تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر خبر دخول يعقوب
بن الليث فارس
وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس وأسر علي بن الحسين بن قريش.
ذكر الخبر عن سبب أسره إياه وكيف وصل إليه:
حدثني ابن حماد البربري، قال: كنت يومئذ بفارس عند علي بن الحسين بن
قريش، فورد عليه خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق ابن المغلس ودخول
يعقوب كرمان واستيلائه عليها، ورجع إليه الفل، فأيقن بإقبال يعقوب إلى
فارس، وعلي يومئذ بشيراز من أرض فارس، فضم اليه
(9/384)
جيشه ورجالة الفل من عند طوق وغيرهم،
وأعطاهم السلاح، ثم برز من شيراز، فصار إلى كر خارج شيراز بين آخر طرفه
عرضا مما يلي أرض شيراز، وبين عرض جبل بها من الفضاء قدر ممر رجل أو
دابة، لا يمكن من ضيقه أن يمر فيه أكثر من رجل واحد فأقام في ذلك
الموضع، وضرب عسكره على شط ذلك الكز مما يلي شيراز، وأخرج معه المتسوقة
والتجار من مدينة شيراز إلى معسكره، وقال: إن جاء يعقوب لم يجد موضعا
يجوز الفلاة إلينا، لأنه لا طريق له إلا الفضاء الذي بين الجبل والكر،
وإنما هو قدر ممر رجل، إذا أقام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه،
وإن لم يقدر أن يجوز إلينا بقي في البر بحيث لا طعام له ولا لأصحابه
ولا علف لدوابهم.
قال ابن حماد: فأقبل يعقوب حتى قرب من الكر، فأمر أصحابه بالنزول أول
يوم على نحو من ميل من الكر مما يلي كرمان، ثم أقبل هو وحده وبيده رمح
عشاري، يقول ابن حماد: كأني أنظر إليه حين أقبل وحده على دابته، ما معه
إلا رجل واحد، فنظر إلى الكر والجبل والطريق، وقرب من الكر، وتأمل عسكر
علي بن الحسين، فجعل أصحاب علي يشتمونه، ويقولون: لنردنك إلى شعب
المراجل والقماقم، يا صفار- وهو ساكت لا يرد عليهم شيئا- قال: فلما
تأمل ما أراد من ذلك ورآه، انصرف راجعا إلى أصحابه قال: فلما كان من
الغد عند الظهر أقبل بأصحابه ورجاله حتى صار على شط كر مما يلي بر
كرمان، فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابهم، وحطوا أثقالهم قال: ثم فتح
صندوقا كان معه.
قال ابن حماد: كأني أنظر إليهم وقد أخرجوا كلبا ذئبيا، ثم ركبوا دوابهم
أعراء، وأخذوا رماحهم بأيديهم قال: وقبل ذلك كان قد عبأ علي ابن الحسين
أصحابه، فأقامهم صفوفا على الممر الذي بين الجبل والكر، وهم يرون أنه
لا سبيل ليعقوب، ولا طريق له يمكنه أن يجوزه غيره قال: ثم
(9/385)
جاءوا بالكلب، فرموا به في الكر، ونحن
وأصحاب علي ينظرون إليهم يضحكون منهم ومنه قال: فلما رموا بالكلب فيه،
جعل الكلب يسبح في الماء إلى جانب عسكر علي بن الحسين، وأقحم أصحاب
يعقوب دوابهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم، يسيرون في أثر الكلب فلما
راى على ابن الحسين أن يعقوب قد قطع عامة الكر إليه وإلى أصحابه، انتقض
عليه تدبيره، وتحير في أمره، ولم يلبث أصحاب يعقوب إلا أيسر ذلك حتى
خرجوا من الكر من وراء أصحاب علي بن الحسين، فلم يكن بأسرع من أن خرج
أوائلهم منه حتى هرب أصحاب علي يطلبون مدينة شيراز، لأنهم كانوا يصيرون
إذا خرج أصحاب يعقوب من الكر بين جيش يعقوب وبين الكر، ولا يجدون ملجأ
إن هزموا وانهزم علي بن الحسين بانهزام أصحابه، وقد خرج أصحاب يعقوب من
الكر، فكبت به دابته، فسقط إلى الأرض ولحقه بعض السجزية فهم عليه بسيفه
ليضربه، فبلغ إليه خادم له، فقال: الأمير.
فنزل إليه السجزي، فوضع في عنقه عمامته، ثم جره إلى يعقوب، فلما أتي به
أمر بتقييده، وأمر بما كان في عسكره من آلة الحرب من السلاح والكراع
وغير ذلك، فجمع إليه، ثم أقام بموضعه حتى أمسى، وهجم عليه الليل، ثم
رحل من موضعه ودخل مدينة شيراز ليلا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرك
في المدينة أحد، فلما أصبح أنهب أصحابه دار علي بن الحسين ودور أصحابه،
ثم نظر إلى ما اجتمع في بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع
الخراج، فجباه، ثم شخص منها متوجها إلى سجستان، وحمل معه ابن قريش ومن
أسر معه.
وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى المعتز بدواب وبزاة ومسك هدية.
وفيها ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد والسواد، وذلك لست
خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت موافاته سامرا من خراسان- فيما ذكر-
(9/386)
يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الأول،
وصار إلى الإيتاخية، ثم دخل على المعتز يوم السبت، فخلع عليه وانصرف.
وفيها كانت وقعة بين مساور الشاري ويارجوخ، فهزمه الشاري وانصرف إلى
سامرا مفلولا.
ومات المعلى بن أيوب في شهر ربيع الآخر منها.
ذكر فعل صالح بن وصيف مع احمد بن إسرائيل
ورفيقيه
وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى
بن إبراهيم فقيدهم، وطالبهم بأموال، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن هؤلاء
الكتاب الذين ذكرت كانوا اجتمعوا يوم الأربعاء لليلتين خلتا من جمادى
الآخرة من هذه السنة على شراب لهم يشربونه، فلما كان يوم الخميس غد ذلك
اليوم، ركب ابن إسرائيل في جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها،
وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة أم المعتز- وهو كاتبها- وحضر أبو نوح
الدار، والمعتز نائم، فانتبه قريبا من انتصاف النهار، فأذن لهم، فحمل
صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل، وقال للمعتز: يا امير المؤمنين، ليس
للأتراك عطاء ولا في بيت المال مال، وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه
بأموال الدنيا، فقال له احمد: يا عاصي يا بن العاصي! ثم لم يزالا
يتراجعان الكلام حتى سقط صالح مغشيا عليه، فرش على وجهه الماء وبلغ ذلك
أصحابه وهم على الباب، فصاحوا صيحة واحدة، واخترطوا سيوفهم، ودخلوا على
المعتز مصلتين، فلما رأى ذلك المعتز دخل وتركهم، وأخذ صالح بن وصيف ابن
إسرائيل وابن مخلد وعيسى بن إبراهيم فقيدهم، وأثقلهم بالحديد، وحملهم
إلى داره، فقال المعتز لصالح قبل أن يحملهم: هب لي أحمد، فإنه كاتبي،
وقد رباني، فلم يفعل ذلك صالح، ثم ضرب ابن إسرائيل، حتى كسرت أسنانه،
وبطح ابن مخلد فضرب مائة سوط، وكان عيسى بن إبراهيم محتجما فلم يزل
يصفع حتى جرت الدماء من محاجمه، ثم لم يتركوا حتى أخذت رقاعهم بمال
جليل قسط عليهم
(9/387)
وتوجه قوم من الأتراك إلى إسكاف ليأتوا
بجعفر بن محمود، فقال المعتز:
أما جعفر فلا أرب لي فيه ولا يعمل لي فمضوا، فبعث المعتز إلى أبي صالح
عبد الله بن محمد بن يزداد المروزي، فحمل ليصيره وزيرا، وبعث الى إسحاق
ابن منصور، فأشخص وبعثت قبيحة إلى صالح بن وصيف في ابن إسرائيل:
إما حملته إلى المعتز وإما ركبت إليك فيه.
وقد ذكر أن السبب في ذلك كان أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، وأنهم جعلوا
ذلك سببا لما كان من أمرهم، وأن الرسل لم تزل تختلف بينهم وبين هؤلاء
الكتاب، إلى أن قال أبو نوح لصالح بن وصيف: هذا تدبيرك على الخليفة،
فغشي على صالح حينئذ مما داخله من الحرد والغيظ حتى رشوا على وجهه
الماء، فلما أفاق جرى بين يدي المعتز كلام كثير، ثم خرجوا إلى الصلاة،
وخلا صالح بالمعتز، ثم دعي بالقوم فلم يلبثوا إلا قليلا، حتى أخرجوا
إلى قبة في الصحن، ثم دعي بأبي نوح وابن مخلد فأخذت سيوفهما وقلانسهما
ومزقت ثيابهما، وحلقهما ابن إسرائيل فألقى نفسه عليهما، فثلث به، ثم
أخرجوا إلى الدهليز وحملوا على الدواب والبغال، وارتدف خلف كل واحد
منهم تركي، وبعث بهم إلى دار صالح على طريق الحير، وانصرف صالح بعد
ساعة، وتفرق الأتراك، فانصرفوا فلما كان بعد ذلك بأيام جعل في رجل كل
واحد منهم ثلاثون رطلا، وفي عنق كل واحد منهم عشرون رطلا من حديد،
وطولبوا بالأموال، فلم يجب واحد منهم إلى شيء، ولم ينقطع أمرهم إلى أن
دخل رجب، فوجهوا في قبض ضياعهم ودورهم وضياع أسبابهم وأموالهم، وسموا
الكتاب الخونة، فقدم جعفر بن محمود يوم الخميس لعشر خلون من جمادى
الآخرة فولي الأمر والنهي.
ولليلتين خلتا من رجب ظهر بالكوفة عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان،
فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى
(9/388)
ذكر الخبر عن خلع
المعتز ثم موته
ولثلاث بقين من رجب منها خلع المعتز ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته،
وكان سبب خلعه- فيما ذكر- ان الكتاب الذى ذكرنا أمرهم، لما فعل بهم
الأتراك ما فعلوا، ولم يقروا لهم بشيء، صاروا إلى المعتز يطلبون
أرزاقهم، وقالوا له: أعطنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف، فأرسل
المعتز الى أمه يسألها ان تعطيه ما لا ليعطيهم، فأرسلت إليه: ما عندي
شيء، فلما رأى الأتراك ومن بسامرا من الجند أن قد امتنع الكتاب من أن
يعطوهم شيئا، ولم يجدوا في بيت المال شيئا، والمعتز وأمه قد امتنعا من
أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمة الأتراك والفراغنة والمغاربة واحدة،
فاجتمعوا على خلع المعتز، فصاروا إليه لثلاث بقين من رجب، فذكر بعض
أسباب السلطان أنه كان في اليوم الذي صاروا إليه عند نحرير الخادم في
دار المعتز، فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح
بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر، قد دخلوا في السلاح،
فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتز، ثم بعثوا إليه: اخرج إلينا،
فبعث إليهم: إني أخذت الدواء أمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة، ولا أقدر
على الكلام من الضعف، فإن كان أمرا لا بد منه، فليدخل إلي بعضكم
فليعلمني وهو يرى أن أمره واقف على حاله فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ
والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة، قال: وأحسبهم
كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع، وآثار
الدم على منكبه، فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شديد الحر قال:
فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم
فيه قال: فرأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وجعلوا يقولون: اخلعها،
فأدخلوه حجرة على باب حجرة المعتز كان موسى بن بغا يسكنها حين كان
حاضرا، ثم بعثوا
(9/389)
إلى ابن أبي الشوارب، فأحضروه مع جماعة من
أصحابه، فقال له صالح وأصحابه: أكتب عليه كتاب خلع، فقال: لا أحسنه،
وكان معه رجل أصبهاني، فقال: أنا أكتب، فكتب وشهدوا عليه وخرجوا وقال
ابن أبي الشوارب لصالح: قد شهدوا أن له ولأخته وابنه وأمه الأمان، فقال
صالح بكفه: أي نعم، ووكلوا بذلك المجلس وبامه نساء يحفظنها.
فذكر أن قبيحة كانت اتخذت في الدار التي كانت فيها سربا، وأنها احتالت
هي وقرب وأخت المعتز، فخرجوا من السرب، وكانوا أخذوا عليها الطرق،
ومنعوا الناس أن يجوزوا من يوم فعلوا بالمعتز ما فعلوا، وذلك يوم
الاثنين الى يوم الأربعاء ليله بقيت من رجب.
فذكر أنه لما خلع دفع إلى من يعذبه ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام،
فطلب حسوة من ماء البئر، فمنعوه ثم جصصوا سردابا بالجص الثخين، ثم
أدخلوه فيه، وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميتا.
وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة فلما مات أشهد على
موته بنو هاشم والقواد، وأنه صحيح لا أثر فيه، فدفن مع المنتصر في
ناحية قصر الصوامع، فكانت خلافته من يوم بويع له بسامرا إلى أن خلع
أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان عمره كله أربعا وعشرين
سنة.
وكان أبيض أسود الشعر كثيفه، حسن العينين والوجه، ضيق الجبين، أحمر
الوجنتين، حسن الجسم، طويلا.
وكان مولده بسامرا
(9/390)
خلافة ابن الواثق المهتدي بالله
وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بويع محمد بن
الواثق، فسمي بالمهتدي بالله، وكان يكنى أبا عبد الله، وأمه رومية،
وكانت تسمى قرب.
وذكر عن بعض من كان شاهدا أمرهم، أن محمد بن الواثق لم يقبل بيعة أحد،
حتى أتي بالمعتز فخلع نفسه، وأخبر عن عجزه عن القيام بما أسند إليه،
ورغبته في تسليمها إلى محمد بن الواثق، وأن المعتز مد يده فبايع
الواثق، فسموه بالمهتدي، ثم تنحى وبايع خاصة الموالي.
وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتز نفسه:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أشهد عليه الشهود المسمون في هذا
الكتاب، شهدوا ان أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أقر
عندهم، وأشهدهم على نفسه في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير
مكره، أنه نظر فيما كان تقلده من أمر الخلافة والقيام بأمور المسلمين،
فرأى أنه لا يصلح لذلك، ولا يكمل له، وأنه عاجز عن القيام بما يجب عليه
منها، ضعيف عن ذلك، فأخرج نفسه، وتبرأ منها، وخلعها من رقبته، وخلع
نفسه منها، وبرأ كل من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر
الناس مما كان له في رقابهم من البيعة والعهود والمواثيق والإيمان
بالطلاق والعتاق والصدقة والحج وسائر الأيمان، وحللهم من جميع ذلك
وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة، بعد أن تبين له أن الصلاح له
وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرؤ منها، وأشهد على نفسه بجميع ما
سمي، ووصف في هذا الكتاب جميع الشهود المسمين فيه، وجميع من حضر، بعد
أن قرئ عليه حرفا حرفا، فأقر بفهمه ومعرفته جميع ما فيه طائعا غير
مكره، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة
(9/391)
خمس وخمسين ومائتين.
فوقع المعتز في ذلك: أقر أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب، وكتب
بخطه.
وكتب الشهود شهاداتهم: شهد الحسن بن محمد ومحمد بن يحيى واحمد ابن جناب
ويحيى بن زكرياء بن أبي يعقوب الأصبهاني وعبد الله بن محمد العامري
وأحمد بن الفضل بن يحيى وحماد بن إسحاق وعبد الله بن محمد وابراهيم ابن
محمد، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنه خمس وخمسين ومائتين. |