تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذكر الخبر عن
انتقاض اهل حمص على مروان
وفي هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشام فحاربهم.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمره وعن سبب ذلك:
حدثني أحمد، قَالَ حدثني عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو
هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: لما انصرف مروان إلى منزله من
حران بعد فراغه من أهل الشام لم يلبث إلا ثلاثة أشهر، حتى خالفه أهل
الشام وانتقضوا عليه، وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بْن نعيم، وراسلهم
(7/312)
وكاتبهم، وبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم
بنفسه، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب، فشخص إليهم الأصبغ بْن
ذؤالة الكلبي ومعه بنون له ثلاثة رجال: حمزة وذؤالة وفرافصة ومعاوية
السكسكي- وكان فارس أهل الشام- وعصمة بْن المقشعر وهشام بْن مصاد وطفيل
بن حارثة ونحو ألف من فرسانهم، فدخلوا مدينة حمص ليلة الفطر من سنة سبع
وعشرين ومائة.
قَالَ: ومروان بحماة ليس بينه وبين مدينة حمص إلا ثلاثون ميلا، فأتاه
خبرهم صبيحة الفطر، فجد في السير، ومعه يومئذ إبراهيم بْن الوليد
المخلوع وسليمان بْن هشام، وقد كانا راسلاه وطلبا إليه الأمان، فصارا
معه في عسكره يكرمهما ويدنيهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، ويسيران
معه في موكبه.
فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين، والكلبية فيها قد ردموا
أبوابها من داخل، وهو على عدة معه روابطه، فأحدقت خيله بالمدينة، ووقف
حذاء باب من أبوابها، وأشرف على جماعة من الحائط، فناداهم مناديه:
ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا: فإنا على طاعتك لم ننكث، فقال لهم: فإن
كنتم على ما تذكرون فافتحوا، ففتحوا الباب، فاقتحم منه عمرو بن الوضاح
في الوضاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلوهم في داخل المدينة، فلما
كثرتهم خيل مروان، انتهوا إلى باب من أبواب المدينة يقال له باب تدمر،
فخرجوا منه والروابط عليه فقاتلوهم، فقتل عامتهم، وافلت الأصبغ بن
ذؤاله والسكسكى واسر ابنا الأصبغ: ذؤالة وفرافصة في نيف وثلاثين رجلا
منهم، فاتى بهم مروان فقتلهم وهو واقف، وأمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة
او ستمائه، فصلبوا حول المدينة، وهدم من حائط مدينتها نحوا من غلوة
وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق، فحاصروا أميرهم زامل بْن عمرو، وولوا
عليهم يزيد بْن خالد القسري وثبت مع زامل المدينة وأهلها وقائد في نحو
أربعمائة، يقال له أبو هبار القرشي فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد
بْن الكوثر بْن زفر بْن الحارث- واسمه مجزأة- وعمرو بْن الوضاح في عشرة
آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج أبو هبار وخيله من
المدينة، فهزموهم واستباحوا عسكرهم وحرقوا المزة من قرى اليمانية، ولجأ
يزيد بْن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل المزة، فدل عليهما
زامل، فأرسل إليهما، فقتلا
(7/313)
قبل أن يوصل بهما إليه، فبعث برأسيهما الى
مروان بحمص، وخرج ثابت ابن نعيم من أهل فلسطين، حتى أتى مدينة طبرية،
فحاصر أهلها، وعليها الوليد بْن معاوية بْن مروان، ابن أخي عبد الملك
بْن مروان، فقاتلوه أياما، فكتب مروان إلى أبي الورد ان يشخص إليهم
فيمدهم، قَالَ:
فرحل من دمشق بعد أيام، فلما بلغهم دنوه خرجوا من المدينة على ثابت ومن
معه، فاستباحوا عسكرهم، فانصرف إلى فلسطين منهزما، فجمع قومه وجنده،
ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية، وتفرق من معه، وأسر ثلاثة رجال من
ولده، وهم نعيم وبكر وعمران، فبعث بهم إلى مروان فقدم بهم عليه، - وهو
بدير أيوب- جرحى، فأمر بمداواة جراحاتهم، وتغيب ثابت بْن نعيم، فولى
الرماحس بْن عبد العزيز الكناني فلسطين، وأفلت مع ثابت من ولده رفاعة
ابن ثابت- وكان أخبثهم- فلحق بمنصور بْن جمهور، فأكرمه وولاه وخلفه مع
أخ له يقال له منظور بْن جمهور، فوثب عليه فقتله، فبلغ منصورا وهو
متوجه إلى الملتان، وكان أخوه بالمنصورة، فرجع إليه فأخذه، فبنى له
أسطوانة من آجر مجوفة، وأدخله فيها، ثم سمره إليها، وبنى عليه.
قَالَ: وكتب مروان إلى الرماحس في طلب ثابت والتلطف له، فدل عليه رجل
من قومه فأخذ ومعه نفر، فأتي به مروان موثقا بعد شهرين، فأمر به وببنيه
الذين كانوا في يديه، فقطعت أيديهم وأرجلهم، ثم حملوا إلى دمشق،
فرأيتهم مقطعين، فأقيموا على باب مسجدها، لأنه كان يبلغه أنهم يرجفون
بثابت، ويقولون: إنه أتى مصر، فغلب عليها.
وقتل عامل مروان بها وأقبل مروان من دير أيوب حتى بايع لابنيه عبيد
الله وعبد الله، وزوجهما ابنتي هشام بْن عبد الملك، أم هشام وعائشة،
وجمع لذلك اهل بيته جميعا، من ولد عبد الملك محمد وسعيد وبكار وولد
الوليد وسليمان ويزيد وهشام وغيرهم من قريش ورءوس العرب، وقطع على أهل
الشام بعثا وقواهم، وولى على كل جند منهم قائدا منهم، وأمرهم باللحاق
بيزيد بْن عمر بْن هبيرة وكان قبل مسيره إلى الشام وجهه في عشرين ألفا
من أهل قنسرين والجزيرة، وأمره أن ينزل دورين إلى أن يقدم، وصيره
(7/314)
مقدمة له، وانصرف من دير أيوب إلى دمشق،
وقد استقامت له الشام كلها ما خلا تدمر، وأمر بثابت بْن نعيم وبنيه
والنفر الذين قطعهم فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق، قَالَ: فرأيتهم حين
قتلوا وصلبوا قَالَ: واستبقى رجلا منهم يقال له عمرو بْن الحارث
الكلبي، وكان- فيما زعموا- عنده علم من أموال كان ثابت وضعها عند قوم،
ومضى بمن معه، فنزل القسطل من أرض حمص مما يلي تدمر، بينهما مسيرة
ثلاثة أيام، وبلغه أنهم قد عوروا ما بينه وبينها من الآبار، وطموها
بالصخر، فهيأ المزاد والقرب والأعلاف والإبل، فحمل ذلك له ولمن معه،
فكلمه الابرش بن الوليد وسليمان ابن هشام وغيرهما، وسألوه أن يعذر
إليهم، ويحتج عليهم فأجابهم إلى ذلك فوجه الأبرش إليهم أخاه عمرو بْن
الوليد، وكتب إليهم يحذرهم ويعلمهم أنه يتخوف أن يكون هلاكه وهلاك
قومه، فطردوه ولم يجيبوه، فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجه إليهم،
ويؤجله أياما، ففعل، فأتاهم فكلمهم وخوفهم وأعلمهم أنهم حمقى، وأنه لا
طاقة لهم به وبمن معه، فأجابه عامتهم، وهرب من لم يثق به منهم إلى برية
كلب وباديتهم، وهم السكسكي وعصمة بْن المقشعر وطفيل بْن حارثة ومعاوية
بْن أبي سفيان بْن يزيد بْن معاوية، وكان صهر الأبرش على ابنته وكتب
الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان: أن اهدم حائط مدينتهم،
وانصرف إلي بمن بايعك منهم.
فانصرف إليه ومعه من رءوسهم الأصبغ بْن ذؤالة وابنه حمزة وجماعة من
رءوسهم، وانصرف مروان بهم على طريق البرية على سورية ودير اللثق، حتى
قدم الرصافة ومعه سليمان بْن هشام وعمه سعيد بْن عبد الملك وإخوته
جميعا وإبراهيم المخلوع وجماعة من ولد الوليد وسليمان ويزيد، فأقاموا
بها يوما، ثم شخص إلى الرقة فاستأذنه سليمان، وسأله أن يأذن له أن يقيم
أياما ليقوي من معه من مواليه، ويجم ظهره ثم يتبعه، فأذن له ومضى
مروان، فنزل
(7/315)
عند واسط على شاطئ الفرات في عسكر كان
ينزله، فأقام به ثلاثة أيام، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها،
ليقدمه الى العراق لمحاربه الضحاك ابن قيس الشيبانى الحروري، فاقبل من
نحو عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع
قوادهم حتى حلوا بالرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
وفي هذه السنة دخل الضحاك بْن قيس الشيباني الكوفة.
ذكر الأخبار عن خروج الضحاك محكما ودخوله الكوفة، ومن أين كان إقباله
إليها
اختلف في ذلك من أمره، فأما أحمد، فإنه حدثني عن عبد الوهاب ابن
إبراهيم، قَالَ: حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كان سبب خروج
الضحاك أن الوليد حين قتل خرج بالجزيرة حروري يقال له سعيد ابن بهدل
الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة، فيهم الضحاك، فاغتنم قتل الوليد
واشتغال مروان بالشام، فخرج بأرض كفرتوثا، وخرج بسطام البيهسي وهو
مفارق لرأيه في مثل عدتهم من ربيعة، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه،
فلما تقارب العسكران وجه سعيد بْن بهدل الخيبري- وهو أحد قواده، وهو
الذي هزم مروان- في نحو من مائة وخمسين فارسا ليبيته، فانتهى إلى عسكره
وهم غارون، وقد أمر كل واحد منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلل به رأسه،
ليعرف بعضهم بعضا، فبكروا في عسكرهم فأصابوهم في غرة، فقال الخيبري:
إن يك بسطام فإني الخيبري ... أضرب بالسيف وأحمي عسكري
فقتلوا بسطاما وجميع من معه إلا أربعة عشر، فلحقوا بمروان، فكانوا معه
فأثبتهم في روابطه، وولى عليهم رجلا منهم يقال له مقاتل، ويكنى أبا
النعثل ثم مضى سعيد بْن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتيت الأمر بها
واختلاف أهل الشام، وقتال بعضهم بعضا مع عبد الله بْن عمر
(7/316)
والنضر بْن سعيد الحرشي- وكانت اليمانية من
أهل الشام مع عبد الله بْن عمر بالحيرة، والمضرية، مع ابن الحرشي
بالكوفة، فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشية.
قَالَ: فمات سعيد بْن بهدل في وجهه ذلك من طاعون أصابه، واستخلف الضحاك
بْن قيس من بعده، وكانت له امرأة تسمى حوماء، فقال الخيبري في ذلك:
سقى الله يا حوماء قبر ابن بهدل ... إذا رحل السارون لم يترحل
قال: واجتمع مع الضحاك نحو من الف ثم توجه إلى الكوفة، ومر بأرض
الموصل، فاتبعه منها ومن أهل الجزيرة نحو من ثلاثة آلاف، وبالكوفة
يومئذ النضر بْن سعيد الحرشي ومعه المضرية، وبالحيرة عبد الله بْن عمر
في اليمانية، فهم متعصبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة، فلما دنا
إليه الضحاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر والحرشي، فصار أمرهم
واحدا، ويدا على قتال الضحاك، وخندقا على الكوفة، ومعهما يومئذ من أهل
الشام نحو من ثلاثين ألفا، لهم قوة وعدة، ومعهم قائد من أهل قنسرين،
يقال له عباد بْن الغزيل في ألف فارس، قد كان مروان أمد به ابن الحرشي،
فبرزوا لهم، فقاتلوهم، فقتل يومئذ عاصم بْن عمر بْن عبد العزيز وجعفر
بْن عباس الكندي، وهزموهم أقبح هزيمة، ولحق عبد الله بْن عمر في
جماعتهم بواسط، وتوجه ابن الحرشي- وهو النضر- وجماعه المضرية واسماعيل
ابن عبد الله القسري إلى مروان، فاستولى الضحاك والجزرية على الكوفة
وأرضها، وجبوا السواد ثم استخلف الضحاك رجلا من أصحابه- يقال له ملحان-
على الكوفة في مائتي فارس، ومضى في عظم اصحابه الى عبد الله ابن عمر
بواسط، فحاصره بها، وكان معه قائد من قواد أهل قنسرين يقال له عطية
الثعلبى- وكان من الأشداء- فلما تخوف محاصرة الضحاك خرج في سبعين أو
ثمانين من قومه متوجها إلى مروان، فخرج على القادسية، فبلغ ملحانا
ممره، فخرج في أصحابه مبادرا يريده، فلقيه على قنطرة السيلحين- وملحان
قد تسرع في نحو من ثلاثين فارسا- فقاتله
(7/317)
فقتله عطية وناسا من أصحابه، وانهزم بقيتهم
حتى دخلوا الكوفة، ومضى عطية حتى لحق فيمن معه مروان.
وأما أبو عبيدة معمر بْن المثنى، فإنه قَالَ: حدثني أبو سعيد، قَالَ:
لما مات سعيد بْن بهدل المري، وبايعت الشراه للضحاك، اقام بشهر زور
وثابت إليه الصفرية من كل وجه حتى صار في أربعة آلاف، فلم يجتمع مثلهم
لخارجي قط قبله قَالَ: وهلك يزيد بْن الوليد وعامله على العراق عبد
الله بْن عمر، فانحط مروان من أرمينية حتى نزل الجزيرة، وولي العراق
النضر بْن سعيد- وكان من قواد ابن عمر- فشخص إلى الكوفة، ونزل ابن عمر
الحيرة، فاجتمعت المضرية إلى النضر واليمانية إلى ابن عمر، فحاربه
أربعة أشهر، ثم أمد مروان النضر بابن الغزيل، فأقبل الضحاك نحو الكوفة
وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة، فأرسل ابن عمر إلى النضر: هذا لا يريد
غيري وغيرك، فهلم نجتمع عليه فتعاقدا عليه، وأقبل ابن عمر، فنزل تل
الفتح وأقبل الضحاك ليعبر الفرات، فأرسل إليه ابن عمر حمزة بْن الأصبغ
بْن ذؤالة الكلبي ليمنعه من العبور، فقال عبيد الله بْن العباس الكندي:
دعه يعبر إلينا، فهو أهون علينا من طلبه فأرسل ابن عمر إلى حمزة يكفه
عن ذلك، فنزل ابن عمر الكوفة، وكان يصلي في مسجد الأمير بأصحابه،
والنضر بْن سعيد في ناحية الكوفة يصلي بأصحابه، لا يجامع ابن عمر ولا
يصلي معه، غير أنهما قد تكافا واجتمعا على قتال الضحاك، وأقبل الضحاك
حين رجع حمزة حتى عبر الفرات، ونزل النخيلة يوم الأربعاء في رجب سنة
سبع وعشرين ومائة، فخف إليهم أهل الشام من أصحاب ابن عمر والنضر، قبل
أن ينزلوا، فأصابوا منهم أربعة عشر فارسا وثلاث عشرة امرأة ثم نزل
الضحاك وضرب عسكره، وعبى أصحابه، وأراح، ثم تغادوا يوم الخميس،
فاقتتلوا قتالا شديدا، فكشفوا ابن عمر وأصحابه، وقتلوا أخاه عاصما،
قتله البرذون بْن مرزوق الشيباني، فدفنه بنو الأشعث بْن قيس في دارهم،
وقتلوا جعفر بْن العباس الكندي أخا عبيد الله، وكان جعفر على شرطة عبد
الله بْن عمر، وكان
(7/318)
الذي قتل جعفرا عبد الملك بْن علقمة بْن
عبد القيس، وكان جعفر حين رهقه عبد الملك نادى ابن عم له يقال له
شاشلة، فكر عليه شاشلة، وضربه رجل من الصفرية، ففلق وجهه.
قَالَ أبو سعيد: فرأيته بعد ذلك كأن له وجهين، وأكب عبد الملك على جعفر
فذبحه ذبحا، فقالت أم البرذون الصفرية:
نحن قتلنا عاصما وجعفرا ... والفارس الضبي حين أصحرا
ونحن جئنا الخندق المقعرا.
فانهزم أصحاب ابن عمر، وأقبل الخوارج، فوقفوا على خندقنا إلى الليل ثم
انصرفوا، ثم تغادينا يوم الجمعه، فو الله ما تتاممنا حتى هزمونا،
فدخلنا خنادقنا، وأصبحنا يوم السبت، فإذا الناس يتسللون ويهربون إلى
واسط، ورأوا قوما لم يروا مثلهم قط أشد بأسا، كأنهم الأسد عند أشبالها،
فذهب ابن عمر ينظر أصحابه، فإذا عامتهم قد هربوا تحت الليل، ولحق عظمهم
بواسط، فكان ممن لحق بواسط النضر بْن سعيد وإسماعيل بن عبد الله ومنصور
ابن جمهور والأصبغ بْن ذؤالة وابناه: حمزة وذؤالة، والوليد بْن حسان
الغساني وجميع الوجوه، وبقي ابن عمر فيمن بقي من أصحابه مقيما لم يبرح.
ويقال: إن عبد الله بْن عمر لما ولي العراق ولي الكوفة عبيد الله بْن
العباس الكندي وعلى شرطه عمر بْن الغضبان بْن القبعثري، فلم يزالا على
ذلك حتى مات يزيد بْن الوليد، وقام إبراهيم بْن الوليد، فأقر ابن عمر
على العراق، فولى ابن عمر أخاه عاصما على الكوفة، وأقر ابن الغضبان على
شرطه، فلم يزالوا على ذلك حتى خرج عبد الله بْن معاوية فاتهم عمر بْن
الغضبان، فلما انقضى أمر عبد الله بْن معاوية ولى عبد الله بْن عمر عمر
بْن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بن الخطاب
الكوفة، وعلى شرطه الحكم بْن عتيبة الأسدي من أهل الشام، ثم عزل عمر بن
عبد الحميد عن الكوفه، ثم عزل عمر بن الغضبان عن شرطه وولى الوليد بْن
حسان الغساني، ثم ولى إسماعيل بْن عبد الله القسري وعلى شرطه أبان بْن
الوليد، ثم عزل إسماعيل
(7/319)
وولى عبد الصمد بْن أبان بْن النعمان بْن
بشير الأنصاري، ثم عزل فولى عاصم بْن عمر، فقدم عليه الضحاك بْن قيس
الشيباني.
ويقال: إنما قدم الضحاك وإسماعيل بْن عبد الله القسري في القصر وعبد
الله بْن عمر بالحيرة وابن الحرشي بدير هند، فغلب الضحاك على الكوفة،
وولى ملحان بْن معروف الشيباني عليها، وعلى شرطه الصفر من بني حنظلة-
حروري- فخرج ابن الحرشي يريد الشام، فعارضه ملحان، فقتله ابن الحرشي
فولى الضحاك على الكوفه حسان فولى حسان ابنه الحارث على شرطه.
وقال عبد الله بْن عمر يرثي أخاه عاصما لما قتله الخوارج:
رمى غرضي ريب الزمان فلم يدع ... غداة رمى للقوس في الكف منزعا
رمى غرضي الأقصى فأقصد عاصما ... أخا كان لي حرزا ومأوى ومفزعا
فإن تك أحزان وفائض عبرة ... أذابت عبيطا من دم الجوف منقعا
تجرعتها في عاصم واحتسيتها ... فأعظم منها ما احتسى وتجرعا
فليت المنايا كن خلفن عاصما ... فعشنا جميعا أو ذهبن بنا معا
وذكر أن عبد الله بْن عمر يقول: بلغني أن عين بْن عين بْن عين بْن عين
يقتل ميم بْن ميم بْن ميم بْن ميم، وكان يأمل أن يقتله، فقتله عبد الله
بن على ابن عبد الله بْن عباس بْن عبد المطلب، فذكر أن أصحاب ابن عمر
لما انهزموا فلحقوا بواسط، قَالَ لابن عمر أصحابه: علام تقيم وقد هرب
الناس! قَالَ:
أتلوم وأنظر، فأقام يوما أو يومين لا يرى إلا هاربا، وقد امتلأت قلوبهم
رعبا من الخوارج، فأمر عند ذلك بالرحيل إلى واسط، وجمع خالد بْن الغزيل
أصحابه، فلحق بمروان وهو مقيم بالجزيرة، ونظر عبيد الله بْن العباس
الكندي إلى ما لقي الناس، فلم يأمن على نفسه، فجنح إلى الضحاك فبايعه،
وكان معه في عسكره، فقال أبو عطاء السندي يعيره باتباعه الضحاك، وقد
قتل أخاه:
قل لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحي لم يجنح وأنت قتيل
(7/320)
ولم يتبع المراق والثأر فيهم ... وفي كفه
عضب الذباب صقيل
إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ... أباك، فماذا بعد ذاك تقول!
- فلما بلغ عبيد الله بْن العباس هذا البيت من قول ابى عطاء، قَالَ
أقول:
أعضك الله ببظر أمك-
فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ... وطالب وتر، والذليل ذليل
تركت أخا شيبان يسلب بزه ... ونجاك خوار العنان مطول
قَالَ: فنزل ابن عمر منزل الحجاج بْن يوسف بواسط- فيما قيل- في
اليمانية ونزل النضر وأخوه سليمان ابنا سعيد وحنظلة بْن نباتة وابناه
محمد ونباتة في المضرية ذات اليمين إذا صعدت من البصرة، وخلوا الكوفة
والحيرة للضحاك والشراة، وصارت في أيديهم، وعادت الحرب بين عبد الله بن
عمر والنضر ابن سعيد الحرشي إلى ما كان عليه قبل قدوم الضحاك يطلب
النضر أن يسلم إليه عبد الله بْن عمر ولاية العراق بكتاب مروان، وياتى
عبد الله بْن عمر واليمانية مع ابن عمر والنزارية مع النضر، وذلك أن
جند أهل اليمن كانوا مع يزيد الناقص تعصبا على الوليد حيث أسلم خالد
بْن عبد الله القسري إلى يوسف بْن عمر حتى قتله، وكانت القيسية مع
مروان، لأنه طلب بدم الوليد- وأخوال الوليد من قيس، ثم من ثقيف، أمه
زينب بنت محمد بْن يوسف ابنة أخي الحجاج- فعادت الحرب بين ابن عمر
والنضر، ودخل الضحاك الكوفة فأقام بها، واستعمل عليها ملحان الشيباني
في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة، فأقبل منقضا في الشراة إلى واسط، متبعا
لابن عمر والنضر، فنزل باب المضمار.
فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر نكلا عن الحرب فيما بينهما، وصارت كلمتهما
عليه واحدة، كما كانت بالكوفة، فجعل النضر وقواده يعبرون الجسر،
فيقاتلون الضحاك وأصحابه مع ابن عمر ثم يعودون إلى مواضعهم، ولا يقيمون
مع ابن عمر، فلم يزالوا على ذلك: شعبان وشهر رمضان وشوال، فاقتتلوا
يوما من تلك الايام، فاشتد قتالهم، فشد منصور بْن جمهور على قائد
(7/321)
من قواد الضحاك، كان عظيم القدر في الشراة،
يقال له عكرمة بْن شيبان، فضربه على باب القورج، فقطعه باثنين فقتله
وبعث الضحاك قائدا من قواده يدعى شوالا من بني شيبان إلى باب الزاب،
فقال: اضرمه عليهم نارا، فقد طال الحصار علينا، فانطلق شوال ومعه
الخيبري، أحد بني شيبان في خيلهم، فلقيهم عبد الملك بْن علقمة، فقال
لهم: أين تريدون؟ فقال له شوال: نريد باب الزاب، أمرني أمير المؤمنين
بكذا وكذا، فقال: أنا معك، فرجع معه وهو حاسر، لا درع عليه، وكان من
قواد الضحاك أيضا وكان أشد الناس، فانتهوا إلى الباب فأضرموه، فأخرج
لهم عبد الله بْن عمر منصور بن جمهور في ستمائه فارس من كلب، فقاتلوهم
أشد القتال، وجعل عبد الملك بْن علقمة يشد عليهم وهو حاسر، فقتل منهم
عدة، فنظر إليه منصور بْن جمهور، فغاظه صنيعه، فشد عليه فضربه على حبل
عاتقه فقطعه حتى بلغ حرقفته، فخر ميتا، وأقبلت امرأة من الخوارج شادة،
حتى أخذت بلجام منصور بْن جمهور، فقالت: يا فاسق، أجب أمير المؤمنين،
فضرب يدها- ويقال: ضرب عنان دابته فقطعه في يدها- ونجا.
فدخل المدينة الخيبري يريد منصورا، فاعترض عليه ابن عم له من كلب،
فضربه الخيبرى فقتله فقال حبيب بن خدره مولى بنى هلال- وكان يزعم أنه
من أبناء ملوك فارس- يرثي عبد الملك بْن علقمة:
وقائلة ودمع العين يجرى ... على روح ابن علقمة السلام
أأدركك الحمام وأنت سار ... وكل فتى لمصرعه حمام
فلا رعش البدين ولا هدان ... ولا وكل اللقاء ولا كهام
وما قتل على شار بعار ... ولكن يقتلون وهم كرام
طغام الناس ليس لهم سبيل ... شجاني يا بن علقمة الطغام
ثم إن منصورا قَالَ لابن عمر: ما رأيت في الناس مثل هؤلاء قط يعني
الشراة- فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا، واجعلهم بينك وبين
مروان، فإنك إن أعطيتهم الرضا خلوا عنا ومضوا الى مروان،
(7/322)
فكان حدهم وبأسهم عليه، وأقمت أنت مستريحا
بموضعك هذا، فإن ظفروا بها كان ما أردت وكنت عندهم آمنا، وإن ظفر بهم
واردت خلافه وقتاله قاتلته جاما مستريحا، مع أن أمره وأمرهم سيطول،
ويوسعونه شرا.
فقال ابن عمر: لا تعجل حتى نتلوم وننظر، فقال: أي شيء ننتظر! فما
تستطيع أن تطلع معهم ولا تستقر، وإن خرجنا لم نقم لهم، فما انتظارنا
بهم ومروان في راحة، وقد كفيناه حدهم وشغلناهم عنه! أما أنا فخارج لاحق
بهم فخرج فوقف حيال صفهم وناداهم: إني جانح أريد أن أسلم وأسمع كلام
الله- قَالَ: وهي محنتهم- فلحق بهم فبايعهم، وقال: قد أسلمت، فدعوا له
بغداء فتغدى، ثم قَالَ لهم: من الفارس الذي أخذ بعناني يوم الزاب؟ يعني
يوم ابن علقمة- فنادوا يا أم العنبر، فخرجت إليهم، فإذا أجمل الناس،
فقالت له: أنت منصور؟ قَالَ: نعم، قالت:
قبح الله سيفك، اين ما تذكر منه! فو الله ما صنع شيئا، ولا ترك- تعني
ألا يكون قتلها حين أخذت بعنانه فدخلت الجنة- وكان منصور لا يعلم يومئذ
أنها امرأة، فقال: يا أمير المؤمنين، زوجنيها، قَالَ: إن لها زوجا-
وكانت تحت عبيدة بْن سوار التغلبي- قَالَ: ثم إن عبد الله بْن عمر خرج
إليهم في آخر شوال فبايعه.
خبر خروج سليمان بن هشام على مروان بن محمد
4 وفي هذه السنة- أعني سنة سبع وعشرين ومائه- خلع سليمان بن هشام ابن
عبد الملك بْن مروان مروان بْن محمد ونصب الحرب.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما جرى بينهما:
حدثني أحمد بْن زهير، قَالَ: حدثني عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ:
حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: لما شخص مروان من
الرصافة إلى الرقة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحاك بْن قيس
الشيباني استأذنه سليمان بْن هشام في مقام أيام، لإجمام ظهره وإصلاح
امره، فاذن
(7/323)
له ومضى مروان، فأقبل نحو من عشرة آلاف ممن
كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوادهم، حتى جاءوا
الرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته، وقالوا: أنت أرضى منه
عند أهل الشام وأولى بالخلافة، فاستزله الشيطان، فأجابهم، وخرج اليهم
باخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم وسار بجمعهم إلى قنسرين، فكاتب أهل
الشام فانقضوا إليه من كل وجه وجند، وأقبل مروان بعد أن شارف قرقيسيا
منصرفا إليه، وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالثبوت في عسكره من دورين حتى
نزل معسكره بواسط، واجتمع من كان بالهني من موالي سليمان وولد هشام،
فدخلوا حصن الكامل بذراريهم فتحصنوا فيه، وأغلقوا الأبواب دونه، فأرسل
إليهم: ماذا صنعتم؟ خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتموني من
العهود والمواثيق! فردوا علي رسله: إنا مع سليمان على من خالفه فرد
إليهم:
إني أحذركم وأنذركم أن تعرضوا لأحد ممن تبعني من جندي أو يناله منكم
أذى، فتحلوا بأنفسكم، ولا أمان لكم عندي فأرسلوا إليه: إنا سنكف.
ومضى مروان، فجعلوا يخرجون من حصنهم، فيغيرون على من اتبعه من أخريات
الناس وشذان الجند، فيسلبونهم خيولهم وسلاحهم وبلغه ذلك، فتحرق عليهم
غيظا واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفا من أهل الشام والذكوانية
وغيرهم، وعسكر في قرية لبني زفر يقال لها خساف من قنسرين من أرضها فلما
دنا منه مروان قدم السكسكي في نحو سبعة آلاف، ووجه مروان عيسى بْن مسلم
في نحو من عدتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين، فاقتتلوا قتالا شديدا،
والتقى السكسكي وعيسى، وكل واحد منهما فارس بطل، فاطعنا حتى تقصفت
رماحهما، ثم صارا إلى السيوف، فضرب السكسكي مقدم فرس صاحبه، فسقط لجامه
في صدره، وجال به فرسه، فاعترضه السكسكي، فضربه بالعمود فصرعه، ثم نزل
إليه فأسره، وبارز فارسا من فرسان أنطاكية، يقال له سلساق قائد
الصقالبة فأسره، وانهزمت مقدمه مروان وبلغه الخبر وهو في مسيره، فمضى
وطوى على تعبئة، ولم ينزل حتى انتهى
(7/324)
الى سليمان، وقد تعبا له، وتهيأ لقتاله،
فلم يناظره حتى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه، واتبعتهم خيوله تقتلهم
وتأسرهم، وانتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه، ووقف مروان موقفا، وأمر ابنيه
فوقفا موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته في موضع، ثم أمرهم ألا يأتوا بأسير
إلا قتلوه إلا عبدا مملوكا، فأحصى من قتلاهم يومئذ نيف على ثلاثين
ألفا.
قَالَ: وقتل إبراهيم بْن سليمان أكبر ولده، وأتي بخال لهشام بْن عبد
الملك يقال له خالد بْن هشام المخزومي- وكان بادنا كثير اللحم- فأدني
إليه وهو يلهث، فقال له: يا فاسق، أما كان لك في خمر المدينة وقيانها
ما يكفك عن الخروج مع الخراء تقاتلني! قَالَ: يا أمير المؤمنين،
أكرهني، فأنشدك الله والرحم! قَالَ: وتكذب أيضا! كيف أكرهك وقد خرجت
بالقيان والزقاق والبرابط معك في عسكره! فقتله قَالَ: وادعى كثير من
الأسراء من الجند أنهم رقيق، فكف عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع
ما بيع مما أصيب في عسكرهم.
قَالَ: ومضى سليمان مفلولا حتى انتهى إلى حمص، فانضم إليه من أفلت ممن
كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها، ووجه
مروان يوم هزمه قوادا وروابط في جريدة خيل، وتقدم إليهم أن يسبقوا كل
خبر، حتى يأتوا الكامل، فيحدقوا بها الى ان يأتيهم، حنقا عليهم، فأتوهم
فنزلوا عليهم، وأقبل مروان نحوهم حتى نزل معسكره من واسط، فأرسل إليهم
أن انزلوا على حكمي، فقالوا: لا حتى تؤمننا بأجمعنا، فدلف إليهم، ونصب
عليهم المجانيق، فلما تتابعت الحجارة عليهم نزلوا على حكمه، فمثل بهم
واحتملهم أهل الرقة فآووهم، وداووا جراحاتهم، وهلك بعضهم وبقي أكثرهم،
وكانت عدتهم جميعا نحوا من ثلاثمائه ثم شخص إلى سليمان ومن تجمع معه
بحمص، فلما دنا منهم اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من
مروان! هلموا فلنتبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتى نموت جميعا
فمضى على ذلك من فرسانهم من قد وطن
(7/325)
نفسه على الموت نحو من تسعمائة، وولى
سليمان على شطرهم معاوية السكسكي، وعلى الشطر الثانى ثبيتا البهراني
فتوجهوا إليه مجتمعين، على أن يبيتوه إن أصابوا منه غرة، وبلغه خبرهم
وما كان منهم، فتحرز وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبئة، فراموا
تبييته فلم يقدروا، فتهيئوا له وكمنوا في زيتون ظهر على طريقه، في قرية
تسمى تل منس من جبل السماق، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبئة، فوضعوا
السلاح فيمن معه، وانتبذ لهم، ونادى خيوله فثابت إليه من المقدمة
والمجنبتين والساقة، فقاتلوهم من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر،
والتقى السكسكي وفارس من فرسان بني سليم، فاضطربا، فصرعه السلمي عن
فرسه، ونزل إليه، وأعانه رجل من بني تميم، فأتياه به أسيرا وهو واقف،
فقال: الحمد لله الذي أمكن منك فطالما بلغت منا! فقال: استبقني فإني
فارس العرب، قَالَ: كذبت، الذي جاء بك أفرس منك، فأمر به فأوثق، وقتل
ممن صبر معه نحو من ستة آلاف.
قَالَ: وأفلت ثبيت ومن انهزم معه، فلما أتوا سليمان خلف أخاه سعيد ابن
هشام في مدينة حمص، وعرف أنه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر، فأقام
بها، ونزل مروان على حمص، فحاصرهم بها عشرة أشهر.
ونصب عليها نيفا وثمانين منجنيقا، فطرح عليهم حجارتها بالليل والنهار
وهم في ذلك يخرجون إليه كل يوم فيقاتلونه، وربما بيتوا نواحي عسكره،
وأغاروا على الموضع الذى يطمعون في اصابه العورة والفرضه منه.
فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل سألوه أن يؤمنهم على أن يمكنوه
من سعيد بْن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسكي، كان
يغير على عسكرهم، ومن حبشي كان يشتمه ويفتري عليه، فأجابهم إلى ذلك
وقبله وكانت قصة الحبشي انه كان يشرف من الحائط ويربط في ذكره ذكر
حمار، ثم يقول: يا بني سليم، يا أولاد كذا وكذا، هذا لواؤكم!
(7/326)
وكان يشتم مروان، فلما ظفر به دفعه إلى بني
سليم، فقطعوا مذاكيره وأنفه، ومثلوا به، وأمر بقتل المتسمي السكسكي
والاستيثاق من سعيد وابنيه، وأقبل متوجها إلى الضحاك.
وأما غير أبي هاشم مخلد بْن محمد، فإنه ذكر من أمر سليمان بْن هشام بعد
انهزامه من وقعة خساف غير ما ذكره مخلد، والذي ذكره من ذلك أن سليمان
بْن هشام بْن عبد الملك حين هزمه مروان يوم خساف أقبل هاربا، حتى صار
إلى عبد الله بْن عمر، فخرج مع عبد الله بْن عمر إلى الضحاك، فبايعه،
وأخبر عن مروان بفسق وجور وحضض عليه، وقال: أنا سائر معكم في موالي ومن
اتبعني، فسار مع الضحاك حين سار إلى مروان، فقال شبيل ابن عزرة الضبعي
في بيعتهم الضحاك:
ألم تر أن الله أظهر دينه ... فصلت قريش خلف بكر بْن وائل
فصارت كلمة ابن عمر وأصحابه واحدة على النضر بْن سعيد، فعلم أنه لا
طاقة له بهم، فارتحل من ساعته يريد مروان بالشام.
وذكر أبو عبيدة أن بيهسا أخبره: لما دخل ذو القعدة سنة سبع وعشرين
ومائة، استقام لمروان الشام ونفى عنها من كان يخالفه، فدعا يزيد بن عمر
ابن هبيرة، فوجهه عاملا على العراق، وضم إليه اجناد الجزيرة، فاقبل حتى
نزل سعيد بْن عبد الملك، وأرسل ابن عمر إلى الضحاك يعلمه ذلك قَالَ:
فجعل الضحاك لنا ميسان وقال: إنها تكفيكم حتى ننظر عما تنجلي واستعمل
ابن عمر عليها مولاه الحكم بْن النعمان.
فأما أبو مخنف فإنه قَالَ- فيما ذكر عنه هشام: إن عبد الله بْن عمر
صالح الضحاك على أن بيد الضحاك ما كان غلب عليه من الكوفة وسوادها،
وبيد ابن عمر ما كان بيده من كسكر وميسان ودستميسان وكور دجلة والأهواز
وفارس، فارتحل الضحاك حتى لقي مروان بكفرتوثا من ارض الجزيرة.
وقال أبو عبيدة: تهيأ الضحاك ليسير إلى مروان، ومضى النضر يريد
(7/327)
الشام، فنزل القادسية، وبلغ ذلك ملحان
الشيباني عامل الضحاك على الكوفة، فخرج إليه فقاتله وهو في قلة من
الشراة، فقاتله فصبر حتى قتله النضر وقال ابن خدره يرثيه وعبد الملك
بْن علقمة:
كائن كملحان من شار أخي ثقة ... وابن علقمة المستشهد الشاري
من صادق كنت أصفيه مخالصتي ... فباع داري بأعلى صفقة الدار
إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ... أشكو إلى الله خذلاني وإخفاري
وبلغ الضحاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنى بْن عمران من بني
عائدة، ثم سار الضحاك في ذي القعدة، فأخذ الموصل، وانحط ابن هبيرة من
نهر سعيد حتى نزل غزة من عين التمر، وبلغ ذلك المثنى بْن عمران
العائذي، عامل الضحاك على الكوفة، فسار إليه فيمن معه من الشراة، ومعه
منصور بْن جمهور، وكان صار إليه حين بايع الضحاك خلافا على مروان،
فالتقوا بغزة، فاقتتلوا قتالا شديدا أياما متوالية، فقتل المثنى وعزيز
وعمرو- وكانوا من رؤساء أصحاب الضحاك- وهرب منصور، وانهزمت الخوارج،
فقال مسلم حاجب يزيد:
ارت للمثنى يوم غزه حتفه ... واذرت عزيز بين تلك الجنادل
وعمرا أزارته المنية بعد ما ... أطافت بمنصور كفات الحبائل
وقال غيلان بْن حريث في مدحه ابن هبيرة:
نصرت يوم العين إذ لقيتا ... كنصر داود على جالوتا
فلما قتل منهم من قتل في يوم العين، وهرب منصور بْن جمهور، أقبل لا
يلوي حتى دخل الكوفة، فجمع بها جمعا من اليمانية والصفرية ومن كان تفرق
منهم يوم قتل ملحان ومن تخلف منهم عن الضحاك، فجمعهم منصور جميعا، ثم
سار بهم حتى نزل الروحاء، وأقبل ابن هبيرة في أجناده حتى لقيهم،
فقاتلهم أياما ثم هزمهم، وقتل البرذون بْن
(7/328)
مرزوق الشيباني، وهرب منصور ففي ذلك يقول
غيلان بْن حريث:
ويوم روحاء العذيب دففوا ... على ابن مرزوق سمام مزعف
قَالَ: وأقبل ابن هبيرة حتى نزل الكوفة ونفى عنها الخوارج، وبلغ الضحاك
ما لقي أصحابه، فدعا عبيدة بْن سوار التغلبي، فوجهه إليهم، وانحط ابن
هبيرة يريد واسطا وعبد الله بْن عمر بها، وولى على الكوفة عبد الرحمن
بْن بشير العجلي، وأقبل عبيدة بْن سوار مغذا في فرسان أصحابه، حتى نزل
الصراة، ولحق به منصور بْن جمهور، وبلغ ذلك ابن هبيرة فسار إليهم
فالتقوا بالصراة في سنة سبع وعشرين ومائة.
وفي هذه السنة توجه سليمان بْن كثير ولاهز بْن قريظة وقحطبة بْن شبيب-
فيما ذكر- إلى مكة، فلقوا إبراهيم بْن محمد الإمام بها، وأعلموه أن
معهم عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكا ومتاعا كثيرا، فأمرهم بدفع
ذلك إلى ابن عروة مولى محمد بْن علي، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم ذلك
العام، فقال ابن كثير لإبراهيم بْن محمد: إن هذا مولاك.
وفيها كتب بكير بْن ماهان إلى إبراهيم بْن محمد يخبره أنه في أول يوم
من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنه قد استخلف حفص بن
سليمان، وهو رضا للأمر، وكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بأمر
أصحابه، وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو
سلمة إلى خراسان فصدقوه، وقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع قبلهم من
نفقات الشيعة وخمس أموالهم وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بْن عمر
بْن عبد العزيز، وهو عامل مروان على المدينة ومكة والطائف، حَدَّثَنِي
بذلك أحمد بْن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي
معشر وكذلك قال الواقدي وغيره.
وكان العامل على العراق النضر بْن الحرشي، وكان من امره وامر عبد الله
ابن عمر والضحاك الحروري ما قد ذكرت قبل وكان بخراسان نصر بْن سيار
وبها من ينازعه فيها كالكرماني والحارث بْن سريج.
(7/329)
ثم دخلت
سنه ثمان وعشرين ومائه
(ذكر خبر قتل الحارث بن سريج بخراسان) فمما كان فيها من الأحداث قتل
الحارث بْن سريج بخراسان.
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك:
قد مضى ذكر كتاب يزيد بْن الوليد للحارث بأمانه، وخروج الحارث من بلاد
الترك إلى خراسان ومصيره إلى نصر بْن سيار، وما كان من نصر إليه،
واجتماع من اجتمع إلى الحارث مستجيبين له فذكر علي بْن محمد عن شيوخه،
أن ابن هبيرة لما ولي العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان، فقال
الحارث: إنما آمنني يزيد بْن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد، فلا
آمنه فدعا إلى البيعة، فشتم أبو السليل مروان، فلما دعا الحارث إلى
البيعة أتاه سلم بْن أحوز وخالد بْن هريم وقطن بْن محمد وعباد بْن
الأبرد بْن قرة وحماد بْن عامر، وكلموه وقالوا له: لم يصير نصر سلطانه
وولايته في أيدي قومك؟ ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان! وإنما
أتى بك لئلا يجترئ عليك عدوك فخالفته، وفارقت أمر عشيرتك، واطمعت فيهم
عدوهم، فنذكرك الله أن تفرق جماعتنا! فقال الحارث: إني لأرى في يدي
الكرماني ولاية، والأمر في يد نصر، فلم يجبهم بما أرادوا، وخرج إلى
حائط لحمزة بْن أبي صالح السلمي بإزاء قصر بخاراخذاه، فعسكر وأرسل إلى
نصر، فقال له: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر فخرج الحارث فأتى منازل يعقوب
بْن داود، وأمر جهم بْن صفوان، مولى بني راسب، فقرأ كتابا سير فيه
الحارث على الناس، فانصرفوا يكبرون، وأرسل الحارث إلى نصر: اعزل سلم
بْن أحوز عن شرطك، واستعمل بشر بْن بسطام البرجمي، فوقع بينه وبين مغلس
بن زياد كلام، فتفرقت قيس وتميم،
(7/330)
فعزله واستعمل ابراهيم بن عبد الرحمن،
واختاروا رجالا يسمون لهم قوما يعملون بكتاب الله فاختار نصر مقاتل بْن
سليمان ومقاتل بْن حيان، واختار الحارث المغيرة بْن شعبة الجهضمي ومعاذ
بْن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يرضون من السنن، وما يختارونه من
العمال، فيوليهم الثغرين، ثغر سمرقند وطخارستان، ويكتب إلى من عليهما
ما يرضونه من السير والسنن.
فاستأذن سلم بْن أحوز نصرا في الفتك بالحارث، فأبى وولى إبراهيم
الصائغ، وكان يوجه ابنه إسحاق بالفيروزج إلى مرو، وكان الحارث يظهر أنه
صاحب الرايات السود، فأرسل إليه نصر: إن كنت كما تزعم، وأنكم تهدمون
سور دمشق، وتزيلون أمر بني اميه، فخذ منى خمسمائة رأس ومائتي بعير،
واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر، فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت
إني لفي يدك، وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك فقال الحارث: قد علمت
أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني فقال نصر: فقد استبان أنهم
ليسوا على رأيك، ولا لهم مثل بصيرتك، وأنهم هم فساق ورعاع، فاذكرك الله
في عشرين ألفا من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم وعرض نصر على الحارث
ان يوليه ما وراء النهر، ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل، فقال له نصر:
فإن شئت فابدأ بالكرماني فإن قتلته فأنا في طاعتك.
وإن شئت فخل بيني وبينه، فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر باصحابك،
فإذا جزت الري فأنا في طاعتك قَالَ: ثم تناظر الحارث ونصر، فتراضيا أن
يحكم بينهم مقاتل بْن حيان وجهم بْن صفوان، فحكما بأن يعتزل نصر، ويكون
الأمر شورى.
فلم يقبل نصر وكان جهم يقص في بيته في عسكر الحارث، وخالف الحارث نصرا،
ففرض نصر لقومه من بني سلمة وغيرهم، وصير سلما في المدينة في منزل ابن
سوار، وضم إليه الرابطة وإلى هدبة بْن عامر الشعراوى فرسا، وصيره في
المدينة، واستعمل على المدينة عبد السلام بْن يزيد بْن حيان السلمي،
وحول السلاح والدواوين إلى القهندز، واتهم قوما من اصحابه
(7/331)
أنهم كاتبوا الحارث، فأجلس عن يساره من
اتهم ممن لا بلاء له عنده، وأجلس الذين ولاهم واصطنعهم عن يمينه، ثم
تكلم وذكر بني مروان ومن خرج عليهم، كيف أظفر الله به، ثم قَالَ: أحمد
الله وأذم من على يساري، وليت خراسان فكنت يا يونس بْن عبد ربه ممن
أراد الهرب من كلف مئونات مرو، وأنت وأهل بيتك ممن أراد أسد بْن عبد
الله أن يختم أعناقهم، ويجعلهم في الرجالة، فوليتكم إذ وليتكم
واصطنعتكم وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم إذا أردت المسير إلى الوليد،
فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقل، ثم ملأتم الحارث علي، فهلا نظرتم إلى
هؤلاء الأحرار الذين لزموني مؤاسين على غير بلاء! وأشار إلى هؤلاء
الذين عن يمينه فاعتذر القوم إليه، فقبل عذرهم.
وقدم على نصر من كور خراسان حين بلغهم ما صار إليه من الفتنة جماعة،
منهم عاصم بْن عمير الصريمي وأبو الذيال الناجى وعمرو الفادوسبان
السغدى البخاري وحسان بْن خالد الأسدي من طخارستان في فوارس، وعقيل ابن
معقل الليثي ومسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم وسعد الصغير في فرسان.
وكتب الحارث بْن سريج سيرته، فكانت تقرأ في طريق مرو والمساجد فأجابه
قوم كثير، فقرأ رجل كتابه على باب نصر بماجان، فضربه غلمان نصر، فنابذه
الحارث، فأتى نصرا هبيرة بْن شراحيل ويزيد أبو خالد، فأعلماه، فدعا
الحسن بْن سعد مولى قريش، فأمره فنادى: إن الحارث بْن سريج عدو الله قد
نابذ وحارب، فاستعينوا اللَّهُ وَلا حول وَلا قوة إلا بِاللَّهِ وأرسل
من ليلته عاصم بْن عمير إلى الحارث، وقال لخالد بْن عبد الرحمن:
ما نفعل شعارنا غدا؟ فقال مقاتل بْن سليمان: إن الله بعث نبيا فقاتل
عدوا له، فكان شعاره حم لا ينصرون، فكان شعارهم حم لا ينصرون وعلامتهم
على الرماح الصوف.
وكان سلم بْن أحوز وعاصم بْن عمير وقطن وعقيل بن معقل ومسلم
(7/332)
ابن عبد الرحمن وسعيد الصغير وعامر بْن
مالك والجماعة في طرف الطخارية ويحيى بْن حضين وربيعة في البخاريين ودل
رجل من أهل مدينة مرو الحارث على نقب في الحائط، فمضى الحارث فنقب
الحائط، فدخلوا المدينة من ناحية باب بالين وهم خمسون، ونادوا: يا
منصور- بشعار الحارث- وأتوا باب نيق، فقاتلهم جهم بْن مسعود الناجي،
فحمل رجل على جهم فطعنه في فيه فقتله، ثم خرجوا من باب نيق حتى أتوا
قبة سلم بْن أحوز فقاتلهم عصمة بْن عبد الله الأسدي وخضر بْن خالد
والأبرد بْن داود من آل الأبرد بْن قرة، وعلى باب بالين حازم بْن حاتم،
فقتلوا كل من كان يحرسه، وانتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بْن منيع،
ونهاهم الحارث أن ينتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بْن منيع ومنزل
إبراهيم وعيسى ابني عبد الله السلمي إلا الدواب والسلاح، وذلك ليلة
الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة.
قَالَ: وأتى نصرا رسول سلم يخبره دنو الحارث منه، وأرسل إليه: أخره حتى
نصبح، ثم بعث إليه أيضا محمد بْن قطن بْن عمران الأسدي، أنه قد خرج
عليه عامة أصحابه، فأرسل إليه: لا تبدأهم.
وكان الذي أهاج القتال، أن غلاما للنضر بْن محمد الفقيه يقال له عطية،
صار إلى أصحاب سلم، فقال أصحاب الحارث: ردوه إلينا، فأبوا، فاقتتلوا،
فرمي غلاما لعاصم في عينه فمات، فقاتلهم ومعه عقيل بْن معقل فهزمهم،
فانتهوا إلى الحارث وهو يصلي الغداة في مسجد أبي بكرة، مولى بني تميم،
فلما قضى الصلاة دنا منهم، فرجعوا حتى صاروا إلى طرف الطخارية، فدنا
منه رجلان، فناداهما عاصم: عرقبا برذونه، فضرب الحارث أحدهما بعموده
فقتله، ورجع الحارث إلى سكة السغد، فرأى أعين مولى حيان، فنهاه عن
القتال، فقاتل فقتل، وعدل في سكة بني عصمة، فأتبعه حماد بْن عامر
الحماني ومحمد بْن زرعة، فكسر رمحيهما، وحمل على مرزوق مولى سلم، فلما
دنا منه رمى به فرسه، فدخل حانوتا، وضرب برذونه على مؤخره فنفق قَالَ:
وركب سلم حين أصبح الى باب
(7/333)
نيق، فأمرهم بالخندق، فخندقوا وأمر مناديا،
فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة، فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث،
وقاتلهم الليل كله، فلما أصبحنا أخذ أصحاب نصر على الرزيق، فأدركوا عبد
الله بْن مجاعة بْن سعد، فقتلوه وانتهى سلم إلى عسكر الحارث، وانصرف
إلى نصر فنهاه نصر، فقال: لست منتهيا حتى أدخل المدينة على هذا
الدبوسي، فمضى معه محمد ابن قطن وعبيد الله بْن بسام إلى باب درسنكان-
وهو القهندز- فوجده مردوما، فصعد عبد الله بْن مزيد الأسدي السور ومعه
ثلاثة، ففتحوا الباب، ودخل بن أحوز، ووكل بالباب أبا مطهر حرب بْن
سليمان، فقتل سلم يومئذ كاتب الحارث بْن سريج، واسمه يزيد بن داود،
واتى عبد ربه ابن سيسن فقتله، ومضى سلم إلى باب نيق ففتحه، وقتل رجلا
من الجزارين كان دل الحارث على النقب، فقال المنذر الرقاشي ابْن عم
يحيى بْن حضين، يذكر صبر القاسم الشيباني:
ما قاتل القوم منكم غير صاحبنا ... في عصبة قاتلوا صبرا فما ذعروا
هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا ... حتى أتاهم غياث الله فانتصروا
فقاسم بعد أمر الله أحرزها ... وأنت في معزل عن ذاك مقتصر
ويقال: لما غلظ أمر الكرماني والحارث أرسل نصر إلى الكرماني، فأتاه على
عهد، وحضرهم محمد بْن ثابت القاضي ومقدام بْن نعيم أخو عبد الرحمن ابن
نعيم الغامدي وسلم بْن أحوز، فدعا نصر إلى الجماعة، فقال للكرماني:
أنت أسعد الناس بذلك، فوقع بين سلم بْن أحوز والمقدام كلام، فأغلظ له
سلم، فأعانه عليه أخوه، وغضب لهما السغدي بْن عبد الرحمن الحزمي، فقال
سلم: لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف، فقال السغدي: لو مسست السيف لم
ترجع إليك يدك، فخاف الكرماني أن يكون مكرا من نصر، فقام وتعلقوا به،
فلم يجلس، وعاد إلى باب المقصورة.
قَالَ: فتلقوه بفرسه، فركب في المسجد، وقال نصر: أراد الغدر بي، وأرسل
الحارث إلى نصر: إنا لا نرضى بك إماما، فأرسل إليه نصر: كيف
(7/334)
يكون لك عقل، وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك
وغزوت المسلمين بالمشركين! أتراني أتضرع إليك أكثر مما تضرعت! قَالَ:
فأسر يومئذ جهم بْن صفوان صاحب الجهمية، فقال لسلم: ان لي ولثا من ابنك
حارث، قَالَ: ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما آمنتك، ولو ملأت هذه
الملاءة كواكب، وأبرأك إلي عيسى بن مريم ما نجوت، والله لو كنت في بطني
لشققت بطني حتى أقتلك، والله لا يقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت،
وأمر عبد ربه بْن سيسن فقتله، فقال الناس: قتل أبو محرز- وكان جهم يكنى
أبا محرز.
وأسر يومئذ هبيرة بْن شراحيل وعبد الله بْن مجاعة فقال: لا أبقى الله
من استبقاكما، وإن كنتما من تميم ويقال: بل قتل هبيرة، لحقته الخيل عند
دار قديد بْن منبع فقتل قَالَ: ولما هزم نصر الحارث، بعث الحارث ابنه
حاتما إلى الكرماني، فقال له محمد بْن المثنى: هما عدواك، دعهما
يضطربان، فبعث الكرماني السغدي بن عبد الرحمن الحزمي معه، فدخل السغدي
المدينة من ناحية باب ميخان، فأتاه الحارث، فدخل فازه الكرماني، ومع
الكرماني داود ابن شعيب الجدانى ومحمد بْن المثنى، فأقيمت الصلاة، فصلى
بهم الكرماني، ثم ركب الحارث، فسار معه جماعة بْن محمد بْن عزيز أبو
خلف، فلما كان الغد سار الكرماني إلى باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر،
فقتل سعد بْن سلم المراغي، وأخذوا علم عثمان بْن الكرماني، فأول من أتى
الكرماني بهزيمة الحارث وهو معسكر بباب ماسرجسان على فرسخ من المدينة
النضر ابن غلاق السغدي وعبد الواحد بْن المنخل ثم أتاه سواده بن سريج،
وحاتم بن الحارث والخليل بن غزوان العذري، اتوه ببيعه الحارث بْن سريج
وأول من بايع الكرماني يحيى بْن نعيم بْن هبيرة الشيباني، فوجه
الكرماني إلى الحارث بْن سريج سورة بْن محمد الكندى الى اسمانير
والسغدى بن عبد الرحمن أبا طعمة وصعبا أو صعيبا، وصباحا، فدخلوا
المدينة من باب ميخان، حتى أتوا باب ركك، وأقبل الكرماني إلى باب حرب
بْن عامر،
(7/335)
ووجه أصحابه إلى نصر يوم الأربعاء، فتراموا
ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال قَالَ: والتقوا يوم الجمعة،
فانهزمت الأزد، حتى وصلوا إلى الكرماني، فأخذ اللواء بيده فقاتل به،
وحمل الخضر بْن تميم وعليه تجفاف، فرموه بالنشاب، وحمل عليه حبيش مولى
نصر فطعنه في حلقه، فأخذ الخضر السنان بشماله من خلفه، فشب به فرسه،
وحمل فطعن حبيشا فأذراه عن برذونه، فقتله رجالة الكرماني بالعصي.
قَالَ: وانهزم أصحاب نصر، وأخذوا لهم ثمانين فرسا، وصرع تميم ابن نصر،
فأخذوا له برذونين، أخذ أحدهما السغدي بن عبد الرحمن، وأخذ الآخر
الخضر، ولحق الخضر بسلم بْن أحوز، فتناول من ابن أخيه عمودا فضربه
فصرعه، فحمل عليه رجلان من بني تميم فهرب، فرمى سلم بنفسه تحت القناطر
وبه بضع عشرة ضربة على بيضته فسقط، فحمله محمد بْن الحداد إلى عسكر
نصر، وانصرفوا، فلما كان في بعض الليالي خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بْن
عبد الله الأسدي، وكان يحمي أصحاب نصر، فأدركه صالح بْن القعقاع
الأزدي، فقال له عصمة: تقدم يا مزوني، فقال صالح: اثبت يا خصى- وكان
عقيما- فعطف فرسه فشب فسقط، فطعنه صالح فقتله.
وقاتل ابن الديليمري، وهو يرتجز، فقتل إلى جنب عصمة وقتل عبيد الله بْن
حوتمة السلمي، رمى مروان البهراني بجرزه، فقتل، فأتى الكرماني برأسه
فاسترجع- وكان له صديقا- وأخذ رجل يماني بعنان فرس مسلم بْن عبد الرحمن
بْن مسلم فعرفه فتركه واقتتلوا ثلاثة أيام، فهزمت آخر يوم المضرية
اليمن، فنادى الخليل بْن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن، قد دخل الحارث
السوق، وقتل ابن الأقطع، ففت في أعضاد المضرية وكان أول من انهزم
إبراهيم بْن بسام الليثي، وترجل تميم بْن نصر، فأخذ برذونه عبد الرحمن
بْن جامع الكندي، وقتلوا هياجا الكلبي ولقيط بْن أخضر، قتله غلام لهانئ
البزار
(7/336)
قَالَ: ويقال: لما كان يوم الجمعة تأهبوا
للقتال، وهدموا الحيطان ليتسع لهم الموضع، فبعث نصر محمد بْن قطن إلى
الكرماني: إنك لست مثل هذا الدبوسي، فاتق الله، لا تشرع في الفتنة
قَالَ: وبعث تميم بْن نصر شاكريته، وهم في دار الجنوب بنت القعقاع،
فرماهم أصحاب الكرماني من السطوح ونذروا بهم، فقال عقيل بْن معقل لمحمد
بْن المثنى: علام نقتل أنفسنا لنصر والكرماني! هلم نرجع إلى بلدنا
بطخارستان، فقال محمد: إن نصرا لم يف لنا، فلسنا ندع حربه وكان أصحاب
الحارث والكرماني يرمون نصرا وأصحابه بعرادة، فضرب سرادقه وهو فيه فلم
يحوله، فوجه اليهم سلم ابن أحوز فقاتلهم، فكان أول الظفر لنصر، فلما
رأى الكرماني ذلك أخذ لواءه من محمد بْن محمد بْن عميرة، فقاتل به حتى
كسره وأخذ محمد بْن المثنى والزاغ وحطان في كاربكل، حتى خرجوا على
الرزيق، وتميم بْن نصر على قنطرة النهر، فقال محمد بْن المثنى لتميم
حين انتهى إليه: تنح يا صبي وحمل محمد والزاغ معه راية صفراء، فصرعوا
أعين مولى نصر، وقتلوه، وكان صاحب دواة نصر، وقتلوا نفرا من شاكريته
وحمل الخضر بن تميم على سلم بْن أحوز فطعنه، فمال السنان، فضربه بجرز
على صدره وأخرى على منكبه، وضربه على رأسه فسقط، وحمى نصر أصحابه في
ثمانية، فمنعهم من دخول السوق.
قَالَ: ولما هزمت اليمانية مضر، أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية
يعيرونني بانهزامكم، وأنا كاف، فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني، فبعث
إليه نصر يزيد النحوي او خالدا يتوثق منه، أن يفي له بما أعطاه من
الكف.
ويقال: إنما كف الحارث عن قتال نصر أن عمران بْن الفضل الأزدي وأهل
بيته وعبد الجبار العدوي وخالد بْن عبيد الله بن حبيب العدوي وعامة
أصحابه نقموا على الكرماني فعله باهل التبوشكان، وذلك ان أسدا وجهه
اليهم، فنزلوا على حكم أسد، فبقر بطون خمسين رجلا وألقاهم في نهر بلخ،
وقطع أيدي ثلاثمائة منهم وأرجلهم، وصلب ثلاثة، وباع أثقالهم فيمن يزيد،
(7/337)
فنقموا على الحارث عونه الكرماني، وقتاله
نصرا فقال نصر لأصحابه حين تغير الأمر بينه وبين الحارث: ان مضر، لا
تجتمع لي ما كان الحارث مع الكرماني، لا يتفقان على أمر، فالرأي
تركهما، فإنهما يختلفان وخرج إلى جلفر فيجد عبد الجبار الأحول العدوي
وعمر بْن أبي الهيثم الصغدي، فقال لهما: أيسعكما المقام مع الكرماني؟
فقال عبد الجبار: وأنت فلا عدمت آسيا، ما أحلك هذا المحل! فلما رجع نصر
الى مرو امر به فضرب أربعمائة سوط، ومضى نصر إلى خرق، فأقام أربعة أيام
بها، ومعه مسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم وسلم بْن أحوز وسنان الأعرابي،
فقال نصر لنسائه: ان الحارث سيخلفنى فيكن ويحميكن فلما قرب من نيسابور
أرسلوا إليه: ما أقدمك، وقد أظهرت من العصبية أمرا قد كان الله أطفأه؟
وكان عامل نصر على نيسابور ضرار ابن عيسى العامري، فأرسل إليه نصر بْن
سيار سنانا الأعرابي ومسلم بْن عبد الرحمن وسلم بْن أحوز، فكلموهم
فخرجوا، فتلقوا نصرا بالمواكب والجواري والهدايا، فقال سلم: جعلني الله
فداك! هذا الحي من قيس، فإنما كانت عاتبة، فقال نصر:
أنا ابن خندف تنميني قبائلها ... للصالحات وعمي قيس عيلانا
وأقام عند نصر حين خرج من مرو يونس بْن عبد ربه ومحمد بْن قطن وخالد
بْن عبد الرحمن في نظرائهم.
قَالَ: وتقدم عباد بْن عمر الأزدي وعبد الحكيم بْن سعيد العوذي وأبو
جعفر عيسى بْن جرز على نصر من مكة بأبرشهر، فقال نصر لعبد الحكيم:
أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ فقال عبد الحكيم: بل سفهاء قومك، طالت
ولايتها في ولايتك، وصيرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي
ربيعه واليمن حلماء وسفهاء فغلب السفهاء الحكماء فقال عباد: أتستقبل
الأمير بهذا الكلام! قَالَ: دعه فقد صدق، فقال أبو جعفر عيسى بْن جرز-
وهو من أهل قرية على نهر مرو: أيها الأمير، حسبك من هذه الأمور
والولاية،
(7/338)
فإنه قد أطل أمر عظيم، سيقوم رجل مجهول
النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة تكون، فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون
وتضطربون فقال نصر:
ما أشبه أن يكون لقلة الوفاء، واستجراح الناس، وسوء ذات البين وجهت إلى
الحارث وهو بأرض الترك، فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى وشغب، وظاهر
علي فقال أبو جعفر عيسى: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك
ببعيد فوصله نصر قَالَ: وكان سلم بْن أحوز يقول: ما رأيت قوما أكرم
إجابة، ولا أبذل لدمائهم من قيس.
قَالَ: فلما خرج نصر من مرو غلب عليها الكرماني، وقال للحارث: إنما
أريد كتاب الله، فقال قحطبة: لو كان صادقا لأمددته ألف عنان، فقال
مقاتل بْن حيان: أفي كتاب الله هدم الدور وانتهاب الأموال! فحبسه
الكرماني في خيمة في العسكر، فكلمه معمر بْن مقاتل بْن حيان- أو معمر
بْن حيان- فخلاه، فأتى الكرماني المسجد، ووقف الحارث، فخطب الكرماني
الناس، وآمنهم غير محمد بْن الزبير ورجل آخر، فاستأمن لابن الزبير داود
بْن أبي داود بْن يعقوب، ودخل الكاتب فآمنه، ومضى الحارث إلى باب دوران
وسرخس، وعسكر الكرماني في مصلى أسد، وبعث إلى الحارث فأتاه، فأنكر
الحارث هدم الدور وانتهاب الأموال، فهم الكرماني به، ثم كف عنه، فأقام
أياما وخرج بشر بْن جرموز الضبي بخرقان، فدعا إلى الكتاب والسنة، وقال
للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأما إذ كنت مع الكرماني، فقد علمت
أنك إنما تقاتل ليقال: غلب الحارث! وهؤلاء يقاتلون عصبية، فلست مقاتلا
معك واعتزل في خمسه آلاف وخمسمائة- ويقال في أربعة آلاف- وقال: نحن
الفئة العادلة، ندعو إلى الحق ولا نقاتل إلا من يقاتلنا وأتى الحارث
مسجد عياض، فأرسل إلى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى
الكرماني، وبعث الحارث ابنه محمدا فحمل ثقله من دار تميم بْن نصر، فكتب
نصر إلى عشيرته ومضر، أن الزموا الحارث مناصحة
(7/339)
فأتوه، فقال الحارث: إنكم أصل العرب
وفرعها، وأنتم قريب عهد بالهزيمة، فاخرجوا إلي بالأثقال، فقالوا: لم
نكن نرضى بشيء دون لقائه وكان من مدبري عسكر الكرماني مقاتل بْن
سليمان، فأتاه رجل من البخاريين، فقال: أعطني أجر المنجنيق التي
نصبتها، فقال: أقم البينة أنك نصبتها من منفعة المسلمين، فشهد له شيبة
بْن شيخ الأزدي، فأمر مقاتل فصك له إلى بيت المال قَالَ: فكتب أصحاب
الحارث إلى الكرماني: نوصيكم بتقوى الله وطاعته وإيثار أئمة الهدى
وتحريم ما حرم الله من دمائكم، فإن الله جعل اجتماعنا كان إلى الحارث
ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحة في عباده، فعرضنا أنفسنا للحرب
ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف، فصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من
ثواب الله، ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدو، فاتقوا الله
وراجعوا الحق، فإنا لا نريد سفك الدماء بغير حلها.
فأقاموا أياما، فأتى الحارث بْن سريج الحائط فثلم فيه ثلمة ناحية نوبان
عند دار هشام بْن أبي الهيثم، فتفرق عن الحارث أهل البصائر وقالوا:
غدرت فأقام القاسم الشيباني وربيع التيمي في جماعة، ودخل الكرماني من
باب سرخس، فحاذى الحارث، ومر المنخل بْن عمرو الأزدي فقتله السميدع،
أحد بني العدوية، ونادى: يا لثارات لقيط! واقتتلوا، وجعل الكرماني على
ميمنته داود بْن شعيب وإخوته: خالدا ومزيدا والمهلب، وعلى ميسرته سورة
بْن محمد بْن عزيز الكندي، في كندة وربيعة فاشتد الأمر بينهم، فانهزم
أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، والحارث على بغل فنزل
عنه، وركب فرسا فضربه، فجرى وانهزم أصحابه، فبقي في أصحابه، فقتل عند
شجرة، وقتل أخوه سوادة وبشر بْن جرموز وقطن بْن المغيرة بْن عجرد، وكف
الكرماني، وقتل مع الحارث مائة، وقتل من أصحاب الكرماني مائة، وصلب
الحارث عند مدينة مرو بغير رأس.
وكان قتل بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يوما، قتل يوم الأحد لست بقين من
رجب وكان يقال: إن الحارث يقتل تحت زيتونة أو شجرة غبيراء.
فقتل كذلك سنة ثمان وعشرين ومائة وأصاب الكرماني صفائح ذهب للحارث
(7/340)
فأخذها وحبس أم ولده ثم خلى عنها، وكانت
عند حاجب بْن عمرو بْن سلمة بْن سكن بْن جون بْن دبيب قَالَ: وأخذ
أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال ابراهيم: بم
تستحل ما له؟ فقال صالح من آل الوضاح: اسقني دمه، فحال بينه وبينه
مقاتل بْن سليمان، فأتى به منزله قَالَ علي:، قَالَ زهير بْن الهنيد:
خرج الكرماني إلى بشر بْن جرموز، وعسكر خارجا من المدينة، مدينة مرو،
وبشر في أربعة آلاف، فعسكر الحارث مع الكرماني، فأقام الكرماني أياما
بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم تقدم حتى قرب من عسكر بشر، وهو يريد أن
يقاتله، فقال للحارث:
تقدم وندم الحارث على اتباع الكرماني، فقال: لا تعجل الى قتالهم، فانى
اردهم إليك، فخرج من العسكر في عشرة فوارس، حتى أتى عسكر بشر في قرية
الدرزيجان، فأقام معهم وقال: ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية، وجعل
المضريون ينسلون من عسكر الكرماني إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرماني
مضري غير سلمة بْن أبي عبد الله، مولى بني سليم، فإنه قَالَ: والله لا
أتبع الحارث أبدا فإني لم أره إلا غادرا والمهلب بْن إياس، وقال: لا
أتبعه فإني لم أره قط إلا في خيل تطرد فقاتلهم الكرماني مرارا يقتتلون
ثم يرجعون إلى خنادقهم، فمرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء، فالتقوا يوما من
أيامهم، وقد شرب مرثد بْن عبد الله المجاشعي، فخرج سكران على برذون
للحارث، فطعن فصرع، وحماه فوارس من بني تميم، حتى تخلص، وعار البرذون،
فلما رجع لأمه الحارث، وقال: كدت تقتل نفسك، فقال للحارث: إنما تقول
ذلك لمكان برذونك، امراته طالق ان لم آتك ببرذون افره من برذونك من
عسكرهم، فالتقوا من غد، فقال مرثد: اى برذون في عسكرهم افره؟ قالوا:
برذون عبد الله ابن ديسم العنزي- وأشاروا إلى موقفه- حتى وصل إليه،
فلما غشيه رمى ابن ديسم نفسه عن برذونه، وعلق مرثد عنان فرسه في رمحه،
وقاده حتى أتى به الحارث، فقال: هذا مكان برذونك، فلقي مخلد بْن الحسن
مرثدا، فقال له يمازحه: ما أهيأ برذون ابْن ديسم تحتك! فنزل عنه، وقال:
خذه، قَالَ:
أردت أن تفضحني! أخذته منا في الحرب وآخذه في السلم! ومكثوا بذلك
(7/341)
أياما، ثم ارتحل الحارث ليلا، فأتى حائط
مرو فنقب بابا، ودخل الحائط، فدخل الكرماني، وارتحل، فقالت المضرية
للحارث: قد تركنا الخنادق فهو يومنا، وقد فررت غير مرة، فترجل فقال:
أنا لكم فارسا خير مني لكم راجلا، قالوا: لا نرضى إلا أن تترجل، فترجل
وهو بين حائط مرو والمدينة، فقتل الحارث وأخوه وبشر بْن جرموز وعدة من
فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن، فهدموا دور
المضرية، فقال نصر بْن سيار للحارث حين قتل:
يا مدخل الذل على قومه ... بعدا وسحقا لك من هالك!
شؤمك أردى مضرا كلها ... وغض من قومك بالحارك
ما كانت الأزد وأشياعها ... تطمع في عمرو ولا مالك
ولا بني سعد إذا ألجموا ... كل طمر لونه حالك
ويقال: بل قَالَ هذه الأبيات نصر لعثمان بْن صدقة المازني.
وقالت أم كثير الضبية:
لا بارك الله في أنثى وعذبها ... تزوجت مضريا آخر الدهر
أبلغ رجال تميم قول موجعة ... أحللتموها بدار الذل والفقر
إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ... حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر
إني استحيت لكم من بذل طاعتكم ... هذا المزونى يجبيكم على قهر
وقال عباد بْن الحارث:
ألا يا نصر قد برح الخفاء ... وقد طال التمني والرجاء
وأصبحت المزون بأرض مرو ... تقضي في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكم ... على مضر وإن جار القضاء
(7/342)
وحمير في مجالسها قعود ... ترقرق في رقابهم
الدماء
فإن مضر بذا رضيت وذلت ... فطال لها المذلة والشقاء
وإن هي أعتبت فيها وإلا ... فحل على عساكرها العفاء
وقال:
ألا يا ايها المرء ... الذى قد شفه الطرب
أفق ودع الذي قد ... كنت تطلبه ونطلب
فقد حدثت بحضرتنا ... أمور شأنها عجب
الأزد رأيتها ... عزت بمرو وذلت العرب
فجاز الصفر لما ... كان ذاك وبهرج الذهب
وقال أبو بكر بْن إبراهيم لعلي وعثمان ابني الكرماني.
إني لمرتحل أريد بمدحتي ... أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما
سبقا الجياد فلم يزالا نجعه ... لا يعلم الضيف الغريب قرأهما
يستعليان ويجريان الى العلا ... ويعيش في كنفيهما حياهما
أعني عليا إنه ووزيره ... عثمان ليس يذل من والاهما
جريا لكيما يلحقا بأبيهما ... جري الجياد من البعيد مداهما
فلئن هما لحقا به لمنصب ... يستعليان ويلحقان أباهما
ولئن ابر عليهما فلطالما ... جريا فبذهما وبذ سواهما
فلأمدحنهما بما قد عاينت ... عيني وإن لم أحص كل نداهما
فهما التقيان المشار إليهما ... الحاملان الكاملان كلاهما
وهما أزالا عن عريكة ملكه ... نصرا ولاقى الذل إذ عاداهما
نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته ... وتقسمت أسلابه خيلاهما
(7/343)
والحارث بْن سريج إذ قصدوا له ... حتى
تعاور رأسه سيفاهما
أخذا بعفو أبيهما في قدره ... إذ عز قومهما ومن والاهما
وفي هذه السنة وجه إبراهيم بْن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى
أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله، فإني قد أمرته
على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك، فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا من
قابل، فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فاعلمه ابو مسلم انهم لم ينفذوا كتابه
وأمره، فقال إبراهيم: إني قد عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علي،
وذلك أنه كان عرض ذلك قبل أن يوجه أبا مسلم على سليمان بْن كثير، فقال:
لا ألي اثنين أبدا، ثم عرضه على إبراهيم بْن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه
أجمع رأيه على أبي مسلم، وامرهم بالسمع والطاعة، ثم قَالَ: يا عبد
الرحمن، إنك رجل منا أهل البيت، فاحتفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من اليمن
فأكرمهم، وحل بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، وانظر
هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر، فإنهم
العدو القريب الدار، فاقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن
وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل،
فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ- يعني
سليمان بْن كثير- ولا تعصه، وإذا أشكل عليك امر فاكتف به منى.
ذكر الخبر عن مقتل الضحاك الخارجي
وفي هذه السنة قتل الضحاك بْن قيس الخارجي، فيما قَالَ أبو مخنف، ذكر
ذلك هشام بْن محمد عنه
(7/344)
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك:
ذكر أن الضحاك لما حاصر عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز بواسط، وبايعه
منصور بْن جمهور، ورأى عبد الله بْن عمر أنه لا طاقة له به، أرسل إليه:
إن مقامكم علي ليس بشيء، هذا مروان فسر إليه، فإن قاتلته فأنا معك،
فصالحه على ما قد ذكرت من اختلاف المختلفين فيه.
فذكر هشام، عن أبي مخنف، أن الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقي مروان
بكفرتوثا من أرض الجزيرة، فقتل الضحاك يوم التقوا.
واما أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، فقال فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ
بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب بْن إبراهيم عنه أن
الضحاك لما قتل عطية الثعلبي صاحبه وعامله على الكوفة ملحان بقنطرة
السيلحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بْن عمر بواسط، وجه
مكانه من أصحابه رجلا يقال له مطاعن، واصطلح عبد الله بْن عمر والضحاك
عن أن يدخل في طاعته، فدخل وصلى خلفه، وانصرف إلى الكوفة، وأقام ابن
عمر فيمن معه بواسط، ودخل الضحاك الكوفة، وكاتبه أهل الموصل ودعوه إلى
أن يقدم عليهم فيمكنوه منها، فسار في جماعة جنوده بعد عشرين شهرا، حتى
انتهى إليها، وعليها يومئذ عامل لمروان، وهو رجل من بني شيبان من أهل
الجزيرة يقال له القطران بْن أكمة، ففتح أهل الموصل المدينة للضحاك
وقاتلهم القطران في عدة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا، واستولى
الضحاك على الموصل وكورها.
وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص، مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد
الله وهو خليفته بالجزيرة، يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه الى مدينه
نصيبين ليشغل الضحاك عن توسط الجزيرة، فشخص عبد الله إلى نصيبين في
جماعة روابطه، وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية، وخلف بحران قائدا في
ألف أو نحو ذلك، وسار الضحاك من الموصل إلى عبد الله
(7/345)
بنصيبين، فقاتله فلم يكن له قوة لكثرة من
مع الضحاك، فهم فيما بلغنا عشرون ومائة ألف، يرزق الفارس عشرين ومائه
والراجل والبغال المائه والثمانين في كل شهر، وأقام الضحاك على نصيبين
محاصرا لها، ووجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الملك بْن بشر
التغلبي، وبدر الذكواني مولى سليمان بْن هشام في، أربعة آلاف أو خمسة
آلاف حتى وردا الرقة، فقاتلهم من بها من خيل مروان، وهم نحو من خمسمائة
فارس، ووجه مروان حين بلغه نزولهم الرقة خيلا من روابطه، فلما دنوا
منها انقشع أصحاب الضحاك منصرفين إليه، فاتبعتهم خيله، فاستسقطوا من
ساقتهم نيفا وثلاثين رجلا، فقطعهم مروان حين قدم الرقة، ومضى صامدا إلى
الضحاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغز من أرض كفرتوثا، فقاتله
يومه ذلك، فلما كان عند المساء ترجل الضحاك وترجل معه من ذوي الثبات من
أصحابه نحو من ستة آلاف وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه،
وأحدقت بهم خيول مروان فألحوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة، وانصرف من
بقي من أصحاب الضحاك إلى عسكرهم، ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحاك أن
الضحاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل وجاءهم بعض من عاينه
حين ترجل، فأخبرهم بخبره ومقتله، فبكوه وناحوا عليه، وخرج عبد الملك
بْن بشر التغلبي القائد الذي كان وجهه في عسكرهم إلى الرقة حتى دخل
عسكر مروان، ودخل عليه فأعلمه أن الضحاك قتل، فأرسل معه رسلا من حرسه،
معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلبا القتلى حتى استخرجوه،
فاحتملوه حتى أتوا به مروان، وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة، فكبر أهل
عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحاك أنهم قد علموا بذلك، وبعث مروان
برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة، فطيف به فيها.
وقيل: إن الخيبري والضحاك إنما قتلا في سنة تسع وعشرين ومائة.
ذكر الخبر عن مقتل الخيبرى وولايه شيبان
وفي هذه السنة كان أيضا- في قول أبي مخنف- قتل الخيبري الخارجي كذلك
ذكر هشام عنه
(7/346)
ذكر الخبر عن مقتله:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب
بْن إبراهيم، قَالَ:
حدثني أبو هاشم مخلد بْن محمد بْن صالح، قَالَ: لما قتل الضحاك أصبح
أهل عسكره بايعوا الخيبري، وأقاموا يومئذ وغادوه من بعد الغد، وصافوه
وصافهم، وسليمان بْن هشام يومئذ في مواليه وأهل بيته مع الخيبري، وقد
كان قدم على الضحاك وهو بنصيبين، وهم في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل
بيته ومواليه، فتزوج فيهم أخت شيبان الحروري الذي بايعوه بعد قتل
الخيبري، فحمل الخيبري على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشراة،
فهزم مروان وهو في القلب، وخرج مروان من المعسكر هاربا، ودخل الخيبري
فيمن معه عسكره، فجعلوا ينادون بشعارهم: يا خيبري يا خيبري، ويقتلون من
أدركوا حتى انتهوا إلى حجرة مروان، فقطعوا أطنابها، وجلس الخيبري على
فرشه، وميمنة مروان عليها ابنه عبد الله ثابتة على حالها، وميسرته
ثابتة عليها إسحاق بْن مسلم العقيلي، فلما رأى أهل عسكر مروان قلة من
مع الخيبري ثار إليه عبيد من أهل العسكر بعمد الخيام، فقتلوا الخيبري
وأصحابه جميعا في حجرة مروان وحولها، وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر
بخمسة أميال أو ستة منهزما، فانصرف إلى عسكره ورد خيوله عن مواضعها
ومواقفها، وبات ليلته تلك في عسكره فانصرف أهل عسكر الخيبري فولوا
عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصف منذ
يومئذ وكان مروان يوم الخيبري بعث محمد بْن سعيد، وكان من ثقاته وكتابه
إلى الخيبري، فبلغه أنه مالأهم وانحاز إليهم يومئذ، فأتي به مروان
أسيرا فقطع يده ورجله ولسانه.
وفي هذه السنة وجه مروان يزيد بْن عمر بْن هبيرة إلى العراق لحرب من
بها من الخوارج.
وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز، كذلك
قَالَ أَبُو معشر- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن
إِسْحَاق بْن عِيسَى
(7/347)
عنه وكذلك قَالَ الواقدي وغيره.
وقال الواقدي: وافتتح مروان حمص وهدم سورها، وأخذ نعيم بن ثابت الجزامى
فقتله في شوال سنه ثمان، وقد ذكرنا من خالفه في ذلك قبل.
وكان العامل على المدينة ومكة والطائف- فيما ذكر- في هذه السنة عبد
العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز، وبالعراق عمال الضحاك وعبد الله بْن
عمر وعلى قضاء البصرة ثمامة بْن عبد الله، وبخراسان نصر بْن سيار
وخراسان مفتونه |