تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر الفتنة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر
وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت وقعة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، ورئيس الجند يومئذ ابن الخيل وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن المعتز كتب إلى محمد بن عبد الله في بيع غله طساسيج ضياع بادوريا وقطربل ومسكن وغيرها، كل كرين بالمعدل بخمسة وثلاثين دينارا من غلة سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان المعتز ولى بريد بغداد رجلا يقال له صالح بن الهيثم، وكان أخوه منقطعا إلى أتامش أيام

(9/356)


المتوكل، فارتفع أمر صالح هذا أيام المستعين، وكان ممن أقام بسامرا، وهو من أهل المخرم، وكان أبوه حائكا ثم صار يبيع الغزل، ثم انتقل أخوه إليه لما ارتفع فلما اقام ببغداد كتب اليه يؤمر أن يقرأ الكتاب على قواد أهل بغداد كعتاب بن عتاب ومحمد بن يحيى الواثقي ومحمد بن هرثمة ومحمد بن رجاء وشعيب ابن عجيف ونظرائهم، فقرأه عليهم، فصاروا إلى محمد بن عبد الله، فأخبروه، فأمر محمد بن عبد الله فأحضر صالح بن الهيثم، وقال: ما حملك على هذا بغير علمي! وتهدده وأسمعه وقال للقواد: انتظروا حتى أرى رأيي، وآمركم بما أعزم عليه، فانصرفوا من عنده على ذلك، وشخص بعد ذلك، واجتمع الفروض والشاكرية والنائبة إلى باب محمد بن عبد الله يطلبون أرزاقهم لعشر خلون من شهر رمضان، فأخبرهم أن كتاب الخليفة ورد عليه، جواب كتاب له كان كتب بمسألة أرزاق جند بغداد، إن كنت فرضت الفروض لنفسك، فأعطهم أرزاقهم، وإن كنت فرضت لنا فلا حاجة لنا فيهم فلما ورد الكتاب عليه أخرج لهم بعد شغبهم بيوم ألفي دينار، فوضعت لهم ثم سكنوا.
ثم اجتمعوا لإحدى عشرة خلت من شهر رمضان، ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا المضارب والخيم على باب حرب وباب الشماسية وغيرهما، وبنوا بيوتا من بواري وقصب، وباتوا ليلتهم فلما أصبحوا كثر جمعهم، وبيت ابن طاهر قوما من خاصته في داره، وأعطاهم درهما درهما، فلما أصبحوا مضوا من داره إلى المشغبة، فصاروا معهم فجمع ابن طاهر جنده القادمين معه من خراسان، وأعطاهم لشهرين، وأعطى جند بغداد القدماء، الفارس دينارين والراجل دينارا، وشحن داره بالرجال، فلما كان يوم الجمعة اجتمع من المشغبة خلق كثير بباب حرب بالسلاح والأعلام والطبول، ورئيسهم رجل يقال له عبدان بن الموفق، ويكنى أبا القاسم، وكان من أثبات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان ديوان عبدان في ديوان وصيف، فقدم بغداد، فباع دارا له بمائة ألف دينار، فشخص إلى سامرا، فلما وثبت الشاكرية بباب العامة كان معهم، فضربه سعيد الحاجب خمسمائة سوط، وحبسه حبسا طويلا،

(9/357)


ثم أطلق فلما كان فتنة المستعين صار إلى بغداد، وانضم إليه هؤلاء المشغبة، فحضهم على الطلب بأرزاقهم وفائتهم، وضمن لهم أن يكون لهم رأسا يدبر أمرهم فأجابوه إلى ذلك، فأنفق عليهم يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة نحوا من ثلاثين دينارا فيما أقام لهم من الطعام، ومن كانت لهم كفاية لم يحتج إلى نفقته، فكان ينصرف إلى منزله، فلما كان يوم الجمعة اجتمعت منهم جماعة كثيرة، وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى الأمام فيمنعوه من الصلاة والدعاء للمعتز، فساروا على تعبئة في شارع باب حرب، حتى انتهوا إلى باب المدينة في شارع باب الشام، وجعل أبو القاسم هذا على كل درب يمر به قوما من المشغبة، من بين رامح وصاحب سيف ليحفظوا الدروب، كيلا يخرج منها أحد لقتالهم.
ولما انتهى إلى باب المدينة دخل معهم المدينة جماعة كثيرة، فصاروا بين البابين وبين الطاقات، فأقاموا هناك ساعة، ثم وجهوا جماعه منهم يكونون نحوا من ثلاثمائة رجل بالسلاح إلى رحبة الجامع بالمدينة، ودخل معهم من العامة خلق كثير، فأقاموا في الرحبة، وصاروا إلى جعفر بن العباس الإمام، فأعلموه أنهم لا يمنعونه من الصلاة، وأنهم يمنعونه من الدعاء للمعتز فأعلمهم جعفر أنه مريض لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه، وصاروا إلى درب أسد بن مرزبان، فشحنوا الشارع النافذ إلى درب الرقيق، ووكلوا بباب درب سليمان بن أبي جعفر جماعة، ثم مضوا يريدون الجسر في شارع الحدادين، فوجه إليهم ابن طاهر عدة من قواده فيهم الحسين بن اسماعيل والعباس ابن قارن وعلي بن جهشيار وعبد الله بن الأفشين في جماعة من الفرسان، فناظروهم ودفعوهم دفعا رفيقا، وحمل عليهم الجند والشاكرية حملة جرحوا فيها جماعة من قواد ابن طاهر، وأخذوا دابة ابن قارن وابن جهشيار ورجل من فرض عبيد الله بن يحيى من الشاميين يقال له سعد الضبابي، وجرحوا المعروف بأبي السنا، ودفعوهم عن الجسر حتى صيروهم إلى باب عمرو بن مسعدة

(9/358)


فلما رأى الذين بالجانب الشرقي منهم أن أصحابهم قد أزالوا أصحاب ابن طاهر عن الجسر كبروا، وحملوا يريدون العبور إلى أصحابهم، وكان ابن طاهر قد أعد سفينة فيها شوك وقصب ليضرم فيها النار، ويرسلها على الجسر الأعلى، ففعل ذلك، فأحرقت عامة سفنه وقطعته، وصارت إلى الآخر، فأدركها أهل الجانب الغربي، ففرقوها وأطفئوا النار التي تعلقت بسفن الجسر وعبر من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي خلق كثير، ودفعوا أصحاب ابن طاهر عن ساباط عمرو بن مسعدة، وصاروا إلى باب ابن طاهر، وصار الشاكرية والجند إلى ساباط عمرو بن مسعدة، وقتل من الفريقين إلى الظهر نحو من عشرة نفر، وصار جماعة من الغوغاء والعامة إلى المجلس الذي يعرف بمجلس الشرطة في الجسر.
من الجانب الغربي إلى بيت يقال له بيت الرفوع، فكسروا الباب، وانتهبوا ما فيه، وكان فيه أصناف من المتاع، فاقتتلوا عليه فلم يتركوا فيه شيئا، وكان كثيرا جليلا وأحرق ابن طاهر الجسرين لما رأى الجند قد ظهروا على أصحابه، وأمر بالحوانيت التي على باب الجسر التي تتصل بدرب سليمان أن تحرق يمنة ويسرة، ففعل فاحترق فيها للتجار متاع كثير، وتهدم حيطان مجلس صاحب الشرطة، فلما ضربت الحوانيت بالنار حالت النار بين الفريقين، وكبرت الجند عند ذلك تكبيرة شديدة، ثم انصرفوا إلى معسكرهم بباب حرب، وصار الحسين بن إسماعيل مع جماعة من القواد والشاكرية إلى باب الشام، فوقف على التجار والعامة فوبخهم على معونتهم الجند، وقال:
هؤلاء قاتلوا على خبزهم وهم معذورون، وأنتم جيران الأمير ومن يجب عليه نصرته، فلم فعلتم ما فعلتم، وأعنتم الشاكرية عليه ورميتم بالحجارة، والأمير متحول عنكم! ثم صار محمد بن أبي عون إليهم، فقال لهم مثل ذلك، وانصرف إلى ابن طاهر، فمكث الجند المشتغبون في مواضعهم ومعسكرهم، وانضم إلى ابن طاهر جماعة من الأثبات وجمع جميع أصحابه، فجعل بعضهم في داره، وبعضهم في الشارع النافذ من الجسر إلى داره، قد عباهم تعبئة الحرب، حذارا من كرة الجند عليه أياما، فلم يكن لهم عودة، فصار في بعض الأيام

(9/359)


التي كان من عودتهم ابن طاهر على وجل- فيما ذكر- رجلان من المشغبة استأمنا إليه، فأخبراه بعورة أصحابهما، فأمر لهما بمائتي دينار، ثم أمر الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل بعد العشاء الآخرة بالمصير في جماعة من أصحابهما إلى باب حرب، فتلطفا لأبي القاسم رئيس القوم وابن الخليل- وكان من أصحاب محمد بن أبي عون- فصاروا إلى ما هناك، وكان أبو القاسم وابن الخليل قد صار كل واحد منهما عند مفارقة الرجلين اللذين صارا إلى ابن طاهر ورجل آخر يقال له القمي، وتفرق الشاكرية عنهما الى ناحيه خوفا على انفسهم، فمضى الشاه والحسين في طلبهما حتى خرجا من باب الأنبار، وتوجها نحو جسر بطاطيا، فذكر أن ابن الخليل استقبلهما قبل أن يصيرا إلى جسر بطاطيا، فصاح بهما ابن الخليل وبمن معهما من هؤلاء، وصاحوا به، فلما عرفهم حمل عليهم، فجرح منهم عدة، فأحدقوا به، وصار في وسط القوم، فطعنه رجل من أصحاب الشاه، فرمى به إلى الأرض، فبعجه علي بن جهشيار بالسيف وهو في الأرض، ثم حمل على بغل وبه رمق، فلم يصلوا به إلى ابن طاهر حتى قضى وأمر الشاه بطرحه في كنيف في دهليز الدار إلى أن حمل إلى الجانب الشرقي، وأما عبدان بن الموفق فإنه كان قد صار إلى منزله وإلى موضع اختفى فيه، فدل عليه، وأخذ وحمل إلى ابن طاهر، وتفرق الشاكرية الذين كانوا بباب حرب، وصاروا إلى منازلهم، وقيد عبدان بن الموفق بقيدين فيهما ثلاثون رطلا ثم صار الحسين بن إسماعيل إلى الحبس الذي هو فيه في دار العامة، وقعد على كرسي، ودعا به، فسأله:
هل هو دسيس لأحد، أو فعل ما فعل من قبل نفسه؟ فأخبره أنه لم يدسه أحد، وإنما هو رجل من الشاكرية طلب بخبزه فرجع الحسين إلى ابن طاهر فأعلمه ذلك، فخرج طاهر بن محمد وأخوه إلى دار العامة الداخلة، فقعدا وأحضرا من بات في الدار من القواد والحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال، وأحضرا عبدان، فحمله رجلان، فكان المخاطب له الحسين، فقال:
أنت رئيس القوم؟ فقال: لا، إنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا، فشتمه

(9/360)


الحسين، وقال حرب بن محمد بن عبد الله بن حرب: كذبت، بل أنت رئيس القوم، وقد رأيناك تعبيهم بباب حرب وفي المدينة وباب الشام، فقال:
ما كنت لهم برأس، وإنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا، فأعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره، وحمل عبدان على بغل، ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها وأراد الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطا على خاصرته؟ فقال له محمد: هذا شهر عظيم، ولا يحل لك أن تصنع به هذا، فأمر به فصلب حيا، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب، فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذا، فسقوه، فترك مصلوبا إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم الثالث مع الظهر، وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل، ودفع ابن الخليل الى اوليائه فدفن.

ذكر الخبر عن خلع المؤيد ثم موته
وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز المؤيد أخاه من ولاية العهد بعده.
ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه: كان السبب في ذلك- فيما بلغنا- أن العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى إبراهيم المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث ابن فرخان شاه إليه، فأخذها، فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى بن فرخان شاه، وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى أخويه: المؤيد وأبي أحمد، فحبسهما في الجوسق، وقيد المؤيد وصيره في حجرة ضيقة، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة، وحبس كنجور حاجب المؤيد، وضربه خمسين مقرعه، وضرب خليفته أبا الهول خمسمائة

(9/361)


سوط وطوف به على جمل، ثم رضي عنه وعن كنجور، فصرف إلى منزله.
وقد ذكر أنه ضرب أخاه المؤيد أربعين مقرعة، ثم خلع بسامرا يوم الجمعة لسبع خلون من رجب، وخلع ببغداد يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب، وأخذت رقعة بخطه بخلع نفسه.
ولست بقين من رجب من هذه السنة- وقيل لثمان بقين منه- كانت وفاة إبراهيم بن جعفر المعروف بالمؤيد ذكر الخبر عن سبب وفاته:
ذكر أن امرأة من نساء الأتراك جاءت محمد بن راشد المغربي، فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس، وركب محمد بن راشد إلى المعتز، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا، فسأله فأنكر، وقال:
يا أمير المؤمنين، إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به كان في الحرب التي كانت، وأما المؤيد فلا فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا بالقضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتا لا أثر به ولا جرح، وحمل الى أمه إسحاق- وهي أم أبي أحمد- على حمار، وحمل معه كفن وحنوط وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد.
وذكر أن المؤيد أدرج في لحاف سمور، ثم أمسك طرفاه حتى مات.
وقيل: أنه أقعد في حجر من ثلج، ونضدت عليه حجارة الثلج فمات بردا.

ذكر الخبر عن مقتل المستعين
وفي شوال منها قتل أحمد بن محمد المستعين.
ذكر الخبر عن قتله:
ذكر أن المعتز لما هم بقتل المستعين، ورد كتابه على محمد بن عبد الله

(9/362)


ابن طاهر بنكبته، وأمره بتوجيه أصحاب معاونه في الطساسيج، ثم ورد عليه منه بعد ذلك كتاب مع خادم يدعى سيما، يؤمر فيه بالكتاب الى منصور ابن نصر بن حمزة- وهو على واسط- بتسليم المستعين إليه، وكان المستعين بها مقيما، وكان الموكل به ابن أبي خميصة وابن المظفر بن سيسل ومنصور ابن نصر بن حمزة وصاحب البريد، فكتب محمد في تسليم المستعين إليه، ثم وجه- فيما قيل- أحمد بن طولون التركي في جيش، فأخرج المستعين لست بقين من شهر رمضان، فوافى به القاطول لثلاث خلون من شوال.
وقيل أن أحمد بن طولون كان موكلا بالمستعين، فوجه سعيد بن صالح إلى المستعين في حمله، فصار إليه سعيد فحمله.
وقيل أن سعيدا إنما تسلم المستعين من ابن طولون في القاطول بعد ما صار به ابن طولون إليها، ثم اختلف في أمرهما، فقال بعضهم: قتله سعيد بالقاطول، فلما كان غد اليوم الذي قتله فيه أحضر جواريه وقال: انظرن إلى مولاكن قد مات، وقد قال بعضهم: بل أدخله سعيد وابن طولون سامرا، ثم صار به سعيد إلى منزل له فعذبه حتى مات.
وقيل: بل ركب معه في زورق ومعه عدة حتى حاذى به فم دجيل، وشد في رجله حجرا، وألقاه في الماء.
وذكر عن متطبب كان مع المستعين نصراني يقال له فضلان، أنه قال:
كنت معه حين حمل، وأنه أخذ به على طريق سامرا، فلما انتهى إلى نهر نظر إلى موكب وأعلام وجماعة، فقال لفضلان: تقدم فانظر من هذا، فإن كان سعيدا فقد ذهبت نفسي، قال فضلان فتقدمت إلى أول الجيش، فسألتهم فقالوا: سعيد الحاجب، فرجعت إليه فأعلمته- وكان في قبة تعادله امرأة- فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ذهبت نفسي والله! وتأخرت عنه قليلا.

(9/363)


قال: فلقيه أول الجيش، فأقاموا عليه وأنزلوه ودابته، فضربوه ضربه بالسيف، فصاح وصاحت دايته، ثم قتل، فلما قتل انصرف الجيش.
قال: فصرت إلى الموضع، فإذا هو مقتول في سراويل بلا رأس، وإذا المرأة مقتولة، وبها عدة ضربات، فطرحنا عليهما نحن تراب النهر حتى واريناهما، ثم انصرفنا.
قال: وأتي المعتز برأسه وهو يلعب بالشطرنج، فقيل: هذا رأس المخلوع فقال: ضعوه هنالك، ثم فرغ من لعبه، ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولي معونة البصرة.
وذكر عن بعض غلمان المستعين ان سعيدا لما استقبله أنزله، ووكل به رجلا من الأتراك يقتله، فسأله، أن يمهله حتى يصلي ركعتين، وكانت عليه جبة، فسأل سعيد التركي الموكل بقتله أن يطلبها منه قبل قتله، ففعل ذلك، فلما سجد في الركعة الثانية قتله واحتز رأسه، وأمر بدفنه، وخفي مكانه.
وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة في أمر المؤيد، ويمدح المعتز:
أنت الذي يمسك الدنيا إذا اضطربت ... يا ممسك الدين والدنيا إذا اضطربا
إن الرعية- أبقاك الإله لها ... - ترجو بعدلك أن تبقى لها حقبا
لقد عنيت بحرب غير هينة ... وكان عودك نبعا لم يكن غربا
ما كنت أول رأس خانه ذنب ... والرأس كنت وكان الناكث الذنبا
لو كان تم له ما كان دبره ... لأصبح الملك والإسلام قد ذهبا
أراد يهلك دنيانا ويعطبها ... وقد أراد هلاك الدين والعطبا

(9/364)


لما أراد وثوبا من سفاهته ... أمسى عليه إمام العدل قد وثبا
لقد رماك بسهم لم يصبك به ... ومن رماك عليه سهمه انقلبا
لقد رعيت له ما كان من سبب ... فما رعى لك إحسانا ولا سببا
كحسن فعلك لم يفعل أخ بأخ ... كنا لذاك شهودا لم نكن غيبا
قد كنت مشتغلا بالحرب ذا تعب ... وكان يلعب ما كلفته تعبا
قد كان يا ذا الندى يعطى بلا طلب ... وكنت يا ذا الندى تعطيه ما طلبا
وكنت أكثر برا من أبيه به ... ولم تكن بأخ في البر، كنت أبا
وكان قرب سرير الملك مجلسه ... فقد تباعد منه بعد ما اقتربا
وكان في نعم زالت وكان له ... باب يزار فأمسى اليوم محتجبا
أمسى وحيدا وقد كانت مواكبه ... عشرين ألفا تراهم خلفه عصبا
أين الصفوف التي كانت تقوم له ... كما يقوم إذا ما جاء أو ذهبا
وذل بعد تماديه ونخوته ... كالحوت أصبح عنه الماء قد نضبا
وقد فسخت عن الأعناق بيعته ... فلا خطيب له يدعو إذا اختطبا
لقبته نقبا من بعد إمرته ... والله بدله بالإمرة اللقبا
كسوته ثوب عز فاستهان به ... ولم يصنه فأمسى عنه مغتصبا
كم نعمة لك فيها كنت تشركه ... والله أخرجه منها بما اكتسبا
شبهته بسراج كان ذا لهب ... فما تركت له نورا ولا لهبا
أمست قطيعة إبراهيم قد قطعت ... حبل الصفاء وحبل الود فانقضبا
وما تؤاخذ يا حلف الندى أحدا ... حتى تبين فيه النكث والريبا
إني بمدح بني العباس ذو حسب ... وكان مدح بني العباس لي حسبا

(9/365)


إن التقى يا بني العباس أدبكم ... حتى استفادت قريش منكم الأدبا
من كان مقتضبا في حول مدحكم ... فلست فيه بحمد الله مقتضبا.

امر المعتز مع اهل بغداد
ذكر عن أبي عبد الرحمن الفاني أن فتى من اهل سامرا املى عليه مما عمله بعض أهلها عن ألسن الأتراك أن المعتز لما أفضت إليه الخلافة، وقلده الله القيام بأمر عباده في المشارق والمغارب، والبر والبحر، والبدو والحضر، والسهل والجبل، تألم بسوء اختيار أهل بغداد وفتنتهم، فأمر المعتز بالله بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طبائعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة، فقال أمير المؤمنين:
أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقهم، وغار شأوهم، الهمج الطغام، والأوغاد الذين لا مسكة بهم، ولا اختيار لهم، ولا تمييز معهم، قد زين لهم تقحم الخطا سوء أعمالهم، فهم الأقلون وإن كثروا والمذمومون إن ذكروا، وقد علمت أنه لا يصلح لقود الجيوش وسد الثغور وإبرام الأمور وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خلال أربع: حزم يقف به عند موارد الأمور حقائق مصادرها، وعلم يحجزه عن التهور والتغرير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها، وشجاعة لا ينقصها الملمات مع تواتر حوائجها، وجود يهون به تبذير جلائل الأموال عند سؤالها وأما الثلاث: فسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان، والاستعداد للحوادث، إذ لا تؤمن من نوائب الزمان وأما الاثنتان، فإسقاط الحاجب عن الرعية، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية وأما الواحدة فالتيقظ في الأمور مع عدم تأخير عمل اليوم لغد، فما ترون، وقد اخترت رجالا لهم من موالي، أحدهم شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، لا تبطره السراء، ولا تدهشه الضراء، لا يهاب ما وراءه، ولا يهوله ما تلقاءه، وهو كالحريش في أصل السلام، إن

(9/366)


حرك حمل، وإن نهش قتل، عدته عتيدة، ونقمته شديدة، يلقى الجيش في النفر القليل العدد بقلب أشد من الحديد طالب للثأر، لا يفله العساكر، باسل البأس، مقتضب الأنفاس لا يعوزه ما طلب، ولا يفوته من هرب، واري الزناد، مطلع العماد، لا تشرهه الرغائب، ولا تعجزه النوائب، إن ولي كفى، وإن وعد وفى، وإن نازل فبطل، وإن قال فعل، ظله لوليه ظليل، وبأسه في الهياج عليه دليل، يفوق من ساماه، ويعجز من ناواه، ويتعب من جاراه، وينعش من والاه.
فقام إليه رجل من القوم، فقال: قد جمع الله لك يا أمير المؤمنين فضائل الأدب، وخصك بإرث النبوة، وألقى إليك أزمة الحكمة، ووفر نصيبك من حباء الكرامة، وفسح لك في الفهم، ونور قلبك بأنفس العلوم وصفاء الذهن، فأفصح عن القلب البيان، وأدرك فهمك يا أمير المؤمنين ما والله خبىء على من لم يحب بما حبيت من المنن العظام، والأيادي الجسام، والفضائل المحمودة، وشرف الطباع فنطقت الحكمة على لسانك، فما ظننته فهو صواب، وما فهمته فهو الحق الذي لا يعاب، وأنت والله يا أمير المؤمنين نسيج وحده، وقريع دهره، لا يبلغ كلية فضله الوصف، ولا يحصر أجزاء شرف فضله النعت.
ثم أمر أمير المؤمنين بالعقد لأنصاره على النواحي، وأطلقهم في أشعار أعدائهم وأبشارهم ودمائهم، فلما بلغ محمد بن عبد الله ما أمر به في النواحي أنشأ كتابا نسخته:
أما بعد فإن زيغ الهوى صدف بكم عن حزم الرأي، فأقحمكم حبائل الخطا، ولو ملكتم الحق عليكم، وحكمتم به فيكم لاوردكم البصيره، ونفى عنكم غيايه الحيرة، والآن فإن تجنحوا للسلم تحقنوا دماءكم، وترغدوا عيشكم، ويصفح أمير المؤمنين عن جريرة جارمكم، وأخلى لكم ذروة سبوغ النعمة عليكم، وإن مضيتم على غلوائكم، وسول لكم الأمل أسوأ أعمالكم، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بعد نبذ المعذرة إليكم، وإقامة الحجة عليكم،

(9/367)


ولئن شنت الغارات، وشب ضرام الحرب، ودارت رحاها على قطبها، وحسمت الصوارم أوصال حماتها، واستجرت العوالي من نهمها، ودعيت نزال، والتحم الأبطال، وكلحت الحرب عن أنيابها أشداقها، وألقت للتجرد عنها قناعها، واختلفت أعناق الخيل، وزحف أهل النجدة إلى أهل البغي، لتعلمن أي الفريقين أسمح بالموت نفسا، وأشد عند اللقاء بطشا، ولات حين معذرة، ولا قبول فدية! وقد أعذر من أنذر، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ! فبلغ كتاب محمد بن عبد الله الأتراك، فكتبوا جواب كتابه:
إن شخص الباطل تصور لك في صورة الحق، فتخيل لك الغي رشدا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، ولو راجعت عزوب عقلك أنار لك برهان البصيرة، وحسم عنك مواد الشبهة، لكن حصت عن سنه الحقيقة، ونكصت على عقبيك لما ملك طباعك من دواعي الحيرة، فكنت في الإصغاء لهتافه والتجرد إلى وروده كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ولعمرك يا محمد، لقد ورد وعدك لنا ووعيدك إيانا، فلم يدننا منك، ولم ينئنا عنك، إذ كان فحص اليقين قد كشف عن مكنون ضميرك، وألفاك كالمكتفي بالبرق نهجا، إذا أضاء له مشى فيه، وإذا أظلم عليه قام ولعمرك لئن اشتد في البغى شاوك، ومتعت بصبابه من الأمل ليكونن أمرك عليك غمة، ولنأتينك بجنود لا قبل لك بها، ولنخرجنك منها ذليلا، وأنت من الصاغرين ولولا انتظارنا كتاب أمير المؤمنين بأعلامنا ما نعمل في شاكلته، بلغنا بالسياط النياط، وغمدنا السيوف وهي كالة، وجعلنا عاليها سافلها، وجعلناها مأوى الظلمان والحيات والبوم، وقد ناديناك من كثب، وأسمعناك إن كنت حيا، فإن تجب تفلح، وإن تأب إلا غيا نخزك به، وعما قليل لتصبحن نادمين.

(9/368)


وقوع الفتنة بين الاتراك والمغاربه
وفي أول يوم من رجب من هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة، وذلك أن المغاربة اجتمعت فيه مع محمد بن راشد ونصر بن سعيد، فغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: في كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر، وتقتلون وزيرا! وكانوا قد وثبوا على عيسى بن فرخان شاه، فتناولوه بالضرب، وأخذوا دوابه ولما أخرجت المغاربة الأتراك من الجوسق، وغلبوهم على بيت المال، أخذوا خمسين دابة مما كان الأتراك يركبونها، فاجتمع الأتراك، وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فتلاقوا هم والمغاربة، فقتل من المغاربة رجل، فأخذت المغاربة قاتله، وأعانت المغاربة الغوغاء والشاكريه، فضعف الأتراك، وانقادوا للمغاربة فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين، فاصطلحوا على ألا يحدثوا شيئا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من قبل أحد الفريقين يكون فيه آخر من الفريق الآخر، فمكثوا على ذلك مديده.
وبلغ الأتراك اجتماع المغاربة إلى محمد بن راشد ونصر بن سعيد، واجتمع الأتراك إلى بايكباك، فقالوا: نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فلا أحد ينطق، وكان محمد بن راشد ونصر بن سعيد قد اجتمعا في صدر اليوم الذي عزم الأتراك فيه على الوثوب بهما، ثم انصرفا إلى منازلهما، فبلغهما أن بايكباك قد صار إلى منزل ابن راشد، فعدل محمد بن راشد ونصر بن سعيد إلى منزل محمد بن عزون ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز الى بايكباك رجل، ودله عليهما وقيل إن ابن عزون هو الذي دس من دل بايكباك والأتراك عليهما، فأخذهما الأتراك فقتلوهما، فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون، فكلم فيه فنفاه الى بغداد.