تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنة أربع وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان بالشام من
العصبية فيها.
وفيها ولى الرشيد إسحاق بْن سليمان الهاشمي السند ومكران.
وفيها استقضى الرشيد يوسف بْن أبي يوسف، وأبوه حي.
وفيها هلك روح بْن حاتم.
وفيها خرج الرشيد إلى باقردى وبازبدى، وبنى بباقردى قصرا، فقال الشاعر
في ذلك:
بقردى وبازبدى مصيف ومربع ... وعذب يحاكي السلسبيل برود
وبغداد، ما بغداد، أما ترابها ... فخرء، وأما حرها فشديد
وغزا الصائفة عبد الملك بْن صالح.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد، فبدأ بالمدينة، فقسم في أهلها مالا
عظيما، ووقع الوباء في هذه السنة بمكة، فأبطأ عن دخولها هارون، ثم
دخلها يوم التروية، فقضى طوافه وسعيه ولم ينزل بمكة.
(8/239)
ثم دخلت
سنة خمس وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر الخبر عن البيعه للامين
فمن ذلك عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام من بعده ولاية عهد
المسلمين وأخذه له بذلك بيعة القواد والجند، وتسميته إياه الأمين، وله
يومئذ خمس سنين، فقال سلم الخاسر:
قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخليفة للهجان الأزهر
فهو الخليفة عن أبيه وجده ... شهدا عليه بمنظر وبمخبر
قد بايع الثقلان في مهد الهدى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر
ذكر الخبر عن سبب بيعة الرشيد له:
وكان السبب في ذلك- فيما ذكر روح مولى الفضل بْن يحيى بْن خالد- أنه
رأى عيسى بْن جعفر قد صار إلى الفضل بْن يحيى، فقال له: أنشدك الله لما
عملت في البيعة لابن أختي- يعنى محمد بن زبيدة بنت جعفر بْن المنصور-
فإنه ولد لك وخلافته لك، فوعده أن يفعل، وتوجه الفضل على ذلك، وكانت
جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد، لأنه لم
يكن له ولي عهد، فلما بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنه.
قَالَ: وقد كان الفضل لما تولى خراسان أجمع على البيعة لمحمد، فذكر
محمد بْن الحسين بْن مصعب أن الفضل بْن يحيى لما صار إلى خراسان، فرق
فيهم أموالا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن
الرشيد، فبايع الناس له وسماه الأمين، فقال في ذلك النمري:
أمست بمرو على التوفيق قد صفقت ... على يد الفضل أيدي العجم والعرب
(8/240)
ببيعة لولي العهد أحكمها ... بالنصح منه
وبالإشفاق والحدب
قد وكد الفضل عقدا لا انتقاض له ... لمصطفى من بنى العباس منتخب
قال: فلما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهل المشرق، بايع
لمحمد، وكتب إلى الآفاق، فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي
في ذلك:
عزمت أمير المؤمنين على الرشد ... برأي هدى، فالحمد لله ذي الحمد
وعزل فيها الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر، وولاها خاله الغطريف ابن
عطاء.
4 وفيها صار يحيى بْن عبد الله بْن حسن إلى الديلم، فتحرك هناك.
وغزا الصائفة فيها عبد الرحمن بْن عبد الملك بْن صالح فبلغ إقريطية.
وقال الواقدي: الذي غزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بْن صالح،
قَالَ: وأصابهم في هذه الغزاة برد قطع أيديهم وأرجلهم.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد.
(8/241)
ثم دخلت
سنة ست وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من تولية
الرشيد الفضل بْن يحيى كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وأرمينية
وأذربيجان.
وفيها ظهر يحيى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بن علي بْن أبي طالب
بالديلم.
ذكر الخبر عن مخرج يحيى بن عبد الله وما كان من أمره
ذكر أبو حفص الكرماني، قَالَ: كان أول خبر يحيى بْن عبد الله بْن حسن
بْن حسن بن علي بْن أبي طالب أنه ظهر بالديلم، واشتدت شوكته، وقوي
أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، فاغتم لذلك الرشيد، ولم يكن
في تلك الأيام يشرب النبيذ، فندب إليه الفضل بْن يحيى في خمسين ألف
رجل، ومعه صناديد القواد، وولاه كور الجبال والري وجرجان وطبرستان
وقومس ودنباوند والرويان، وحملت معه الأموال، ففرق الكور على قواده،
فولى المثنى بْن الحجاج بْن قتيبة بْن مسلم طبرستان، وولى علي بْن
الحجاج الخزاعي جرجان، وامر له بخمسمائة الف درهم، وعسكر بالنهرين،
وامتدحه الشعراء، فأعطاهم فأكثر، وتوسل إليه الناس بالشعر، ففرق فيهم
أموالا كثيرة وشخص الفضل بْن يحيى، واستخلف منصور بْن زياد بباب أمير
المؤمنين، تجري كتبه على يديه، وتنفذ الجوابات عنها إليه، وكانوا يثقون
بمنصور وابنه في جميع أمورهم، لقديم صحبته لهم، وحرمته بهم ثم مضى من
معسكره، فلم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبر واللطف والجوائز والخلع،
فكاتب يحيى ورفق به واستماله، وناشده وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله
ونزل الفضل بطالقان الري ودستبى بموضع يقال له أشب، وكان شديد البرد
كثير الثلوج، ففي ذلك يقول أبان بْن عبد الحميد اللاحقي:
(8/242)
لدور أمس بالدولاب ... حيث السيب ينعرج
أحب الى من دور ... أشب إذا هم ثلجوا
قال: فأقام الفضل بهذا الموضع، وواتر كتبه على يحيى، وكاتب صاحب
الديلم، وجعل له ألف ألف درهم، على أن يسهل له خروج يحيى إلى ما قبله،
وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على يديه، على أن يكتب له
الرشيد أمانا بخطه على نسخة يبعث بها إليه فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد،
فسره وعظم موقعه عنده، وكتب أمانا ليحيى بْن عبد الله، وأشهد عليه
الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم ومشايخهم، منهم عبد الصمد بْن علي
والعباس ابن محمد ومحمد بْن إبراهيم وموسى بْن عيسى ومن أشبههم، ووجه
به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بْن عبد
الله عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له
بمال كثير، وأجرى له أرزاقا سنية، وأنزله منزلا سريا بعد أن أقام في
منزل يحيى بْن خالد أياما، وكان يتولى أمره بنفسه، ولا يكل ذلك إلى
غيره، وأمر الناس بإتيانه بعد انتقاله من منزل يحيى والتسليم عليه،
وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل، ففي ذلك يقول مروان بْن أبي حفصة:
ظفرت فلا شلت يد برمكية ... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه ... فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصبحت قد فازت يداك بخطة ... من المجد باق ذكرها في المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فائزا ... لكم كلما ضمت قداح المساهم
قال: وأنشدني أبو ثمامة الخطيب لنفسه فيه:
للفضل يوم الطالقان وقبله ... يوم أناخ به على خاقان
ما مثل يوميه اللذين تواليا ... في غزوتين توالتا يومان
سد الثغور ورد ألفة هاشم ... بعد الشتات، فشعبها متدان
(8/243)
عصمت حكومته جماعة هاشم ... من أن يجرد
بينها سيفان
تلك الحكومة لا التي عن لبسها ... عظم النبا وتفرق الحكمان
فأعطاه الفضل مائة ألف درهم، وخلع عليه، وتغنى إبراهيم به.
وذكر أحمد بْن محمد بْن جعفر، عن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله بْن
حسن بْن حسن، قَالَ: لما قدم يحيى بْن عبد الله من الديلم أتيته، وهو
في دار علي بْن أبي طالب، فقلت: يا عم، ما بعدك مخبر ولا بعدي مخبر،
فأخبرني خبرك، فقال: يا بن أخي، والله إن كنت إلا كما قَالَ حيي ابن
أخطب:
لَعَمْرُكَ مَا لامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّهُ مَنْ
يَخْذُلِ اللَّهُ يُخْذَلِ
لَجَاهَدَ حَتَّى أَبْلَغَ النفس حمدها ... وقلقل يبغي العز كل مقلقل
وذكر الضبي أن شيخا من النوفليين، قَالَ: دخلنا على عيسى بْن جعفر، وقد
وضعت له وسائد بعضها فوق بعض، وهو قائم متكئ عليها، وإذا هو يضحك من
شيء في نفسه، متعجبا منه، فقلنا: ما الذى يضحك الأمير ادام لله سروره!
قَالَ: لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قط، فقلنا:
تمم الله للأمير سروره، وزاده سرورا فقال: والله لا أحدثكم به إلا
قائما- واتكأ على الفرش وهو قائم- فقال: كنت اليوم عند أمير المؤمنين
الرشيد، فدعا بيحيى بْن عبد الله، فأخرج من السجن مكبلا في الحديد،
وعنده بكار بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْن عبد
الله بْن الزبير- وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلغ هارون
عنهم، ويسيء بأخبارهم، وكان الرشيد ولاه المدينة، وأمره بالتضييق
عليهم- قَالَ: فلما دعي بيحيى قَالَ له الرشيد: هيه هيه! متضاحكا، وهذا
يزعم أيضا أنا سممناه! فقال يحيى: ما معنى يزعم؟ ها هو ذا لساني-
قَالَ: وأخرج لسانه أخضر
(8/244)
مثل السلق- قَالَ: فتربد هارون! واشتد
غضبه، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، إن لنا قرابة ورحما، ولسنا بترك
ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، أنا وأنتم أهل بيت واحد، فاذكرك الله
وقرابتنا من رسول الله ص! علام تحبسني وتعذبني؟ قَالَ: فرق له هارون،
وأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا،
فإنه شاق عاص، وإنما هذا منه مكر وخبث، إن هذا أفسد علينا مدينتنا،
وأظهر فيها العصيان.
قال: فاقبل يحيى عليه، فو الله ما أستأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى
قَالَ: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم عافاكم الله! قال الزبيري: هذا
كلامه قدامك، فكيف إذا غاب عنك! يقول: ومن أنتم! استخفافا بنا قَالَ:
فأقبل عليه يحيى، فقال: نعم، ومن أنتم عافاكم الله! المدينة كانت مهاجر
عبد الله ابن الزبير أم مهاجر رسول الله ص؟ ومن أنت حتى تقول:
أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي وآباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة ثم
قَالَ:
يا أمير المؤمنين، إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم
وأجعتمونا ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا، فوجدنا بذلك مقالا
فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير
المؤمنين على أهله بالفضل يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على
أهل بيتك، يسعى بهم عندك! إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك،
وإنه يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا، إنما يريد أن يباعد
بيننا، ويشتفي من بعض ببعض والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إلي هذا
حيث قتل أخي محمد بْن عبد الله، فقال: لعن الله قاتله! وأنشدني فيه
مرثية قالها نحوا من عشرين بيتا، وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول
من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة، فأيدينا مع يدك! قَالَ: فتغير
وجه الزبيري واسود، فأقبل عليه هارون، فقال: أي شيء يقول هذا؟ قَالَ:
كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان مما قَالَ حرف قَالَ:
فأقبل على يحيى بْن عبد الله، فقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟
قَالَ:
(8/245)
نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله! قَالَ:
فأنشدها إياه، فقال الزبيري:
والله يا أمير المؤمنين الذي لا إله إلا هو- حتى أتى على أخر اليمين
الغموس- ما كان مما قال شيء، ولقد تقول علي ما لم أقل قَالَ: فأقبل
الرشيد على يحيى ابن عبد الله، فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه
المرثية منه؟ قَالَ:
لا يا أمير المؤمنين، ولكن استحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال:
فأقبل على الزبيري، فقال: قل: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى
حولي وقوتي، إن كنت قلته فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا
من الحلف! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو، ويستحلفني بشيء لا أدري
ما هو! قَالَ يحيى بْن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقا فما
عليه أن يحلف بما أستحلفه به! فقال له هارون: احلف له ويلك! قَالَ:
فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، قَالَ: فاضطرب
منها وأرعد، فقال يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي
يستحلفني بها، وقد حلفت له بالله العظيم أعظم الأشياء! قَالَ: فقال
هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، قَالَ: فقال: أنا بريء
من حول الله وقوته، موكل إلى حولي وقوتي إن كنت قلته قَالَ: فخرج من
عند هارون فضربه الله بالفالج، فمات من ساعته.
قَالَ: فقال عيسى بْن جعفر: والله ما يسرني ان يحيى نقصه حرفا مما كان
جرى بينهما، ولا قصر في شيء من مخاطبته إياه قَالَ: وأما الزبيريون
فيزعمون أن امرأته قتلته، وهي من ولد عبد الرحمن ابن عوف.
وذكر إسحاق بْن محمد النخعي أن الزبير بْن هشام حدثه عن أبيه، أن بكار
بْن عبد الله تزوج امرأة من ولد عبد الرحمن بْن عوف، وكان له من قلبها
موضع، فاتخذ عليها جارية، وأغارها، فقالت لغلامين له زنجيين:
إنه قد أراد قتلكما هذا الفاسق- ولاطفتهما- فتعاوناني على قتله؟ قالا:
(8/246)
نعم، فدخلت عليه وهو نائم، وهما جميعا
معها، فقعدا على وجهه حتى مات قَالَ: ثم أنها سقتهما نبيذا حتى تهوعا
حول الفراش، ثم أخرجتهما ووضعت عند رأسه قنينة، فلما أصبح اجتمع أهله،
فقالت: سكر فقاء فشرق فمات فاخذ الغلامان، فضربا ضربا مبرحا، فأقرا
بقتله، وأنها أمرتهما بذلك، فأخرجت من الدار ولم تورث.
وذكر أبو الخطاب أن جعفر بْن يحيى بْن خالد حدثه ليلة وهو في سمرة،
قَالَ: دعا الرشيد اليوم بيحيى بْن عبد الله بْن حسن، وقد حضره أبو
البختري القاضي ومحمد بْن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان
الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بْن الحسن: ما تقول في هذا الأمان؟
أصحيح هو؟ قَالَ: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بْن
الحسن:
ما تصنع بالأمان؟ لو كان محاربا ثم ولى كان آمنا فاحتملها الرشيد على
محمد بْن الحسن، ثم سأل أبا البختري أن ينظر في الامان، فقال ابو
البختري:
هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة، وأنت أعلم
بذلك، فمزق الأمان، وتفل فيه أبو البختري- وكان بكار بْن عبد الله بن
مصعب حاضرا المجلس- فأقبل على يحيى بْن عبد الله بوجهه، فقال: شققت
العصا، وفارقت الجماعة، وخالفت كلمتنا، وأردت خليفتنا، وفعلت بنا وفعلت
فقال يحيى: ومن أنتم رحمكم الله! قَالَ جعفر: فو الله ما تمالك الرشيد
أن ضحك ضحكا شديدا قَالَ: وقام يحيى ليمضي إلى الحبس، فقال له الرشيد:
انصرف، أما ترون به أثر علة! هذا الآن إن مات قَالَ الناس: سموه قَالَ
يحيى: كلا ما زلت عليلا منذ كنت في الحبس، وقبل ذلك أيضا كنت عليلا
قَالَ أبو الخطاب: فما مكث يحيى بعد هذا إلا شهرا حتى مات.
وذكر ابو يونس إسحاق بن اسمعيل، قَالَ: سمعت عبد الله بْن العباس بْن
الحسن بْن عبيد الله بْن العباس بْن علي، الذي يعرف بالخطيب، قَالَ:
كنت يوما على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم من الجند والقواد
الم أر مثلهم على باب خليفة قبله ولا بعده، قَالَ: فخرج الفضل بْن
الربيع
(8/247)
إلى أبي، فقال له: ادخل، ومكث ساعة ثم خرج
إلي، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلمها، فأومأ إلي
أبي أنه لا يريد أن يدخل اليوم أحد، فاستأذنت لك لكثرة من رأيت حضر
الباب، فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلا عند الناس فما مكثنا إلا
قليلا حتى جاء الفضل ابن الربيع، فقال: إن عبد الله بْن مصعب الزبيري
يستأذن في الدخول، فقال: إني لا أريد أن أدخل اليوم أحدا، فقال: قَالَ:
إن عندي شيئا أذكره فقال: قل له يقله لك، قَالَ: قد قلت له ذلك، فزعم
أنه لا يقوله إلا لك، قَالَ: أدخله وخرج ليدخله، وعادت المرأة وشغل
بكلامها، وأقبل علي أبي، فقال: إنه ليس عنده شيء يذكره، وإنما أراد
الفضل بهذا ليوهم من على الباب أن أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصة خصصنا
بها، وإنما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري.
وطلع الزبيري، فقال: يا امير المؤمنين، هاهنا شيء أذكره، فقال له:
قل، فقال له: انه سر، فقال: ما من العباس سر، فنهضت، فقال:
ولا منك يا حبيبي، فجلست، فقال: قل، فقال: إني والله قد خفت على أمير
المؤمنين من امرأته وبنته وجاريته التي تنام معه، وخادمه الذي يناوله
ثيابه واخص خلق الله به من قواده، وأبعدهم منه قَالَ: فرأيته قد تغير
لونه، وقال: مما ذا؟ قَالَ: جاءتني دعوة يحيى بْن عبد الله بْن حسن،
فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينهم، حتى لم يبق على بابك
أحدا إلا وقد أدخله في الخلاف عليك قَالَ: فتقول له هذا في وجهه!
قَالَ: نعم، قَالَ الرشيد: أدخله، فدخل، فأعاد القول الذي قَالَ له،
فقال يحيى بْن عبد الله:
والله يا أمير المؤمنين لقد جاء بشيء لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو
اكبر مني، وهو مقتدر عليه لما أفلت منه أبدا، ولي رحم وقرابة، فلم لا
تؤخر هذا الأمر ولا تعجل، فلعلك أن تكفى مئونتي بغير يدك ولسانك، وعسى
بك أن تقطع رحمك من حيث لا تعلمه! أباهله بين يديك وتصبر قليلا فقال:
(8/248)
يا عبد الله، قم فصل إن رأيت ذلك، وقام
يحيى فاستقبل القبلة، فصلى ركعتين خفيفتين، وصلى عبد الله ركعتين، ثم
برك يحيى، ثم قَالَ: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه، وقال: اللهم إن كنت
تعلم أني دعوت عبد الله بْن مصعب إلى الخلاف على هذا- ووضع يده عليه،
وأشار إليه- فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله
إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين فقال عبد
الله: آمين رب العالمين، فقال يحيى بْن عبد الله لعبد الله بْن مصعب:
قل كما قلت، فقال عبد الله: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بْن عبد الله لم
يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك،
وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من عندك آمين رب العالمين!
وتفرقا، فأمر بيحيى فحبس في ناحية من الدار، فلما خرج وخرج عبد الله
ابن مصعب أقبل الرشيد على أبي، فقال: فعلت به كذا وكذا، وفعلت به كذا
وكذا، فعدد أياديه عليه، فكلمه أبي بكلمتين لا يدفع بهما عن عصفور،
خوفا على نفسه، وأمرنا بالانصراف فانصرفنا فدخلت مع أبي أنزع عنه لباسه
من السواد- وكان ذلك من عادتي- فبينما أنا أحل عنه منطقته، إذ دخل عليه
الغلام، فقال: رسول عبد الله بن مصعب، فقال:
أدخله، فلما دخل قَالَ له: ما وراءك؟ قَالَ: يقول لك مولاي، أنشدك الله
ألا بلغت إلي! فقال أبي للغلام: قل له: لم أزل عند أمير المؤمنين إلى
هذا الوقت، وقد وجهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلي فألقه
إليه، وقال للغلام: اخرج فإنه يخرج في أثرك، وقال لي: إنما دعاني
ليستعين بي على ما جاء به من الإفك، فإن أعنته قطعت رحمي من رسول الله
ص، وإن خالفته سعى بي، وإنما يتدرق الناس بأولادهم، ويتقون بهم
المكاره، فاذهب إليه، فكل ما قَالَ لك فليكن جوابك له: أخبر أبي، فقد
وجهتك
(8/249)
وما آمن عليك، وقد كان قَالَ لي أبي حين
انصرفنا- وذاك أنا احتبسنا عند الرشيد: أما رأيت الغلام المعترض في
الدار! لا والله ما صرفنا حتى فرغ منه- يعني يحيى- إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وعند الله نحتسب أنفسنا فخرجت مع الرسول،
فلما صرت في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: ويحك!
ما أمره! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنه لما جاء
من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! قَالَ عبد الله بْن
عباس: فما حفلت بهذا الكلام من قول الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا
على باب الدرب- وكان في درب لا منفذ له- فتح البابين، فإذا النساء قد
خرجن منشورات الشعور محتزمات بالحبال، يلطمن وجوههن وينادين بالويل،
وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيت أمرا أعجب من هذا! وعطفت دابتي
راجعا أركض ركضا لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان
والحشم ينتظرونني لتعلق قلب الشيخ بي، فلما رأوني دخلوا يتعادون،
فاستقبلني مرعوبا في قميص ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه قد
مات، قَالَ: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيانا منه، فما قطع كلامه حتى
ورد خادم الرشيد يأمر أبي بالركوب وإياي معه فقال أبي ونحن في الطريق
نسير: لو جاز أن يدعى ليحيى نبوة لادعاها أهله، رحمة الله عليه، وعند
الله نحتسبه! ولا والله ما نشك في أنه قد قتل فمضينا حتى دخلنا على
الرشيد، فلما نظر إلينا قَالَ: يا عباس بْن الحسن، أما علمت بالخبر؟
فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك
الله يا أمير المؤمنين قطع أرحامك فقال الرشيد: الرجل والله سليم على
ما يحب، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ،
فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل
عدوك الجبار! قَالَ: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي،
وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين، لو كان هذا الأمر مما
أطلبه وأصلح له وأريده فكيف ولست بطالب له ولا مريده، ولو لم يكن الظفر
به إلا بالاستعانة به،
(8/250)
ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما
تقويت به عليك أبدا! وهذا والله من إحدى آفاتك- وأشار إلى الفضل بْن
الربيع- والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع منى في زيادة تمرة
لباعك بها فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرا، وأمر له في هذا
اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم قَالَ أبو يونس: كان هارون
حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسه، واوصل اليه أربعمائة الف دينار
سنه 176
ذكر الفتنة بين اليمانيه والنزارية
وفي هذه السنة، هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية، ورأس
النزارية يومئذ أبو الهيذام.
ذكر الخبر عن هذه الفتنة:
ذكر أن هذه الفتنة هاجت بالشام وعامل السلطان بها موسى بْن عيسى، فقتل
بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير، فولى
الرشيد موسى بْن يحيى بْن خالد الشام، وضم إليه من القواد والأجناد
ومشايخ الكتاب جماعة فلما ورد الشام أحلت لدخوله إلى صالح بْن علي
الهاشمي، فأقام موسى بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام
أمرها، فانتهى الخبر إلى الرشيد بمدينة السلام، ورد الرشيد الحكم فيهم
إلى يحيى، فعفا عنهم، وعما كان بينهم، وأقدمهم بغداد، وفي ذلك يقول
إسحاق بن حسان الخزيمي:
من مبلغ يحيى ودون لقائه ... زأرات كل خنابس همهام
يا راعي الإسلام غير مفرط ... في لين مغتبط وطيب مشام
تعذى مشاربه وتسقى شربة ... ويبيت بالربوات والأعلام
حتى تنخنخ ضاربا بجرانه ... ورست مراسيه بدار سلام
فلكل ثغر خارس من قلبه ... وشعاع طرف ما يفتر سام
(8/251)
وقال في موسى غير أبي يعقوب:
قد هاجت الشام هيجا ... يشيب رأس وليده
فصب موسى عليها ... بخيله وجنوده
فدانت الشام لما ... اتى نسيج وحيده
هو الجواد الذي ... بذ كل جود بجوده
أعداه جود أبيه ... يحيى وجود جدوده
فجاد موسى بْن يحيى ... بطارف وتليده
ونال موسى ذرى المجد ... وهو حشو مهوده
خصصته بمديحي ... منثوره وقصيده
من البرامك عود ... له فأكرم بعوده
حووا على الشعر طرا ... خفيفه ومديده
وفيها عزل الرشيد الغطريف بْن عطاء عن خراسان، وولاها حمزة بْن مالك
بْن الهيثم الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس.
وفيها ولى الرشيد جعفر بْن يحيى بْن خالد بْن برمك مصر، فولاها عمر بْن
مهران. |