تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنة اثنتين وعشرين ومائة
(ذكر الخبر عما كان فيها من احداث)
خبر مقتل زيد بن على
فمن ذلك مقتل زيد بْن علي.
ذكر الخبر عن ذلك:
ذكر هشام عن أبي مخنف، أن زيد بْن علي لما أمر أصحابه بالتأهب للخروج
والاستعداد، أخذ من كان يريد الوفاء له بالبيعة فيما أمرهم به من ذلك،
فانطلق سليمان بْن سراقة البارقي إلى يوسف بْن عمر، فأخبره خبره،
وأعلمه أنه يختلف إلى رجل منهم يقال له عامر، وإلى رجل من بني تميم
يقال له طعمة، ابن أخت لبارق، وهو نازل فيهم فبعث يوسف يطلب زيد بْن
علي في منزلهما فلم يوجد عندهما، وأخذ الرجلان، فأتي بهما، فلما كلمهما
استبان له أمر زيد وأصحابه وتخوف زيد بْن علي أن يؤخذ، فتعجل قبل الأجل
الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة قَالَ:
وعلى أهل الكوفة يومئذ الحكم بْن الصلت، وعلى شرطه عمرو بْن عبد
الرحمن، رجل من القارة، وكانت ثقيف أخواله، وكان فيهم ومعه عبيد الله
بْن العباس الكندي، في أناس من أهل الشام، ويوسف بْن عمر بالحيرة
قَالَ: فلما رأى أصحاب زيد بْن علي الذين بايعوه أن يوسف بْن عمر قد
بلغه أمر زيد، وأنه يدس إليه، ويستبحث عن أمره، اجتمعت إليه جماعة من
رءوسهم، فقالوا: رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قَالَ زيد:
رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما ولا يقول
فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل هذا البيت، إلا أن وثبا
على سلطانكم
(7/180)
فنزعاه من أيديكم! فقال لهم زيد: إن أشد ما
أقول فيما ذكرتم إنا كنا أحق بسلطان رسول الله ص من الناس أجمعين، وإن
القوم استأثروا علينا، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد
ولوا فعدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة قالوا: فلم يظلمك هؤلاء!
وان كان أولئك لم يظلموك، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين!
فقال: وان هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم،
وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنه نبيه ص، وإلى السنن أن تحيا، وإلى
البدع أن تطفأ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم
بوكيل ففارقوه ونكثوا بيعته، وقالوا: سبق الإمام- وكانوا يزعمون أن أبا
جعفر محمد بْن علي أخا زيد بْن علي هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ- وكان
ابنه جعفر بْن محمد حيا، فقالوا: جعفر امامنا اليوم بعد أبيه، وهو أحق
بالأمر بعد أبيه، ولا نتبع زيد بْن علي فليس بإمام فسماهم زيد الرافضة،
فهم اليوم يزعمون أن الذي سماهم الرافضة المغيرة حيث فارقوه وكانت منهم
طائفة قبل خروج زيد مروا إلى جعفر بْن محمد بْن علي، فقالوا له: إن زيد
بْن علي فينا يبايع، أفترى لنا أن نبايعه؟ فقال لهم: نعم بايعوه، فهو
والله أفضلنا وسيدنا وخيرنا فجاءوا، فكتموا ما أمرهم به.
قَالَ: واستتب لزيد بْن علي خروجه، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء أول
ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة.
وبلغ يوسف بْن عمر أن زيدا قد ازمع على الخروج، فبعث الى الحكم ابن
الصلت، فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فبعث
الحكم إلى العرفاء والشرط والمناكب والمقاتلة، فأدخلهم المسجد، ثم نادى
مناديه: ألا إن الأمير يقول: من أدركناه في رحله فقد برئت منه الذمة،
ادخلوا المسجد الأعظم فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد
بيوم، وطلبوا زيدا في دار معاوية بْن إسحاق بْن زيد بْن حارثة
الأنصاري، فخرج ليلا، وذلك ليلة الأربعاء، في ليلة شديدة البرد، من دار
معاوية بْن
(7/181)
إسحاق، فرفعوا الهرادى فيها النيران،
ونادوا: يا منصور.
أمت، أمت يا منصور فكلما أكلت النار هرديا رفعوا آخر، فما زالوا كذلك
حتى طلع الفجر، فلما أصبحوا بعث زيد بْن علي القاسم التنعي ثم الحضرمي
ورجلا آخر من أصحابه، يناديان بشعارهما، فلما كانوا في صحراء عبد القيس
لقيهم جعفر بْن العباس الكندي، فشدوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الرجل
الذي كان مع القاسم التنعي، وارتث القاسم، فأتي به الحكم، فكلمه فلم
يرد عليه شيئا، فأمر به فضربت عنقه على باب القصر، فكان أول من قتل من
اصحاب زيد ابن علي هو وصاحبه وأمر الحكم بْن الصلت بدروب السوق فغلقت،
وغلقت أبواب المسجد على أهل الكوفة وعلى أرباع الكوفة يومئذ، على ربع
أهل المدينة إبراهيم بْن عبد الله بْن جرير البجلي، وعلى مذحج وأسد
عمرو ابن أبي بذل العبدي، وعلى كندة وربيعة المنذر بن محمد بن اشعث بْن
قيس الكندي، وعلى تميم وهمدان محمد بْن مالك الهمداني ثم الخيواني.
قَالَ: وبعث الحكم بْن الصلت إلى يوسف بْن عمر، فأخبره الخبر، فأمر
يوسف مناديه فنادى في أهل الشام: من يأتي الكوفة فيقترب من هؤلاء القوم
فيأتيني بخبرهم؟ فقال جعفر بْن العباس الكندي: أنا، فركب في خمسين
فارسا، ثم أقبل حتى انتهى إلى جبانة سالم السلولي، فاستخبرهم، ثم رجع
إلى يوسف بْن عمر فأخبره، فلما أصبح خرج إلى تل قريب من الحيرة، فنزل
عليه ومعه قريش وأشراف الناس، وعلى شرطته يومئذ العباس بْن سعيد
المزني، فبعث الريان بْن سلمة الإراشي في الفين ومعه ثلاثمائة من
القيقانية رجالا معهم النشاب.
وأصبح زيد بْن علي، فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية
عشر رجلا، فقال زيد: سبحان الله! أين الناس! فقيل له: هم في المسجد
الأعظم محصورون، فقال: لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر وسمع نصر ابن
خزيمة النداء، فاقبل اليه، فلقى عمر بْن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم
بْن الصلت في خيله من جهينة عند دار الزبير بن ابى حكمه في الطريق
(7/182)
الذي يخرج إلى مسجد بني عدي، فقال نصر بْن
خزيمة: يا منصور أمت، فلم يرد عليه شيئا، فشد عليه نصر وأصحابه، فقتل
عمر بْن عبد الرحمن، وانهزم من كان معه، وأقبل زيد بْن علي من جبانة
سالم حتى انتهى الى جبانه الصائديين، وبها خمسمائة من أهل الشام، فحمل
عليهم زيد بْن علي فيمن معه فهزمهم وكان تحت زيد بْن علي يومئذ برذون
أدهم بهيم، اشتراه رجل من بني نهد بْن كهمس بْن مروان النجاري بخمسة
وعشرين دينارا، فلما قتل زيد بعد ذلك أخذه الحكم بْن الصلت.
قَالَ: وانتهى زيد بْن علي إلى باب دار رجل من الأزد، يقال له أنس ابن
عمرو- وكان فيمن بايعه- فنودي وهو في الدار فجعل يجيب، فناداه زيد يا
أنس: اخرج إلي رحمك الله، فقد جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ
الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فلم يخرج إليه، فقال زيد: ما أخلفكم! قد
فعلتموها، الله حسيبكم! قَالَ: ثم إن زيدا مضى حتى انتهى إلى الكناسة،
فحمل على جماعة بها من أهل الشام فهزمهم، ثم خرج حتى ظهر إلى الجبانة
ويوسف بْن عمر على التل ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه حزام بْن مرة
المزني وزمزم بْن سليم الثعلبي، وهما على المجففة، ومعه نحو من مائتي
رجل، والله لو أقبل على يوسف لقتله، والريان بْن سلمة يتبع أثر زيد بْن
علي بالكوفة في أهل الشام.
ثم إن زيدا أخذ ذات اليمين على مصلى خالد بْن عبد الله حتى دخل الكوفة،
وكانت فرقة من أصحاب زيد بْن علي حيث وجه إلى الكناسة قد انشعبت نحو
جبانة مخنف بْن سليم ثم قَالَ بعضهم لبعض: ألا ننطلق نحو جبانة كندة!
قَالَ: فما زاد الرجل على أن تكلم بهذا الكلام.
وطلع أهل الشام، فلما رأوهم دخلوا زقاقا فمضوا فيه، وتخلف رجل منهم،
فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج إليهم فقاتلهم ساعة ثم إنهم
صرعوه، فجعلوا يضربونه بأسيافهم، فنادى رجل منهم مقنع بالحديد:
أن اكشفوا المغفر ثم اضربوا رأسه بعمود حديد، ففعلوا، وقتل وحمل أصحابه
عليهم فكشفوهم عنه وقد قتل، وانصرف أهل الشام، وقد اقتطعوا
(7/183)
رجلا، ونجا سائرهم فذهب ذلك الرجل حتى دخل
دار عبد الله بْن عوف، فدخل أهل الشام عليه فأسروه، فذهب به إلى يوسف
بْن عمر فقتله.
قَالَ: وأقبل زيد بْن علي، وقد رأى خذلان الناس إياه، فقال:
يا نصر بْن خزيمة، أتخاف أن يكون قد جعلوها حسينية! فقال له:
جعلني الله لك الفداء! اما انا فو الله لأضربن معك بسيفي هذا حتى أموت،
فكان قتاله يومئذ بالكوفة ثم إن نصر بْن خزيمة قَالَ لزيد بْن علي:
جعلني الله لك الفداء! إن الناس في المسجد الأعظم محصورون، فامض بنا
نحوهم، فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمر على دار خالد بْن عرفطه وبلغ عبيد
الله ابن العباس الكندي إقباله، فخرج في أهل الشام، وأقبل زيد فالتقوا
على باب عمر بْن سعد بْن أبي وقاص، فكع صاحب لواء عبيد الله- وكان
لواؤه مع سلمان مولاه- فلما أراد عبيد الله الحملة ورآه قد كع عنه،
قال:
احمل يا بن الخبيثة! فحمل عليهم، فلم ينصرف حتى خضب لواؤه بالدم.
ثم إن عبيد الله برز فخرج اليه واصل الحناط، فاضطربا بسيفهما، فقال
للأحول: خذها مني وأنا الغلام الحناط! وقال الآخر: قطع الله يدي إن كلت
بقفيز أبدا ثم ضربه فلم يصنع شيئا وانهزم عبيد الله بْن العباس
وأصحابه، حتى انتهوا الى دار عمرو من حريث وجاء زيد وأصحابه حتى انتهوا
إلى باب الفيل، فجعل أصحاب زيد يدخلون راياتهم من فوق الأبواب،
ويقولون: يا أهل المسجد، اخرجوا وجعل نصر بْن خزيمة يناديهم، ويقول: يا
أهل الكوفة، اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا، فإنكم
لستم في دين ولا دنيا فأشرف عليهم أهل الشام، فجعلوا يرمونهم بالحجارة
من فوق المسجد- وكان يومئذ جمع كبير بالكوفة في نواحيها، وقيل في جبانة
سالم- وانصرف الريان بْن سلمة إلى الحيرة عند المساء، وانصرف زيد بْن
علي فيمن معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة، فنزل دار الرزق، فأتاه
الريان بْن سلمة، فقاتله عند دار الرزق قتالا شديدا، فجرح من أهل
(7/184)
الشام وقتل منهم ناس كثير، وتبعهم أصحاب
زيد من دار الرزق، حتى انتهوا إلى المسجد، فرجع أهل الشام مساء يوم
الأربعاء أسوأ شيء ظنا، فلما كان من الغد غداة يوم الخميس، دعا يوسف
بْن عمر الريان بْن سلمة، فلم يوجد حاضرا تلك الساعة.
وقال بعضهم: بل أتاه وليس عليه سلاحه فأفف به، وقال له: أف لك من صاحب
خيل! اجلس فدعا العباس بْن سعيد المزني صاحب شرطته، فبعثه في أهل
الشام، فسار حتى انتهى إلى زيد بْن على في دار الرزق، وثم خشب للتجار
كثير، فالطريق متضايق وخرج زيد في أصحابه، وعلى مجنبتيه نصر بْن خزيمة
العبسي ومعاوية بْن إسحاق الأنصاري، فلما رآهم العباس- ولم يكن معه
رجال- نادى: يا أهل الشام، الارض والارض! فنزل ناس كثير ممن معه،
فاقتتلوا قتالا شديدا في المعركة وقد كان رجل من أهل الشام من بني عبس
يقال له نائل بْن فروة قَالَ ليوسف بْن عمر:
والله لئن أنا ملأت عيني من نصر بْن خزيمة لأقتلنه أو ليقتلني، فقال له
يوسف:
خذ هذا السيف، فدفع إليه سيفا لا يمر بشيء إلا قطعه فلما التقى أصحاب
العباس بْن سعيد وأصحاب زيد واقتتلوا، بصر نائل بْن فروة بنصر بْن
خزيمة، فأقبل نحوه، فضرب نصرا فقطع فخذه، وضربه نصر ضربة فقتله، فلم
يلبث نصر أن مات، واقتتلوا قتالا شديدا.
ثم إن زيد بْن علي هزمهم وقتل من أهل الشام نحوا من سبعين رجلا،
فانصرفوا وهم بشر حال وقد كان العباس بْن سعيد نادى في أصحابه أن
اركبوا، فإن الخيل لا تطيق الرجال في المضيق فركبوا، فلما كان العشي
عبأهم يوسف بْن عمر ثم سرحهم، فأقبلوا حتى التقوا هم وأصحاب زيد، فحمل
عليهم زيد في أصحابه فكشفهم، ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة، ثم شد
عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجاله، حتى
أخذوا على المسناه.
ثم ان زيدا ظهر لهم فيما بين بارق ورؤاس، فقاتلهم هنالك قتالا شديدا،
(7/185)
وصاحب لوائه يومئذ رجل يقال له عبد الصمد
بْن أبي مالك بْن مسروح، من بنى سعد بن زيد، خليف العباس بْن عبد
المطلب، وكان مسروح السعدي تزوج صفية بنت العباس بْن عبد المطلب، فجعلت
خيلهم لا تثبت لخيله ورجله، فبعث العباس إلى يوسف بْن عمر يعلمه ذلك،
فقال له: ابعث إلي الناشبة، فبعث إليهم سليمان بْن كيسان الكلبي في
القيقانية والبخارية، وهم ناشبة، فجعلوا يرمون زيدا وأصحابه، وكان زيد
حريصا على أن يصرفهم حين انتهوا إلى السبخة، فأبوا عليه، فقاتل معاوية
بْن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد بْن علي قتالا شديدا، فقتل بين يديه،
وثبت زيد بْن علي ومن معه حتى إذا جنح الليل رمي بسهم فأصاب جانب جبهته
اليسرى، فتشبث في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم
رجعوا إلا للمساء والليل.
قَالَ: فحدثني سلمة بْن ثابت الليثي- وكان مع زيد بْن علي، وكان آخر من
انصرف من الناس يومئذ، هو وغلام لمعاوية بْن إسحاق- قَالَ: أقبلت أنا
وصاحبي نقص أثر زيد بْن علي، فنجده قد أنزل، وأدخل بيت حران ابن كريمة
مولى لبعض العرب في سكة البريد في دور أرحب وشاكر.
قَالَ سلمة بْن ثابت: فدخلت عليه، فقلت له: جعلني الله فداك أبا
الحسين! وانطلق أصحابه فجاءوا بطبيب يقال له شقير مولى لبنى رؤاس فانزع
النصل من جبهته، وانا انظر اليه، فو الله ما عدا أن أنزعه جعل يصيح، ثم
لم يلبث أن قضى، فقال القوم: أين ندفنه، وأين نواريه؟
فقال بعض أصحابه: نلبسه درعه ونطرحه في الماء، وقال بعضهم: بل نحتز
رأسه ونضعه بين القتلى، فقال ابنه يحيى: لا والله لا ناكل لحم أبي
الكلاب.
وقال بعضهم: لا بل نحمله إلى العباسية فندفنه.
قَالَ سلمة: فأشرت عليهم أن ننطلق به إلى الحفرة التي يؤخذ منها الطين
فندفنه فيها، فقبلوا رأيي وانطلقنا، وحفرنا له بين حفرتين، وفيه حينئذ
ماء كثير، حتى إذا نحن أمكنا له دفناه، وأجرينا عليه الماء، وكان معنا
(7/186)
عبد له سندي قَالَ: ثم انصرفنا حتى نأتي
جبانة السبيع، ومعنا ابنه، فلم نزل بها، وتصدع الناس عنا، وبقيت في رهط
معه لا يكونون عشرة، فقلت له: أين تريد؟ هذا الصبح قد غشيك- ومعه أبو
الصبار العبدي- قَالَ: فقال: النهرين، فقلت له: إن كنت إنما تريد
النهرين- فظننت أنه يريد أن يتشطط الفرات ويقاتلهم- فقلت له: لا تبرح
مكانك، تقاتلهم حتى تقتل، أو يقضي الله ما هو قاض فقال لي: أنا أريد
نهري كربلاء.
فقلت له: فالنجاء قبل الصبح، فخرج من الكوفة، وأنا معه وأبو الصبار
ورهط معنا، فلما خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين، فصلينا الغداة
بالنخيلة، ثم توجهنا سراعا قبل نينوى، فقال لي: إني أريد سابقا مولى
بشر بْن عبد الملك بْن بشر، فأسرع السير، وكنت إذا لقيت القوم أستطعمهم
فأطعم الأرغفة فأطعمها إياه، فيأكل ونأكل معه، فانتهينا إلى نينوى وقد
أظلمنا، فأتينا منزل سابق، فدعوت على الباب، فخرج إلينا فقلت له:
أما أنا فآتي الفيوم، فأكون به، فإذا بدا لك أن ترسل إلي فأرسل.
قَالَ: ثم إني مضيت وخلفته عند سابق، فذلك آخر عهدي به.
قَالَ: ثم إن يوسف بْن عمر بعث أهل الشام يطلبون الجرحى في دور أهل
الكوفة، فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار، ويطوفون البيت يلتمسون
الجرحى.
قَالَ: ثم دل غلام زيد بْن علي السندي يوم الجمعة على زيد، فبعث الحكم
بْن الصلت العباس بْن سعيد المزني وابن الحكم بن الصلت، فانطلقا
فاستخرجاه، فكره العباس أن يغلب عليه ابن الحكم بْن الصلت فتركه وسرح
بشيرا إلى يوسف بْن عمر غداة يوم الجمعة برأس زيد بْن علي مع الحجاج
بْن القاسم بْن محمد بْن الحكم بْن أبي عقيل، فقال أبو الجويرية مولى
جهينة:
قل للذين انتهكوا المحارم ... ورفعوا الشمع بصحرا سالم
كيف وجدتم وقعة الأكارم ... يا يوسف بْن الحكم بْن القاسم!
قَالَ: ولما أتى يوسف بْن عمر البشير، امر بزيد فصلب بالكناسة،
(7/187)
هو ونصر بْن خزيمة ومعاوية بْن إسحاق بْن
زيد بْن حارثة الأنصاري وزياد النهدي، وكان يوسف قد نادى: من جاء برأس
فله خمسمائة درهم، فجاء محمد بْن عباد برأس نصر بْن خزيمة، فأمر له
يوسف بْن عمر بألف درهم، وجاء الأحول مولى الأشعريين برأس معاوية بْن
إسحاق، فقال: أنت قتلته؟
فقال: أصلح الله الأمير! ليس أنا قتلته، ولكني رايته فعرفته، فقال:
اعطوه سبعمائة درهم، ولم يمنعه ان يتم له ألفا، إلا أنه زعم أنه لم
يقتله وقد قيل: إن يوسف بْن عمر لم يعلم بأمر زيد ورجوعه من الطريق إلى
الكوفة بعد ما شخص إلا بإعلام هشام بْن عبد الملك إياه، وذلك أن رجلا
من بني أمية كتب- فيما ذكر- إلى هشام، يذكر له أمر زيد، فكتب هشام إلى
يوسف يشتمه ويجهله، ويقول: إنك لغافل، وزيد غارز ذنبه بالكوفه يبايع له
فالحح في طلبه، فأعطه الأمان فإن لم يقبل فقاتله فكتب يوسف إلى الحكم
بْن الصلت من آل أبي عقيل وهو خليفته على الكوفة بطلبه، فطلبه فخفي
عليه موضعه، فدس يوسف مملوكا خراسانيا ألكن، وأعطاه خمسة آلاف درهم،
وأمره أن يلطف لبعض الشيعة فيخبره أنه قد قدم من خراسان حبا لأهل
البيت، وأن معه مالا يريد أن يقويهم به، فلم يزل المملوك يلقى الشيعة،
ويخبرهم عن المال الذي معه حتى أدخلوه على زيد، فخرج فدل يوسف على
موضعه، فوجه يوسف إليه الخيل، فنادى أصحابه بشعارهم، فلم يجتمع إليه
منهم الا ثلاثمائة او اقل، فجعل يقول: كان داود ابن علي أعلم بكم، قد
حذرني خذلانكم فلم أحذر! وقيل: إن الذي دل على موضع زيد الذي كان دفن
فيه- وكان دفن في نهر يعقوب فيما قيل، وكان أصحابه قد سكروا النهر ثم
حفروا له في بطنه، فدفنوه في ثيابه ثم أجروا عليه الماء- عبد قصار كان
به، فاستجعل جعلا على أن يدلهم على موضعه، ثم دلهم، فاستخرجوه، فقطعوا
رأسه، وصلبوا جسده، ثم أمروا بحراسته لئلا ينزل، فمكث يحرس زمانا
(7/188)
وقيل إنه كان فيمن يحرسه زهير بْن معاوية
أبو خيثمة، وبعث برأسه إلى هشام فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم
أرسل به إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبا حتى مات هشام، ثم أمر به
الوليد فانزل واحرق وقيل: ان حكيم ابن شريك كان هو الذي سعى بزيد إلى
يوسف.
فأما أبو عبيدة معمر بْن المثنى فإنه قَالَ في أمر يحيى بْن زيد: لما
قتل زيد عمد رجل من بني أسد إلى يحيى بْن زيد، فقال له: قد قتل أبوك،
وأهل خراسان لكم شيعة، فالرأي أن تخرج إليها قَالَ: وكيف لي بذلك؟
قَالَ: تتوارى حتى يكف عنك الطلب ثم تخرج، فواراه عنده ليلة، ثم خاف
فأتى عبد الملك بْن بشر بْن مروان، فقال له: إن قرابة زيد بك قريبة،
وحقه عليك واجب، قَالَ له: أجل، ولقد كان العفو عنه أقرب إلى التقوى،
قَالَ: فقد قتل وهذا ابنه غلاما حدثا لا ذنب له، وإن علم يوسف بْن عمر
بمكانه قتله، فتجيره وتواريه عندك، قَالَ: نعم وكرامة فأتاه به فواراه
عنده فبلغ الخبر يوسف، فأرسل إلى عبد الملك: قد بلغني مكان هذا الغلام
عندك، وأعطي الله عهدا، لئن لم تأتني به لأكتبن فيك إلى أمير المؤمنين،
فقال له عبد الملك: أتاك الباطل والزور، أنا أواري من ينازعني سلطاني
ويدعي فيه أكثر من حقي! ما كنت أخشاك على قبول مثل هذا علي ولا
الاستماع من صاحبه، فقال: صدق والله ابن بشر، ما كان ليواري مثل هذا،
ولا يستر عليه، فكف عن طلبه، فلما سكن الطلب خرج يحيى في نفر من
الزيدية إلى خراسان.
وخطب يوسف بعد قتل زيد بالكوفة فقال:
يا أهل الكوفة، إن يحيى بن زيد يتنقل في حجال نسائكم كما كان يفعل
أبوه، والله لو ابدى لي صفحته لعرقت خصييه كما عرقت خصيي أبيه.
وذكر عن رجل من الأنصار قَالَ: لما جيء برأس زيد فصلب بالمدينة في سنة
ثلاث وعشرين ومائة، أقبل شاعر من شعراء الأنصار فقام بحياله، فقال:
(7/189)
الا يا ناقض الميثاق ... أبشر بالذي ساكا
نقضت العهد والميثاق ... قدما كان قدماكا
لقد أخلف إبليس الذي ... قد كان مناكا
قال: فقيل له: ويلك! أتقول هذا لمثل زيد! فقال: إن الأمير غضبان فأردت
أن أرضيه، فرد عليه بعض شعرائهم:
ألا يا شاعر السوء ... لقد أصبحت أفاكا
اشتم ابن رسول الله ... يرضى من تولاكا
ألا صبحك الله ... بخزي ثم مساكا
ويوم الحشر لا شك ... بأن النار مثواكا
وقيل: كان خراش بْن حوشب بْن يزيد الشيبانى على شرط يوسف ابن عمر، فهو
الذي نبش زيدا، وصلبه، فقال السيد:
بت ليلي مسهدا ... ساهر الطرف مقصدا
ولقد قلت قولة ... وأطلت التبلدا
لعن الله حوشبا ... وخراشا ومزيدا
ويزيدا فإنه ... كان أعتى وأعندا
ألف ألف وألف ... ألف من اللعن سرمدا
إنهم حاربوا الإله ... وآذوا محمدا
شركوا في دم المطهر ... زيد تعندا
ثم عالوه فوق جذع ... صريعا مجردا
يا خراش بْن حوشب ... أنت أشقى الورى غدا
(7/190)
قَالَ أبو مخنف: ولما قتل يوسف زيد بْن علي
أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر، فقال:
يا أهل المدرة الخبيثة، إني والله مَا تقرن بي الصعبة، وَلا يقعقع لي
بالشنان، ولا اخوف بالذنب هيهات! حبيت بالساعد الأشد، أبشروا يا أهل
الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق، ولقد هممت أن أخرب
بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم
ما تكرهون عليه، فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله
ورسوله، إلا حكيم بْن شريك المحاربي، ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن
لي فيكم، ولو أذن لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريكم.
وفي هذه السنة قتل كلثوم بْن عياض القشيري الذي كان هشام بْن عبد الملك
بعثه في خيول أهل الشام إلى إفريقية، حيث وقعت الفتنة بالبربر.
وفيها قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم.
وفيها ولد الفضل بْن صالح ومحمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي.
وفيها وجه يوسف بْن عمر بْن شبرمة على سجستان، فاستقضى ابن أبي ليلى.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام المخزومي، كذلك حَدَّثَنِي
أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن اسحق بْن عِيسَى، عن أبي معشر،
وكذلك قَالَ الواقدي وغيره.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد
ذكرناهم قبل، إلا أن قاضي الكوفة كان- فيما ذكر- في هذه السنة
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى.
(7/191)
ثم دخلت
سنة ثلاث وعشرين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر خبر صلح نصر بن سيار مع السغد
فمن ذلك ما جرى بين أهل السغد ونصر بْن سيار من الصلح.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه:
ذكر علي بْن محمد، عن شيوخه، أن خاقان لما قتل في ولاية أسد، تفرقت
الترك في غارة بعضها على بعض، فطمع أهل السغد في الرجعة إليها، وانحاز
قوم منهم إلى الشاش، فلما ولى نصر بْن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى
الفيئة والمراجعة إلى بلادهم، وأعطاهم كل ما أرادوا.
قَالَ: وكانوا سألوا شروطا أنكرها أمراء خراسان، منها الا يعاقب من كان
مسلما وارتد عن الإسلام، ولا يعدى عليهم في دين لأحد من الناس، ولا
يؤخذون بقبالة عليهم في بيت المال، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم
إلا بقضية قاض وشهادة العدول، فعاب الناس ذلك على نصر، وكلموه فقال:
أما والله لو عاينتم شوكتهم في المسلمين ونكايتهم مثل الذي عاينت ما
أنكرتم ذلك! فأرسل رسولا إلى هشام في ذلك، فلما قدم الرسول أبى أن ينفذ
ذلك لنصر، فقال الرسول: جربت يا أمير المؤمنين حربنا وصلحنا، فاختر
لنفسك فغضب هشام، فقال الأبرش الكلبي: يا أمير المؤمنين، تألف القوم
واحمل لهم، فقد عرفت نكايتهم كانت في المسلمين، فأنفذ هشام ما سأل.
وفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت الى هشام بْن عبد
الملك، يسأله ضم خراسان إليه وعزل نصر بْن سيار
(7/192)
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان من الأمر
فيه:
ذكر علي عن شيوخه، قَالَ: لما طالت ولاية نصر بْن سيار، ودانت له
خراسان، كتب يوسف بْن عمر إلى هشام حسدا له: إن خراسان دبرة دبرة فإن
رأى أمير المؤمنين أن يضمها إلى العراق فأسرح إليها الحكم بْن الصلت،
فإنه كان مع الجنيد، وولي جسيم أعمالها، فأعمر بلاد أمير المؤمنين
بالحكم.
وأنا باعث بالحكم بْن الصلت إلى أمير المؤمنين، فإنه أديب أريب،
ونصيحته لأمير المؤمنين مثل نصيحتنا ومودتنا أهل البيت فلما أتى هشاما
كتابه بعث إلى دار الضيافة، فوجد فيها مقاتل بن على السغدى، فأتوه به،
فقال: أمن خراسان أنت؟ قَالَ: نعم، وأنا صاحب الترك- قَالَ: وكان قدم
على هشام بخمسين ومائة من الترك- فقال:
أتعرف الحكم بْن الصلت؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فما ولي بخراسان؟ قَالَ:
ولي قرية يقال لها الفارياب، خراجها سبعون ألفا، فأسره الحارث بْن
سريج، قَالَ:
ويحك! وكيف أفلت منه! قَالَ: عرك أذنه، وقفده وخلى سبيله قَالَ:
فقدم عليه الحكم بعد بخراج العراق، فرأى له جمالا وبيانا، فكتب إلى
يوسف:
إن الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك له سعة، وخل الكناني وعمله.
وفي هذه السنة غزا نصر فرغانة غزوته الثانية، واوفد مغراء بْن أحمر إلى
العراق، فوقع فيه عند هشام.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من هشام ويوسف بْن عمر فيه:
ذكر أن نصرا وجه مغراء بْن أحمر إلى العراق وافدا، منصرفه من غزوته
الثانية فرغانة، فقال له يوسف بْن عمر: يا بن أحمر، يغلبكم ابن الأقطع
يا معشر قيس على سلطانكم! فقال: قد كان ذلك أصلح الله الأمير! قَالَ:
فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه فقدموا على هشام، فسألهم عن
أمر خراسان، فتكلم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر
(7/193)
يوسف بْن عمر بخير، فقال: ويحك! أخبرني عن
خراسان، قَالَ: ليس لك جند يا امير المؤمنين احد ولا انجد منهم، من
سواذق في السماء وفرسان مثل الفيله، وعدة وعدد من قوم ليس لهم قائد،
قَالَ: ويحك! فما فعل الكناني؟ قَالَ: لا يعرف ولده من الكبر فرد عليه
مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتي بشبيل بْن عبد الرحمن المازني،
فقال له هشام: أخبرني عن نصر، قَالَ: ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشاب
يخشى سفهه، المجرب المجرب، قد ولي عامة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته
فكتب إلى يوسف بذلك، فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا
طريق البريد، وتكادوا حتى قدموا بيهق- وقد كتب إلى نصر بقول شبيل- وكان
إبراهيم بْن بسام في الوفد، فمكر به يوسف، ونعى له نصرا، وأخبره أنه قد
ولى الحكم بْن الصلت بْن أبي عقيل خراسان فقسم له ابراهيم امر خراسان
كله، حتى قدم عليه إبراهيم بْن زياد رسول نصر، فعرف أن يوسف قد مكر به
وقال: أهلكني يوسف.
وقيل: إن نصرا أوفد مغراء، وأوفد معه حملة بْن نعيم الكلبي، فلما قدموا
على يوسف، أطمع يوسف مغراء، ان هو تنقص نصرا عند هشام أن يوليه السند
فلما قدما عليه ذكر مغراء بأس نصر ونجدته ورأيه، وأطنب في ذلك، ثم
قَالَ: لو كان الله متعنا منه ببقية! فاستوى هشام جالسا، ثم قَالَ:
ببقية ماذا؟ قَالَ: لا يعرف الرجل إلا بجرمه، ولا يفهم عنه حتى يدنى
منه، وما يكاد يفهم صوته من الضعف لأجل كبره فقام حملة الكلبي، فقال:
يا أمير المؤمنين، كذب والله، ما هو كما قَالَ، هو هو فقال هشام: إن
نصرا ليس كما وصف، وهذا أمر يوسف بن عمر حسد لنصر، وقد كان يوسف كتب
إلى هشام يذكر كبر نصر وضعفه، ويذكر له سلم بْن قتيبة فكتب إليه هشام:
إله عن ذكر الكناني، فلما قدم مغراء على يوسف، قَالَ له: قد علمت بلاء
نصر عندي، وقد صنعت به
(7/194)
ما قد علمت، فليس لي في صحبته خير، ولا لي
بخراسان مقام، فأمره بالمقام وكتب إلى نصر: إني قد حولت اسمه، فأشخص
إلي من قبلك من أهله.
وقيل: إن يوسف لما أمر مغراء بعيب نصر، قَالَ: كيف أعيبه مع بلائه
وآثاره الجميلة عندي وعند قومى! فلم يزل به، فقال: فبم اعيبه؟
اعيب تجربته أم طاعته؟ أم يمن نقيبته أم سياسته؟ قَالَ: عبه بالكبر
فلما دخل على هشام تكلم مغراء، فذكر نصرا بأحسن ما يكون، ثم قَالَ في
آخر كلامه: لولا، فاستوى هشام جالسا، فقال: ما لولا! قَالَ:
لولا أن الدهر قد غلب عليه، قَالَ: ما بلغ به ويحك الدهر! قَالَ: ما
يعرف الرجل إلا من قريب، ولا يعرفه إلا بصوته، وقد ضعف عن الغزو
والركوب.
فشق ذلك على هشام فتكلم حملة بن نعيم فلما بلغ نصرا قول مغراء بعث
هارون بْن السياوش إلى الحكم بْن نميلة، وهو في السراجين يعرض الجند،
فأخذ برجله فسحبه عن طنفسة له، وكسر لواءه على رأسه، وضرب بطنفسته
وجهه، وقال: كذلك يفعل الله بأصحاب الغدر! وذكر علي بْن محمد، عن
الحارث بْن أفلح بْن مالك بن أسماء بْن خارجة:
لما ولي نصر خراسان أدنى مغراء بْن أحمر بْن مالك بْن ساريه النميرى
والحكم ابن نميلة بْن مالك والحجاج بْن هارون بْن مالك، وكان مغراء بْن
أحمر النميري رأس أهل قنسرين، فآثر نصر مغراء وسنى منزلته، وشفعه في
حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بْن نميلة على الجوزجان، ثم عقد للحكم
على أهل العالية، وكان أبوه بالبصرة عليهم، وكان بعده عكابة بْن نميلة،
ثم أوفد نصر وفدا من أهل الشام وأهل خراسان، وصير عليهم مغراء، وكان في
الوفد حملة بْن نعيم الكلبي، فقال عثمان بْن صدقة بْن وثاب لمسلم بن
عبد الرحمن ابن مسلم عامل طخارستان:
خيرني مسلم مراكبه ... فقلت حسبي من مسلم حكما
(7/195)
هذا فتى عامر وسيدها ... كفى بمن ساد عامرا
كرما
يعني الحكم بْن نميلة.
قَالَ: فتغير نصر لقيس وأوحشه ما صنع مغراء قَالَ: وكان أبو نميلة صالح
الأبار مولى بني عبس، خرج مع يحيى بْن زيد بْن علي بْن حسين، فلم يزل
معه حتى قتل بالجوزجان وكان نصر قد وجد عليه لذلك، فأتى عبيد الله بْن
بسام صاحب نصر، فقال:
قد كنت في همة حيران مكتئبا ... حتى كفاني عبيد الله تهمامي
ناديته فسما للمجد مبتهجا ... كغرة البدر جلى وجه إظلام
فاسم برأي أبي ليث وصولته ... إن كنت يوم حفاظ بامرئ سام
تظفر يداك بمن تمت مروته ... واختصه ربه منه بإكرام
ماضي العزائم ليثي مضاربه ... على الكريهة يوم الروع مقدام
لا هذر ساحة النادي ولا مذل ... فيه ولا مسكت إسكات إفحام
له من الحلم ثوباه ومجلسه ... إذا المجالس شانت أهل أحلام
قال: فأدخله عبيد الله على نصر، فقال أبو نميلة: أصلحك الله! إني ضعيف،
فإن رأيت أن تأذن لراويتى! فأذن له، فأنشده:
فاز قدح الكلبي فاعتقدت ... مغراء في سعيه عروق لئيم
فأبيني نمير ثم أبيني ... ألعبد مغراء أم لصميم
فلئن كان منكم ما يكون ... الغدر والكفر من خصال الكريم
ولئن كان أصله كان عبدا ... ما عليكم من غدره من شتيم
وليته ليث وأي ولاة ... بأياد بيض وامر عظيم!
اسمنته حتى إذا راح مغبوطا ... بخير من سيبها المقسوم
(7/196)
كاد ساداته بأهون من نهقه ... عير بقفره
مرقوم
فضربنا لغيرنا مثل الكلب ... ذميما والذم للمذموم
وحمدنا ليثا ويأخذ بالفضل ... ذوو الجود والندى والحلوم
فاعلمن يا بني القساورة الغلب ... واهل الصفا وأهل الحطيم
أن في شكر صالحينا لما يد ... حض قول المرهق الموصوم
قد رأى الله ما اتيت ولن ينقص ... نبح الكلاب زهر النجوم
فلما فرغ قَالَ نصر: صدقت، وتكلمت القيسية واعتذروا قَالَ: وأهان نصر
قيسا وباعدهم حين فعل مغراء ما فعل، فقال في ذلك بعض الشعراء:
لقد بغض الله الكرام إليكم ... كما بغض الرحمن قيسا إلى نصر
رأيت أبا ليث يهين سراتهم ... ويدني إليه كل ذي والث غمر
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن هشام بْن عبد الملك، كذلك
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي
معشر، وكذلك قَالَ الواقدي أيضا.
وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا في السنة
التي قبلها، وقد ذكرتهم قبل.
(7/197)
ثم دخلت
سنة أربع وعشرين ومائة
(ذكر الاخبار عما كان فيها من الاحداث)
ابتداء امر ابى مسلم الخراسانى
فمما كان فيها من ذلك مقدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفة يريدون
مكة، وشرى بكير بْن ماهان- في قول بعض أهل السير- أبا مسلم صاحب دعوة
بني العباس من عيسى بْن معقل العجلي.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
وقد اختلف في ذلك، فأما علي بْن محمد، فإنه ذكر أن حمزة بْن طلحة
السلمي حدثه عن أبيه، قَالَ: كان بكير بْن ماهان كاتبا لبعض عمال
السند، فقدمها، فاجتمعوا بالكوفة في دار، فغمز بهم فأخذوا، فحبس بكير
وخلى عن الباقين، وفي الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بْن معقل العجلي، ومعه
أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير فأجابوه إلى رأيه، فقال لعيسى بْن معقل:
ما هذا الغلام؟ قَالَ: مملوك، قَالَ: تبيعه؟ قَالَ: هو لك، قَالَ: أحب
أن تأخذ ثمنه، قَالَ: هو لك بما شئت، فاعطاه أربعمائة درهم، ثم أخرجوا
من السجن، فبعث به إلى إبراهيم فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السراج،
فسمع منه وحفظ، ثم صار إلى أن اختلف إلى خراسان.
وقال غيره: توجه سليمان بْن كثير ومالك بْن الهيثم ولاهز بْن قريظ،
وقحطبة بْن شبيب من خراسان، وهم يريدون مكة في سنة أربع وعشرين ومائة،
فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بْن يونس العجلي، وهو في الحبس، قد اتهم
بالدعاء إلى ولد العباس، ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل، حبسهما يوسف بْن
عمر فيمن حبس من عمال خالد بْن عبد الله، ومعهما أبو مسلم يخدمهما،
فرأوا فيه العلامات، فقالوا: من هذا؟ قالوا: غلام معنا من
(7/198)
السراجين- وقد كان أبو مسلم يسمع عيسى
وإدريس يتكلمان في هذا الرأي فإذا سمعهما بكى- فلما رأوا ذلك منه دعوه
إلى ما هم عليه، فأجاب وقبل.
وفي هذه السنة غزا سليمان بْن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فسلم
وغنم.
وفيها مات- في قول الواقدي- محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عباس وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام بْن إسماعيل، كذلك
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي
معشر، وكذلك قَالَ الواقدي.
وحج في هذه السنة عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك معه امرأته أم
سلمة بنت هشام بْن عبد الملك.
وذكر محمد بْن عمر أن يزيد مولى أبي الزناد حدثه، قَالَ: رأيت محمد ابن
هشام على بابها يرسل بالسلام وألطافه على بابها كثيره، ويعتذر فتأبى،
حتى كان يأيس من قبول هديته، ثم أمرت بقبضها.
وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في
سنة اثنتين وعشرين ومائة وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد ذكرناهم قبل.
(7/199)
ثم دخلت
سنة خمس وعشرين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة النعمان بْن
يزيد بْن عبد الملك الصائفه.
خبر وفاه هشام بن عبد الملك
ومن ذلك وفاة هشام بْن عبد الملك بْن مروان فيها، وكانت وفاته- فيما
ذكر أبو معشر- لست ليال خلون من شهر ربيع الآخر، كذلك حَدَّثَنِي
أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عنه.
وكذلك قَالَ الواقدي والمدائني وغيرهما، غير أنهم قالوا: كانت وفاته
يوم الأربعاء لست ليال خلون من شهر ربيع الآخر، فكانت خلافته في قول
جميعهم تسع عشرة سنة، وسبعة اشهر وأحدا وعشرين يوما في قول المدائني
وابن الكلبي، وفي قول أبي معشر: وثمانية أشهر ونصفا، وفي قول الواقدي:
وسبعة أشهر وعشرة ليال.
واختلف في مبلغ سنه، فقال هشام بْن محمد الكلبي: توفي وهو ابن خمس
وخمسين سنة.
وقال بعضهم: توفي وله اثنتان وخمسون سنة وقال محمد بْن عمر: كان هشام
يوم توفي ابن أربع وخمسين سنة.
وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره، وكان يكنى أبا الوليد |