من شبيب ارتحل
شبيب فسار خمسة عشر أو عشرين فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا، ثم يقيم
حتى يدنو عبد الرحمن.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب أن شبيبا كان قد عذب ذلك
العسكر وشق عليهم، وأحفى دوابهم، ولقوا منه كل بلاء، فلم يزل عبد
الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين ثم على جلولاء ثم على تامرا، ثم
أقبل حتى نزل البت- قرية من قرى الموصل على تخوم الموصل، ليس بينها
وبين سواد الكوفة إلا نهر يسمى حولايا- قال:
وجاء عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث حتى نزل في نهر حولايا وفي
راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عواقيل من النهر، ونزلها عبد الرحمن
حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن قال:
وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: أن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فان
رايتم ان تواد عونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا فقال له عبد الرحمن:
نعم، ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة قال:
وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج:
أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر
جوخى كلها خندقا واحدا، وخلى شبيبا وكسر خراجها وهو يأكل أهلها
والسلام.
فكتب إليه الحجاج:
أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل
(6/251)
ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل
المارقة حتى تلقاهم، فإن الله إن شاء الله ناصرك عليهم والسلام.
قال: وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى
قدم على عبد الرحمن بن مُحَمَّد ومن معه من أهل الكوفة وهم معسكرون على
نهر حولايا قريبا من البت، عشية الثلاثاء، وذلك يوم التروية، فنادى
الناس وهو على بغلة: أيها الناس، اخرجوا إلى عدوكم فوثب إليه الناس،
فقالوا: ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على
القتال، فبت الليلة ثم اخرج بالناس على تعبئة.
فجعل يقول: لاناجزنهم، ولتكونن الفرصة لي اولهم فأتاهم عبد الرحمن فأخذ
بعنان دابته، وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي:
إن الذي تريد من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا، وهو غدا خير لك وللناس
إن هذه ساعة ريح وغبرة، وقد أمسيت فانزل، ثم أبكر بنا إليهم غدوة فنزل،
فسفت عليه الريح، وشق عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج فبنوا له
قبة فبات فيها، ثم أصبح يوم الأربعاء، فجاء أهل البت إلى شبيب- وكان قد
نزل ببيعتهم- فقالوا: أصلحك الله! أنت ترحم الضعفاء وأهل الجزية،
ويكلمك من تلي عليه، ويشكون إليك ما نزل بهم فتنظر لهم، وتكف عنهم، وإن
هؤلاء القوم جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك
مقيم في بيعتنا ليقتلننا إن قضي لك أن ترتحل عنا، فإن رأيت فانزل جانب
القرية ولا تجعل لهم علينا مقالا، قال: فإني أفعل ذلك بكم، ثم خرج فنزل
جانب القرية قال: فبات عثمان ليلته كلها يحرضهم، فلما أصبح- وذلك يوم
الأربعاء- خرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فصاح الناس إليه،
فقالوا: ننشدك الله أن تخرج بنا في هذا اليوم، فإن الريح علينا! فأقام
بهم ذلك اليوم، وأراد شبيب قتالهم، وخرج أصحابه، فلما رآهم لم يخرجوا
إليه أقام، فلما كان
(6/252)
ليلة الخميس خرج عثمان فعبى الناس على
أرباعهم، فجعل كل ربع في جانب العسكر، وقال لهم: اخرجوا على هذه
التعبئة، وسألهم: من كان على ميمنتكم؟ قالوا: خالد بن نهيك بن قيس
الكندي، وكان على ميسرتنا عقيل بن شداد السلولي، فدعاهما فقال لهما:
قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد وليتكما المجنتين، فاثبتا ولا تفرا،
فو الله لا أزول حتى يزول نخل راذان عن أصوله فقالا: ونحن والله الذي
لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال لهما: جزاكما الله خيرا
ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج فجعل ربع أهل المدينة تميم
وهمدان نحو نهر حولايا في الميسرة، وجعل ربع كندة وربيعة ومذحج وأسد في
الميمنة، ونزل يمشي في الرجال، وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد
وثمانين رجلا، فقطع إليهم النهر فكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على
ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصاد بن يزيد أخاه، وزحفوا وسما
بعضهم لبعض.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح العبسي أن عثمان كان
يقول فيكثر: «لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ
الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا»
أين المحافظون على دينهم، المحامون عن فيئهم! فقال عقيل بن شداد بن
حبشي السلولي: لعلي أن أكون أحدهم، قتل أولئك يوم روذبار ثم قال شبيب
لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب
ميسرتي على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري وحمل في ميمنة
أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا، ونزل عقيل بن
شداد فقاتل حتى قتل، وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني ثم المرهبي،
عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول
وهو يجالدهم:
لأضربن بالحسام الباتر ضرب غلام من سلول صابر
(6/253)
ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في
ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها، وعليها خالد بن نهيك بن قيس
الكندي، فنزل خالد فقاتل قتالا شديدا، وحمل عليه شبيب من ورائه وهو على
ربع كندة وربيعة يومئذ، وهو صاحب الميمنة، فلم ينثن شبيب حتى علاه
بالسيف فقتله، ومضى عثمان بن قطن وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس
والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين راجلا، فلما دنا
منهم عثمان بن قطن شد عليهم في الأشراف وأهل الصبر فضاربوهم حتى فرقوا
بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم
تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله، ورجع مصاد
وأصحابه، وقد كان شبيب رجلهم، فاضطربوا ساعة، وقاتل عثمان بن قطن فأحسن
القتال ثم إنهم شدوا عليهم فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه
ضربة بالسيف استدار لها، ثم قال: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا*»
ثم إن الناس قتلوه، وقتل يومئذ الأبرد بن ربيعة الكندي، وكان على تل،
فألقى سلاحه إلى غلامه وأعطاه فرسه، وقاتل حتى قتل ووقع عبد الرحمن
فرآه ابن أبي سبرة الجعفي وهو على بغلة فعرفه، فنزل إليه فناوله الرمح
وقال له: اركب، فقال عبد الرحمن ابن مُحَمَّد: أينا الرديف؟ قال: ابن
أبي سبرة: سبحان الله! أنت الأمير تكون المقدم، فركب وقال لابن أبي
سبرة: ناد في الناس: الحقوا بدير أبي مريم، فنادى، ثم انطلقا ذاهبين،
ورأى واصل بن الحارث السكوني فرس عبد الرحمن الذي حمله عليه الجزل يجول
في العسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قد هلك، فطلبه في القتلى
فلم يجده، وسأل عنه فقيل له: قد رأينا رجلا قد نزل عن دابته فحمله
عليها، فما أخلقه أن يكون إياه، وقد أخذ هاهنا آنفا فأتبعه واصل بن
الحارث على برذونه ومع واصل غلامه على بغل، فلما دنوا منهما قال
مُحَمَّد بن أبي سبرة لعبد الرحمن: قد والله لحق بنا فارسان، فقال عبد
الرحمن: فهل
(6/254)
غير اثنين؟ فقال: لا، فقال عبد الرحمن: فلا
يعجز اثنان عن اثنين:
قال: وجعل يحدث ابن أبي سبرة كأنه لا يكترث بهما، حتى لحقهما الرجلان،
فقال له ابن أبي سبرة: رحمك الله! قد لحقنا الرجلان، فقال له: فانزل
بنا، فنزلا فانتضيا سيفيهما، ثم مضيا إليهما، فلما رآهما واصل عرفهما،
فقال لهما: إنكما قد تركتما النزول في موضعه، فلا تنزلا الآن، ثم حسر
العمامة عن وجهه، فعرفاه فرحبا به، وقال لابن الأشعث:
إني لما رأيت فرسك يجول في العسكر ظننتك راجلا، فأتيتك ببرذوني هذا
لتركبه، فترك لابن أبي سبرة بغلته، وركب البرذون، وانطلق عبد الرحمن بن
الأشعث حتى نزل دير اليعار، وأمر شبيب أصحابه فرفعوا عن الناس السيف،
ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجالة فبايعوه، وقال له أبو
الصقير المحلمي: قتلت من الكوفيين سبعة في جوف النهر كان آخرهم رجلا
تعلق بثوبي وصاح، ورهبني حتى رهبته، ثم إني أقدمت عليه فقتلته وقتل من
كندة مائة وعشرون يومئذ والف من سائر الناس او ستمائه، وقتل عظم
العرفاء يومئذ قال أبو مخنف: حدثني قدامة بن حازم بن سفيان الخثعمي أنه
قتل منهم يومئذ جماعة، وبات عبد الرحمن بن مُحَمَّد تلك الليلة بدير
اليعار، فأتاه فارسان فصعدا إليه فوق البيت، وقام آخر قريبا منهما فخلا
أحدهما بعبد الرحمن طويلا يناجيه، ثم نزل هو وأصحابه، وقد كان الناس
يتحدثون أن ذلك كان شبيبا، وأنه قد كان كاتبه، ثم خرج عبد الرحمن آخر
الليل فسار حتى أتى دير أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم
مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة صبر الشعير والقت بعضه على بعض
كأنه القصور، ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، فأكلوا يومئذ، وعلفوا
دوابهم، واجتمع الناس إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث
فقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد ذهب الناس
وتفرقوا وقتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة فخرج إلى الكوفة ورجع
الناس أيضا، وجاء
(6/255)
فاختبأ من الحجاج حتى أخذ الأمان بعد ذلك
. نقش الدنانير والدراهم بأمر عبد الملك بن
مروان
وفي هذه السنة أمر عبد الملك بن مروان بنقش الدنانير والدراهم.
ذكر الواقدي: أن سعد بن راشد حدثه عن صالح بن كيسان بذلك.
قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك ضرب الدراهم
والدنانير عامئذ، وهو أول من أحدث ضربها.
قال: وحدثني خالد بن أبي ربيعة، عن أبي هلال، عن أبيه، قال: كانت
مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطا إلا
حبة، وكان العشرة وزن سبعة.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن جرير الليثي عن هلال بن أسامة قال:
سألت سعيد بن المسيب في كم تجب الزكاة من الدنانير؟ قال: في كل عشرين
مثقالا بالشامي نصف مثقال، قلت: ما بال الشامي من المصري؟
قال: هو الذي تضرب عليه الدنانير وكان ذلك وزن الدنانير قبل أن تضرب
الدنانير، كانت اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة، قال سعيد قد عرفته، قد
أرسلت بدنانير الى دمشق فضربت على ذلك.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة: وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك بن مروان وولي أبان بن
عثمان المدينة في رجب.
وفيها استقضي أبان بن نوفل بن مساحق بن عمرو بن خداش من بني عامر بن
لؤي.
وفيها ولد مروان بن مُحَمَّد بن مروان وأقام الحج للناس في هذه السنة
أبان بن عثمان وهو أمير على المدينة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن
ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي
وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية بن عبد الله
بن خالد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة زرارة بن
أوفى
(6/256)
ثم دخلت
سنه سبع وسبعين
محاربه شبيب عتاب بن ورقاء وزهره بن حوية
وقتلهما
ففي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية ذكر الخبر
عن سبب مقتلهما:
وكان سبب ذلك فِيمَا ذكر هِشَامٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ ابن جندب وفروة بن لقيط، أن شبيبا لما هزم الجيش الذي كان
الحجاج وجهه مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث إليه، وقتل
عثمان ابن قطن، وذلك في صيف وحر شديد، اشتد الحر عليه وعلى أصحابه،
فأتى ماه بهزاذان فتصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب
الدنيا فلحقوا به، وناس ممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تباعات، كان
منهم رجل من الحي يقال له الحر بن عبد الله بن عوف، وكان دهقانان من
أهل نهر درقيط قد أساءا إليه وضيقا عليه، فشد عليهما فقتلهما، ثم لحق
بشبيب فكان معه بماه، وشهد معه مواطنه حتى قتل، فلما آمن الحجاج كل من
كان خرج إلى شبيب من أصحاب المال والتباعات- وذلك بعد يوم السبخة- خرج
إليه الحر فيمن خرج، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج، فأتي به
فدخل، وقد أوصى ويئس من نفسه، فقال له الحجاج يا عدو الله، قتلت رجلين
من أهل الخراج! فقال له: قد كان أصلحك الله ما هو أعظم من هذا، فقال:
وما هو؟ قال: خروجي من الطاعة وفراق الجماعة، ثم آمنت كل من خرج إليك،
فهذا أماني وكتابك لي فقال له الحجاج: أولى لك! قد لعمري فعلت، وخلى
سبيله قال: ولما انفسخ الحر عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائه
رجل، فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء
(6/257)
حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب
ماذرواسب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج:
أما بعد: فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن شبيبا قد أقبل حتى نزل قناطر
حذيفة، ولا أدري أين يريد! فلما قرأ الحجاج كتابه قام فِي الناس
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم
هم أطوع وأسمع وأصبر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون
فيئكم فقام إليه الناس من كل جانب، فقالوا: نحن نقاتلهم ونعتب الأمير،
فليندبنا الأمير إليهم فإنا حيث سره وقام إليه زهرة بن حوية وهو شيخ
كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال له: أصلح الله الأمير! إنك
إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة فلينفروا
إليهم كافة، وابعث عليهم رجلا ثبتا شجاعا مجربا للحرب ممن يرى الفرار
هضما وعارا والصبر مجدا وكرما فقال الحجاج: فأنت ذاك فاخرج، فقال: أصلح
الله الأمير! إنما يصلح للناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهز
السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا، وقد ضعف بصري
وضعفت، ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إنما أثبت على الراحلة
فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي فقال له الحجاج: جزاك الله
عن الإسلام وأهله في أول الإسلام خيرا، وجزاك الله عن الإسلام في آخر
الإسلام خيرا، فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة ألا فسيروا أيها
الناس فانصرف الناس فجعلوا يسيرون وليس يدرون من أميرهم! وكتب الحجاج
إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه الله أن شبيبا
قد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في
مواطن كثيرة، في
(6/258)
كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم، فإن رأى
أمير المؤمنين أن يبعث إلى أهل الشام فيقاتلوا عدوهم ويأكلوا بلادهم
فليفعل، والسلام.
فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف،
وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين فسرحهم حين أتاه
الكتاب إلى الحجاج، وجعل أهل الكوفة يتجهزون إلى شبيب ولا يدرون من
أميرهم! وهم يقولون: يبعث فلانا أو فلانا، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن
ورقاء ليأتيه وهو على خيل الكوفة مع المهلب، وقد كان ذلك الجيش من أهل
الكوفة هم الذين كان بشر بن مروان بعث عبد الرحمن بن مخنف عليهم إلى
قطري، فلم يلبث عبد الرحمن بن مخنف إلا نحوا من شهرين حتى قدم الحجاج
على العراق، فلم يلبث عليهم عبد الرحمن بن مخنف بعد قدوم الحجاج الا
رجب وشعبان.
وقتل قطري عبد الرحمن في آخر رمضان فبعث الحجاج عتاب بن ورقاء على ذلك
الجيش من أهل الكوفة الذين أصيب فيهم عبد الرحمن ابن مخنف، وأمر الحجاج
عتابا بطاعة المهلب فكان ذلك قد كبر على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب
شر، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك الجيش ويضمه إليه، فلما أن
جاءه كتاب الحجاج بإتيانه سر بذلك.
قال: ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة، فيهم زهرة بن حوية السعدي من بني
الأعرج، وقبيصة بن والق التغلبي، فقال لهم: من ترون أن أبعث على هذا
الجيش؟ فقالوا: رأيك أيها الأمير أفضل، قال:
فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة،
فيكون هو الذي يسير في الناس، قال زهرة بن حوية: اصلح الله الأمير!
رمتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل.
وقال له قبيصة بن والق: انى مشير عليك برأيي، فانى يكن خطأ فبعد
(6/259)
اجتهادي في النصيحة لأمير المؤمنين وللأمير
ولعامة المسلمين، وإن يك صوابا فالله سددني له، إنا قد تحدثنا وتحدث
الناس أن جيشا قد فصل إليك من قبل الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا
وفلوا واستخفوا بالصبر، وهان عليهم عار الفرار فقلوبهم كأنها ليست
فيهم، كأنما هي في قوم آخرين، فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به
من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يبيتوا إلا وهم يرون أنهم مبيتون
فعلت، فإنك تحارب حولا قلبا، ظعانا رحالا، وقد جهزت إليه أهل الكوفة
ولست واثقا بهم كل الثقة، وإنما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك
من الشام.
أن شبيبا بينا هو في أرض إذ هو في أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهم غارون
فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق فقال: لله أنت! ما أحسن ما رأيت! وما
أحسن ما أشرت به علي! قال: فبعث عبد الرحمن بن الغرق مولى عقيل الى من
اقبل من أهل الشام، فأتاهم وقد نزلوا هيت بكتاب من الحجاج:
أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين
التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله، وخذوا حذركم، وعجلوا السير
والسلام.
فأقبل القوم سراعا قال: وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج
إنه قادم عليكم فيها، فأمره الحجاج فخرج بالناس فعسكر بهم بحمام أعين،
وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا فقطع منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل
مدينة بهرسير الدنيا، فصار بينه وبين مطرف بن المغيره ابن شعبة جسر
دجلة.
فلما نزل شبيب مدينة بهرسير قطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب: أن ابعث
إلي رجالا من وجوه أصحابك ادار سهم القرآن، وأنظر فيما تدعو إليه فبعث
إليه شبيب رجالا من وجوه أصحابه، فيهم قعنب وسويد والمحلل، فلما أرادوا
أن ينزلوا في السفينة بعث اليهم شبيب الا
(6/260)
تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند
مطرف، فرجع الرسول.
وبعث إلى مطرف أن ابعث إلي من أصحابك بعدد أصحابي يكونوا رهنا في يدي
حتى ترد علي أصحابي فقال مطرف لرسوله: ألقه وقل له: كيف آمنك أنا على
أصحابي إذا أنا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فرجع
الرسول إلى شبيب فأبلغه، فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل
الغدر في ديننا، وأنتم تفعلونه وتستحلونه، فبعث إليه مطرف الربيع بن
يزيد الأسدي وسُلَيْمَان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني ويزيد بن أبي
زياد مولاه وصاحب حرسه، فلما صاروا في يدي شبيب سرح إليه أصحابه، فأتوا
مطرفا فمكثوا أربعة أيام يتراسلون، ثم لم يتفقوا على شيء، فلما تبين
لشبيب أن مطرفا غير تابعه ولا داخل معه تهيأ للمسير إلى عتاب بن ورقاء
وإلى أهل الشام قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبا دعا رءوس
أصحابه فقال لهم: إنه لم يثبطني على رأي قد كنت رأيته إلا هذا الثقفي
منذ أربعة أيام، قد كنت حدثت نفسي أن أخرج في جريدة خيل حتى ألقى هذا
الجيش المقبل من الشام رجاء أن أصادف غرتهم أو يحذروا فلا أبالي كنت
ألقاهم منقطعين من المصر، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ولا مصر
كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عيوني اليوم فخبروني أن أوائلهم قد
دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءتني عيوني من نحو
عتاب بن ورقاء فحدثوني أنه قد نزل بجماعة أهل الكوفة الصراة، فما أقرب
ما بيننا وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب بن ورقاء.
قال: وخاف مطرف أن يبلغ خبره وما كان من إرساله إلى شبيب الحجاج، فخرج
نحو الجبال، وقد كان أراد أن يقيم حتى ينظر ما يكون بين شبيب وعتاب،
فأرسل إليه شبيب: أما إذ لم تبايعني فقد نبذت إليك على سواء، فقال مطرف
لأصحابه: اخرجوا بنا وافرين فإن الحجاج سيقاتلنا، فيقاتلنا وبنا قوة
أمثل فخرج ونزل المدائن، فعقد شبيب الجسر،
(6/261)
وبعث إلى المدائن أخاه مصادا، وأقبل إليه
عتاب حتى نزل بسوق حكمة، وقد أخرج الحجاج جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم،
ومن نشط إلى الخروج من شبابهم، وكانت مقاتلتهم أربعين ألفا سوى الشباب،
ووافى مع عتاب يومئذ أربعون ألفا من المقاتلة وعشرة آلاف من الشباب
بسوق حكمة، فكانوا خمسين ألفا، ولم يدع الحجاج قرشيا ولا رجلا من
بيوتات العرب إلا أخرجه.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعت الحجاج وهو على
المنبر حين وجه عتابا إلى شبيب في الناس وهو يقول:
يا أهل الكوفة، اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من
الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا ألا إن للصابر المجاهد
الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة.
والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن كفعلكم في المواطن التي
كانت لأولينكم كنفا خشنا، ولأعركنكم بكلكل ثقيل ثم نزل، وتوافى الناس
مع عتاب بسوق حكمة قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: عرضنا شبيب
بالمدائن فكنا ألف رجل، فقام فينا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ
ثُمَّ قَالَ:
يَا معشر المسلمين، إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان
وأكثر من ذلك قليلا، وأنقص منه قليلا، فأنتم اليوم مئون ومئون، الا انى
مصل الظهر ثم سائر بكم فصلى الظهر ثم نودي في الناس: يا خيل الله اركبي
وأبشري، فخرج في أصحابه، فأخذوا يتخلفون ويتأخرون، فلما جاوزنا ساباط
ونزلنا معه قص علينا وذكرنا بأيام الله، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في
الآخرة ساعة طويلة، ثم أمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا العصر، ثم
أقبل حتى أشرف بنا على عتاب بن ورقاء وأصحابه، فلما أن رآهم من ساعته
نزل وأمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا المغرب،
(6/262)
وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني، وكانت
عيون عتاب بن ورقاء قد جاءوه فأخبروه أنه قد أقبل إليه، فخرج بالناس
كلهم فعبأهم، وكان قد خندق أول يوم نزل، وكان يظهر كل يوم أنه يريد أن
يسير إلى شبيب بالمدائن، فبلغ ذلك شبيبا، فقال: أسير إليه أحب إلي من
أن يسير إلي، فأتاه، فلما صف عتاب الناس بعث على ميمنته مُحَمَّد بن
عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا بن أخي، إنك شريف فاصبر وصابر،
فقال: أما انا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان وقال لقبيصة بن والق-
وكان يومئذ على ثلث بني تغلب: أكفني الميسرة، فقال: أنا شيخ كبير، كثير
منى ان اثبت تحت رايتي، قد انبت مني القيام، ما أستطيع القيام إلا أن
أقام، ولكن هذا عبيد الله بن الحليس ونعيم بن عليم التغلبيان- وكان كل
واحد منهما على ثلث من أثلاث تغلب- فقال: ابعث أيهما أحببت، فأيهما
بعثت فلتبعثن ذا حزم وعزم وغناء.
فبعث نعيم بن عليم على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي- وهو ابن
عم عتاب شيخ أهل بيته- على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف:
صف فيهم الرجال معهم السيوف، وصف وهم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية،
ثم سار فيما بين الميمنة إلى الميسرة يمر بأهل راية راية، فيحثهم على
تقوى الله، ويأمرهم بالصبر ويقص عليهم.
قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله أن تميم بن الحارث الأزدي قال:
وقف علينا فقص علينا قصصا كثيرا، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات، قال: يا
أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيبا في الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من
خلقه بأحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول: «وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» ! فمن حمد الله فعله فما أعظم
(6/263)
درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل
البغي، ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن
ذلك لهم قربة عند الله! فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار، أين
القصاص؟ قال ذلك فلم يجبه والله أحد منا، فلما رأى ذلك، قال: أين من
يروي شعر عنترة؟ قال: فلا والله ما رد عليه إنسان كلمة فقال: إنا لله!
كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح.
ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن ابن
مُحَمَّد بن الأشعث وأبو بكر بن مُحَمَّد بن أبي جهم العدوي وأقبل شبيب
وهو في ستمائه وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من
لا أحب أن يرى فينا فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث
المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة
بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟
قالوا: رايات ربيعة فقال: شبيب: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت
الباطل، لها في كل نصيب، والله لأجاهدنكم محتسبا للخير في جهادكم، أنتم
ربيعة وأنا شبيب، أنا أبو المدلة، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم ثم
حمل عليهم وهو على مسناة أمام الخندق ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن
والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها
وتنادى أناس من بني تغلب: قتل قبيصة بن والق فقال شبيب: قتلتم قبيصة بن
والق التغلبي يا معشر المسلمين! قال الله:
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ
مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» ، هذا مثل
ابن عمكم قبيصة بن والق، اتى رسول الله ص فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع
الكافرين! ثم وقف عليه فقال: ويحك! لو ثبت على إسلامك الأول سعدت، ثم
حمل من الميسرة على عتاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة
وعليها مُحَمَّد بن عبد الرحمن،
(6/264)
فقاتل في الميمنة في رجال من بني تميم
وهمدان، فأحسنوا القتال، فما زالوا كذلك حتى أتوا فقيل لهم: قتل عتاب
بن ورقاء، فانفضوا، ولم يزل عتاب جالسا على طنفسة في القلب وزهرة بن
حوية معه، إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: يا زهرة بن حوية، هذا يوم كثر
فيه العدد، وقل فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من نحو رجال تميم
معي من جميع الناس! ألا صابر لعدوه! ألا مؤاس بنفسه! فانفضوا عنه
وتركوه، فقال له زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعل مثلك، والله والله لو
منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلا، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد
أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا، فقال له: جزاك الله خيرا ما جزى
آمرا بمعروف وحاثا على تقوى.
فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة صبرت معه قليلة، وقد ذهب الناس يمينا
وشمالا، فقال له عمار بن يزيد الكلبي من بني المدينة: أصلحك الله! إن
عبد الرحمن بن مُحَمَّد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير، فقال له: قد
فر قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع، ثم قاتلهم ساعة وهو
يقول: ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبتل بمثله قط أقل مقاتلا ولا أكثر
هاربا خاذلا، فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب من بني زيد بن عمرو
يقال له عامر بن عمرو بن عبد عمرو، وكان قد أصاب دما في قومه، فلحق
بشبيب، وكان من الفرسان، فقال لشبيب: والله إني لأظن هذا المتكلم عتاب
بن ورقاء! فحمل عليه فطعنه، فوقع فكان هو ولي قتله ووطئت الخيل زهرة بن
حوية، فأخذ يذب بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يقوم، فجاء الفضل بن
عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه، فقال: من
قتل هذا؟
فقال الفضل: أنا قتلته، فقال شبيب: هذا زهره حوية، أما والله لئن كنت
قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه
غناؤك! ولرب خيل للمشركين قد هزمتها، وسرية لهم قد
(6/265)
ذعرتها وقرية من قراهم جم أهلها قد
افتتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين! قال أبو مخنف:
فحدثني فروة بن لقيط قال: رأيناه والله توجع له، فقال رجل من شبان بكر
بن وائل: والله إن أمير المؤمنين منذ الليلة ليتوجع لرجل من الكافرين!
قال: إنك لست بأعرف بضلالتهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا
تعرف، ما لو ثبتوا عليه كانوا إخوانا وقتل في المعركة عمار بن يزيد
الكلبي، وقتل أبو خيثمة بن عبد الله يومئذ، واستمكن شبيب من أهل العسكر
والناس، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعا إلى البيعة، فبايعه الناس من
ساعتهم، وهربوا من تحت ليلتهم، وأخذ شبيب يبايعهم، ويقول: إلى ساعة
يهربون وحوى شبيب على ما في العسكر، وبعث إلى أخيه، فأتاه من المدائن،
فلما وافاه بالعسكر أقبل إلى الكوفة وقد أقام بعسكره ببيت قرة يومين،
ثم توجه نحو وجه أهل الكوفة وقد دخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن
عبد الرحمن الحكمي من مذحج فيمن معهما من أهل الشام الكوفة، فشدوا
للحجاج ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبر الكوفة فحمد
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يا أهل الكوفة،
فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا
عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود
والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملا، ومن لم يكن شهد قتال
عتاب بن ورقاء.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: والله لخرجنا نتبع آثار
الناس، فانتهي إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث
ومُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وهما يمشيان كأني
أنظر إلى رأس عبد الرحمن قد امتلأ طينا، فصددت عنهما، وكرهت أن
أذعرهما، ولو أني أوذن بهما أصحاب شبيب لقتلا مكانهما، وقلت في نفسي:
لئن سقت إلى مثلكما من قومي القتل ما أنا برشيد الرأي، وأقبل شبيب حتى
نزل الصراة
(6/266)
قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن سوار أن شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى
إلى سورا، فندب الناس، فقال: أيكم يأتيني برأس عامل سورا؟ فانتدب له
بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، فساروا مغذين حتى انتهوا إلى دار
الخراج والعمال في سمرجة فدخلوا الدار وقد كادوا الناس بأن قالوا:
أجيبوا الأمير، فقالوا: أي الأمراء؟
قالوا: أمير خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا، فاغتر بذلك
العامل منهم ثم إنهم شهروا السيوف وحكموا حين وصلوا إليه فضربوا عنقه،
وقبضوا على ما كان من مال، ولحقوا بشبيب، فلما انتهوا إليه قال: ما
الذي أتيتمونا به؟ قالوا: جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال، والمال
على دابة في بدوره، فقال شبيب: أتيتمونا بفتنة للمسلمين، هلم الحربة يا
غلام، فخرق بها البدور، وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى
وردت الصراة، فقال: إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء ثم خرج إليه سفيان
بن الأبرد مع الحجاج، وكان أتاه قبل خروجه معه، فقال:
ابعثني أستقبله قبل أن يأتيك، فقال: ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في
جماعتكم والكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا |