تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنه ثمان عشرة ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث) فمن ذلك غزوة
معاوية وسليمان ابني هشام بْن عبد الملك ارض الروم.
ولايه عمار بن يزيد على شيعه بنى العباس
بخراسان
وفيها وجه بكير بْن ماهان عمار بْن يزيد إلى خراسان واليا على شيعة بني
العباس، فنزل- فيما ذكر- مرو، وغير اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد
بْن علي، فسارع إليه الناس، وقبلوا ما جاءهم به، وسمعوا إليه وأطاعوا،
ثم غير ما دعاهم إليه، وتكذب وأظهر دين الخرمية، ودعا إليه ورخص لبعضهم
في نساء بعض، وأخبرهم أن ذلك عن أمر محمد بْن علي، فبلغ أسد بْن عبد
الله خبره، فوضع عليه العيون حتى ظفر به، فأتي به، وقد تجهز لغزو بلخ،
فسأله عن حاله، فأغلظ خداش له القول، فأمر به فقطعت يده، وقلع لسانه
وسملت عينه.
ذكر ما كان من الحارث بن سريج مع اصحابه
فذكر محمد بْن علي عن أشياخه، قَالَ: لما قدم اسد آمل في مبدئه، أتوه
بخداش صاحب الهاشمية، فأمر به قرعة الطبيب، فقطع لسانه، وسمل عينه،
فقال: الحمد لله الذي انتقم لأبي بكر وعمر منك! ثم دفعه إلى يحيى بْن
نعيم الشيباني عامل آمل فلما قفل من سمرقند كتب إلى يحيى فقتله وصلبه
بآمل، وأتى أسد بحزور مولى المهاجر بن داره الضبي، فضرب عنقه بشاطئ
النهر ثم نزل أسد منصرفه من سمرقند بلخ، فسرح جديعا الكرماني إلى
القلعة التي فيها ثقل الحارث وثقل أصحابه- واسم القلعة التبوشكان من
طخارستان العليا، وفيها بنو برزى التغلبيون، وهم أصهار الحارث- فحصرهم
الكرماني حتى فتحها، فقتل مقاتلتهم وقتل بني برزى،
(7/109)
وسبى عامة أهلها من العرب والموالي
والذراري، وباعهم فيمن يزيد في سوق بلخ، فقال علي بْن يعلى- وكان شهد
ذلك: نقم على الحارث أربعمائة وخمسون رجلا من أصحابه، وكان رئيسهم جرير
بْن ميمون القاضي، وفيهم بشر بْن أنيف الحنظلي وداود الأعسر الخوارزمي
فقال الحارث: إن كنتم لا بد مفارقي وطلبتم الأمان، فاطلبوه وأنا شاهد،
فإنه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان، فقالوا:
ارتحل أنت وخلنا ثم بعثوا بشر بْن أنيف ورجلا آخر، فطلبوا الأمان
فآمنهما أسد ووصلهما، فغدروا بأهل القلعة، وأخبراه أن القوم ليس لهم
طعام ولا ماء، فسرح أسد الكرماني في ستة آلاف، منهم سالم بْن منصور
البجلي، على ألفين، والأزهر بْن جرموز النميري في اصحابه، وجند بلخ وهم
الفان وخمسمائة من اهل الشام، وعليهم صالح بْن القعقاع الأزدي، فوجه
الكرماني منصور بْن سالم في أصحابه، فقطع نهر ضرغام، وبات ليله وأصبح،
فأقام حتى متع النهار، ثم سار يومه قريبا من سبعة عشر فرسخا، فأتعب
خيله، ثم انتهى إلى كشتم من ارض جبغويه، فانتهى إلى حائط فيه زرع قد
قصب، فأرسل أهل العسكر دوابهم فيه، وبينهم وبين القلعة أربع فراسخ ثم
ارتحل فلما صار إلى الوادي جاءته الطلائع فأخبرته بمجيء القوم ورأسهم
المهاجر بْن ميمون، فلما صاروا إلى الكرماني كابدهم فانصرفوا، وسار حتى
نزل جانبا من القلعة، وكان أول ما نزل في زهاء خمسمائة في مسجد كان
الحارث بناه، فلما أصبح تتامت إليه الخيل، وتلاحقت من أصحاب الأزهر
وأهل بلخ.
فلما اجتمعوا خطبهم الكرماني، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: يَا أهل بلخ، لا أجد لكم مثلا غير الزانية، من أتاها
أمكنته من رجلها، أتاكم الحارث في ألف رجل من العجم فأمكنتموه من
مدينتكم، فقتل أشرافكم، وطرد أميركم، ثم سرتم معه من مكانفيه إلى مرو
فخذلتموه، ثم انصرف إليكم منهزما فأمكنتموه من المدينة، والذي نفسي
بيده لا يبلغني عن رجل
(7/110)
منكم كتب كتابا إليهم في سهم إلا قطعت يده
ورجله وصلبته، فأما من كان معي من أهل مرو فهم خاصتي، ولست أخاف غدرهم،
ثم نهد إلى القلعة فأقام بها يوما وليلة من غير قتال، فلما كان من الغد
نادى مناد:
إنا قد نبذنا إليكم بالعهد، فقاتلوهم، وقد عطش القوم وجاعوا، فسألوا أن
ينزلوا على الحكم ويترك لهم نساؤهم وأولادهم، فنزلوا على حكم أسد،
فأقام أياما وقدم المهلب بْن عبد العزيز العتكي بكتاب اسد، ان احملوا
إلي خمسين رجلا منهم، فيهم المهاجر بْن ميمون ونظراؤه من وجوههم،
فحملوا إليهم فقتلهم، وكتب إلى الكرماني أن يصير الذين بقوا عنده
أثلاثا، فثلث يصلبهم، وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلث يقطع أيديهم،
ففعل ذلك الكرماني، وأخرج أثقالهم فباعها فيمن يزيد، وكان الذين قتلهم
وصلبهم أربعمائة واتخذ أسد مدينة بلخ دارا في سنة ثمان عشرة ومائة،
ونقل إليها الدواوين واتخذ المصانع، ثم غزا طخارستان ثم ارض جبغويه،
ففتح وأصاب سبيا.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة عزل هشام خالد بْن عبد الملك بْن الحارث بْن الحكم عن
المدينة، واستعمل عليها محمد بْن هشام بْن إسماعيل ذكر الواقدي أن أبا
بكر بْن عمرو بْن حزم يوم عزل خالد عن المدينة جاءه كتاب بإمرته على
المدينة، فصعد المنبر، وصلى بالناس ستة أيام، ثم قدم محمد بْن هشام من
مكة عاملا على المدينة.
وفي هذه السنة مات علي بْن عبد الله بْن العباس، وكان يكنى أبا محمد،
وكانت وفاته بالحميمة من أرض الشام، وهو ابن ثمان- أو سبع- وسبعين سنة.
وقيل إنه ولد في الليلة التي ضرب فيها علي بْن أبي طالب وذلك ليلة سبع
عشرة من رمضان من سنة أربعين، فسماه أبوه عليا، وقال: سميته باسم أحب
الخلق إلي، وكناه أبا الحسن، فلما قدم على عبد الملك بْن مروان أكرمه
وأجلسه على سريره، وسأله عن كنيته فأخبره، فقال: لا يجتمع في عسكري هذا
(7/111)
الاسم والكنية لأحد، وسأله: هل ولد له من
ولد؟ وكان قد ولد له يومئذ محمد بْن علي، فأخبره بذلك، فكناه أبا محمد.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام وهو أمير مكة والمدينة والطائف
وقد قيل إنما كان عامل المدينة في هذه السنة خالد بْن عبد الملك، وكان
إلى محمد بْن هشام فيها مكة والطائف، والقول الأول قول الواقدي.
وكان على العراق خالد بْن عبد الله، وإليه المشرق كله، وعامله على
خراسان أخوه أسد بْن عبد الله، وعامله على البصرة وأحداثها وقضائها
والصلاة بأهلها بلال بْن أبي بردة، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بْن
محمد بْن مروان.
(7/112)
ثم دخلت
سنة تسع عشرة ومائة
ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمن ذلك غزوة الوليد بْن
القعقاع العبسي أرض الروم وفيها غزا أسد بْن عبد الله الختل، فافتتح
قلعة زغرزك، وسار منها إلى خداش، وملأ يديه من السبي والشاء، وكان
الجيش قد هرب الى الصين.
ذكر غزو الترك ومقتل خاقان
وفيها لقي أسد خاقان صاحب الترك فقتله، وقتل بشرا كثيرا من أصحابه،
وسلم أسد والمسلمون، وانصرفوا بغنائم كثيرة وسبي.
ذكر الخبر عن هذه الغزوة:
ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أنهم قالوا: كتب ابن السائجي إلى خاقان أبي
مزاحم- وإنما كني أبا مزاحم لأنه كان يزاحم العرب- وهو موالث، يعلمه
دخول أسد الختل وتفرق جنوده فيها، وأنه بحال مضيعة فلما أتاه كتابه أمر
أصحابه بالجهاز- وكان لخاقان مرج وجبل حمى لا يقربهما احد، ولا يتصيد
فيهما، يتركان للجهاد فضاء، ما كان في المرج ثلاثة أيام، وما في الجبل
ثلاثة أيام- فتجهزوا وارتعوا ودبغوا مسوك الصيد، واتخذوا منها أوعية،
واتخذوا القسي والنشاب، ودعا خاقان ببرذون مسرج ملجم، وأمر بشاة فقطعت
ثم علقت في المعاليق، ثم أخذ شيئا من ملح فصيره في كيس، وجعله في
منطقته، وأمر كل تركي أن يفعل مثل ذلك، وقال: هذا زادكم حتى تلقوا
العرب بالختل.
وأخذ طريق خشوراغ، فلما أحس ابن السائجي أن خاقان قد أقبل بعث إلى أسد:
اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلك فشتم رسوله، ولم يصدقه، فبعث صاحب
الختل: إني لم أكذبك، وأنا الذي أعلمته دخولك،
(7/113)
وتفرق جندك، وأعلمته أنها فرصة له، وسألته
المدد، غير أنك أمعرت البلاد، وأصبت الغنائم، فإن لقيك على هذه الحال
ظفر بك، وعادتني العرب أبدا ما بقيت واستطال علي خاقان واشتدت مؤونته،
وامتن علي بقوله: أخرجت العرب من بلادك، ورددت عليك ملكك، فعرف أسد أنه
قد صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدم، وولى عليها إبراهيم بْن عاصم العقيلي
الجزري، الذي كان ولي سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة، فيهم كثير ابن
أمية، أبو سليمان بْن كثير الخزاعي وفضيل بْن حيان المهري وسنان بْن
داود القطعي، وكان على أهل العالية سنان الأعرابي السلمي، وعلى الاقباض
عثمان ابن شباب الهمذاني، جد قاضي مرو، فسارت الأثقال، فكتب أسد إلى
داود بْن شعيب والأصبغ بن ذؤاله الكلبي- وقد كان وجههما في وجه: إن
خاقان قد أقبل، فانضما إلى الأثقال، إلى إبراهيم بْن عاصم.
قَالَ: ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسي، فأشاع أن خاقان قد كسر
المسلمين، وقتل أسدا.
وقال الأصبغ: إن كان أسد ومن معه أصيبوا فإن فينا هشاما ننحاز إليه،
فقال داود بْن شعيب: قبح الله الحياة بعد أهل خراسان! فقال الأصبغ:
حبذا الحياة بعد أهل خراسان! قتل الجراح ومن معه فما ضر المسلمين كثير
ضر، فإن هلك أسد وأهل خراسان فلن يخذل الله دينه، وإن الله حي قيوم،
وأمير المؤمنين حي وجنود المسلمين كثير فقال داود:
أفلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم! فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم
فإذا هما بالنيران، فقال داود: هذه نيران المسلمين أراها متقاربة
ونيران الأتراك متفرقة، فقال الأصبغ: هم في مضيق ودنوا فسمعوا نهيق
الحمير، فقال داود: أما علمت أن الترك ليس لهم حمير! فقال الأصبغ:
أصابوها بالأمس، ولم يستطيعوا أكلها في يوم ولا اثنين، فقال داود: نسرح
فارسين فيكبران، فبعثا فارسين، فلما دنوا من العسكر كبرا، فأجابهما
العسكر
(7/114)
بالتكبير، فأقبلوا إلى العسكر الذي فيه
الأثقال، ومع إبراهيم أهل الصغانيان وصغان خذاه، فقام إبراهيم بْن عاصم
مبادرا.
قَالَ: وأقبل أسد من الختل نحو جبل الملح يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد
قطع إبراهيم بْن عاصم بالسبي وما أصاب فأشرف أسد على النهر وقد أتاه أن
خاقان قد سار من سوياب سبع عشرة ليلة، فقام إليه أبو تمام بْن زحر وعبد
الرحمن بْن خنفر الأزديان، فقالا: أصلح الله الأمير! إن الله قد أحسن
بلاءك في هذه الغزوة فغنمت وسلمت فاقطع هذه النطفة، واجعلها وراء ظهرك
فأمر بهما فوجئت رقابهما، وأخرجا من العسكر وأقام يومه.
فلما كان من الغد ارتحل وفي النهر ثلاثة وعشرون موضعا يخوضه الناس، وفي
موضع مجتمع ماء يبلغ دفتي السرج، فخاضه الناس، وأمر أن يحمل كل رجل
شاة، وحمل هو بنفسه شاة، فقال له عثمان بْن عبد الله بْن مطرف ابن
الشخير: إن الذي أنت فيه من حمل الشاة ليس بأخطر مما تخاف، وقد فرقت
الناس وشغلتهم، وقد أظلك عدوك، فدع هذا الشاء لعنة الله عليه، وأمر
الناس بالاستعداد فقال أسد: والله لا يعبر رجل ليست معه شاة حتى تفنى
هذه الغنم إلا قطعت يده، فجعل الناس يحملون الشاء، الفارس يحملها بين
يديه والراجل على عنقه، وخاض الناس ويقال: لما حفرت سنابك الخيل النهر
صار بعض المواضع سباخه فكان بعضهم يميل فيقع عن دابته، فأمر أسد بالشاء
أن تقذف، وخاض الناس، فما استكملوا العبور حتى طلعت عليهم الترك
بالدهم، فقتلوا من لم يقطع، وجعل الناس يقتحمون النهر- ويقال كانت
المسلحة على الأزد وتميم، وقد خلف ضعفة الناس- وركب أسد النهر، وأمر
بالإبل أن يقطع بها إلى ما وراء النهر، حتى تحمل عليها الأثقال، وأقبل
رهج من ناحية الختل، فإذا خاقان، فلما توافى معه صدر من جنده حمل على
الأزد وبني تميم فانكشفوا، وركض أسد حتى انصرف إلى معسكره، وبعث إلى
أصحاب الأثقال الذين كان سرح أمامه.
أن انزلوا وخندقوا مكانكم في بطن الوادي قَالَ: وأقبل خاقان، فظن
المسلمون
(7/115)
أنه لا يقطع إليهم وبينهم وبينه النهر،
فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الأشكند- وهو يومئذ اصبهبذ نسف- أن يسير
في الصف حتى يبلغ أقصاه، ويسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب والماء: هل
يطاق قطوع النهر والحمل على أسد؟ فكلهم يقول: لا يطاق، حتى انتهى إلى
الأشتيخن، فقال:
بلى يطاق، لأنا خمسون الف فارس، فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة رد بعضنا
عن بعض الماء فذهب جريته قَالَ: فضربوا بكوساتهم فظن أسد ومن معه أنه
منهم وعيد، فأقحموا دوابهم، فجعلت تنخر أشد النخير، فلما رأى المسلمون
اقتحام الترك ولوا إلى العسكر، وعبرت الترك فسطع رهج عظيم لا يبصر
الرجل دابته، ولا يعرف بعضهم بعضا، فدخل المسلمون عسكرهم وحووا ما كان
خارجا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه الترك، فأدبروا،
وبات أسد، فلما أصبح- وقد كان عبأ أصحابه من الليل تخوفا من غدر خاقان
وغدوه عليه، ولم ير شيئا- دعا وجوه الناس فاستشارهم، فقالوا له: اقبل
العافية، قَالَ: ما هذه عافية، بل هي بلية، لقينا خاقان أمس فظفر بنا
وأصاب من الجند والسلاح، فما منعه منا اليوم إلا أنه قد وقع في يديه
أسراء فأخبروه بموضع الأثقال أمامنا، فترك لقاءنا طمعا فيها فارتحل
فبعث أمامه الطلائع، فرجع بعضهم فأخبره أنه عاين طوقات الترك وأعلاما
من اعلام الاشكند، في بشر قليل فسار والدواب مثقلة، فقيل له: انزل أيها
الأمير واقبل العافية، قَالَ: وأين العافية فأقبلها! إنما هي بلية
وذهاب الأنفس والأموال فلما أمسى أسد صار إلى منزل، فاستشار الناس:
أينزلون أم يسيرون؟ فقال الناس: اقبل العافية، وما عسى أن يكون ذهاب
المال بعافيتنا وعافية أهل خراسان! ونصر بْن سيار مطرق، فقال أسد: ما
لك يا بن سيار مطرقا لا تتكلم! قَالَ: أصلح الله الأمير! خلتان كلتاهما
لك، إن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا
فقد قطعت قحمه لا بد من قطوعها فقبل رأيه وسار يومه كله
(7/116)
قَالَ: ودعا أسد سعيدا الصغير- وكان فارسا
مولى باهلة، وكان عالما بأرض الختل- فكتب كتابا إلى إبراهيم يأمره
بالاستعداد، فإن خاقان قد توجه إلى ما قبلك، وقال: سر بالكتاب إلى
إبراهيم حيث كان قبل الليل، فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم
يقتلك، وإن أنت لحقت بالحارث فعلى اسد مثل الذى حلف، ان لم يبع امرأتك
الدلال في سوق بلخ وجميع أهل بيتك قَالَ سعيد: فادفع إلي فرسك الكميت
الذنوب قَالَ:
لعمري لئن جدت بدمك، وبخلت عليك بالفرس إني للئيم فدفعه إليه، فسار على
دابة من جنائبه، وغلامه على فرس له، ومعه فرس أسد يجنبه، فلما حاذى
الترك وقد قصدوا الأثقال طلبته طلائعهم، فتحول على فرس أسد، فلم
يلحقوه، فأتى إبراهيم بالكتاب، وتبعه بعض الطلائع- يقال عشرون رجلا-
حتى رأوا عسكر إبراهيم، فرجعوا إلى خاقان فأخبروه.
فغدا خاقان على الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقا، فأتاهم وهم قيام
عليه، فأمر أهل السغد بقتالهم، فلما دنوا من مسلحة المسلمين ثاروا في
وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلا، فقال خاقان: اركبوا، وصعد خاقان تلا
فجعل ينظر العورة، ووجه القتال، قَالَ: وهكذا كان يفعل، ينفرد في رجلين
أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة فلما صعد
التل رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة، فدعا بعض قواد الترك، فأمرهم
أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه حتى يصيروا إلى الجزيرة، ثم ينحدروا
في الجزيرة حتى يأتوا عسكر المسلمين من دبر، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم
وأهل الصغانيان، وأن يدعوا غيرهم، فإنهم من العرب، وقد عرفهم بأبنيتهم
وأعلامهم، وقال لهم: إن أقام القوم في خندقهم فأقبلوا إليكم دخلنا نحن
خندقهم، وإن ثبتوا على خندقهم فادخلوا من دبره عليهم ففعلوا ودخلوا
عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صغان خذاه وعامة أصحابه، واحتووا على
أموالهم، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا عامة ما فيه، وترك المسلمون
التعبئة واجتمعوا في موضع، وأحسوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة
سوداء،
(7/117)
فإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت الترك
ترتفع عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان، وإبراهيم يتعجب من كفهم وقد
ظفروا وقتلوا من قتلوا وأصابوا ما أصابوا، وهو لا يطمع في أسد.
قَالَ: وكان أسد قد أغذ السير، فأقبل حتى وقف على التل الذي كان عليه
خاقان، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل، فخرج إليه من بقي ممن كان مع
الأثقال، وقد قتل منهم بشر كثير، قتل يومئذ بركة بْن خولى الراسبى
وكثير بن أمية ومشيخة من خزاعة وخرجت امرأة صغان خذاه إلى أسد، فبكت
زوجها، فبكى أسد معها حتى علا صوته، ومضى خاقان يقود الأسراء من الجند
في الأوهاق ويسوق الإبل موقرة والجواري.
قَالَ: وكان مصعب بْن عمرو الخزاعي ونفر من أهل خراسان قد أجمعوا على
مواقفتهم، فكفهم أسد، وقال: هؤلاء قوم قد طابت لهم الريح واستكلبوا،
فلا تعرضوا لهم وكان مع خاقان رجل من أصحاب الحارث بْن سريج فأمره
فنادى: يا أسد، أما كان لك فيما وراء النهر مغزى! إنك لشديد الحرص، قد
كان لك عن الختل مندوحة، وهي أرض آبائي وأجدادي فقال أسد:
كان ما رأيت، ولعل الله أن ينتقم منك قَالَ كورمغانون- وكان من عظماء
الترك: لم أر يوما كان أحسن من يوم الأثقال، قيل له: وكيف ذلك؟
قَالَ: أصبت أموالا عظيمة، ولم أر عدوا أسمج من أسراء العرب، يعدو
أحدهم فلا يكاد يبرح مكانه.
وقال بعضهم: سار خاقان إلى الأثقال، فارتحل أسد، فلما أشرف على الظهر،
ورأى المسلمين الترك فامتنعوا، وقد كانوا قاتلوا المسلمين فامتنعوا،
فأتوا الأعاجم الذين كانوا مع المسلمين فقاتلوهم، فأسروا أولادهم.
قَالَ: فأردف كل رجل منهم وصيفا أو وصيفة، ثم أقبلوا إلى عسكر أسد عند
مغيب الشمس قَالَ: وسار أسد بالناس، حتى نزل مع الثقل.
وصبحوا أسدا من الغد، وذلك يوم الفطر، فكادوا يمنعونهم من الصلاة.
ثم انصرفوا ومضى أسد إلى بلخ، فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء، ثم
(7/118)
تفرق الناس في الدور، ودخل المدينة، ففي
هذه الغزاة قيل له بالفارسية:
أز ختلان آمديه ... برو تباه آمديه
آبار باز آمديه ... خشك نزار آمديه
قَالَ: وكان الحارث بْن سريج بناحية طخارستان، فانضم إلى خاقان، فلما
كان ليلة الأضحى قيل لأسد: إن خاقان نزل جزة، فأمر بالنيران فرفعت على
المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة بلخ، فأصبح أسد فصلى وخطب
الناس، وقال: إن عدو الله الحارث بْن سريج استجلب طاغيته ليطفئ نور
الله، ويبدل دينه، والله مذله إن شاء الله وإن عدوكم الكلب أصاب من
إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم،
فاستنصروا الله وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا
وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم،
وأخلصوا له الدعاء ففعلوا ثم رفعوا رءوسهم، وهم لا يشكون في الفتح، ثم
نزل عن المنبر وضحى وشاور الناس في المسير إلى خاقان، فقال قوم: أنت
شاب، ولست ممن تخوف من غارة، على شاة ودابة تخاطر بخروجك قَالَ: والله
لأخرجن، فإما ظفر وإما شهادة.
ويقال: أقبل خاقان، وقد استمد من وراء النهر واهل طخارستان وجبغويه
الطخاري بملوكهم وشاكريتهم بثلاثين ألفا، فنزلوا خلم، وفيها مسلحة،
عليها أبو العوجاء بْن سعيد العبدي، فناوشهم فلم يظفروا منه بشيء،
فساروا على حاميتهم في طريق فيروز بخشين من طخارستان فكتب أبو العوجاء
إلى أسد بمسيرهم قَالَ: فجمع الناس، فأقرأهم كتاب أبي العوجاء وكتاب
الفرافصة صاحب مسلحة جزة بعد مرور خاقان به، فشاور أسد الناس، فقال
قوم: تأخذ بأبواب مدينة بلخ، وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده وقال
آخرون: تأخذ في طريق زم، وتسبق خاقان إلى مرو.
وقال قوم: بل تخرج إليهم وتستنصر الله عليهم، فوافق قولهم رأي أسد
(7/119)
وما كان عزم عليه من لقائهم ويقال: إن
خاقان حين فارق أسدا، ارتفع حتى صار بأرض طخارستان عند جبغويه، فلما
كان وسط الشتاء أقبل فمر بجزة، وصار إلى الجوزجان وبث الغارات، وذلك أن
الحارث بْن سريج أخبره أنه لا نهوض بأسد، وأنه لم يبق معه كبير جند،
فقال البختري ابن مجاهد مولى بني شيبان: بل بث الخيول حتى تنزل
الجوزجان فلما بث الخيل، قَالَ له البختري: كيف رأيت رأيي؟ قَالَ: وكيف
رأيت صنع الله عز وجل حين أخذ برأيك! فأخذ أسد من جبلة بْن أبي رواد
عشرين ومائة ألف درهم، وأمر للناس بعشرين عشرين، ومعه من الجنود من أهل
خراسان وأهل الشام سبعة آلاف رجل، واستخلف على بلخ الكرماني بْن علي،
وأمره ألا يدع أحدا يخرج من مدينتها، وإن ضرب الترك باب المدينة فقال
له نصر بْن سيار الليثي والقاسم بْن بخيت المراغي من الأزد وسليم بْن
سليمان السلمي وعمرو بْن مسلم بْن عمرو ومحمد بْن عبد العزيز العتكي
وعيسى الأعرج الحنظلي والبختري بْن أبي درهم البكري وسعيد الأحمر وسعيد
الصغير مولى باهلة:
أصلح الله الأمير، ائذن لنا في الخروج، ولا تهجن طاعتنا فأذن لهم ثم
خرج فنزل بابا من أبواب بلخ وضربت له قبة، فازتان، وألصق إحداهما
بالأخرى، وصلى بالناس ركعتين طولهما، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس:
ادعوا الله، وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمن الناس على دعائه،
فقال:
نصرتم ورب الكعبة! ثم انفتل من دعائه فقال: نصرتم ورب الكعبة إن شاء
الله، ثلاث مرات، ثم نادى مناديه: برئت ذمة الله من رجل حمل امرأة ممن
كان من الجند، قالوا: إن أسدا إنما خرج هاربا، فخلف أم بكر أم ولده
وولده، فنظر فإذا جارية على بعير، فقال: سلوا لمن هذه الجارية؟
فذهب بعض الأساورة فسأل ثم رجع، فقال: لزياد بْن الحارث البكري- وزياد
جالس- فقطب اسد، وقال: لا تنتهون حتى أسطو بالرجل منكم يكرم علي، فأضرب
ظهره وبطنه، فقال زياد: إن كانت لي فهى حره،
(7/120)
لا والله أيها الأمير ما معي امرأة، فإن
هذا عدو حاسد.
وسار أسد، فلما كان عند قنطرة عطاء، قَالَ لمسعود بْن عمرو الكرماني،
وهو يومئذ خليفة الكرماني على الأزد: ابغني خمسين رجلا ودابة أخلفهم
على هذه القنطرة، فلا تدع أحدا ممن جازها أن يرجع إليها، فقال مسعود:
ومن أين أقدر على خمسين رجلا! فأمر به فصرع عن دابته، وأمر بضرب عنقه،
فقام إليه قوم فكلموه فكف عنه، فلما جاز القنطرة نزل منزلا، فأقام فيه
حتى أصبح، وأراد المقام يومه، فقال له العذافر بْن زيد: ليأتمر الأمير
على المقام يومه حتى يتلاحق الناس قَالَ: فأمر بالرحيل وقال: لا حاجة
لنا إلى المتخلفين، ثم ارتحل، وعلى مقدمته سالم بن منصور البجلي في
ثلاثمائه، فلقى ثلاثمائه من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة
منهم معه، وهرب بقيتهم، فأتى به أسد قَالَ: فبكى التركي، قَالَ: ما
يبكيك؟ قَالَ:
لست أبكي لنفسي، ولكني أبكي لهلاك خاقان، قَالَ: كيف؟ قَالَ: لأنه قد
فرق جنوده فيما بينه وبين مرو.
قَالَ: وسار أسد، حتى نزل السدرة- قرية ببلخ- وعلى خيل أهل العالية
ريحان بْن زياد العامري العبدلي من بني عبد الله بْن كعب قَالَ:
فعزله، وصير على أهل العالية منصور بْن سالم، ثم ارتحل من السدرة، فنزل
خريستان، فسمع أسد صهيل فرس، فقال: لمن هذا؟ فقيل: للعقار بْن ذعير،
فتطير من اسمه واسم أبيه، فقال: ردوه، قَالَ: إني مقتول بجراتى على
الترك، قَالَ: أسد: قتلك الله! ثم سار حتى إذا شارف العين الحارة
استقبله بشر بْن رزين- أو رزين بْن بشر- فقال بشارة ورزانة، ما وراءك
يا رزين؟ قَالَ: إن لم تغثنا غلبنا على مدينتنا، قَالَ: قل للمقدام بْن
عبد الرحمن يطاول رمحى، فسار فنزل من مدينة الجوزجان بفرسخين، ثم
أصبحنا وقد تراءت الخيلان، فقال خاقان للحارث: من هذا؟ فقال: هذا محمد
ابن المثنى ورأيته، ويقال: إن طلائع لخاقان انصرفت إليه فأخبرته أن
رهجا
(7/121)
ساطعا طلع من قبل بلخ، فدعا خاقان الحارث،
فقال: ألم تزعم أن أسدا ليس به نهوض! وهذا رهج قد أقبل من ناحية بلخ،
قَالَ الحارث: هذا اللص الذي كنت قد أخبرتك أنه من أصحابي فبعث خاقان
طلائع، فقال:
انظروا هل ترون على الإبل سريرا وكراسي؟ فجاءته الطلائع، فأخبروه أنهم
عاينوها، فقال خاقان: اللصوص لا يحملون الأسرة والكراسي، وهذا أسد قد
أتاك فسار أسد غلوة فلقيه سالم بْن جناح، فقال: أبشر أيها الأمير، قد
حزرتهم ولا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله فقال المجشر
بْن مزاحم، وهو يسايره: أنزل أيها الأمير رجالك، فضرب وجه دابته، وقال:
لو أطعت يا مجشر ما كنا قدمنا هاهنا، وسار غير بعيد، وقال: يا أهل
الصباح، انزلوا، فنزلوا وقربوا دوابهم، وأخذوا النبل والقسي.
قَالَ: وخاقان في مرج قد بات فيه تلك الليلة.
قَالَ: وقال عمرو بْن أبي موسى: ارتحل أسد حين صلى الغداة، فمر
بالجوزجان وقد استباحها خاقان حتى بلغت خيله الشبورقان قَالَ: وقصور
الجوزجان إذ ذاك ذليلة قَالَ: وأتاه المقدام بْن عبد الرحمن بْن نعيم
الغامدي في مقاتلته وأهل الجوزجان- وكان عاملها- فعرضوا عليه أنفسهم،
فقال: أقيموا في مدينتكم، وقال للجوزجان بْن الجوزجان: سر معي، وكان
على التعبئه القاسم بن بخيت المراغي، فجعل الأزد وبني تميم والجوزجان
بْن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بْن
عمرو الخزاعي، وأهل قنسرين عليهم صغراء بْن أحمر، وجعل ربيعة ميسرة،
عليهم يحيى بْن حضين، وضم إليهم أهل حمص عليهم جعفر بن حنظلة البهراني،
وأهل الأزد وعليهم سليمان بن عمرو المقرئ من حمير، وعلى المقدمة منصور
بْن مسلم البجلي، وأضاف إليهم أهل دمشق عليهم حملة بْن نعيم الكلبي،
وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد.
قَالَ: وعبى خاقان الحارث بن سريج واصحابه وملك السغد وصاحب الشاش
وخرابغره أبا خاناخره، جد كاوس وصاحب الختل جبغويه، والترك
(7/122)
كلهم ميمنة فلما التقوا حمل الحارث ومن معه
من أهل السغد والبابية وغيرهم على الميسرة، وفيها ربيعة وجندان من أهل
الشام، فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد، فشدت عليهم الميمنة- وهم
الأزد وبنو تميم والجوزجان- فما وصلوا إليهم حتى انهزم الحارث
والأتراك، وحمل الناس جميعا، فقال أسد: اللهم إنهم عصوني فانصرهم، وذهب
الترك في الأرض عباديد لا يلوون على أحد، فتبعهم الناس مقدار ثلاثة
فراسخ يقتلون من يقدرون عليه، حتى انتهوا إلى أغنامهم، فاستاقوا أكثر
من خمس وخمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة وأخذ خاقان طريقا غير الجادة
في الجبل، والحارث بْن سريج يحميه، ولحقهم أسد عند الظهر ويقال: لما
واقف أسد خاقان يوم خريستان كان بينهم نهر عميق، فأمر أسد برواقه فرفع،
فقال رجل من بني قيس بْن ثعلبة: يا أهل الشام، أهكذا رأيكم، إذا حضر
الناس رفعتم الأبنية! فأمر به فحط، وهاجت ريح الحرب التي تسمى الهفافة،
فهزمهم الله، واستقبلوا القبلة يدعون الله ويكبرون واقبل خاقان في قريب
من أربعمائة فارس عليهم الحمرة، وقال لرجل يقال له سوري:
إنما أنت ملك الجوزجان إن أسلمت العرب، فمن رايت من اهل الجوزجان موليا
فاقتله وقال الجوزجان لعثمان بْن عبد الله الشخير: إني لأعلم ببلادي
وطرقها، فهل لك في أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ قَالَ:
ما هو؟ قَالَ: تتبعني، قَالَ: نعم، فأخذ طريقا يسمى ورادك، فأشرفوا على
طوقات خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف وقد
شبت الحرب، فلم يقدر الترك على الانصراف، ثم ضربت الثانية فلم يقدروا،
ثم ضربت الثالثة فلم يقدروا لاشتغالهم، فحمل ابن الشخير والجوزجان على
الطوقات، وولى خاقان مدبرا منهزما، فحوى المسلمون عسكرهم وتركوا قدورهم
تغلي ونساء من نساء العرب والمواليات ومن نساء الترك، ووحل بخاقان
برذونه فحماه الحارث بْن سريج قَالَ: ولم يعلم الناس أنه
(7/123)
خاقان، ووجد عسكر الترك مشحونا من كل شيء
من آنية الفضة وصناجات الترك وأراد الخصي أن يحمل امرأة خاقان، فأعجلوه
عن ذلك، فطعنها بخنجر فوجدوها تتحرك، فأخذوا خفها وهو من لبود مضرب.
قَالَ: فبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنقذ من كان في
أيديهم من المسلمين قَالَ: وأقام أسد خمسة أيام قَالَ: فكانت الخيول
التي فرق تقبل فيصيبهم أسد، فاغتنم الظفر وانصرف إلى بلخ يوم التاسع من
خروجه، فقال ابن السجف المجاشعي:
لو سرت في الأرض تقيس الأرضا ... تقيس منها طولها والعرضا
لم تلق خيرا مرة ونقضا ... من الأمير أسد وامضى
أفضى إلينا، الخير حين أفضى ... وجمع الشمل وكان رفضا
ما فاته خاقان إلا ركضا ... قد فض من جموعه ما فضا
يا بن سريج قد لقيت حمضا ... حمضا به يشفى صداع المرضى
قَالَ: وارتحل أسد، فنزل جزة الجوزجان من غد، وخاقان بها، فارتحل هاربا
منه وندب أسد الناس، فانتدب ناس كثير من أهل الشام وأهل العراق،
فاستعمل عليهم جعفر بْن حنظلة البهراني، فساروا ونزلوا مدينة تسمى ورد
من أرض جزة، فباتوا بها فأصابهم ريح ومطر- ويقال:
أصابهم الثلج- فرجعوا ومضى خاقان فنزل على جبغويه الطخاري، وانصرف
البهراني إلى أسد، ورجع أسد إلى بلخ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمرو
الروذ منصرفة لتغير على بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم، وكان الترك قد
بلغوا بيعة مرو الروذ، وأصاب أسد يومئذ أربعة آلاف درع، فلما صار ببلخ
أمر الناس بالصوم لافتتاح الله عليهم.
قَالَ: وكان أسد يوجه الكرماني في السرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون
الرجل والرجلين والثلاثة وأكثر من الترك، ومضى خاقان إلى طخارستان
العليا،
(7/124)
فأقام عند جبغويه الخزلخى تعززا به، وأمر
بصنيعة الكوسات، فلما جفت وصلحت أصواتها ارتحل إلى بلاده، فلما ورد
شروسنة، تلقاه خرابغره ابو خاناخره، جد كاوس أبي أفشين باللعابين، وأعد
له هدايا ودواب له ولجنده- وكان الذي بينهما متباعدا- فلما رجع منهزما
أحب أن يتخذ عنده يدا، فأتاه بكل ما قدر عليه ثم أتى خاقان بلاده، وأخذ
في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث بْن سريج وأصحابه على
خمسة آلاف برذون، وفرق براذين في قواد الترك، فلاعب خاقان يوما كورصول
بالنرد على خطر تدرجة، فقمر كورصول الترقشي، فطلب منه التدرجة، فقال:
أنثى، فقال: الآخر ذكر، فتنازعا، فكسر كورصول يد خاقان، فحلف خاقان
ليكسرن يد كورصول، وبلغ كورصول، فتنحى وجمع جمعا من أصحابه، فبيت خاقان
فقتله، فأصبحت الترك فتفرقوا عنه وتركوه مجردا، فأتاه زريق بْن طفيل
الكشاني وأهل بيت الحموكيين- وهم من عظماء الترك- فحمله ودفنه، وصنع به
ما يصنع بمثله إذا قتل.
فتفرقت الترك في الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشاش، فعند
ذلك طمع أهل السغد في الرجعة إليها قال: فلم يسلم من خيل الترك التي
تفرقت في الغارات إلا زر بْن الكسي، فإنه سلم حتى صار إلى طخارستان،
وكان أسد بعث من مدينة بلخ سيف بْن وصاف العجلي على فرس، فسار حتى نزل
الشبورقان قَالَ: وفيها إبراهيم بْن هشام مسلحة، فحمله منها على البريد
حتى قدم على خالد بْن عبد الله، فأخبره، ففظع به هشام فلم يصدقه، وقال
للربيع حاجبه: ويحك! إن هذا الشيخ قد أتانا بالطامه الكبرى إذا كان
صادقا، ولا أراه صادقا، اذهب فعده ثم سله عما يقوله وأتني بما يقول.
فانطلق إليه ففعل الذي أمره به، فأخبره بالذي أخبر به هشاما قَالَ:
فدخل عليه أمر عظيم، فدعا به بعد، فقال: من القاسم بْن بخيت منكم؟
قَالَ:
ذلك صاحب العسكر، قَالَ: فإنه قد أقبل، قَالَ: فإن كان قد أقبل فقد
(7/125)
فتح الله على أمير المؤمنين- وكان أسد وجهه
حين فتح الله عليه- فأقبل القاسم بْن بخيت، فكبر على الباب، ثم دخل
يكبر وهشام يكبر لتكبيره، حتى انتهى إليه، فقال: الفتح يا أمير
المؤمنين، وأخبره الخبر، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر، وهي
واحدة عندهم قَالَ: فحسدت القيسية أسدا وخالدا، وأشاروا على هشام أن
يكتب إلى خالد بْن عبد الله، فيأمر أخاه أن يوجه مقاتل بْن حيان، فكتب
إليه، فدعا أسد مقاتل بْن حيان على رءوس الناس، فقال: سر إلى أمير
المؤمنين فأخبره بالذي عاينت وقل الحق، فإنك لا تقول غير الحق إن شاء
الله، وخذ من بيت المال حاجتك.
قالوا: إذا لا يأخذ شيئا، قَالَ: أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة
كذا وكذا، وجهزه.
فسار فقدم على هشام بْن عبد الملك وهو والأبرش جالسان، فسأله فقال:
غزونا الختل، فأصبنا أمرا عظيما، وانذر أسد بالترك فلم نحفل بهم حتى
لحقوا واستنقذوا من غنائمنا، واستباحوا بعض عسكرنا، ثم دفعونا دفعة
قريبا من خلم، فانتهى الناس الى مشاتيهم، ثم جاءنا مسير خاقان إلى
الجوزجان، ونحن قريبو العهد بالعدو، فسار بنا حتى التقينا برستاق بيننا
وبين أرض الجوزجان، فقاتلناهم وقد حازوا ذراري من ذراري المسلمين،
فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم ثم حملت ميمنتنا عليهم، فأعطانا الله عليهم
الظفر، وتبعناهم فراسخ حتى استبحنا عسكر خاقان، فأجلى عنه- وهشام متكئ
فاستوى جالسا عند ذكره عسكر خاقان- فقال ثلاثا: أنتم استبحتم عسكر
خاقان! قَالَ: نعم، قَالَ: ثم ماذا؟ قال: دخلوا الختل وانصرفوا.
قَالَ هشام: إن أسدا لضعيف، قَالَ: مهلا يا أمير المؤمنين، ما أسد
بضعيف وما أطاق فوق ما صنع، فقال له هشام: حاجتك؟ قَالَ: إن يزيد بْن
المهلب أخذ من أبي حيان مائة ألف درهم بغير حق، فقال له هشام:
لا أكلفك شاهدا، احلف بالله إنه كما قلت، فحلف، فردها عليه من بيت
(7/126)
مال خراسان، وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد
فيها، فكتب إليه، فأعطاه أسد مائة ألف درهم، فقسمها بين ورثة حيان على
كتاب الله وفرائضه.
ويقال: بل كتب إلى أسد أن يستخبر عن ذلك، فإن كان ما ذكر حقا أعطي مائة
ألف درهم.
وكان الذي جاء بفتح خراسان إلى مرو عبد السلام بْن الأشهب بْن عتبة
الحنظلي قَالَ: فأوفد أسد إلى خالد بْن عبد الله وفدا في هزيمته يوم
سان، ومعهم طوقات خاقان ورءوس من قتلوا منهم، فأوفدهم خالد إلى هشام،
فأحلفهم أنهم صدقوا، فحلفوا، فوصلهم، فقال أبو الهندي الأسدي لأسد يذكر
وقعة سان:
أبا منذر رمت الأمور فقستها ... وساءلت عنها كالحريص المساوم
فما كان ذو رأي من الناس قسته ... برأيك إلا مثل رأي البهائم
أبا منذر لولا مسيرك لم يكن ... عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم
ولا حج بيت الله- مذ حج- راكب ... ولا عمر البطحاء بعد المواسم
فكم من قتيل بين سان وجزة ... كثير الأيادي من ملوك قماقم
تركت بأرض الجوزجان تزوره ... سباع وعقبان لحز الغلاصم
وذي سوقة فيه من السيف خطة ... به رمق حامت عليه الحوائم
فمن هارب منا ومن دائن لنا ... أسير يقاسي مبهمات الأداهم
فدتك نفوس من تميم وعامر ... ومن مضر الحمراء عند المآزم
هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت ... جلائبه ترجو احتواء المغانم
قَالَ: وكان السبل أوصى عند موته ابن السائجى حين استخلفه بثلاث خصال،
فقال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي التي كانت عليهم،
(7/127)
فإني ملك ولست بملك، إنما أنت رجل منهم،
فلا يحتملون لك ما يحتملون للملوك، ولا تدع أن تطلب الجيش حتى ترده إلى
بلادكم، فإنه الملك بعدي والملوك هم النظام، والناس ما لم يكن لهم نظام
طغام، ولا تحاربوا العرب واحتالوا لهم كل حيلة تدفعونهم بها عن أنفسكم
ما قدرتم فقال له ابن السائجى: أما ما ذكرت من تركي الاستطالة على أهل
الختل فإني قد عرفت ذلك، وأما ما أوصيت من رد الجيش فقد صدق الملك،
وأما قولك: لا تحاربوا العرب، فكيف تنهى عن حربهم، وقد كنت أكثر الملوك
لهم محاربة! قَالَ: قد أحسنت إذ سألت عما لا تعلم، إني قد جربت قوتكم
بقوتي، فلم أجدكم تقعون مني موقعا، فكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا
جريضا، وإنكم إن حاربتموهم هلكتم في أول محاربتكم إياهم.
قال وكان الجيش، قد هرب إلى الصين، وابن السائجى الذي أخبر أسد بْن عبد
الله بمسير خاقان اليه، فكره محاربه اسد.
ذكر الخبر عن مقتل المغيره بن سعيد ونفر
معه
وفي هذه السنة خرج المغيرة بْن سعيد وبيان في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم.
ذكر الخبر عن مقتلهم:
أما المغيرة بْن سعيد، فإنه كان- فيما ذكر- ساحرا حَدَّثَنَا ابن حميد،
قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن الأعمش، قَالَ: سمعت المغيرة بْن سعيد،
يقول:
لو أردت ان احيى عادا او ثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا لأحييتهم قَالَ
الأعمش:
وكان المغيرة يخرج إلى المقبرة فيتكلم، فيرى مثل الجراد على القبور، أو
نحو هذا من الكلام.
وذكر أبو نعيم، عن النضر بْن محمد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ليلى، قَالَ: قدم علينا رجل من أهل البصرة يطلب
العلم، فكان عندنا، فأمرت جاريتي يوما أن تشتري لي سمكا بدرهمين، ثم
انطلقت أنا
(7/128)
والبصري إلى المغيرة بْن سعيد، فقال لي: يا
محمد، أتحب أن أخبرك، لم افترق حاجباك؟ قلت: لا، قَالَ أفتحب أن أخبرك
لم سماك أهلك محمدا؟ قلت:
لا، قَالَ: أما إنك قد بعثت خادمك يشتري لك سمكا بدرهمين قَالَ:
فنهضنا عنه قَالَ أبو نعيم: وكان المغيرة قد نظر في السحر، فأخذه خالد
القسري فقتله وصلبه.
وذكر أبو زيد أن أبا بكر بْن حفص الزهري، قَالَ: أخبرني محمد بْن عقيل،
عن سعيد بن مردابند، مولى عمرو بْن حريث، قَالَ: رأيت خالدا حين أتى
بالمغيرة وبيان في ستة رهط أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد
الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط فأحضرا، ثم أمر المغيرة أن يتناول طنا
فكع عنه وتأنى، فصبت السياط على رأسه، فتناول طنا فاحتضنه، فشد عليه،
ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط
ففعلوا، ثم أمر بيانا آخرهم فقدم إلى الطن مبادرا فاحتضنه، فقال خالد:
ويلكم! في كل أمر تحمقون، هلا رأيتم هذا المغيرة! ثم أحرقه.
قَالَ أبو زيد: لما قتل خالد المغيرة وبيانا أرسل إلى مالك بْن أعين
الجهني فسأله فصدقه عن نفسه، فأطلقه، فلما خلا مالك بمن يثق به- وكان
فيهم أبو مسلم صاحب خراسان- قَالَ:
ضربت له بين الطريقين لاحبا ... وطنت عليه الشمس فيمن يطينها
وألقيته في شبهة حين سالني ... كما اشتبها في الخط سين وشينها
فقال أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه.
قَالَ أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: خرج المغيرة بْن سعيد في
سبعة نفر، وكانوا يدعون الوصفاء، وكان خروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد
القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال: أطعموني ماء، فنعى ذلك عليه ابن
نوفل، فقال:
أخالد لا جزاك الله خيرا ... وأير في أمك من أمير
(7/129)
تمنى الفخر في قيس وقسر ... كأنك من سراة بني جرير
وأمك علجة وأبوك وغد ... وما الاذناب عدلا للصدور
جرير من ذوي يمن أصيل ... كريم الأصل ذو خطر كبير
وأنت زعمت انك من يزيد ... وقد ادحقتم دحق العبور
وكنت لدى المغيرة عبد سوء ... تبول من المخافة للزئير
وقلت لما أصابك: أطعموني ... شرابا ثم بلت على السرير
لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السن ليس بذي نصير. |