تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر بدء عزم ابن
طاهر على خلع المستعين والبيعه للمعتز
ووجه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقت وتبن إلى ابن طاهر في
هذه الأيام، فوصلت إليه ولما كان يوم الخميس لأربع خلون من ذي الحجة
علم الناس ما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتز، ووجه ابن
طاهر قواده إلى أبي أحمد حتى بايعوه للمعتز، فخلع على كل واحد منهم
أربع خلع، وظنت العامة أن الصلح جرى بإذن الخليفة المستعين، وان المعتز
ولى عهده.
خروج العامه ونصره المستعين على ابن طاهر
ولما كان يوم الأربعاء خرج رشيد بن كاوس- وكان موكلا بباب السلامة- مع
قائد يقال له نهشل بن صخر بن خزيمة بن خازم وعبد الله بن محمود، ووجه
إلى الأتراك بأنه على المصير إليهم ليكون معهم، فوافاه من الأتراك زهاء
ألف فارس، فخرج إليهم على سبيل التسليم عليهم، على ان الصلح قد وقع،
فسلم عليهم، وعانق من عرف منهم، وأخذوا بلجام دابته، ومضوا به وبابنه
في أثره، فلما كان يوم الاثنين صار رشيد إلى باب الشماسية فكلم الناس،
وقال: ان امير المؤمنين وأبا جعفر يقرئان عليكم السلام، ويقولان لكم:
من دخل في طاعتنا قربناه ووصلناه، ومن آثر غير ذلك فهو أعلم، فشتمه
العامة ثم طاف على جميع أبواب الشرقية بمثل ذلك، وهو يشئم في كل باب،
ويشتم المعتز فلما فعل رشيد ذلك علمت العامة ما عليه ابن طاهر، فمضت
إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثم
صاروا إلى بابه، ففعلوا مثل ذلك، فخرج إليهم راغب الخادم، فحضهم على ما
فعلوا، وسألهم الزيادة فيما هم فيه من نصرة المستعين، ثم مضى إلى
الحظيرة
(9/337)
التي فيها الجيش، فمضى بهم وجماعة أخر
غيرهم وهم زهاء ثلاثمائة في السلاح، فصاروا إلى باب ابن طاهر، فكشفوا
من عليه وردوهم، فلم يبرحوا يقاتلونهم، حتى صاروا إلى دهليز الدار،
وأرادوا إحراق الباب الداخل فلم يجدوا نارا، وقد كانوا باتوا بالجزيرة
الليل كله يشتمونه ويتناولنه بالقبيح.
وذكر عن ابن شجاع البلخي أنه قال: كنت عند الأمير وهو يحدثني ويسمع ما
يقذف به من كل إنسان، حتى ذكروا اسم أمه، فضحك وقال:
يا أبا عبد الله، ما أدري كيف عرفوا اسم أمي! ولقد كان كثير من جواري
أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها، فقلت له: أيها الأمير،
ما رأيت أوسع من حلمك، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما رأيت أوفق من
الصبر عليهم، ولا بد من ذلك فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا، فصار ابن
طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه
لهم، فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى
جانبه، فحلف لهم بالله ما اتهمه، وإني لفي عافية ما علي منه بأس، وإنه
لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم
فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح
يطلبون المستعين، وانتهبوا دواب علي بن جهشيار- وكانت في الخراب، على
باب الجسر الشرقي- وانتهب جميع ما كان في منزله وهرب، وما زال الناس
وقوفا على ما هم عليه إلى ارتفاع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما
ومواليهما وقوادهما وأخوال المستعين، فصار الناس جميعا إلى الباب، فدخل
وصيف وبغا في خاصتهما، ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز، ووقفوا
على دوابهم، وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال، فأذن لهم.
بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم
نحن والعامه ما نحن عليه، ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون،
(9/338)
فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم
النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح
عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد
القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر اليه وادخاله
الأتراك والمغاربة بغداد، فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل
المدائن والقرى، واستراب بك أهل بغداد.
واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وسألوا إخراج الخليفة
إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه فلما تبين محمد بن عبد الله صحة
قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم،
فخرج إلى دار العامة التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي،
وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم،
فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون
أن يخرج إليهم- وقد كان عرف كثرة الناس- أمر بإغلاق الباب الحديد
الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن
عبد الله إلى الدرجة التي تفضي إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم
نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح
بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد برده النبي
ص، ومعه القضيب، فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا
انصرفوا، فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله،
فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه
عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد،
بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه
وسلاحه وفرشه وجميع ماله في دار محمد بن عبد الله، فانصرف أكثر الناس،
وسكن أهل بغداد ولما فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر
مرة بعد مرة وإسماعهم إياه المكروه، تقدم إلى أصحاب المعاون ببغداد
بتسخير ما قدروا
(9/339)
عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل
عنها.
وذكروا أنه أراد أن يقصد المدائن، واجتمع على بابه جماعة من مشايخ
الحربية والأرباض جميعا، يعتذرون إليه، ويسألونه الصفح عما كان منهم،
ويذكرون أن الذي فعل ذلك الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا بها
والفاقة التي نالتهم، فرد عليهم- فيما ذكر- مردا جميلا، وقال لهم قولا
حسنا، وأثنى عليهم، وصفح عما كان منهم، وتقدم إليهم بالتقدم إلى شبابهم
وسفهائهم في الأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة، وكتب إلى أصحاب
المعاون بترك السخره.
ذكر خبر انتقال المستعين الى دار رزق الخادم بالرصافة
ولأيام خلون من ذي الحجة انتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله، وركب
منها، فصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة، ومر بدار علي بن المعتصم،
فخرج إليه علي، فسأله النزول عنده، فأمره بالركوب، فلما صار إلى دار
رزق الخادم نزلها، فوصل إليها- فيما ذكر- مساء، فأمر للفرسان من الجند
حين صار إليها بعشرة دنانير لكل فارس منهم، وبخمسة دنانير لكل راجل
وركب بركوب المستعين ابن طاهر، وبيده الحربة يسير بها بين يديه،
والقواد خلفه، وأقام- فيما ذكر- مع المستعين ليلة انتقل إلى دار رزق
محمد بن عبد الله إلى ثلث الليل، ثم انصرف، وبات عنده وصيف وبغا حتى
السحر، ثم انصرفا إلى منازلهما ولما كان صبيحة الليلة التي انتقل
المستعين فيها من دار ابن طاهر اجتمع الناس في الرصافة، وأمر القواد
وبنو هاشم بالمصير إلى ابن طاهر والسلام عليه، وأن يسيروا معه إذا ركب
إلى الرصافة فصاروا إليه، فلما كان الضحى الأكبر من ذلك اليوم، ركب ابن
طاهر وجميع قواده في تعبئه
(9/340)
وحوله ناشبة رجالة، فلما خرج من داره وقف
للناس، فعاتبهم وحلف أنه ما أضمر لأمير المؤمنين- أعزه الله- ولا لولي
له ولا لأحد من الناس سوءا، وأنه ما يريد إلا إصلاح أحوالهم، وما تدوم
به النعمة عليهم، وأنهم قد توهموا عليه ما لا يعرفه، حتى أبكى الناس
فدعا له من حضر، وعبر الجسر، وصار إلى المستعين، وبعث فأحضر جيرانه
ووجوه أهل الأرباض من الجانب الغربي، فخاطبهم بكلام عاتبهم فيه، واعتذر
إليهم مما بلغهم، ووجه وصيف وبغا من طاف على أبواب بغداد، ووكلا صالح
بن وصيف بباب الشماسية.
وذكر أن المستعين كان كارها لنقله عن دار محمد، ولكنه انتقل عنها من
أجل أن الناس ركبوا الزواريق بالنفاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار
لما صعب عليهم فتح بابه يوم الجمعة.
وذكر أن قوما منهم كنجور، وقفوا بباب الشماسية من قبل أبي أحمد، فطلبوا
ابن طاهر ليكلموه، فكتب إلى وصيف يعلمه خبر القوم، ويسأله أن يعلم
المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فرد المستعين الأمر في ذلك إليه، وأن
التدبير في جميع ذلك مردود إليه، فيتقدم في ذلك بما رأى وذكر أن علي بن
يحيى بن أبي منصور المنجم كلم محمد بن عبد الله في ذلك بكلام غليظ،
فوثب عليه محمد بن أبي عون فأسمعه وتناوله.
وذكر عن سعيد بن حميد أن أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبيد الله بن
يحيى خلوا بابن طاهر، فما زالوا يفتلونه في الذروة والغارب، ويشيرون
عليه بالصلح، وأنه ربما كان عنده قوم فأجروا الكلام في خلاف الصلح،
فيكشر في وجوههم، ويعرض عنهم، فإذا حضر هؤلاء الثلاثة أقبل عليهم
وحادثهم وشاورهم.
وذكر عن بعضهم أنه قال: قلت لسعيد بن حميد يوما: ما ينبغي إلا أن يكون
قد كان انطوى على المداهنة في أول أمره، قال: وددت أنه كان كذلك، لا
والله ما هو إلا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى
(9/341)
كاتب القوم، وأجابهم بعد أن كان قد جادهم.
وحدثني أحمد بن يحيى النحوي- وكان يؤدب ولد ابن طاهر- أن محمد بن عبد
الله لم يزل جادا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبيد الله بن يحيى ابن
خاقان، فقال له: أطال الله بقاءك! إن هذا الذي تنصره وتجد في أمره من
أشد الناس نفاقا، وأخبثهم دينا، والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك،
فاستعظما ذلك ولم يفعلاه، وإن كنت شاكا فيما وصفت من أمره، فسل تخبره،
وإن من ظاهر نفاقه أنه كان وهو بسامرا لا يجهر في صلاته ببسم الله
الرحمن الرحيم، فلما صار إلى ما قبلك، جهر بها مراءاة لك، وتترك نصرة
وليك وصهرك وتربيتك، ونحو ذلك من كلام كلمه به، فقال محمد بن عبد الله:
أخزى الله هذا، لا يصلح لدين ولا دنيا، قال: وكان أول من تقدم على صرف
محمد بن عبد الله عن الجد في أمر المستعين عبيد الله بن يحيى في هذا
المجلس، ثم ظاهر عبيد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن
مخلد، فلم يزالوا به حتى صرفوه عما كان عليه من الرأي في نصرة
المستعين.
وفي يوم الأضحى من هذه السنة صلى بالناس المستعين صلاة الأضحى في
الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وركب وبين يديه عبيد الله بن عبد
الله، معه الحربة التي لسليمان، وبيد الحسين بن إسماعيل حربة السلطان،
وبغا ووصيف يكنفانه، ولم يركب محمد بن عبد الله بن طاهر، وصلى عبد الله
ابن إسحاق في الرصافه.
ذكر بدء المفاوضه في امر خلع المستعين
وفي يوم الخميس ركب محمد بن عبد الله إلى المستعين، وحضره عدة من
الفقهاء والقضاة، فذكر أنه قال للمستعين: قد كنت فارقتني على ان
(9/342)
تنفذ في كل ما أعزم عليه، ولك عندي بخطك
رقعة بذلك، فقال المستعين:
أحضر الرقعة فأحضرها، فإذا فيها ذكر الصلح، وليس فيها ذكر الخلع، فقال:
نعم، أنفذ الصلح، فقام الحلنجى فقال: يا أمير المؤمنين، أنه يسألك أن
تخلع قميصا قمصك به الله وتكلم علي بن يحيى المنجم فاغلظ لمحمد ابن عبد
الله.
ثم ركب بعد ذلك محمد بن عبد الله- وذلك للنصف من ذي الحجة- إلى
المستعين بالرصافة، ثم انصرف ومعه وصيف وبغا، فمضوا جميعا حتى صاروا
إلى باب الشماسية، فوقف محمد بن عبد الله على دابته، ومضى وصيف وبغا
إلى دار الحسن بن الأفشين، وانحدرت المبيضة والغوغاء من السور، ولم
يطلق لأحد فتح الأبواب، وقد كان خرج قبل ذلك جماعة كثيرة إلى عسكر أبي
أحمد، فاشتروا ما أرادوا، فلما خرج من ذكرنا إلى باب الشماسية نودي في
أصحاب أبي أحمد ألا يباع من أحد من أهل بغداد شيء، فمنعوا من الشراء،
وكان قد ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشماسية مضرب كبير أحمر، وكان مع
ابن طاهر بندار الطبرى وأبو السنا ونحو من مائتي فارس ومائتي راجل،
وجاء أبو أحمد في زلال حتى قرب من المضرب، ثم خرج ودخل المضرب مع محمد
بن عبد الله، ووقف الذين مع كل واحد منهما من الجند ناحية، فتناظر ابن
طاهر وأبو أحمد طويلا، ثم خرجا من المضرب، وانصرف ابن طاهر من مضربه
إلى داره في زلال، فلما صار إليها خرج من الزلال، فركب ومضى إلى
المستعين ليخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، وأقام عنده إلى العصر، ثم
انصرف، فذكر أنه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار، ويقطع غلة ثلاثين
ألف دينار في السنة، وأن يكون مقامه بغداد حتى يجتمع لهم مال يعطون
الجند، وعلى أن يولي بغا مكة والمدينة والحجاز، ووصيف الجبل وما والاه،
ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله، وجند بغداد والثلثان
للموالي والاتراك
(9/343)
وذكر أن أحمد بن إسرائيل لما صار إلى
المعتز ولاه ديوان البريد، وفارقه على ان يكون هو الوزير وعيسى بن
فرخان شاه على ديوان الخراج وأبو نوح على الخاتم والتوقيع، فاقتسموا
الأعمال، فوردت خريطة الموسم إلى بغداد بالسلامة، فبعث بها إلى أبي
أحمد، ثم ركب ابن طاهر- فيما قيل- لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه
السنة إلى المستعين، لمناظرته في الخلع، فناظره فامتنع عليه المستعين،
وظن المستعين أن بغا ووصيفا معه، فكاشفاه، فقال المستعين: هذا عنقي
والسيف والنطع، فلما رأى امتناعه انصرف عنه، فبعث المستعين إلى ابن
طاهر بعلي بن يحيى المنجم وقوم من ثقاته، وقال: قولوا له:
اتق الله، فإنما جئتك لتدفع عني، فإن لم تدفع عني فكف عني فرد عليه،
أما أنا فأقعد في بيتي، ولكن لا بد لك من خلعها طائعا أو مكرها.
وذكر عن علي بن يحيى أنه قال له: قل له: إن خلعتها فلا باس، فو الله
لقد تمزقت تمزقا لا يرقع، وما تركت فيها فضلا فلما رأى المستعين ضعف
أمره وخذلان ناصريه أجاب إلى الخلع، فلما كان يوم الخميس لاثنتي عشرة
ليلة بقيت من ذي الحجة، وجه ابن طاهر ابن الكردية وهو محمد بن إبراهيم
بن جعفر الأصغر بن المنصور والخلنجي وموسى بن صالح بن شيخ وأبا سعيد
الأنصاري وأحمد بن إسرائيل ومحمد بن موسى المنجم الى عسكر ابى أحمد
ليوصلوا كتاب محمد إليه بأشياء سألها المستعين من حين ندب إلى أن يخلع
نفسه فأوصلوا الكتاب، فأجاب إلى ما سأل وكتب الجواب بأن يقطع وينزل
مدينة الرسول ص، وأن يكون مضطربه من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى
مكة فأجابه إلى ذلك، فلم يقنع المستعين إلا بخروج ابن الكردية بما سأل
إلى المعتز، حتى يكتب بإجابته بذلك بخطه بعد مشافهة ابن الكردية المعتز
بذلك، فتوجه ابن الكردية بها.
وكان سبب إجابة المستعين إلى الخلع- فيما ذكر- أن وصيفا وبغا وابن طاهر
ناظروه في ذلك وأشاروا عليه، فأغلظ لهم، فقال له وصيف:
(9/344)
أنت أمرتنا بقتل باغر، فصرنا إلى ما نحن
فيه، وأنت عرضتنا لقتل اوتامش، وقلت: إن محمدا ليس بناصح، وما زالوا
يفزعونه ويحتالون له، فقال محمد ابن عبد الله: وقد قلت لي إن أمرنا لا
يصطلح إلا باستراحتنا من هذين، فلما اجتمعت كلمتهم أذعن لهم بالخلع،
وكتب بما اشترط لنفسه عليهم، وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.
ولما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة، ركب محمد بن عبد الله إلى
الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، وأدخلهم على المستعين فوجا فوجا،
واشهدهم عليه انه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم أدخل
عليه البوابين والخدم، وأخذ منه جوهر الخلافة، وأقام عنده حتى مضى هوي
من الليل، وأصبح الناس يرجفون بألوان الأراجيف، وبعث ابن طاهر إلى
قواده في موافاته، مع كل قائد منهم عشرة نفر من وجوه أصحابه، فوافوه،
فأدخلهم ومناهم، وقال لهم: إنما أردت بما فعلت صلاحكم وسلامتكم وحقن
الدماء وأعد للخروج إلى المعتز في الشروط التي اشترطها للمستعين ولنفسه
ولقواده قوما ليوقع المعتز في ذلك بخطه ثم أخرجهم إلى المعتز، فمضوا
إليه حتى وقع في ذلك بخطه إمضاء كل ما سأل المستعين وابن طاهر لأنفسهما
من الشروط، وشهدوا عليه بإقراره بذلك كله، وخلع المعتز على الرسل،
وقلدهم سيوفا، وانصرفوا بغير جائزة ولا نظر في حاجة لهم، ووجه معهم
لأخذ البيعة له على المستعين جماعة من عنده، ولم يأمر للجند بشيء.
وحمل إلى المستعين أمه وابنته وعياله بعد ما فتش عياله، وأخذ منهم بعض
ما كان معهم مع سعيد بن صالح، فكان دخول الرسل بغداد منصرفهم من عند
المعتز يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
وذكر أن رسل المعتز لما صاروا بالشماسية، قال ابن سجادة: أنا أخاف من
أهل بغداد، فإما أن يحمل المستعين إلى الشماسية أو إلى دار محمد بن عبد
الله ليبايع المعتز، ويخلع نفسه ويؤخذ منه القضيب والبرده
(9/345)
وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة كان ظهور المعروف بالكوكبي بقزوين
وزنجان وغلبته عليها وطرده عنها آل طاهر، واسم الكوكبي الحسين بن احمد
ابن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن أبي طالب رضي الله عنه.
وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة، فحاربهم جعفر بشاشات، فقتل من اهل مكة
نحو من ثلاثمائة رجل، وبعض بني عقيل القائل:
عليك ثوبان وأمي عاريه ... فالق لي ثوبك يا بن الزانية
فلما فعل بنو عقيل ما فعلوا غلت بمكة الأسعار، وأغارت الأعراب على
القرى. |