تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر خبر دخول الموفق
مدينه صاحب الزنج
وفيها دخل الموفق مدينة الفاسق، وأحرق منازله من الجانب الشرقي من نهر
أبي الخصيب.
ذكر الخبر عن سبب وصوله إلى ذلك:
ذكر أن أبا أحمد لما أراد ذلك بعد هدمه سور داره ذلك، أقام يصلح
المسالك في جنبتي نهر أبي الخصيب وفي قصر الفاسق، ليتسع على المقاتلة
الطريق في الدخول والخروج للحرب، وأمر بقلع باب قصر الخبيث الذي كان
انتزعه من حصن أروخ بالبصرة، فقلع وحمل إلى مدينة السلام ثم رأى القصد
لقطع الجسر الأول الذي كان على نهر أبي الخصيب، لما في ذلك من منع
معاونة بعضهم بعضا عند وقوع الحرب في نواحي عسكرهم، فأمر بإعداد سفينة
كبيرة تملأ قصبا قد سقي النفط، وأن ينصب في وسط السفينة دقل طويل
يمنعها من مجاوزة الجسر إذا لصقت به، وانتهز الفرصة في غفلة الفسقة
وتفرقهم.
فلما وجد ذلك في آخر النهار قدمت السفينة، فجرها الشذا حتى وردت النهر،
وأشعل فيها النيران، وأرسلت وقد قوي المد، فوافت القنطرة، ونذر الزنج
بها، وتجمعوا وكثروا حتى ستروا الجسر وما يليه، وجعلوا يقذفون السفينة
بالحجارة والآجر، ويهيلون عليها التراب، ويصبون الماء، وغاص بعضهم
فنقبها، وقد كانت أحرقت من الجسر شيئا يسيرا، فأطفأه الفسقة، وغرقوا
السفينة وحازوها، فصارت في أيديهم.
فلما رأى أبو أحمد فعلهم ذلك، عزم على مجاهدتهم على هذا الجسر
(9/636)
حتى يقطعه، فسمى لذلك قائدين من قواد
غلمانه، وأمرهما بالعبور في جميع أصحابهما في السلاح الشاك واللأمة
الحصينة والآلات المحكمة، وإعداد النفاطين والآلات التي تقطع بها
الجسور، فأمر أحد القائدين أن يقصد غربي النهر، وجعل الآخر في شرقيه،
وركب الموفق في مواليه وخدامه وغلمانه الشذوات والسميريات، وقصد فوهة
نهر أبي الخصيب، وذلك في غداة يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شوال
سنة تسع وستين ومائتين، فسبق إلى الجسر القائد الذي كان أمر بالقصد له
من غربي نهر أبي الخصيب، فأوقع بمن كان موكلا به من أصحاب الفاسق،
وقتلت منهم جماعة، وضرب الجسر بالنار، وطرح عليه القصب وما كان أعد له
من الأشياء المحرقة، فانكشف من كان هناك من أعوان الخبيث، ووافى بعد
ذلك من كان أمر بالقصد للجسر من الجانب الشرقي، ففعلوا ما أمروا به من
إحراقه وقد كان الخبيث أمر ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع بالمقام في
جيشهما للمحاماة عن الجسر، والمنع من قطعه، ففعلا ذلك، فقصد إليهما من
كان بإزائهما، وحاربوهم حربا غليظا حتى انكشفا، وتمكنوا من إحراق الجسر
فأحرقوه، وتجاوزوه إلى الحظيرة التي كان يعمل فيها شذوات الفاسق
وسميرياته وجميع الآلات التي كان يحارب بها، فأحرق ذلك عن آخره إلا
شيئا يسيرا من الشذوات والسميريات كان في النهر، وانهزم أنكلاي وسليمان
بن جامع، وانتهى غلمان الموفق إلى سجن كان للخبيث في غربي نهر أبي
الخصيب، فحامى عنه الزنج ساعة من النهار حتى أخرجوا منه جماعة، وغلبهم
عليه غلمان الموفق، فتخلصوا من كان فيه من الرجال والنساء، وتجاوز من
كان في الجانب الشرقي من غلمان الموفق، بعد أن أحرقوا ما ولوا من الجسر
إلى الموضع المعروف بدار مصلح، وهو من قدماء قواد الفاسق، فدخلوا داره
وأنهبوها، وسبوا ولده ونساءه، وأحرقوا ما تهيأ لهم إحراقه في طريقهم،
وبقيت من الجسر في وسط منه أدقال قد كان الخبيث أحكمها، فامر
(9/637)
الموفق أبا العباس بتقديم عدة من الشذا إلى
ذلك الموضع، ففعل ذلك، فكان فيمن تقدم زيرك في عدد من أصحابه، فوافى
هذه الادقال، وأخرجوا إليها قوما قد كانوا أعدوهم لها معهم الفئوس
والمناشير، فقطعوها، وجذبت وأخرجت عن النهر، وسقط ما بقي من القنطرة،
ودخلت شذوات الموفق النهر، وسار القائدان في جميع أصحابهما على حافتيه
فهزم أصحاب الفاجر في الجانبين، وانصرف الموفق وجميع أصحابه سالمين،
واستنقذ خلق كثير وأتي الموفق بعدد كثير من رءوس الفسقة، فأثاب من أتاه
بها، وأحسن إليه ووصله.
وكان انصرافه في هذا اليوم على ثلاث ساعات من النهار، بعد أن انحاز
الفاسق وجميع أصحابه من الزنج وغيرهم إلى الجانب الشرقي من نهر أبي
الخصيب، وأخلوا غربيه، واحتوى عليه أصحاب الموفق، فهدموا ما كان يعوق
عن محاربة الفجرة من قصور الفاسق وقصور أصحابه، ووسعوا مخترقات ضيقة
كانت على نهر أبي الخصيب، فكان ذلك مما زاد في رعب أصحاب الخائن ومال
جمع كثير من قواده وأصحابه الذين كان لا يرى أنهم يفارقونه إلى طلب
الأمان، فبذل ذلك لهم، فخرجوا أرسالا، فقبلوا، وأحسن إليهم وألحقوا
بنظرائهم في الأرزاق والصلات والخلع.
ثم إن الموفق واظب على إدخال الشذا النهر، وتقحمه في غلمانه، وأمر
بإحراق ما على حافتيه من منازل الفجرة وما في بطنه من السفن، وأحب
تمرين أصحابه على دخول النهر وتسهيل سلوكه لهم لما كان يقدر من إحراق
الجسر الثاني، والتوصل إلى أقصى مواضع الفجرة فبينا الموفق في بعض
أيامه- التي ألح فيها على حرب الخبيث وولوج نهر أبي الخصيب- واقف في
موضع من النهر، وذلك في يوم جمعه، إذ استأمن إليه رجل من أصحاب الفاجر،
وأتاه بمنبر كان للخبيث في الجانب الغربي، فأمره بنقله إليه، ومعه قاض
كان للخبيث في مدينته، فكان ذلك مما فت في أعضادهم، وكان الخبيث جمع ما
كان بقي له من السفن البحرية وغيرها،
(9/638)
فجعلها عند الجسر الثاني، وجمع قواده
وأصحابه وأنجاد رجاله هنالك، فأمر الموفق بعض غلمانه بالدنو من الجسر
وإحراق ما تهيأ إحراقه من المراكب البحرية التي تليه، وأخذ ما أمكن
أخذه منها ففعل ذلك المأمورون به من الغلمان، فزاد فعلهم في تحرز
الفاجر ومحاماته عن الجسر الثاني، فألزم نفسه وجميع أصحابه حفظه
وحراسته خوفا من أن تتهيأ حيله، فيخرج الجانب الغربي عن يده، ويوطئه
أصحاب الموفق، فيكون ذلك سببا لاستئصاله، فأقام الموفق بعد إحراق الجسر
الأول أياما يعبر بجمع بعد جمع من غلمانه إلى الجانب الغربي من نهر أبي
الخصيب، فيحرقون ما بقي من منازل الفجرة.
ويقربون من الجسر الثاني فيحاربهم عليه الزنج.
وقد كان تخلف منهم جمع في منازلهم في الجانب الغربي المقاربة للجسر
الثاني، وكان غلمان الموفق يأتون هذا الموضع ويقفون على الطرق والمسالك
التي كانت تخفى عليهم من عسكر الخبيث، فلما وقف الموفق على معرفة
غلمانه وأصحابه بهذه الطريق واهتدائهم لسلوكها، عزم على القصد لإحراق
الجسر الثاني ليحوز الجانب الغربي من عسكر الخبيث، وليتهيأ لأصحابه
مساواتهم على أرض واحدة، لا يكون بينهما فيها حائل غير نهر أبي الخصيب،
فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بقصد الجانب الغربي في أصحابه وغلمانه،
وذلك في يوم السبت لثمان بقين من شوال سنة تسع وستين ومائتين، وتقدم
إليه أن يجعل خروجه بأصحابه في موضع البناء الذي كان الفاجر سماه مسجد
الجامع، وأن يأخذ الشارع المؤدي إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذه مصلى
بحضره في أعياده، فإذا انتهى إلى موضع المصلى عطف منه إلى الجبل
المعروف بجبل المكتني بأبي عمرو أخي المهلبي، وضم إليه من قواد غلمانه
الفرسان والرجالة زهاء عشرة آلاف، وأمره أن يرتب زيرك صاحب مقدمته في
اصحابه في صحراء المصلى، ليأمن خروج كمين إن كان للفسقة من ذلك الموضع،
وامر
(9/639)
جماعة من قواد الغلمان أن يتفرقوا في
الجبال التي فيها بين الجبل المعروف بالمكتنى بأبي عمرو وبين الجبل
المعروف بالمكتنى أبا مقاتل الزنجي، حتى توافوا جميعا من هذه الجبال
موضع الجسر الثاني في نهر أبي الخصيب، وتقدم إلى جماعة من قواد الغلمان
المضمومين إلى أبي العباس أن يخرجوا في أصحابهم بين دار الفاسق ودار
ابنه أنكلاي، فيكون مسيرهم على شاطئ نهر أبي الخصيب وما قاربه، ليتصلوا
بأوائل الغلمان الذين يأتون على الجبال، ويكون قصد الجميع إلى الجسر
وامرهم بحمل الآلات من المعاول والفؤوس والمناشير مع جمع من النفاطين
لقطع ما يتهيأ قطعه، وإحراق ما يتهيأ إحراقه، وأمر راشدا مولاه بقصد
الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في مثل العدة التي كانت مع أبي العباس
وقصد الجسر ومحاربة من يدافع عنه، ودخل أبو أحمد نهر أبي الخصيب في
الشذا، وقد أعد منها شذوات رتب فيها من أنجاد غلمانه الناشبة والرامحة
من ارتضاه، وأعد معهم من الآلات التي يقطع بها الجسر ما يحتاج إليه
لذلك، وقدمهم أمامه في نهر أبي الخصيب، واشتبكت الحرب في الجانبين
جميعا بين الفريقين، واشتد القتال وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي
العباس ومن معه أنكلاي ابن الفاسق في جيشه، وسليمان بن جامع في جيشه،
وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد ومن معه الفاجر صاحب الزنج والمهلبي في
باقي جيشهم، فكانت الحرب في ذلك اليوم إلى مقدار ثلاث ساعات من النهار
ثم انهزمت الفسقة لا يلوون على شيء، وأخذت السيوف منهم مأخذها، وأخذ من
رءوس الفسقة ما لم يقع عليه إحصاء لكثرته، فكان الموفق إذا أتي برأس من
الرءوس أمر بإلقائه في نهر أبي الخصيب، ليدع المقاتلة الشغل بالرءوس،
ويجدوا في اتباع عدوهم، وأمر أصحاب الشذا الذين رتبهم في نهر أبي
الخصيب بالدنو من الجسر وإحراقه، ودفع من تحامى عنه من الزنج بالسهام،
ففعلوا ذلك وأضرموا الجسر نارا، ووافى أنكلاي وسليمان في ذلك الوقت
جريحين مهزومين، يريدان العبور إلى
(9/640)
شرقي نهر أبي الخصيب، فحالت النار بينهما
وبين الجسر، فألقوا أنفسهما ومن كان معهما من حماتهم في نهر أبي
الخصيب، فغرق منهم خلق كثير، وأفلت أنكلاي وسليمان بعد أن أشفيا على
الهلاك، وأجتمع على الجسر من الجانبين خلق كثير، فقطع بعد أن ألقيت
عليه سفينة مملوءة قصبا مضروما بالنار، فأعانت على قطعه وإحراقه، وتفرق
الجيش في نواحي مدينة الخبيث من الجانبين جميعا، فأحرقوا من دورهم
وقصورهم وأسواقهم شيئا كثيرا، واستنقذوا من النساء المأسورات والأطفال
ما لا يحصى عدده، وأمر الموفق المقاتلة بحملهم في سفنهم والعبور بهم
إلى الموفقية.
وقد كان الفاجر سكن بعد إحراق قصره ومنازله الدار المعروفة بأحمد بن
موسى القلوص والدار المعروفة بمحمد بن إبراهيم أبي عيسى، وأسكن ابنه
أنكلاي الدار المعروفة بمالك ابن أخت القلوص، فقصد جماعة من غلمان
الموفق المواضع التي كان الخبيث يسكنها فدخلوها، وأحرقوا منها مواضع،
وانتهبوا منها ما كان سلم للفاسق من الحريق الأول، وهرب الخبيث ولم
يوقف في ذلك اليوم على مواضع أمواله واستنقذ في هذا اليوم نسوة علويات
كن محتبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها، فأمر الموفق بحملهن
إلى عسكره، وأحسن إليهن، ووصلهن، وقصد جماعة من غلمان الموفق من
المستأمنة المضمومين إلى أبي العباس سجنا كان الفاسق اتخذه في الجانب
الشرقي من نهر أبي الخصيب، ففتحوه وأخرجوا منه خلقا كثيرا ممن كان أسر
من العساكر التي كانت تحارب الفاسق وأصحابه، ومن سائر الناس غيرهم
فأخرج جميعهم في قيودهم وأغلالهم حتى أتى بهم الموفق، فأمر بفك الحديد
عنهم وحملهم إلى الموفقية، وأخرج في ذلك اليوم كل ما كان بقي في نهر
أبي الخصيب من شذا ومراكب بحرية وسفن صغار وكبار وحراقات وزلالات وغير
ذلك من أصناف السفن من النهر إلى دجلة، وأباحها الموفق أصحابه وغلمانه
مع ما فيها من السلب والنهب الذي حازوا في ذلك اليوم من
(9/641)
عسكر الخبيث، وكان ذلك قدر جليل وخطر عظيم.
وفيها كان إحدار المعتمد إلى واسط، فسار إليها في ذي القعدة وأنزل دار
زيرك.
وفيها سأل أنكلاي ابن الفاسق أبا أحمد الموفق الأمان، وأرسل إليه في
ذلك رسولا، وسأل أشياء فأجابه الموفق إلى كل ما سأله، ورد إليه رسوله،
وعرض للموفق بعقب ذلك ما شغله عن الحرب وعلم الفاسق أبو أنكلاي بما كان
من ابنه فعذله- فيما ذكر- على ذلك، حتى ثناه عن رأيه في طلب الأمان،
فعاد للجد في قتال أصحاب الموفق، ومباشرة الحرب بنفسه.
ذكر طلب رؤساء صاحب الزنج الامان
وفيها وجه أيضا سليمان بن موسى الشعراني- وهو أحد رؤساء أصحاب الفاسق-
من يطلب الأمان له من أبي أحمد، فمنعه أبو أحمد ذلك، لما كان سلف منه
من العبث وسفك الدماء، ثم اتصل به أن جماعة من أصحاب الخبيث قد
استوحشوا لمنعه ذلك الشعراني، فأجابه أبو أحمد إلى إعطائه الأمان،
استصلاحا بذلك غيره من أصحاب الفاسق، وأمر بتوجيه الشذا إلى الموضع
الذي واعدهم الشعراني، ففعل ذلك، فخرج الشعراني وأخوه وجماعة من قواده،
فحملهم في الشذا، وقد كان الخبيث حرس به مؤخر نهر أبي الخصيب، فحمله
أبو العباس إلى الموفق، فمن عليه، ووفى له بأمانه، وأمر به فوصل ووصل
أصحابه، وخلع عليهم، وحمل على عدة أفراس بسروجها وآلتها، ونزله وأصحابه
أنزالا سنية، وضمه وإياهم إلى أبي العباس، وجعله في جملة أصحابه، وأمره
بإظهاره في الشذا لأصحاب الخائن ليزدادوا ثقة بأمانه، فلم يبرح الشذا
من موضعها من نهر أبي الخصيب، حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج
وغيرهم، فحملوا إلى أبي أحمد، فوصلهم
(9/642)
وألحقهم في الخلع والجوائز بمن تقدمهم.
ولما استأمن الشعراني اختل ما كان الخبيث يضبط به من مؤخر عسكره، ووهى
أمره وضعف، فقلد الخبيث ما كان إلى الشعراني من حفظ ذلك شبل بن سالم،
وأنزله مؤخر نهر أبي الخصيب، فلم يمس الموفق من اليوم الذي أظهر فيه
الشعراني لأصحاب الخبيث حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان، ويسأل
أن يوقف شذوات عند دار ابن سمعان، ليكون قصده فيمن يصحبه من قواده
ورجاله في الليل إليها.
فأعطي الأمان، ورد إليه رسوله، ووقفت له الشذا في الموضع الذي سأل أن
توقف له، فوافاها في آخر الليل ومعه عياله وولده وجماعة من قواده
ورجاله، وشهر أصحابه سلاحهم، وتلقاهم قوم من الزنج قد كان الخبيث وجههم
لمنعه من المصير إلى الشذا وقد كان خبره انتهى إليه، فحاربهم شبل
وأصحابه، وقتلوا منهم نفرا، فصاروا إلى الشذا سالمين، فصير بهم إلى قصر
الموفق بالموفقية، فوافاه وقد ابتلج الصبح، فأمر الموفق أن يوصل شبل
بصلة جزيلة، وخلع عليه خلعا كثيرة، وحمله على عدة أفراس بسروجها
ولجمها.
وكان شبل هذا من عدد الخبيث وقدماء أصحابه وذوي الغناء والبلاء في
نصرته، ووصل أصحاب شبل، وخلع عليهم، وأسنيت له ولهم الأرزاق والأنزال،
وضموا جميعا إلى قائد من قواد غلمان الموفق، ووجه به وبأصحابه في
الشذا، فوقفوا بحيث يراهم الخبيث وأشياعه فعظم ذلك على الفاسق
وأوليائه، لما رأوا من رغبة رؤسائهم في اغتنام الأمان، وتبين الموفق من
مناصحة شبل وجودة فهمه ما دعاه إلى أن يستكفيه بعض الأمور التي يكيد
بها الخبيث، فأمره بتبييت عسكر الخبيث في جمع أمر بضمهم إليه من أبطال
الزنج المستأمنة، وأفرده وإياهم بما امرهم به من البيات، لعلمهم
بالمسالك في عسكر الخبيث، فنفذ شبل لما أمر به، فقصد موضعا كان عرفه،
فكبسه في السحر،
(9/643)
فوافى به جمعا كثيفا من الزنج في عدة من
قوادهم وحماتهم، قد كان الخبيث رتبهم في الدفع عن الدار المعروفة بأبي
عيسى، وهي منزل الخبيث حينئذ، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل منهم مقتلة
عظيمة، وأسر جمعا من قواد الزنج، وأخذ لهم سلاحا كثيرا، وانصرف ومن كان
معه سالمين، فأتي بهم الموفق، فأحسن جائزتهم، وخلع عليهم، وسور جماعة
منهم.
ولما أوقع أصحاب شبل بأصحاب الخائن هذه الوقعة ذعرهم ذلك ذعرا شديدا،
وأخافهم ومنعهم النوم، فكانوا يتحارسون في كل ليلة، ولا تزال النفرة
تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف، ووصل إلى قلوبهم من الوحشة، حتى
لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية.
ثم أقام الموفق بعد ذلك ينفذ السرايا إلى الخبثة ليلا ونهارا من جانبي
نهر أبي الخصيب، ويكدهم بالحرب، ويسهر ليلهم، ويحول بينهم وبين طلب
أقواتهم، وأصحابه في ذلك يتعرفون المسالك، ويتدربون بالوغول في مدينة
الخبيث وتقحمها، ويصرون من ذلك على ما كانت الهيبة تحول بينهم وبينه،
حتى إذا ظن الموفق أن قد بلغ أصحابه ما كانوا يحتاجون إليه، صح عزمه
على العبور إلى محاربة الفاسق في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب،
فجلس مجلسا عاما، وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم
من الزنج والبيضان، فأدخلوا إليه، ووقفوا بحيث يسمعون كلامه ثم خاطبهم
فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم، وما كان
الفاسق دين لهم من معاصي الله، وأن ذلك قد كان أباح له دماءهم، وأنه قد
غفر الزلة، وعفا عن الهفوة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بفضله،
فأجزل الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة، وأن ما
كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته، وأنهم لن يأتوا شيئا يتعرضون به
لطاعة ربهم والاستدعاء لرضا سلطانهم، أولى بهم من الجد والاجتهاد في
مجاهدة عدو الله الخائن وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك
(9/644)
عسكر الخبيث ومضايق طرق مدينته والمعاقل
التي أعدها للهرب إليها على ما ليس عليه غيرهم، فهم أحرياء أن يمحضوه
نصيحتهم، ويجتهدوا في الولوج على الخبيث، والتوغل إليه في حصونه، حتى
يمكنهم الله منه ومن أشياعه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد وإن
من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله وتصغير منزلته، ووضع مرتبته
فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق والإقرار بإحسانه، وبما هم عليه
من صحة الضمائر في السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه، وبذل دمائهم
ومهجهم في كل ما يقر بهم منه، وأن ما دعاهم إليه قد قوى نيتهم، ودلهم
على ثقته بهم وإحلاله إياهم محل أوليائه، وسألوه أن يفردهم بناحية
يحاربون فيها، فيظهر من حسن نياتهم ونكايتهم في العدو ما يعرف به
إخلاصهم وتورعهم عما كانوا عليه من جهلهم فأجابهم الموفق إلى ما سألوا،
وعرفهم حسن موقع ما ظهر له من طاعتهم، وخرجوا من عنده مبتهجين بما
أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد.
خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج وتخريب
داره
وفي ذي القعدة من هذه السنة دخل الموفق مدينة الفاسق بالجانب الشرقي من
نهر أبي الخصيب، فخرب داره، وانتهب ما كان فيها.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة:
ذكر أن أبا أحمد لما عزم على الهجوم على الفاسق في مدينته بالجانب
الشرقي من نهر أبي الخصيب، أمر بجمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة
ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره، إذ كان ما في عسكره مقصرا عن الجيش
لكثرته، وأحصى ما في الشذا والسميريات والرقيات التي كانت تعبر فيها
الخيل، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح، ممن يجري عليه الرزق من بيت المال
مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة، ويركبها الناس في
حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد ومن يحضر من أصحابه من
(9/645)
السميريات والجريبيات والزواريق التي فيها
الملاحون الراتبة فلما تكاملت له السفن والمعابر، ورضي عددها، تقدم إلى
أبي العباس وإلى قواد مواليه وغلمانه في التأهب والاستعداد للقاء
عدوهم، وأمر بتفرقة السفن والمعابر إلى حمل الخيل والرجالة، وتقدم إلى
أبي العباس في أن يكون خروجه في جيشه في الجانب الغربي من نهر أبي
الخصيب، وضم إليه قوادا من قواد غلمانه في زهاء ثمانية آلاف من
أصحابهم، وأمره أن يعمد مؤخر عسكر الفاسق حتى يتجاوز دار المعروف
بالمهلبي، وقد كان الخبيث حصنها وأسكن بقربها خلقا كثيرا من أصحابه،
ليأمن على مؤخر عسكره، وليصعب على من يقصده المسلك إلى هذا الموضع.
فأمر أبو أحمد أبا العباس بالعبور بأصحابه إلى الجانب الغربي من نهر
أبي الخصيب، وأن يأتي هذه الناحية من ورائها، وأمر راشدا مولاه بالخروج
في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في عدد كثير من الفرسان والرجالة
زهاء عشرين ألفا، وأمر بعضهم بالخروج في ركن دار المعروف بالكرنبائي
كاتب المهلبي، وهي على قرنة نهر أبي الخصيب في الجانب الشرقي منه،
وأمرهم أن يجعلوا مسيرهم على شاطئ النهر حتى يوافوا الدار التي نزلها
الخبيث، وهي الدار المعروفة بأبي عيسى وأمر فريقا من غلمانه بالخروج
على فوهة النهر المعروف بأبي شاكر، وهو أسفل من نهر أبي الخصيب، وأمر
آخرين منهم بالخروج في أصحابهم على فوهة النهر المعروف بجوى كور، وأوعز
إلى الجميع في تقديم الرجالة أمام الفرسان، وأن يزحفوا بجميعهم نحو دار
الخائن، فإن أظفرهم الله به وبمن فيها من أهله وولده وإلا قصدوا دار
المهلبي ليلقاهم هناك من أمر بالعبور مع أبي العباس، فتكون أيديهم يدا
واحدة على الفسقة.
فعمل أبو العباس وراشد وسائر قواد الموالي والغلمان بما أمروا به،
فظهروا جميعا، وأبرزوا سفنهم في عشيه يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي
القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وسار الفرسان يتلو بعضهم بعضا، ومشت
الرجالة
(9/646)
وسارت السفن في دجلة منذ صلاة الظهر من يوم
الاثنين إلى آخر وقت عشاء الآخرة من ليلة الثلاثاء، فانتهوا إلى موضع
من أسفل العسكر، وكان الموفق أمر بإصلاحه وتنظيفه وتنقية ما فيه من
خراب ودغل، وطم سواقيه وأنهاره حتى استوى واتسع، وبعدت أقطاره واتخذ
فيه قصرا وميدانا لعرض الرجال والخيل بإزاء قصر الفاسق، وكان غرضه في
ذلك إبطال ما كان الخبيث يعد به أصحابه من سرعة انتقاله عن موضعه،
فأراد أن يعلم الفريقين أنه غير راحل حتى يحكم الله بينه وبين عدوه،
فبات الجيش ليلة الثلاثاء في هذا الموضع بإزاء عسكر الفاسق، وكان
الجميع زهاء خمسين ألف رجل من الفرسان والرجالة في أحسن زي وأكمل هيئة،
وجعلوا يكبرون ويهللون، ويقرءون القرآن، ويصلون، ويوقدون النار فرأى
الخبيث من كثرة الجمع والعدة والعدد ما بهر عقله وعقول أصحابه، وركب
الموفق في عشية يوم الاثنين الشذا، وهي يومئذ مائة وخمسون شذاة قد
شحنها بأنجاد غلمانه ومواليه الناشبة والرامحة، ونظمها من أول عسكر
الخائن إلى آخره، لتكون حصنا للجيش من ورائه، وطرحت أناجرها بحيث تقرب
من الشط، وأفرد منها شذوات اختارها لنفسه، ورتب فيها من خاصة قواد
غلمانه ليكونوا معه عند تقحمه نهر أبي الخصيب، وانتخب من الفرسان
والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي نهر أبي الخصيب
بمسيره، ويقفوا بوقوفه، ويتصرفوا فيما رأى أن يصرفهم فيه في وقت الحرب.
وغدا الموفق يوم الثلاثاء لقتال الفاسق صاحب الزنج، وتوجه كل رئيس من
رؤساء قواده نحو الموضع الذي أمر بقصده، وزحف الجيش نحو الفاسق
وأصحابه، فتلقاهم الخبيث في جيشه، واشتبكت الحرب، وكثر القتل والجراح
بين الفريقين، وحامى الفسقة عما كانوا اقتصروا عليه من مدينتهم أشد
محاماة، واستماتوا، وصبر أصحاب الموفق، وصدقوا القتال، فمن الله عليهم
بالنصر،
(9/647)
وهزم الفسقة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة،
وأسروا من مقاتلتهم وأنجادهم جمعا كثيرا.
وأتي الموفق بالأسارى، فأمر بهم فضربت أعناقهم في المعركة، وقصد بجمعه
لدار الفاجر فوافاها، وقد لجأ الخبيث إليها، وجمع أنجاد أصحابه
للمدافعة عنها، فلما لم يغنوا عنها شيئا أسلمها، وتفرق أصحابه عنها،
ودخلها غلمان الموفق، وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وأثاثه،
فانتهبوا ذلك كله، وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث، وكانوا أكثر من
مائة بين امرأة وصبي، وتخلص الفاسق ومضى هاربا نحو دار المهلبي، لا
يلوي على أهل ولا مال، وأحرقت داره وما بقي فيها من متاع وأثاث، وأتي
الموفق بنساء الخبيث وأولاده، فأمر بحملهم إلى الموفقية والتوكيل بهم،
والإحسان إليهم.
وكان جماعة من قواد أبي العباس عبروا نهر أبي الخصيب، وقصدوا الموضع
الذي أمروا بقصده من دار المهلبي، ولم ينتظروا إلحاق أصحابهم بهم،
فوافوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها أكثر الزنج بعد انكشافهم عن دار
الخبيث، فدخل أصحاب أبي العباس الدار، وتشاغلوا بالنهب وأخذ ما كان غلب
عليه المهلبي من حرم المسلمين وأولاده منهن، وجعل كل من ظفر بشيء انصرف
به إلى سفينته في نهر أبي الخصيب.
وتبين الزنج قلة من بقي منهم وتشاغلهم بالنهب، فخرجوا عليهم من عدة
مواضع قد كانوا كمنوا فيها، فأزالوهم عن مواضعهم، فانكشفوا، واتبعهم
الزنج حتى وافوا نهر أبي الخصيب وقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعة
يسيرة، وارتجعوا بعض ما كانوا أخذوا من النساء والمتاع.
وكان فريق من غلمان الموفق وأصحابه الذين قصدوا دار الخبيث في شرقي نهر
أبي الخصيب تشاغلوا بالنهب وحمل الغنائم إلى سفنهم، فأطمع ذلك الزنج
فيهم، فأكبوا عليهم، فكشفوهم واتبعوا آثارهم إلى الموضع المعروف بسوق
الغنم من عسكر الزنج، فثبتت جماعة من قواد الغلمان في أنجاد
(9/648)
أصحابهم وشجعانهم، فردوا وجوه الزنج حتى
ثاب الناس، وتراجعوا إلى مواقفهم، ودامت الحرب بينهم إلى وقت صلاة
العصر فأمر أبو أحمد عند ذلك غلمانه أن يحملوا على الفسقة بأجمعهم حملة
صادقة، ففعلوا ذلك، فانهزم الزنج وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى دار
الخبيث، فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف غلمانه وأصحابه على إحسانهم،
فأمرهم بالرجوع، فانصرفوا على هدو وسكون، فأقام الموفق في النهر ومن
معه في الشذا يحميهم، حتى دخلوا سفنهم، وأدخلوها خيلهم، وأحجم الزنج عن
اتباعهم لما نالهم في آخر الوقعة وانصرف الموفق ومعه أبو العباس وسائر
قواده وجميع جيشه قد غنموا أموال الفاسق، واستنقذوا جمعا من النساء
اللواتي كان غلب عليهن من حرم المسلمين كثيرا، جعلن يخرجن في ذلك اليوم
أرسالا إلى فوهة نهر أبي الخصيب، فيحملن في السفن إلى الموفقية إلى
انقضاء الحرب.
وكان الموفق تقدم إلى أبي العباس في هذا اليوم أن ينفذ قائدا من قواده
في خمس شذوات إلى مؤخر عسكر الخبيث بنهر أبي الخصيب، لإحراق بيادر ثم
جليل قدرها، كان الخبيث يقوت أصحابه منها من الزنج وغيرهم، ففعل ذلك
وأحرق أكثره وكان إحراق ذلك من أقوى الأشياء على إدخال الضعف على
الفاسق وأصحابه، إذ لم يكن لهم معول في قوتهم غيره، فأمر أبو أحمد
بالكتاب بما تهيأ له على الخبيث وأصحابه في هذا اليوم إلى الآفاق ليقرأ
على الناس، ففعل ذلك.
وفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة من هذه السنة وافى عسكر أبي
أحمد صاعد بن مخلد كاتبه منصرفا إليه من سامرا، ووافى معه بجيش كثيف
قيل إن عدد الفرسان والرجالة الذين قدموا كان زهاء عشره آلاف، امر
الموفق بإراحة أصحابه وتجديد أسلحتهم وإصلاح أمورهم، وأمرهم بالتأهب
لمحاربة الخبيث فأقام أياما بعد قدومه لما أمر به
(9/649)
فهم في ذلك من أمرهم، إذ ورد كتاب لؤلؤ
صاحب ابن طولون مع بعض قواده، يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه،
ليشهد عليه حرب الفاسق فأجابه إلى ذلك، فأذن له في القدوم عليه، وأخر
ما كان عزم عليه من مناجزة الفاجر انتظارا منه قدوم لؤلؤ، وكان لؤلؤ
مقيما بالرقة في جيش عظيم من الفراغنة والأتراك والروم والبربر
والسودان وغيرهم، من نخبة أصحاب ابن طولون، فلما ورد على لؤلؤ كتاب أبي
أحمد بالإذن له في القدوم عليه، شخص من ديار مضر حتى ورد مدينة السلام
في جميع أصحابه، وأقام بها مدة، ثم شخص إلى أبي أحمد فوافاه بعسكره يوم
الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجلس له أبو أحمد،
وحضر ابنه أبو العباس وصاعد والقواد على مراتبهم، فأدخل عليه لؤلؤ في
زي حسن، فأمر أبو العباس أن ينزل معسكرا كان أعد له بإزاء نهر أبي
الخصيب، فنزله في اصحابه، وتقدم اليه في مباكره المصير الى دار الموفق،
ومعه قواده وأصحابه للسلام عليه فغدا لؤلؤ يوم الجمعة لثلاث خلون من
المحرم، وأصحابه معه في السواد، فوصل إلى الموفق وسلم عليه فقربه
وأدناه، ووعده وأصحابه خيرا، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد
من قواده، وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلاة بالذهب والفضة،
وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال في البدور ما يحمله مائة غلام،
وأمر لقواده من الصلات والحملان والكسى على قدر محل كل إنسان منهم
عنده، وأقطعه ضياعا جليلة القدر، وصرفه إلى عسكره بإزاء نهر أبي الخصيب
بأجمل حال، وأعدت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات، وأمره برفع جرائد
لأصحابه بمبلغ أرزاقهم على مراتبهم، فرفع ذلك، فأمر لكل إنسان منهم
بالضعف مما كان يجرى له وامر لهم بالعطاء عند رفع الجرائد، ووفوا ما
رسم لهم.
ثم تقدم إلى لؤلؤ في التأهب والاستعداد للعبور إلى غربي دجلة لمحاربة
الفاسق وأصحابه، وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت
(9/650)
القناطر والجسور التي كانت عليه أحدث سكرا
في النهر من جانبيه، وجعل في وسط السكر بابا ضيقا ليحتد فيه جرية
الماء، فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد،
فرأى أبو أحمد أن حربه لا تتهيأ له إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك،
فاشتدت محاماة الفسقة عنه، وجعلوا يزيدون فيه في كل يوم وليلة، وهو
متوسط دورهم، والمئونة لذلك تسهل عليهم وتغلظ على من حاول قلعه.
فرأى أبو أحمد أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليضروا لمحاربة
الزنج، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤا أن يحضر في
جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، وأمر بإحضار الفعلة لقلعه، ففعل
فرأى الموفق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح
وثبات العدة اليسيرة منهم، في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سره فأمر
لؤلؤا بصرف أصحابه إشفاقا عليهم، وضنا بهم، فوصلهم الموفق، وأحسن
إليهم، وردهم إلى معسكرهم، وألح الموفق على هذا السكر، فكان يحارب
المحامين عنه من أصحاب الخبيث بأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعملون في
قلعه، ويحارب الفاجر وأشياعه من عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل
مقاتلتهم، ويستأمن إليه الجماعة من رؤسائهم.
وكانت قد بقيت للخبيث وأصحابه أرضون من ناحية نهر الغربي، كان لهم فيها
مزارع وخضر وقنطرتان على نهر الغربي، يعبرون عليها إلى هذه الأرضين،
فوقف أبو العباس على ذلك فقصد لتلك الناحية، واستأذن الموفق في ذلك،
فأذن له، وأمره باختيار الرجال، وأن يجعلهم شجعاء أصحابه وغلمانه، ففعل
أبو العباس ذلك، وتوجه نحو نهر الغربي، وجعل زيرك كمينا في جمع من
أصحابه في غربي النهر، وأمر رشيقا غلامه أن يقصد في جمع كثير من أنجاد
رجاله ومختاريهم للنهر المعروف بنهر العميسيين، ليخرج في ظهور الزنج
وهم غارون، فيوقع بهم في هذه الأرضين وأمر زيرك أن يخرج في
(9/651)
وجوههم إذا أحس بانهزامهم من رشيق.
وأقام أبو العباس في عدة شذوات قد انتخب مقاتلتها واختارهم في فوهة نهر
الغربي، ومعه من غلمانه البيضان والسودان عدد قد رضيه، فلما ظهر رشيق
للفجرة في شرقي نهر الغربي، راعهم فأقبلوا يريدون العبور إلى غربيه
ليهربوا إلى عسكرهم، فلما عاينهم أبو العباس اقتحم النهر بالشذوات، وبث
الرجاله على جافتيه، فأدركوهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل منهم في النهر
وعلى ضفتيه خلق كثير، وأسر منهم أسرى، وأفلت آخرون، فتلقاهم زيرك في
أصحابه فقتلوهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وأخذ أصحاب أبي العباس من
أسلحتهم ما ثقل عليهم حمله، حتى ألقوا أكثره وقطع أبو العباس
القنطرتين، وأمر بإخراج ما كان فيهما من البدود والخشب إلى دجلة وانصرف
إلى الموفق بالأسارى والرءوس، فطيف بها في العسكر، وانقطع عن الفسقة ما
كانوا يرتفقون به من المزارع التي كانت بنهر الغربي.
[أخبار متفرقة]
وفي ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائتين- أدخل عيال صاحب
الزنج وولده بغداد.
وفيها سمي صاعد ذا الوزارتين وفي ذي الحجة منها كانت وقعة بين قائدين
وجيش معهما لابن طولون كان أحدهما يسمى محمد بن السراج والآخر منهما
يعرف بالغنوي، كان ابن طولون وجههما، فوافيا مكة يوم الأربعاء لليلتين
بقيتا من ذي القعده في أربعمائة وسبعين فارسا وألفي راجل، فأعطوا
الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤساء سبعة سبعة، وهارون بن
محمد عامل مكة إذ ذاك ببستان ابن عامر، فوافى مكة جعفر بن الباغمردي
لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو من مائتي فارس، وتلقاه هارون في مائة
وعشرين فارسا ومائتي
(9/652)
أسود وثلاثين فارسا من أصحاب عمرو بن الليث
ومائتي راجل ممن قدم من العراق، فقوي بهم جعفر، فالتقوا هم وأصحاب ابن
طولون، وأعان جعفرا حاج أهل خراسان، فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة
نحو من مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال وسلبوا دوابهم وأموالهم،
ورفع جعفر السيف.
وحوى جعفر مضرب الغنوي وقيل: أنه كان فيه مائتا ألف دينار، وآمن
المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام ولعن ابن
طولون، وسلم الناس وأموال التجار.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، ولم يبرح
إسحاق بن كنداج- وقد ولي المغرب كله في هذه السنة- سامرا حتى انقضت
السنة.
(9/653)
ثم دخلت
سنة سبعين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) ففي المحرم منها كانت
وقعة بين أبي أحمد وصاحب الزنج اضعفت اركان صاحب الزنج.
ذكر الخبر عن قتل صاحب الزنج واسر من معه
وفي صفر منها قتل الفاجر، وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر
الهمداني واستريح من أسباب الفاسق.
ذكر الخبر عن هاتين الوقعتين:
قد ذكرنا قبل أمر السكر الذي كان الخبيث أحدثه، وما كان من أمر أبي
أحمد وأصحابه في ذلك ذكر أن أبا أحمد لم يزل ملحا على الحرب على ذلك
السكر حتى تهيأ له فيه ما أحب، وسهل المدخل للشذا في نهر أبي الخصيب في
المد والجزر، وسهل لأبي أحمد في موضعه الذي كان مقيما فيه كل ما أراده
من رخص الأسعار وتتابع المير وحمل الأموال إليه من البلدان ورغبة الناس
في جهاد الخبيث ومن معه من أشياعه، فكان ممن صار إليه من المطوعة أحمد
بن دينار عامل إيذج ونواحيها من كور الأهواز في جمع كثير من الفرسان
والرجالة، فكان يباشر الحرب بنفسه وأصحابه إلى أن قتل الخبيث ثم قدم
بعده من أهل البحرين- فيما ذكر- خلق كثير، زهاء ألفي رجل، يقودهم رجل
من عبد القيس، فجلس لهم أبو أحمد، ودخل إليه رئيسهم ووجوههم، فأمر أن
يخلع عليهم، واعترض رجالهم أجمعين وأمر بإقامة الأنزال لهم، وورد بعدهم
زهاء ألف رجل من كور فارس، يرأسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة، فجلس
لهم الموفق، فوصل إليه هذا الشيخ ووجوه
(9/654)
أصحابه، فأمر لهم بالخلع، وأقر لهم
الأنزال، ثم تتابعت المطوعة من البلدان، فلما تيسر له ما أراد من السكر
الذي ذكرنا، عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإعداد السفن والمعابر وإصلاح
آلة الحرب في الماء وعلى الظهر، واختار من يثق ببأسه ونجدته في الحرب
فارسا وراجلا، لضيق المواضع التي كان يحارب فيها وصعوبتها وكثرة
الخنادق والأنهار بها، فكانت عدة من تخير من الفرسان زهاء ألفي فارس،
ومن الرجالة خمسين ألفا أو يزيدون، سوى من عبر من المطوعة وأهل العسكر،
ممن لا ديوان له، وخلف بالموفقية من لم يتسع السفن بحمله جما كثيرا
أكثرهم من الفرسان.
وتقدم الموفق إلى أبي العباس في القصد للموضع الذي كان صار إليه في يوم
الثلاثاء لعشر خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين من الجانب
الشرقي بإزاء دار المهلبي في أصحابه وغلمانه ومن ضمهم إليه من الخيل
والرجالة والشذا وأمر صاعد بن مخلد بالخروج على النهر المعروف بأبي
شاكر في الجانب الشرقي أيضا، ونظم القواد من مواليه وغلمانه من فوهة
نهر أبي الخصيب إلى نهر الغربي وكان فيمن خرج من حد دار الكرنبائي إلى
نهر أبي شاكر راشد ولؤلؤ، موليا الموفق، في جمع من الفرسان والرجالة
زهاء عشرين ألفا، يتلو بعضهم بعضا، ومن نهر أبي شاكر إلى النهر المعروف
بجوى كور جماعة من قواد الموالي والغلمان، ثم من نهر جوى كور إلى نهر
الغربي مثل ذلك وأمر شبلا أن يقصد في أصحابه ومن ضم إليه إلى نهر
الغربي، فيأتي منه مؤازيا لظهر دار المهلبي، فيخرج من ورائها عند
اشتباك الحرب، وأمر الناس أن يزحفوا بجميعهم إلى الفاسق، لا يتقدم
بعضهم بعضا، وجعل لهم أمارة الزحف، تحريك علم أسود أمر بنصبه على دار
الكرنبائي بفوهة نهر أبي الخصيب في موضع منها مشيد عال، وأن ينفخ لهم
ببوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من المحرم
سنة سبعين ومائتين، فجعل بعض من كان على النهر المعروف بجوى كور يزحف
قبل ظهور العلامة، حتى قرب
(9/655)
من دار المهلبي، فلقيه وأصحابه الزنج
فردوهم إلى مواضعهم، وقتلوا منهم جمعا، ولم يشعر سائر الناس بما حدث
على هؤلاء المتسرعين للقتال لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض.
فلما خرج القواد ورجالهم من المواضع التي أمروا بالخروج منها، واستوى
الفرسان والرجالة في أماكنهم، أمر الموفق بتحريك العلم والنفخ في
البوق، ودخل النهر في الشذا، وزحف الناس يتلو بعضهم بعضا، فلقيهم الزنج
قد حشدوا وجموا واجترءوا بما تهيأ لهم على من كان تسرع إليهم، فلقيهم
الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة، فأزالوهم عن مواضعهم بعد كرات كانت
بين الفريقين، صرع فيها منهم جمع كثير وصبر أصحاب أبي أحمد، فمن الله
عليهم بالنصر، ومنحهم أكتاف الفسقة، فولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب
الموفق، يقتلون ويأسرون وأحاط أصحاب أبي أحمد بالفجرة من كل موضع، فقتل
الله منهم في ذلك اليوم ما لا يحيط به الإحصاء، وغرق منهم في النهر
المعروف بجوى كور مثل ذلك، وحوى أصحاب الموفق مدينة الفاسق بأسرها،
واستنقذوا من كان فيها من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا
بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وأخويه الخليل ومحمد ابني أبان وسليمان
بن جامع وأولادهم، وعبر بهم إلى المدينة الموفقية.
ومضى الفاسق في أصحابه ومعه المهلبي وابنه أنكلاي وسليمان بن جامع
وقواد من الزنج وغيرهم هرابا، عامدين لموضع قد كان الخبيث رآه لنفسه
ومن معه ملجأ إذا غلبوا على مدينته، وذلك على النهر المعروف بالسفياني.
وكان أصحاب أبي أحمد حين انهزم الخبيث، وظفروا بما ظفروا به، أقاموا
عند دار المهلبي الواغلة في نهر أبي الخصيب، وتشاغلوا بانتهاب ما كان
في الدار وإحراقها وما يليها، وتفرقوا في طلب النهب، وكل ما بقي للفاسق
وأصحابه مجموعا في تلك الدار.
وتقدم أبو أحمد في الشذا قاصدا للنهر المعروف بالسفياني، ومعه لؤلؤ في
(9/656)
أصحابه الفرسان والرجالة، فانقطع عن باقي
الجيش، فظنوا أنه قد انصرف، فانصرفوا إلى سفنهم بما حووا، وانتهى
الموفق فيمن معه إلى معسكر الفاسق وأصحابه وهم منهزمون، فاتبعهم لؤلؤ
وأصحابه حتى عبروا النهر المعروف بالسفياني، فاقتحم لؤلؤ النهر بفرسه،
وعبر أصحابه خلفه، ومضى الفاسق حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقريري،
فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه، فكشفوهم، فولوا هاربين
وهم يتبعونهم، حتى عبروا النهر المعروف بالقريري، وعبر لؤلؤ وأصحابه
خلفهم والجئوهم إلى النهر المعروف بالمساوان، فعبروه واعتصموا بجبل
وراءه.
وكان لؤلؤ وأصحابه الذين انفردوا بهذا الفعل دون سائر الجيش، فانتهى
بهم الجد في طلب الفاسق وأشياعه إلى هذا الموضع الذي وصفنا في آخر
النهار، فأمره الموفق بالانصراف محمود الفعل، فحمله الموفق معه في
الشذا، وجدد له من البر والكرامة ورفع المرتبة، لما كان منه في أمر
الفسقة حسب ما كان مستحقا ورجع الموفق في الشذا في نهر أبي الخصيب
وأصحاب لؤلؤ يسايرونه فلما حاذى دار المهلبي، لم ير بها أحدا من
أصحابه، فعلم أنهم قد انصرفوا، فاشتد غيظه عليهم، وسار قاصدا لقصره،
وأمر لؤلؤ بالمضي بأصحابه إلى عسكره، وأيقن بالفتح لما رأى من أمارته،
واستبشر الناس جميعا بما هيأ الله من هزيمة الفاسق وأصحابه وإخراجهم عن
مدينتهم، واستباحة كل ما كان لهم من مال وذخيرة وسلاح، واستنفاذ جميع
من كان في أيديهم من الأسرى وكان في نفس أبي أحمد على أصحابه من الغيظ
لمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث وقفهم، فأمر بجمع قواد مواليه
وغلمانه ووجوههم، فجمعوا له، فوبخهم على ما كان منهم وعجزهم، وأغلظ
لهم، فاعتذروا بما توهموا من انصرافه، وأنهم لم يعلموا بمسيره إلى
الفاسق وانتهائه إلى حيث انتهى من عسكره، وأنهم لو علموا ذلك لأسرعوا
نحوه، ولم يبرحوا موضعهم حتى تحالفوا وتعاقدوا على ألا ينصرف منهم أحد
إذا توجهوا نحو
(9/657)
الخبيث حتى يظفرهم الله به، فإن أعياهم ذلك
أقاموا بمواضعهم حتى يحكم الله بينهم وبينه وسألوا الموفق أن يأمر برد
السفن التي يعبرون فيها الى الموفقيه عند خروجهم منها للحرب، لتنقطع
أطماع الذين يريدون الرجوع عن حرب الفاسق من ذلك، فجزاهم أبو أحمد
الخير على تنصلهم من خطئهم، ووعدهم الإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور،
وأن يعظوا أصحابهم بمثل الذي وعظوا به وأقام الموفق بعد ذلك يوم
الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لإصلاح ما يحتاج إليه، فلما كمل
ذلك تقدم إلى من يثق إليه من خاصته وقواد غلمانه ومواليه، بما يكون
عليه عملهم في وقت عبورهم.
وفي عشي يوم الجمعة، تقدم إلى أبي العباس وقواد غلمانه ومواليه بالنهوض
إلى مواضع سماها لهم، فأمر أبا العباس بالقصد في أصحابه إلى الموضع
المعروف بعسكر ريحان، وهو بين النهر المعروف بالسفياني والموضع الذي
لجأ إليه، وأن يكون سلوكه بجيشه في النهر المعروف بنهر المغيرة، حتى
يخرج بهم في معترض نهر أبي الخصيب، فيوافي بهم عسكر ريحان من ذلك
الوجه، وأنفذ قائدا من قواد غلمانه السودان، وأمره أن يصير إلى نهر
الأمير فيعترض في المنصف منه، وأمر سائر قواده وغلمانه بالمبيت في
الجانب الشرقي من دجلة بإزاء عسكر الفاسق متأهبين للغدو على محاربته
وجعل الموفق يطوف في الشذا على القواد ورجالهم في عشي يوم الجمعة وليلة
السبت، ويفرقهم في مراكزهم والمواضع التي رتبهم فيها من عسكر الفاسق،
ليباكروا المصير إليها على ما رسم لهم.
وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فوافى
نهر أبي الخصيب في الشذا، فأقام بها حتى تكامل عبور الناس وخروجهم عن
سفنهم، وأخذ الفرسان والرجالة مراكزهم، وأمر بالسفن والمعابر فردت إلى
الجانب الشرقي، وأذن للناس في الزحف إلى الفاسق، وسار يقدمهم حتى وافى
الموضع الذي قدر أن يثبت الفسقة فيه لمدافعة الجيش عنهم.
وقد كان الخائن وأصحابه لخبثهم رجعوا إلى المدينة يوم الاثنين بعد
انصراف
(9/658)
الجيش عنها، وأقاموا بها، وأملوا أن تتطاول
بهم الأيام، وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان
غلمانه ورجالتهم قد سبقوا أعظم الجيش، فأوقعوا بالفاجر وأصحابه وقعة
أزالوهم بها عن مواقفهم، فانهزموا وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض،
واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الفاسق في جماعة
من حماته من قواد الجيش ورجالهم، وفيهم المهلبي.
وفارقه ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع، فقصد لكل فريق ممن سمينا جمع كثيف
من موالي الموفق وغلمانه الفرسان والرجالة، ولقي من كان رتبه الموفق من
أصحاب أبي العباس في الموضع المعروف بعسكر ريحان المنهزمين من أصحاب
الفاجر، فوضعوا فيهم السلاح ووافى القائد المرتب في نهر الأمير، فاعترض
الفجرة، فأوقع بهم وصادف سليمان بن جامع فحاربه، فقتل جماعة من حماته،
فظفر بسليمان فأسره، فأتى به الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس
بأسر سليمان، وكثر التكبير والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه
غناء عنه وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني- وكان أحد أمراء جيوشه-
وأسر نادر الأسود المعروف بالحفار، وهو أحد قدماء أصحاب الفاجر- فأمر
الموفق بالاستيثاق منهم وتصييرهم في شذاة لأبي العباس.
ففعل ذلك.
ثم أن الزنج الذين انفردوا مع الفاسق عطفوا على الناس عطفة أزالوهم بها
عن مواقفهم، ففتروا لذلك، وأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث،
وأمعن في نهر أبي الخصيب، فشد ذلك من قلوب مواليه وغلمانه، ووجدوا في
الطلب معه.
وانتهى الموفق إلى نهر أبي الخصيب، فوافاه البشير بقتل الفاجر، ولم
يلبث أن وافاه بشير آخر ومعه كف زعم أنها كفه، فقوي الخبر عنده بعض
القوة ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض على فرس، ومعه رأس الخبيث،
(9/659)
فأدناه منه، فعرضه على جماعة ممن كان
بحضرته من قواد المستأمنة، فعرفوه.
فخر لله ساجدا على ما أولاه وأبلاه، وسجد أبو العباس وقواد موالي
الموفق وغلمانه شكرا لله، وأكثروا حمد الله والثناء عليه، وأمر الموفق
برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه، فتأمله الناس وعرفوا صحة
الخبر بقتله، فارتفعت أصواتهم بالحمد لله وذكر أن أصحاب الموفق لما
أحاطوا بالخبيث، ولم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي، ولى عنه
هاربا واسلمه وقصد النهر المعروف بنهر الأمير، فقذف نفسه فيه يريد
النجاة، وقبل ذلك ما كان ابن الخبيث أنكلاي فارق أباه، ومضى يؤم النهر
المعروف بالديناري، فأقام فيه متحصنا بالأدغال والآجام، وانصرف الموفق
ورأس الخبيث منصوب بين يديه على قناة في شذاة، يخترق بها نهر أبي
الخصيب، والناس في جنبتي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة، فخرج إليها
فأمر برد السفن التي كان عبر بها في أول النهار إلى الجانب الشرقي من
دجلة، فردت ليعبر الناس فيها.
ثم سار ورأس الخبيث بين يديه على القناة، وسليمان بن جامع والهمداني
مصلوبان في الشذا، حتى وافى قصره بالموفقية وأمر أبا العباس بركوب
الشذا وإقرار الرأس وسليمان والهمداني على حالهم والسير بهم إلى نهر
جطى، وهو أول عسكر الموفق، ليقع عليهم عيون الناس جميعا في العسكر،
ففعل ذلك وانصرف إلى أبيه أبي أحمد فأمر بحبس سليمان والهمداني وإصلاح
الرأس وتنقيته.
وذكر أنه تتابع مجيء الزنج الذين كانوا أقاموا مع الخبيث وآثروا صحبته،
فوافى ذلك اليوم زهاء ألف منهم، ورأى الموفق بذل الأمان، لما رأى من
كثرتهم وشجاعتهم، لئلا تبقى منهم بقية تخاف معرتها على الإسلام وأهله،
فكان من وافى من قواد الزنج ورجالهم في بقية يوم السبت وفي يوم الأحد
(9/660)
والاثنين زهاء خمسة آلاف زنجي، وكان قد قتل في الوقعة وغرق وأسر منهم
خلق كثير لا يوقف على عددهم، وانقطعت منهم قطعه زهاء الف رنجى مالوا
نحو البر، فمات أكثرهم عطشا، فظفر الأعراب بمن سلم منهم واسترقوهم.
وانتهى إلى الموفق خبر المهلبي وأنكلاي ومقامهما بحيث أقاما مع من
تبعهما من جلة قواد الزنج ورجالهم، فبث أنجاد غلمانه في طلبهم، وأمرهم
بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا بأن لا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم، فظفر بهم
الموفق وبمن معهم، حتى لم يشذ أحد وقد كانوا على نحو العدة التي خرجت
إلى الموفق بعد قتل الفاجر في الأمان، فأمر الموفق بالاستيثاق من
المهلبي وأنكلاي وحبسهما، ففعل.
وكان فيمن هرب من عسكر الخبيث يوم السبت ولم يركن إلى الأمان قرطاس
الذي كان رمى الموفق بالسهم، فانتهى به الهرب إلى رامهرمز، فعرفه رجل
قد كان رآه في عسكر الخبيث فدل عليه عامل البلد، فأخذه وحمله في وثاق،
فسأل أبو العباس أباه أن يوليه قتله فدفعه اليه فقتله. |