تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
خلافة الهادي
وفي هذه السنة بويع لموسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد
الله بن العباس بالخلافة، يوم توفي المهدي، وهو مقيم بجرجان يحارب أهل
طبرستان، وكانت وفاة المهدي بماسبذان ومعه ابنه هارون، ومولاه الربيع
ببغداد خلفه بها، فذكر أن الموالي والقواد لما توفي المهدي اجتمعوا إلى
ابنه هارون، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب،
والرأي أن يحمل، وتنادي في الجند بالقفل حتى تواريه ببغداد فقال هارون:
ادعوا إلي أبي يحيى بْن خالد البرمكي- وكان المهدي ولى هارون المغرب
كله، من الأنبار إلى إفريقية، وأمر يحيى بْن خالد أن يتولى ذلك، فكانت
إليه أعماله ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولى منها الى ان توفى-
قال: فصار يحيى بْن خالد إلى هارون، فقال له: يا أبت، ما تقول فيما
يقول عمر بْن بزيع ونصير والمفضل؟ قال: وما قالوا؟ فأخبره، قَالَ: ما
أرى ذلك، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأن هذا ما لا يخفى، ولا آمن إذا علم
الجند أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخليه حتى نعطى لثلاث سنين
وأكثر، ويتحكموا ويشتطوا، ولكن أرى أن يوارى رحمه الله هاهنا، وتوجه
نصيرا إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية،
فإن البريد إلى نصير، فلا ينكر خروجه أحد إذ كان على بريد الناحية، وأن
تأمر لمن معك من الجند بجوائز، مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالقفول،
فإنهم إذا قبضوا الدراهم لم تكن لهم همة سوى أهاليهم وأوطانهم، ولا
عرجة على شيء دون بغداد قال: نفعل ذلك وقال الجند لما قبضوا الدراهم:
بغداد بغداد! يتبادرون إليها، ويبعثون على الخروج من ماسبذان، فلما
وافوا بغداد، وعلموا خبر الخليفة، ساروا إلى باب الربيع فأحرقوه،
وطالبوا بالأرزاق، وضجوا وقدم هارون بغداد،
(8/187)
فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بْن
خالد تشاورهما في ذلك، فأما الربيع فدخل عليها، وأما يحيى فلم يفعل ذلك
لعلمه بشدة غيرة موسى.
قَالَ: وجمعت الأموال حتى أعطي الجند لسنتين، فسكتوا، وبلغ الخبر
الهادي، فكتب إلى الربيع كتابا يتوعده فيه بالقتل، وكتب إلى يحيى بْن
خالد يجزيه الخير، ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به،
وأن يتولى أموره وأعماله على ما لم يزل يتولاه قَالَ: فبعث الربيع إلى
يحيى بْن خالد- وكان يوده، ويثق به، ويعتمد على رأيه: يا أبا علي، ما
ترى؟ فإنه لا صبر لي على جر الحديد قَالَ: أرى ألا تبرح موضعك، وأن
توجه ابنك الفضل يستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك، فإني لأرجو
الا يرجع إلا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله قَالَ: وكانت أم الفضل ابنه
بحيث تسمع منهما مناجاتهما، فقالت له: نصحك والله قَالَ: فإني أحب أن
أوصي إليك، فانى لا ادرى ما يحدث فقال: لست أنفرد لك بشيء، ولا أدع ما
يجب، وعندي في هذا وغيره ما تحب، ولكن أشرك معي في ذلك الفضل ابنك وهذه
المرأة، فإنها جزلة مستحقة لذلك منك ففعل الربيع ذلك، وأوصى إليهم.
قَالَ الفضل بْن سليمان: ولما شغب الجند على الربيع ببغداد وأخرجوا من
كان في حبسه، وأحرقوا أبواب دوره في الميدان، حضر العباس بْن محمد وعبد
الملك بْن صالح ومحرز بْن إبراهيم ذلك، فرأى العباس أن يرضوا، وتطيب
أنفسهم، وتفرق جماعتهم بإعطائهم أرزاقهم، فبذل ذلك لهم فلم يرضوا، ولم
يثقوا مما ضمن لهم من ذلك، حتى ضمنه محرز بْن إبراهيم، فقنعوا بضمانه
وتفرقوا، فوفى لهم بذلك، وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرا، وذلك قبل قدوم
هارون فلما قدم- وكان هو خليفة موسى الهادي- ومعه الربيع وزيرا له، وجه
الوفود إلى الأمصار، ونعى إليهم المهدي، وأخذ بيعتهم لموسى الهادي، وله
بولاية العهد من بعده، وضبط أمر بغداد وقد كان نصير
(8/188)
الوصيف شخص من ماسبذان من يومه إلى جرجان
بوفاة المهدي والبيعة له، فلما صار إليه نادى بالرحيل، وخرج من فوره
على البريد جوادا ومعه من أهل بيته إبراهيم وجعفر، ومن الوزراء عبيد
الله بْن زياد الكاتب صاحب رسائله، ومحمد بْن جميل كاتب جنده فلما شارف
مدينة السلام استقبله الناس من أهل بيته وغيرهم، وقد كان احتمل على
الربيع ما كان منه وما صنع من توجيه الوفود وإعطائه الجنود قبل قدومه،
وقد كان الربيع وجه ابنه الفضل، فتلقاه بما أعد له من الهدايا،
فاستقبله بهمذان، فأدناه وقربه، وقال: كيف خلفت مولاي؟ فكتب بذلك إلى
أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي، فاعتذر إليه، وأعلمه السبب الذي
دعاه إلى ذلك، فقبله، وولاه الوزارة مكان عبيد الله بْن زياد بْن أبي
ليلى، وضم إليه ما كان عمر بْن بزيع يتولاه من الزمام، وولى محمد بْن
جميل ديوان خراج العراقين، وولى عبيد الله بْن زياد خراج الشام وما
يليه، وأقر على حرسه علي بْن عيسى بْن ماهان، وضم إليه ديوان الجند،
وولى شرطه عبد الله بْن مالك مكان عبد الله بْن خازم، وأقر الخاتم في
يد علي بْن يقطين.
وكانت موافاة موسى الهادي بغداد عند منصرفه من جرجان لعشر بقين من صفر
من هذه السنة، سار- فيما ذكر عنه- من جرجان إلى بغداد في عشرين يوما،
فلما قدمها نزل القصر الذي يسمى الخلد، فأقام به شهرا، ثم تحول إلى
بستان أبي جعفر، ثم تحول الى عيساباذ.
وفي هذه السنة هلك الربيع مولى أبي جعفر المنصور.
وقد ذكر علي بْن محمد النوفلي أن أباه حدثه أنه كانت لموسى الهادي
جارية، وكانت حظية عنده، وكانت تحبه وهو بجرجان حين وجهه إليها المهدي،
فقالت أبياتا، وكتبت إليه وهو مقيم بجرجان، منها:
يا بعيد المحل أمسى ... بجرجان نازلا
(8/189)
قَالَ: فلما جاءته البيعة وانصرف إلى
بغداد، لم تكن له همة غيرها، فدخل عليها وهي تغني بأبياتها، فأقام
عندها يومه وليلته قبل أن يظهر لأحد من الناس.
وفي هذه السنة اشتد طلب موسى الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة، فكان ممن
قتل منهم يزدان بْن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بْن يقطين من أهل
النهروان، ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال:
ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر وله يقول العلاء بْن الحداد الأعمى:
أيا أمين الله في خلقه ... ووراث الكعبة والمنبر
ماذا ترى في رجل كافر ... يشبه الكعبة بالبيدر
ويجعل الناس إذا ما سعوا ... حمرا تدوس البر والدوسر!
فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره
وقتل من بني هاشم يعقوب بْن الفضل.
وذكر عن علي بْن محمد الهاشمي، قَالَ: كان المهدي أتي بابن لداود ابن
علي زنديقا، وأتي بيعقوب بْن الفضل بْن عبد الرحمن بْن عباس بْن
رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب زنديقا، في مجلسين متفرقين،
فقال لكل واحد منهما كلاما واحدا، وذلك بعد أن أقرا له بالزندقة، أما
يعقوب بْن الفضل فقال له: أقر بها بيني وبينك، فأما إن أظهر ذلك عند
الناس فلا أفعل ولو قرضتني بالمقاريض، فقال له: ويلك! لو كشفت لك
السموات، وكان الأمر كما تقول، كنت حقيقا أن تغضب لمحمد، ولولا محمد ص
من كنت! هل كنت إلا إنسانا من الناس! أما والله لولا أني كنت جعلت لله
على عهدا إذا ولاني هذا الأمر ألا أقتل هاشميا لما ناظرتك ولقتلتك.
ثم التفت إلى موسى الهادي، فقال: يا موسى، أقسمت عليك بحقي إن وليت هذا
الأمر بعدي ألا تناظرهما ساعة واحدة فمات ابن داود بْن علي في الحبس
قبل وفاة المهدي، وأما يعقوب فبقي حتى مات المهدي وقدم موسى من جرجان
(8/190)
فساعة دخل، ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى
يعقوب من ألقى عليه فراشا، وأقعدت الرجال عليه حتى مات ثم لها عنه
ببيعته وتشديد خلافته، وكان ذلك في يوم شديد الحر، فبقي يعقوب حتى مضى
من الليل هدء، فقيل لموسى:
يا أمير المؤمنين، إن يعقوب قد انتفخ وأروح قَالَ: ابعثوا به الى أخيه
إسحاق ابن الفضل، فخبروه أنه مات في السجن فجعل في زورق وأتي به إسحاق،
فنظر فإذا ليس فيه موضع للغسل، فدفنه في بستان له من ساعته، وأصبح
فأرسل إلى الهاشميين يخبرهم بموت يعقوب ويدعوهم إلى الجنازة، وأمر
بخشبة فعملت في قد الإنسان فغشيت قطنا، وألبسها أكفانا، ثم حملها على
السرير، فلم يشك من حضرها أنه شيء مصنوع.
وكان ليعقوب ولد من صلبه: عبد الرحمن والفضل وأروى وفاطمة، فأما فاطمة
فوجدت حبلى منه، وأقرت بذلك قَالَ علي بْن محمد: قَالَ أبي: فأدخلت
فاطمة وامرأة يعقوب بْن الفضل- وليست بهاشمية، يقال لها خديجة- على
الهادي- أو على المهدي من قبل- فأقرتا بالزندقة، وأقرت فاطمة أنها حامل
من أبيها، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس، فرأتهما مكتحلتين
مختضبتين، فعذلتهما، وأكثرت على الابنة خاصة، فقالت: أكرهني، قالت: فما
بال الخضاب والكحل والسرور، ان كنت مكرهة! ولعنتهما قَالَ: فخبرت أنهما
فزعتا فماتتا فزعا، ضرب على راسيهما بشيء يقال له الرعبوب ففزعتا منه،
فماتتا وأما أروى فبقيت فتزوجها ابن عمها الفضل بْن إسماعيل بْن الفضل،
وكان رجلا لا باس به في دينه.
وفيها قدم وندا هرمز صاحب طبرستان إلى موسى بأمان، فأحسن صلته، ورده
إلى طبرستان.
(8/191)
ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت سنه
تسع وستين ومائه
خروج الحسين بن على بن الحسن بفخ
ومما كان فيها خروج الحسين بْن علي بْن الحسن بْن الحسن بْن الحسن بْن
علي بْن أبي طالب المقتول بفخ.
ذكر الخبر عن خروجه ومقتله:
ذكر عن محمد بْن موسى الخوارزمي أنه قَالَ: كان بين موت المهدي وخلافة
الهادي ثمانية أيام قَالَ: ووصل إليه الخبر وهو بجرجان، وإلى أن قدم
مدينة السلام إلى خروج الحسين بْن علي بْن الحسن، وإلى أن قتل الحسين،
تسعة أشهر وثمانية عشر يوما.
وذكر محمد بْن صالح، أن أبا حفص السلمي حدثه، قَالَ: كان إسحاق بْن
عيسى بْن علي على المدينة، فلما مات المهدي، واستخلف موسى، شخص إسحاق
وافدا إلى العراق إلى موسى، واستخلف على المدينة عمر بْن عبد العزيز
بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عمر بْن الخطاب.
وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن إسحاق بْن عيسى بْن علي استعفى الهادي
وهو على المدينة، واستأذنه في الشخوص إلى بغداد، فأعفاه، وولى مكانه
عمر بْن عبد العزيز وأن سبب خروج الحسين بْن علي بْن الحسن كان أن عمر
بْن عبد العزيز لما تولى المدينة- كما ذكر الحسين بْن محمد عن أبي حفص
السلمي- أخذ أبا الزفت الحسن بْن محمد بْن عبد الله بْن الحسن ومسلم
بْن جندب الشاعر الهذلي وعمر بْن سلام مولى آل عمر على شراب لهم، فأمر
بهم فضربوا جميعا، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في
المدينة، فكلم فيهم، وصار إليه الحسين بْن علي فكلمه، وقال: ليس هذا
عليهم وقد ضربتهم، ولم يكن لك أن تضربهم، لأن أهل العراق لا يرون به
بأسا، فلم تطوف بهم! فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط فردهم، وأمر بهم إلى
الحبس، فحبسوا يوما وليلة، ثم كلم فيهم فأطلقهم جميعا، وكانوا
(8/192)
يعرضون، ففقد الحسن بْن محمد، وكان الحسين
بْن علي كفيله قَالَ محمد بْن صالح: وحدثني عبد الله بْن محمد الأنصاري
أن العمري كان كفل بعضهم من بعض، فكان الحسين بْن علي بْن الحسن ويحيى
بْن عبد الله بْن الحسن كفيلين بالحسن بْن محمد بْن عبد الله بْن
الحسن، وكان قد تزوج مولاة لهم سوداء ابنة أبي ليث مولى عبد الله بْن
الحسن، فكان يأتيها فيقيم عندها، فغاب عن العرض يوم الأربعاء والخميس
والجمعة، وعرضهم خليفة العمري عشية الجمعة، فأخذ الحسين بْن علي ويحيى
بْن عبد الله، فسألهما عن الحسن بْن محمد، فغلظ عليهم بعض التغليظ، ثم
انصرف إلى العمري فأخبره خبرهم، وقال له: أصلحك الله! الحسن بْن محمد
غائب مذ ثلاث، فقال: ائتني بالحسين ويحيى، فذهب فدعاهما، فلما دخلا
عليه، قَالَ لهما: أين الحسن بْن محمد؟ قالا: والله ما ندري، إنما غاب
عنا يوم الأربعاء، ثم كان يوم الخميس، فبلغنا أنه اعتل، فكنا نظن أن
هذا اليوم لا يكون فيه عرض، فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه، فحلف يحيى
بْن عبد الله ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره، حتى يعلم
أنه قد جاءه به.
فلما خرجا قَالَ له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد
حسنا! حلفت له بشيء لا تقدر عليه قَالَ: إنما حلفت على حسن، قَالَ:
سبحان الله! فعلى أي شيء حلفت! قَالَ: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب
داره بالسيف قال: فقال حسين: تكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من
الصلة، قَالَ: قد كان الذي كان فلا بد منه.
وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة في الموسم- فيما ذكروا-
وقد كان قوم من أهل الكوفة من شيعتهم- وممن كان بايع الحسين- متكمنين
في دار، فانطلقوا فعملوا في ذلك من عشيتهم ومن ليلتهم، حتى إذا كان في
آخر الليل خرجوا وجاء يحيى بْن عبد الله حتى ضرب باب دار مروان على
العمري، فلم يجده فيها، فجاء إلى منزله في دار عبد الله بْن عمر فلم
يجده أيضا فيها، وتوارى منهم، فجاءوا حتى اقتحموا المسجد حين أذنوا
بالصبح،
(8/193)
فجلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء،
وجعل الناس يأتون المسجد، فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون، فلما صلى الغداة
جعل الناس يأتونه، ويبايعونه على كتاب الله وسنة نبيه ص للمرتضى من آل
محمد وأقبل خالد البربري، وهو يومئذ على الصوافي بالمدينة قائد على
مائتين من الجند مقيمين بالمدينة، وأقبل فيمن معه، وجاء العمري ووزير
ابن إسحاق الأزرق ومحمد بْن واقد الشروي، ومعهم ناس كثير، فيهم الحسين
بْن جعفر بْن الحسين بْن الحسين على حمار، واقتحم خالد البربري الرحبة،
وقد ظاهر بين درعين، وبيده السيف، وعمود في منطقته، مصلتا سيفه، وهو
يصيح بحسين:
أنا كسكاس، قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليهم حتى دنا منهم، فقام
إليه ابنا عبد الله بْن حسن: يحيى وإدريس، فضربه يحيى على أنف البيضة
فقطعها وقطع أنفه، وشرقت عيناه بالدم فلم يبصر، فبرك يذبب عن نفسه
بسيفه وهو لا يبصر، واستدار له إدريس من خلفه فضربه وصرعه، وعلواه
بأسيافهما حتى قتلاه، وشد أصحابهما على درعيه فخلعوهما عنه، وانتزعوا
سيفه وعموده، فجاءوا به ثم أمروا به فجر إلى البلاط، وحملوا على أصحابه
فانهزموا قَالَ عبد الله بْن محمد: هذا كله بعيني.
وذكر عبد الله بْن محمد أن خالدا ضرب يحيى بن عبد الله، فقطع البرنس،
ووصلت ضربته الى يد يحيى فأثرت فيها، وضربه يحيى على وجهه، واستدار رجل
أعور من أهل الجزيرة فأتاه من خلفه، فضربه على رجليه، واعتوروه
بأسيافهم فقتلوه.
قَالَ عبد الله بْن محمد: ودخل عليهم المسودة المسجد حين دخل الحسين
ابن جعفر على حماره، وشدت المبيضة فأخرجوهم، وصاح بهم الحسين:
ارفقوا بالشيخ- يعني الحسين بْن جعفر- وانتهب بيت المال، فأصيب فيه
بضعة عشر ألف دينار، فضلت من العطاء- وقيل: أن ذلك كان سبعين ألف دينار
كان بعث بها عبد الله بْن مالك، يفرض بها من خزاعة- قَالَ:
وتفرق الناس، وأغلق أهل المدينة عليهم أبوابهم، فلما كان من الغد
اجتمعوا واجتمعت شيعة ولد العباس، فقاتلوهم بالبلاط فيما بين رحبة دار
الفضل والزوراء،
(8/194)
وجعل المسودة يحملون على المبيضة حتى
يبلغوا بهم رحبة دار الفضل، وتحمل المبيضة عليهم حتى يبلغ بهم الزوراء
وفشت الجراحات بين الفريقين جميعا، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا،
فلما كان في آخر النهار من اليوم الثاني يوم الأحد، جاء الخبر بأن
مباركا التركي ينزل بئر المطلب، فنشط الناس، فخرجوا إليه فكلموه أن
يجيء، فجاء من الغد حتى أتى الثنية، واجتمع إليه شيعة بني العباس ومن
أراد القتال، فاقتتلوا بالبلاط أشد قتال إلى انتصاف النهار، ثم تفرقوا
وجاء هؤلاء إلى المسجد، ومضى الآخرون إلى مبارك التركي، إلى دار عمر
بْن عبد العزيز بالثنية يقيل فيها، وواعد الناس الرواح، فلما غفلوا
عنه، جلس على رواحله فانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فناوشوهم شيئا من
القتال إلى المغرب، ثم تفرقوا، وأقام حسين وأصحابه أياما يتجهزون.
وكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوما، ثم خرج يوم أربعة وعشرين لست بقين
من ذي القعدة، فلما خرجوا من المدينة عاد المؤذنون فأذنوا، وعاد الناس
إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فجعلوا
يدعون الله عليهم، ففعل الله بهم وفعل.
قَالَ محمد بْن صالح: فحدثني نصير بْن عبد الله بْن إبراهيم الجمحي، أن
حسينا لما انتهى إلى السوق متوجها إلى مكة التفت إلى أهل المدينة،
وقال:
لا خلف الله عليكم بخير! فقال الناس وأهل السوق: لا بل أنت، لا خلف
الله عليك بخير، ولا ردك! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فملئوه قذرا
وبولا، فلما خرجوا غسل الناس المسجد.
قَالَ: وحدثني ابن عبد الله بْن إبراهيم، قَالَ: أخذ أصحاب الحسين ستور
المسجد، فجعلوها خفاتين لهم، قَالَ: ونادى أصحاب الحسين بمكة:
أيما عبد أتانا فهو حر، فأتاه العبيد، وأتاه عبد كان لأبي، فكان معه،
فلما أراد الحسين أن يخرج أتاه أبي فكلمه، وقال له: عمدت إلى مماليك لم
تملكهم فأعتقتهم، بم تستحل ذلك! فقال حسين لأصحابه: اذهبوا به، فأي عبد
عرفه فادفعوه إليه، فذهبوا معه، فأخذ غلامه وغلامين لجيران لنا وانتهى
خبر الحسين إلى الهادي، وقد كان حج في تلك السنة رجال من أهل
(8/195)
بيته، منهم محمد بْن سليمان بْن علي
والعباس بْن محمد وموسى بْن عيسى، سوى من حج من الأحداث وكان على
الموسم سليمان بْن أبي جعفر، فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بْن
سليمان على الحرب، فقيل له: عمك العباس بْن محمد! قَالَ: دعوني، لا
والله لا أخدع عن ملكي، فنفذ الكتاب بولاية محمد بْن سليمان بْن علي
على الحرب، فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج.
وكان محمد بْن سليمان قد خرج في عدة من السلاح والرجال، وذلك لأن
الطريق كان مخوفا معورا من الإعراب، ولم يحتشد لهم حسين، فأتاه خبرهم،
فهم بصوبه، فخرج بخدمه وإخوانه وكان موسى بْن علي بْن موسى قد صار ببطن
نخل، على الثلاثين من المدينة، فانتهى إليه الخبر ومعه إخوانه وجواريه،
وانتهى الخبر إلى العباس بْن محمد بْن سليمان وكاتبهم، وساروا إلى مكة
فدخلوا، فأقبل محمد بْن سليمان، وكانوا أحرموا بعمرة ثم صاروا إلى ذي
طوى، فعسكروا بها، ومعهم سليمان بْن أبي جعفر، فانضم إليهم من وافى في
تلك السنة من شيعة ولد العباس ومواليهم وقوادهم وكان الناس قد اختلفوا
في تلك السنة في الحج وكثروا جدا ثم قدم محمد بْن سليمان قدامه تسعين
حافرا ما بين فرس إلى بغل، وهو على نجيب عظيم، وخلفه أربعون راكبا على
النجائب عليها الرحال وخلفهم مائتا راكب على الحمير، سوى من كان معهم
من الرجالة وغيرهم، وكثروا في أعين الناس جدا وملئوا صدورهم فظنوا أنهم
أضعافهم، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وأحلوا من عمرتهم،
ثم مضوا فأتوا ذا طوى ونزلوا، وذلك يوم الخميس فوجه محمد بْن سليمان
أبا كامل- مولى لإسماعيل بْن علي- في نيف وعشرين فارسا، وذلك يوم
الجمعة فلقيهم وكان في أصحابه رجل يقال له زيد، كان انقطع إلى العباس،
فأخرجه معه حاجا لما رأى من عبادته، فلما رأى القوم قلب ترسه وسيفه،
وانقلب إليهم، وذلك ببطن مر، ثم ظفروا به بعد ذلك مشدخا بالأعمدة، فلما
كان ليلة السبت وجهوا خمسين فارسا، كان أول من ندبوا صباح أبو الذيال،
ثم آخر ثم آخر، فكان أبو خلوة الخادم مولى محمد خامسا،
(8/196)
فأتوا المفضل مولى المهدي، فأرادوا أن
يصيروه عليهم، فأبى وقال: لا، ولكن صيروا عليهم غيري وأكون أنا معهم،
فصيروا عليهم عبد الله بْن حميد بْن رزين السمرقندي- وهو يومئذ شاب ابن
ثلاثين سنة- فذهبوا وهم خمسون فارسا، وذلك ليلة السبت فدنا القوم،
وزحفت الخيل، وتعبأ الناس، فكان العباس بْن محمد وموسى بْن عيسى في
الميسرة، ومحمد بْن سليمان في الميمنة، وكان معاذ بْن مسلم فيما بين
محمد بْن سليمان والعباس بْن محمد، فلما كان قبل طلوع الفجر جاء حسين
وأصحابه فشد ثلاثة من موالي سليمان بْن علي- أحدهم زنجويه غلام حسان-
فجاءوا برأس فطرحوه قدام محمد بْن سليمان- وقد كانوا قالوا: من جاء
برأس فله خمسمائة درهم- وجاء أصحاب محمد فعرقبوا الإبل، فسقطت محاملها
فقتلوهم وهزموهم، وكانوا خرجوا من تلك الثنايا، فكان الذين خرجوا مما
يلي محمد بْن سليمان أقلهم، وكان جلهم خرجوا مما يلي موسى بْن عيسى
وأصحابه، فكانت الصدمة بهم، فلما فرغ محمد بْن سليمان ممن يليه
واسفروا، نظروا إلى الذين يلون موسى بْن عيسى، فإذا هم مجتمعون كأنهم
كبه غزل، والتفت الميمنه والقلب عليهم، وانصرفوا نحو مكة لا يدرون ما
حال الحسين، فما شعروا وهم بذي طوى أو قريبا منها إلا برجل من أهل
خراسان، يقول: البشرى البشرى! هذا رأس حسين، فأخرجه وبجبهته ضربة طولا،
وعلى قفاه ضربة أخرى، وكان الناس نادوا بالأمان حين فرغوا، فجاء الحسن
بْن محمد أبو الزفت مغمضا إحدى عينيه، قد أصابها شيء في الحرب، فوقف
خلف محمد والعباس، واستدار به موسى بن عيسى وعبد الله ابن العباس فأمر
به فقتل، فغضب محمد بْن سليمان من ذلك غضبا شديدا.
ودخل محمد بْن سليمان مكة من طريق والعباس بْن محمد من طريق، واحتزت
الرءوس، فكانت مائة رأس ونيفا، فيها رأس سليمان بْن عبد الله بْن حسن
وذلك يوم التروية، وأخذت أخت الحسين، وكانت معه فصيرت عند زينب بنت
سليمان، واختلطت المنهزمة بالحجاج، فذهبوا، وكان سليمان بْن أبي جعفر
شاكيا فلم يحضر القتال، ووافى عيسى بْن جعفر الحج تلك السنة، وكان مع
أصحاب حسين رجل أعمى يقص عليهم فقتل، ولم يقتل أحد منهم صبرا
(8/197)
قَالَ الحسين بْن محمد بْن عبد الله: وأسر
موسى بْن عيسى أربعة نفر من أهل الكوفة، ومولى لبني عجل وآخر.
قَالَ محمد بْن صالح: حدثني محمد بْن داود بْن علي، قَالَ: حدثنا موسى
بْن عيسى، قال: قدمت معى بسته أسارى فقال لي الهادي: هيه! تقتل أسيري!
فقلت: يا أمير المؤمنين، إني فكرت فيه فقلت: تجيء عائشة وزينب إلى أم
أمير المؤمنين، فتبكيان عندها وتكلمانها، فتكلم له أمير المؤمنين
فيطلقه ثم قَالَ: هات الأسرى، فقلت: إني جعلت لهم العهد والمواثيق
بالطلاق والعتاق، فقال: ائتني بهم، وأمر باثنين فقتلا، وكان الثالث
منكرا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا أعلم الناس بآل أبي طالب، فإن
استبقيته دلك على كل بغية لك، فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين، إني
أرجو أن يكون بقائي صنعا لك فاطرق ثم قال: نعم والله لإفلاتك من يدي
بعد أن وقعت في يدي لشديد، فلم يزل يكلمه حتى امر به ان يؤخر، وامره أن
يكتب له طلبته، وأما الآخر فصفح عنه، وأمر بقتل عذافر الصيرفي وعلي بْن
السابق القلاس الكوفى، وان يصلبا، فصلبوهما بباب الجسر، وكانا اسرا بفخ
وغضب على مبارك التركي، وأمر بقبض أمواله وتصييره في ساسة الدواب، وغضب
على موسى بْن عيسى لقتله الحسن بْن محمد، وأمر بقبض أمواله.
وقال عبد الله بْن عمرو الثلجي: حدثني محمد بْن يوسف بْن يعقوب
الهاشمي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن عبد الرَّحْمَن بْن
عيسى، قَالَ: أفلت إدريس بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي
طالب من وقعة فخ في خلافة الهادي، فوقع إلى مصر، وعلى بريد مصر واضح
مولى لصالح بْن أمير المؤمنين المنصور، وكان رافضيا خبيثا، فحمله على
البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة، فاستجاب
له من بها وبأعراضها من البربر، فضرب الهادي عنق واضح وصلبه.
ويقال: إن الرشيد الذي ضرب عنقه، وانه دس الى ادريس الشيماخ اليمامي
مولى المهدي، وكتب له كتابا إلى ابراهيم بن الاغلب عامله على إفريقية،
(8/198)
خرج حتى وصل إلى وليلة وذكر أنه متطبب،
وأنه من أوليائهم، ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه، وأقبل الشماخ
يريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له فنزل عنده بكل منزلة ثم أنه
شكا إليه علة في أسنانه، فأعطاه سنونا مسموما قاتلا، وأمره أن يستن به
عند طلوع الفجر لليلته، فلما طلع الفجر استن إدريس بالسنون، وجعل يرده
في فيه، ويكثر منه، فقتله وطلب الشماخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم
بْن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس،
فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك، فولى الشماخ بريد مصر واجاره، فقال
في ذلك بعض الشعراء- أظنه الهنازي:
أتظن يا إدريس أنك مفلت ... كيد الخليفة أو يفيد فرار
فليدركنك أو تحل ببلدة ... لا يهتدي فيها إليك نهار
إن السيوف إذا انتضاها سخطه ... طالت وقصر دونها الأعمار
ملك كأن الموت يتبع أمره ... حتى يقال: تطيعه الأقدار
وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن الحسين بْن علي لما خرج بالمدينة
وعليها العمرى لم يزل العمرى متخفيا مقام الحسين بالمدينة، حتى خرج إلى
مكة وكان الهادي وجه سليمان بْن أبي جعفر لولاية الموسم، وشخص معه من
أهل بيته ممن أراد الحج العباس بْن محمد وموسى بن عيسى واسماعيل بن
عيسى ابن موسى في طريق الكوفة، ومحمد بْن سليمان وعدة من ولد جعفر بْن
سليمان على طريق البصرة، ومن الموالي مبارك التركي والمفضل الوصيف
وصاعد مولى الهادي- وكان صاحب الأمر سليمان- ومن الوجوه المعروفين
يقطين بْن موسى وعبيد ابن يقطين وابو الوزير عمر بْن مطرف، فاجتمعوا
عند الذي بلغهم من توجه الحسين ومن معه إلى مكة، ورأسوا عليهم سليمان
بْن أبي جعفر لولايته، وكان قد جعل أبو كامل مولى إسماعيل على الطلائع،
فلقوه بفخ، وخلفوا عبيد الله بْن قثم بمكة للقيام بأمرها وأمر أهلها،
وقد كان العباس بْن محمد أعطاهم الأمان على ما أحدثوا، وضمن لهم
الإحسان إليهم والصلة لارحامهم،
(8/199)
وكان رسولهم في ذلك المفضل الخادم، فأبوا
قبول ذلك، فكانت الوقعة، فقتل من قتل، وانهزم الناس، ونودي فيهم
بالأمان، ولم يتبع هارب، وكان فيمن هرب يحيى وإدريس ابنا عبد الله بْن
حسن، فأما إدريس فلحق بتاهرت من بلاد المغرب، فلجأ إليهم فأعظموه، فلم
يزل عندهم إلى أن تلطف له، واحتيل عليه، فهلك، وخلفه ابنه إدريس بْن
إدريس، فهم إلى اليوم بتلك الناحية مالكين لها، وانقطعت عنهم البعوث
قَالَ المفضل بْن سليمان: لما بلغ العمري وهو بالمدينة مقتل الحسين بفخ
وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرج مع الحسين،
فهدمها وحرق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة
قَالَ:
وغضب الهادي على مبارك التركي لما بلغه من صدوده عن لقاء الحسين بعد أن
شارف المدينة، وأمر بقبض أمواله وتصييره في سياسة دوابه، فلم يزل كذلك
إلى وفاة الهادي، وسخط على موسى بْن عيسى لقتله الحسن بْن محمد بْن عبد
الله أبي الزفت، وتركه أن يقدم به أسيرا، فيكون المحكم في أمره، وأمر
بقبض أمواله، فلم تزل مقبوضة إلى أن توفي موسى وقدم على موسى ممن أسر
بفخ الجماعة، وكان فيهم عذافر الصيرفى وعلى بن سابق القلاس الكوفي،
فأمر بضرب أعناقهما وصلبهما بباب الجسر ببغداد، ففعل ذلك قَالَ: ووجه
مهرويه مولاه إلى الكوفة، وأمره بالتغليظ عليهم لخروج من خرج منهم مع
الحسين.
وذكر علي بْن محمد بن سليمان بن عبد الله بْنِ نَوْفَلِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: حدثني يوسف البرم مولى آل
الحسن- وكانت أمه مولاة فاطمة بنت حسن- قَالَ: كنت مع حسين أيام قدم
على المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفه،
وو الله ما خرج من الكوفة وهو يملك شيئا يلبسه إلا فروا ما تحته قميص
وإزار الفراش، ولقد كان في طريقه إلى المدينة، إذا نزل استقرض من
مواليه ما يقوم بمؤونتهم في يومهم قَالَ علي: وحدثني السري أبو بشر،
وهو حليف بني زهرة، قَالَ: صليت الغداة في اليوم الذي خرج فيه الحسين
بْن علي بْن الحسن صاحب فخ، فصلى
(8/200)
بنا حسين، وصعد المنبر منبر رسول الله ص،
فجلس وعليه قميص وعمامة بيضاء قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، وسيفه
مسلول قد وضعه بين رجليه، إذ أقبل خالد البربري في أصحابه، فلما أراد
أن يدخل المسجد بدره يحيى بْن عبد الله، فشد عليه البربري، وإني لأنظر
إليه، فبدره يحيى بْن عبد الله، فضربه على وجهه، فأصاب عينيه وانفه،
فقطع البيضه والقلنسوة نظرت إلى قحفه طائرا عن موضعه، وحمل على أصحابه
فانهزموا ثم رجع إلى حسين، فقام بين يديه وسيفه مسلول يقطر دما، فتكلم
حسين، فحمد الله وأثنى عليه، وخطب الناس، فقال في آخر كلامه:
يايها الناس، أنا ابن رسول الله في حرم رسول الله، وفي مسجد رسول الله،
وعلى منبر نبي الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنه نبيه ص، فإن لم أف لكم
بذلك فلا بيعة لي في أعناقكم قَالَ: وكان أهل الزيارة في عامهم ذلك
كثيرا، فكانوا قد ملئوا المسجد، فإذا رجل قد نهض، حسن الوجه، طويل
القامة، عليه رداء ممشق، أخذ بيد ابن له شاب جميل جلد، فتخطى رقاب
الناس، حتى انتهى إلى المنبر، فدنا من حسين، وقال: يا بن رسول الله،
خرجت من بلد بعيد وابني هذا معي، وأنا أريد حج بيت الله وزياره قبر
نبيه ص، وما يخطر ببالي هذا الأمر الذي حدث منك، وقد سمعت ما قلت،
فعندك وفاء بما جعلت على نفسك؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
ابسط يدك فأبايعك، قَالَ: فبايعه، ثم قَالَ لابنه: ادن فبايع قَالَ:
فرأيت والله رءوسهما في الرءوس بمنى، وذلك أني حججت في ذلك العام.
قَالَ: وحدثني جماعة من أهل المدينة أن مباركا التركي أرسل إلى حسين
ابن علي: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في
مكان سحيق، أيسر علي من أن أشوكك بشوكة، أو أقطع من رأسك شعرة، ولكن لا
بد من الأعذار، فبيتني فإني منهزم عنك فأعطاه بذلك عهد الله وميثاقه
قَالَ: فوجه إليه الحسين- أو خرج إليه- في نفر يسير، فلما دنوا من
عسكره صاحوا وكبروا، فانهزم أصحابه حتى لحق بموسى بْن عيسى.
وذكر أبو المضرحي الكلابي، قَالَ: أخبرني المفضل بْن محمد بن المفضل
(8/201)
ابن حسين بْن عبيد الله بْن العباس بْن علي
بْن أبي طالب، أن الحسين بْن علي بْن حسن بْن حسن، قَالَ يومئذ في قوم
لم يخرجوا معه- وكان قد وعدوه أن يوافوه، فتخلفوا عنه- متمثلا:
من عاذ بالسيف لاقى فرصة عجبا ... موتا على عجل أو عاش منتصفا
لا تقربوا السهل إن السهل يفسدكم ... لن تدركوا المجد حتى تضربوا عنفا
وذكر الفضل بْن العباس الهاشمي أن عبد الله بْن محمد المنقري حدثه عن
أبيه، قَالَ: دخل عيسى بْن دأب على موسى بْن عيسى عند منصرفه من فخ،
فوجده خائفا يلتمس عذرا من قتل من قتل، فقال له: أصلح الله الأمير!
أنشدك شعرا كتب به يزيد بْن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل
الْحُسَيْن بْن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قَالَ: أنشدني، فأنشده،
فقال:
يأيها الراكب الغادي لطيته ... على عذافرة في سيرها قحم
أبلغ قريشا على شحط المزار بها ... بيني وبين الحسين الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده ... عهد الإله وما ترعى له الذمم
عنفتم قومكم فخرا بأمكم ... أم حصان لعمري برة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد ... بنت النبي وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم فضل وغيركم ... من قومكم لهم من فضلها قسم
إني لأعلم أو ظنا كعالمه ... والظن يصدق أحيانا فينتظم
أن سوف يترككم ما تطلبون بها ... قتلى تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت ... ومسكوا بحبال السلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغي مصرعة ... وإن شارب كأس البغي يتخم
قد جرب الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخا ... فرب ذي بذخ زلت به القدم
(8/202)
قَالَ: فسري عن موسى بْن عيسى بعض ما كان
فيه.
وذكر عبد الله بْن عبد الرحمن بْن عيسى بْن موسى أن العلاء حدثه أن
الهادي أمير المؤمنين لما ورد عليه خلع أهل فخ خلا ليله يكتب كتابا
بخطه، فاغتم بخلوته مواليه وخاصته، فدسوا غلاما له، فقالوا: اذهب حتى
تنظر إلى أي شيء انتهى الخبر، قَالَ: فدنا من موسى، فلما رآه قَالَ: ما
لك؟
فاعتل عليه قَالَ: فأطرق ثم رفع رأسه إليه، فقال:
رقد الألى ليس السرى من شأنهم ... وكفاهم الإدلاج من لم يرقد
وذكر أحمد بْن معاوية بْن بكر الباهلي، قَالَ: حدثنا الأصمعي، قَالَ:
قَالَ محمد بْن سليمان ليلة فخ لعمرو بْن أبي عمرو المدني- وكان يرمي
بين يديه بين الهدفين: ارم، قال: لا والله لا ارمى ولد رسول الله ص،
إني إنما صحبتك لأرمي بين يديك بين الهدفين، ولم أصحبك لأرمي المسلمين.
قَالَ: فقال المخزومي: ارم، فرمى فما مات إلا بالبرص.
قَالَ: ولما قتل الحسين بْن علي وجاء برأسه يقطين بْن موسى، فوضع بين
يدي الهادي، قَالَ: كأنكم والله جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل
ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم قَالَ: فحرمهم ولم يعطهم شيئا.
وقال موسى الهادي: لما قتل الحسين متمثلا:
قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على أخراها.
وغزا الصائفة في هذه السنة معيوف بْن يحيى من درب الراهب، وقد كانت
الروم أقبلت مع البطريق إلى الحدث، فهرب الوالي والجند وأهل الأسواق،
(8/203)
فدخلها العدو، ودخل أرض العدو معيوف بْن
يحيى، فبلغ مدينه أشنة، فأصابوا سبايا وأسارى وغنموا.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن أبي جعفر المنصور.
وكان على المدينة عمر بْن عبد العزيز العمري، وعلى مكة والطائف عبيد
الله بْن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بْن سلم بْن قتيبة، وعلى اليمامة
والبحرين سويد بْن أبي سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بْن
تسنيم الحواري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها وصدقاتها وبهقباذ الأسفل
موسى بْن عيسى، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بْن سليمان، وعلى
قضائها عمر بْن عثمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد
بْن حسان، وعلى طبرستان والرويان صالح بْن شيخ بْن عميرة الأسدي، وعلى
أصبهان طيفور مولى الهادي.
(8/204)
ثم دخلت
سنة سبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك وفاة يزيد بْن حاتم
بإفريقية فيها، ووليها بعده روح بْن حاتم.
وفيها مات عبد الله بْن مروان بْن محمد في المطبق.
ذكر الخبر عن وفاه موسى الهادي
وفيها توفي موسى الهادي بعيساباذ واختلف في السبب الذي كان به وفاته،
فقال بعضهم: كانت وفاته من قرحة كانت في جوفه وقال آخرون:
كانت وفاته من قبل جوار لأمه الخيزران، كانت أمرتهن بقتله لأسباب نذكر
بعضها ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كانت
أمرتهن بقتله:
ذكر يحيى بْن الحسن أن الهادي نابذ أمه ونافرها، لما صارت إليه
الخلافة، فصارت خالصة إليه يوما، فقالت: إن أمك تستكسيك، فأمر لها
بخزانة مملوءة كسوة قَالَ: ووجد للخيزران في منزلها من قراقر الوشي
ثمانية عشر ألف قرقر قَالَ: وكانت الخيزران في أول خلافة موسى تفتات
عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر
والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل، فإنه
ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك
وتبتلك، ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك قَالَ: وكانت الخيزران في
خلافة موسى كثيرا ما تكلمه في الحوائج، فكان يجيبها إلى كل ما تسأله
حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها، وطمعوا فيها،
فكانت المواكب تغدو إلى بابها، قَالَ: فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى
إجابتها إليه سبيلا،
(8/205)
فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي،
قَالَ: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بْن مالك
قَالَ: فغضب موسى، وقال:
ويل على ابن الفاعلة! قد علمت انه صاحبها، والله لاقضيتها لك، قالت:
إذا والله لا أسألك حاجة أبدا، قَالَ: إذا والله لا أبالي وحمي وغضب.
فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي
من رسول الله ص لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي
أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك ما هذه المواكب
التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف
يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك، ما فتحت بابك لملي أو لذمي فانصرفت
ما تعقل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها.
قَالَ يحيى بْن الحسن: وحدثني أبي، قال: سمعت خالصه تقول للعباس ابن
الفضل بْن الربيع: بعث موسى إلى أمه الخيزران بأرزة، وقال: استطبتها
فأكلت منها، فكلي منها قالت خالصة: فقلت لها: أمسكي حتى تنظري، فإني
أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه، فجاءوا بكلب فأكل منها، فتساقط لحمه،
فأرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيت الأرزة؟ فقالت:
وجدتها طيبة، فقال: لم تأكلي، ولو أكلت لكنت قد استرحت منك، متى أفلح
خليفة له أم! قَالَ وحدثني بعض الهاشميين، أن سبب موت الهادي كان أنه
لما جد في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون
منه، دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه،
ووجهت إلى يحيى بْن خالد: أن الرجل قد توفي، فاجدد في أمرك ولا تقصر.
وذكر محمد بْن عبد الرحمن بْن بشار أن الفضل بْن سعيد حدثه، عن أبيه،
قَالَ: كان يتصل بموسى وصول القواد إلى أمه الخيزران، يؤملون بكلامها
(8/206)
في قضاء حوائجهم عنده، قَالَ: وكانت تريد
أن تغلب على أمره كما غلبت على أمر المهدي، فكان يمنعها من ذلك ويقول:
ما للنساء والكلام في أمر الرجال! فلما كثر عليه مصير من يصير إليها من
قواده، قَالَ يوما وقد جمعهم:
أيما خير؟ أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأيما
خير، أمي أو أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأيكم
يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان،
وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قَالَ: فما بال الرجال
يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشق
ذلك عليها فاعتزلته، وحلفت ألا تكلمه، فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة.
ذكر الخبر عما كان من خلع الهادي للرشيد
وكان السبب في إرادة موسى الهادي خلع أخيه هارون حتى اشتد عليه في ذلك
وجد- فيما ذكر صالح بْن سليمان- أن الهادي لما أفضت إليه الخلافة أقر
يحيى بْن خالد على ما كان يلي هارون من عمل المغرب، فأراد الهادي خلع
هارون الرشيد والبيعة لابنه جعفر بْن موسى الهادي، وتابعه على ذلك
القواد، منهم يزيد بْن مزيد وعبد الله بْن مالك وعلي بْن عيسى ومن
أشبههم، فخلعوا هارون، وبايعوا لجعفر بْن موسى، ودسوا إلى الشيعة،
فتكلموا في أمره، وتنقصوه في مجلس الجماعة، وقالوا: لا نرضى به، وصعب
أمرهم حتى ظهر، وأمر الهادي ألا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس
وتركوه، فلم يكن أحد يجترئ أن يسلم عليه ولا يقربه.
وكان يحيى بْن خالد يقوم بإنزال الرشيد ولا يفارقه هو وولده- فيما ذكر.
قَالَ صالح: وكان إسماعيل بْن صبيح كاتب يحيى بْن خالد، فأحب أن يضعه
موضعا يستعلم له فيه الأخبار، وكان إبراهيم الحراني في موضع الوزارة
لموسى، فاستكتب إسماعيل، ورفع الخبر إلى الهادي، وبلغ ذلك يحيى بْن
خالد، فأمر إسماعيل أن يشخص إلى حران، فسار إليها، فلما كان بعد أشهر
سأل
(8/207)
الهادي إبراهيم الحراني: من كاتبك؟ قَالَ:
فلان كاتب، وسماه، فقال:
أليس بلغني أن إسماعيل بْن صبيح كاتبك؟ قَالَ: باطل يا أمير المؤمنين،
إسماعيل بحران.
قَالَ: وسعي إلى الهادي بيحيى بْن خالد، وقيل له: إنه ليس عليك من
هارون خلاف، وإنما يفسده يحيى بْن خالد، فابعث إلى يحيى، وتهدده
بالقتل، وارمه بالكفر، فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى بْن خالد.
وذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بْن يحيى بْن خالد حدثه، قَالَ:
بعث الهادي إلى يحيى ليلا، فأيس من نفسه، وودع أهله، وتحنط وجدد ثيابه،
ولم يشك أنه يقتله، فلما أدخل عليه، قَالَ: يا يحيى، ما لي ولك! قَالَ:
أنا عبدك يا أمير المؤمنين، فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته.
قَالَ: فلم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي! قَالَ: يا أمير المؤمنين،
من أنا حتى أدخل بينكما! إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره،
فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيت إلى أمرك قَالَ: فما الذي
صنع هارون؟
قَالَ: ما صنع شيئا، ولا ذلك فيه ولا عنده قَالَ: فسكن غضبه وقد كان
هارون طاب نفسا بالخلع، فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي
الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي! وكان هارون يجد بأم
جعفر وجدا شديدا، فقال له يحيى: وأين هذا من الخلافة! ولعلك ألا يترك
هذا في يدك حتى يخرج أجمع، ومنعه من الإجابة.
قَالَ الكرماني: فحدثني صالح بْن سليمان، قَالَ: بعث الهادي إلى يحيى
بْن خالد وهو بعيساباذ ليلا، فراعه ذلك، فدخل عليه وهو في خلوة، فأمر
بطلب رجل كان أخافه، فتغيب عنه، وكان الهادي يريد أن ينادمه ويمنعه
مكانه من هارون، فنادمه وكلمه يحيى فيه، فآمنه وأعطاه خاتم ياقوت أحمر
في يده، وقال: هذا امانه، وخرج يحيى فطلب الرجل، وأتى الهادي به فسر
بذلك
(8/208)
قَالَ: وحدثني غير واحد أن الرجل الذي طلبه
كان إبراهيم الموصلي.
قَالَ صالح بْن سليمان: قَالَ الهادي يوما للربيع: لا يدخل علي يحيى
بْن خالد إلا آخر الناس قَالَ: فبعث إليه الربيع، وتفرغ له قَالَ: فلما
جلس من غد أذن حتى لم يبق أحد، ودخل عليه يحيى، وعنده عبد الصمد ابن
علي والعباس بْن محمد وجلة أهله وقواده، فما زال يدنيه حتى أجلسه بين
يديه، وقال له: إني كنت أظلمك وأكفرك، فاجعلني في حل، فتعجب الناس من
إكرامه إياه وقوله، فقبل يحيى يده وشكر له، فقال له الهادي: من الذي
يقول فيك يا يحيى:
لو يمس البخيل راحة يحيى ... لسخت نفسه ببذل النوال
قَالَ: تلك راحتك يا أمير المؤمنين لا راحة عبدك! قَالَ: وقال يحيى
للهادي في خلع الرشيد لما كلمه فيه: يا أمير المؤمنين، إنك إن حملت
الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وان تركتهم على بيعه أخيك
ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال:
صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير.
قَالَ الكرماني: وحدثني خزيمة بْن عبد الله، قَالَ: أمر الهادي بحبس
يحيى بْن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة:
أن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، اخلني، فأخلاه، فقال:
يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر- أسأل الله ألا نبلغه، وأن
يقدمنا قبله- أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهو لم يبلغ الحلم،
ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم! قَالَ: والله ما أظن ذلك، قَالَ:
يا أمير المؤمنين، أفتأمن ان يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان،
ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى- قَالَ:
وكان يقول: ما كلمت أحدا من الخلفاء كان أعقل من موسى- قَالَ: وقال له:
لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغى ان تعقده له، فكيف بأن
تحله عنه، وقد عقده المهدي له! ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير
المؤمنين
(8/209)
على حاله، فإذا بلغ جعفر، وبلغ الله به،
أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقه يده قال:
فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه.
وذكر الموصلي عن محمد بْن يحيى، قَالَ: عزم الهادي بعد كلام أبي له على
خلع الرشيد، وحمله عليه جماعة من مواليه وقواده، أجابه إلى الخلع أو لم
يجبه، واشتد غضبه منه، وضيق عليه وقال يحيى لهارون: استأذنه في الخروج
إلى الصيد، فإذا خرجت فاستبعد ودافع الأيام، فرفع هارون رقعة يستأذن
فيها، فأذن له، فمضى إلى قصر مقاتل، فأقام به أربعين يوما حتى أنكر
الهادي أمره وغمه احتباسه، وجعل يكتب إليه ويصرفه، فتعلل عليه حتى
تفاقم الأمر، وأظهر شتمه، وبسط مواليه وقواده السنتهم فيه، والفضل ابن
يحيى إذ ذاك خليفة أبيه، والرشيد بالباب، فكان يكتب اليه بذلك، وانصرف
وطال الأمر.
قَالَ الكرماني: فحدثني يزيد مولى يحيى بْن خالد، قَالَ: بعثت الخيزران
عاتكة- ظئرا كانت لهارون- الى يحيى، فشقت جيبها بين يديه، وتبكي إليه
وتقول له: قالت لك السيدة: الله الله في ابني لا تقتله، ودعه يجيب أخاه
إلى ما يسأله ويريده منه، فبقاؤه أحب إلي من الدنيا بجمع ما فيها
قَالَ:
فصاح بها، وقال لها: وما أنت وهذا! إن يكن ما تقولين فإني وولدي وأهلي
سنقتل قبله، فإن اتهمت عليه فلست بمتهم على نفسي ولا عليهم قَالَ:
ولما لم ير الهادي يحيى بْن خالد يرجع عما كان عليه لهارون بما بذل له
من اكرام واقطاع وصله، بعث إليه يتهدده بالقتل إن لم يكف عنه قَالَ:
فلم تزل تلك الحال من الخوف والخطر، وماتت أم يحيى وهو في الخلد
ببغداد، لأن هارون كان ينزل الخلد، ويحيى معه، وهو ولي العهد، نازل في
داره يلقاه في ليله ونهاره.
وذكر محمد بْن القاسم بْن الربيع، قَالَ: أخبرني محمد بْن عمرو الرومي،
(8/210)
قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: جلس موسى الهادي
بعد ما ملك في أول خلافته جلوسا خاصا، ودعا بإبراهيم بْن جعفر بْن أبي
جعفر وإبراهيم بْن سلم بْن قتيبة والحراني، فجلسوا عن يساره، ومعهم
خادم له أسود يقال له أسلم، ويكنى أبا سليمان، وكان يثق به ويقدمه،
فبينا هو كذلك، إذ دخل صالح صاحب المصلى، فقال: هارون بْن المهدي،
فقال: ائذن له، فدخل فسلم عليه، وقبل يديه، وجلس عن يمينه بعيدا من
ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك، ثم التفت إليه، فقال: يا
هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت منه بعيد، ودون
ذلك خرط القتاد، تؤمل الخلافة! قَالَ: فبرك هارون على ركبتيه، وقال: يا
موسى، إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت، وإني لأرجو
أن يفضي الأمر إلي، فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأصير أولادك أعلى من
أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي قَالَ: فقال
له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، ادن مني، فدنا منه، فقبل يديه، ثم
ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل- أعني
أباك المنصور- لا جلست إلا معي، وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قَالَ:
يا حراني، احمل الى أخي الف ألف دينار، وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه
النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت
اللعنة، فيأخذ جميع ما أراد قَالَ:
ففعل ذلك ولما قام قَالَ لصالح: أدن دابته إلى البساط قَالَ عمرو
الرومي:
وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي قَالَ لك
أمير المؤمنين؟ قَالَ: قَالَ المهدي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى
قضيبا وإلى هارون قضيبا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلا، فأما هارون
فأروق قضيبه من أوله إلى آخره فدعا المهدي الحكم بْن موسى الضمري- وكان
يكنى أبا سفيان- فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعا، فأما
موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة، وتكون أيامه
(8/211)
أحسن أيام، ودهره أحسن دهر قَالَ: ولم يلبث
إلا أياما يسيرة، ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام.
قَالَ عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون، فزوج حمدونة من جعفر ابن
موسى، وفاطمة من إسماعيل بْن موسى، ووفى بكل ما قَالَ، وكان دهره أحسن
الدهور.
وذكر أن الهادي كان قد خرج إلى الحديثة، حديثة الموصل، فمرض بها، واشتد
مرضه، فانصرف فذكر عمرو اليشكري- وكان في الخدم- قَالَ:
انصرف الهادي من الحديثة بعد ما كتب إلى جميع عماله شرقا وغربا بالقدوم
عليه، فلما ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه، فقالوا: إن
صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا، فتآمروا على أن يذهب بعضهم إلى
يحيى بأمر الهادي، فيضرب عنقه ثم قالوا: لعل أمير المؤمنين يفيق من
مرضه، فما عذرنا عنده! فأمسكوا ثم بعثت الخيزران إلى يحيى تعلمه أن
الرجل لمآبه، وتأمره بالاستعداد لما ينبغي، وكانت المستولية على أمر
الرشيد وتدبير الخلافة إلى ان هلك، فأحضر الكتاب وجمعوا في منزل الفضل
بْن يحيى، فكتبوا لليلتهم كتبا من الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي،
وأنهم قد ولاهم الرشيد ما كانوا يلون، فلما مات الهادي أنفذوها على
البرد.
وذكر الفضل بْن سعيد، أن أباه حدثه أن الخيزران كانت قد حلفت ألا تكلم
موسى الهادي، وانتقلت عنه، فلما حضرته الوفاة، وأتاها الرسول فأخبرها
بذلك، فقالت: وما أصنع به؟ فقالت لها خالصة: قومي إلى ابنك أيتها
الحرة، فليس هذا وقت تعتب ولا تغضب فقالت: أعطوني ماء أتوضأ للصلاة، ثم
قالت: أما إنا كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة،
ويولد خليفة، قَالَ: فمات موسى، وملك هارون، وولد المأمون.
قَالَ الفضل: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بْن عبيد الله، فساقه لي مثل
ما حدثنيه أبي، فقلت: فمن أين كان للخيزران هذا العلم؟ قَالَ: إنها
كانت قد سمعت من الأوزاعي
(8/212)
ذكر يحيى بْن الحسن أن محمد بْن سليمان بْن علي حدثه، قَالَ: حدثتني
عمتي زينب ابنة سليمان، قالت: لما مات موسى بعيساباذ، أخبرتنا الخيزران
الخبر، ونحن أربع نسوة، أنا وأختي وأم الحسن وعائشة، بنيات سليمان،
ومعنا ريطة أم علي، فجاءت خالصة، فقالت لها: ما فعل الناس؟ قالت: يا
سيدتي، مات موسى ودفنوه، قالت: إن كان مات موسى، فقد بقي هارون، هات لي
سويقا، فجاءت بسويق، فشربت وسقتنا، ثم قالت: هات لساداتى أربعمائة ألف
دينار، ثم قالت: ما فعل ابني هارون؟ قالت: حلف ألا يصلي الظهر إلا
ببغداد قالت: هاتوا الرحائل، فما جلوسي هاهنا، وقد مضى! فلحقته ببغداد. |