تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ثم دخلت

سنة ست وستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك قفول هارون بْن المهدي، ومن كان معه من خليج قسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقدمت الروم بالجزية معهم، وذلك- فيما قيل- أربعة وستون ألف دينار عدد الرومية والفان وخمسمائة دينار عربية، وثلاثون ألف رطل مرعزى.
وفيها أخذ المهدي البيعة على قواده لهارون بعد موسى بْن المهدي، وسماه الرشيد.
وفيها عزل عبيد الله بْن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بْن طليق بْن عمران بن حصين الخزاعي، فلم تحمد ولايته، فاستعفى أهل البصرة منه.
وفيها عزل جعفر بْن سليمان عن مكة والمدينة، وما كان إليه من العمل.
وفيها سخط المهدي على يعقوب بْن داود.

ذكر الخبر عن غضب المهدي على يعقوب
ذكر علي بْن محمد النوفلي، قَالَ: سمعت أبي يذكر، قَالَ: كان داود بْن طهمان- وهو أبو يعقوب بْن داود- وإخوته كتابا لنصر بْن سيار، وقد كتب داود قبله لبعض ولاة خراسان، فلما كانت أيام يحيى بْن زيد كان يدس إليه وإلى أصحابه بما يسمع من نصر، ويحذرهم، فلما خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بْن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه من اصحاب نصر، أتاه داود ابن طهمان مطمئنا لما كان يعلم مما جرى بينه وبينه، فآمنه أبو مسلم، ولم

(8/154)


يعرض له في نفسه، وأخذ أمواله التي استفاد أيام نصر، وترك منازله وضيعه التي كانت له ميراثا بمرو، فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليست لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر، فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فيها.
فكان يعقوب يجول البلاد منفردا بنفسه، ومع إبراهيم بْن عبد الله أحيانا، في طلب البيعة لمحمد بْن عبد الله، فلما ظهر محمد وإبراهيم بْن عبد الله كتب على ابن داود- وكان أسن من يعقوب- لإبراهيم بْن عبد الله، وخرج يعقوب مع عدة من إخوته مع إبراهيم، فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من المنصور، فطلبهم، فأخذ يعقوب وعليا فحبسهما في المطبق أيام حياته، فلما توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وأطلقهما وكان معهما في المطبق إسحاق بْن الفضل بْن عبد الرحمن- وكانا لا يفارقانه- وإخوته الذين كانوا محتبسين معه، فجرت بينهم بذلك الصداقة وكان إسحاق بْن الفضل بْن عبد الرحمن يرى أن الخلافة قد تجوز في صالحي بني هاشم جميعا، فكان يقول: كانت الإمامة بعد رسول الله ص لا تصلح إلا في بني هاشم، وهي في هذا الدهر لا تصلح إلا فيهم، وكان يكثر في قوله للأكبر من بني عبد المطلب، وكان هو ويعقوب بْن داود يتجاريان ذلك، فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث المهدي برهة من دهره يطلب عيسى بن زيد والحسن ابن إبراهيم بْن عبد الله بعد هرب الحسن من حبسه، فقال المهدي يوما:
لو وجدت رجلا من الزيدية له معرفة بآل حسن وبعيسى بْن زيد، وله فقه فاجتلبه إلي على طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن وعيسى بْن زيد! فدل على يعقوب بْن داود، فأتي به فأدخل عليه، وعليه يومئذ فرو وخفا كبل وعمامة كرابيس وكساء أبيض غليظ فكلمه وفاتحه، فوجده رجلا كاملا، فسأله عن عيسى بْن زيد، فزعم الناس أنه وعده الدخول بينه وبينه، وكان يعقوب ينتفي من ذلك، إلا أن الناس قد رموه بأن منزلته عند المهدي إنما

(8/155)


كانت للسعاية بآل علي ولم يزل أمره يرتفع عند المهدي ويعلو حتى استوزره، وفوض إليه أمر الخلافة، فأرسل إلى الزيدية، فأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه، ولذلك يقول بشار بْن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بْن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا ... خليفة الله بين الدف والعود
قَالَ: فحسده موالي المهدي، فسعوا عليه.
ومما حظي به يعقوب عند المهدي، أنه استأمنه للحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله، ودخل بينه وبينه حتى جمع بينهما بمكة قَالَ: ولما علم آل الحسن بْن علي بصنيعه استوحشوا منه، وعلم يعقوب أنه إن كانت لهم دولة لم يعش فيها، وعلم أن المهدي لا يناظره لكثرة السعاية به إليه، فمال يعقوب إلى إسحاق بْن الفضل، وأقبل يربص له الأمور وأقبلت السعايات ترد على المهدي بإسحاق حتى قيل له: إن المشرق والمغرب في يد يعقوب وأصحابه، وقد كاتبهم، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد على ميعاد، فيأخذوا الدنيا لإسحاق بْن الفضل، فكان ذلك قد ملأ قلب المهدي عليه.
قَالَ علي بْن محمد النوفلي: فذكر لي بعض خدم المهدي أنه كان قائما على رأسه يوما يذب عنه، إذ دخل يعقوب، فجثا بين يديه، فقال:
يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب أمر مصر، وأمرتني أن ألتمس لها رجلا يجمع أمرها، فلم أزل أرتاد حتى أصبت لها رجلا يصلح لذلك قَالَ: ومن هو؟
قَالَ: ابن عمك إسحاق بْن الفضل، فرأى يعقوب في وجهه التغير، فنهض فخرج، وأتبعه المهدي طرفه، ثم قَالَ: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم رفع رأسه إلي وقال: اكتم علي ويلك! قَالَ: ولم يزل مواليه يحرضونه عليه ويوحشونه منه، حتى عزم على إزالة النعمة عنه

(8/156)


وقال موسى بْن إبراهيم المسعودي: قَالَ المهدي: وصف لي يعقوب بْن داود في منامي، فقيل لي أن اتخذه وزيرا فلما رآه، قَالَ: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيرا، وحظي عنده غاية الحظوة، فمكث حينا حتى بنى عيساباذ، فأتاه خادم من خدمه- وكان حظيا عنده- فقال له: إن أحمد بْن إسماعيل بْن علي، قَالَ لي: قد بنى متنزها أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت مال المسلمين، فحفظها عن الخادم، ونسى احمد ابن إسماعيل، وتوهمها على يعقوب بْن داود، فبينا يعقوب بين يديه إذ لببه، فضرب به الأرض، فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين! قَالَ: ألست القائل:
إني أنفقت على متنزه لي خمسين ألف ألف! فقال يعقوب: والله ما سمعته أذناي، ولا كتبه الكرام الكاتبون، فكان هذا أول سبب أمره.
قَالَ: وحدثني أبي، قَالَ: كان يعقوب بْن داود قد عرف عن المهدي خلعا واستهتارا بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بْن داود يصف من نفسه في ذلك شيئا كثيرا، وكذلك كان المهدي، فكانوا يخلون بالمهدي ليلا فيقولون:
هو على أن يصبح فيثور بيعقوب، فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسم، فيقول: إن عندك لخيرا! فيقول: نعم، فيقول: اقعد بحياتي فحدثني، فيقول: خلوت بجاريتي البارحة، فقالت وقلت، فيصنع لذلك حديثا، فيحدث المهدي بمثل ذلك، ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب، فيتعجب منه.
قَالَ: وقال لي الموصلي: قَالَ يعقوب بْن داود للمهدي في أمر أراده: هذا والله السرف، فقال: ويلك! وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف! ويلك يا يعقوب، لولا السرف لم يعرف المكثرون من المقترين! وقال علي بْن يعقوب بْن داود عن أبيه، قَالَ: بعث إلي المهدي يوما، فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور على بستان فيه شجر، ورءوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى

(8/157)


ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئا أحسن منه، وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها، ولا أشط قواما، ولا أحسن اعتدالا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك فقال لي: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، وهنأه إياه، فقال:
هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به قَالَ: فدعوت له بما يجب قَالَ: ثم قَالَ: يا يعقوب، ولي إليك حاجة، قَالَ: فوثبت قائما ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين! قَالَ: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة فإني لم أسألكها من حيث تتوهم، وإنما قلت ذلك على الحقيقة، فأحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، قَالَ: - والله- قلت والله ثلاثا- قَالَ: وحياة رأسي! قلت:
وحياة رأسك، قَالَ: فضع يدك عليه واحلف به، قَالَ: فوضعت يدي عليه، وحلفت له به لأعملن بما قَالَ، ولأقضين حاجته قَالَ: فلما استوثق مني في نفسه، قَالَ: هذا فلان بْن فلان، من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، وتعجل ذلك قَالَ: قلت: أفعل، قَالَ: فخذه إليك، فحولته إلي، وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم.
قَالَ: فحملت ذلك جملة، ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوي، فأدخلته على نفسي، وسألته عن حاله، فأخبرني بها، وبجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة.
قَالَ: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب! تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد! قَالَ: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟

(8/158)


قَالَ: إن فعلت خيرا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار قَالَ: فقلت له أي الطرق أحب إليك؟ قَالَ: طريق كذا وكذا، قلت: فمن هناك ممن تأنس به وتثق بموضعه؟ قَالَ: فلان وفلان، قلت: فابعث إليهما، وخذ هذا المال، وامض معهما مصاحبا في ستر الله، وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا- الذي اتفقوا عليه- في وقت كذا وكذا من الليل، وإذا الجارية قد حفظت علي قولي، فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك، صنع وفعل كذا وكذا، حتى ساقت الحديث كله قَالَ: وبعث المهدي من وقته ذلك، فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوي برجاله، فلم يلبث ان جاءوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال، على السجية التي حكتها الجارية قَالَ: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضرني- قَالَ: وكنت خالي الذرع غير ملق الى امر العلوي بالا حتى أدخل على المهدي، وأجده على كرسي بيده مخصرة- فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قَالَ: مات؟ قلت: نعم، قَالَ: والله، ثم قَالَ: قم فضع يدك على رأسي، قَالَ: فوضعت يدي على رأسه، وحلفت له به قَالَ:
فقال: يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت، قَالَ: ففتح بابه عن العلوي صاحبيه والمال بعينه قَالَ: فبقيت متحيرا، وسقط في يدي، وامتنع منى الكلام، فما أدري ما أقول! قَالَ: فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق، ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام وأصبت ببصري، وطال شعري، حتى استرسل كهيئة شعور البهائم.
قَالَ: فإني لكذلك، إذ دعي بي فمضي بي إلى حيث لا أعلم أين هو، فلم أعد أن قيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فسلمت، فقال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قَالَ: رحم الله المهدي، قلت: فالهادي؟ قَالَ:
رحم الله الهادي، قلت: فالرشيد؟ قَالَ: نعم، قلت: ما أشك في وقوف

(8/159)


أمير المؤمنين على خبري وعلتي وما تناهت إليه حالي، قَالَ: أجل، كل ذلك عندي قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك، قَالَ: قلت: المقام بمكة، قَالَ: نفعل ذلك، فهل غير هذا؟ قَالَ: قلت: ما بقي في مستمتع لشيء ولإبلاغ، قَالَ: فراشدا قَالَ: فخرجت فكان وجهي إلى مكة.
قَالَ ابنه: ولم يزل بمكة فلم تطل أيامه بها حتى مات قَالَ محمد بْن عبد الله: قَالَ لي أبي: قَالَ يعقوب بْن داود: وكان المهدي لا يشرب النبيذ الا تحرجا، ولكنه كان لا يشتهيه، وكان أصحابه: عمر بْن بزيع والمعلى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، قَالَ: وكنت أعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، وأقول: إنه ليس على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع، يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع! قَالَ: فكان يقول: قد سمع عبد الله بْن جعفر، قَالَ: قلت: ليس هذا من حسناته، لو أن رجلا سمع في كل يوم كان ذلك يزيده قربة من الله أو بعدا!.
وقال محمد بْن عبد الله: حدثني أبي، قَالَ: كان أبي يعقوب بْن داود قد ألح على المهدي في حسمه عن السماع وإسقائه النبيذ حتى ضيق عليه، وكان يعقوب قد ضجر بموضعه، فتاب إلى الله مما هو فيه، واستقبل وقدم النية في تركه موضعه قَالَ: فكنت أقول للمهدي: يا أمير المؤمنين، والله لشربة خمر أشربها أتوب إلى الله منها أحب إلى مما أنا فيه، وإني لأركب إليك فأتمنى يدا خاطئة تصيبني في الطريق، فأعفني وول غيري من شئت، فإني أحب ان اسلم عليك انا وولدى، وو الله إني لأتفزع في النوم، وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضا من آخرتي قَالَ:
فكان يقول لي: اللهم غفرا! اللهم أصلح قلبه، قَالَ: فقال شاعر له:
فدع عنك يعقوب بْن داود جانبا ... وأقبل على صهباء طيبة النشر

(8/160)


قَالَ عبد الله بْن عمر: وحدثني جعفر بْن أحمد بْن زيد العلوي، قَالَ:
قَالَ ابن سلام: وهب المهدي لبعض ولد يعقوب بْن داود جارية، وكان بضعف قَالَ: فلما كان بعد أيام، سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثلها، ما وضعت بيني وبين الارض مطيه أوطأ منها حاشا سامع فالتفت المهدي إلى يعقوب، فقال له: من تراه يعني؟ يعنيني أو يعنيك؟ فقال له يعقوب: من كل شيء تحفظ الأحمق إلا من نفسه.
وقال علي بْن محمد النوفلي: حدثني أبي، قَالَ: كان يعقوب بْن داود يدخل على المهدي فيخلو به ليلا يحادثه ويسامره، فبينما هو ليلة عنده، وقد ذهب من الليل أكثره، خرج يعقوب من عنده، وعليه طيلسان مصبوغ هاشمي، وهو الأزرق الخفيف، وكان الطيلسان قد دق دقا شديدا فهو يتقعقع، وغلام آخذ بعنان دابة له شهباء، وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوي طيلسانه فتقعقع، فنفر البرذون، ودنا منه يعقوب، فاستدبره فضربه ضربة على ساقه فكسرها، وسمع المهدي الوجبة، فخرج حافيا، فلما رأى ما به أظهر الجزع والفزع، ثم أمر به فحمل في كرسي إلى منزله، ثم غدا عليه المهدي مع الفجر، وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه، فعاده أياما ثلاثة متتابعة، ثم قعد عن عيادته، وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله، فلما فقد وجهه، تمكن السعاة من المهدي، فلم تأت عليه عاشرة حتى أظهر السخط عليه، فتركه في منزله يعالج، ونادى في اصحابه: لا يوجد أحد عليه طيلسان يعقوبي، وقلنسوة يعقوبية إلا أخذت ثيابه ثم أمر بيعقوب فحبس في سجن نصر.
قَالَ النوفلي: وأمر المهدي بعزل أصحاب يعقوب عن الولايات في الشرق والغرب، وأمر أن يؤخذ أهل بيته، وأن يحبسوا ففعل ذلك بهم.
وقال علي بْن محمد: لما حبس يعقوب بْن داود وأهل بيته، وتفرق عماله

(8/161)


واختفوا وتشردوا، أذكر المهدي قصته وقصة إسحاق بْن الفضل، فأرسل إلى إسحاق ليلا وإلى يعقوب، فأتي به من محبسه، فقال: ألم تخبرني بأن هذا وأهل بيته يزعمون أنهم أحق بالخلافة منا أهل البيت، وأن لهم الكبر علينا! فقال له يعقوب: ما قلت لك هذا قط، قَالَ: وتكذبني وترد علي قولي! ثم دعا له بالسياط فضربه اثني عشر سوطا ضربا مبرحا، وأمر به فرد إلى الحبس.
قَالَ: وأقبل إسحاق يحلف أنه لم يقل هذا قط، وأنه ليس من شأنه وقال فيما يقول: وكيف أقول هذا يا أمير المؤمنين، وقد مات جدي في الجاهلية وابوك الباقى بعد رسول الله ص ووارثه! فقال: أخرجوه، فلما كان من الغد دعا بيعقوب، فعاوده الكلام الذي كلمه في ليلته، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي حتى أذكرك، أتذكر وأنت في طارمة على النهر، وأنت في البستان وأنا عندك، إذ دخل أبو الوزير- قَالَ علي: وكان أبو الوزير ختن يعقوب بْن داود على ابنة صالح بْن داود- فخبرك هذا الخبر عن إسحاق؟
قَالَ: صدقت يا يعقوب، قد ذكرت ذلك، فاستحى المهدي، واعتذر إليه من ضربه، ثم رده إلى الحبس، فمكث محبوسا أيام المهدي وأيام موسى كلها حتى أخرجه الرشيد بميله كان إليه في حياة أبيه.
وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بْن إبراهيم.
وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة، ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم.
وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مدينه الرسول ص وبين مكة واليمن، بغالا وإبلا، ولم يقم هنالك بريد قبل ذلك.
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بْن زهير، فولاها الفضل بْن سليمان

(8/162)


الطوسي أبا العباس، وضم إليه معها سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بْن سعيد بْن دعلج بأمر المهدي.
وفيها أخذ داود بْن روح بْن حاتم وإسماعيل بْن سليمان بْن مجالد ومحمد ابن أبي أيوب المكي ومحمد بْن طيفور في الزندقة، فأقروا، فاستتابهم المهدي وخلى سبيلهم، وبعث بداود بْن روح إلى أبيه روح، وهو يومئذ بالبصرة عاملا عليها، فمن عليه، وأمره بتأديبه.
وفيها قدم الوضاح الشروي بعبد الله بْن أبي عبيد الله الوزير- وهو معاوية ابن عبيد الله الأشعري من أهل الشام- وكان الذي يسعى به ابن شبابة وقد رمي بالزندقة وقد ذكرنا أمره ومقتله قبل.
وفيها ولي إبراهيم بْن يحيى بْن محمد على المدينة، مدينه رسول الله ص، وعلى الطائف ومكة عبيد الله بْن قثم.
وفيها عزل منصور بْن يزيد بْن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بْن سليمان الربعي.
وفيها خلى المهدي عبد الصمد بْن علي من حبسه الذي كان فيه
. [أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد.
وكان عامل الكوفة في هذه السنة على الصلاة وأحداثها هاشم بْن سعيد، وعلى صلاة البصرة وأحداثها روح بْن حاتم، وعلى قضائها خالد بْن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي، وعلى مصر إبراهيم بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.
ولم يكن في هذه السنة صائفة، للهدنة التي كانت فيها

(8/163)


ثم دخلت

سنة سبع وستين ومائة
(ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذَلِكَ مَا كان من توجيه المهدي ابنه موسى في جمع كثيف من الجند، وجهاز لم يجهز- فيما ذكر- أحد بمثله، إلى جرجان لحرب ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان، وجعل المهدي حين جهز موسى إليها أبان بْن صدقة على رسائله، ومحمد بْن جميل على جنده، ونفيعا مولى المنصور على حجابته، وعلي بْن عيسى بْن ماهان على حرسه، وعبد الله بْن خازم على شرطه، فوجه موسى الجنود إلى وانداهرمز وشروين، وأمر عليهم يزيد بْن مزيد، فحاصرهما.
وفيها توفى عيسى بن موسى بالكوفه، وولى الكوفة يومئذ روح بْن حاتم، فأشهد روح بْن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ثم دفن وقيل إن عيسى بْن موسى توفي وروح على الكوفة، لثلاث بقين من ذي الحجة، فحضر روح جنازته، فقيل له: تقدم فأنت الأمير، فقال: ما كان الله ليرى روحا يصلي على عيسى بْن موسى، فليتقدم أكبر ولده، فأبوا عليه وأبى عليهم، فتقدم العباس بْن عيسى، فصلى على أبيه وبلغ ذلك المهدي، فغضب على روح، وكتب إليه:
قد بلغني ما كان من نكوصك عن الصلاة على عيسى، أبنفسك، أم بأبيك، أم بجدك كنت تصلي عليه! أو ليس إنما ذلك مقامي لو حضرت.
فإذ غبت كنت أنت أولى به لموضعك من السلطان! وامر بمحاسبته، وكان يلي الخراج مع الصلاة والأحداث.
وتوفي عيسى والمهدي واجد عليه وعلى ولده، وكان يكره التقدم عليه لجلالته

(8/164)


وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذي، فأخذ يزيد بْن الفيض كاتب المنصور، فأقر- فيما ذكر- فحبس، فهرب من الحبس، فلم يقدر عليه.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بْن عبيد الله عن ديوان الرسائل، وولاه الربيع الحاجب، فاستخلف عليه سعيد بْن واقد، وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته.
وفيها فشا الموت، وسعال شديد ووباء شديد ببغداد والبصرة.
وفيها توفي أبان بْن صدقة بجرجان، وهو كاتب موسى على رسائله، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول يزيد خليفة أبي عبيد الله.
وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام، فدخلت فيه دور كثيرة.
وولى بناء ما زيد فيه يقطين بْن موسى، فكان في بنائه إلى أن توفي المهدي.
وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان، وما كان إليه من تلك الناحية، ووليها عمر بْن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي، وعزل عنها يحيى الحرشي.
وفيها أظلمت الدنيا لليال بقين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار ولم يكن فيها صائفة، للهدنة التي كانت بين المسلمين والروم.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج وقدومه المدينة بأيام، وولي مكانه إسحاق بْن عيسى ابن على.
وفيها طعن عقبه بن سلم الهنائى بعيساباذ، وهو في دار عمر بن بزيع، اغتاله رجل، فطعنه بخنجر، فمات فيها

(8/165)


وكان العامل على مكة والطائف فيها عبيد الله بْن قثم، وعلى اليمن سليمان بْن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بْن مصعب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها روح بْن حاتم، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بْن سليمان، وعلى قضائها عمر بْن عثمان التيمي، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي.
وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي.
وعلى مصر موسى بْن مصعب وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم.
وعلى طبرستان والرويان عمر بْن العلاء، وعلى جرجان ودنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.

(8/166)


ثم دخلت

سنة ثمان وستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من نقض الروم الصلح الذي كان جرى بينهم وبين هارون بْن المهدي الذي ذكرناه قبل وغدرهم، وذلك في شهر رمضان من هذه السنة، فكان بين أول الصلح وغدر الروم ونكثهم به اثنان وثلاثون شهرا، فوجه علي بْن سليمان وهو يومئذ على الجزيرة وقنسرين يزيد بْن بدر بْن البطال في سرية إلى الروم فغنموا وظفروا.
وفيها وجه المهدى سعيدا الحرشي إلى طبرستان في أربعين ألف رجل.
وفيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة، وولي مكانه حمدويه، وهو محمد بْن عيسى من أهل ميسان.
وفيها قتل المهدي الزنادقة ببغداد.
وفيها رد المهدي ديوانه وديوان أهل بيته إلى المدينة ونقله من دمشق إليها.
وفيها خرج المهدي إلى نهر الصلة أسفل واسط- وإنما سمي نهر الصلة فيما ذكر لأنه أراد أن يقطع أهل بيته وغيرهم غلته، يصلهم بذلك.
وفيها ولى المهدي علي بْن يقطين ديوان زمام الأزمة على عمر بْن بزيع.
وذكر أحمد بْن موسى بْن حمزة، عن أبيه، قَالَ: أول من عمل ديوان الزمام عمر بْن بزيع في خلافة المهدي، وذلك أنه لما جمعت له الدواوين تفكر، فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين الأزمة، وولى كل ديوان رجلا، فكان واليه على زمام ديوان الخراج اسماعيل ابن صبيح، ولم يكن لبني أمية دواوين أزمة.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن ريطة.

(8/167)


ثم دخلت

سنة تسع وستين ومائة
ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا

ذكر الخبر عن خروج المهدى الى ماسبذان
فمما كان فيها من ذلك خروج المهدي في المحرم إلى ماسبذان.
ذكر الخبر عن خروجه إليها:
ذكر أن المهدي كان في آخر أمره قد عزم على تقديم هارون ابنه على ابنه موسى الهادي، وبعث إليه وهو بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة، ويقدم الرشيد فلم يفعل، فبعث إليه المهدي بعض الموالي، فامتنع عليه موسى من القدوم، وضرب الرسول، فخرج المهدي بسبب موسى وهو يريده بجرجان فأصابه ما أصابه.
وذكر الباهلي أن أبا شاكر أخبره- وكان من كتاب المهدي على بعض دواوينه- قَالَ: سأل علي بْن يقطين المهدي أن يتغدى عنده، فوعده أن يفعل، ثم اعتزم على إتيان ماسبذان، فو الله لقد أمر بالرحيل كأنه يساق إليها سوقا، فقال له علي: يا أمير المؤمنين، إنك قد وعدتني أن تتغدى عندي غدا، قَالَ: فاحمل غداءك إلى النهروان قَالَ: فحمله فتغدى بالنهروان، ثم انطلق.
وفيها توفي المهدي
. ذكر الخبر عن موت المهدي
ذكر الخبر عن سبب وفاته:
اختلف في ذلك، فذكر عن واضح قهرمان المهدي، قَالَ: خرج المهدي يتصيد بقرية يقال لها الرذ بماسبذان، فلم أزل معه إلى بعد العصر،

(8/168)


وانصرفت إلى مضربي- وكان بعيدا من مضربه- فلما كان في السحر الاكبر ركبت لإقامة الوظائف، فإني لأسير في برية، وقد انفردت عمن كان معي من غلماني وأصحابي، إذ لقيني اسود عريان على قتد رحل، فدنا مني، ثم قَالَ لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فهممت أن أعلوه بالسوط، فغاب من بين يدي، فلما انتهيت إلى الرواق لقيني مسرور، فقال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فدخلت فإذا أنا به مسجى في قبة، فقلت: فارقتكم بعد صلاة العصر، وهو أسر ما كان حالا وأصحه بدنا، فما كان الخبر؟ قَالَ: طردت الكلاب ظبيا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة، فاقتحمت الكلاب خلفه، واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره في باب الخربة، فمات من ساعته.
وذكر أن علي بْن أبي نعيم المروزي، قَالَ: بعثت جارية من جواري المهدي إلى ضرة لها بلبأ فيه سم، وهو قاعد في البستان، بعد خروجه من عيساباذ، فدعا به فأكل منه، ففرقت الجارية أن تقول له: إنه مسموم.
وحدثني أحمد بْن محمد الرازي، أن المهدي كان جالسا في علية في قصر بماسبذان، يشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة، قد عمدت إلى كمثراتين كبيرتين، فجعلتهما في صينية، وسمت واحدة منهما وهي أحسنهما وأنضجهما في أسفلها، وردت القمع فيها، ووضعتها في أعلى الصينية- وكان المهدي يعجبه الكمثرى- وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جاريه للمهدي- وكان يتحظاها- تريد بذلك قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية التي فيها تلك الكمثرى، تريد دفعها إلى الجارية التي أرسلتها حسنة إليها، بحيث يراها المهدي من المنظرة، فلما رآها ورأى معها الكمثرى، دعا بها، فمد يده إلى الكمثراة التي في أعلى الصينية وهي المسمومة، فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صرخ: جوفي! وسمعت حسنة الصوت، وأخبرت الخبر، فجاءت

(8/169)


تلطم وجهها وتبكي، وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي! فهلك من يومه.
وذكر عبد الله بْن إسماعيل صاحب المراكب، قَالَ: لما صرنا إلى ماسبذان دنوت إلى عنانه، فامسكت به وما به عله، فو الله ما أصبح إلا ميتا، فرأيت حسنة وقد رجعت، وإن على قبتها المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك:
رحن في الوشي وأصبحن ... عليهن المسوح
كل نطاح من الدهر ... له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عمرت ... ما عمر نوح
فعلى نفسك نح إن ... كنت لا بد تنوح
وذكر صالح القارئ أن علي بْن يقطين، قَالَ: كنا مع المهدي بماسبذان فأصبح يوما فقال: إني أصبحت جائعا، فأتي بأرغفة ولحم بارد مطبوخ بالخل، فأكل منه ثم قَالَ: إني داخل إلى البهو ونائم فيه، فلا تنبهوني حتى أكون أنا الذي أنتبه، ودخل البهو فنام، ونمنا نحن في الدار في الرواق، فانتبهنا ببكائه، فقمنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئا، قَالَ:
وقف على الباب رجل، لو كان في ألف أو في مائة ألف رجل ما خفي علي، فأنشد يقول:
كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادي عليه معولات حلائله

(8/170)


قَالَ: فما أتت عليه عاشرة حتى مات.
وكانت وفاته- فيما قَالَ أبو معشر والواقدي- في سنة تسع وستين ومائة، ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا ونصف شهر.
قال بعضهم: كانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يوما، وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
وقال هشام بْن محمد: ملك أبو عبد الله المهدي محمد بْن عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائة، في ذي الحجة لست ليال خلون منه، فملك عشر سنين وشهرا واثنين وعشرين يوما، ثم توفي سنة تسع وستين ومائة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة
. ذكر الخبر عن الموضع الَّذِي دفن فِيهِ ومن صلى عليه
ذكر أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان، يقال لها الرذ، وفي ذلك يقول بكار بْن رباح:
ألا رحمة الرحمن في كل ساعة ... على رمة رمت بماسبذان
لقد غيب القبر الذي تم سوددا ... وكفين بالمعروف تبتدران
وصلى عليه ابنه هارون، ولم توجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها.
وكان طويلا مضمر الخلق، جعدا واختلف في لونه، فقال بعضهم:
كان أسمر، وقال بعضهم: كان أبيض.
وكان في عينه اليمنى- في قول بعضهم- نكتة بياض وقال بعضهم:
كان ذلك بعينه اليسرى.
وكان ولد بايذج.

(8/171)


ذكر بعض سير المهدي وأخباره
ذكر عن هارون بْن أبي عبيد الله، قَالَ: كان المهدي إذا جلس للمظالم، قَالَ: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.
وذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: حدثني علي بْن صالح، قَالَ:
جلس المهدي ذات يوم يعطي جوائز تقسم بحضرته في خاصته من أهل بيته والقواد، وكان يقرأ عليه الأسماء، فيأمر بالزيادة، العشرة الآلاف والعشرين الألف، وما أشبه ذلك، فعرض عليه بعض القواد، فقال: يحط هذا خمسمائة، قَالَ: لم حططتني يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: لأني وجهتك إلى عدو لنا فانهزمت قَالَ: كان يسرك أن أقتل؟ قَالَ: لا، قَالَ: فو الذى أكرمك بما أكرمك به من الخلافة لو ثبت لقتلت، فاستحيا المهدي منه، وقال: زده خمسة آلاف.
قَالَ الحسن: وحدثني علي بْن صالح، قَالَ: غضب المهدي على بعض القواد- وكان عتب عليه غير مرة- فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟
قَالَ: إلى أبد نسيء، ويبقيك الله فتعفو عنا، فكررها عليه مرات، فاستحيا منه ورضي عنه.
وذكر محمد بْن عمر، عن حفص مولى مزينة، عن أبيه، قَالَ: كان هشام الكلبي صديقا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد، فكنت أراه في حال رثة وفي أخلاق على بغلة هزيل، والضر فيه بين وعلى بغلته، فما راعني إلا وقد لقيني يوما على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرة، قَالَ لي: نعم، اخبرك عنها، فاكتم، فبينما

(8/172)


أنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر، إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خال ليس عنده أحد، وبين يديه كتاب، فقال:
ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه، فقال: خذ هذا الكتاب فاقرأه ولا يمنعك ما فيه مما تستفظعه أن تقرأه قَالَ: فنظرت في الكتاب، فلما قرأت بعضه استفظعته، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، فقال لي: قد قلت لك: إن استفظعته فلا تلقه، اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره! قَالَ: فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبا عجيبا، لم يبق له فيه شيئا، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الملعون الكذاب؟ قَالَ: هذا صاحب الأندلس، قَالَ: قلت: فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته.
قَالَ: ثم اندرأت أذكر مثالبهم، قَالَ: فسر بذلك، وقال: أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب قَالَ: ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية، وأمرني فصرت إليه، فصدر الكاتب من المهدي جوابا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت، فلم أبق شيئا حتى فرغت من الكتاب، ثم عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم، وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس قال: ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك، وقال لي: اكتم ما سمعت.
قَالَ الحسن: وحدثني مسور بْن مساور، قَالَ: ظلمني وكيل للمهدي، وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلاما صاحب المظالم، فتظلمت منه وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنده عمه العباس بْن محمد وابن علاثة وعافية القاضي قَالَ: فقال لي المهدي: ادنه، فدنوت، فقال:
ما تقول؟ قلت: ظلمتني، قَالَ: فترضى بأحد هذين؟ قَالَ: قلت: نعم،

(8/173)


قَالَ: فادن مني، فدنوت منه حتى التزقت بالفراش، قَالَ: تكلم، قلت:
أصلح الله القاضي! أنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: ضيعتي وفي يدي، قَالَ: قلت: أصلح الله القاضي! سله، صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قَالَ: فسأله: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: صارت إلي بعد الخلافة قَالَ: فأطلقها له، قَالَ: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا امير المؤمنين لذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم.
قَالَ: وحدثني عبد الله بْن الربيع، قَالَ: سمعت مجاهدا الشاعر يقول:
خرج المهدي متنزها، ومعه عمر بْن بزيع مولاه، قَالَ: فانقطعنا عن العسكر، والناس في الصيد، فأصاب المهدي جوع، فقال: ويحك! هل من شيء؟
قَالَ: ما من شيء، قَالَ: أرى كوخًا وأظنها مبقلة، فقصدنا قصده، فإذا نبطي في كوخ ومبقلة، فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: هل عندك شيء نأكل؟ قَالَ: نعم عندي ربيثاء وخبز شعير، فقال المهدي: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قَالَ: نعم، قال: وكراث؟ قَالَ: نعم، ما شئت وتمر قَالَ: فعدا نحو المبقلة، فأتاهم ببقل وكراث وبصل، فأكلا أكلا كثيرا، وشبعا، فقال المهدي لعمر بْن بزيع: قل في هذا شعرا، فقال:
إن من يطعم الربيثاء بالزيت ... وخبز الشعير بالكراث
لحقيق بصفعة أو بثنتين ... لسوء الصنيع أو بثلاث
فقال المهدي: بئس ما قلت، ليس هكذا.
لحقيق ببدرة أو بثنتين ... لحسن الصنيع أو بثلاث
قال: ووافى العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف.
وذكر محمد بْن عبد الله، قَالَ: أخبرني أبو غانم، قَالَ: كان زيد

(8/174)


الهلالي رجلًا شريفًا سخيا مشهورا من بني هلال، وكان نقش خاتمه:
أفلح يا زيد من زكا عمله، فبلغ ذلك المهدي، فقال زيد الهلالي:
زيد الهلالي نقش خاتمه ... أفلح يا زيد من زكا عمله
قَالَ: وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح في أيام المهدي حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب أمير المؤمنين، فوجدته واضعا خده على الأرض، يقول: اللهم احفظ محمدا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك، قَالَ: فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنا فيه.
وقَالَ الموصلي: قَالَ عبد الصمد بْن علي: قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين، أنا أهل بيت قد أشرب قلوبنا حب موالينا وتقديمهم، وإنك قد صنعت من ذلك ما أفرطت فيه، قد وليتهم أمورك كلها، وخصصتهم في ليلك ونهارك، ولا آمن تغيير قلوب جندك وقوادك من أهل خراسان، قَالَ:
يا أبا محمد، ان الموالي يستحقون ذلك، وليس أحد يجتمع لي فيه أن أجلس للعامة فأدعو به فأرفعه حتى تحك ركبته ركبتي، ثم يقوم من ذلك المجلس، فأستكفيه سياسة دابتي، فيكفيها، لا يرفع نفسه عن ذلك الا موالي هؤلاء، فإنهم لا يتعاظمهم ذلك، ولو أردت هذا من غيرهم لقال: ابن دولتك والمتقدم في دعوتك، وأين من سبق إلى بيعتك، لا أدفعه عن ذلك.
قَالَ علي بْن محمد: قَالَ الفضل بْن الربيع: قَالَ المهدي لعبد الله بْن مالك: صارع مولاي هذا، فصارعه، فأخذ بعنقه، فقال المهدي: شد، فلما رأى ذلك عبد الله أخذ برجله فسقط على رأسه فصرعه فقال عبد الله للمهدي: يا أمير المؤمنين، قمت من عندك وأنا أحب الناس إليك، فلم تزل علي مع مولاك قَالَ: أما سمعت قول الشاعر:

(8/175)


ومولاك لا يهضم لديك فإنما ... هضيمة مولى القوم جدع المناخر
قال أبو الخطاب: لما حضرت القاسم بْن مجاشع التميمي- من أهل مرو بقرية يقال لها باران- الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» ، إلى آخر الآية ثم كتب: والقاسم بْن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أن محمدا عبده ورسوله ص، وان علي بْن أبي طالب وصي رسول الله ص ووارث الأمامة بعده قَالَ: فعرضت الوصية على المهدي، فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها قَالَ أبو الخطاب: فلم يزل ذلك في قلب أبي عبيد الله الوزير، فلما حضرته الوفاة كتب في وصيته هذه الآية قَالَ: وقال الهيثم بْن عدي: دخل على المهدي رجل، فقال:
يا أمير المؤمنين، إن المنصور شتمني وقذف أمي، فإما أمرتني ان احله، والا عوضتني واستغفرت الله له قَالَ: ولم شتمك؟ قَالَ: شتمت عدوه بحضرته، فغضب، قَالَ: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قَالَ: إبراهيم بْن عبد الله ابن حسن، قَالَ: إن إبراهيم أمس به رحما وأوجب عليه حقا، فإن كان شتمك كما زعمت، فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع، وما أساء من انتصر لابن عمه قَالَ: انه كان عدوا له، قال: فلم ينتصر للعداوة، وإنما انتصر للرحم، فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي، قَالَ: لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى! قَالَ: نعم، قَالَ: فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم.
قَالَ: وأتى المهدي برجل قد تنبأ، فلما رآه، قَالَ: أنت نبي؟ قَالَ:
نعم، قَالَ: وإلى من بعثت؟ قَالَ: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه!

(8/176)


وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي، ووضعتموني في الحبس! قَالَ: فضحك المهدي منه، وخلى سبيله.
وذكر أبو الأشعث الكندي، قَالَ: حدثني سليمان بْن عبد الله، قَالَ:
قَالَ الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة، فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم القمر، أم ثيابه! قَالَ: فقرأ هذه الآية:
«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» ، قَالَ: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قَالَ: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بْن جعفر، وكان محبوسا عندي! قَالَ: فجعلت أفكر، قَالَ: فقلت: ما هو إلا موسى بْن جعفر، قَالَ: فأحضرته، قَالَ: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» ، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي قَالَ: فقال: نعم، فوثق له وخلاه.
وذكر إبراهيم بْن أبي علي، قَالَ: سمعت سليمان بْن داود، يقول: سمعت المهدى يحدثنا في محراب المسجد على اللحن اليتيم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ» ، في سوره النساء.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: حضرت المهدي وقد جلس للمظالم، فتقدم إليه رجل من آل الزبير، فذكر ضيعة اصطفاها عن أبيه بعض ملوك بني أمية، ولا أدري: الوليد، أم سليمان! فأمر أبا عبيد الله أن يخرج ذكرها من الديوان العتيق، ففعل، فقرأ ذكرها على المهدي، وكان ذلك أنها عرضت على عدة منهم لم يروا ردها، منهم عمر ابن عبد العزيز، فقال المهدي: يا زبيري، هذا عمر بْن عبد العزيز، وهو منكم معشر قريش كما علمتم لم ير ردها، قَالَ: وكل أفعال عمر ترضى؟

(8/177)


قَالَ: وأي أفعاله لا ترضى؟ قَالَ: منها أنه كان يفرض للسقط من بني أمية في خرقة في الشرف من العطاء، ويفرض للشيخ من بني هاشم في ستين.
قَالَ: يا معاوية أكذلك كان يفعل عمر؟ قَالَ: نعم، قَالَ: اردد على الزبيري ضيعته.
وذكر عمر بْن شبة أن أبا سلمة الغفاري حدثه، قَالَ: كتب المهدي إلى جعفر بْن سليمان وهو عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة اتهموا بالقدر، فحمل إليه رجالا، منهم عبد الله بْن أبي عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وعبد الله بْن يزيد بْن قيس الهذلي، وعيسى بْن يزيد بن داب الليثى، وابراهيم ابن محمد بْن أبي بكر الأسامي، فأدخلوا على المهدى، فانبرى له عبد الله ابن أبي عبيدة من بينهم، فقال: هذا دين أبيك ورأيه؟ قَالَ: لا، ذاك عمي داود قَالَ: لا، إلا أبوك، على هذا فارقنا وبه كان يدين فأطلقهم.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، قال: حدثنى ابى، عن محمد ابن عبد الله بن محمد بن علي بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ:
رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله ص، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بْن عبد الملك، وإذا قائل يقول: يمحو هذا الكتاب ويكتب مكانه اسمه رجل من بني هاشم يقال له محمد قال: قلت: أنا محمد، وأنا من بني هاشم، فابن من؟ قَالَ:
ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قَالَ: ابن محمد، قلت:
فأنا ابن محمد، فابن من؟ قَالَ: ابن علي، قلت: فأنا ابن علي، فابن من؟ قَالَ: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قَالَ:
عباس، فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر قَالَ:
فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ونحن لا نعرف المهدى، فتحدث الناس بها حتى ولى المهدى، فدخل مسجد رسول الله ص، فرفع راسه

(8/178)


فنظر فرأى اسم الوليد، فقال: وإني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله ص إلى اليوم، فدعا بكرسي فألقي له في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه وأمر أن يحضر العمال والسلاليم وما يحتاج إليه، فلم يبرح حتى غير وكتب اسمه.
وذكر أحمد بْن الهيثم القرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عطاء، قَالَ: خرج المهدي بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون، بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية الرسول، فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله! قَالَ: فأمر نصيرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: سمعت أبي يقول: كان أول من افترش الطبري المهدي، وذلك أن أباه كان أمره بالمقام بالري، فأهدي إليه الطبري من طبرستان، فافترشه، وجعل الثلج والخلاف حوله، حتى فتح لهم الخيش، فطاب لهم الطبري فيه.
وذكر محمد بْن زياد، قَالَ: قَالَ المفضل: قَالَ لي المهدي: اجمع لي الأمثال مما سمعتها من البدو، وما صح عندك قَالَ: فكتبت له الأمثال وحروب العرب مما كان فيها، فوصلني وأحسن إلي.
قَالَ علي بْن محمد: كان رجل من ولد عبد الرحمن بْن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي فخلى سبيله وأكرمه، وقرب مجلسه فقال له يوما: أنشدني قصيدة زهير التي هي على الراء، وهي:
لمن الديار بقنة الحجر

(8/179)


فأنشده، فقال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا الشعر، فغضب المهدي واستجهله، ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس.
وذكر أن أبا عون عبد الملك بْن يزيد مرض، فعاده المهدي، فإذا منزل رث وبناء سوء، وإذا طاق صفته التي هو فيها لبن قَالَ: وإذا مضربة ناعمة في مجلسه، فجلس المهدي على وسادة، وجلس أبو عون بين يديه، فبره المهدي، وتوجع لعلته وقال أبو عون: أرجو عافية الله يا أمير المؤمنين، وألا يميتني على فراشي حتى أقتل في طاعتك، وانى لواثق بالا أموت حتى أبلي الله في طاعتك ما هو اهله، فانا قد روينا قَالَ: فأظهر له المهدي رأيا جميلا، وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك، فو الله لئن عجز مالك عن شيء توصي به لأحتملنه كائنا ما كان، فقل وأوص قَالَ: فشكر أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن ترضى عن عبد الله بْن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه قَالَ: فقال: يا أبا عون، إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك، إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، ويسيء القول فيهما.
قَالَ: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم قال:
وانصرف المهدي، فلما كان في الطريق قَالَ لبعض من كان معه من ولده وأهله: ما لكم لا تكونون مثل أبي عون! والله ما كنت أظن منزله إلا مبنيا بالذهب والفضة، وأنتم إذا وجدتم درهما بنيتم بالساج والذهب.
وذكر أبو عبد الله، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: خطب المهدي يوما، فقال: عباد الله، اتقوا الله، فقام إليه رجل، فقال: وأنت فاتق الله، فإنك تعمل بغير الحق قَالَ: فأخذ فحمل، فجعلوا يتلقونه بنعال سيوفهم، فلما ادخل عليه قال: يا بن الفاعلة، تقول لي وأنا على المنبر: اتق الله! قَالَ:
سوءة لك! لو كان هذا من غيرك كنت المستعدي بك عليه، قَالَ: ما أراك

(8/180)


إلا نبطيا، قَالَ: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله قَالَ: فرئي الرجل بعد ذلك، فكان يحدث بما جرى بينه وبين المهدي.
قَالَ: فقال أبي: وأنا حاضره، إلا أني لم أسمع الكلام وقال هارون بْن ميمون الخزاعي: حدثنا أبو خزيمة البادغيسي، قَالَ:
قَالَ المهدي: ما توسل إلي أحد بوسيلة، ولا تذرع بذريعة هي أقرب من تذكيره إياي يدا سلفت مني إليه أتبعها أختها، فأحسن ربها، لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
قَالَ: وذكر خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير، أن أباه حدثه، قَالَ:
كان بشار بْن برد بْن يرجوخ هجا صالح بْن داود بْن طهمان- أخا يعقوب ابن داود- حين ولي البصرة، فقال:
هم حملوا فوق المنابر صالحا ... أخاك فضجت من أخيك المنابر
فبلغ يعقوب بْن داود هجاؤه، فدخل على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين، قَالَ: ويلك! وما قَالَ؟
قَالَ: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده ذلك، قَالَ: فأبى عليه إلا أن ينشده، فأنشده:
خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في حر الخيزران
قَالَ: فوجه في حمله، فخاف يعقوب بْن داود أن يقدم على المهدي، فيمتدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة.
وذكر عبد الله بْن عمر: حدثني جدي أبو الحي العبسي، قَالَ:
لما دخل مروان بْن أبي حفصة على المهدي، فأنشده شعره الذي يقول فيه:

(8/181)


أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
فأجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان:
بسبعين ألفا راشني من حبائه ... وما نالها في الناس من شاعر قبلي
وذكر أحمد بْن سليمان، قَالَ: أخبرني أبو عدنان السلمي، قَالَ: قَالَ المهدي لعمارة بْن حمزة: من أرق الناس شعرا؟ قَالَ: والبة بْن الحباب الأسدي، وهو الذي يقول:
ولها ولا ذنب لها ... حب كأطراف الرماح
في القلب يقدح والحشا ... فالقلب مجروح النواحي
قَالَ: صدقت والله، قَالَ: فما يمنعك من منادمته يا أمير المؤمنين، وهو عربي شريف شاعر ظريف؟ قَالَ: يمنعني والله من منادمته، قوله:
قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من رأسي
ونم على وجهك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسي
افتريد ان يكون جلاسه على هذه الشريطة! وذكر محمد بْن سلام أنه كان في زمان المهدي إنسان ضعيف يقول الشعر إلى أن مدح المهدي قَالَ: فأدخل عليه فأنشده شعرا يقول فيه: وجوار زفرات، فقال له المهدي: أي شيء زفرات؟ قَالَ وما تعرفها أنت يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: لا والله، قَالَ: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول الله ص لا تعرفها، أعرفها أنا! كلا والله.
قَالَ ابن سلام: أخبرني غير واحد أن طريح بْن إسماعيل الثقفي دخل على المهدي فانتسب له، وسأله أن يسمع منه، فقال: ألست الذي يقول للوليد بْن يزيد:

(8/182)


أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تطرق عليك الحني والولج
والله لا تقول لي في مثل هذا أبدا، ولا أسمع منك شعرا، وإن شئت وصلتك.
وذكر أن المهدي أمر بالصوم سنة ست وستين ليستسقي للناس في اليوم الرابع، فلما كان في الليلة الثالثة أصابهم الثلج، فقال لقيط بْن بكير المحاربي في ذلك:
يا إمام الهدى سقينا بك الغيث ... وزالت عنا بك اللأواء
بت تعني بالحفظ والناس نوام ... عليهم من الظلام غطاء
رقدوا حيث طال ليلك فيهم ... لك خوف تضرع وبكاء
قد عنتك الأمور منهم على الغفلة ... من معشر عصوا وأساءوا
وسقينا وقد قحطنا وقلنا ... سنة قد تنكرت حمراء
بدعاء أخلصته في سواد الليل ... لله فاستجيب الدعاء
بثلوج تحيا بها الأرض حتى ... أصبحت وهي زهرة خضراء
وذكر أن الناس في أيام المهدي صاموا شهر رمضان في صميم الصيف، وكان أبو دلامة إذ ذاك يطالب بجائزة وعدها إياه المهدي، فكتب إلى المهدي رقعة يشكو إليه فيها ما لقي من الحر والصوم، فقال في ذلك:
أدعوك بالرحم التي جمعت لنا ... في القرب بين قريبنا والأبعد
ألا سمعت وأنت أكرم من مشى ... من منشد يرجو جزاء المنشد
حل الصيام فصمته متعبدا ... أرجو ثواب الصائم المتعبد
وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ... مما أكلف من نطاح المسجد

(8/183)


قَالَ: فلما قرأ المهدي الرقعة دعا به، فقال: اى قرابه بيني وبينك يا بن اللخناء! قَالَ: رحم آدم وحواء فضحك منه وأمر له بجائزة.
وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، عن إبراهيم بْن خالد المعيطي قَالَ: دخلت على المهدي- وقد وصف له غنائي- فسألني عن الغناء وعن علمي به، وقال لي: تغني النواقيس؟ قلت: نعم والصليب يا أمير المؤمنين! فصرفني، وبلغني أنه قَالَ: معيطي، ولا حاجة لي إليه فيمن ادنيه من خلوتي ولا آنس به.
ولمعبد المغنى النواقيس في هذا الشعر:
سلا دار ليلى هل تجيب فتنطق ... وأنى ترد القول بيداء سملق
وأنى ترد القول دار كأنها ... لطول بلاها والتقادم مهرق
وذكر قعنب بْن محرز أبو عمرو الباهلي أن الأصمعي حدثه، قَالَ:
رأيت حكما الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس، فعرض له في الطريق، وكان له شعيرات، وأخرج دفا له يضربه، وقال: أنا القائل:
فمتى تخرج العروس ... فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم تقض لبسها
فتسرع إليه الحرس فصيح بهم: كفوا، وسأل عنه فقيل: حكم الوادي، فأدخله إليه ووصله.
وذكر علي بْن محمد أنه سمع أباه يقول: دخل المهدي بعض دوره يوما فإذا جارية له نصرانية، وإذا جيبها واسع وقد انكشف عما بين ثدييها، وإذا صليب من ذهب معلق في ذلك الموضع، فاستحسنه، فمد يده إليه فجذبه،

(8/184)


فأخذه، فولولت على الصليب، فقال المهدي في ذلك:
يوم نازعتها الصليب فقالت ... ويح نفسي أما تحل الصليبا!
قَالَ: وأرسل إلى بعض الشعراء فأجازه، وأمر به فغنى فيه، وكان معجبا بهذا الصوت.
قَالَ: وسمعت أبي يقول: إن المهدي نظر إلى جارية له عليها تاج فيه نرجس من ذهب وفضة، فاستحسنه فقال:
يا حبذا النرجس في التاج.
فارتج عليه، فقال: من بالحضرة؟ قالوا: عبد الله بْن مالك، فدعاه، فقال: إني رأيت جارية لي فاستحسنت تاجا عليها فقلت:
يا حبذا النرجس في التاج.
فتستطيع أن تزيد فيه؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن دعني أخرج فأفكر، قَالَ: شأنك، فخرج وأرسل إلى مؤدب لولده فسأله إجازته، فقال:
على جبين لاح كالعاج.
وأتمها أبياتا أربعة، فأرسل بها عبد الله إلى المهدي، فأرسل إليه المهدي بأربعين ألفا، فأعطى المؤدب منها أربعة آلاف، وأخذ الباقي لنفسه، وفيها غناء معروف.
وذكر أحمد بْن موسى بْن مضر أبو علي، قَالَ: أنشدني التوزي في حسنة جاريته:
أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيك أنك تملكيني ... وإن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي

(8/185)


وذكر علي بْن محمد، عن أبيه، قَالَ: رأيت المهدي وقد دخل البصرة من قبل سكة قريش، فرأيته يسير والبانوقة بين يديه، بينه وبين صاحب الشرطة، عليها قباء أسود، متقلدة سيفا في هيئة الغلمان قَالَ: وإني لأرى في صدرها شيئا من ثدييها.
قَالَ علي: وحدثني أبي، قَالَ: قدم المهدي إلى البصرة، فمر في سكة قريش، وفيها منزلنا، وكانت الولاة لا تمر فيها إذا قدم الوالي، كانوا يتشاءمون بها- قل وال مر فيها فأقام في ولايته إلا يسيرا حتى يعزل- ولم يمر فيها خليفة قط إلا المهدي، كانوا يمرون في سكة عبد الرحمن بْن سمرة، وهي تساوي سكة قريش، فرأيت المهدي يسير، وعبد الله بْن مالك على شرطه يسير أمامه، في يده الحربة، وابنته البانوقه تسير بينه وبين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود ومنطقة وشاشية، متقلدة السيف، وإني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما.
قَالَ: وكانت البانوقة سمراء حسنة القد حلوة فلما ماتت- وذلك ببغداد- أظهر عليها المهدي جزعا لم يسمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر ألا يحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بْن شيبة، فإنه قَالَ:
يا أمير المؤمنين، الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها، وأنا أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك.
وذكر صباح بْن عبد الرحمن، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: توفيت البانوقة بنت المهدي، فدخل عليه شبيب بْن شيبة، فقال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجرا، وأعقبك صبرا، لا أجهد الله بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل الى رده.

(8/186)