تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر امر المعتضد مع حمدان بن حمدون
وفيها كتب المعتضد من الموصل الى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير اليه، فاما إسحاق بن أيوب فسارع الى ذلك، واما حمدان بن حمدون فتحصن في قلاعه، وغيب أمواله وحرمه فوجه اليه المعتضد الجيوش مع وصيف موشكير ونصر القشورى وغيرهما، فصادفوا الحسن بن على كوره واصحابه منيخين على قلعه لحمدان، بموضع يعرف بدير الزعفران من ارض الموصل، وفيها الحسين بن حمدان، فلما راى الحسين اوائل العسكر مقبلين طلب الامان فأومن وصار الحسين الى المعتضد، وسلم القلعة، فامر بهدمها،

(10/39)


واغذ وصيف موشكير السير في طلب حمدان، وكان قد صار بموضع يعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائدا، فعبر اصحاب وصيف اليه ونذر بهم، فركب واصحابه ودافعوا عن انفسهم، حتى قتل اكثرهم، فالقى حمدان نفسه في زورق كان معدا له في دجلة، ومعه كاتب له نصرانى يسمى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالا، وعبر الى الجانب الغربي من دجلة من ارض ديار ربيعه، وقدر اللحاق بالاعراب لما حيل بينه وبين اكراده الذين في الجانب الشرقى، وعبر في اثره نفر يسير من الجند فاقتصوا اثره، حتى أشرفوا على دير كان قد نزله، فلما بصر بهم خرج من الدير هاربا ومعه كاتبه، فألقيا أنفسهما في زورق، وخلفا المال في الدير، فحمل الى المعتضد، وانحدر اصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء، فلحقوه، فخرج عن الزورق خاسرا الى ضيعه له بشرقى دجلة، فركب دابه لوكيله، وسار ليله اجمع الى ان وافى مضرب إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد، مستجيرا به، فاحضره إسحاق مضرب المعتضد، وامر بالاحتفاظ به، وبث الخيل في طلب أسبابه، فظفر بكاتبه وعده من قراباته وغلمانه، وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الامان، وذلك في آخر المحرم من هذه السنه.
[أخبار متفرقة]
وفي شهر ربيع الاول منها قبض على بكتمر بن طاشتمر، وقيد وحبس، وقبض ماله وضياعه ودوره.
وفيها نقلت ابنه خمارويه بن احمد الى المعتضد لاربع خلون من شهر ربيع الآخر، ونودى في جانبي بغداد الا يعبر احد في دجلة يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلى الشط، ومد على الشوارع النافذة الى دجلة شراع، ووكل بحافتى دجلة من يمنع ان يظهروا في دورهم على الشط.
فلما صليت العتمه وافت الشذا من دار المعتضد، وفيها خدم معهم الشمع، فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت اعدت اربع حراقات شدت مع دار صاعد، فلما جاءت الشذا احدرت الحراقات، وصارت الشذا بين ايديهم، واقامت الحره يوم الاثنين في دار المعتضد، وجليت عليه يوم الثلاثاء لخمس خلون

(10/40)


من شهر ربيع الاول.
وفيها شخص المعتضد الى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ اموالا لابن ابى دلف وكتب الى عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف يطلب منه جوهرا كان عنده، فوجه به اليه، وتنحى من بين يديه.
وفيها اطلق لؤلؤ غلام ابن طولون بعد خروج المعتضد، وحمل على دواب وبغال.
وفيها وجه يوسف بن ابى الساج الى الصيمرة مددا لفتح القلانسي، فهرب يوسف بن ابى الساج بمن أطاعه الى أخيه محمد بالمراغة، ولقى مالا للسلطان طريقه فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
امام الهدى انصاركم آل طاهر ... بلا سبب يجفون والدهر يذهب
وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ... وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب
وفيها وجه المعتضد الوزير عبيد الله بن سليمان الى الري الى ابى محمد ابنه.
وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان الى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين الف دينار، ليفرقها على اهله ببغداد والكوفه، ومكة والمدينة، فسعى به، فاحضر دار بدر، وسئل عن ذلك، فذكر ان يوجه اليه في كل بمثل هذا المال، فيفرقه على من يأمره بالتفرقه عليه من اهله فاعلم بدر المعتضد ذلك، واعلمه ان الرجل في يديه والمال، واستطلع رايه وما يأمر به.
فذكر عن ابى عبد الله الحسنى ان المعتضد قال لبدر: يا بدر، اما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ فقال: لا يا امير المؤمنين، فقال: الا تذكر انى حدثتك ان الناصر دعانى، فقال لي: اعلم ان هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل على بن ابى طالب! ثم قال: رايت في النوم كأني خارج من بغداد اريد ناحيه النهروان في جيشي، وقد تشوف الناس الى، إذ مررت برجل واقف على تل يصلى، لا يلتفت الى، فعجبت منه ومن قله اكتراثه بعسكرى، مع تشوف الناس الى العسكر، فاقبلت اليه حتى

(10/41)


وقفت بين يديه، فلما فرغ من صلاته قال لي: اقبل، فاقبلت اليه، فقال:
اتعرفنى؟ قلت: لا، قال: انا على بن ابى طالب، خذ هذه المسحاة، فاضرب بها الارض- لمسحاه بين يديه- فأخذتها فضربت بها ضربات، فقال لي: انه سيلي من ولدك هذا الأمر بقدر ما ضربت بها، فاوصهم بولدي خيرا قال بدر: فقلت: بلى يا امير المؤمنين، قد ذكرت قال: فاطلق المال، واطلق الرجل وتقدم اليه ان يكتب الى صاحبه بطبرستان ان يوجه ما يوجه به اليه ظاهرا، وان يفرق محمد بن ورد ما يفرقه ظاهرا، وتقدم بمعونة محمد على ما يريد من ذلك.
وفي شعبان لإحدى عشره بقيت منها، توفى ابو طلحه منصور بن مسلم في حبس المعتضد وفيها لثمان خلون من شهر رمضان منها، وافى عبيد الله بن سليمان الوزير بغداد قادما من الري، فخلع عليه المعتضد.
ولثمان بقين من شهر رمضان منها، ولدت ناعم جاريه أم القاسم بنت محمد ابن عبد الله للمعتضد ابنا سماه جعفرا، فسمى المعتضد هذه الجاريه شغب.
وفيها قدم ابراهيم ابن احمد الماذرائى لاثنتى عشره بقيت من ذي الحجه من دمشق على طريق البر، فوافى بغداد في احد عشر يوما، فاخبر المعتضد ان خمارويه بن احمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه من لخاصة، وقيل:
ان قتله كان لثلاث خلون من ذي الحجه وقيل ان ابراهيم وافى بغداد من دمشق في سبعه ايام، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيف وعشرون خادما.
وكان المعتضد بعث مع ابن الجصاص الى خمارويه بهدايا، واودعه اليه رساله، فشخص ابن الجصاص لما وجه له، فلما بلغ سامرا بلغ المعتضد مهلك خمارويه، فكتب اليه يأمره بالرجوع اليه فرجع، ودخل بغداد لسبع بقين من ذي الحجه.

(10/42)


ثم دخلت

سنه ثلاث وثمانين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

خبر هارون الشاري والظفر به
فمن ذلك ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشره بقيت من المحرم منها- بسبب الشاري هارون- الى ناحيه الموصل، فظفر به، وورد كتاب المعتضد بظفره به الى مدينه السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الاول وكان سبب ظفره به انه وجه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعه من الفرسان والرجاله من اهل بيته وغيرهم من اصحابه اليه، وذكر ان الحسين بن حمدان قال للمعتضد: ان انا جئت به الى امير المؤمنين فلي ثلاث حوائج الى امير المؤمنين، فقال: اذكرها، قال: أولها اطلاق ابى، وحاجتان اساله إياهما بعد مجيئي به اليه فقال له المعتضد: لك ذلك فامض، فقال الحسين: احتاج الى ثلاثمائه فارس انتخبهم، فوجه المعتضد معه ثلاثمائه فارس مع موشكير، فقال: اريد ان يأمره امير المؤمنين الا يخالفني فيما آمره به، فامر المعتضد موشكير بذلك.
فمضى الحسين حتى انتهى الى مخاضه دجلة، فتقدم الى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة، وقال له: ليس لهارون طريق ان هرب غير هذا، فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بك هارون، فتمنعه العبور، وأجيئك انا، او يبلغك انى قد قتلت ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى، وانهزم الشاري هارون، واقام وصيف على المخاضة ثلاثة ايام، فقال له اصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضر ذلك بنا، ولسنا نامن ان يأخذ حسين الشاري فيكون الفتح له دوننا، والصواب ان نمضي في آثارهم، فاطاعهم ومضى وجاء هارون الشاري منهزما الى موضع المخاضة، فعبر، وجاء حسين في اثره، فلم ير وصيفا واصحابه بالموضع الذى تركهم فيه، ولا عرف لهارون خبرا، ولا راى له أثرا، وجعل يسال عن

(10/43)


خبر هارون حتى وقف على عبوره، فعبر في اثره، وجاء الى حي من احياء العرب، فسألهم عنه فكتموه امره، فاراد ان يوقع بهم، واعلمهم ان المعتضد في اثره، فاعلموه انه اجتاز بهم، فاخذ بعض دوابهم، وترك دوابه عندهم- وكانت قد كلت واعيت- واتبع اثره، فلحقه بعد ايام والشاري في نحو من مائه، فناشده الشاري، وتوعده، فأبى الا محاربته، فحاربه، فذكر ان حسين ابن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره اصحاب حسين فاخذوه، وجاء به الى المعتضد سلما بغير عقد ولا عهد، فامر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون، والتوسعه عليه والاحسان اليه ان يقدم فيطلقه ويخلع عليه، فلما اسر الشاري، وصار في يد المعتضد، انصرف راجعا الى مدينه السلام، فوافاها لثمان بقين من شهر ربيع الاول، فنزل باب الشماسيه، وعبا الجيش هنالك، وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعه من رؤساء اهله، وزين الفيل بثياب الديباج، واتخذ للشارى على الفيل كالمحفة، واقعد فيها، والبس دراعه ديباج، وجعل على راسه برنس حرير طويل.
ولعشر بقين من جمادى الاولى منها، امر المعتضد بالكتاب الى جميع النواحي برد الفاضل من سهام المواريث على ذوى الارحام، وابطال ديوان المواريث، وصرف عمالها، فنفذت الكتب بذلك، وقرئت على المنابر وفيها خرج عمرو بن الليث الصفار من نيسابور، فخالفه رافع بن هرثمة إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي وابيه، فقال: اللهم اصلح الداعي الى الحق، فرجع عمرو الى نيسابور، فعسكر خارج المدينة، وخندق على عسكره لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فأقام محاصرا اهل نيسابور.
وفي يوم الاثنين لاربع خلون من جمادى الآخرة منها، وافى بغداد محمد ابن إسحاق بن كنداجيق وخاقان المفلحى ومحمد بن كمشجور المعروف ببندقه وبدر بن جف أخو طغج وابن حسنج في جماعه من القواد من مصر في الامان.
وذكر ان سبب مجيئهم الى المعتضد في الامان كان انهم أرادوا ان يفتكوا

(10/44)


بجيش بن خمارويه بن احمد بن طولون، فسعى بهم اليه، وكان راكبا، وكانوا في موكبه، وعلموا انه قد وقف على امرهم، فخرجوا من يومهم وسلكوا البريه، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أياما، ومات منهم جماعه من العطش، وخرجوا على طريق مكة فوق الكوفه بمرحلتين او ثلاثة ووجه السلطان محمد بن سليمان صاحب الجيش الى الكوفه حتى كتب اسماءهم، وأقيمت لهم الوظائف من الكوفه، فلما قربوا من بغداد، خرجت اليهم الوظائف والخيم والطعام، ووصلوا الى المعتضد يوم دخلوا، فخلع عليهم، وحمل كل قائد منهم على دابه بسرجه ولجامه، وخلع على الباقين، وكان عددهم ستين رجلا.
وفي يوم السبت لاربع عشره بقيت منها شخص الوزير عبيد الله بن سليمان الى الجبل لحرب ابن ابى دلف بأصبهان.

خبر حصر الصقالبه القسطنطينية
وفيها- فيما ذكر- ورد كتاب من طرسوس ان الصقالبه غزت الروم في خلق كثير، فقتلوا منهم وخربوا لهم قرى كثيره حتى وصلوا الى قسطنطينيه والجئوا الروم إليها، واغلقت أبواب مدينتهم، ثم وجه طاغيه الروم الى ملك الصقالبه ان ديننا ودينكم واحد، فعلام نقتل الرجال بيننا! فأجابه ملك الصقالبه ان هذا ملك آبائى، ولست منصرفا عنك الا بغلبه أحدنا صاحبه، فلما لم بحد ملك الروم خلاصا من صاحب الصقالبه، جمع من عنده من المسلمين، فأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبه، ففعلوا، وكشفوا الصقالبه، فلما راى ذلك ملك الروم خافهم على نفسه، فبعث اليهم فردهم، وأخذ منهم السلاح، وفرقهم في البلدان، حذرا من ان يجنوا عليه.

خلاف جند جيش بن خمارويه عليه
وللنصف من رجب من هذه السنه ورد الخبر من مصر ان الجند من المغاربه والبربر وثبوا على جيش بن خمارويه، وقالوا: لا نرضى بك أميرا علنيا فتنح عنا حتى نولي عمك، فكلمهم كاتبه على بن احمد الماذرائى، وسألهم ان ينصرفوا عنه يومهم ذلك، فانصرفوا وعادوا من غد، فعدا جيش على عمه الذى ذكروا انهم يؤمرونه، فضرب عنقه وعنق عم له آخر، ورمى بارؤسهما

(10/45)


اليهم، فهجم الجند على جيش بن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمه وانتهبوا داره، وانتهبوا مصر وأحرقوها، واقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفي رجب منها امر المعتضد بكرى دجيل والاستقصاء عليه، وقلع صخر في فوهته كان يمنع الماء، فجبى لذلك من ارباب الضياع والاقطاعات اربعه آلاف دينار، وكسر- فيما ذكر- وانفق عليه، وولى ذلك كاتب زيرك وخادم من خدم المعتضد.

ذكر الفداء بين المسلمين والروم
وفي شعبان منها، كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي احمد بن طغان، وذكر ان الكتاب الوارد بذلك من طرسوس كان فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم:
اعلمك ان احمد بن طغان نادى في الناس يحضرون الفداء يوم الخميس لاربع خلون من شعبان سنه ثلاث وثمانين ومائتين، وانه قد خرج الى لامس- وهو معسكر المسلمين- يوم الجمعه لخمس خلون من شعبان، وامر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعه، وركب من مسجد الجامع ومعه راغب ومواليه، وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة باحسن زي، فلم يزل الناس خارجين الى لامس الى يوم الاثنين لثمان خلون من شعبان، فجرى الفداء بين الفريقين اثنى عشر يوما، وكانت جمله من فودى به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان الفين وخمسمائة واربعه انفس، واطلق المسلمون يوم الثلاثاء لسبع بقين من شعبان سميون رسول ملك الروم، واطلق الروم فيه يحيى بن عبد الباقى رسول المسلمين المتوجه في الفداء، وانصرف الأمير ومن معه.
وخرج- فيما ذكر- احمد بن طغان بعد انصرافه من هذا الفداء في هذا الشهر في البحر، او خلف دميانه على عمله على طرسوس، ثم وجه بعده يوسف ابن الباغمردى على طرسوس ولم يرجع هو إليها