تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. خلافة أبي إسحاق إبراهيم بْن الوليد
ثم كان إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك بْن مروان غير أنه لم يتم له
أمر.
فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: لم يتم لإبراهيم أمره، وكان
يسلم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالإمرة، وجمعة لا يسلمون عليه لا
بالخلافة ولا بالإمرة، فكان على ذلك أمره حتى قدم مروان بْن محمد فخلعه
وقتل عبد العزيز بْن الحجاج بْن عبد الملك.
وقال هشام بْن محمد: استخلف يزيد بْن الوليد أبا إسحاق إبراهيم بْن
الوليد، فمكث أربعة أشهر ثم خلع في شهر ربيع الآخر من سنة ست وعشرين
ومائة، ثم لم يزل حيا حتى أصيب في سنة اثنتين وثلاثين ومائة أمه أم
ولد.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوهاب
بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد، قَالَ: كانت ولاية
ابراهيم بن الوليد سبعين ليله.
(7/299)
سنة سبع وعشرين ومائة
(ذكر ما كان فيها من الأحداث)
ذكر مسير مروان الى الشام وخلع ابراهيم بن الوليد
فمما كان فيها من ذلك مسير مروان بْن محمد إلى الشام والحرب التي جرت
بينه وبين سليمان بْن هشام بعين الجر.
ذكر ذلك والسبب الذي كانت عنه هذه الوقعة:
قَالَ أبو جعفر: وكان السبب ما ذكرت بعضه، من أمر مسير مروان بعد مقتل
الوليد بن يزيد إلى الجزيرة من أرمينية، وغلبته عليها، مظهرا أنه ثائر
بالوليد، منكر قتله، ثم إظهاره البيعة ليزيد بْن الوليد بعد ما ولاه
عمل أبيه محمد بْن مروان، وإظهاره ما أظهر من ذلك، وتوجيهه وهو بحران
محمد بْن عبد الله بْن علاثة وجماعة من وجوه أهل الجزيرة فحدثني أحمد،
قَالَ:
حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو هاشم مخلد بْن محمد،
قَالَ: لما أتى مروان موت يزيد أرسل إلى ابن علاثة وأصحابه فردهم من
منبج، وشخص إلى إبراهيم بْن الوليد، فسار مروان في جند الجزيرة، وخلف
ابنه عبد الملك في أربعين ألف من الرابطة بالرقة فلما انتهى إلى
قنسرين، وبها أخ ليزيد بْن الوليد يقال له بشر، كان ولاه قنسرين فخرج
إليه فصافه، فنادى الناس، ودعاهم مروان إلى مبايعته، فمال إليه يزيد
بْن عمر بْن هبيرة في القيسية، وأسلموا بشرا وأخا له يقال له مسرور بْن
الوليد، - وكان أخا بشر لأمه وأبيه- فأخذه مروان وأخاه مسرور بْن
الوليد، فحبسهما وسار فيمن معه من أهل الجزيرة وأهل قنسرين، متوجها إلى
أهل حمص، وكان أهل حمص امتنعوا حين مات يزيد بْن الوليد أن يبايعوا
ابراهيم وعبد العزيز ابن الحجاج، فوجه إليه إبراهيم عبد العزيز بْن
الحجاج وجند أهل دمشق، فحاصرهم في مدينتهم، وأغذ مروان السير، فلما دنا
من مدينة حمص، رحل عبد العزيز عنهم، وخرجوا إلى مروان فبايعوه، وساروا
بأجمعهم معه
(7/300)
ووجه إبراهيم بْن الوليد الجنود مع سليمان
بْن هشام، فسار بهم حتى نزل عين الجر، وأتاه مروان وسليمان في عشرين
ومائة ألف فارس ومروان في نحو من ثمانين ألفا فالتقيا، فدعاهم مروان
إلى الكف عن قتاله، والتخلية عن ابني الوليد: الحكم وعثمان، وهما في
سجن دمشق محبوسان، وضمن عنهما ألا يؤاخذاهم بقتلهم أباهما، وألا يطلبا
أحدا ممن ولي قتله، فأبوا عليه، وجدوا في قتاله، فاقتتلوا ما بين
ارتفاع النهار إلى العصر، واستحر القتل بينهم، وكثر في الفريقين وكان
مروان مجربا مكايدا، فدعا ثلاثة نفر من قواده- أحدهم أخ لإسحاق بْن
مسلم يقال له عيسى- فأمرهم بالمسير خلف صفه في خيله وهم ثلاثة آلاف،
ووجه معهم فعله بالفؤوس، وقد ملأ الصفان من أصحابه وأصحاب سليمان بْن
هشام ما بين الجبلين المحيطين بالمرج، وبين العسكرين نهر جرار، وأمرهم
إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر، فيعقدوا جسورا، ويجوزوا إلى
عسكر سليمان، ويغيروا فيه.
قَالَ: فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون بالقتال إلا بالخيل والبارقة
والتكبير في عسكرهم من خلفهم، فلما رأوا ذلك انكسروا، وكانت هزيمتهم،
ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحردهم عليهم، فقتلوا منهم نحوا من سبعة عشر
ألفا، وكف أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم، فلم يقتلوا منهم أحدا،
وأتوا مروان من أسرائهم بمثل عدة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم.
فأخذ مروان عليهم البيعة للغلامين: الحكم وعثمان، وخلى عنهم بعد أن
قواهم.
بدينار دينار، وألحقهم بأهاليهم، ولم يقتل منهم إلا رجلين يقال لأحدهما
يزيد بن العقار وللآخر الوليد بْن مصاد الكلبيان، وكانا فيمن سار إلى
الوليد وولي قتله وكان يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري معهم، فسار
حتى هرب فيمن هرب مع سليمان بْن هشام إلى دمشق، وكان أحدهما- يعني
الكلبيين- على حرس يزيد والآخر على شرطه، فإنه ضربهما في موقفه ذلك
بالسياط، ثم أمر بهما فحبسا فهلكا في حبسه.
قَالَ: ومضى سليمان ومن معه من الفل حتى صبحوا دمشق، واجتمع
(7/301)
إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بْن الحجاج
رءوس من معهم، وهم يزيد بْن خالد القسري وأبو علاقة السكسكي والأصبغ
بْن ذؤالة الكلبي ونظراؤهم، فقال بعضهم لبعض: إن بقي الغلامان ابنا
الوليد حتى يقدم مروان ويخرجهما من الحبس ويصير الأمر إليهما لم
يستبقيا أحدا من قتلة أبيهما، والرأي أن نقتلهما.
فولوا ذلك يزيد بْن خالد- ومعهما في الحبس أبو محمد السفياني ويوسف بْن
عمر- فأرسل يزيد مولى لخالد يقال له أبا الأسد، في عدة من أصحابه، فدخل
السجن، فشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بْن عمر ليقتلوه، وضربت عنقه
وأرادوا قتل أبي محمد السفياني، فدخل بيتا من بيوت السجن فأغلقه، وألقى
خلفه الفرش والوسائد، واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه، فدعوا
بنار ليحرقوه فلم يؤتوا بها، حتى قيل: قد دخلت خيل مروان المدينة وهرب
إبراهيم بْن الوليد، وتغيب، وأنهب سليمان ما كان في بيت المال وقسمه
فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة
. ذكر ظهور عبد الله بْن معاوية بْن عبد الله بن جعفر
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة دعا إلى نفسه عبد الله بْن معاوية بْن
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بالكوفة، وحارب بها
عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز ابن مروان، فهزمه عبد الله بْن عمر،
فلحق بالجبال فغلب عليها.
ذكر الخبر عن سبب خروج عبد الله ودعائه الناس إلى نفسه:
وكان إظهار عبد الله بْن معاوية الخلاف على عبد الله بْن عمر ونصبه
الحرب له- فيما ذكر هشام عن أبي مخنف- في المحرم سنة سبع وعشرين ومائة.
وكان سبب خروجه عليه- فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ عاصم ابن حفص التميمي وغيره من أهل العلم- أن عبد الله
بْن معاوية بْن عبد الله ابن جعفر قدم الكوفة زائرا لعبد الله بْن عمر
بْن عبد العزيز، يلتمس صلته، لا يريد خروجا، فتزوج ابنة حاتم بْن
الشرقي بْن عبد المؤمن بْن شبث بْن
(7/302)
ربعي، فلما وقعت العصبية قَالَ له أهل
الكوفة: ادع إلى نفسك، فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان، فدعا سرا
بالكوفة وابن عمر بالحيرة، وبايعه ابن ضمرة الخزاعي، فدس إليه ابن عمر
فأرضاه، فأرسل إليه: إذا نحن التقينا بالناس انهزمت بهم وبلغ ابن
معاوية، فلما التقى الناس قَالَ ابن معاوية: أن ابن ضمرة قد غدر، ووعد
ابن عمران ينهزم بالناس، فلا يهولنكم انهزامه، فإنه عن غدر يفعل فلما
التقوا انهزم ابن ضمرة، وانهزم الناس، فلم يبق معه أحد، فقال:
تفرقت الظباء على خداش ... فما يدري خداش ما يصيد
فرجع ابن معاوية إلى الكوفة، وكانوا التقوا ما بين الحيرة والكوفة، ثم
خرج إلى المدائن فبايعوه، وأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج فغلب على
حلوان والجبال.
قَالَ: ويقال قدم عبد الله بْن معاوية الكوفة وجمع جمعا، فلم يعلم عبد
الله بْن عمر حتى خرج في الجبانة مجمعا على الحرب، فالتقوا، وخالد بْن
قطن الحارثي على أهل اليمن، فشد عليه الأصبغ بْن ذؤالة الكلبي في أهل
الشام، فانهزم خالد وأهل الكوفة وأمسكت نزار عن نزار ورجعوا، وأقبل
خمسون رجلا من الزيدية إلى دار ابن محرز القرشي يريدون القتال، فقتلوا،
ولم يقتل من أهل الكوفة غيرهم.
قَالَ: وخرج ابن معاوية من الكوفة مع عبد الله بْن عباس التميمي إلى
المدائن، ثم خرج منها فغلب على الماهين وهمذان وقومس وأصبهان والري،
وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، وقال:
فلا تركبن الصنيع الذي ... تلوم أخاك على مثله
(7/303)
ولا يعجبنك قول امرى ... يخالف ما قَالَ في
فعله
وأما أبو عبيدة معمر بْن المثنى، فإنه زعم أن سبب ذلك أن عبد الله
والحسن ويزيد بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر قدموا على عبد الله بْن
عمر، فنزلوا في النخع، في دار مولى لهم، يقال له الوليد بْن سعيد،
فأكرمهم ابن عمر واجازهم، واجرى عليهم كل يوم ثلاثمائة درهم، فكانوا
كذلك حتى هلك يزيد بْن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بْن الوليد
ومن بعده عبد العزيز ابن الحجاج بْن عبد الملك، فقدمت بيعتهما على عبد
الله بن عمر بالكوفه، فبايع الناس لهما، وزادهم في العطاء مائة مائه،
وكتب بيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة، فبينا هو كذلك، إذ أتاه الخبر
بأن مروان بْن محمد قد سار في أهل الجزيرة إلى إبراهيم بْن الوليد،
وأنه امتنع من البيعة له، فاحتبس عبد الله بْن عمر عبد الله بْن معاوية
عنده، وزاده فيما كان يجري عليه، واعده لمروان ابن محمد إن هو ظفر
بإبراهيم بْن الوليد ليبايع له، ويقاتل به مروان، فماج الناس في أمرهم،
وقرب مروان من الشام، وخرج اليه ابراهيم فقاتله مروان، فهزمه وظفر
بعسكره وخرج هاربا، وثبت عبد العزيز بْن الحجاج يقاتل حتى قتل وأقبل
إسماعيل بْن عبد الله أخو خالد بْن عبد الله القسري هاربا حتى أتى
الكوفة، وكان في عسكر إبراهيم، فافتعل كتابا على لسان إبراهيم بولاية
الكوفة، فأرسل إلى اليمانية، فأخبرهم سرا أن إبراهيم بْن الوليد ولاه
العراق، فقبلوا ذلك منه، وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فباكره صلاة
الغداة، فقاتله من ساعته، ومعه عمر بن الغضبان، فلما رأى إسماعيل ذلك-
ولا عهد معه وصاحبه الذي افتعل العهد على لسانه هارب منهزم- خاف أن
يظهر أمره فيفتضح ويقتل، فقال لأصحابه: إني كاره لسفك الدماء، ولم أحس
أن يبلغ الأمر ما بلغ، فكفوا أيديكم فتفرق القوم عنه، فقال لأهل بيته:
إن إبراهيم قد هرب، ودخل مروان دمشق، فحكى ذلك عن
(7/304)
أهل بيته، فانتشر الخبر، واشرأبت الفتنة،
ووقعت العصبية بين الناس.
وكان سبب ذلك أن عبد الله بْن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا عظاما،
ولم يعط جعفر بْن نافع بْن القعقاع بْن شور الذهلي وعثمان بن الخيبرى
أخا بنى تيم اللات بْن ثعلبة شيئا، ولم يسوهما بنظرائهما، فدخلا عليه،
فكلماه كلاما غليظا، فغضب ابن عمر، وأمر بهما، فقام إليهما عبد الملك
الطائي- وكان على شرطه يقوم على رأسه- فدفعهما، فدفعاه وخرجا مغضبين.
وكان ثمامة بْن حوشب بْن رويم الشيباني حاضرا، فخرج مغاضبا لصاحبيه،
فخرجوا جميعا إلى الكوفة، وكان هذا وابن عمر بالحيرة، فلما دخلوا
الكوفة نادوا: يا آل ربيعة، فثارت إليهم ربيعة، فاجتمعوا وتنمروا، وبلغ
الخبر ابن عمر، فأرسل إليهم أخاه عاصما، فأتاهم وهم بدير هند قد
اجتمعوا وحشدوا، فألقى نفسه بينهم، وقال: هذه يدي لكم فاحكموا،
فاستحيوا وعظموا عاصما، وتشكروا له، وأقبل على صاحبيهم فسكتا وكفا،
فلما أمسى ابن عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر بْن الغضبان بمائة ألف،
فقسمها في قومه بني همام بْن مرة بْن ذهل بْن شيبان، وأرسل إلى ثمامة
بْن حوشب بْن رويم بمائة ألف، فقسمها في قومه، وأرسل إلى جعفر بْن نافع
بْن القعقاع بعشرة آلاف، وإلى عثمان بْن الخيبري بعشرة آلاف.
قَالَ أبو جعفر: فلما رأت الشيعة ضعفه اغتمزوا فيه، واجترءوا عليه
وطمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بْن معاوية بْن عبد الله بْن جعفر وكان
الذى ولى ذلك هلال ابن أبي الورد مولى بني عجل، فثاروا في غوغاء الناس
حتى أتوا المسجد، فاجتمعوا فيه وهلال القائم بالأمر، فبايعه ناس من
الشيعة لعبد الله بْن معاوية، ثم مضوا من فورهم إلى عبد الله، فأخرجوه
من دار الوليد بْن سعيد، حتى أدخلوه القصر، وحالوا بين عاصم بْن عمر
وبين القصر، فلحق بأخيه عبد الله بالحيرة، وجاء ابن معاوية الكوفيون
فبايعوه، فيهم عمر بْن الغضبان بْن القبعثري ومنصور بْن جمهور وإسماعيل
بْن عبد الله القسري ومن كان من أهل الشام بالكوفة له أهل وأصل، فأقام
بالكوفة أياما يبايعه الناس، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل،
واجتمع إليه الناس، فخرج يريد عبد الله بْن عمر بالحيرة،
(7/305)
وبرز له عبد الله بْن عمر فيمن كان معه من
أهل الشام، فخرج رجل من اهل الشام يسأله البراز، فبرز له القاسم بْن
عبد الغفار، فقال له الشامي: لقد دعوت حين دعوت، وما أظن أن يخرج إلي
رجل من بكر بْن وائل، والله ما أريد قتالك، ولكن أحببت أن ألقي إليك ما
انتهى إلينا، اخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن، لا منصور ولا
إسماعيل ولا غيرهما إلا وقد كاتب عبد الله بْن عمر، وجاءته كتب مضر،
وما أرى لكم أيها الحي من ربيعه كتابا ولا رسولا، وليسوا مواقيعكم
يومكم حتى تصبحوا فيواقعوكم، فإن استطعتم ألا تكون بكم الحزة فافعلوا،
فإني رجل من قيس، وسنكون غدا بإزائكم، فإن أردتم الكتاب إلى صاحبنا
أبلغته، وإن أردتم الوفاء لمن خرجتم معه فقد أبلغتكم حال الناس فدعا
القاسم رجالا من قومه، فأعلمهم ما قَالَ له الرجل، وان ميمنه ابن عمر
من ربيعة، ومضر ستقف بإزاء ميسرته وفيها ربيعة، فقال عبد الله بْن
معاوية: إن هذه علامة ستظهر لنا إن أصبحنا، فإن أحب عمر بْن الغضبان
فليلقني الليلة، وإن منعه شغل ما هو فيه فهو عذر، وقل له: إني لأظن
القيسي قد كذب، فأتى الرسول عمر بذلك، فرده إليه بكتاب يعلمه ان رسولي
هذا بمنزلتي عندي، ويأمره أن يتوثق من منصور وإسماعيل، وإنما أراد أن
يعلمهما بذلك قَالَ: فأبى ابن معاوية أن يفعل، فأصبح الناس غادين على
القتال، وقد جعل اليمن في الميمنة ومضر وربيعة في الميسرة، ونادى مناد:
من أتى برأس فله كذا وكذا، أو بأسير فله كذا وكذا، والمال عند عمر بن
الغضبان.
والتقى الناس واقتتلوا، وحمل عمر بْن الغضبان على ميمنة ابن عمر
فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما الى الحيرة، ورجمت غوغاء
الناس أهل اليمن من أهل الكوفة، فقتلوا فيهم أكثر من ثلاثين رجلا، وقتل
الهاشمي العباس بْن عبد الله زوج ابنة الملاة.
ذكر عمر أن محمد بْن يحيى حدثه عن أبيه، عن عاتكة بنت الملاة،
(7/306)
تزوجت أزواجا، منهم العباس بْن عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن الحارث بْن نوفل، قتل مع عبد الله بْن
عمر بْن عبد العزيز في العصبية بالعراق وقتل مبكر ابن الحواري بْن زياد
في غيرهم، ثم انكشفوا وفيهم عبد الله بْن معاوية حتى دخل نصر الكوفة،
وبقيت الميسرة من مضر وربيعة ومن بإزائهم من أهل الشام، وحمل أهل القلب
من اهل الشام على الزيدية فانكشفوا، حتى دخلوا الكوفة، وبقيت الميسرة
وهم نحو خمسمائة رجل، واقبل عامر بن ضباره ونباته ابن حنظلة بْن قبيصة
وعتبة بْن عبد الرحمن الثعلبي والنضر بْن سعيد بْن عمرو الحرشي، حتى
وقفوا على ربيعة، فقالوا لعمر بْن الغضبان: أما نحن يا معشر ربيعة، فما
كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بأهل اليمن، ونتخوف عليكم مثلها، فانصرفوا
فقال عمر: ما كنت ببارح أبدا حتى أموت، فقالوا: إن هذا ليس بمغن عنك
ولا عن أصحابك شيئا، فأخذوا بعنان دابته فأدخلوه الكوفة قَالَ عمر:
حدثني علي بْن محمد، عن سليمان بْن عبد الله النوفلي، قَالَ:
حدثني أبي، قَالَ: حدثنا خراش بْن المغيرة بْن عطية مولى لبني ليث، عن
أبيه، قَالَ: كنت كاتب عبد الله بن عمر، فو الله إني لعنده يوما وهو
بالحيرة إذ أتاه آت فقال: هذا عبد الله بْن معاوية قد أقبل في الخلق،
فأطرق مليا وجاءه رئيس خبازيه، فقام بين يديه كأنه يؤذنه بادراك طعامه،
فأومأ إليه عبد الله: أن هاته فجاء بالطعام، وقد شخصت قلوبنا، ونحن
نتوقع أن يهجم علينا ابن معاوية ونحن معه، قَالَ: فجعلت أتفقده: هل
أراه تغير في شيء من أمره من مطعم أو مشرب أو منظر أو أمر أو نهي؟ فلا
والله، ما أنكرت من هيئته قليلا ولا كثيرا، وكان طعامه إذا أتي به وضع
بين كل اثنين منا صحفة قَالَ: فوضعت بيني وبين فلان صحفة، وبين فلان
وفلان صحفة أخرى، حتى عد من كان على خوانه، فلما فرغ من غدائه ووضوئه،
أمر بالمال فأخرج، حتى اخرجت آنيه من ذهب وفضه وكسا، ففرق أكثر ذلك في
قواده، ثم دعا مولى له أو مملوكا كان يتبرك به ويتفاءل باسمه- إما يدعى
ميمونا أو فتحا أو اسما من الاسماء المتبرك بها- فقال له:
(7/307)
خذ لواءك، وامض إلى تل كذا وكذا فاركزه
عليه، وادع أصحابك، وأقم حتى آتيك ففعل وخرج عبد الله وخرجنا معه، حتى
صار إلى التل فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية، فأمر عبد الله
مناديا، فنادى:
من جاء برأس فله خمسمائة، فو الله ما كان بأسرع من أن أتي برأس، فوضع
بين يديه، فامر له بخمسمائة، فدفعت إلى الذي جاء به، فلما رأى اصحابه
وفاءه لصاحب الراس، ثاروا بالقوم، فو الله ما كان إلا هنيهة حتى نظرت
إلى نحو من خمسمائة رأس قد ألقيت بين يديه، وانكشف ابن معاوية ومن معه
منهزمين، فكان أول من دخل الكوفة من أصحابه منهزما أبو البلاد مولى بني
عبس وابنه سليمان بين يديه- وكان أبو البلاد متشيعا- فجعل أهل الكوفة
ينادونهم كل يوم، وكأنهم يعيرونهم بانهزامه، فجعل يصيح بابنه سليمان:
امض ودع النواضح ينفقن قَالَ: ومر عبد الله بْن معاوية فطوى الكوفة،
ولم يعرج بها حتى أتى الجبل.
وأما أبو عبيدة: فإنه ذكر أن عبد الله بْن معاوية وإخوته دخلوا القصر
فلما أمسوا قالوا لعمر بْن الغضبان وأصحابه: يا معشر ربيعة، قد رأيتم
ما صنع الناس بنا، وقد أعلقنا دماءنا في أعناقكم، فإن كنتم مقاتلين
معنا قاتلنا معكم، وإن كنتم ترون الناس خاذلينا وإياكم، فخذوا لنا ولكم
أمانا، فما أخذتم لأنفسكم فقد رضينا لأنفسنا، فقال لهم عمر بن الغضبان:
ما نحن بتاركيكم من إحدى خلتين: إما أن نقاتل معكم، وإما أن نأخذ لكم
أمانا كما نأخذ لأنفسنا، فطيبوا نفسا، فأقاموا في القصر، والزيدية على
افواه السكك يغدو عليهم أهل الشام ويروحون، يقاتلونهم أياما.
ثم إن ربيعة أخذت لأنفسها وللزيدية ولعبد الله بن معاويه أمانا، الا
يتبعوهم ويذهبوا حيث شاءوا وأرسل عبد الله بْن عمر إلى عمر بْن الغضبان
يأمره بنزول القصر وإخراج عبد الله بْن معاوية، فأرسل إليه ابن الغضبان
فرحله ومن معه من شيعته ومن تبعه من أهل المدائن وأهل السواد واهل
(7/308)
الكوفة، فسار بهم رسل عمر حتى أخرجوهم من
الجسر فنزل عمر من القصر
. ذكر خبر رجوع الحارث بن سريج الى مرو
وفي هذه السنة وافى الحارث بْن سريج مرو، خارجا إليها من بلاد الترك
بالأمان الذي كتب له يزيد بْن الوليد، فصار إلى نصر بْن سيار، ثم خالفه
وأظهر الخلاف له، وبايعه على ذلك جمع كبير.
ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بعد قدومه عليه:
ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أن الحارث سار إلى مرو، مخرجه من بلاد
الترك، فقدمها يوم الأحد لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين
ومائة، فتلقاه سلم بْن أحوز، والناس بكشماهن، فقال محمد بن الفضل ابن
عطية العبسي: الحمد لله الذي أقر أعيننا بقدومك، وردك الى فئه الإسلام
وإلى الجماعة قَالَ: يا بني، أما علمت أن الكثير إذا كانوا على معصية
الله كانوا قليلا، وأن القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا كثيرا!
وما قرت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عيني إلا أن يطاع الله
فلما دخل مرو قَالَ: اللهم إني لم أنو قط في شيء مما بيني وبينهم إلا
الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهم وتلقاه نصر فانزله قصر
بخاراخذاه، وأجرى عليه نزلا خمسين درهما في كل يوم، وكان يقتصر على لون
واحد، وأطلق نصر من كان عنده من أهله، أطلق محمد بْن الحارث والألوف
بنت الحارث وأم بكر، فلما أتاه ابنه محمد، قَالَ: اللهم اجعله بارا
تقيا.
قَالَ: وقدم الوضاح بْن حبيب بْن بديل على نصر بْن سيار من عند عبد
الله بْن عمر، وقد أصابه برد شديد، فكساه أثوابا، وأمر له بقرى
وجاريتين، ثم أتى الحارث بن سريج، وعنده جماعة من أصحابه قيام على
رأسه، فقال له: أنا بالعراق، نشهر عظم عمودك وثقله، وإني أحب أن أراه،
فقال: ما هو إلا كبعض ما ترى مع هؤلاء- وأشار إلى أصحابه- ولكني إذا
ضربت به شهرت ضربتني، قَالَ: وكان في عموده بالشامي ثمانية عشر رطلا
(7/309)
قَالَ: ودخل الحارث بْن سريج على نصر،
وعليه الجوشن الذي أصابه من خاقان، وكان خيره بين مائة ألف دينار
دنبكانية وبين الجوشن، فاختار الجوشن فنظرت إليه المرزبانة بنت قديد،
امرأة نصر بْن سيار، فأرسلت إليه بجرز لها سمور، مع جارية لها فقالت،
أقرئي ابن عمي السلام، وقولي له: اليوم بارد فاستدفئ بهذا الجرز
السمور، فالحمد لله الذي أقدمك صالحا فقال للجارية: أقرئي بنت عمي
السلام، وقولي لها: أعارية أم هدية؟ فقالت: بل هدية، فباعه بأربعة آلاف
دينار وقسمها في أصحابه.
وبعث إليه نصر بفرش كثيرة وفرس، فباع ذلك كله، وقسمه في أصحابه بالسوية
وكان يجلس على برذعة، وتثنى له وسادة غليظة وعرض نصر على الحارث أن
يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وارسل الى نصر:
إني لست من هذه الدنيا ولا من هذه اللذات، ولا من تزويج عقائل العرب في
شيء، وإنما أسأل كتاب الله عز وجل والعمل بالسنة واستعمال أهل الخير
والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوك.
وأرسل الحارث إلى الكرماني: إن أعطاني نصر العمل بكتاب الله وما سألته
من استعمال أهل الخير والفضل عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل استعنت
بالله عليه، وأعنتك إن ضمنت لي ما أريد من القيام بالعدل والسنة.
وكان كلما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه، فبايعه محمد بْن حمران
ومحمد ابن حرب بْن جرفاس المنقريان والخليل بْن غزوان العدوى، وعبد
الله ابن مجاعة وهبيرة بْن شراحيل السعديان، وعبد العزيز بن عبد ربه
الليثى، وبشر ابن جرموز الضبي، ونهار بْن عبد الله بْن الحتات
المجاشعي، وعبد الله النباتي وقال الحارث لنصر: خرجت من هذه المدينة
منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور، وأنت تريدني عليه! فانضم الى الحارث
ثلاثة آلاف
(7/310)
خلافه مروان بن محمد
وفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بْن محمد بالخلافة:
ذكر الخبر عن سبب البيعة له:
حدثني أحمد، قَالَ: حدثنا عبد الوهاب بْن إبراهيم، قَالَ: حدثنا أبو
هاشم مخلد بْن محمد مولى عثمان بْن عفان، قَالَ: لما قيل: قد دخلت خيل
مروان دمشق هرب إبراهيم بْن الوليد وتغيب، فانتهب سليمان ما كان في بيت
المال وقسمه فيمن معه من الجند، وخرج من المدينة، وثار من فيها من
موالي الوليد بْن يزيد إلى دار عبد العزيز بْن الحجاج فقتلوه، ونبشوا
قبر يزيد بْن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق فنزل
عاليه، وأتي بالغلامين مقتولين وبيوسف بْن عمر فأمر بهم فدفنوا، وأتي
بأبي محمد السفياني محمولا في كبوله، فسلم عليه بالخلافة، ومروان يومئذ
يسلم عليه بالإمرة، فقال له: مه، فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما، وأنشده
شعرا قاله الحكم في السجن.
قَالَ: وكانا قد بلغا، وولد لأحدهما وهو الحكم والآخر قد احتلم قبل ذلك
بسنتين، قَالَ: فقال الحكم:
ألا من مبلغ مروان عني ... وعمي الغمر طال بذا حنينا
بأني قد ظلمت وصار قومي ... على قتل الوليد متابعينا
أيذهب كلبهم بدمي ومالي ... فلا غثا أصبت ولا سمينا
ومروان بأرض بني نزار ... كليث الغاب مفترس عرينا
ألم يحزنك قتل فتى قريش ... وشقهم عصي المسلمينا
الا فاقر السلام على قريش ... وقيس بالجزيرة أجمعينا
وساد الناقص القدري فينا ... وألقى الحرب بين بني أبينا
(7/311)
فلو شهد الفوارس من سليم ... وكعب لم أكن لهم رهينا
ولو شهدت ليوث بني تميم ... لما بعنا تراث بني أبينا
أتنكث بيعتي من أجل أمي ... فقد بايعتم قبلي هجينا
فليت خئولتى من غير كلب ... وكانت في ولادة آخرينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
ثم قَالَ: ابسط يدك أبايعك، وسمعه من مع مروان من أهل الشام، فكان أول
من نهض معاوية بْن يزيد بْن الحصين بْن نمير ورءوس أهل حمص، فبايعوه،
فأمرهم أن يختاروا لولاية أجنادهم، فاختار أهل دمشق زامل بْن عمرو
الجبراني، وأهل حمص عبد الله بْن شجرة الكندي، وأهل الأردن الوليد بْن
معاوية بْن مروان، وأهل فلسطين ثابت بْن نعيم الجذامي الذي كان استخرجه
من سجن هشام وغدر به بأرمينية، فأخذ عليهم العهود المؤكدة والأيمان
المغلظة على بيعته، وانصرف إلى منزله من حران.
قَالَ أبو جعفر: فلما استوت لمروان بْن محمد الشام وانصرف إلى منزله
بحران طلب الأمان منه ابراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فامنهم، فقدم
عليه سليمان- وكان سليمان بْن هشام يومئذ بتدمر بمن معه من إخوته وأهل
بيته ومواليه الذكوانية- فبايعوا مروان بْن محمد |