تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

خلافة المهدي محمد بْن عبد الله بْن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس

ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة حين مات والده المنصور بمكة
ذكر علي بْن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قَالَ: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة، وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق، ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، فقضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب من الزوال، ثم أنصرف- وكذلك كان يفعل الهاشميون- وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم، فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلدا السيف عليهما، وأنا أساير محمد بْن عون بْن عبد الله بْن الحارث- وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم، وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلدا السيف عليهما- قَالَ: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بْن الخطاب وعبد الله بْن جعفر وقول علي بْن أبي طالب فيه فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بْن محمد ومحمد بْن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بْن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت:
احسب الرجل قد مات، فأرادا أن يحصنا مكة، فكان ذلك كذلك، فبينا

(8/110)


نحن نسير، إذا رجل خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، ثم أقبل علينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه في كل يوم، فإذا بموسى بْن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بْن منصور في ناحية السرادق- وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطه، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه- قَالَ: فلما رأيته في ناحية السرادق ورأيت موسى مصدرا، علمت أن المنصور قد مات قَالَ: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بْن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همسا من بكاء، فقال لي الحسن: أترى الرجل مات! قلت:
لا أحسب ذلك، ولكن لعله ثقيل، أو أصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم وقال ابن عياش المنتوف:
سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله.
وكان صبيا رطبا ما يتحلحل.
ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين- ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء، ولكن هذا عهد عهده أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة- أما بعد:

(8/111)


فانى كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، واسال الله الا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض يا بني هاشم، ويا أهل خراسان ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب.
قَالَ النوفلي: قَالَ أبي: وكان هذا شيئا وضعه الربيع، ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بْن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال: يأيها الناس، إن أمير المؤمنين المنصور كان ضربني واصطفى مالي، فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده.
ثم جاء الربيع إلى محمد بْن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني، فكنت الثالث، وبايع الناس، فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعا، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه، فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال، فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريرة نحمله، فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه، وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه، حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها.
قَالَ: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بْن عيسى بْن ماهان، أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بْن موسى على بيعة مجددة للمهدي- وكان القائم بذلك الربيع- فأبى عيسى بن موسى،

(8/112)


واقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون، فنهض علي بْن عيسى بْن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده.
وذكر عيسى بْن محمد أن موسى بْن هارون حدثه أن موسى بْن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي، وبعثا بعد بقضيب النبي ص وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة، ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بْن المسيب بْن زهير بالحربة بين يدي صالح بْن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بْن نصر بْن مالك، وهو يومئذ على شرطة موسى بْن المهدي، واندس علي بْن عيسى بْن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بْن موسى.
وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروذي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح.
وتحرك في ذلك محمد بْن سليمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته، الا ان محمدا كان أحسنهم قياما به حتى طفئ ذلك وسكن وكتب به إلى المهدي، فكتب بعزل علي بْن عيسى عن حرس موسى بْن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حرب بْن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بْن محمد ومحمد ابن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بْن محمد وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصل الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام.
وذكر الهيثم بْن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب- أو غيره من منازل طريق مكة- رؤيا- وكان الربيع عديله- وفزع منها، وقال: يا ربيع، ما أحسبني إلا ميتا في وجهي هذا، وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قَالَ الربيع: فقلت له: بل

(8/113)


يبقيك الله يا أمير المؤمنين، ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله.
قَالَ: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هاربا من ذنوبي وإسرافي على نفسي، فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له:
هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه.
قَالَ الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجهه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم، ويكبت عدوكم، ويسر وليكم، وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي، لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين، نحن إلى ذاك أسرع قَالَ: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم، فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكيا مشقوق الجيب لاطما رأسه، فقال بعض من حضر: ويلى عليك يا بن شاة! يريد الربيع- وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة- قَالَ: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها، لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه.
قَالَ: وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر.
قَالَ: فبلغ المهدي، فلما قدم عليه الربيع قَالَ: يا عبد، ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين إن فعلت ما فعلت به! وقال قوم: إنه ضربه، ولم يصح ذلك.
قَالَ: وذكر من حضر حجة المنصور، قَالَ: رأيت صالح بْن المنصور وهو مع أبيه والناس معه، وان موسى بن المهدى لقى تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحا معه

(8/114)


وذكر عن الأصمعي أنه قَالَ: أول من نعى أبا جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال:
قد طرقت ببكرها أم طبق.
قَالَ يونس: وماذا؟ قَالَ:
تنتجوها خير أضخم العنق ... موت الإمام فلقة من الفلق
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي، وكان المنصور- فيما ذكر- أوصى بذلك.
وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد ابن علي بْن عبد الله بْن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بْن علي، وعلى الكوفة عمرو بْن زهير الضبي أخو المسيب بْن زهير- وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بْن أبي إسماعيل الثقفي، وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس- وعلى قضائها شريك بْن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بْن موسى، وعلى خراسان حميد بْن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله.
وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله محمد بْن صفوان الجمحي وشريك بْن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة وقيل: إن شريكا كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها.
وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور- فيما ذكر- عمر بْن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بْن عبد الرحمن وقيل كان موسى بْن كعب.
وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بْن حمزة وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بْن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بْن دعلج.
وأصاب الناس- فيما ذكر محمد بْن عمر- في هذه السنة وباء شديد.

(8/115)


ثم دخلت

سنة تسع وخمسين ومائة
(ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذَلِكَ غزوة العباس بْن محمد الصائفة فيها حتى بلغ أنقرة، وكان على مقدمة العباس الحسن الوصيف في الموالي، وكان المهدي ضم إليه جماعة من قواد أهل خراسان وغيرهم وخرج المهدي فعسكر بالبردان وأقام فيه حتى أنفذ العباس بْن محمد، ومن قطع عليه البعث معه، ولم يجعل للعباس على الحسن الوصيف ولاية في عزل ولا غيره، ففتح في غزاته هذه مدينة للروم ومطمورة معها، وانصرفوا سالمين لم يصب من المسلمين أحد.
وهلك في هذه السنة حميد بْن قحطبة، وهو عامل المهدي على خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بْن يزيد.
وفيها ولي حمزة بْن مالك سجستان، وولي جبرئيل بْن يحيى سمرقند.
وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة.
وفيها بنى حائطها، وحفر خندقها.
وفيها عزل المهدي عبد الصمد بن على عن المدينة، مدينه الرسول ص عن موجدة، واستعمل عليها مكانه محمد بْن عبد الله الكثيري ثم عزله، واستعمل عليها مكانه عبيد الله بْن محمد بْن عبد الرحمن بْن صفوان الجمحي.
وفيها وجه المهدي عبد الملك بْن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند، وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد، وأشخصهم معه، وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ألفا وخمسمائة رجل، ووجه معه قائدا من أبناء أهل الشام يقال له ابن الحباب المذحجي في سبعمائة من أهل الشام، وخرج معه من مطوعة أهل البصرة بأموالهم ألف رجل، فيهم

(8/116)


- فيما ذكر- الربيع بْن صبيح، ومن الأسواريين والسبابجة أربعة آلاف رجل، فولى عبد الملك بْن شهاب المنذر بْن محمد الجارودي الألف الرجل المطوعة من أهل البصرة، وولى ابنه غسان بْن عبد الملك الألفي الرجل الذين من فرض البصره، وولى عبد الواحد بن عبد الملك الالف والخمسمائة الرجل من مطوعة المرابطات، وأفرد يزيد بْن الحباب في أصحابه فخرجوا، وكان المهدي وجه لتجهيزهم حتى شخصوا أبا القاسم محرز بْن إبراهيم، فمضوا لوجههم، حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند في سنة ستين ومائة.
وفيها توفي معبد بْن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، فاستعمل مكانه روح بْن حاتم بمشورة أبي عبيد الله وزيره.
وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفا بالسعي في الأرض بالفساد، أو من كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فأطلقوا، فكان ممن أطلق من المطبق يعقوب بْن داود مولى بني سليم، وكان معه في ذلك الحبس محبوسا الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وفيها حول المهدي الحسن بْن إبراهيم من المطبق الذي كان فيه محبوسا إلى نصير الوصيف فحبسه عنده.

ذكر الخبر عن سبب تحويل المهدي الحسن بْن إبراهيم من المطبق إلى نصير
ذكر أن السبب في ذلك، كان أن المهدي لما أمر بإطلاق أهل السجون.
على ما ذكرت، وكان يعقوب بْن داود محبوسا مع الحسن بْن إبراهيم في موضع واحد، فأطلق يعقوب بْن داود، ولم يطلق الحسن بْن إبراهيم، ساء ظنه، وخاف على نفسه، فالتمس مخرجا لنفسه وخلاصا، فدس إلى بعض ثقاته،

(8/117)


فحفر له سربا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بْن داود بعد أن أطلق يطيف بابن علاثة- وهو قاضي المهدي بمدينة السلام- ويلزمه، حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه الحسن ابن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علاثة، فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، وسأله إيصاله إلى أبي عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره بها، وحذره فوتها، فانطلق ابن علاثة إلى أبي عبيد الله، فأخبره خبر يعقوب وما جاء به، فأمره بإدخاله عليه، فلما دخل عليه سأله إيصاله إلى المهدي، ليعلمه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلما دخل على المهدي شكر له بلاءه عنده في إطلاقه إياه ومنه عليه، ثم أخبره أن له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبي عبيد الله وابن علاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدي ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتى يقوما، فأقامهما وأخلاه، فأخبره خبر الحسن بْن إبراهيم وما أجمع عليه، وأن ذلك كائن من ليلته المستقبلة، فوجه المهدي من يثق به ليأتيه بخبره، فأتاه بتحقيق ما أخبره به يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل في حبسه إلى أن احتال واحتيل له، فخرج هاربا، وافتقد، فشاع خبره، فطلب فلم يظفر به، وتذكر المهدي دلالة يعقوب إياه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه في أمره، فسأل أبا عبيد الله عنه فأخبره أنه حاضر- وقد كان لزم أبا عبيد الله- فدعا به المهدي خاليا، فذكر له ما كان من فعله في الحسن ابن إبراهيم أولا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فأخبره يعقوب أنه لا علم له بمكانه، وأنه إن أعطاه أمانا يثق به ضمن له أن يأتيه به، على أن يتم له على أمانه، ويصله ويحسن إليه فأعطاه المهدي ذلك في مجلسه وضمنه له فقال له يعقوب: فاله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه،

(8/118)


فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال فآتيك به، فأعطاه المهدي ذلك.
وقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها بمثل ما فعلت في غيرها، وأشياء مع ذلك خلف بابك يعمل بها لا تعملها، فإن جعلت لي السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت فأعطاه المهدى ذلك، وجعله اليه، وصير سليما الخادم الأسود خادم المنصور سببه في إعلام المهدي بمكانه كلما أراد الدخول، فكان يعقوب يدخل على المهدي ليلا، ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسارى والمحبسين والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظي بذلك عنده، وبما رجا أن يناله به من الظفر بالحسن بْن إبراهيم، واتخذه أخا في الله، وأخرج بذلك توقيعا، وأثبت في الدواوين، فتسبب مائة ألف درهم كانت أول صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدا، إلى أن صير الحسن بْن إبراهيم في يد المهدي بعد ذلك، وإلى أن سقطت منزلته، وأمر المهدي بحبسه، فقال علي بْن الخليل في ذلك:
عجبا لتصريف الأمور ... مسرة وكراهية
والدهر يلعب بالرجال ... له دوائر جاريه
رثت بيعقوب بْن داود ... حبال معاويه
وعدت على ابن علاثة القاضي ... بوائق عافيه
قل للوزير أبي عبيد الله: ... هل لك باقيه!
يعقوب ينظر في الأمور ... وأنت تنظر ناحيه

(8/119)


أدخلته فعلا عليك ... ، كذاك شؤم الناصيه
وفي هذه السنة عزل المهدي إسماعيل بْن أبي اسماعيل عن الكوفه واحداثها.
واختلف فيمن ولي مكانه، فقال بعضهم: ولي مكانه إسحاق بْن الصباح الكندي ثم الأشعثي بمشورة شريك بْن عبد الله قاضي الكوفة وقال عمر ابن شبة: ولى على الكوفة المهدي عيسى بْن لقمان بن محمد بن حاطب ابن الحارث بْن معمر بْن حبيب بْن وهب بْن حذافة بْن جمح، فولى على شرطه ابن أخيه عثمان بْن سعيد بْن لقمان ويقال: إن شريك بْن عبد الله كان على الصلاة والقضاء، وعيسى على الأحداث، ثم أفرد شريك بالولاية، فجعل على شرطه إسحاق بْن الصباح الكندي، فقال بعض الشعراء:
لست تعدو بأن تكون ولو نلت ... سهيلا صنيعة لشريك
قَالَ: ويزعمون أن إسحاق لم يشكر لشريك، وأن شريكا قَالَ له:
صلى وصام لدنيا كان يأملها ... فقد أصاب ولا صلى ولا صاما
وذكر عمر أن جعفر بْن محمد قاضي الكوفة، قَالَ: ضم المهدي إلى شريك الصلاة مع القضاء، وولى شرطه إسحاق بْن الصباح، ثم ولى إسحاق بْن الصباح الصلاة والأحداث بعد، ثم ولى إسحاق بْن الصباح بن عمران ابن إسماعيل بْن محمد بْن الأشعث الكوفة، فولى شرطه النعمان بْن جعفر الكندي، فمات النعمان، فولى على شرطه أخاه يزيد بْن جعفر.
وفيها عزل المهدي عن أحداث البصرة سعيد بْن دعلج، وعزل عن الصلاة والقضاء من أهلها عبيد الله بْن الحسن، وولى مكانهما عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان النميري، وكتب إلى عبد الملك يأمره بإنصاف من تظلم

(8/120)


من أهل البصرة من سعيد بْن دعلج، ثم صرفت الأحداث في هذه السنة عن عبد الملك بْن أيوب إلى عمارة بْن حمزة، فولاها عمارة رجلا من أهل البصرة يقال له المسور بْن عبد الله بْن مسلم الباهلي، وأقر عبد الملك على الصلاة.
وفيها عزل قثم بْن العباس عن اليمامة عن سخطة، فوصل كتاب عزله إلى اليمامة، وقد توفي فاستعمل مكانه بشر بْن المنذر البجلي.
وفيها عزل يزيد بْن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه رجاء بْن روح.
وفيها عزل الهيثم بْن سعيد عن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بْن صالح.
وفيها أعتق المهدي أم ولده الخيزران وتزوجها.
وفيها تزوج المهدي أيضا أم عبد الله بنت صالح بْن علي، أخت الفضل وعبد الله ابني صالح لأمهما.
وفيها وقع الحريق في ذي الحجة في السفن ببغداد عند قصر عيسى بْن علي، فاحترق ناس كثير، واحترقت السفن بما فيها.
وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل مكانه أبو ضمرة محمد بْن سليمان.
وفيها كانت حركة من تحرك من بني هاشم وشيعتهم من أهل خراسان في خلع عيسى بْن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بْن المهدي، فلما تبين ذلك المهدى كتب- فيما ذكر- إلى عيسى بْن موسى في القدوم عليه وهو بالكوفة، فأحس بالذي يراد به، فامتنع من القدوم عليه.
وقال عمر: لما أفضى الأمر إلى المهدي سأل عيسى أن يخرج من الأمر فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى على الكوفة روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب، فولى على شرطه خالد بْن يزيد بْن حاتم، وكان المهدي يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل فيما لا يكون عليه به حجة، وكان لا يجد إلى ذلك سبيلا، وكان عيسى قد خرج إلى ضيعة له بالرحبة، فكان لا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة في شهر رمضان، فيشهد الجمع

(8/121)


والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته وفي أول ذي الحجة، فإذا شهد العيد رجع إلى ضيعته، وكان إذا شهد الجمعة أقبل من داره على دوابه حتى ينتهي إلى أبواب المسجد فينزل على عتبة الأبواب، ثم يصلي في موضعه، فكتب روح إلى المهدي أن عيسى بْن موسى لا يشهد الجمع، ولا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة، فإذا حضر أقبل على دوابه حتى يدخل رحبة المسجد، وهو مصلى الناس، ثم يتجاوزها إلى أبواب المسجد، فتروث دوابه في مصلى الناس، وليس يفعل ذلك غيره، فكتب إليه المهدي أن اتخذ على أفواه السكك التي تلي المسجد خشبا ينزل عنده الناس، فاتخذ روح ذلك الخشب في أفواه السكك- فذلك الموضع يسمى الخشبة- وبلغ ذلك عيسى بْن موسى قبل يوم الجمعة، فأرسل إلى ورثة المختار بن ابى عبيده- وكانت دار المختار لزيقة المسجد، فابتاعها وأثمن بها، ثم أنه عمرها واتخذ فيها حماما، فكان إذا كان يوم الخميس أتاها فأقام بها، فإذا أراد الجمعة ركب حمارا فدب به إلى باب المسجد فصلى في ناحية، ثم رجع إلى داره ثم أوطن الكوفة وأقام بها، وألح المهدي على عيسى فقال: إنك إن لم تجبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك ما يستحل من العاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعا فأجابه، فبايع لهما وأمر له بعشرة آلاف ألف درهم- ويقال عشرين ألف ألف- وقطائع كثيره.
واما غير عمر فإنه قَالَ: كتب المهدي إلى عيسى بْن موسى لما هم بخلعه يأمره بالقدوم عليه، فأحس بما يراد به، فامتنع من القدوم عليه، حتى خيف انتقاضه، فأنفذ إليه المهدي عمه العباس بْن محمد، وكتب إليه كتابا، وأوصاه بما أحب أن يبلغه، فقدم العباس على عيسى بكتاب المهدي ورسالته إليه، فانصرف إلى المهدي بجوابه في ذلك، فوجه إليه بعد قدوم العباس عليه محمد بْن فروخ أبا هريرة القائد في ألف رجل من اصحابه

(8/122)


من ذوي البصيرة في التشيع، وجعل مع كل رجل منهم طبلا، وأمرهم أن يضربوا جميعا بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلا في وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بْن موسى روعا شديدا، ثم دخل عليه أبو هريرة، فأمره بالشخوص، فاعتل بالشكوى فلم يقبل ذلك منه، وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن منصور- خال المهدي- عند قدومه من اليمن، فحدثني بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن ابى معشر كذلك قَالَ محمد بْن عمر الواقدي وغيره وكان انصراف يزيد بْن منصور من اليمن بكتاب المهدي إليه يأمره بالانصراف إليه وتوليته إياه الموسم وإعلامه اشتياقه إليه وإلى قربه.
وكان أمير المدينة في هذه السنة عبيد الله بْن صفوان الجمحي، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت ابن موسى، وعلى قضائها شريك بْن عبد الله، وعلى صلاه البصره عبد الملك ابن أيوب بْن ظبيان النميري، وعلى أحداثها عمارة بْن حمزة، وخليفته على ذلك المسور بْن عبد الله بْن مسلم الباهلي، وعلى قضائها عبيد الله بْن الحسن.
وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بْن حمزة وعلى السند بسطام بْن عمرو، وعلى اليمن رجاء بْن روح وعلى اليمامة بشر بْن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بْن يزيد، وعلى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بْن سليمان أبو ضمرة.

(8/123)


ثم دخلت

سنة ستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خروج يوسف البرم
4 فمن ذلك ما كان من خروج يوسف بْن إبراهيم، وهو الذي يقال له يوسف البرم بخراسان منكرا هو ومن تبعه ممن كان على رأيه على المهدي- فيما زعم- الحال التي هو بها وسيرته التي يسير بها، واجتمع معه- فيما ذكر- بشر من الناس كثير، فتوجه إليه يزيد بْن مزيد فلقيه، واقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه بعدة، فلما انتهى بهم إلى النهروان حمل يوسف البرم على بعير قد حول وجهه إلى ذنب البعير وأصحابه على بعير، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، فأدخلوه على المهدي، فأمر هرثمة بْن أعين فقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه وعنق أصحابه، وصلبهم على جسر دجلة الأعلى، مما يلي عسكر المهدي، وإنما أمر هرثمة بقتله، لأنه كان قتل أخا لهرثمه بخراسان