تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ثم دخلت

سنة اثنتين وثلاثين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن هلاك قحطبه بن شبيب
فمما كان فيها هلاك قحطبة بْن شبيب ذكر الخبر عن مهلكه وسبب ذلك:
فكان السبب في ذلك أن قحطبة لما نزل خانقين مقبلا إلى ابن هبيرة، وابن هبيرة بجلولاء، ارتحل ابن هبيرة من جلولاء إلى الدسكرة، فبعث- فيما ذكر- قحطبة ابنه الحسن طليعة ليعلم له خبر ابن هبيرة، وكان ابن هبيرة راجعا إلى خندقه بجلولاء، فوجد الحسن بْن هبيرة في خندقه، فرجع إلى أبيه فأخبره بمكان ابن هبيرة، فذكر علي بْن محمد، عن زهير بْن هنيد وجبلة ابن فروخ وإسماعيل بْن أبي إسماعيل والحسن بْن رشيد، أن قحطبة، قَالَ لأصحابه لما رجع ابنه الحسن إليه وأخبره بما أخبره به من أمر ابن هبيرة: هل تعلمون طريقا يخرجنا إلى الكوفة، لا نمر بابن هبيرة؟ فقال خلف بْن المورع الهمذاني، أحد بني تميم: نعم، أنا أدلك، فعبر به تامرا من روستقباذ، ولزم الجادة حتى نزل بزرج سابور، وأتى عكبراء، فعبر دجلة إلى أوانا قَالَ علي: وحدثنا إبراهيم بْن يزيد الخراساني، قَالَ: نزل قحطبة بخانقين وابن هبيرة بجلولاء، بينهما خمسة فراسخ، وأرسل طلائعه إلى ابن هبيرة ليعلم علمه، فرجعوا إليه، فأعلموه أنه مقيم، فبعث قحطبة خازم بْن خزيمة، وأمره أن يعبر دجلة، فعبر وسار بين دجلة ودجيل، حتى نزل كوثبا، ثم كتب إليه قحطبة يأمره بالمسير إلى الأنبار، وأن يحدر إليه ما فيها من السفن وما قدر عليه يعبرها، ويوافيه بها بدمما، ففعل ذلك خازم، ووافاه قحطبة بدمما، ثم عبر قحطبة الفرات في المحرم من سنة اثنتين وثلاثين

(7/412)


ومائة، ووجه الأثقال في البرية، وصارت الفرسان معه على شاطئ الفرات، وابن هبيرة معسكر على فم الفرات من أرض الفلوجة العليا، على رأس ثلاثة وعشرين فرسخا من الكوفة، وقد اجتمع إليه فل ابْن ضبارة، وأمده مروان بحوثرة بْن سهيل الباهلي في عشرين ألفا من أهل الشام وذكر علي أن الحسن بْن رشيد وجبلة بْن فروخ أخبراه أن قحطبة لما ترك ابن هبيرة ومضى يريد الكوفة، قَالَ حوثرة بْن سهيل الباهلي وناس من وجوه أهل الشام لابن هبيرة: قد مضى قحطبة إلى الكوفة، فاقصد أنت خراسان، ودعه ومروان فإنك تكسره، فبالحري أن يتبعك، فقال: ما هذا برأي، ما كان ليتبعني ويدع الكوفة، ولكن الرأي أن أبادره إلى الكوفة ولما عبر قحطبة الفرات، وسار على شاطئ الفرات ارتحل ابن هبيرة من معسكره بأرض الفلوجة، فاستعمل على مقدمته حوثرة بْن سهيل، وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على شاطئ الفرات، ابن هبيرة بين الفرات وسورا، وقحطبة في غربيه مما يلي البر ووقف قحطبة فعبر إليه رجل أعرابي في زورق، فسلم على قحطبة، فقال: ممن أنت؟ قَالَ: من طيّئ، فقال الأعرابي لقحطبة: اشرب من هذا واسقني سؤرك، فغرف قحطبة في قصعة فشرب وسقاه، فقال: الحمد لله الذي نسأ أجلي حتى رأيت هذا الجيش يشرب من هذا الماء قَالَ قحطبة: أتتك الرواية؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ممن أنت؟ قال: من طيّئ، ثم احد بني نبهان، فقال قحطبة: صدقني إمامي، أخبرني أن لي وقعة على هذا النهر لي فيها النصر، يا أخا بني نبهان، هل هاهنا مخاضة؟ قَالَ: نعم ولا أعرفها، وأدلك على من يعرفها، السندي بْن عصم فأرسل إليه قحطبة، فجاء وأبو السندي وعون، فدلوه على المخاضة وأمسى ووافته مقدمة ابن هبيرة في عشرين ألفا، عليهم حوثرة فذكر علي، عن ابن شهاب العبدى، قال: نزل قحطبه الجباريه فقال:
صدقني الإمام أخبرني أن النصر بهذا المكان، وأعطى الجند أرزاقهم، فرد عليه كاتبه ستة عشر ألف درهم، فضل الدرهم والدرهمين وأكثر وأقل، فقال: لا تزالون بخير ما كنتم على هذا ووافته خيول الشام، وقد دلوه على

(7/413)


مخاضة فقال: إنما أنتظر شهر حرام وليلة عاشوراء، وذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف أن قحطبة انتهى إلى موضع مخاضة ذكرت له، وذلك عند غروب الشمس ليلة الأربعاء، لثمان خلون من المحرم سنه اثنتين وثلاثين ومائة، فلما انتهى قحطبة إلى المخاضة اقتحم في عدة من أصحابه، حتى حمل على ابن هبيرة، وولى أصحابه منهزمين، ثم نزلوا فم النيل، ومضى حوثرة حتى نزل قصر ابن هبيرة، وأصبح أهل خراسان وقد فقدوا أميرهم، فألقوا بايدهم، وعلى الناس الحسن بْن قحطبة رجع الحديث إلى حديث علي عن ابن شهاب العبدي: فاما صاحب علم قحطبه خيران او يسار مولاه، فقال له: اعبر، وقال لصاحب رايته مسعود بْن علاج رجل من بكر بْن وائل: اعبر، وقال لصاحب شرطته عبد الحميد بْن ربعي ابى غانم احد بنى نبهان من طيّئ: اعبر يا أبا غانم، وأبشر بالغنيمة وعبر جماعه حتى عبر أربعمائة، فقاتلوا أصحاب حوثرة حتى نحوهم عن الشريعة، ولقوا محمد بْن نباتة فقاتلوه، ورفعوا النيران، وانهزم أهل الشام، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بْن قحطبة على كره منه، وجعلوا على الأثقال رجلا يقال له أبو نصر في مائتين، وسار حميد حتى نزل كربلاء، ثم دير الأعور ثم العباسية قَالَ علي: أخبرنا خالد بْن الأصفح وأبو الذيال، قالوا: وجد قحطبة فدفنه أبو الجهم، فقال رجل من عرض الناس: من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به، فقال مقاتل بْن مالك العكي: سمعت قحطبة يقول:
إن حدث بي حدث فالحسن امير الناس، فبايع الناس حميدا للحسن، وأرسلوا إلى الحسن، فلحقه الرسول دون قرية شاهي، فرجع الحسن فأعطاه أبو الجهم خاتم قحطبة، وبايعوه، فقال الحسن: إن كان قحطبة مات فأنا ابن قحطبة وقتل في هذه الليلة ابن نبهان السدوسي وحرب بْن سلم بن

(7/414)


أحوز وعيسى بْن إياس العدوي ورجل من الأساورة، يقال له مصعب، وادعى قتل قحطبة معن بن زائده ويحيى بن حضين قَالَ علي: قَالَ أبو الذيال: وجدوا قحطبة قتيلا في جدول وحرب بْن سلم بْن أحوز قتيل إلى جنبه، فظنوا أن كل واحد منهما قتل صاحبه قَالَ علي: وذكر عبد الله بْن بدر قَالَ: كنت مع ابن هبيرة ليلة قحطبة فعبروا إلينا، فقاتلونا على مسناة عليها خمسة فوارس، فبعث ابن هبيرة محمد بن نباته، فتلقاهم فدفعناهم دفعا، وضرب معن بْن زائدة قحطبة على حبل عاتقه، فأسرع فيه السيف، فسقط قحطبة في الماء فأخرجوه، فقال: شدوا يدي، فشدوها بعمامة، فقال: إن مت فألقوني في الماء لا يعلم أحد بقتلي وكر عليهم أهل خراسان، فانكشف ابن نباتة وأهل الشام، فاتبعونا وقد أخذ طائفة في وجه، ولحقنا قوم من أهل خراسان، فقاتلناهم طويلا، فما نجونا إلا برجلين من أهل الشام قاتلوا عنا قتالا شديدا، فقال بعض الخراسانية:
دعوا هؤلاء الكلاب بالفارسية فانصرفوا عنا ومات قحطبة وقال قبل موته:
إذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة، فسلموا هذا الأمر إليه ورجع ابن هبيرة إلى واسط وقد قيل في هلاك قحطبة قول غير الذي قاله من ذكرنا قوله من شيوخ علي بْن محمد، والذي قيل من ذلك أن قحطبة لما صار بحذاء ابن هبيرة من الجانب الغربي من الفرات، وبينهما الفرات، قدم الحسن ابنه على مقدمته، ثم أمر عبد الله الطائي ومسعود بْن علاج وأسد بْن المرزبان وأصحابهم بالعبور على خيولهم في الفرات، فعبروا بعد العصر، فطعن أول فارس لقيهم من أصحاب ابن هبيرة، فولوا منهزمين حتى بلغت هزيمتهم جسر سورا حتى اعترضهم سويد صاحب شرطة ابن هبيرة، فضرب وجوههم ووجوه دوابهم حتى ردهم إلى موضعهم، وذلك عند المغرب، حتى انتهوا إلى مسعود بن علاج ومن معه، فكثروهم، فأمر قحطبة المخارق بن غفار وعبد الله بسام وسلمه ابن محمد- وهم في جريدة خيل- أن يعبروا، فيكونوا ردءا لمسعود بْن علاج،

(7/415)


فعبروا ولقيهم محمد بْن نباتة، فحصر سلمة ومن معه بقرية على شاطئ الفرات، وترجل سلمة ومن معه، وحمي القتال، فجعل محمد بْن نباتة يحمل على سلمة وأصحابه، فيقتل العشرة والعشرين، ويحمل سلمة وأصحابه على محمد بْن نباتة وأصحابه، فيقتل منهم.
المائة والمائتين، وبعث سلمة إلى قحطبة يستمده، فأمده بقواده جميعا، ثم عبر قحطبة بفرسانه، وأمر كل فارس أن يردف رجلا، وذلك ليلة الخميس لليال خلون من المحرم، ثم واقع قحطبة محمد بْن نباتة ومن معه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمهم قحطبة حتى ألحقهم بابن هبيرة، وانهزم ابن هبيرة بهزيمة ابن نباتة، وخلوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح والرثة والآنية وغير ذلك، ومضت بهم الهزيمة حتى قطعوا جسر الصراة، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا بفم النيل، وأصبح أصحاب قحطبة وقد فقدوه، فلم يزالوا في رجاء منه إلى نصف النهار، ثم يئسوا منه وعلموا بغرقه، فأجمع القواد على الحسن بْن قحطبة فولوه الأمر وبايعوه، فقام بالأمر وتولاه، وأمر بإحصاء ما في عسكر ابن هبيرة، ووكل بذلك رجلا من اهل خراسان يكنى أبا النضر في مائتي فارس، وأمر بحمل الغنائم في السفن إلى الكوفة، ثم ارتحل الحسن بالجنود حتى نزل كربلاء، ثم ارتحل فنزل سورا، ثم نزل بعدها دير الأعور، ثم سار منه فنزل العباسية.
وبلغ حوثرة هزيمة ابن هبيرة، فخرج بمن معه حتى لحق بابن هبيرة بواسط.
وكان سبب قتل قحطبة- فيما قَالَ هؤلاء- أن أحلم بْن إبراهيم بْن بسام مولى بني ليث قَالَ: لما رأيت قحطبة في الفرات، وقد سبحت به دابته حتى كادت تعبر به من الجانب الذي كنت فيه أنا وبسام بْن إبراهيم أخي- وكان بسام على مقدمة قحطبة- فذكرت من قتل من ولد نصر بْن سيار وأشياء ذكرتها منه، وقد أشفقت على أخي بسام بْن إبراهيم لشيء بلغه عنه، فقلت: لا طلبت بثأر أبدا إن نجوت الليلة قَالَ: فأتلقاه وقد صعدت به دابته لتخرج من الفرات وأنا على الشط، فضربته بالسيف على جبينه، فوثب فرسه، وأعجله الموت، فذهب في الفرات بسلاحه ثم أخبر ابن حصين السعدي بعد موت

(7/416)


أحلم بْن إبراهيم بمثل ذلك، وقال: لولا أنه أقر بذلك عند موته ما أخبرت عنه بشيء.

ذكر خبر خروج محمد بن خالد بالكوفه مسودا
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج محمد بْن خالد بالكوفة، وسود قبل أن يدخلها الحسن بْن قحطبة، وخرج عنها عامل ابن هبيرة، ثم دخلها الحسن.
ذكر الخبر عما كان من أمر من ذكرت:
ذكر هشام، عن أبي مخنف، قَالَ: خرج محمد بْن خالد بالكوفة في ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بْن صالح الحارثي، وعلى شرطه عبد الرحمن ابن بشير العجلي، وسود محمد وسار إلى القصر، فارتحل زياد بْن صالح وعبد الرحمن بْن بشير العجلى ومن معهم من أهل الشام، وخلوا القصر، فدخله محمد بْن خالد، فلما أصبح يوم الجمعة- وذلك صبيحة اليوم الثاني من مهلك قحطبة- بلغه نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيأ للمسير إلى محمد، فتفرق عن محمد عامة من معه حيث بلغهم نزول حوثرة مدينة ابن هبيرة، ومسيره إلى محمد لقتاله، إلا فرسانا من فرسان أهل اليمن، ممن كان هرب من مروان ومواليه وأرسل إليه أبو سلمة الخلال- ولم يظهر بعد- يأمره بالخروج من القصر واللحاق بأسفل الفرات، فإنه يخاف عليه لقلة من معه وكثرة من مع حوثرة- ولم يبلغ أحدا من الفريقين هلاك قحطبة- فأبى محمد بْن خالد أن يفعل حتى تعالى النهار، فتهيأ حوثرة للمسير إلى محمد بْن خالد، حيث بلغه قلة من معه وخذلان العامة له، فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه، فقال له: خيل قد جاءت من أهل الشام، فوجه إليهم عدة من مواليه، فأقاموا بباب دار عمر بْن سعد، إذ طلعت الرايات لأهل الشام، فتهيئوا لقتالهم، فنادى الشاميون: نحن بجيلة، وفينا مليح بْن خالد البجلي، جئنا لندخل في طاعة الأمير فدخلوا، ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل، فلما رأى ذلك حوثرة من صنيع

(7/417)


أصحابه، ارتحل نحو واسط بمن معه، وكتب محمد بْن خالد من ليلته إلى قحطبة، وهو لا يعلم بهلكه، يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة، وعجل به مع فارس، فقدم على الحسن بْن قحطبة، فلما دفع إليه كتاب محمد بْن خالد قرأه على الناس، ثم ارتحل نحو الكوفة، فأقام محمد بالكوفة يوم الجمعة والسبت والأحد وصبحه الحسن يوم الاثنين، فأتوا أبا سلمة وهو في بني سلمة فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين، ثم ارتحل الى حمام اعين، ووجه الحسن ابن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة.
وأما علي بْن محمد، فإنه ذكر أن عمارة مولى جبرائيل بْن يحيى أخبره، قَالَ: بايع أهل خراسان الحسن بعد قحطبة، فأقبل إلى الكوفة، وعليها يومئذ عبد الرحمن بْن بشير العجلي، فأتاه رجل من بني ضبة، فقال: إن الحسن داخل اليوم أو غدا، قَالَ: كأنك جئت ترهبنى! وضربه ثلاثمائة سوط ثم هرب فسود محمد بْن خالد بْن عبد الله القسري، فخرج في أحد عشر رجلا، ودعا الناس إلى البيعة، وضبط الكوفة، فدخل الحسن من الغد، فكانوا يسألون في الطريق: أين منزل أبي سلمة، وزير آل محمد؟ فدلوهم عليه، فجاءوا حتى وقفوا على بابه، فخرج إليهم، فقدموا له دابة من دواب قحطبة فركبها، وجاء حتى وقف في جبانة السبيع، وبايع أهل خراسان، فمكث ابو سلمه حفص بن سليمان مولى السبيع- يقال له وزير آل محمد- واستعمل محمد بْن خالد بْن عبد الله القسري على الكوفة- وكان يقال له الأمير- حتى ظهر أبو العباس.
وقال علي: أخبرنا جبلة بْن فروخ وأبو صالح المروزي وعمارة مولى جبرائيل وأبو السري وغيرهم ممن قد أدرك أول دعوة بني العباس، قالوا: ثم وجه الحسن ابن قحطبة إلى ابن هبيرة بواسط، وضم إليه قوادا، منهم خازم بْن خزيمة ومقاتل بْن حكيم العكي وخفاف بْن منصور وسعيد بْن عمرو وزياد بْن مشكان والفضل بْن سليمان وعبد الكريم بْن مسلم وعثمان بْن نهيك وزهير بْن محمد والهيثم بْن زياد وأبو خالد المروزي وغيرهم، ستة عشر قائدا وعلى جميعهم

(7/418)


الحسن بْن قحطبة ووجه حميد بْن قحطبة إلى المدائن في قواد، منهم عبد الرحمن بْن نعيم ومسعود بْن علاج، كل قائد في أصحابه وبعث المسيب بْن زهير وخالد بْن برمك إلى ديرقني، وبعث المهلبي وشراحيل في أربعمائة إلى عين التمر، وبسام بْن إبراهيم بْن بسام الى الاهواز، وبها عبد الواحد ابن عمر بْن هبيرة فلما أتى بسام الأهواز خرج عبد الواحد إلى البصرة، وكتب مع حفص بْن السبيع إلى سفيان بْن معاوية بعهده على البصرة، فقال له الحارث أبو غسان الحارثي- وكان يتكهن وهو أحد بني الديان: لا ينفذ هذا العهد.
فقدم الكتاب على سفيان، فقاتله سلم بْن قتيبة، وبطل عهد سفيان.
وخرج أبو سلمة فعسكر عند حمام أعين، على نحو من ثلاثة فراسخ من الكوفة، فأقام محمد بْن خالد بْن عبد الله بالكوفة.
وكان سبب قتال سلم بْن قتيبة سفيان بْن معاوية بْن يزيد بْن المهلب- فيما ذكر- أن أبا سلمة الخلال وجه إذ فرق العمال في البلدان بسام بْن إبراهيم مولى بني ليث إلى عبد الواحد بْن عمر بْن هبيرة وهو بالأهواز، فقاتله بسام حتى فضه، فلحق سلم بْن قتيبة الباهلي بالبصرة، وهو يومئذ عامل ليزيد بْن عمر بْن هبيرة وكتب أبو سلمة إلى الحسن بْن قحطبة أن يوجه إلى سلم من أحب من قواده، وكتب إلى سفيان بْن معاوية بعهده على البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس، ويدعو الى القائم منهم، وينفى سلم ابن قتيبة فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحول عن دار الإمارة، ويخبره بما أتاه من رأي أبي سلمة، فأبى سلم ذلك، وامتنع منه، وحشد مع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة وغيرهم، وجنح إليه قائد من قواد ابن هبيرة، وكان بعثه مددا لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم بْن قتيبة، فاستعد له سلم، وحشد معه من قدر عليه من قيس وأحياء مضر ومن كان بالبصرة من بني أمية ومواليهم، وسارعت بنو أمية إلى نصره.
فقدم سفيان يوم الخميس وذلك في صفر، فأتى المربد سلم، فوقف منه عند سوق الإبل، ووجه الخيول في سكة المربد وسائر سكك البصرة للقاء من وجه إليه سفيان، ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، ومن

(7/419)


جاء بأسير فله ألف درهم ومضى معاوية بْن سفيان بْن معاوية في ربيعة خاصة، فلقيه خيل من تميم في السكة التي تأخذ الى بنى عامر في سكة المربد عند الدار التي صارت لعمر بْن حبيب، فطعن رجل منهم فرس معاوية، فشب به فصرعه، فنزل إليه رجل من بني ضبة يقال له عياض، فقتله، وحمل رأسه إلى سلم بْن قتيبة، فأعطاه ألف درهم، فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه، وخرج من فوره هو وأهل بيته حتى أتى القصر الأبيض فنزلوه، ثم ارتحلوا منه إلى كسكر.
وقدم على سلم بعد غلبته على البصرة جابر بْن توبة الكلابي والوليد بْن عتبة الفراسي، من ولد عبد الرحمن بْن سمرة في أربعة آلاف رجل، كتب إليهم ابن هبيرة أن يصيروا مددا لسلم وهو بالأهواز، فغدا جابر بمن معه على دور المهلب وسائر الأزد، فأغاروا عليهم، فقاتلهم من بقي من رجال الأزد قتالا شديدا حتى كثرت القتلى فيهم، فانهزموا، فسبى جابر ومن معه من أصحابه النساء، وهدموا الدور وانتهبوا، فكان ذلك من فعلهم ثلاثة أيام، فلم يزل سلم مقيما بالبصرة حتى بلغه قتل ابن هبيرة، فشخص عنها فاجتمع من البصرة من ولد الحارث بْن عبد المطلب إلى محمد بْن جعفر فولوه أمرهم فوليهم أياما يسيرة، حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بْن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم، فوليها خمسة أيام، فلما قام أبو عباس ولاها سفيان بن معاويه.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع لأبي العباس عبد الله بْن محمد بْن على ابن عَبْد اللَّهِ بْن العباس بْن عبد المطلب بْن هاشم، ليلة الجمعة لثلاث عشرة مضت من شهر ربيع الآخر، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ هشام بْن محمد وأما الواقدي فإنه قَالَ:
بويع لأبي العباس بالمدينة بالخلافة في جمادى الأولى في سنه ثنتين وثلاثين ومائه.
قال الواقدي: وقال لي أبو معشر: في شهر ربيع الاول سنه ثنتين وثلاثين ومائة، وهو الثبت

(7/420)


خلافة أبي العباس عبد الله بْن محمد بن على ابن عبد الله بْن عباس
(ذكر الخبر عن سبب خلافته) وكان بدء ذلك- فيما ذكر عن رسول الله ص- انه اعلم العباس ابن عبد المطلب انه تؤول الخلافة إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك، ويتحدثون به بينهم.
وذكر علي بْن محمد أن إسماعيل بْن الحسن حدثه عن رشيد بْن كريب، أن أبا هاشم خرج إلى الشام، فلقي محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، فقال: يا بن عم، إن عندي علما أنبذه إليك فلا تطلعن عليه أحدا، إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس فيكم، قَالَ: قد علمت فلا يسمعنه منك احد قال على: وأخبرنا سليمان بْن داود، عن خالد بْن عجلان، قَالَ: لما خالف ابن الأشعث، وكتب الحجاج بْن يوسف إلى عبد الملك، أرسل عبد الملك إلى خالد بْن يزيد فأخبره، فقال: أما إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس، إنما كنا نتخوف لو كان من خراسان وقال علي: أخبرنا الحسن بْن رشيد وجبله بن فروخ التاجى ويحيى بْن طفيل والنعمان بْن سري وأبو حفص الأزدي وغيرهم أن الإمام محمد بْن على ابن عبد الله بْن عباس، قَالَ: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد بْن معاوية، ورأس المائه، وفتق بإفريقية، فعند ذلك يدعو لنا دعاه، ثم يقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب، ويستخرجوا ما كنز الجبارون فيها فلما قتل يزيد بْن أبي مسلم بإفريقية، ونقضت البربر، بعث محمد بْن علي رجلا إلى خراسان، وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمي احد.
وقد ذكرنا قبل خبر محمد بْن علي، وخبر الدعاه الذي وجههم إلى خراسان ثم مات محمد بْن علي وجعل وصيه من بعده ابنه إبراهيم، فبعث إبراهيم بْن محمد إلى خراسان أبا سلمة حفص بْن سليمان مولى السبيع، وكتب معه إلى النقباء بخراسان، فقبلوا كتبه وقام فيهم، ثم رجع إليه فرده ومعه

(7/421)


أبو مسلم وقد ذكرنا أمر أبي مسلم قبل وخبره.
ثم وقع في يد مروان بْن محمد كتاب لإبراهيم بْن محمد إلى أبي مسلم، جواب كتاب لأبي مسلم يأمره بقتل كل من يتكلم بالعربية بخراسان فكتب مروان إلى عامله بدمشق يأمره بالكتاب إلى صاحبه بالبلقاء أن يسير إلى الحميمة، ويأخذ إبراهيم بْن محمد ويوجه به إليه فذكر أبو زيد عمر بْن شبة أن عيسى ابن عبد الله بْن محمد بْن عمر بْن على بْن أبي طالب، حدثه عن عثمان بْن عروه ابن محمد بْن عمار بْن ياسر، قَالَ: إني مع أبي جعفر بالحميمة ومعه ابناه محمد وجعفر، وأنا أرقصهما، إذ قَالَ لي: ماذا تصنع؟ أما ترى إلى ما نحن فيه! قَالَ: فنظرت فإذا رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، قال: فقلت: دعني اخرج اليهم، قَالَ: تخرج من بيتي وأنت ابن عمار بْن ياسر! قَالَ: فأخذوا أبواب المسجد حين صلوا الصبح، ثم قالوا للشاميين الذين معهم: أين إبراهيم بْن محمد؟ فقالوا: هو ذا، فأخذوه، وقد كان مروان أمرهم بأخذ ابراهيم، ووصف لهم صفة أبي العباس التي كان يجدها في الكتب أنه يقتلهم، فلما أتوه بإبراهيم، قَالَ: ليس هذه الصفة التي وصفت لكم، فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت، فردهم في طلبه، ونذروا، فخرجوا إلى العراق هرابا.
قَالَ عمر: وحدثني عبد الله بْن كثير بْن الحسن العبدي، قَالَ: أخبرني علي بْن موسى، عن أبيه، قَالَ: بعث مروان بْن محمد رسولا إلى الحميمة يأتيه بإبراهيم بْن محمد، ووصف له صفته، فقدم الرسول فوجد الصفة صفة أبي العباس عبد الله بْن محمد، فلما ظهر إبراهيم بْن محمد وأمن قيل للرسول:
إنما أمرت بإبراهيم، وهذا عبد الله! فلما تظاهر ذلك عنده ترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، وانطلق به قَالَ: فشخصت معه أنا وأناس من بني العباس ومواليهم، فانطلق بإبراهيم، ومعه أم ولد له كان بها معجبا، فقلنا له:
إنما أتاك رجل، فهلم فلنقتله ثم ننكفئ إلى الكوفة، فهم لنا شيعة، فقال:
ذلك لكم، قلنا: فأمهل حتى نصير إلى الطريق التي تخرجنا إلى العراق.
قَالَ: فسرنا حتى صرنا إلى طريق تتشعب إلى العراق، وأخرى إلى الجزيرة، فنزلنا منزلا، وكان إذا أراد التعريس اعتزل لمكان أم ولده، فآتينا للأمر الذي

(7/422)


اجتمعنا عليه، فصرخنا به، فقام ليخرج فتعلقت به أم ولده، وقالت:
هذا وقت لم تكن تخرج فيه، فما هاجك! فالتوى عليها، فأبت حتى أخبرها، فقالت: أنشدك الله أن تقتله فتشام أهلك! والله لئن قتلته لا يبقي مروان من آل العباس أحدا بالحميمة إلا قتله، ولم تفارقه حتى حلف لها ألا يفعل، ثم خرج إلينا وأخبرنا، فقلنا: أنت أعلم.
قَالَ عبد الله: فحدثني ابن لعبد الحميد بْن يحيى كاتب مروان، عن أبيه، قَالَ: قلت لمروان بْن محمد: أتتهمني؟ قَالَ: لا، قلت: أفيحطك صهره؟ قَالَ: لا، قلت: فإني أرى أمره ينبغ عليك فأنكحه وأنكح إليه، فإن ظهر كنت قد أعلقت بينك وبينه سببا لا يريبك معه، وإن كفيته لم يشنك صهره قَالَ: ويحك! والله لو علمته صاحب ذاك لسبقت إليه، ولكن ليس بصاحب ذلك.
وذكر أن إبراهيم بْن محمد حين أخذ للمضي به إلى مروان نعى إلى أهل بيته حين شيعوه نفسه، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه ابى العباس عبد الله ابن محمد، وبالسمع له وبالطاعة، وأوصى إلى أبي العباس، وجعله الخليفة بعده، فشخص أبو العباس عند ذلك ومن معه من أهل بيته، منهم عبد الله ابن محمد وداود بن عيسى، وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو على ويحيى ابن محمد وعيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم وموسى بْن داود ويحيى بْن جعفر بْن تمام، حتى قدموا الكوفة، في صفر، فأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بْن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة وأراد- فيما ذكر- أبو سلمة تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم بْن محمد، فذكر علي بْن محمد أن جبلة بْن فروخ وأبا السري وغيرهما قالا: قدم الإمام الكوفة في ناس من أهل بيته، فاختفوا، فقال أبو الجهم لأبي سلمة: ما فعل الإمام؟ قَالَ: لم يقدم بعد، فألح عليه يسأله، قَالَ: قد أكثرت السؤال، وليس هذا وقت خروجه فكانوا بذلك، حتى لقي أبو حميد خادما

(7/423)


لأبي العباس، يقال له سابق الخوارزمي، فسأله عن أصحابه، فأخبره أنهم بالكوفة، وأن أبا سلمة يأمرهم أن يختفوا، فجاء به إلى أبي الجهم، فأخبره خبرهم، فسرح أبو الجهم أبا حميد مع سابق حتى عرف منزلهم بالكوفة، ثم رجع وجاء معه إبراهيم بْن سلمه رجل كان معهم، فاخبر أبا الجهم عن منزلهم ونزول الامام في بني أود، وأنه أرسل حين قدموا إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، فلم يفعل، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم إلى موسى بْن كعب، وقصوا عليه القصة، وبعثوا إلى الإمام بمائتي دينار، ومضى أبو الجهم إلى أبي سلمة، فسأله عن الإمام، فقال: ليس هذا وقت خروجه، لأن واسطا لم تفتح بعد، فرجع أبو الجهم إلى موسى بْن كعب فأخبره، فأجمعوا على أن يلقوا الإمام، فمضى موسى بْن كعب وأبو الجهم وعبد الحميد بن ربعي وسلمه ابن محمد وإبراهيم بْن سلمة وعبد الله الطائي وإسحاق بْن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بْن بسام وأبو حميد محمد بْن إبراهيم وسليمان بْن الأسود ومحمد بْن الحصين إلى الإمام، فبلغ أبا سلمة، فسأل عنهم فقيل: ركبوا الى الكوفه في حاجه لهم.
واتى القوم أبا العباس، فدخلوا عليه فقالوا: أيكم عبد الله بْن محمد ابْن الحارثية؟ فقالوا: هذا، فسلموا عليه بالخلافة، فرجع موسى بْن كعب وأبو الجهم وأمر أبو الجهم الآخرين، فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم:
أين كنت؟ قَالَ: ركبت إلى إمامي فركب أبو سلمة إليهم، فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد أن أبا سلمة قد أتاكم، فلا يدخلن على الإمام إلا وحده، فلما انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده، فسلم بالخلافة على أبي العباس.
وخرج أبو العباس على برذون أبلق يوم الجمعة، فصلى بالناس، فأخبرنا عمار مولى جبرئيل وأبو عبد الله السلمي أن أبا سلمة لما سلم على أبي العباس بالخلافة، قَالَ له أبو حميد: على رغم أنفك يا ماص بظر أمه! فقال له أبو العباس: مه!

(7/424)


وذكر أن أبا العباس لما صعد المنبر حين بويع له بالخلافة، قام في أعلاه، وصعد داود بْن علي فقام دونه، فتكلم أبو العباس، فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به، والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله ص وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا بالمؤمنين رءوفا رحيما، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم، فقال عز من قائل فيما أنزل من محكم القرآن: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ، وقال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» وقال: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ، وقال: «مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى» ، وقال:
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى» فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا، وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السبئيه الضلال، أن غيرنا أحق بالرئاسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم! بم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وتم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر

(7/425)


ومواساة في دينهم ودنياهم، وإخوانا على سرر متقابلين في آخرتهم، فتح الله ذلك منة ومنحه لمحمد ص، فلما قبضه الله إليه، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزوها وتداولوها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمن بنا عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وختم بنا كما افتتح بنا وانى لأرجو الا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا.
أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير.
وكان موعوكا فاشتد به الوعك، فجلس على المنبر، وصعد داود بْن علي فقام دونه على مراقي المنبر، فقال:
الحمد لله شكرا شكرا شكرا، الذي أهلك عدونا، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد ص أيها الناس، الآن أقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه، في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.
أيها الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا، ولا نبني قصرا، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كرثنا من أموركم، وبهظنا من شؤونكم، ولقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتد علينا سوء

(7/426)


سيره بنى اميه فيكم، وخرقهم بكم، واستذلالهم لكم، واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم لكم ذمة الله تبارك وتعالى، وذمه رسوله صلى الله عليه وآله، وذمة العباس رحمه الله، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة منكم والخاصة بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبا تبا لبني حرب بْن أمية وبني مروان! آثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الآنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبب الآصار، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلا باستدراج الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين! وأدالنا الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، أرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه، فظن عدو الله أن لن نقدر عليه، فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزنا، ورد إلينا حقنا وإرثنا.
أيها الناس، إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا، انما عاد إلى المنبر بعد الصلاة، إنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر فيه شدة الوعك، وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهل المتمهل، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها، بمعالم الهدى، ومناهج التقوى.
فعج الناس له بالدعاء ثم قَالَ:
يا أهل الكوفة، إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج بهم حجتنا، واظهر بهم

(7/427)


دولتنا، وأراكم الله ما كنتم تنتظرون، واليه تتشوفون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام، ونقل إليكم السلطان، وعز الإسلام، ومن عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة.
فخذوا ما آتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن انفسكم فان الأمر امركم، وان لكل أهل بيت مصرا، وإنكم مصرنا ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله ص الا امير المؤمنين على ابن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بْن محمد- وأشار بيده إلى أبي العباس- فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه الى عيسى بن مريم صلى الله عليه، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزل أبو العباس وداود بْن علي أمامه، حتى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر ليأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم، حتى صلى بهم العصر، ثم صلى بهم المغرب، وجنهم الليل، فدخل.
وذكر أن داود بْن علي وابنه موسى كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة فلقيهما أبو العباس يريد الكوفة، معه أخوه أبو جعفر عبد الله بْن محمد وعبد الله بْن علي وعيسى بْن موسى ويحيى بْن جعفر بْن تمام بْن العباس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل، فقال لهم داود: أين تريدون؟ وما قصتكم؟
فقص عليه أبو العباس قصتهم، وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها، ويظهروا أمرهم، فقال له داود: يا أبا العباس، تأتي الكوفه وشيخ بنى مروان، مروان ابن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بْن عمر بْن هبيرة بالعراق في حلبة العرب! فقال أبو الغنائم: من أحب الحياة ذل، ثم تمثل بقول الأعشى:
فما مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرُ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا ما غالت النفس غولها
فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزاء أو نمت كراما، فرجعوا جميعا، فكان عيسى بْن موسى

(7/428)


يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفرا أربعة عشر رجلا خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون مطالبنا، لعظيم همهم كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم
. ذكر بقية الخبر عما كان من الأحداث في سنة اثنتين وثلاثين ومائة
تمام الخبر عن سبب البيعة لأبي العباس عبد الله بْن محمد بْن علي وما كان من أمره:
قَالَ أبو جعفر: قد ذكرنا من أمر أبي العباس عبد الله بْن محمد بْن علي ما حضرنا ذكره قبل، عمن ذكرنا ذلك عنه، وقد ذكرنا من أمره وأمر أبي سلمة وسبب عقد الخلافة لأبي العباس أيضا ما أنا ذاكره، وهو أنه لما بلغ أبا سلمة قتل مروان بْن محمد إبراهيم الذي كان يقال له الإمام، بدا له في الدعاء الى ولد العباس وأضمر الدعاء لغيرهم، وكان أبو سلمة قد أنزل أبا العباس حين قدم الكوفة مع من قدم معه من أهل بيته في دار الوليد بْن سعد في بني أود، فكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل ذلك من أمره وهو في معسكره بحمام أعين حتى خرج أبو حميد، وهو يريد الكناسة، فلقي خادما لإبراهيم يقال له سابق الخوارزمي، فعرفه، وكان يأتيهم بالشام فقال له: ما فعل الإمام إبراهيم؟ فأخبره أن مروان قتله غيلة، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس، واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غدا في هذا الموضع، وكره سابق ان يدله عليهم إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقا، فلقيه، فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته، فلما دخل عليهم سأل أبو حميد: من الخليفة منهم؟
فقال داود بْن علي: هذا إمامكم وخليفتكم- وأشار إلى أبي العباس- فسلم عليه بالخلافة، وقبل يديه ورجليه، وقال: مرنا بأمرك، وعزاه بالإمام إبراهيم.
وقد كان إبراهيم بْن سلمة دخل عسكر أبي سلمة متنكرا، فأتى أبا الجهم فاستأمنه، فأخبره أنه رسول أبي العباس وأهل بيته، وأخبره بمن معه وبموضعهم،

(7/429)


وأن أبا العباس كان سرحه إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، يعطيها للجمال كراء الجمال التي قدم بهم عليها، فلم يبعث بها اليه، ورجع أبو حميد إلى أبي الجهم، فأخبره بحالهم، فمشى ابو الجهم وابو حميد ومعهما إبراهيم بْن سلمة، حتى دخلوا على موسى بْن كعب، فقص عليه أبو الجهم الخبر، وما أخبره إبراهيم بْن سلمة، فقال موسى بْن كعب: عجل البعثة إليه بالدنانير وسرحه فانصرف أبو الجهم ودفع الدنانير إلى إبراهيم بْن سلمة، وحمله على بغل وسرح معه رجلين، حتى ادخلاه الكوفة، ثم قَالَ أبو الجهم لأبي سلمة، وقد شاع في العسكر أن مروان بْن محمد قد قتل الإمام: فإن كان قد قتل كان أخوه أبو العباس الخليفة والإمام من بعده، فرد عليه أبو سلمة: يا أبا الجهم، اكفف أبا حميد عن دخول الكوفة، فإنهم أصحاب إرجاف وفساد.
فلما كانت الليلة الثانية أتى إبراهيم بْن سلمة أبا الجهم وموسى بْن كعب، فبلغهما رسالة من أبي العباس وأهل بيته، ومشى في القواد والشيعة تلك الليلة، فاجتمعوا في منزل موسى بْن كعب، منهم عبد الحميد بْن ربعي وسلمه بن محمد وعبد الله الطائي واسحق بْن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بْن بسام وغيرهم من القواد، فائتمروا في الدخول إلى أبي العباس وأهل بيته، ثم تسللوا من الغد حتى دخلوا الكوفه وزعيمهم موسى بْن كعب وأبو الجهم وأبو حميد الحميري- وهو محمد بْن إبراهيم- فانتهوا إلى دار الوليد بْن سعد، فدخلوا عليهم، فقال موسى ابن كعب وأبو الجهم: أيكم أبو العباس؟ فأشاروا إليه، فسلموا عليه وعزوه بالإمام إبراهيم، وانصرفوا إلى العسكر، وخلفوا عنده أبا حميد وأبا مقاتل وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين ومحمد بْن الحارث ونهار بْن حصين ويوسف بْن محمد وأبا هريرة محمد بْن فروخ.
فبعث أبو سلمة إلى أبي الجهم فدعاه، وكان أخبره بدخوله الكوفة، فقال:
أين كنت يا أبا الجهم؟ قَالَ: كنت عند إمامي، وخرج أبو الجهم فدعا حاجب بْن صدان، فبعثه إلى الكوفة، وقال له: ادخل، فسلم على أبي العباس

(7/430)


بالخلافة، وبعث إلى أبي حميد وأصحابه: أن أتاكم أبو سلمة فلا يدخل إلا وحده، فان دخل وبايع فسبيله ذلك، والا فاضربوا عنقه، فلم يلبثوا أن أتاهم أبو سلمة فدخل وحده، فسلم على أبي العباس بالخلافة، فأمره أبو العباس بالانصراف إلى عسكره، فانصرف من ليلته، فأصبح الناس قد لبسوا سلاحهم، واصطفوا لخروج أبي العباس، وأتوه بالدواب، فركب ومن معه من أهل بيته حتى دخلوا قصر الإمارة بالكوفة يوم الجمعة لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر ثم دخل المسجد من دار الإمارة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عظمة الرب تبارك وتعالى وفضل النبي ص، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيرا ثم سكت.
وتكلم داود بْن علي وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجات، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ص، وقال: أيها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله ص خليفة إلا علي بْن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي ثم نزلا وخرج أبو العباس، فعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة، ونزل معه في حجرته، بينهما ستر، وحاجب أبي العباس يومئذ عبد الله بْن بسام واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بْن علي، وبعث عمه عبد الله بن على الى ابى عون ابن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بْن موسى إلى الحسن بْن قحطبة، وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بْن جعفر بن تمام ابن عباس إلى حميد بْن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروه ابن محمد بْن عمار بْن ياسر إلى بسام بْن إبراهيم بْن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بْن عمرو بْن عثمان إلى مالك بْن طريف، وأقام أبو العباس في العسكر أشهرا ثم ارتحل، فنزل المدينة الهاشمية في قصر الكوفة، وقد كان تنكر لأبي سلمة قبل تحوله حتى عرف ذلك.

(7/431)


ذكر هزيمه مروان بن محمد بموقعه الزاب
وفي هذه السنة هزم مروان بْن محمد بالزاب.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها وكيف كان ذلك:
ذكر علي بْن محمد أن أبا السري وجبلة بْن فروخ والحسن بْن رشيد وأبا صالح المروزي وغيرهم أخبروه أن أبا عون عبد الملك بْن يزيد الأزدي وجهه قحطبه الى شهرزور من نهاوند، فقتل عثمان بْن سفيان، وأقام بناحية الموصل، وبلغ مروان أن عثمان قد قتل، فأقبل من حران، فنزل منزلا في طريقه، فقال: ما اسم هذا المنزل؟ قالوا: بلوى، قَالَ: بل علوى وبشرى ثم أتى رأس العين، ثم أتى الموصل، فنزل على دجلة، وحفر خندقا فسار إليه أبو عون، فنزل الزاب، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بْن موسى والمنهال بْن فتان وإسحاق بْن طلحة، كل واحد في ثلاثة آلاف، فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بْن محمد في ألفين، وعبد الله الطائي في الف وخمسمائة وعبد الحميد بْن ربعي الطائي في ألفين، ووداس بن نضله في خمسمائة إلى أبي عون ثم قَالَ: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال عبد الله بْن علي:
أنا، فقال: سر على بركة الله، فسار عبد الله بْن علي، فقدم على أبي عون، فتحول له أبو عون عن سرادقه وخلاه وما فيه، وصير عبد الله بْن علي على شرطته حياش بْن حبيب الطائي، وعلى حرسه نصير بْن المحتفز ووجه أبو العباس موسى بْن كعب في ثلاثين رجلا على البريد إلى عبد الله بْن علي، فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنه ثنتين وثلاثين ومائة، سأل عبد الله بْن علي عن مخاضة، فدل عليها بالزاب، فأمر عيينة بْن موسى فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورفعت لهم النيران فتحاجزوا، ورجع عيينة فعبر المخاضة الى عسكر عبد الله ابن علي، فأصبح مروان فعقد الجسر، وسرح ابنه عبد الله يحفر خندقا أسفل من عسكر عبد الله بْن علي، فبعث عبد الله بْن علي المخارق بْن غفار في أربعة آلاف، فأقبل حتى نزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بْن

(7/432)


علي، فسرح عبد الله بْن مروان إليه الوليد بْن معاوية، فلقي المخارق، فانهزم أصحابه، وأسروا، وقتل منهم يومئذ عدة، فبعث بهم إلى عبد الله، وبعث بهم عبد الله إلى مروان مع الرءوس، فقال مروان: أدخلوا علي رجلا من الأسارى، فأتوه بالمخارق- وكان نحيفا- فقال: أنت المخارق؟ فقال:
لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر، قَالَ: فتعرف المخارق؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فانظر في هذه الرءوس هل تراه؟ فنظر إلى رأس منها، فقال: هو هذا، فخلى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر إلى المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم! قَالَ علي: حدثنا شيخ من أهل خراسان قَالَ: قَالَ مروان للمخارق: تعرف المخارق ان رايته؟ فإنهم زعموا انه في هذه الرءوس التي أتينا بها، قَالَ: نعم، قَالَ: اعرضوا عليه تلك الرءوس، فنظر فقال: ما أرى رأسه في هذه الرءوس، ولا أراه إلا وقد ذهب، فخلى سبيله وبلغ عبد الله بْن علي انهزام المخارق، فقال له موسى بْن كعب: اخرج إلى مروان قبل أن يصل الفل إلى العسكر، فيظهر ما لقي المخارق فدعا عبد الله بْن علي محمد بْن صول، فاستخلفه على العسكر، وسار على ميمنته أبو عون، وعلى ميسرة مروان الوليد بْن معاوية، ومع مروان ثلاثة آلاف من المحمرة ومعه الذكوانيه والصحصحية والراشدية، فقال مروان لما التقى العسكران لعبد العزيز بْن عمر بْن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها الى عيسى بن مريم، وان قاتلونا قبل الزوال، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ وأرسل مروان إلى عبد الله بْن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، ولا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله.
فقال مروان لأهل الشام: قفوا لا تبدءوهم بقتال، فجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الوليد بْن معاوية بْن مروان وهو ختن مروان على ابنته، فغضب وشتمه وقاتل ابن معاوية أهل الميمنة، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن على، فقال موسى ابن كعب لعبد الله: مر الناس فلينزلوا، فنودي: الارض، فنزل الناس،

(7/433)


واشرعوا الرماح، وجثوا على الركب، فقاتلوهم، فجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون، ومشى عبد الله قدما وهو يقول: يا رب، حتى متى نقتل فيك! ونادى: يا أهل خراسان، يا لثأرات إبراهيم! يا محمد، يا منصور! واشتد بينهم القتال وقال مروان لقضاعة: انزلوا، فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك أن احملوا، فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا، فقالوا: قل لغطفان فليحملوا، فقال لصاحب شرطه: انزل، فقال: لا والله ما كنت لأجعل نفسي غرضا قَالَ: أما والله لأسوءنك، قَالَ: وددت والله أنك قدرت على ذلك ثم انهزم أهل الشام، وانهزم مروان، وقطع الجسر، فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل، فكان فيمن غرق يومئذ إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك المخلوع، وأمر عبد الله بْن علي فعقد الجسر على الزاب، واستخرجوا الغرقى فاخرجوا ثلاثمائة، فكان فيمن أخرجوا إبراهيم بْن الوليد بْن عبد الملك، فقال عبد الله بْن علي: «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
» وأقام عبد الله بْن علي في عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد ابن العاصي يعير مروان:
لج الفرار بمروان فقلت له ... عاد الظلوم ظليما همه الهرب
أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... عنك الهوينى فلا دين ولا حسب
فراشه الحلم فرعون العقاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب
وكتب عبد الله بْن علي إلى أمير المؤمنين أبي العباس بالفتح، وهرب مروان وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجد فيه سلاحا كثيرا وأموالا، ولم يجدوا فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد الله بْن مروان، فلما اتى العباس كتاب عبد الله ابن علي صلى ركعتين، ثم قَالَ: «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ» الى قوله: «وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» وامر لمن شهد الوقعه

(7/434)


بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
حدثنا أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: قَالَ عبد الرحمن بْن أمية: كان مروان لما لقيه أهل خراسان لا يدبر شيئا إلا كان فيه الخلل والفساد قَالَ: بلغني أنه كان يوم انهزم واقفا، والناس يقتتلون، إذ امر باموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا، فهذه الأموال لكم، فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك المال، فأرسلوا إليه: إن الناس قد مالوا على هذا المال، ولا نأمنهم أن يذهبوا به فأرسل إلى ابنه عبد الله أن سر في أصحابك إلى مؤخر عسكرك، فاقتل من أخذ من ذلك المال وامنعهم، فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة، فانهزموا.
حدثنا أحمد بْن علي، عن أبي الجارود السلمي، قَالَ: حدثني رجل من أهل خراسان، قَالَ: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشام كأنهم جبال حديد، فجثونا وأشرعنا الرماح، فمالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم، وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشام، فخرج عليه رجل منا، فقتله الشامي، ثم خرج آخر فقتله، حتى والى بين ثلاثة، فقال رجل منا: اطلبوا لي سيفا قاطعا، وترسا صلبا، فأعطيناه، فمشى إليه فضربه الشامي فاتقاه بالترس، وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع، وحملناه وكبرنا فإذا هو عبيد الله الكابلي وكانت هزيمة مروان بالزاب- فيما ذكر- صبيحة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة.