تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها عدي بن أرطاة الفزاري، فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك.

ذكر الخبر عن سبب خلعه يزيد بن عبد الملك وما كان من أمره وأمر يزيد في هذه السنة:
قد مضى ذكرى خبر هرب يزيد بن المهلب من محبسه الذي كان عمر بن عبد العزيز حبسه فيه، ونذكر الآن ما كان من صنيعه بعد هربه في هذه السنة- أعني سنة إحدى ومائة.
ولما مات عمر بن عبد العزيز بويع يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه عمر، وبلغه هرب يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلبه ويستقبله، وكتب إلى عدي بن أرطاة يعلمه هربه، ويأمره أن يتهيأ لاستقباله، وأن يأخذ من كان بالبصرة من أهل بيته.
فذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن عدي بن أرطاة أخذهم وحبسهم، وفيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب حتى مر بسعيد بن عبد الملك بن مروان، فقال يزيد لأصحابه: ألا نعرض لهذا فنأخذه فنذهب به معنا! فقال أصحابه: لا بل امض بنا ودعه وأقبل يسير حتى ارتفع فوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام ابن مساحق بن عبد الله بن مخرمة بن عبد العزيز بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عُبْدُودِ بْنِ

(6/578)


نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بن لؤي القرشي، في ناس من أهل الكوفة من الشرط ووجوه الناس وأهل القوة، فقال له: انطلق حتى تستقبله فإنه اليوم يمر بجانب العذيب فمشى هشام قليلا، ثم رجع إلى عبد الحميد فقال:
آجيئك به أسيرا أم آتيك برأسه؟ فقال: أي ذلك ما شئت، فكان يعجب لقوله ذلك من سمعه، وجاء هشام حتى نزل العذيب، ومر يزيد منهم غير بعيد، فاتقوا الإقدام عليه، ومضى يزيد نحو البصرة، ففيه يقول الشاعر:
وسار ابن المهلب لم يعرج ... وعرس ذو القطيفة من كنانه
وياسر والتياسر كان حزما ... ولم يقرب قصور القطقطانه
ذو القطيفة هو مُحَمَّد بن عمرو، وهو أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أبو قطيفة، وإنما سمي ذا القطيفة، لأنه كان كثير شعر اللحية والوجه والصدر ومُحَمَّد يقال له ذو الشامة.
فلما جاء يزيد بن المهلب انصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد، ومضى يزيد إلى البصرة، وقد جمع عدي بن أرطاة إليه أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي وكان عدي بن أرطاة رجلا من بني فزارة وقال عبد الملك بن المهلب لعدي بن أرطاة: خذ ابني حميدا فاحبسه مكاني، وأنا أضمن لك أن أرد يزيد عن البصرة حتى يأتي فارس، ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك فأبى عليه، وجاء يزيد ومعه أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع مُحَمَّد بن المهلب- ولم يكن ممن حبس- رجالا وفتية من أهل بيته وناسا من مواليه، فخرج حتى استقبله، فأقبل في كتيبة تهول من رآها، وقد دعا عدي أهل البصرة، فبعث على كل خمس من أخماسها رجلا، فبعث على خمس الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي، وبعث على خمس بني تميم محرز بن حمران السعدي من بني منقر، وعلى خمس بكر بن وائل عمران بن عامر

(6/579)


ابن مسمع من بني قيس بن ثعلبة فقال أبو منقر، - رجل من قيس بن ثعلبة-:
إن الراية لا تصلح إلا في بني مالك بن مسمع، فدعا عدي نوح بن شيبان ابن مالك بن مسمع، فعقد له على بكر بن وائل، ودعا مالك بن المنذر بن الجارود، فعقد له على عبد القيس، ودعا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، فعقد له على أهل العالية- والعالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة- وأهل العالية بالكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة وبالبصرة خمس أهل العالية، وكانوا بالكوفة أخماسا، فجعلهم زياد بن عبيد أرباعا.
قال هشام عن أبي مخنف: وأقبل يزيد بن المهلب لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن السبيل حتى يمضي، واستقبله المغيرة ابن عبد الله الثقفي في الخيل، فحمل عليه مُحَمَّد بن المهلب في الخيل، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه، وأقبل يزيد حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، وأخذ يبعث إلى عدي بن أرطاة أن ادفع إلي إخوتي وأنا أصالحك على البصرة، وأخليك وإياها حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك، فلم يقبل منه، وخرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلب، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته، وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه من الناس، فكان يقطع لهم قطع الذهب وقطع الفضة، فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن عامر بن مسمع ساخطا على عدي بن أرطاة حين نزع منه رايته، راية بكر بن وائل، وأعطاها ابن عمه، ومالت إلى يزيد ربيعة وبقية تميم وقيس وناس بعد ناس، فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع ومعه ناس من أهل الشام، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين، ويقول:

(6/580)


لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذا حتى يأتي الأمر في ذلك، فقال الفرزدق في ذلك:
أظن رجال الدرهمين يسوقهم ... إلى الموت آجال لهم ومصارع
فأحزمهم من كان في قعر بيته ... وأيقن أن الأمر لا شك واقع
وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي، فنزلوا المربد، فبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس، فحمل عليهم فهزمهم، فقال الفرزدق في ذلك:
تفرقت الحمراء إذ صاح دارس ... ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم
جزى الله قيسا عن عدي ملامة ... ألا صبروا حتى تكون ملاحم
وخرج يزيد بن المهلب حين اجتمع له الناس، حتى نزل جبانة بني يشكر- وهو المنصف فيما بينه وبين القصر- وجاءته بنو تميم وقيس وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم مُحَمَّد بن المهلب، فضرب مسور بن عباد الحبطي بالسيف فقطع أنف البيضة، ثم أسرع السيف إلى أنفه، وحمل على هريم بن أبي طلحة بن أبي نهشل بن دارم، فأخذ بمنطقته، فحذفه عن فرسه، فوقع فيما بينه وبين الفرس، وقال: هيهات هيهات! عمك أثقل من ذلك وانهزموا وأقبل يزيد بن المهلب إثر القوم يتلوهم حتى دنا من القصر،

(6/581)


فقاتلوهم وخرج إليه عدي بنفسه فقتل من أصحابه الحارث بن مصرف الأودي- وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجاج- وقتل موسى بن الوجيه الحميري ثم الكلاعي، وقتل راشد المؤذن، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد وهم في محبس عدي الأصوات تدنو، والنشاب تقع في القصر، فقال لهم عبد الملك إني أرى النشاب تقع في القصر، وأرى الأصوات تدنو، ولا أرى يزيد إلا قد ظهر، وإني لا آمن من مع عدي من مضر ومن أهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثم ألقوا عليه ثيابا ففعلوا فلم يلبثوا إلا ساعة حتى جاءهم عبد الله بن دينار مولى ابن عمر، وكان على حرس عدي- فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحابه، وقد وضع بنو المهلب متاعا على الباب، ثم اتكوا عليه، فأخذ الآخرون يعالجون الباب، فلم يستطيعوا الدخول، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم.
وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دار سلم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأتي بالسلاليم، فلم يلبث عثمان أن فتح القصر، واتى بعدي ابن أرطاة، فجيء به وهو يتبسم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فو الله إنه لينبغي أن يمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما الفرار من القتلة الكريمة حتى أعطيت بيدك إعطاء المرأة بيدها، فهذه واحدة، والأخرى إني أتيت بك تتل كما يتل العبد الآبق إلى أربابه، وليس معك مني عهد ولا عقد، فما يؤمنك أن أضرب عنقك! فقال عدي: أما أنت فقد قدرت علي، ولكني أعلم أن بقائي بقاؤك، وأن هلاكي مطلوب به من جرته يده، إنك قد رأيت جنود الله بالمغرب، وعلمت بلاء الله عندهم في كل موطن من مواطن الغدر والنكث، فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة، قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فإن طلبت الاستقالة حينئذ لم تقل، وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين، وما لم يشخص القوم إليك فلم

(6/582)


يمنعوك شيئا طلبت فيه الأمان على نفسك وأهلك ومالك.
فقال له يزيد: أما قولك: إن بقاءك بقائي، فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور إن كنت لا يبقيني إلا بقاؤك، وأما قولك: إن هلاكك مطلوب به من جرته يده، فو الله لو كان في يدي من أهل الشام عشرة آلاف إنسان ليس فيهم رجل إلا أعظم منزلة منك فيهم، ثم ضربت أعناقهم في صعيد واحد، لكان فراقي إياهم وخلافي عليهم أهول عندهم وأعظم في صدورهم من قتل أولئك، ثم لو شئت أن تهدر لي دماؤهم، وأن أحكم في بيوت أموالهم، وأن يجوزوا لي عظيما من سلطانهم، على أن أضع الحرب فيما بيني وبينهم لفعلوا، فلا يخفين عليك أن القوم ناسوك لو قد وقعت أخيارنا إليهم، وأن أعمالهم وكيدهم لا يكون إلا لأنفسهم، لا يذكرونك ولا يحلفون بك وأما قولك: تدارك أمرك واستقله وافعل وافعل، فو الله ما استشرتك، ولا أنت عندي بواد ولا نصيح، فما كان ذلك منك إلا عجزا وفضلا، انطلقوا به، فلما ذهبوا به ساعة قال: ردوه، فلما رد قال: أما إن حبسي إياك ليس إلا لحبسك بني المهلب وتضييقك عليهم فيما كنا نسألك التسهيل فيه عليهم، فلم تكن تألو ما عسرت وضيقت وخالفت، فكأنه لهذا القول حين سمعه أمن على نفسه، وأخذ عدي يحدث به كل من دخل عليه.
وكان رجل يقال له السميدع الكندي من بني مالك بن ربيعة من ساكني عمان يرى رأي الخوارج، وكان خرج وأصحاب يزيد وأصحاب عدي مصطفون فاعتزل ومعه ناس من القراء، فقال طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدي: قد رضينا بحكم السميدع ثم إن يزيد بعث إلى السميدع فدعاه إلى نفسه، فأجابه، فاستعملوا يزيد على الأبلة، فأقبل على الطيب والتخلق والنعيم، فلما ظهر يزيد بن المهلب هرب رءوس أهل البصرة من قيس وتميم ومالك بن المنذر، فلحقوا بعبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، فقال الفرزدق:

(6/583)


فداء لقوم من تميم تتابعوا ... إلى الشام لم يرضوا بحكم السميدع
أحكم حروري من الدين مارق ... أضل وأغوى من حمار مجدع
فأجابه خليفة الأقطع:
وما وجهوها نحوه عن وفادة ... ولا نهزة يرجى بها خير مطمع
ولكنهم راحوا إليها وأدلجوا ... بأقرع أستاه ترى يوم مقرع
وهم من حذار القوم أن يلحقوا بهم ... لهم نزلة في كل خمس وأربع
وخرج الحواري بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربا من يزيد بن المهلب، فلقي خالد بن عبد الله القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد بن المهلب، وكل شيء اراده فاستقبلهما، فسألاه عن الخبر، فخلا بهما حين راى معهما حميد بن عبد الملك، فقال: أين تريدان؟
فقالا: يزيد بن المهلب، قد جئناه بكل شيء أراده، فقال: ما تصنعان بيزيد شيئا، ولا يصنعه بكما، قد ظهر على عدوه عدي بن أرطاة، وقتل القتلى وحبس عديا، فارجعا أيها الرجلان ويمر رجل من باهلة يقال له مسلم بن عبد الملك، فلم يقف عليهما، فصايحاه وساءلاه، فلم يقف عليهما، فقال القسري: ألا ترده فتجلده مائة جلدة! فقال له صاحبه: عز به عنك، وامليا لينصرف.
ومضى الحواري بن زياد إلى يزيد بن عبد الملك، وأقبلا بحميد بن عبد الملك معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخالفا أمر يزيد ما بعثتما به! فإن يزيد قابل منكما، وإن هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فأنشدكما الله أن تقبلا مقالته، فلم يقبلا قوله، وأقبلا به حتى دفعاه إلى عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وقد كان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملا عليها فلما بلغه خلع يزيد بن عبد الملك كتب إليه: أن جهاد من خالفك أحب إلي

(6/584)


من عملي على خراسان، فلا حاجة لي فيها، فاجعلني ممن توجهني إلى يزيد بن المهلب، وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بن الخطاب على خالد بن يزيد بن المهلب، وهو بالكوفة وعلى حمال بن زحر الجعفي، وليسا ممن كان ينطق بشيء إلا أنهم عرفوا ما كان بينه وبين بني المهلب، فأوثقهما وسرحهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعا، فلم يفارقوا السجن حتى هلكوا فيه وبعث يزيد بن عبد الملك رجالا من أهل الشام إلى الكوفة يسكنونهم، ويثنون عليهم بطاعتهم، ويمنونهم الزيادات منهم القطامي بن الحصين، وهو أبو الشرقي، واسم الشرقي الوليد، وقد قال القطامي حين بلغه ما كان من يزيد بن المهلب:
لعل عيني أن ترى يزيدا ... يقود جيشا جحفلا شديدا
تسمع للأرض به وئيدا ... لا برما هدا ولا حسودا
ولا جبانا في الوغى رعديدا ... ترى ذوي التاج له سجودا
مكفرين خاشعين قودا ... وآخرين رحبوا وفودا
لا ينقض العهد ولا المعهودا ... من نفر كانوا هجانا صيدا
ترى لهم في كل يوم عيدا ... من الأعادي جزرا مقصودا
ثم إن القطامي سار بعد ذلك إلى العقر حتى شهد قتال يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك، فقال يزيد بن المهلب: ما أبعد شعر القطامي من فعله! ثم إن يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد في أربعة آلاف فارس، جريدة خيل، حتى وافوا الحيرة يبادر إليها يزيد بن المهلب، ثم أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك وجنود أهل الشام، وأخذ على الجزيرة وعلى شاطئ الفرات، فاستوثق أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، عليها الجراح بن عبد الملك الحكمي حتى انصرف إلى عمر بن

(6/585)


عبد العزيز، وعبد الرحمن بن نعيم الأزدي فكان على الصلاة واستخلف يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن القشيري على الخراج، وجاء مدرك بن المهلب حتى انتهى إلى رأس المفازة، فدس عبد الرحمن بن نعيم إلى بني تميم أن هذا مدرك بن المهلب يريد أن يلقي بينكم الحرب، وأنتم في بلاد عافية وطاعة وعلى جماعة، فخرجوا ليلا يستقبلونه، وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو من ألفي فارس حتى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة، فقالوا لهم: ما جاء بكم؟
وما أخرجكم إلى هذا المكان؟ فاعتلوا عليهم بأشياء، ولم يقروا لهم أنهم خرجوا ليتلفوا مدرك بن المهلب، فكان لهم الآخرون، بل قد علمنا أن تخرجوا لتلقى صاحبنا، وها هو ذا قريب، فما شئتم ثم انطلقت الأزد حتى تلقوا مدرك بن المهلب على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا، وأعزهم علينا، وقد خرج أخوك ونابذه، فإن يظهره الله فإنما ذلك لنا، ونحن أسرع الناس إليكم أهل البيت واحقه بذلك، وان تكن الاخرى فو الله مالك في أن يغشانا ما يعرنا فيه من البلاء راحة فعزم له رأيه على الانصراف، فقال ثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب، من الأزد من العتيك:
ألم تر دوسرا منعت أخاها ... وقد حشدت لتقتله تميم
رأوا من دونه الزرق العوالي ... وحيا ما يباح لهم حريم
شنوءتها وعمران بن حزم ... هناك المجد والحسب الصميم
فما حملوا ولكن نهنهتهم ... رماح الأزد والعز القديم
رددنا مدركا بمرد صدق ... ليس بوجهه منكم كلوم
وخيل كالقداح مسومات ... لدى أرض مغانيها الجميم
عليها كل أصيد دوسري ... عزيز لا يفر ولا يريم
بهم تستعتب السفهاء حتى ... ترى السفهاء تردعها الحلوم

(6/586)


قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني معاذ بن سعد أن يزيد لما استجمع له البصرة، قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنه نبيه محمد ص، ويحث على الجهاد، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم.
قال: فدخلت أنا والحسن البصري وهو واضع يده على عاتقي، وهو يقول: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟ قلت: لا والله، ما أرى وجه رجل أعرفه، قال: فهؤلاء والله الغثاء، قال: فمضينا حتى دنونا من المنبر قال:
فسمعته يذكر كتاب الله وسنه نبيه ص، ثم رفع صوته، فقال: والله لقد رأيناك واليا ومولى عليك، فما ينبغي لك ذلك قال: فوثبنا عليه، فأخذنا بيده وفمه واجلسناه، فو الله ما نشك أنه سمعه، ولكنه لم يلتفت إليه ومضى في خطبته.
قال: ثم إنا خرجنا إلى باب المسجد، فإذا على باب المسجد النضر بن انس ابن مالك يقول: يا عباد الله، ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه ص! فو الله ما رأينا ذلك ولا رأيتموه منذ ولدتم إلا هذه الأيام من إمارة عمر بن عبد العزيز، فقال الحسن: سبحان الله! وهذا النضر بن أنس قد شهد أيضا.
قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني المثنى بن عبد الله أن الحسن البصري مر على الناس وقد اصطفوا صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح، وهم ينتظرون خروج يزيد، وهم يقولون: يدعونا يزيد إلى سنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم فلما غضب غضبة نصب قصبا، ثم وضع عليها خرقا، ثم قال: إني قد خالفتهم فخالفوهم قال هؤلاء:
نعم وقال: إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله، ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه، فقال له ناس من اصحابه

(6/587)


ممن سمع قوله: والله لكأنك يا أبا سعيد راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام قبحهم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله ص، يقتلون أهله ثلاثة أيام وثلاث ليال! قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا يتناهون عن انتهاك حرمة.
ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار! قال: ثم إن يزيد خرج من البصرة، واستعمل عليها مروان بن المهلب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، فأقبل حتى نزل واسطا، وقد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال: هاتوا الرأي، فإن أهل الشام قد نهضوا إليكم، فقال له حبيب، وقد أشار عليه غير حبيب أيضا فقالوا: نرى أن تخرج وتنزل بفارس، فتأخذ بالشعاب وبالعقاب، وتدنو من خراسان، وتطاول القوم، فإن أهل الجبال ينقضون إليك وفي يديك القلاع والحصون فقال:
ليس هذا برأيي، ليس يوافقني هذا، إنما تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل فقال له حبيب: فإن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون في أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلا عليها أهل بيتك حتى ترد الكوفة، فإنما هو عبد الحميد بن عبد الرحمن، مررت به في سبعين رجلا فعجز عنك، فهو عن خيلك أعجز في العدة، فنسبق إليها أهل الشام وعظماء أهلها يرون رأيك، وأن تلي عليهم أحب إلى جلهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير الآن برأي، سرح مع أهل بيتك خيلا من خيلك عظيمة فتأتي الجزيرة، وتبادر إليها حتى ينزلوا حصنا من حصونها، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندا من جنودك بالجزيرة، ويقبلون إليك فيقيمون عليهم، فكأنهم حابستهم عليك حتى تأتيهم فيأتيك من بالموصل من قومك، وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور، وتقاتلهم في ارض رفيغه السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك،

(6/588)


فقال: إني أكره أن أقطع جيشي وجندي فلما نزل واسطا أقام بها أياما يسيرة.
قال أبو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضحاك ابن قيس الفهري، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ محمد بن عمر.
وكان عبد الرحمن عامل يزيد بن عبد الملك على المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان على الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها يزيد ابن المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم.

(6/589)


ثم دخلت

سنة اثنتين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان فيها من مسير العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمه ابن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب بتوجيه يزيد بن عبد الملك إياهما لحربه.
وفيها قتل يزيد بن المهلب، في صفر.

ذكر الخبر عن مقتل يزيد بن المهلب
ذكر هشام، عن أبي مخنف: أن معاذ بن سعيد حدثه أن يزيد بن المهلب استخلف على واسط حين أراد الشخوص عنها للقاء مسلمة بن عبد الملك والعباس ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، ثم سار حتى مر بفم النيل، ثم سار حتى نزل العقر وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتى نزل الأنبار، ثم عقد عليها الجسر، فعبر من قبل قرية يقال لها فارط، ثم أقبل حتى نزل على يزيد بن المهلب، وقد قدم يزيد أخاه نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد بسورا، فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد عليهم أهل البصرة شدة كشفوهم فيها، وقد كان معهم ناس من بني تميم وقيس ممن انهزم من يزيد من البصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العباس، فيهم هريم بن أبي طحمة المجاشعي فلما انكشف أهل الشام تلك الانكشافة، ناداهم هريم بن أبي طحمة: يا أهل الشام، الله الله أن تسلمونا! وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى نهر فأخذوا ينادونه: لا بأس عليك، إن لأهل الشام جولة في أول القتال، أتاك الغوث

(6/590)


قال: ثم إن أهل الشام كروا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا، وقتل المنتوف من بكر بن وائل، مولى لهم، فقال الفرزدق يحرض بكر بن وائل:
تبكي على المنتوف بكر بن وائل ... وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما
غلامين شبا في الحروب وأدركا ... كرام المساعي قبل وصل لحاهما
ولو كان حيا مالك وابن مالك ... إذا أوقدوا نارين يعلو سناهما
وابنا مسمع: مالك وعبد الملك ابنا مسمع، قتلهم معاوية بن يزيد بن المهلب فأجابه الجعد بن درهم مولى من همدان:
نبكي على المنتوف في نصر قومه ... ولسنا نبكي الشائدين أباهما
أراد فناء الحي بكر بن وائل ... فعز تميم لو أصيب فناهما
فلا لقيا روحا من الله ساعة ... ولا رقأت عينا شجي بكاهما
أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما ... وقد لقيا بالغش فينا رداهما
وجاء عبد الملك بن المهلب حتى انتهى إلى أخيه بالعقر، وأمر عبد الله ابن حيان العبدي، فعبر إلى جانب الصراة الأقصى- وكان الجسر بينه وبينه- ونزل هو وعسكره وجمع من جموع يزيد، وخندق عليه، وقطع مسلمة إليهم الماء وسعيد بن عمرو الحرشي، ويقال: عبر إليهم الوضاح، فكانوا بإزائهم.
وسقط إلى يزيد ناس من الكوفة كثير، ومن الجبال، وأقبل إليه ناس من الثغور، فبعث على أرباع أهل الكوفة الذين خرجوا إليه وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وبعث على ربع مذحج وأسد النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، وبعث على ربع كندة وربيعة محمد

(6/591)


ابن إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث، وبعث على ربع تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي، وجمعهم جميعا مع المفضل بن المهلب.
قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف: حدثني العلاء بن زهير، قال:
والله إنا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال: ترون أن في هذا العسكر ألف سيف يضرب به؟ قال حنظلة بن عتاب: إي والله وأربعة آلاف سيف، قال: إنهم والله ما ضربوا الف سيف قط، والله لقد أحصى ديواني مائة وعشرين ألفا، والله لوددت أن مكانهم الساعة معي من بخراسان من قومي.
قال هشام: قال أبو مخنف: ثم إنه قام ذات يوم فحرضنا ورغبنا في القتال ثم قال لنا فيما يقوله: إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية على هامهم ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء- يعني مسلمة بن عبد الملك- وعاقر ناقة ثمود، يعنى العباس ابن الوليد، وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمه رومية- والله لقد كان سُلَيْمَان أراد أن ينفيه حتى كلمته فيه فأقره على نسبه، فبلغني أنه ليس همهما إلا التماسي في الارض، والله لو جاء اهل الأرض جميعا وليس إلا أنا، ما برحت العرصة حتى تكون لي أو لهم قالوا: نخاف أن تعنينا كما عنانا عبد الرحمن ابن مُحَمَّد، قال: إن عبد الرحمن فضح الذمار، وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله! ثم نزل.
قال: ودخل علينا عامر بن العميثل- رجل من الأزد- قد جمع جموعا فأتاه فبايعه، فكانت بيعة يزيد: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه ص، وعلى الا تطأ الجنود بلادنا ولا بيضتنا، ولا يعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، فمن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن أبى جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه، ثم يقول: تبايعونا؟ فإذا قالوا: نعم، بايعهم.
وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة، وبعث إلى المياه فبثقها فيما بين الكوفة وبين يزيد بن المهلب، لئلا يصل إلى الكوفة، ووضع على الكوفة مناظر وأرصادا لتحبس أهل الكوفة عن الخروج إلى يزيد، وبعث

(6/592)


عبد الحميد بعثا من الكوفة عليهم سيف بن هانئ الهمداني حتى قدموا على مسلمة، فألطفهم مسلمة، وأثنى عليهم بطاعتهم، ثم قال: والله لقل ما جاءنا من أهل الكوفة فبلغ ذلك عبد الحميد، فبعث بعثا هم أكثر من ذلك، وبعث عليهم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فلما قدم أثنى عليه، وقال:
هذا رجل لأهل بيته طاعه وبلاء، ضموا اليه من كان هاهنا من أهل الكوفة.
وبعث مسلمة إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن فعزله، وبعث مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد بن عقبة- وهو ذو الشامة- مكانه فدعا يزيد بن المهلب رءوس أصحابه فقال لهم: قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألف رجل، فأبعثهم مع محمد ابن المهلب حتى يبيتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذع والأكف والزبل لدفن خندقهم، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقية ليلتهم، وأمده بالرجال حتى أصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالناس، فنناجزهم، فانى أرجو عند ذلك ان ينصرنا الله عليهم قال السميدع: إنا قد دعوناهم الى كتاب الله وسنه نبيه محمد ص، وقد زعموا انهم قابلوا هذا منا، فليس لنا أن نمكر ولا نغدر، ولا نريدهم بسوء حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا قال أبو رؤبة- وكان رأس طائفة من المرجئة، ومعه أصحاب له:
صدق، هكذا ينبغي قال يزيد: ويحكم! أتصدقون بني أمية! إنهم يعملون بالكتاب والسنة، وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا، إنهم يقولوا لكم: إنا نقبل منكم، وهم يريدون الا يعملوا بسلطانهم إلا ما تأمرونهم به، وتدعونهم إليه، لكنهم أرادوا أن يكفوكم عنهم، حتى يعملوا في المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، ابدءوهم بها، انى قد لقيت بنى مروان فو الله ما لقيت رجلا هو أمكر ولا أبعد غورا من هذه الجرادة الصفراء- يعني مسلمة- قالوا: لا نرى أن نفعل ذلك، حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا.
وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام، ويسرح الناس إلى يزيد، وكان الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد ابن المهلب

(6/593)


قال أبو مخنف: فحدثني عبد الحميد البصري، أن الحسن البصري كان يقول في تلك الأيام:
أيها الناس، الزموا رحالكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضا على دنيا زائلة، وطمع فيها يسير ليس لأهلها بباق، وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم تكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف التقي، فمن كان منكم خفيا فليلزم الحق، وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفا، وكفى له بها من الدنيا خلفا، ومن كان منكم معروفا شريفا، فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك، فواها لهذا! ما أسعده وأرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله! فهذا غدا- يعني يوم القيامة- القرير عينا، الكريم عند الله مآبا.
فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب قام خطيبا كما يقوم، فأمر الناس بالجد والاحتشاد، ثم قال لهم:
لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي- ولم يسمه- يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه، أينكر علينا وعلى اهل مصرنا ان نطلب حقنا، وأن ننكر مظلمتنا! أما والله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إلينا سقاط الأبلة وعلوج فرات البصرة- قوما ليسوا من أنفسنا، ولا ممن جرت عليه النعمة من أحد منا- أو لأنحين عليه مبردا خشنا.
فلما بلغ ذلك الحسن قال: والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك، فقال لهم: فقد خالفتكم إذا إلى ما نهيتكم عنه! آمركم ألا يقتل بعضكم بعضا مع غيري، وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضا دوني! فبلغ ذلك مروان بن المهلب، فاشتد عليهم وأخافهم وطلبهم حتى تفرقوا ولم يدع الحسن كلامه ذلك، وكف عنه مروان بن المهلب

(6/594)


وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ أجمع وهو ومسلمة ثمانية أيام، حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر، بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالوضاحية والسفن حتى يحرق الجسر، ففعل وخرج مسلمة فعبى جنود أهل الشام، ثم ازدلف بهم نحو يزيد بن المهلب، وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي، وجعل على ميسرته الهذيل بن زفر بن الحارث العامري، وجعل العباس على ميمنته سيف بن هانئ الهمداني، وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي ومسلمة على الناس، وخرج يزيد بن المهلب، وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى ميسرته المفضل بن المهلب، وكان مع المفضل أهل الكوفة وهو عليهم، ومعه خيل لربيعة معها عدد حسن، وكان مما يلي العباس بن الوليد.
قال أبو مخنف: فحدثني الغنوي- قال هشام: وأظن الغنوي العلاء ابن المنهال- إن رجلا من الشام خرج فدعا إِلَى المبارزة، فلم يخرج إِلَيْهِ أحد، فبرز له مُحَمَّد بن المهلب، فحمل عليه، فاتقاه الرجل بيده، وعلى كفه كف من حديد، فضربه مُحَمَّد فقطع كف الحديد وأسرع السيف في كفه، واعتنق فرسه، وأقبل مُحَمَّد يضربه، ويقول: المنجل أعود عليك قال: فذكر لي أنه حيان النبطي قال: فلما دنا الوضاح من الجسر ألهب فيه النار، فسطع دخانه، وقد اقتتل الناس ونشبت الحرب، ولم يشتد القتال، فلما رأى الناس الدخان، وقيل لهم: أحرق الجسر انهزموا، فقالوا ليزيد: قد انهزم الناس.
قال: ومم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم من مثله! فقيل له: قالوا:
أحرق الجسر فلم يثبت أحد، قال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه، فقال:
اضربوا وجوه من ينهزم، ففعلوا ذلك بهم، حتى كثروا عليه، فاستقبلهم منهم مثل الجبال، فقال: دعوهم، فو الله انى لأرجو الا يجمعني الله وإياهم في مكان واحد أبدا، دعوهم يرحمهم الله، غنم عدا في نواحيها الذئب، وكان

(6/595)


يزيد لا يحدث نفسه بالفرار، وقد كان يزيد بن الحكم بن أبي العاص- وأمه ابنه الزبرقان السعدي- أتاه وهو بواسطه قبل ان يصل الى العقر، فقال:
ان بني مروان قد باد ملكهم ... فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر
قال يزيد: ما شعرت قال: فقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي:
فعش ملكا أو مت كريما وان تمت ... وسيفك مشهور بكفك تعذر
قال: أما هذا فعسى:
ولما خرج يزيد إلى أصحابه واستقبلته الهزيمة، فقال: يا سميدع، أرأيي أم رأيك؟ ألم أعلمك ما يريد القوم! قال: بلى والله، والرأي كان رأيك، انا ذا معك لا أزايلك، فمرني بأمرك، قال: إما لا فانزل، فنزل في أصحابه، وجاء يزيد بن المهلب جاء فقال: إن حبيبا قد قتل.
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير بن سلمة الأزدي، قال: أشهد أني أسمعه حين قال له ذلك، قال: لا خير في العيش بعد حبيب! قد كنت والله أبغض الحياه بعد الهزيمة، فو الله ما ازددت له إلا بغضا، امضوا قدما فعلمنا والله أن قد استقتل، فأخذ من يكره القتال ينكص، وأخذوا يتسللون، وبقيت معه جماعة حسنة، وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن اصحابه، جاء ابو رؤبه المرجى، فقال: ذهب الناس- وهو يشير بذلك إليه وأنا أسمعه- فقال: هل لك أن تنصرف إلى واسط، فإنها حصن فتنزلها ويأتيك مدد أهل البصرة، ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن، وتضرب خندقا؟
فقال له: قبح الله رأيك! ألي تقول هذا! الموت أيسر علي من ذلك، فقال له: فإني أتخوف عليك لما ترى، أما ترى ما حولك من جبال الحديد! وهو يشير إليه، فقال له: أما أنا فما أباليها، جبال حديد كانت أم جبال نار، اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالا معنا قال: وتمثل قول حارثة بن بدر الغداني- قال أبو جعفر أخطأ هذا، هو للأعشى-:

(6/596)


أبالموت خشّتني عباد وإنما ... رأيت منايا الناس يشقى ذليلها
فما مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرُ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا ما غالت النفس غولها
وكان يزيد بن المهلب على برذون له أشهب، فأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره، حتى إذا دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب، فعطف عليه خيول أهل الشام، وعلى أصحابه، فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه السميدع، وقتل معه مُحَمَّد بن المهلب وكان رجل من كلب من بني جابر بن زهير بن جناب الكلبي يقال له القحل بن عياش لما نظر إلى يزيد قال: يا أهل الشام، هذا والله يزيد، والله لأقتلنه أو ليقتلني، وإن دونه ناسا، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فقال له ناس من أصحابه: نحمل نحن معك، ففعلوا، فحملوا بأجمعهم، واضطربوا ساعة، وسطع الغبار، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا، وعن القحل بن عياش بآخر رمق فأومى إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، يقول لهم: أنا قتلته، ويومي إلى نفسه أنه هو قتلني ومر مسلمة على القحل بن عياش صريعا إلى جنب يزيد، فقال: أما إني أظن هذا هو الذي قتلني وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته؟
فقال: لا، فلما أتى به مسلمة لم يعرف ولم ينكر، فقال له الحواري بن زياد ابن عمرو العتكي: مر برأسه فليغسل ثم ليعمم، ففعل ذلك به، فعرفه، فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير، قال: لقد قتل يزيد وهزم الناس، وإن المفضل بن المهلب ليقاتل أهل الشام ما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس، وإنه لعلى برذون شديد قريب من الأرض، وإن معه لمجففة أمامه، فكلما حمل عليها نكصت وانكشفت وانكشف، فيحمل في ناس من أصحابه حتى يخالط القوم ثم يرجع حتى يكون من وراء أصحابه، وكان لا يرى منا ملتفتا إلا أشار إليه بيده ألا يلتفت ليقبل القوم بوجوههم على عدوهم، ولا يكون لهم هم غيرهم

(6/597)


قال: ثم اقتتلنا ساعة، فكأني أنظر إلى عامر بن العميثل الأزدي وهو يضرب بسيفه، ويقول:
قد علمت أم الصبي المولود ... أني بنصل السيف غير رعديد
قال: واضطربنا والله ساعة، فانكشفت خيل ربيعة، والله ما رأيت عند أهل الكوفة من كبير صبر ولا قتال، فاستقبل ربيعة بالسيف يناديهم: أي معشر ربيعة، الكرة الكرة! والله ما كنتم بكشف ولالئام، ولا هذه لكم بعادة، فلا يؤتين أهل العراق اليوم من قبلكم أي ربيعة، فدتكم نفسي، اصبروا ساعة من النهار.
قال: فاجتمعوا حوله، وثابوا إليه، وجاءت كويفتك.
قال: فاجتمعنا ونحن نريد الكرة عليهم، حتى أتى، فقيل له:
ما تصنع هاهنا وقد قتل يزيد وحبيب ومُحَمَّد، وانهزم الناس منذ طويل؟
وأخبر الناس بعضهم بعضا، فتفرقوا ومضى المفضل، فأخذ الطريق إلى واسط، فما رأيت رجلا من العرب مثل منزلته كان أغشى للناس بنفسه، ولا أضرب بسيفه، ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه.
قال أبو مخنف: فقال لي ثابت مولى زهير: مررت بالخندق، فإذا عليه حائط، عليه رجال معهم النبل، وأنا مجفف، وهم يقولون: يا صاحب التجفاف، أين تذهب؟ قال: فما كان شيء أثقل علي من تجفافي، قال: فما هو إلا أن جزتهم، فنزلت فألقيته لأخفف عن دابتي وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد بن المهلب، فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعة من النهار حتى ذهب عظمهم، وأسر أهل الشام نحوا من ثلاثمائه رجل، فسرحهم مسلمة إلى مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد فحبسهم وكان على شرطه العريان بن الهيثم وجاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى مُحَمَّد بن عمرو:
أن اضرب رقاب الأسراء فقال للعريان بن الهيثم: أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين قال: فقام نحو من ثلاثين رجلا من بني تميم، فقالوا:

(6/598)


نحن انهزمنا بالناس، فاتقوا الله وابدءوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فقال لهم العريان: اخرجوا على اسم الله، فأخرجهم إلى المصطبة، وأرسل إلى مُحَمَّد بن عمرو يخبره بإخراجهم ومقالتهم، فبعث إليه أن اضرب أعناقهم.
قال أبو مخنف: فحدثني نجيح أبو عبد الله مولى زهير، قال: والله انى لانظر اليهم يقولون: إنا لله! انهزمنا بالناس، وهذا جزاؤنا، فما هو إلا أن فرغ منهم، حتى جاء رسول من عند مسلمة فيه عافية الأسراء والنهي عن قتلهم، فقال حاجب بن ذبيان من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم:
لعمري لقد خاضت معيط دماءنا ... بأسيافها حتى انتهى بهم الوحل
وما حمل الأقوام أعظم من دم ... حرام ولا ذحل إذا التمس الذحل
حقنتم دماء المصلتين عليكمُ ... وجر على فرسان شيعتك القتل
وقى بهمُ العريان فرسان قومه ... فيا عجبا أين الأمانة والعدل!
وكان العريان يقول: والله ما اعتمدتهم ولا أردتهم حتى قالوا: ابد بنا، أخرجنا، فما تركت حين أخرجتهم أن أعلمت المأمور بقتلهم، فما يقبل حجتهم، وأمر بقتلهم، والله على ذلك ما أحب أن قتل من قومي مكانهم رجل، ولئن لاموني ما أنا بالذي أحفل لأئمتهم، ولا تكبر علي وأقبل مسلمة حتى نزل الحيرة، فأتى بنحو من خمسين أسيرا، ولم يكونوا فيمن بعث به إلى الكوفة، كان أقبل بهم معه، فلما رأى الناس أنه يريد أن يضرب رقابهم، قام إليه الحصين بن حماد الكلبي فاستوهبه ثلاثة: زياد بن عبد الرحمن القشيري، وعتبة بن مسلم، وإسماعيل مولى آل بني عقيل بن مسعود، فوهبهم له، ثم استوهب بقيتهم أصحابه، فوهبهم لهم، فلما جاءت هزيمة يزيد إلى واسط، اخرج معاويه بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيرا كانوا

(6/599)


في يده، فضرب أعناقهم: منهم عدي بن أرطاة، ومُحَمَّد بن عدي بن أرطاة ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وعبد الله بن عزرة البصري، وعبد الله بن وائل، وابن أبي حاضر التميمي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، وقد قال له القوم: ويحك! انا لا نراك الا تقتلنا، إلا أن أباك قد قتل، وإن قتلنا ليس بنافع لك في الدنيا، وهو ضارك في الآخرة، فقتل الأسارى كلهم غير ربيع بن زياد بن الربيع ابن انس بن الريان، تركه، فقال له ناس: نسيته؟ فقال: ما نسيته، ولكن لم أكن لأقتله، وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف وبيت عظيم، ولست أتهمه في ود، ولا أخاف بغيه فقال ثابت قطنة في قتل عدي بن ارطاه:
ما سرني قتل الفزاري وابنه ... عدي ولا أحببت قتل ابن مسمع
ولكنها كانت معاوي زلة ... وضعت بها أمري على. غير موضع
ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع آل المهلب بالبصرة، وقد كانوا يتخوفون الذي كان من يزيد، وقد أعدوا السفن البحرية، وتجهزوا بكل الجهاز، وقد كان يزيد بن المهلب بعث وداع بن حميد الأزدي على قندابيل أميرا، وقال له: إني سائر إلى هذا العدو، ولو قد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى تكون إلي أولهم، فإن ظفرت أكرمتك، وإن كانت الأخرى كنت بقندابيل حتى يقدم عليك أهل بيتي، فيتحصنوا بها حتى يأخذوا لأنفسهم أمانا، أما إني قد اخترتك لأهل بيتى من بين قومى، فكن عند حسن ظني، وأخذ عليه أيمانا غلاظا ليناصحن أهل بيته، إن هم احتاجوا ولجئوا إليه، فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة بعد الهزيمة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثم لججوا في البحر حتى مروا بهرم ابن القرار العبدي- وكان يزيد استعمله على البحرين- فقال لهم: أشير عليكم الا تفارقوا سفنكم، فإن ذلك هو بقاؤكم، وإني أتخوف عليكم إن خرجتم من هذه السفن ان يتخطفكم الناس، وأن يتقربوا بكم إلى بني مروان فمضوا حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم، وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب

(6/600)


وكان معاوية بن يزيد بن المهلب حين قدم البصرة قدمها ومعه الخزائن وبيت المال، فكأنه أراد أن يتأمر عليهم، فاجتمع آل المهلب وقالوا للمفضل: أنت أكبرنا وسيدنا، وإنما أنت غلام حديث السن كبعض فتيان أهلك، فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان، وبكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في طلب آل المهلب وفي اثر الفل فأدرك مدرك المفضل بن المهلب، وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس فتبعهم، فأدركهم في عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتد قتالهم إياه، فقتل مع المفضل بن المهلب النعمان بن إبراهيم بن الاشتر النخعى ومحمد بن إسحاق ابن مُحَمَّد بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك قهستان أسيرا، وأخذت سرية المفضل العالية، وجرح عثمان بن إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث جراحة شديدة، وهرب حتى انتهى إلى حلوان، فدل عليه، فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة، ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلب، فطلبوا الأمان، فأومنوا، منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر، والورد بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمن بن مُحَمَّد مواطنه وأيامه كلها، فطلب له الأمان مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان إلى مسلمة بن عبد الملك عمه وابنة مسلمة تحته- فآمنه، فلما أتاه الورد وقفه مسلمة فشتمه قائما، فقال: صاحب خلاف وشقاق ونفاق ونفار في كل فتنة، مرة مع حائك كندة، ومرة مع ملاح الأزد، ما كنت بأهل أن تؤمن، قال: ثم انطلق وطلب الأمان لمالك بن إبراهيم بن الأشتر الحسن بن عبد الرحمن بن شراحيل- وشراحيل يلقب رستم الحضرمي- فلما جاء ونظر إليه، قال له الحسن بن عبد الرحمن الحضرمي: هذا مالك بن إبراهيم بن الأشتر، قال له: انطلق، قال له الحسن:
أصلحك الله! لم لم تشتمه كما شتمت صاحبه! قال: أجللتكم عن ذلك، وكنتم أكرم علي من أصحاب الآخر وأحسن طاعة قال: فإنه أحب إلينا أن تشتمه، فهو والله أشرف أبا وجدا، وأسوأ أثرا من أهل الشام من الورد بن عبد الله، فكان الحسن يقول بعد أشهر: ما تركه إلا حسدا من ان يعرف

(6/601)


صاحبنا، فأراد أن يرينا أنه قد حقره ومضى آل المهلب ومن سقط منهم من الفلول حتى انتهوا إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب الكلبي فرده، وسرح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي، من بني مازن بن عمرو بن تميم فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد.
وكاتبه هلال بن أحوز، ولم يباين آل المهلب فيفارقهم، فتبين لهم فراقه لما التقوا وصفوا، كان وداع بن حميد على الميمنة، وعبد الملك بن هلال على الميسره وكلاهما ازدى، فرقع لهم راية الأمان، فمال إليهم وداع بن حميد وعبد الملك ابن هلال، وارفض عنهم الناس فخلوهم فلما رأى ذلك مروان بن المهلب ذهب يزيد أن ينصرف إلى النساء، فقال له المفضل: أين تريد؟ قال: أدخل إلى نسائنا فأقتلهن، لئلا يصل إليهن هؤلاء الفساق، فقال: ويحك! أتقتل أخواتك ونساء أهل بيتك! إنا والله ما نخاف عليهن منهم قال: فرده عن ذلك، ثم مشوا بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، الا أبا عيينه ابن المهلب، وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل، وبعث بنسائهم وأولادهم إلى مسلمة بالحيرة، وبعث برءوسهم إلى مسلمة، فبعث بهم مسلمه الى يزيد بن عبد الملك، وبعث بهم يزيد بن عبد الملك إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك، وهو على حلب، فلما نصبوا خرج لينظر إليهم، فقال لأصحابه: هذا رأس عبد الملك، هذا رأس المفضل، والله لكانه جالس معى حدثنى.
وقال مسلمة: لأبيعن ذريتهم وهم في دار الرزق، فقال الجراح بن عبد الله: فأنا أشتريهم منك لأبر يمينك، فاشتراهم منه بمائة ألف، قال:
هاتها، قال: إذا شئت فخذها، فلم يأخذ منه شيئا، وخلى سبيلهم، إلا تسعه فتية

(6/602)


منهم أحداث بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب رقابهم، فقال ثابت قطنة حين بلغه قتل يزيد بن المهلب يرثيه:
ألا يا هند طال علي ليلي ... وعاد قصيره ليلا تماما
كأني حين حلقت الثريا ... سقيت لعاب أسود أو سماما
أمر علي حلو العيش يوم ... من الأيام شيبني غلاما
مصاب بني أبيك وغبت عنهم ... فلم أشهدهمُ ومضوا كراما
فلا والله لا أنسى يزيدا ... ولا القتلى التي قتلت حراما
فعلي أن أبو بأخيك يوما ... يزيدا أو أبوء به هشاما
وعلي أن أقود الخيل شعثا ... شوازب ضمرا تقص الإكاما
فأصبحهن حمير من قريب ... وعكا أو أرع بهما جذاما
ونسقي مذحجا والحي كلبا ... من الذيفان أنفاسا قواما
عشائرنا التي تبغي علينا ... تجربنا زكا عاما فعاما
ولولاهم وما جلبوا علينا ... لأصبح وسطنا ملكا هماما
وقال أيضا يرثي يزيد بن المهلب:
أبى طول هذا الليل أن يتصرما ... وهاج لك الهم الفؤاد المتيما
أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولا مجرما
على هالك هد العشيرة فقده ... دعته المنايا فاستجاب وَسَلَّمَا
على ملك يا صاح بالعقر جبنت ... كتائبه واستورد الموت معلما

(6/603)


أصيب ولم أشهد ولو كنت شاهدا ... تسليت إن لم يجمع الحي مأتما
وفي غِيَر الأيام يا هند فاعلمي ... لطالب وتر نظرة إن تلوما
فعلي إن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبي ذبان أن يتندما
أمسلم أن يقدر عليك رماحنا ... نذقك بها قيء الأساود مسلما
وإن تلق للعباس في الدهر عثره ... نكافئه باليوم الذي كان قدما
قصاصا ولا نعدو الذي كان قد أتى ... إلينا وإن كان ابن مروان أظلما
ستعلم إن زلت بك النعل زلة ... وأظهر أقوام حياء مجمجما
من الظالم الجاني على أهل بيته ... إذا أحصرت أسباب أمر وأبهما
وإنا لعطافون بالحلم بعد ما ... نرى الجهل من فرط اللئيم تكرما
وإنا لحلالون بالثغر لا نرى ... به ساكنا إلا الخميس العرمرما
نرى أن للجيران حاجا وحرمه ... إذا الناس لم يرعوا لدى الجار محرما
وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى ... إذا كان رفد الرافدين تجشما
وراحت بصراد ملث جليده ... على الطلح ارما كامن الشهب صيما
أبونا أبو الأنصار عمرو بن عامر ... وهم ولدوا عوفا وكعبا وأسلما
وقد كان في غسان مجد يعده ... وعادية كانت من المجد معظما.