تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنه خمس وتسعين ومائتين
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[أخبار متفرقة]
فمن ذلك ما كان من خروج عبد الله بن ابراهيم المسعى عن مدينه أصبهان
الى قريه من قراها على فراسخ منها، وانضمام نحو من عشره آلاف كردى
اليه، مظهرا الخلاف على السلطان، فامر المكتفي بدرا الحمامي بالشخوص
اليه، وضم اليه جماعه من القواد في نحو من خمسه آلاف من الجند.
وفيها كانت وقعه للحر بن موسى على اعراب طيّئ، فواقعهم على غره منهم،
فقتل من رجالهم سبعين، واسر من فرسانهم جماعه وفيها توفى اسماعيل بن
احمد في صفر، لاربع عشره ليله خلت منه، وقام ابنه احمد ابن اسماعيل في
عمل ابيه مقامه وذكر ان المكتفي قعد له وعقد بيده لواءه، ودفعه الى
طاهر بن على، وخلع عليه، وامره بالخروج اليه باللواء.
وفيها وجه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب الى عبد الله بن ابراهيم
المسمعي وكتب اليه يخوفه عاقبه الخلاف، فتوجه اليه فلما صار اليه
ناظره، فرجع الى طاعه السلطان، وشخص في نفر من غلمانه، واستخلف بأصبهان
خليفه له ومعه منصور بن عبد الله حتى صار الى باب السلطان، فرضى عنه
المكتفي ووصله وخلع عليه وعلى ابنه.
وفيها اوقع الحر بن موسى بالكردى المتغلب على تلك الناحية، فتعلق
بالجبال فلم يدرك.
وفيها فتح المظفر بن حاج ما كان تغلب عليه بعض الخوارج باليمن، وأخذ
رئيسا من رؤسائهم يعرف بالحكيمى.
وفيها لثلاث عشره ليله بقيت من جمادى الآخرة امر خاقان المفلحى بالخروج
الى اذربيجان لحرب يوسف بن ابى الساج، وضم اليه نحو اربعه آلاف رجل من
الجند.
ولثلاث عشره ليله بقيت من شهر رمضان دخل بغداد رسول ابى مضر بن الاغلب،
ومعه فتح الانجحى وهدايا وجه بها معه الى المكتفي
(11/25)
وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم في
ذي القعده ففدى ممن كان عندهم من الرجال ثلاثة آلاف نفس.
ذكر عله المكتفي بالله وما كان من امره الى وقت وفاته
وكان المكتفي على بن احمد يشكو عله في جوفه، وفسادا في احشائه، فاشتدت
العله به في شعبان من هذا العام، واخذه ذرب شديد افرط عليه، وأزال
عقله، حتى أخذ صافى الحرمي خاتمه من يده، وانفذه الى وزيره العباس بن
الحسن وهو لا يعقل شيئا من ذلك، وكان العباس يكره ان يلى الأمر عبد
الله بن المعتز، ويخافه خوفا شديدا، فعمل في تصيير الخلافه الى ابى عبد
الله محمد بن المعتمد على الله، فاحضره داره ليلا، واحضر القاضى محمد
بن يوسف وحده، وكلمه بحضرته، وقال له:
ما لي عندك ان سقت هذا الأمر إليك؟ فقال له محمد بن المعتمد: لك عندي
ما تستحقه من الجزاء والايثار وقرب المنزله، فقال له العباس: اريد ان
تحلف لي الا تخليني من احدى حالتين، اما ان تريد خدمتي فانصح لك وابلغ
جهدي في طاعتك وجمع المال لك، كما فعلته بغيرك، واما ان تؤثر غيرى
فتوقرنى وتحفظني، ولا تبسط على يدا في نفسي ومالي، ولا على احد بسببي،
فقال له محمد بن المعتمد- وكان حسن العقل، جميل المذهب: لو لم تسق هذا
الى ما كان لي معدل عنك في كفايتك وحسن اثرك فكيف إذا كنت السبب له،
والسبيل اليه! فقال له العباس:
اريد ان تحلف لي على ذلك فقال: ان لم اوف لك بغير يمين لم اوف لك
بيمين، فقال القاضى محمد بن يوسف للعباس: ارض منه بهذا، فانه اصلح من
اليمين.
قال العباس: قد قنعت ورضيت ثم قال له العباس: مد يدك حتى ابايعك.
فقال له محمد: وما فعل المكتفي؟ قال: هو في آخر امره، واظنه، قد تلف
فقال محمد: ما كان الله ليراني أمد يدي لبيعه وروح المكتفي في جسده،
ولكن ان مات فعلت ذلك فقال محمد بن يوسف: الصواب ما قال، وانصرفوا على
هذه الحال
(11/26)
ثم ان المكتفي افاق وعقل امره، فقال له
صافى الحرمي: لو راى امير المؤمنين ان يوجه الى عبد الله بن المعتز
ومحمد بن المعتمد، فيوكل بهما في داره ويحبسهما فيها، فان الناس
ذكروهما لهذا الأمر، وارجفوا بهما، فقال له المكتفي: هل بلغك ان أحدهما
احدث بيعه علينا؟ فقال له صافى: لا، قال له: فما ارى لهما في ارجاف
الناس ذنبا فلا تعرض لهما، ووقع الكلام بنفسه، وخاف ان يزول الأمر عن
ولد ابيه، فكان إذا عرض له بشيء من هذا الأمر استجر فيه الحديث وتابع
المعنى واهتبل به جدا.
وعرض لمحمد بن المعتمد في شهر رمضان فالج في مجلس العباس بن الحسن
الوزير من غيظ اصابه في مناظره كانت بينه وبين ابن عمرويه صاحب الشرطه،
فامر العباس ان يحمل في قبة من قبابه على افره بغاله، فحمل الى منزله
في تلك الصورة، وانصرفت نفسه الى تأميل غيره.
ثم اشتدت العله بالمكتفى في أول ذي القعده، فسال عن أخيه ابى الفضل
جعفر فصح عنده انه بالغ، فاحضر القضاه واشهدهم بانه قد جعل العهد اليه
من بعده.
ذكر وفاه المكتفي
ومات المكتفي بالله على بن احمد ليله الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي
القعده سنه خمس وتسعين ومائتين، ودفن يوم الاثنين في دار محمد بن عبد
الله بن طاهر.
وكانت خلافته ست سنين وتسعه عشر يوما، وكان يوم توفى ابن اثنتين
وثلاثين سنه.
وكان ولد سنه اربع وستين ومائتين وكنيته ابو محمد، وأمه أم ولد تركية،
وكان جميلا رقيق اللون حسن الشعر، وافر اللحية.
وولد أبا القاسم عبد الله المستكفى، ومحمدا أبا احمد، والعباس، وعبد
الملك، وعيسى، وعبد الصمد، والفضل، وجعفرا، وموسى، وأم محمد، وأم
الفضل، وأم سلمه، وأم العباس، وأم العزيز، وأسماء، وساره وأمه الواحد.
قال: وكان جعفر بن المعتضد بدار ابن طاهر التي هي مستقر اولاد الخلفاء
فتوجه فيه صافى الحرمي لساعتين بقيتا من ليله الأحد واحضره القصر وقد
كان العباس
(11/27)
ابن الحسن فارق صافيا على ان يجيء بالمقتدر
الى داره التي كان يسكنها على دجلة، لينحدر به معه الى القصر، فعرج به
صافى عن دار العباس إذ خاف حيله تستعمل عليه، وعد ذلك من حزم صافى
وعقله.
ذكر خلافه المقتدر
وفيها بويع جعفر بن احمد المقتدر يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي
القعده سنه خمس وتسعين ومائتين وهو يومئذ ابن ثلاث عشره سنه واحد
وعشرين يوما، وكان مولده يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان من سنه
اثنتين وثمانين ومائتين، وكنيته ابو الفضل وأمه أم ولد يقال لها شغب
وكانت البيعه للمقتدر في القصر المعروف بالحسنى، فلما دخله وراى السرير
منصوبا امر بحصير صلاه فبسط له، وصلى اربع ركعات وما زال يرفع صوته
بالاستخارة ثم جلس على السرير، وبايعه الناس ودارت البيعه على يدي صافى
الحرمي وفاتك المعتضدي، وحضر العباس بن الحسن الوزير وابنه احمد حتى
تمت البيعه ثم غسل المكتفي، ودفن في موضع من دار محمد بن عبد الله بن
طاهر.
وذكر الطبرى انه كان في بيت المال يوم بويع المقتدر خمسه عشر الف الف
دينار، وذكر ذلك الصولي، وحكى انه كان في بيت مال العامه ستمائه الف
دينار، وخلع المقتدر يوم الاثنين الثانى من بيعته على الوزير ابى احمد
العباس بن الحسن خلعا مشهوره الحسن، وقلده كتابته وامر بتكنيته، وان
تجرى الأمور مجراها على يده.
وقلد ابنه احمد بن العباس العرض عليه، وكتابه السيده أمه وكتابه هارون
ومحمد اخويه، وكتب العباس الى الكور والاطراف بالبيعه كتابا على نسخه
واحده واعطى الجند مال البيعه، للفرسان ثلاثة اشهر، وللرجاله سته اشهر،
وامر اصحاب الدواوين على ما كانوا عليه، وخلع المقتدر على سوسن مولى
المكتفي الذى كان حاجبه، واقره على حجابته، وخلع على فاتك المعتضدي،
ومؤنس الخازن ويمن غلام المكتفي، وابن عمرويه، صاحب الشرطه ببغداد،
وعلى احمد بن كيغلغ، وكان قد قدم
(11/28)
مبايعه المقتدر بقوم حاولوا فتق سجن دمشق،
واقامه فتنه بها، فحملوا على جمال، وطوفوا، وخلع على كثير من الخدم،
فمن كان اليه منهم عمل جعلت الخلعه عليه لإقراره على عمله، ومن لم يكن
اليه عمل كانت الخلعه تشريفا له، ورد المقتدر رسوم الخلافه الى ما كانت
عليه من التوسع في الطعام والشراب، واجراء الوظائف، وفرق في بنى هاشم
خمسه عشر الف دينار وزادهم في الأرزاق، واعاد الرسوم، في تفريق الاضاحى
على القواد والعمال واصحاب الدواوين والقضاه والجلساء، ففرق عليهم يوم
الترويه ويوم عرفه من البقر والغنم ثلاثون الف راس، ومن الإبل الف راس،
وامر باطلاق من كان في السجون ممن لا خصم له ولا حق لله عز وجل عليه،
وبعد ان امتحن محمد بن يوسف القاضى أمورهم.
ورفع اليه ان الحوانيت والمستغلات التي بناها المكتفي في رحبه باب
الطاق اضرت بالضعفاء، إذ كانوا يقعدون فيها لتجاراتهم بلا اجره لأنها
افنيه واسعه، فسال عن غلتها فقيل: له تغل الف دينار في كل شهر، فقال:
وما مقدار هذا في صلاح المسلمين واستجلاب حسن دعائهم! فامر بهدمها
وإعادتها الى ما كانت عليه.
ولم يل الخلافه من بنى العباس اصغر سنا من المقتدر، فاستقل بالأمور،
ونهض بها، واستصلح الى الخاصة والعامه وتحبب إليها، ولولا التحكم عليه
في كثير من الأمور لكان الناس معه في عيش رغد، ولكن أمه وغيرها من
حاشيته كانوا يفسدون كثيرا من امره.
وفي هذه السنه، كانت وقعه عج بن حاج مع الجند بمنى في اليوم الثانى من
ايام منى، وقتل بينهم جماعه، وهرب الناس الذين كانوا بمنى الى بستان
ابن عامر، وانتهب الجند مضرب ابى عدنان، وأصاب المنصرفين من الحاج في
منصرفهم ببعض الطريق عطش، حتى مات منهم جماعه قال الطبرى: سمعت بعض من
يحكى ان الرجل كان يبول في كفه ثم يشربه.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.
(11/29)
ثم دخلت
سنه ست وتسعين ومائتين
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[أخبار متفرقة]
فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعه من القواد والكتاب والقضاه على خلع
جعفر المقتدر، وكانوا قد تناظروا وتأمروا عند موت المكتفي على من
يقدمونه للخلافة، واجمع رأيهم على عبد الله بن المعتز، فاحضروه وناظروه
في تقلدها، فأجابهم الى تولى الأمر، على الا يكون في ذلك سفك دماء ولا
حرب، فاخبروه ان الأمر يسلم اليه عفوا، وان من وراءهم من الجند والقواد
والكتاب قد رضوا به، فبايعهم على ذلك سرا، وكان الراس في هذا الأمر
العباس بن الحسن الوزير، ومحمد بن داود ابن الجراح، وابو المثنى احمد
بن يعقوب القاضى وغيرهم، فخالفهم على ذلك العباس، ونقض ما كان عقده
معهم في امر ابن المعتز، وأحب ان يختبر امر المقتدر، وان كان فيه محمل
للقيام بالخلافة مع حداثة سنه، وكيف يكون حاله معه، وعلم ان تحكمه عليه
سيكون فوق تحكمه على غيره، فصدهم عن ابن المعتز، وانفذ عقد البيعه
للمقتدر على ما تقدم ذكره.
ثم ان المقتدر اجرى الأمور مجراها في حياه المكتفي، وقلد العباس
جميعها، وزاده في المنزله والحظوة وصير اليه الأمر والنهى، فتغير
العباس على القواد، واستخف بهم واشتد كبره على الناس واحتجابه عنهم
واستخفافه بكل صنف منهم، وكان قبل ذلك صافى النيه لعامه القواد والخدم
منصفا لهم في اذنه لهم ولقائه ثم تجبر عليهم، وكانوا يمشون بين يديه
فلا يأمرهم بالركوب، وترك الوقوف على المتظلمين، والسماع منهم،
فاستثقله الخاصة والعامه، وكثر الطعن عليه، والانكار لفعله والهجاء له،
فقال بعض شعراء بغداد فيه:
يا أبا احمد لا تحسن بأيامك ظنا ... واحذر الدهر فكم اهلك املاكا وافنى
كم رأينا من وزير صار في الأجداث رهنا
(11/30)
اين من كنت تراهم درجوا قرنا فقرنا ...
فتجنب مركب الكبر وقل للناس حسنا
ربما امسى بعزل من باصباح يهنأ ... وقبيح بمطاع الأمر الا يتأنى
اترك الناس وأيامك فيهم تتمنى
وكان مما يشنع به الحسين بن حمدان على العباس، انه شرب يوما عنده، فلما
سكر الحسين، استخرج العباس خاتمه من اصبعه، وانفذه الى جاريته مع فتى
له، وقال لها: يقول لك مولاك: اشتهى الوزير سماع غنائك، فاحضرى الساعة
ولا تتاخرى، فهذا خاتمي علامه إليك قال الحسين: وقد كنت خفت منه شيئا
من هذا لبلاغات بلغتني عنه، وكتب رايت له إليها بخطه، فحفظت الجاريه
وحذرتها، فلم تصغ الى قول الفتى ولا اجابته.
وكان الحسين يحلف مجتهدا انه سمعه يكفر ويستخف بحق الرسول صلى الله
عليه وسلم، وانه قال في بعض ما جرى من القول: قد كان أجيرا لخديجة، ثم
جاء منه ما رايت قال: فاعتقدت قتله من ذلك الوقت، واعتقد غيره من
القواد فيه مثل ذلك، واجتمعت القلوب على بغضته، فحينئذ وثب به القوم
فقتلوه، وكان الذى تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن
سوارتكين وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الاول من العام
المؤرخ.
ذكر البيعه لابن المعتز
وفي غد هذا اليوم خلع المقتدر، خلعه القواد والكتاب وقضاه بغداد، ثم
وجهوا في عبد الله بن المعتز، وادخل دار ابراهيم بن احمد الماذرائى
التي على دجلة والصراة ثم حمل منها الى دار المكتفي بظهر المخرم، واحضر
القضاه، وبايعوا عبد الله بن المعتز فحضرهم ولقبوه المنتصف بالله، وهو
لقب اختاره لنفسه.
واستوزر محمد بن داود بن الجراح، واستحلفه على الجيش، وكان الناس
(11/31)
يحلفون بحضره القضاه، وكان الذى يأخذ
البيعه على الناس وعلى القواد ويتولى استحلافهم والدعاء باسمائهم محمد
بن سعيد الأزرق كاتب الجيش، واحضر عبد الله بن على بن ابى الشوارب
القاضى وطولب بالبيعه لابن المعتز فلجلج، وقال:
ما فعل جعفر المقتدر! فدفع في صدره وقتل ابو المثنى لما توقف عن
البيعه، ولم يشك الناس ان الأمر تام له إذ اجتمع اهل الدولة عليه، وكان
اجل من تخلف عن سوسن الحاجب، فانه بقي بدار المقتدر مثبتا لأمره وحاميا
له.
وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار التي كان بها
المقتدر حرب شديده من غدوه الى انتصاف النهار، وثبت سوسن الحاجب به
وحامى عنه، واحضر الغلمان ووعدهم الزيادة، وقوى نفس صافى ونفس مؤنس
الخادم ومؤنس الخازن، فكلهم حماه ودافع عنه، حتى انفضت الجموع التي كان
محمد بن داود جمعها لبيعه ابن المعتز، وذلك ان مؤنسا الخادم حمل غلمانا
من غلمان الدار الى الشذوات، فصاعد بها في دجلة فلما جازوا الدار التي
كان فيها ابن المعتز ومحمد ابن داود صاحوا بهم، ورشقوهم بالنشاب،
فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن
المعتز ومن كان معه، ولحق بعض الذين كانوا بايعوا ابن المعتز بالمقتدر،
فاعتذروا اليه بأنهم منعوا من المصير نحوه، واختفى بعضهم، فأخذوا
وقتلوا وانتهبت العامه دور محمد بن داود والعباس بن الحسن، وأخذ ابن
المعتز فقتل وقتل معه جماعه، منهم احمد بن يعقوب القاضى، ذبح ذبحا،
وقالوا له:
تبايع للمقتدر! فقال: هو صبى ولا يجوز المبايعة له.
وقال الطبرى، ولم ير الناس اعجب من امر ابن المعتز والمقتدر، فان
الخاصة والعامه اجتمعت على الرضا بابن المعتز وتقديمه، وخلع المقتدر
لصغر سنه، فكان امر الله قدرا مقدورا، ولقد تحير الناس في امر دوله
المقتدر وطول أيامها على وهي أصلها وضعف ابتنائها ثم لم ير الناس ولم
يسمعوا بمثل سيرته وايامه وطول خلافته.
وقال محمد بن يحيى الصولي: وفي يوم الاثنين لتسع ليال بقين من ربيع
الاول خلع المقتدر على على بن محمد بن الفرات للوزارة، وركب الناس معه
الى داره بسوق العطش، وتكلم في اطلاق جماعه ممن كان بايع ابن المعتز،
فاذن له المقتدر في ذلك،
(11/32)
فخلى سبيل طاهر بن على ونزار بن محمد
وابراهيم بن احمد الماذرائى والحسين بن عبد الله الجوهري المعروف بابن
الجصاص، ووضع العطاء للغلمان والأولياء الذين بقوا مع المقتدر صله
ثانيه للفرسان ثلاثة اشهر وللرجاله ست نوائب، وولى مؤنسا الخادم شرطه
جانبي بغداد وما يليها، وتقدم اليه بالنداء على محمد بن داود ويمن
ومحمد الرقاص، وان يبذل لمن جاء بمحمد بن داود عشره آلاف دينار، وخلع
على عبد الله بن على بن محمد بن ابى الشوارب لقضاء جانبي بغداد، وقلد
الوزير على بن محمد أخاه جعفر بن محمد ديوان المشرق والمغرب، واشاع انه
يخلفه عليهم وقلد نزارا الكوفه وطساسيجها، وعزل عنها المسمعي، ثم عزل
نزارا وولى الكوفه نجحا الطولونى، وخلع على ابى الأغر خليفه بن المبارك
السلمى لغزاه الصائفه وعظم امر سوسن الحاجب وتجبر وطغى، فاتهمه المقتدر
ولم يأمنه، وادار الرأي في امره مع ابن الفرات، فاوصى اليه المقتدر: خذ
من الرجال من شئت ومن المال والسلاح ما شئت، وتول من الاعمال ما احببت،
وخل عن الدار أولها من اريد فأبى عليه، وقال:
امر أخذته بالسيف لا اتركه الا بالسيف فاحكم المقتدر الرأي مع ابن
الفرات في قتله فلما دخل معه الميدان في بعض الأيام اظهر صافى الحرمي
العله، وجلس في بعض طرق الميدان متعاللا فنزل سوسن ليعوده، فوثب اليه
جماعه فيهم تكين الخاصة وغيره من القواد، فأخذوا سيفه، وادخلوه بيتا،
فلما سمع من كان معه بذلك من غلمانه واصحابه تفرقوا، ومات سوسن بعد
ايام في الحبس.
وقلد الحجابه نصرا الحاجب المعروف بالقشورى، وكان موصوفا بعقل وفضل.
وكان النصارى في آخر ايام العباس بن الحسن قد علا امرهم، وغلب عليهم
الكتاب منهم، فرفع في امرهم الى المقتدر، فعهد فيهم بنحو ما كان عهد به
المتوكل من رفضهم واطراحهم واسقاطهم عن الخدمه، ثم لم يدم ذلك فيهم.
وفي يوم السبت لاربع بقين من ربيع الاول سقط ببغداد الثلج من غدوه الى
العصر، حتى صار في السطوح والدور منه نحو من اربعه أصابع، وذلك امر لم
ير مثله ببغداد.
وفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الاول سلم محمد بن يوسف القاضى
ومحمد
(11/33)
ابن عمرويه وابن الجصاص والأزرق كاتب الجيش
في جماعه غيرهم الى مؤنس الخازن، فقتل بعضهم، وشفع في بعض فاطلق.
وفيها وجه القاسم بن سما في جماعه من القواد والجند في طلب الحسين بن
حمدان، فشخص لذلك حتى صار الى قرقيسيا والرحبه، وكتب الى ابى الهيجاء
عبد الله بن حمدان بان يطلب أخاه ويتبعه، فخرج في اثره، والتقى بأخيه
بين تكريت والسودقانيه، بموضع يعرف بالأعمى، فانهزم عبد الله عن أخيه
الحسين ثم بعث الحسين الى السلطان يطلب الامان لنفسه فاعطى ذلك.
ولسبع بقين من جمادى الآخرة خلع على ابن دليل النصراني كاتب ابن ابى
الساج ورسوله، وعقد ليوسف على اذربيجان والمراغه وحملت اليه الخلع،
وامر بالشخوص الى عمله وللنصف من شعبان خلع على مؤنس الخادم، وامر
بالشخوص الى طرسوس لغزو الروم، فخرج في عسكر كثيف وجماعه من القواد
وكان مؤنس قد ثقل على صافى الحرمي، وأحب الا يجاوره ببغداد، فيسعى مع
الوزير ابن الفرات في ابعاده، فاغزى في الصائفه، وضم اليه ابو الأغر
خليفه بن المبارك فلم يرضه مؤنس، وكتب الى المقتدر يذمه، فكتب اليه في
الانصراف فانصرف، وحبس واجتمع قول الناس بلا اختلاف بينهم، انه لم يكن
في زمن ابى الأغر فارس للعرب ولا للعجم اشجع منه ولا اعظم ايدا وجلدا.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.
(11/34)
ثم دخلت
سنه سبع وتسعين ومائتين
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) في المحرم من هذا
العام، ولد للمقتدر ابن فامر ان يكتب اسمه على الاعلام والتراس
والدنانير والدراهم والسمات ولم يعش ذلك المولود.
وفيها ورد كتاب مؤنس الخادم على السلطان لست خلون من المحرم بانه ظهر
على الروم في غزاته اليهم التي تقدم ذكرها في سنه ست وتسعين، وهزمهم
وقتل منهم مقتله عظيمه واسر لهم اعلاجا كثيره، وقرئ كتابه بذلك على
العامه ببغداد، ثم قفل مؤنس منصرفا.
وفي صفر من هذه السنه اخر طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث الصفار ايراد
ما كان يلزمه من المال الموظف عليه من اموال فارس، ودافع به، فكتب
سبكرى، غلام عمرو بن الليث، يتضمن حمل المال وايراده، واستاذن في توجيه
طاهر واخويه اسرى الى باب السلطان، فأجيب الى ذلك، فاجتمع سبكرى ومن
والاه عليهم، ودارت بينهم حرب شديده، حتى استولى سبكرى على فارس
وكرمان، وبعث بطاهر واخويه الى السلطان فادخلوا في عماريات مكشوفة،
وخلع على رسول سبكرى.
ثم ان الليث بن على بن الليث لما بلغه فعل سبكرى بطاهر ويعقوب ابنى
محمد، غضب لذلك، وسار يريد فارس، فتلقاه سبكرى، واقتتلا قتالا شديدا،
فانهزم سبكرى، وقدم على السلطان يستمده، فندب مؤنس الخادم الى فارس،
وضم اليه زهاء خمسه آلاف من الأولياء والغلمان، وكتب الى اصحاب المعاون
بأصبهان والاهواز والجبل في معاونه مؤنس على محاربه الليث بن على،
واشخص معه الوزير ابن الفرات محمد بن جعفر العبرتاى، وولاه الخراج
والضياع بفارس، فاحتاج الجند الى أرزاقهم، فوعدهم بها محمد بن جعفر فلم
يرضوا وعده، ووثبوا عليه ونهبوا عسكره، واصابته ضربه، وزعم بعض اصحاب
مؤنس انه أخذ له مائه الف دينار
(11/35)
وفي ليله الأربعاء لخمس خلون من شهر ربيع
الآخر سنه سبع وتسعين ولد للمقتدر ابو العباس محمد الراضي بالله بدير
حنيناء قبل طلوع الفجر.
وفي ذي الحجه من هذا العام كانت بين مؤنس الخادم وبين الليث بن على حرب
بناحيه النوبندجان، فهزم الليث واصحابه، واسر مؤنس الليث وأخاه اسماعيل
وعلى بن حسين بن درهم والفضل بن عنبر، وصاروا في قبضته، فحملهم بين
يديه الى بغداد، وادخل الليث على فيل، ومن كان معه على جمال مشهورين،
قد البسوا البرانس ثم حبسوا.
وفيها وجه المقتدر القاسم بن سيما غازيا في الصائفه الى الروم في جمع
كثيف من الجند في شوال فغنم وسبى.
وفيها ولى ورقاء بن محمد الشيبانى امر السواد بطريق مكة فرفع المؤن عن
الناس، وحسم عنها ضر الاعراب وما كانوا يفعلونه في الطريق من السلب
والقتل، وحسن اثر ورقاء هنالك، ولم يزل مقيما بتلك الناحية الى ان رجع
الحاج مسلمين شاكرين لفعله فيهم.
ولجمادى الاولى من هذا العام ورد الخبر بان اركان البيت الأربعة غرقت
في سيول كانت بمكة وغرق الطواف وفاضت بئر زمزم، وانه كان سيلا لم ير
مثله في قديم الأيام وحديثها.
وفي شوال منها توفى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر المعروف
بالصناديقى، ودفن في مقابر قريش، وصلى عليه القاضى احمد بن إسحاق بن
البهلول.
وفي شهر رمضان منها توفى يوسف بن يعقوب القاضى ومحمد بن داود الاصبهانى
الفقيه.
وورد الخبر بوفاه عيسى النوشرى عامل مصر، فولى السلطان مكانه تكين
الخاصة، وتوجه من بغداد الى مصر.
وفي شوال من هذه السنه توفى جعفر بن محمد بن الفرات أخو الوزير، وكان
يلى ديوان المشرق والمغرب، فولى الوزير ابنه المحسن ديوان المغرب وولى
ابنه الفضل ديوان المشرق.
وفي هذا العام توفى القاسم بن زرزور المغنى، وكان من الحذاق المجيدين،
واسن حتى قارب تسعين سنه.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.
(11/36)
|