تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
قيام الشغب ببغداد
ووثوب العامه بسليمان بن عبد الله
وفي سلخ رجب من هذه السنة، كان ببغداد شغب ووثوب العامة بسليمان بن عبد
الله بن طاهر.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل الأمر إليه:
وكان السبب في ذلك، أن الكتاب من محمد بن الواثق ورد يوم الخميس سلخ
رجب على سليمان ببغداد ببيعة الناس له، وبها أبو أحمد بن المتوكل، وكان
أخوه المعتز سيره إلى البصرة حين سخط على أخيه من أمه المؤيد، فلما
وقعت العصبية بالبصرة نقله إلى بغداد، فكان مقيما بها، فبعث سليمان بن
عبد الله بن طاهر وإليه الشرطة يومئذ ببغداد، فأحضره داره، وسمع من
ببغداد من الجند والغوغاء بأمر المعتز وابن الواثق، فاجتمعوا إلى باب
سليمان، وضجوا هنالك، ثم انصرفوا على أنه قيل لهم: لم يرد علينا من
الخبر ما نعلم به ما عمل به القوم، فغدوا يوم الجمعة على ذلك من الصياح
والقول الذي كان قيل لهم يوم الخميس، وصلى الناس في المسجدين، ودعي
فيهما للمعتز، فلما كان يوم السبت غدا القوم، فهجموا على دار سليمان،
وهتفوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، وخلصوا إلى سليمان في داره،
وسألوه أن يريهم أبا احمد
(9/392)
ابن المتوكل، فأظهره لهم، ووعدهم المصير
إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا عنه بعد أن أكدوا عليه في
حفظه.
وقدم يارجوخ فنزل البردان ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند ممن
بمدينة السلام، ثم صار إلى الشماسية، ثم غدا ليدخل بغداد، فبلغ الناس
الخبر، فضجوا وتبادروا بالخروج إليه، وبلغ يارجوخ الخبر، فرجع إلى
البردان، فأقام بها، وكتب إلى السلطان، واختلفت الكتب حتى وجه إلى أهل
بغداد بمال رضوا به، ووقعت بيعة الخاصة ببغداد للمهتدي يوم الخميس لسبع
ليال خلون من شعبان، ودعي له يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان بعد أن
كانت ببغداد فتنة، قتل فيها وغرق في دجلة قوم، وجرح آخرون لأن سليمان
كان يحفظ داره قوم من الطبرية بالسلاح، فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة
وعلى الجسر، ثم استقام الأمر بعد ذلك وسكنوا.
ذكر خبر ظهور قبيحه أم المعتز
وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة للأتراك، ودلتهم على الأموال
التي عندها والذخائر والجوهر، وذلك أنها- فيما ذكر- قد قدرت الفتك
بصالح، وواطأت على ذلك النفر من الكتاب الذين أوقع بهم صالح، فلما أوقع
بهم صالح، وعلمت أنهم لم يطووا عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم من
العذاب، أيقنت بالهلاك، فعملت في التخلص، فأخرجت ما في الخزائن داخل
الجوسق من الأموال والجواهر وفاخر المتاع، فأودعت ذلك كله مع ما كانت
أودعت قبل ذلك مما هو في هذا المعنى، ثم لم تأمن المعاجلة إلى ما نزل
بها وبابنها، فاحتالت للهرب وجها، فحفرت سربا من داخل القصر من حجرة
لها خاصة ينفذ إلى موضع يفوت التفتيش، فلما علمت
(9/393)
بالحادثة بادرت من غير تلبث ولا تلوم، حتى
صارت في ذلك السرب، ثم خرجت من القصر، فلما فرغ الذين شغبوا في أمر
ابنها مما أرادوا إحكامه، فصاروا إلى طلبها غير شاكين في القدرة عليها،
وجدوا القصر منها خاليا، وأمرها عنهم مستترا، لا يقفون منه على شيء،
ولا ما يؤديهم إلى معرفته، حتى وقفوا على السرب، فعلموا حينئذ أنهم منه
أوتوا فسلكوه، وانتهوا إلى موضع لا يوقف منه على خبر ولا أثر، فأيقنوا
بالفوت، ثم رجموا الظنون، فلم يجدوا لها معقلا أعز ولا أمنع إن هي لجأت
إليه من حبيب حرة موسى بن بغا التي تزوجها من جواري المتوكل، فأحالوا
على تلك الناحية، وكرهوا التعرض لشيء من أسبابها، ووضعوا العيون
والأرصاد عليها، وأظهروا التوعد لمن وقفوا على معرفته بأمرها، ثم لم
يظهرهم عليها، فلم يزل الأمر منطويا عنهم، حتى ظهرت في شهر رمضان،
وصارت إلى صالح بن وصيف، ووسطت بينها وبين صالح العطارة، وكانت تثق
بها، وكانت لها أموال ببغداد، فكتبت في حملها، فاستخرج وحمل منها إلى
سامرا فذكر أنه وافى سامرا يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر
رمضان من هذه السنه قدر خمسمائة ألف دينار، ووقعوا لها على خزائن
ببغداد فوجه في حملها، فاستخرج وحمل منها، فحمل إلى السلطان من ذلك
متاع كثير، وأحيل من ببغداد من الجند والشاكرية المرتزقة بمال عظيم
عليه ولم تزل تباع تلك الخزائن متصلا ببغداد وسامرا عده شهور، حتى
نفدت.
ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن شخص الناس إلى مكة في هذه السنة، فسيرت
إليها مع رجاء الربابى ووحش مولى المهتدي، فذكر عمن سمعها في طريقها
وهي تدعو الله على صالح بن وصيف بصوت عال وتقول: اللهم اخز صالح ابن
وصيف، كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي،
وركب الفاحشة مني! فانصرف الناس عن الموسم واحتبست بمكة.
وذكر أن الأتراك لما تحركوا، وثاروا بالمعتز أرسلوا إليه يطلبون منه
خمسين
(9/394)
ألف دينار، على أن يقتلوا صالحا، ويستوي
لهم الأمر فأرسل إلى أمه يعلمها اضطرابهم عليه، وأنه خائف على نفسه
منهم، فقالت: ما عندي مال، وقد وردت لنا سفاتج، فلينتظروا حتى نقبض
ونعطيهم، فلما قتل المعتز، أرسل صالح إلى رجل جوهري قال الرجل: فدخلت
إليه وعنده احمد ابن خاقان، فقال: ويحك! هو ذا ترى ما أنا فيه! وكان
صالح قد أخافوه وطالبوه بالمال، ولم يكن عنده شيء، فقال لي: قد بلغني
أن لقبيحة خزانة في موضع يرشدك إليه هذا الرجل- وإذا رجل بين يديه-
فامض ومعك احمد ابن خاقان، فإن أصبتم شيئا فاثبته عندك، وسلمه إلى أحمد
بن خاقان، وصر إلي معه قال: فمضيت إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع،
فجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة، فدخلنا ففتشنا كل موضع
فيها فلم نجد شيئا، وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان، وهو يتهدد الرجل
ويتوعده، ويغلظ له، وأخذ الرجل فاسا ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد ستر
فيه المال، فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على مكان في الحائط استدل بصوته
على أن فيه شيئا، فهدمه وإذا من ورائه باب، ففتحناه ودخلنا إليه،
فأدانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها
وقسمتها، فوجدنا من المال على رفوف في أسفاط زهاء ألف ألف دينار، فأخذ
أحمد منها ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار، ووجدنا ثلاثة أسفاط:
سفطا فيه مقدار مكوك زمرد إلا أنه من الزمرد الذي لم أر للمتوكل مثله
ولا لغيره، وسفطا دونه فيه نصف مكوك حب كبار، لم أر والله للمتوكل ولا
لغيره مثله، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوت أحمر لم أر مثله، ولا
ظننت أن مثله يكون في الدنيا، فقومت الجميع على البيع، فكانت قيمته
ألفي ألف دينار، فحملناه كله إلى صالح، فلما رآه جعل لا يصدق ولا يوقن
حتى أحضر بحضرته ووقف عليه، فقال عند ذلك:
فعل الله بها وفعل، عرضت ابنها للقتل في مقدار خمسين ألف دينار، وعندها
مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها!
(9/395)
وكانت أم محمد بن الواثق توفيت قبل أن
يبايع، وكانت تحت المستعين، فلما قتل المستعين صيرها المعتز في قصر
الرصافة الذي فيه الحرم، فلما ولي الخلافة المهتدي قال يوما لجماعة من
الموالي: أما أنا فليس لي أم أحتاج لها إلى غلة عشرة آلاف ألف في كل
سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها، وما أريد لنفسي وولدي إلا القوت،
وما أريد فضلا إلا لإخوتي فإن الضيقه قد مستهم
. ذكر الخبر عن قتل احمد بن إسرائيل وابى
نوح
ولثلاث بقين من رمضان من هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح.
ذكر الخبر عن صفة القتلة التي قتلا بها:
فأما السبب الذي أداهما إلى القتل، فقد ذكرناه قبل، وأما القتلة التي
قتلا بها، فإنه ذكر أن صالح بن وصيف لما استصفى أموالهما ومال الحسن
ابن مخلد، وعذبهم بالضرب والقيد وقرب كوانين الفحم في شدة الحر منهم،
ومنعهم كل راحة، وهم في يده على حالهم، ونسبهم إلى أمور عظام من
الخيانة والقصد لذل السلطان والحرص على دوام الفتن والسعي في شق عصا
المسلمين، فلم يعارضه المهتدي في شيء من أمورهم، ولم يوافقه على شيء
أنكره من فعله بهم ثم وجه إليهم الحسن بن سليمان الدوشابي في شهر
رمضان، ليتولى استخراج شيء إن كان زوي عنه من أموالهم.
قال: فأخرج إلي أحمد بن إسرائيل، فقلت له: يا فاجر، تظن أن الله يمهلك،
وأن أمير المؤمنين لا يستحل قتلك، وأنت السبب في الفتن، والشريك في
الدماء، مع عظيم الخيانة وفساد النية والطوية! إن في أقل من هذا ما
تستوجب به المثلة كما استوجب من كان قبلك، والقتل في العاجلة والعذاب
(9/396)
والخزي في الآجلة، إن لم تسعد من الله بعفو
وإمهال، ومن إمامك بصفح واحتمال، فاستر نفسك من نزول ما تستحق بالصدق
عما عندك من المال، فإنك إن تفعل ويوقف على صدقك تسلم بنفسك قال: فذكر
أنه لا شيء عنده، ولا ترك له إلى هذا الوقت مال ولا عقدة قال: فدعوت
بالمقارع وأمرت أن يقام في الشمس، وأرعدت وأبرقت، وإن كان ليفوتني
الظفر منه بشيء من صرامة ورجلة حتى أومى إلى قدر تسعة عشر ألف دينار،
فأخذت رقعته بها قال: ثم أحضرت أبا نوح عيسى بن إبراهيم فقلت له مثل
الذي قلت لأحمد أو نحوه، وزدت في ذلك بأن قلت: وأنت مع هذا مقيم على
دينك النصرانية، مرتكب فروج المسلمات تشفيا من الإسلام وأهله! ولا
دلالة أدل على ذلك ممن لم يزل في منزلك على حال النصرانية من أهل وولد،
ومن كان ذا عقدة فقد أباح الله دمه.
قال: فلم يجب إلى شيء، وأظهر ضعفا وفقرا.
قال: وأما الحسن بن مخلد فأخرجته، فلما خاطبته خاطبت رجلا موضعا رخوا،
قال: فبكته بما ظهر منه، وقلت: من كان له الراضة بين يديه إذا سار على
الشهاري وقدر ما قدرت، وأراد ما أردت، لم يكن موضعا رطبا ولا مخنثا
رخوا قال: ولم أزل به حتى كتب رقعة بجوهر قيمته نيف وثلاثون ألف دينار،
قال: وردوا جميعا إلى موضعهم، وانصرفت.
فكانت مناظرة الحسن بن سليمان الدوشابي لهم آخر مناظرة كانت معهم، ولم
يناظروا أيام المهتدي فيما بلغني مناظرة غيرها.
فلما كان يوم الخميس لثلاث بقين من شهر رمضان أخرج أحمد بن إسرائيل
وأبو نوح عيسى بن إبراهيم إلى باب العامة، فقعد صالح بن وصيف
(9/397)
في الدار، ووكل بضربهما حماد بن محمد بن
حماد بن دنقش، فأقام أحمد بن إسرائيل وابن دنقش يقول: أوجع، وكان كل
جلاد يضربه سوطين، وينتحى حتى وفوه خمسمائة سوط ثم أقاموا أبا نوح أيضا
فضرب خمسمائة سوط ضرب التلف، ثم حملا على بغلين من بغال السقائين على
بطونهما، منكسة رءوسهما، ظاهرة ظهورهما للناس فأما أحمد فحين بلغ خشبة
بابك مات، وحين وصلوا بأبي نوح مات، فدفن أحمد بين الحائطين ويقال إن
أبا نوح مات من يومه في حبس السرخسي خليفة طلمجور على شرط الخاصة، وبقي
الحسن بن مخلد في الحبس.
وذكر عن بعض من حضر أنه قال: لقد رأيت حماد بن محمد بن حماد بن دنقش
وهو يقول للجلادين: أنفسكم يا بني الفاعلة- لا يكني- ويقول: أوجعوا
وغيروا السياط، وبدلوا الرجال، وأحمد بن إسرائيل وعيسى يستغيثان، فذكر
أن المهتدي لما بلغه ذلك قال: أما عقوبة إلا السوط أو القتل! أما يقوم
مقام هذا شيء! أما يكفي! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ،
يقول ذلك ويسترجع مرارا.
وذكر عن الحسن بن مخلد أنه قال: لم يكن الأمر فينا عند صالح إذا لم
يحضره عبد الله بن محمد بن يزداد على ما كان يكون عليه من الغلظة إذا
حضر قال: وكان يقول لصالح: اضرب وعذب فإن الأصلح من وراء ذلك القتل،
فإنهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب، فضلا عن الواترين، ويذكره
قبيح ما بلغه عنهم وكان يسر بذلك.
قال: وكان داود بن ابى العباس الطوسي يحضرنا عند صالح فيقول:
وما هؤلاء، أعزك الله، فبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ! فظنه يرققه
علينا حتى يقول: على أني والله أعلم انهم ان تخلصوا انتشر منهم شر كبير
وفساد في الإسلام عظيم، فينصرف وقد أفتاه بقتلنا، وأشار عليه بإهلاكنا،
(9/398)
فيزداد برأيه وما قال له علينا غيظا، وإلى
الإساءة بنا أنسا، فسئل بعض من كان يخبر أمرهم: كيف نجا الحسن بن مخلد
مما صلي به صاحباه؟ فقال:
بخصلتين، إحداهما أنه صدقه عن الخبر في أول وهله واوجد الدلائل على ما
قاله له أنه حق، وقد كان وعده العفو إن صدقه، وحلف له على ذلك، والأخرى
أن أمير المؤمنين كلمه فيه وأعلمه حرمة أهله به، وأوما إلى محبته
لإصلاح شأنه، فرده عن عظيم المكروه فيه، وقد كنت أرى أنه لو طالت لصالح
مدة وهو في يده، أطلقه واصطنعه، ولم يكن صالح بن وصيف اقتصر في أمر
الكتاب على أخذ أموالهم وأموال أولادهم، حتى أخاف أسبابهم وقراباتهم
بأخذ أموالهم، وتخطى الى المتصلين بهم
. شغب الجند والعامه ببغداد وولايه سليمان
بن عبد الله بن طاهر عليها
ولثلاث عشرة خلت من شهر رمضان منها فتح السجن ببغداد، ووثبت الشاكرية
والنائبة ببغداد من جندها بمحمد بن أوس البلخي: ذكر الخبر عن سبب ذلك
وما آل الأمر إليه فيه:
ذكر أن السبب في ذلك كان أن محمد بن أوس، قدم بغداد مع سليمان ابن عبد
الله بن طاهر وهو على الجيش القادمين من خراسان مع سليمان والصعاليك
الذين تألفهم سليمان بالري، ولم تكن أسماؤهم في ديوان السلطان بالعراق،
ولا أمر سليمان فيهم بشيء، وكانت السنة فيهم أن يقام لمن قدم معه من
خراسان بالعراق حسب ما يقام بخراسان لنظرائهم من مال ضياع ورثة ذي
اليمينين، ويكتب بذلك إلى خراسان ليعارض الورثه هناك من مال العامة،
بدل ما كان دفع من مالهم بالعراق فلما قدم سليمان بن عبد الله العراق،
وجد بيت مال الورثة فارغا وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد تقدم عند
ما صح عنده من الخبر بتصيير الأمر فيما كان يتولاه إلى أخيه سليمان بن
عبد الله،
(9/399)
فأخذ ما كان حاصلا لورثة أبيه وجده في بيت
ما لهم، واستسلف على ما لم يرتفع، وتعجل من المتقبلين اموال نجوم لم
تحل حتى استنظفت ذلك أجمع، وشخص فأقام بالجويث في شرقي دجلة، ثم عبر
حتى صار في غربيها، فضاقت بسليمان الدنيا، وتحرك الشاكرية والجند في
طلب الأرزاق، وكتب سليمان إلى أبي عبد الله المعتز بذلك وقدر أموالهم،
وأدخل في المال تقدير القادمين معه، ووجه محمد بن عيسى بن عبد الرحمن
الكاتب الخراساني كاتبه في ذلك فأجيب بعد مناظرات إلى أن سبب له على
عمال السواد مال صودر عليه لطمع من بمدينة السلام وشحن السواد لا يقوم
بما يجب للنائبة فضلا عن القادمين مع النائبة، فلم يتهيأ لسليمان
الوصول إلى شيء من المال، وقدم ابن أوس والصعاليك وأصحابه، فقصر المال
عنه وعمن كان يقدر وصوله إليه من النائبة، فوقفوا على ذلك وعلى السبب
المضر بهم فيه وكان القادمون مع سليمان من الصعاليك وغيرهم لما قدموا
بغداد أساءوا المجاورة لأهلها، وجاهروا بالفاحشة، وتعرضوا للحرم
والعبيد والغلمان، وعادوهم لمكانهم من السلطان، حتى امتلئوا عليهم غيظا
وحنقا وقد كان سليمان بن عبد الله وحر على الحسين بن إسماعيل بن
إبراهيم بن مصعب بن رزيق، لمكانه كان من عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
ونصرته له وكفايته، وانصرافه عن سليمان وأسبابه فلما انصرف الحسين ابن
إسماعيل إلى بغداد بعقب ما كان يتولاه لعبيد الله من أمر الجند
والشاكرية، فحبس كاتبه في المطبق وحاجبه في سجن باب الشام، ووكل بباب
الحسين ابن إسماعيل جندا من قبل إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، لأن
سليمان ولى إبراهيم ما كان الحسين بن إسماعيل يتولاه لعبيد الله من أمر
جسري بغداد وطساسيج قطربل ومسكن والأنبار، فلما حدث ما حدث من بيعة
المهتدي وشغب الجند والشاكرية بمدينة السلام، ووقعت الحرب في تلك
الأيام، شد محمد ابن أوس على رجل من المراوزة، كان من الشيعة، فضربه في
دار سليمان ثلاثمائة
(9/400)
سوط ضربا مبرحا، وحبسه بباب الشام، وكان
هذا الرجل من خاصة الحسين بن إسماعيل، فلما حدث هذا الحادث احتيج إلى
الحسين بن إسماعيل، لفضل جلده وإقدامه فنحي من كان ببابه موكلا فظهر،
فتراجع أصحابه من غير أمر، وقد كانوا فرقوا على القواد، وضم منهم جمع
كبير إلى محمد بن أبي عون القائد، فذكر أن المضمومين إلى ابن أبي عون
لما صاروا إلى بابه، فرق فيهم من ماله، للراجل عشرة دراهم، وللفارس
دينارا، فلما رجعوا إلى الحسين رفع ابن أبي عون بذكر ذلك، فلم يخرج في
ذلك تعيين ولا أمر، فلم يزل الحال على هذا والجند والشاكرية يصيحون في
طلب مال البيعة وما بقي لهم من مال الطمع المتقدم، وقد رد أمرهم في
تقسيط مالهم، وقبضهم إلى الحسين على ما كان الأمر عليه أيام عبيد الله
بن عبد الله بن طاهر وكان الحسين لا يزال يلقي إليهم ما عليه محمد بن
أوس ومن قدم مع سليمان من القصد لاخذ أموالهم والفوز بها دونهم، حتى
امتلأت قلوبهم فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، اجتمع
جماعة من الجند والشاكرية، ومعهم جماعة من العامة حتى صاروا إلى سجن
باب الشام ليلا، فكسروا بابه، وأطلقوا في تلك الليلة أكثر من كان فيه،
ولم يبق فيه من أصحاب الجرائم أحد إلا الضعيف والمريض والمثقل، فكان
ممن خرج في تلك الليلة نفر من أهل بيت مساور بن عبد الحميد الشاري،
وخرج معهم المروزي مضروب محمد بن أوس وجماعة ممن قد لزم السلطان إلى أن
صاروا إلى قبضته زهاء خمسين ألفا، وأصبح الناس في يوم الجمعة وباب
الحبس مفتوح، فمن قدر أن يمشي مشى، ومن لم يقدر اكترى له ما يركبه، وما
يمنع من ذلك مانع، ولا يدفع دافع، فكان ذلك من أقوى الأمور التي بعثت
الخاصة والعامة على دفع الهيبة بينهم وبين سليمان بن عبد الله وسد باب
السجن بباب الشام بآجر وطين، ولم يعلم أنه كان لإبراهيم ابن إسحاق في
هذه الليلة ولا لأحد من أصحابه حركة أصلا، فتحدث الناس أن الذي جني على
سجن باب الشام بمكان المروزي الذي ضربه ابن أوس فيه
(9/401)
حتى يخلص ثم لم يمض بعد ذلك خمسة أيام، حتى
نافر ابن أوس الحسين ابن إسماعيل في أمر مال النائبة أراده محمد بن أوس
لأصحابه ومنعه الحسين، وتجاريا في ذلك كلاما غلظ بينهما، فخرج محمد
متنكرا، فلما كان الغد من ذلك اليوم غدا محمد بن أوس إلى دار سليمان،
وغدا الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال مولى طاهر، وحضر الناس باب
سليمان، وكان بين من حضر من أصحاب ابن أوس وبين النائبة محادثة، علت
فيها الأصوات، فتبادر أصحاب ابن أوس والقادمون إلى الجزيرة، وعبر إليهم
ابن أوس وولده، وتصايح الناس بالسلاح، وخرج الحسين بن إسماعيل والشاه
بن ميكال والمظفر ابن سيسل في أصحابهم، وصاح الناس بالعامة: من أراد
النهب فليلحق بنا، فقيل: أنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت مائة
ألف إنسان في الزواريق، وتوافى الجند والشاكرية بالسلاح، فوافى أوائل
الناس الجزيرة، فلم يكن إلا قدر اللحظة حتى حمل رجل من أهل سرخس على
الكبير من ولد محمد بن أوس، وطعنه، فاراده عن شهري كان تحته، ثم أخذته
السيوف فانهزم عنه أصحابه، فلم يعمل أحد منهم شيئا، وسلب الجريح وحمل
في زورق، حتى عبر به إلى دار سليمان بن عبد الله بن طاهر، فألقي هناك
فذكر بعض من حضر سليمان، أنه لما رآه اغرورقت عيناه من الدمع، ومهد له،
وأحضر له الأطباء، ومضى ابن أوس من وجهه إلى منزله، وكان ينزل في دار
لآل أحمد بن صالح بن شيرزاد بالدور، مما يلي قصر جعفر بن يحيى بن خالد
بن برمك وجد أهل بغداد في آثارهم والقواد معهم حتى تلقوهم، فكانت بينهم
وقعة بالدور، أولها في آخر الساعة الثانية وآخرها في أول الساعة
السابعة، فلم يزالوا يتراشقون بالنشاب، ويتطاعنون بالرماح، ويتخابطون
بالسيوف وأعان ابن أوس جيرانه من أهل سويقة قطوطا وأصحاب الزواريق من
ملاحي الدور واشتدت الحرب، ووجه أهل بغداد يطلبون نفاطين
(9/402)
من دار سليمان فذكروا أن حاجبه دخل، فأعلمه
ذلك، فأمر بمنعهم منه، وقاتل ابن أوس قتالا شديدا، فناله جراح من سهام
وطعن، فانهزم وأصحابه، وقد كان أخرج حرمه من داره، فلم يزل أهل بغداد
يتبعونهم حتى أخرجوهم من باب الشماسية، ووصل الناس إلى منزل ابن أوس،
فانتهبوا جميع ما كان فيه، فذكر أنه انتهب له بقيمة ألفي ألف درهم،
والمقلل يقول:
ألف ألف وخمسين ألفا، وأنه انتهب له زهاء مائة سراويل مبطن بسمور، سوى
ما كان مبطنا بغيره من الوبر مما يشاكل ذلك، وانتهب له من الفرش الطبري
الخام والمقصور والمدرج والمقطوع ما يكون قيمته ألف ألف درهم، وانصرف
الناس، فجعل الجند يدخلون دار سليمان، وهم يكثرون، ومعهم النهب وهم
يصيحون، وما لهم مانع ولا زاجر وأقام ابن أوس ليلته تلك بالشماسية مع
من لحق به من أصحابه وقد كان أهل بغداد وثبوا بمنازل الصعاليك التي
كانوا فيها سكانا، فنهبوها، وتعرضوا لمن كان تخلف منهم، فتلاحق القوم
هرابا، ولم يبق منهم في اليوم الثاني ببغداد أحد ظاهرا.
فذكر أن سليمان وجه تلك الليلة إلى ابن أوس ثيابا وفرشا وطعاما، فيقال:
إن محمدا قبله، وقيل: أنه رده وأصبح الناس في اليوم الثاني وغدا الحسين
بن إسماعيل والمظفر بن سيسل إلى دار الشاه بن ميكال، ولحق به وجوه
الشاكرية والنائبة وغيرهم، فأقاموا هناك مراغمين سليمان بن عبد الله بن
طاهر وخلت دار سليمان فلم يحضرها إلا جميعه فبعث إليهم سليمان مع محمد
بن نصر بن حمزة بن مالك الخزاعي، وهو لا يعلم ما عليه عقد القوم،
يعلمهم قبح ما ركبوا من محمد بن أوس، وما يجب لمحمد بحرمته وقديمه،
وأنهم لو أنهوا إليه ما أنكروا منه لتقدم في ذلك بما يكفيهم معه الحال
التي ركبوها، فضج الشاكرية الذين حضروا دار الشاه جميعا وقالوا: لا
نرضى بمجاورة ابن أوس ولا بمجاورة أحد من أصحابه ولا من الصعاليك
المنضمين إليه، وإنهم ان
(9/403)
أكرهوا على ذلك تعاقدوا مباينته، وخلع من
يسومهم إياه، وأحال الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل
على كراهة القوم، فرجع الرسول بذلك إلى سليمان، فرده إليهم بكلام دون
ذلك، ووعدهم وقال: أنا أثق بقولكم وضمانكم دون أيمانكم وعهودكم ثم
استوى جالسا.
وذكر أنه لم يزل مستثقلا محمد بن أوس ومن لحق به من الصعاليك وغيرهم،
عارفا بسوء رغبتهم ورداءة مذاهبهم، وبسوم محمد بن أوس في نفسه خاصة
ومحبته وشروعه في كل ما دعا إلى خلاف وفرقة، وأسبغ هذا المعنى، وكثر
فيه حتى خرج به إلى الإغراق فيه، إلى أن قال: لقد كنت أدخل في قنوتي في
الصلاة طلب الراحة من ابن أوس ثم التفت إلى محمد بن علي بن طاهر، فأمره
بالمصير إلى ابن أوس، والتقدم إليه في العزم على الانصراف إلى خراسان،
وأن يعلمه أنه لا سبيل له إلى الرجوع إلى مدينة السلام، ولا إلى تولي
شيء من الأمور التي يتولاها لسليمان.
فلما تناهى الخبر إلى ابن أوس رحل من الشماسيه، فصار في رقه البردان
على دجلة، فأقام بها أياما حتى اجتمع اليه من تفرق من اصحابه، رحل فنزل
النهروان، فلم يزل بها مقيما وقد كان كتب الى بايكباك وصالح ابن وصيف
يعرض عليهما نفسه، ويشكو إليهما ما نزل به، فلم يجد عنده شيئا مما قصد،
وقد كان محمد بن عيسى بن عبد الرحمن مقيما بسامرا لينجز أمور سليمان،
وكان كارها لابن أوس، منحرفا عنه وكان ابن أوس مضطرب الأمر لسوء محضر
محمد بن عيسى الكاتب، فلما انقطعت عن ابن أوس وأصحابه المادة، تعبثوا
بأهل القرى والسابلة، وأكثروا الغارات والنهب، ورحل حتى نزل النهروان.
فذكر عن بعض من قصدوه لينتهبوه، فذكرهم المعاد، وخوفهم الله أنهم ردوا
عليه أن قالوا له: إن كان النهب والقتل جائزا في مدينة السلام، وهي قبة
الإسلام، ودار عز السلطان، فما استنكار ذلك في الصحاري والبراري!
(9/404)
ثم رحل ابن أوس عن النهروان بعد أن أثر في
تلك الناحية آثارا قبيحة، وأخذ أهل البلاد بأداء الأموال، وحمل منها
الطعام في السفن في بطن النهروان إلى إسكاف بني جنيد لبيعه هناك.
وكان محمد بن المظفر بن سيسل بالمدائن، فلما بلغه مصير ابن أوس الى
نهروان صير إقامته بالنعمانية من عمل الزوابي خوفا على نفسه منه لحضور
أبيه كان في يوم الوقعة.
فذكر عن محمد بن نصر بن منصور بن بسام- وعبرتا ضيعته- أن وكيله انصرف
عنها هاربا بعد أن أدى إلى ابن أوس تحت العذاب وخوف الموت قريبا من الف
وخمسمائة دينار، ولم يزل ابن أوس مقيما هناك، يقرب ويباعد، ويقبض
ويبسط، ويشتد ويلين، ويرهب، حتى أتاه كتاب بايكباك بولاية طريق خراسان
من قبله، فكان من وقت خروجه من مدينة السلام إلى وقت ورود الكتاب عليه
بالولاية شهران وخمسة عشر يوما.
وذكر عن بعض ولد عاصم بن يونس العجلي أن أباه كان يتولى ضياعا للنوشري
بناحية طريق خراسان، وأنه كتب إلى النوشري يذكر ما عاين من قوة عسكر
ابن أوس وظاهر عدتهم، ويشير بأن يذكر ذلك لبايكباك، ويصف خلاء طريق
خراسان من سلطان يتولاه ويحوط أهله، وأن هذا عسكر مشحن بالرجال والعدة
والعتاد، مقيم في العمل، وأن النوشري ذكر ذلك لبايكباك، وأشار عليه
بتوليته طريق خراسان، وتخفيف المؤنة عن السلطان، فقبل ما أشار به عليه،
وأمر بكتبه فكتبت، وولي طريق خراسان في ذي القعدة من هذه السنة- وهي
سنة خمس وخمسين ومائتين- وكان موسى خليفه مساور ابن عبد الحميد الشاري
مقيما بالدسكرة ونواحيها في زهاء ثلاثمائة رجل، قد ولاه مساور ما بين
حلوان إلى السوس على طريق خراسان وبطن جوخى وما قرب ذلك من طساسيج
السواد
(9/405)
وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفيهم
منها إلى بغداد، بعد أمر كان قد تقدم من قبيحة في ذلك قبل أن ينزل
بابنها ما نزل، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب
وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس لذلك للعامة، وكانت ولايته والدنيا
كلها من ارض الاسلام مفتونه. |