تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ولايه مسلمه بن عبد الملك على العراق وخراسان
فلما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة، فلما ولاه يزيد ذلك، ولى مسلمة الكوفة ذا الشامة مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقام بأمر البصرة بعد أن خرج منها آل المهلب- فيما قيل- شبيب بن الحارث التميمي، فضبطها، فلما ضمت إلى مسلمة بعث عاملا

(6/604)


عليها عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمر بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن بن سليم أن يستعرض أهل البصرة، وأفشى ذلك إلى عمر بن يزيد، فقال له عمر: أتريد أن تستعرض أهل البصرة ولم تمن حصنا بكويفة، وتدخل من تحتاج اليه! فو الله لو رماك اهل البصرة وأصحابك بالحجارة لتخوفت أن يقتلونا، ولكن أنظرنا عشرة أيام حتى نأخذ أهبة ذلك.
ووجه رسولا إلى مسلمة يخبره بما هم به عبد الرحمن، فوجه مسلمة عبد الملك ابن بشر بن مروان على البصرة، وأقر عمر بن يزيد على الشرطه والاحداث.

ذكر استعمال مسلمه سعيد خذينه على خراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، وهو الذي يقال له سعيد خذينة- وإنما لقب بذلك- فيما ذكر- أنه كان رجلا لينا سهلا متنعما، قدم خراسان على بختية معلقا سكينا في منطقته، فدخل عليه ملك أبغر، وسعيد متفضل في ثياب مصبغة، حوله مرافق مصبغة، فلما خرج من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير؟ قال: خذينيه، لمته سكينية، فلقب خذينة وخذينة هي الدهقانة ربة البيت، وإنما استعمل مسلمة سعيد خذينة على خراسان لأنه كان ختنه على ابنته، كان سعيد متزوجا بابنه مسلمه.
ولما ولى مسلمة سعيد خذينة خراسان، قدم إليها قبل شخوصه سوره ابن الحر من بني دارم، فقدمها قبل سعيد- فيما ذكر- بشهر، فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند، فخرج إليها في خمسة وعشرين رجلا من أهل بيته، فأخذ على آمل، فأتى بخارى، فصحبه منها مائتا رجل، فقدم

(6/605)


السغد، وقد كان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ووليها ثمانية عشر شهرا، ثم عادوا إلى الصلح، فخطب شعبة أهل السغد، ووبخ سكانها من العرب وعيرهم بالجبن، فقال: ما أرى فيكم جريحا، ولا أسمع فيكم أنة فاعتذروا إليه بأن جبنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدي، وكان على الحرب ثم قدم سعيد، فأخذ عمال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري الذين ولوا أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم، فكلمه فيهم عبد الرحمن بن عبد الله القشيري، فقال له سعيد: قد رفع عليهم أن عندهم أموالا من الخراج قال:
فأنا اضمنه، فضمن عنهم سبعمائة ألف، ثم لم يأخذه بها ثم إن سعيدا رفع إليه- فيما ذكر علي بن مُحَمَّد- أن جهم بن زحر الجعفي وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي والقعقاع الأزدي ولوا ليزيد بن المهلب وهم ثمانية، وعندهم أموال قد اختانوها من فيء المسلمين فأرسل إليهم، فحبسهم في قهندز مرو، فقيل له: إن هؤلاء لا يؤدون إلا أن تبسط عليهم فأرسل إلى جهم بن زحر، فحمل على حمار من قهندز مرو، فمروا به على الفيض بن عمران، فقام إليه فوجأ أنفه، فقال له جهم: يا فاسق، هلا فعلت هذا حين أتوني بك سكران قد شربت الخمر، فضربتك حدا! فغضب سعيد على جهم فضربه مائتي سوط، فكبر أهل السوق حين ضرب جهم بن زحر، وأمر سعيد بجهم والثمانية الذين كانوا في السجن فدفعوا إلى ورقاء بن نصر الباهلي، فاستعفاه فأعفاه.
وقال عبد الحميد بن دثار- أو عبد الملك بن دثار- والزبير بن نشيط مولى باهلة، وهو زوج أم سعيد خذينة: ولنا محاسبتهم، فولاهم فقتلوا في العذاب جهما، وعبد العزيز بن عمرو والمنتجع، وعذبوا القعقاع وقوما حتى أشرفوا على الموت.
قال: فلم يزالوا في السجن حتى غزتهم الترك وأهل السغد، فأمر سعيد باخراج

(6/606)


من بقي منهم، فكان سعيد يقول: قبح الله الزبير، فإنه قتل جهما! وفي هذه السنة غزا المسلمون السغد والترك، فكان فيها الوقعة بينهم بقصر الباهلي.
وفيها عزل سعيد خذينة شعبة بن ظهير عن سمرقند.
ذكر الخبر عن سبب عزل سعيد شعبة وسبب هذه الوقعة وكيف كانت ذكر علي بن محمد، عن الذين تقدم ذكرى خبره عنهم، أن سعيد خذينة لما قدم خراسان، دعا قوما من الدهاقين، فاستشارهم فيمن يوجه إلى الكور، فأشاروا إليه بقوم من العرب، فولاهم، فشكوا إليه، فقال للناس يوما وقد دخلوا عليه: إني قدمت البلد، وليس لي علم بأهله، فاستشرت فأشاروا علي بقوم، فسألت عنهم فحمدوا، فوليتهم، فأحرج عليكم لما أخبرتموني عن عمالي فأثنى عليهم القوم خيرا، فقال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري: لو لم تحرج علينا لكففت، فاما إذ حرجت علينا فإنك شاورت المشركين فأشاروا عليك بمن لا يخالفهم وبأشباههم، فهذا علمنا فيهم.
قال: فاتكا سعيد ثم جلس، فقال: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» ، قوموا.
قال: وعزل سعيد شعبة بن ظهير عن السغد، وولى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير، وولى الخراج سُلَيْمَان بن أبي السري مولى بني عوافة، واستعمل على هراة معقل بن عروة القشيري، فسار إليها.
وضعف الناس سعيدا وسموه خذينة، فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك،

(6/607)


ووجههم الى السغد، فكان على الترك كورصول، وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي.
وقال بعضهم: أراد عظيم من عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة، وكانت في ذلك القصر، فأرسل إليها يخطبها، فأبت، فاستجاش ورجا أن يسبوا من في القصر، فيأخذ المرأة، فأقبل كورصول حتى حصر أهل القصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله وخافوا أن يبطئ عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة، وندب عثمان بن عبد الله الناس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبه بن ظهير: لو كان هاهنا خيول خراسان ما وصلوا إلى غايتهم.
قال: وكان فيمن انتدب من بني تميم شعبة بن ظهير النهشلي وبلعاء بن مجاهد العنزي، وعميرة بن ربيعة أحد بني العجيف- وهو عميرة الثريد- وغالب بن المهاجر الطائي- وهو عم أبي العباس الطوسي- وأبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وثابت قطنة، وأبو المهاجر بن داره من غطفان، وحليس الشيباني والحجاج بن عمرو الطائي، وحسان بن معدان الطائي، والأشعث أبو حطامة وعمرو بن حسان الطائيان فقال المسيب بن بشر لما عسكروا:
إنكم تقدمون على حلبة الترك حلبة خاقان وغيرهم والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب النار إن فررتم، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم.
فانصرف عنه الف وثلاثمائه، وسار في الباقين، فلما سار فرسخا قال للناس مثل مقالته الأولى، فاعتزل ألف، ثم سار فرسخا آخر فقال لهم مثل ذلك، فاعتزل ألف، ثم سار- وكان دليلهم الأشهب بن عبيد الحنظلي- حتى إذا كان على فرسخين من القوم نزل فأتاهم ترك خاقان ملك قي فقال: انه لم يبق هاهنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري، وأنا في ثلاثمائه مقاتل فهم معك، وعندي الخبر، قد كانوا صالحوهم على أربعين ألفا، فأعطوهم سبعة عشر رجلا، ليكونوا رهنا

(6/608)


في أيديهم حتى يأخذوا صلحهم، فلما بلغهم مسيركم إليهم قتل الترك من كان في أيديهم من الرهائن.
قال: وكان فيهم نهشل بن يزيد الباهلي فنجا لم يقتل، والأشهب بن عبيد الله الحنظلي، وميعادهم أن يقاتلوهم غدا أو يفتحوا القصر، فبعث المسيب رجلين: رجلا من العرب ورجلا من العجم من ليلته على خيولهم، وقال لهم: إذا قربتم فشدوا دوابكم بالشجر، واعلموا علم القوم فأقبلا في ليلة مظلمة، وقد أجرت الترك الماء في نواحي القصر، فليس يصل إليه أحد، ودنوا من القصر، فصاح بهما الربية، فقالا: لا تصح وادع لنا عبد الملك ابن دثار، فدعاه فقالا له: أرسلنا المسيب، وقد أتاكم الغياث، قال: أين هو؟ قال: على فرسخين، فهل عندكم امتناع ليلتك وغدا؟ فقال: قد أجمعنا على تسليم نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا، حتى نموت جميعا غدا فرجعا إلى المسيب، فأخبراه فقال المسيب للذين معه: إني سائر إلى هذا العدو، فمن أحب أن يذهب فليذهب، فلم يفارقه أحد، وبايعوه على الموت فسار وقد زاد الماء الذي أجروه حول المدينة تحصينا، فلما كان بينه وبينهم نصف فرسخ نزل، فأجمع على بياتهم، فلما أمسى أمر الناس فشدوا على خيولهم، وركب فحثهم على الصبر، ورغبهم فيما يصير إليه أهل الاحتساب والصبر، وما لهم في الدنيا من الشرف والغنيمة إن ظفروا، وقال لهم: اكعموا دوابكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوها، وشدوا شدة صادقة وكبروا، وليكن شعاركم: يا مُحَمَّد، ولا تتبعوا موليا، وعليكم بالدواب فاعقروها، فإن الدواب إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم، والقليل الصابر خير من الكثير الفشل، وليست بكم قله، فان سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وإن كثر أهله

(6/609)


قال: وعباهم وجعل على الميمنه كثير بن الدبوسي، وعلى الميسرة رجلا من ربيعة يقال له ثابت قطنة، وساروا حتى إذا كانوا منهم على غلوتين كبروا وذلك في السحر، وثار الترك، وخالط المسلمون العسكر، فعقروا الدواب، وصابرهم الترك، فجال المسلمون وانهزموا حتى صاروا إلى المسيب، وتبعهم الترك وضربوا عجز دابة المسيب فترجل رجال من المسلمين، فيهم البختري أبو عبد الله المرائي، ومُحَمَّد بن قيس الغنوي- ويقال: مُحَمَّد بن قيس العنبري- وزياد الأصبهاني، ومعاوية بن الحجاج وثابت قطنة فقاتل البختري فقطعت يمينه، فأخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذب بيديه حتى استشهد واستشهد أيضا مُحَمَّد بن قيس العنبري أو الغنوي وشبيب بن الحجاج الطائي قال: ثم انهزم المشركون، وضرب ثابت قطنة عظيما من عظمائهم، فقتله، ونادى منادي المسيب: لا تتبعوهم، فإنهم لا يدرون من الرعب، أتبعتموهم أم لا! واقصدوا القصر، ولا تحملوا شيئا من المتاع إلا المال، وتحملوا لا من يقدر على المشي وقال المسيب: من حمل امرأة أو صبيا أو ضعيفا حسبة فأجره على الله، ومن أبى فله أربعون درهما، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه قال: فقصدوا جميعا القصر، فحملوا من كان فيه، وانتهى رجل من بني فقيم إلى امرأة، فقالت: أغثني أغاثك الله! فوقف وقال: دونك وعجز الفرس، فوثبت فإذا هي على عجز الفرس، فإذا هي أفرس من رجل، فتناول الفقيمي بيد ابنها، غلاما صغيرا، فوضعه بين يديه، وأتوا ترك خاقان، فأنزلهم قصره وأتاهم بطعام، وقال: الحقوا بسمرقند، لا يرجعوا في آثاركم فخرجوا نحو سمرقند، فقال لهم: هل بقي أحد؟
قالوا: هلال الحريري، قال: لا أسلمه، فأتاه وبه بضع وثلاثون جراحة، فاحتمله، فبرأ، ثم أصيب يوم الشعب مع الجنيد قال: فرجع الترك من الغد، فلم يروا في القصر أحدا، ورأوا

(6/610)


قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين جاءوا من الإنس، فقال ثَابِت قطنة:
فدت نفسي فوارس من تميم ... غدا. الروع في ضنك المقام
فدت نفسي فوارس اكنفونى ... على الأعداء في رهج القتام
بقصر الباهلي وقد رأوني ... أحامي حيث ضن به المحامي
بسيفي بعد حطم الرمح قدما ... أذودهمُ بذي شطب جسام
أكر عَلَيْهِم اليحموم كرا ... ككر الشرب آنية المدام
أكر به لدى الغمرات حتى ... تجلت لا يضيق بها مقامي
فلولا اللَّه ليس لَهُ شريك ... وضربي قونس الملك الهمام
إذا لسعت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخدام!
فمن مثل المسيب في تميم ... أبى بشر كقادمة الحمام
وقال جرير يذكر المسيب:
لولا حماية يربوع نساءكم ... كانت لغيركم منهن أطهار
حامي المسيب والخيلان في رهج ... إذ مازن ثم لا يحمى لها جار
إذ لا عقال يحامي عن ذماركم ... ولا زرارة يحميها ووزار
قال: وعور تلك الليلة أبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وشلت يده، وقد كان ولي ولاية قبل سعيد، فخرج عليه شيء مما كان بقي عليه، فأخذ به، فدفعه سعيد إلى شداد بن خليد الباهلي ليحاسبه ويستأديه فضيق عليه شداد، فقال: يا معشر قيس، سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش، حديد البصر، فعورت وشلت يدي، وقاتلت مع من قاتل

(6/611)


حتى استنقذناهم بعد أن أشرفوا على القتل والأسر والسبي، وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع، فكفوه عني، فخلاه.
قال: وقال عبد الله بن مُحَمَّد عن رجل شهد ليلة قصر الباهلي قال: كنا في القصر، فلما التقوا ظننا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل
. ذكر الخبر عن غزو سعيد خذينه السغد
وفي هذه السنة قطع سعيد خذينة نهر بلخ وغزا السغد، وكانوا نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين.
ذكر الخبر عما كان من أمر سعيد والمسلمين في هذه الغزوة:
وكان سبب غزو سعيد هذه الغزوة- فيما ذكر- أن الترك عادوا إلى السغد، فكلم الناس سعيدا وقالوا: تركت الغزو، فقد أغار الترك، وكفر أهل السغد، فقطع النهر، وقصد للسغد، فلقيه الترك وطائفة من أهل السغد فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم، فإن السغد بستان أمير المؤمنين وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أباروكم.
وسار المسلمون، فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقال عبد الرحمن ابن صبح: لا يقطعن هذا الوادي مجفف ولا راجل، وليعبر من سواهم.
فعبروا، ورأتهم الترك، فأكمنوا كمينا، وظهرت لهم خيل المسلمين فقاتلوهم، فانحاز الترك فأتبعوهم حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادي، فقال لهم عبد الرحمن بن صبح: سابقوهم، ولا تقطعوا فإنكم إن قطعتم أبادوكم فصبروا لهم حتى انكشفوا عنهم، فلم يتبعوهم، فقال

(6/612)


قوم: قتل يومئذ شعبة بن ظهير وأصحابه، وقال قوم: بل انكشف الترك منهم يومئذ منهزمين، ومعهم جمع من أهل السغد فلما كان الغد، خرجت مسلحة للمسلمين- والمسلحة يومئذ من بني تميم- فما شعروا إلا بالترك معهم، خرجوا عليهم من غيضة وعلى خيل بني تميم شعبة بن ظهير، فقاتلهم شعبة فقتل، أعجلوه عن الركوب وقتل رجل من العرب، فأخرجت جاريته حناء، وهي تقول: حتى متى أعد لك مثل هذا الخضاب، وأنت مختضب بالدم! مع كلام كثير، فأبكت أهل العسكر وقتل نحو من خمسين رجلا، وانهزم أهل المسلحة، وأتى الناس الصريخ، فقال عبد الرحمن بن المهلب العدوي: كنت أنا أول من أتاهم لما أتانا الخبر، وتحتي فرس جواد، فإذا عبد الله بن زهير إلى جنب شجرة كأنه قنفذ من النشاب، وقد قتل، وركب الخليل بن أوس العبشمي- أحد بني ظالم، وهو شاب- ونادى: يا بني تميم، أنا الخليل، إلي! فانضمت إليه جماعة- فحمل بهم على العدو، فكفوهم ووزعوهم عن الناس حتى جاء الأمير والجماعة، فانهزم العدو، فصار الخليل على خيل بني تميم يومئذ، حتى ولي نصر بن سيار، ثم صارت رياسة بني تميم لأخيه الحكم بن أوس.
وذكر علي بن مُحَمَّد، عن شيوخه، ان سوره بن الحر قال لحيان: انصرف يا حيان، قال: عقيرة الله أدعها وأنصرف قال: يا نبطي قال: أنبط الله وجهك! قال: وكان حيان النبطي يكنى في الحرب أبا الهياج، وله يقول الشاعر:
إن أبا الهياج أريحي ... للريح في أثوابه دوي
قال: وعبر سعيد النهر مرتين، فلم يجاوز سمرقند، نزل في الأولى بإزاء العدو، فقال له حيان مولى مصقلة بن هبيرة الشيباني: أيها الأمير، ناجز أهل السغد، فقال: لا، هذه بلاد أمير المؤمنين، فرأى دخانا ساطعا، فسأل عنه فقيل له: السغد قد كفروا ومعهم بعض الترك قال: فناوشهم، فانهزموا

(6/613)


فألحوا في طلبهم، فنادى منادي سعيد: لا تطلبوهم، إنما السغد بستان أمير المؤمنين، وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرة، فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع، فلما كان العام المقبل بعث رجالا من بني تميم إلى ورغسر، فقالوا: ليتنا نلقى العدو فنطاردهم- وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا رد ذراري السبي وعاقب السرية، فقال الهجري وكان شاعرا:
سريت إلى الأعداء تلهو بلعبة ... وأيرك مسلول وسيفك مغمد
وأنت لمن عاديت عرس خفية ... وأنت علينا كالحسام المهند
فلله در السغد لما تحزبوا ... ويا عجبا من كيدك المتردد!
قال: فقال سورة بن الحر لسعيد- وقد كان حفظ عليه، وحقد عليه قوله: أنبط الله وجهك-: إن هذا العبد أعدى الناس للعرب والعمال، وهو أفسد خراسان على قتيبة بن مسلم، وهو واثب بك، مفسد عليك خراسان، ثم يتحصن في بعض هذه القلاع فقال: يا سورة لا تسمعن هذا أحدا ثم مكث أياما، ثم دعا في مجلسه بلبن، وقد أمر بذهب فسحق، وألقي في إناء حيان فشربه، وقد خلط بالذهب، ثم ركب، فركب الناس اربعه فراسخ إلى باركث، كأنه يطلب عدوا، ثم رجع فعاش حيان أربعة أيام ومات في اليوم الرابع، فثقل سعيد على الناس وضعفوه، وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعا إلى مروان بن مُحَمَّد، فذكر إسماعيل عند خذينة ومودته لمروان، فقال سعيد: وما ذاك الملط! فهجاه إسماعيل، فقال:
زعمت خذينة أنني ملط ... لخذينة المرآة والمشط
ومجامر ومكاحل جعلت ... ومعازف وبخدها نقط

(6/614)


أفذاك أم زغف مضاعفة ... ومهند من شأنه القط
لمقرس ذكر أخي ثقة ... لم يغذه التأنيث واللقط
أغضبت أن بات ابن أمكم ... بهم وأن أباكم سقط
إني رأيت نبالهم كسيت ... ريش اللوام ونبلكم مرط
ورأيتهم جعلوا مكاسرهم ... عند الندي وأنتم خلط.

عزل مسلمه عن العراق وخراسان
وفي هذه السنة عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وخراسان وانصرف إلى الشام.
ذكر الخبر عن سبب عزله وكيف كان ذلك:
وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد- أن مسلمة لما ولي ما ولي من أرض العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئا، وأن يزيد بن عاتكة أراد عزله فاستحيا منه، وكتب إليه أن استخلف على عملك، وأقبل.
وقد قيل إن مسلمة شاور عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشخوص إلى ابن عاتكة ليزوره، فقال له: أمن شوق بك إليه! إنك لطروب، وإن عهدك به لقريب، قال: لا بد من ذلك، قال: إذا لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه، فشخص، فلما بلغ دورين لقيه عمر بن هبيرة على خمس من دواب البريد، فدخل عليه ابن هبيرة، فقال: الى اين يا بن هبيرة؟ فقال: وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بني المهلب فلما خرج من عنده أرسل إلى عبد العزيز فجاءه، فقال: هذا ابن هبيرة قد لقينا كما ترى، قال: قد أنبأتك، قال: فإنه إنما وجهه لحيازة أموال بني المهلب، قال: هذا أعجب من الأول، يصرف عن الجزيرة، ويوجه في حيازة اموال

(6/615)


بني المهلب، قال: فلم يلبث أن جاءه عزل ابن هبيرة عماله والغلظة عليهم فقال الفرزدق:
راحت بمسلمة الركاب مودعا ... فارعى فزارة لا هناك المرتع
عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع
ولقد علمت لئن فزاره امرت ... ان سوف تطمع في الإمارة أشجع
من خلق ربك ما همُ ولمثلهم ... في مثل ما نالت فزارة يطمع
يعني بابن بشر عبد الملك بن بشر بن مروان، وبابن عمرو مُحَمَّدا ذا الشامة بن عمرو بن الوليد، وبأخي هراة سعيدا خذينة بن عبد العزيز، كان عاملا لمسلمة على خراسان.
وفي هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الروم بأرمينية، فهزمهم وأسر منهم بشرا كثيرا قيل سبعمائة اسير.