تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذكر الخبر عن خروج المعتصم الى القاطول
وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول، وذلك في ذي القعدة منها.
ذكر الخبر عن سبب خروجه إليها:
ذكر عن أبي الوزير أحمد بن خالد، أنه قال: بعثني المعتصم في سنة تسع
عشرة ومائتين، وقال لي: يا أحمد، اشتر لي بناحية سامرا موضعا أبني فيه
مدينة، فإني أتخوف أن يصيح هؤلاء الخرمية صيحة، فيقتلوا غلماني، حتى
أكون فوقهم، فإن رابني منهم ريب أتيتهم في البر والبحر، حتى آتي عليهم
وقال لي: خذ مائة ألف دينار، قال: قلت: آخذ خمسة آلاف دينار، فكلما
احتجت إلى زيادة بعثت إليك فاستزدت؟ قال:
نعم، فأتيت الموضع، فاشتريت سامرا بخمسمائة درهم من النصارى أصحاب
الدير، واشتريت موضع البستان الخاقاني بخمسة آلاف درهم، واشتريت عدة
مواضع حتى أحكمت ما أردت، ثم انحدرت فأتيته بالصكاك، فعزم على الخروج
إليها في سنة عشرين ومائتين، فخرج حتى إذا قارب القاطول، ضربت له فيه
القباب والمضارب، وضرب الناس الأخبية، ثم لم يزل يتقدم، وتضرب له
القباب حتى وضع البناء بسامرا في سنة إحدى وعشرين ومائتين.
فذكر عن أبي الحسن بن أبي عباد الكاتب، أن مسرورا الخادم الكبير، قال:
سألني المعتصم: أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر من المقام ببغداد؟
قال: قلت له: بالقاطول، وقد كان بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم،
وقد كان خاف من الجند ما خاف المعتصم، فلما وثب أهل الشام بالشام
وعصوا، خرج الرشيد إلى الرقة فأقام بها، وبقيت مدينة القاطول لم تستتم،
ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه هارون الواثق
(9/17)
وقد حدثني جعفر بن محمد بن بوازة الفراء،
أن سبب خروج المعتصم إلى القاطول، كان أن غلمانه الأتراك كانوا لا
يزالون يجدون الواحد بعد الواحد منهم قتيلا في أرباضها، وذلك أنهم
كانوا عجما جفاه يركبون الدواب، فيتراكضون في طرق بغداد وشوارعها،
فيصدمون الرجل والمرأة ويطئون الصبي، فيأخذهم الأبناء فينكسونهم عن
دوابهم ويجرحون بعضهم، فربما هلك من الجراح بعضهم، فشكت الأتراك ذلك
إلى المعتصم، وتأذت بهم العامة، فذكر أنه رأى المعتصم راكبا منصرفا من
المصلى في يوم عيد أضحى أو فطر، فلما صار في مربعة الحرشى، نظر إلى شيخ
قد قام إليه، فقال له: يا أبا إسحاق، قال:
فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم المعتصم فكفهم عنه، فقال للشيخ:
مالك! قال: لا جزاك الله عن الجوار خيرا! جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج
فأسكنتهم بين أظهرنا، فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت بهم نسواننا، وقتلت
بهم رجالنا! والمعتصم يسمع ذلك كله، قال: ثم دخل داره فلم ير راكبا إلى
السنة القابلة في مثل ذلك اليوم، فلما كان في العام المقبل في مثل ذلك
اليوم خرج فصلى بالناس العيد، ثم لم يرجع إلى منزله ببغداد، ولكنه صرف
وجه دابته إلى ناحية القاطول، وخرج من بغداد ولم يرجع إليها
. ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الفضل بن
مروان
وفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه ذكر الخبر عن سبب
غضبه عليه وحبسه إياه وسبب اتصاله بالمعتصم:
ذكر أن الفضل بن مروان- وهو رجل من اهل البردان- كان متصلا برجل من
العمال يكتب له، وكان حسن الخط، ثم صار مع كاتب كان للمعتصم يقال له
يحيى الجرمقانى، وكان الفضل بن مروان يخط بين يديه، فلما مات الجرمقاني
صار الفضل في موضعه، وكان يكتب للفضل علي بن
(9/18)
حسان الأنباري، فلم يزل كذلك حتى بلغ
المعتصم الحال التي بلغها، والفضل كاتبه، ثم خرج معه إلى معسكر
المأمون، ثم خرج معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر، ثم قدم الفضل قبل
موت المأمون بغداد، ينفذ أمور المعتصم، ويكتب على لسانه بما أحب حتى
قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة، وصارت الدواوين كلها تحت
يديه وكنز الأموال، وأقبل أبو إسحاق حين دخل بغداد يأمره بإعطاء المغنى
والملهى، فلا ينفذ الفضل ذلك، فثقل على أبي إسحاق.
فحدثني إبراهيم بن جهرويه أن إبراهيم المعروف بالهفتى- وكان مضحكا- امر
له المعتصم بمال، وتقدم إلى الفضل بن مروان في إعطائه ذلك، فلم يعطه
الفضل ما امر به المعتصم، فبينا الهفتي يوما عند المعتصم، بعد ما بنيت
له داره التي ببغداد، واتخذ له فيها بستان، قام المعتصم يتمشى في
البستان ينظر إليه وإلى ما فيه من أنواع الرياحين والغروس، ومعه
الهفتي، وكان الهفتي يصحب المعتصم قبل أن تفضي الخلافة إليه، فيقول
فيما يداعبه: والله لا تفلح أبدا! قال:
وكان الهفتي رجلا مربوعا ذا كدنة، والمعتصم رجلا معرقا خفيف اللحم،
فجعل المعتصم يسبق الهفتي في المشي، فإذا تقدمه ولم ير الهفتي معه
التفت إليه، فقال له: ما لك لا تمشي! يستعجله المعتصم في المشي ليلحق
به، فلما كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتي، قال له الهفتي، مداعبا
له: كنت أصلحك الله، أراني أماشي خليفة، ولم أكن أراني أماشي فيجا،
والله لا أفلحت! فضحك منها المعتصم، وقال: ويلك! هل بقي من الفلاح شيء
لم أدركه! أبعد الخلافة تقول هذا لي! فقال له الهفتي: أتحسب أنك قد
أفلحت الآن! إنما لك من الخلافة الاسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك،
وإنما الخليفة الفضل بن مروان، الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته، فقال له
المعتصم:
وأي أمر لي لا ينفذ! فقال له: الهفتي: أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين،
فما أعطيت مما أمرت به منذ ذاك حبه!
(9/19)
قال: فاحتجنها على الفضل المعتصم حتى أوقع
به.
فقيل: إن أول ما أحدثه في أمره حين تغير له أن صير أحمد بن عمار
الخراساني زماما عليه في نفقات الخاصة، ونصر بن منصور بن بسام زماما
عليه في الخراج وجميع الأعمال، فلم يزل كذلك، وكان محمد بن عبد الملك
الزيات يتولى ما كان أبوه يتولاه للمأمون من عمل المشمس والفساطيط وآلة
الجمازات ويكتب على ذلك مما جرى على يدي محمد بن عبد الملك، وكان يلبس
إذا حضر الدار دراعة سوداء وسيفا بحمائل، فقال له الفضل بن مروان: إنما
أنت تاجر، فما لك وللسواد والسيف! فترك ذلك محمد، فلما تركه أخذه الفضل
برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني، فرفعه، فأحسن دليل في أمره،
ولم يرزأه شيئا، وعرض عليه محمد هدايا، فأبى دليل أن يقبل منها شيئا،
فلما كانت سنة تسع عشرة ومائتين- وقيل سنة عشرين، وذلك عندي خطأ- خرج
المعتصم يريد القاطول، ويريد البناء بسامرا، فصرفه كثرة زيادة دجلة،
فلم يقدر على الحركة، فانصرف إلى بغداد إلى الشماسية، ثم خرج بعد ذلك،
فلما صار بالقاطول غضب على الفضل بن مروان وأهل بيته في صفر، وأمرهم
برفع ما جرى على أيديهم، وأخذ الفضل وهو مغضوب عليه في عمل حسابه، فلما
فرغ من الحساب لم يناظر فيه، وأمر بحبسه، وأن يحمل إلى منزله ببغداد في
شارع الميدان، وحبس أصحابه، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات، فحبس
دليلا، ونفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل يقال لها السن، فلم يزل بها
مقيما، فصار محمد بن عبد الملك وزيرا كاتبا، وجرى على يديه عامة ما بنى
المعتصم بسامرا من الجانبين الشرقي والغربي، ولم يزل في مرتبته حتى
استخلف المتوكل، فقتل محمد بن عبد الملك.
وذكر أن المعتصم لما استوزر الفضل بن مروان حل من قبله المحل الذي لم
يكن أحد يطمع في ملاحظته، فضلا عن منازعته ولا في الاعتراض في أمره
(9/20)
ونهيه، وإرادته وحكمه، فكانت هذه صفته
ومقداره، حتى حملته الدالة، وحركته الحرمة على خلافه في بعض ما كان
يأمره به، ومنعه ما كان يحتاج إليه من الأموال في مهم أموره، فذكر عن
ابن ابى داود أنه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم، فكثيرا ما كنت أسمعه
يقول للفضل بن مروان: احمل إلى كذا وكذا من المال، فيقول: ما عندي،
فيقول: فاحتلها من وجه من الوجوه، فيقول: ومن أين أحتالها! ومن يعطيني
هذا القدر من المال؟ وعند من أجده؟ فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه،
فلما كثر هذا من فعله ركبت إليه يوما فقلت له مستخليا به: يا أبا
العباس، إن الناس يدخلون بيني وبينك بما أكره وتكره، وأنت أمرؤ قد عرفت
أخلاقك، وقد عرفها الداخلون بيننا، فإذا حركت فيك بحق فاجعله باطلا،
وعلى ذلك فما أدع نصيحتك وأداء ما يجب علي في الحق لك، وقد أراك كثيرا
ما ترد على أمير المؤمنين أجوبة غليظة ترمضه، وتقدح في قلبه، والسلطان
لا يحتمل هذا لابنه، لا سيما إذا كثر ذلك وغلظ قال: وما ذاك يا أبا عبد
الله؟ قلت: أسمعه كثيرا ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في
وجه كذا، فتقول: ومن يعطيني هذا! وهذا ما لا يحتمله الخلفاء، قال: فما
أصنع إذا طلب مني ما ليس عندي؟ قلت:
تصنع أن تقول: يا أمير المؤمنين، نحتال في ذاك بحيلة، فتدفع عنك أياما
إلى أن يتهيأ، وتحمل إليه بعض ما يطلب وتسوفه بالباقي، قال: نعم أفعل
وأصير إلى ما أشرت به قال: فو الله لكأني كنت أغريه بالمنع، فكان إذا
عاوده بمثل ذلك من القول، عاد إلى مثل ما يكره من الجواب قال: فلما كثر
ذلك عليه، دخل يوما إليه وبين يديه حزمة نرجس غض، فأخذها المعتصم
فهزها، ثم قال: حياك الله يا أبا العباس! فأخذها الفضل بيمينه، وسل
(9/21)
المعتصم خاتمه من أصبعه بيساره، وقال له
بكلام خفي: أعطني خاتمي، فانتزعه من يده، ووضعه في يد ابن عبد الملك.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.
(9/22)
ثم دخلت
سنة إحدى وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك الوقعة التي كانت بين
بابك وبغا الكبير من ناحيه هشتاد سر، فهزم بغا واستبيح عسكره.
ذكر الخبر عن وقعه الافشين مع بابك في هذه
السنه
وفيها واقع الأفشين بابك وهزمه.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وكيف كان السبب فيها:
ذكر أن بغا الكبير قدم بالمال الذي قد مضى ذكره، وأن المعتصم وجهه معه
إلى الأفشين عطاء للجند الذي كان معه ولنفقات الأفشين، على الأفشين،
وبالرجال الذين توجهوا معه إليه، فأعطى الأفشين أصحابه، وتجهز بعد
النيروز، ووجه بغا في عسكر ليدور حول هشتاد سر، وينزل في خندق محمد بن
حميد ويحفره ويحكمه وينزله فتوجه بغا إلى خندق محمد بن حميد، وصار
إليه، ورحل الأفشين من برزند، ورحل أبو سعيد من خش يريد بابك، فتوافوا
بموضع يقال له دروذ، فاحتفر الأفشين بها خندقا، وبنى حوله سورا، ونزل
هو وأبو سعيد في الخندق مع من كان صار إليه من المطوعة، فكان بينه وبين
البذ ستة أميال ثم إن بغا تجهز، وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين
كتب إليه ولا أمره بذلك، فدار حول هشتاد سر حتى دخل إلى قرية البذ،
فنزل في وسطها، وأقام بها يوما واحدا، ثم وجه الف رجل في علافه له،
فخرج عسكر من عساكر بابك، فاستباح العلافة، وقتل جميع من قاتله منهم،
وأسر من قدر عليه، وأخذ بعض الأسرى، فأرسل
(9/23)
منهم رجلين مما يلي الأفشين، وقال لهما:
اذهبا إلى الأفشين، وأعلماه ما نزل بأصحابكم فأشرف الرجلان، فنظر
إليهما صاحب الكوهبانية، فحرك العلم، فصاح أهل العسكر: السلاح السلاح!
وركبوا يريدون البذ، فتلقاهم الرجلان عريانين، فأخذهما صاحب المقدمة،
فمضى بهما إلى الأفشين، فأخبراه بقضيتهما، فقال: فعل شيئا من غير أن
نأمره ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم، وكتب إلى
الأفشين يعلمه ذلك، ويسأله المدد، ويعلمه أن العسكر مفلول، فوجه إليه
الأفشين أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وجناحا
الأعور السكري وصاحب شرطة الحسن بن سهل- وأحد الأخوين قرابة الفضل بن
سهل- فداروا حول هشتاد سر، فسر أهل عسكره بهم، ثم كتب الأفشين إلى بغا
يعلمه أنه يغزو بابك في يوم سماه له، ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم
بعينه، ليحاربه من كلا الوجهين، فخرج الأفشين في ذلك اليوم من دروذ
يريد بابك، وخرج بغا من خندق محمد بن حميد، فصعد الى هشتاد سر، فعسكر
على دعوة بجنب قبر محمد بن حميد، فهاجت ريح باردة ومطر شديد، فلم يكن
للناس عليها صبر لشدة البرد وشدة الريح، فانصرف بغا إلى عسكره، وواقعهم
الأفشين من الغد، وقد رجع بغا إلى عسكره، فهزمه الأفشين، وأخذ عسكره
وخيمته وامرأة كانت معه في العسكر ونزل الأفشين في معسكر بابك.
ثم تجهز بغا من الغد، وصعد هشتاد سر، فأصاب العسكر الذي كان مقيما
بإزائه بهشتادسر، قد انصرف إلى بابك، ورحل بغا إلى موضعه، فأصاب خرثيا
وقماشا، وانحدر من هشتاد سر يريد البذ، فأصاب رجلا وغلاما نائمين
فأخذهما داود سياه- وكان على مقدمته- فساءلهما، فذكرا أن رسول بابك
أتاهم في الليلة التي انهزم فيها بابك، فأمرهم أن يوافوه بالبذ، فكان
الرجل والغلام سكرانين، فذهب بهما النوم، فلا يعرفان من الخبر غير
(9/24)
هذا، وكان ذلك قبل صلاة العصر فبعث بغا الى
داود سياه: قد توسطنا الموضع الذي نعرفه- يعني الذى كنا فيه في المرة
الأولى- وهذا وقت المساء، وقد تعب الرجالة، فانظر جبلا حصينا يسع
عسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى بعض
الجبال، فالتمس أعلاه فأشرف، فراى اعلام الافشين ومعسكره شبه الخيال
فقال: هذا موضعنا إلى غدوة، وننحدر من الغد إلى الكافر إن شاء الله
فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين
أصبحوا أن ينزل من الجبل يأخذ ماء، ولا يسقي دابته من شدة البرد وكثرة
الثلج، وكأنهم كانوا في ليل من شدة الظلمة والضباب فلما كان اليوم
الثالث قال الناس لبغا:
قد فني ما معنا من الزاد، وقد اضربنا البرد، فانزل على أي حالة كانت،
إما راجعين وإما إلى الكافر وكان في أيام الضباب فبيت بابك الافشين
ونقض عسكره، وانصرف الأفشين عنه إلى معسكره، فضرب بغا بالطبل، وانحدر
يريد البذ حتى صار إلى البطن، فنظر إلى السماء منجلية، والدنيا طيبة،
غير رأس الجبل الذي كان عليه بغا، فعبى بغا أصحابه ميمنة وميسرة
ومقدمة، وتقدم يريد البذ، وهو لا يشك أن الأفشين في موضع معسكره، فمضى
حتى صار بلزق جبل البذ، ولم يبق بينه وبين ان يشرف على ابيات البذ إلا
صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيث، له
قرابة بالبذ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام، فقال له: فلان،
فقال: من هذا هاهنا؟ فسمي له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى
أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعني به يتنحى، فإنا قد
بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف
لعلك أن تفلت فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمي له الرجل، فعرفه
ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال
بعضهم: هذا باطل، هذه
(9/25)
خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض
الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر
الأفشين فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على
الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا،
فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنهم الليل، فأمر
بغا داود سياه بالانصراف، فتقدم داود وجد في السير، ولم يقصد الطريق
الذي كان دخل منه الى هشتاد سر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق
الذي كان دخل منه في المرة الأولى، يدور حول هشتاد سر، وليس فيه مضيق
إلا في موضع واحد فسار بالناس، وبعث بالرجالة، فطرحوا رماحهم وأسلحتهم
في الطريق، ودخلتهم وحشة شديدة ورعب، وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة
القواد في الساقة، وظهرت طلائع بابك، فكلما نزل هؤلاء جبلا صعدته طلائع
بابك، يتراءون لهم مرة ويغيبون عنهم مرة، وهم في ذلك يقفون آثارهم، وهم
قدر عشرة فرسان، حتى كان بين الصلاتين: الظهر والعصر، فنزل بغا ليتوضأ
ويصلي، فتدانت منهم طلائع بابك، فبرزوا لهم، وصلى بغا، ووقف في وجوههم،
فوقفوا حين رأوه، فتخوف بغا على عسكره أن يواقعه الطلائع من ناحية،
ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق.
قوم آخرون، فشاور من حضره وقال: لست آمن أن يكونوا جعلوا هؤلاء مشغلة،
يحبسوننا عن المسير، ويقدمون أصحابهم ليأخذوا على أصحابنا المضايق فقال
له الفضل بن كاوس: ليس هؤلاء أصحاب نهار، وإنما هم أصحاب ليل، وإنما
يتخوف على أصحابنا من الليل، فوجه إلى داود سياه ليسرع السير ولا ينزل،
ولو صار إلى نصف الليل حتى يجاوز المضيق، ونقف نحن هاهنا، فإن هؤلاء ما
داموا يروننا في وجوههم لا يسيرون، فنماطلهم وندافعهم قليلا قليلا حتى
تجيء الظلمة، فإذا جاءت الظلمة لم يعرفوا لنا موضعا، وأصحابنا يسيرون
فينفذون أولا فأولا، فإن أخذ علينا نحن المضيق تخلصنا من طريق هشتاد سر
أو من طريق آخر
(9/26)
وأشار غيره على بغا فقال: إن العسكر قد
تقطع، وليس يدرك أوله آخره، والناس قد رموا بسلاحهم، وقد بقي المال
والسلاح على البغال، وليس معه أحد، ولا نأمن أن يخرج عليه من يأخذ
المال والأسير- وكان ابن جويدان معهم أسيرا أرادوا أن يفادوا به كاتبا
لعبد الرحمن بن حبيب، أسره بابك- فعزم بغا على أن يعسكر بالناس حين ذكر
له المال والسلاح والأسير، فوجه الى داود سياه: حيثما رأيت جبلا حصينا،
فعسكر عليه.
فعدل داود إلى جبل مؤرب، لم يكن للناس موضع يقعدون فيه من شدة هبوطه،
فعسكر عليه، فضرب مضربا لبغا على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط، ليس
فيه مسلك، وجاء بغا فنزل، وأنزل الناس وقد تعبوا وكلوا، وفنيت أزوادهم،
فباتوا على تعبئة وتحارس من ناحية المصعد، فجاءهم العدو من الناحية
الأخرى، فتعلقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوا المضرب، وبيتوا
العسكر، وخرج بغا راجلا حتى نجا، وجرح الفضل بن كاوس، وقتل جناح
السكري، وقتل ابن جوشن، وقتل أحد الأخوين قرابه الفضل ابن سهل، وخرج
بغا من العسكر راجلا، فوجد دابة فركبها، ومر بابن البعيث فأصعده على
هشتاد سر، حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد، فوافاه في جوف الليل،
وأخذ الخرمية المال والسلاح والأسير ابن جويدان، ولم يتبعوا الناس، ومر
الناس منهزمين منقطعين حتى وافوا بغا، وهو في خندق محمد بن حميد، فأقام
بغا في خندق محمد بن حميد خمسة عشر يوما، فأتاه كتاب الأفشين يأمره
بالرجوع إلى المراغة، وأن يرد إليه المدد الذي كان امده به، فمضى بغا
إلى المراغة، وانصرف الفضل بن كاوس وجميع من كان جاء معه من معسكر
الأفشين إلى الأفشين، وفرق الافشين الناس في مشاتيهم تلك السنة، حتى
جاء الربيع من السنة المقبلة.
(9/27)
|