تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنه ثمان وتسعين ومائتين
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها قدم القاسم بن
سيما من غزاه الصائفه الى الروم، ومعه خلق كثير من الأسرى، وخمسون علجا
قد حملوا على الجمال مشهورين، بأيدي جماعه منهم اعلام الروم، عليها
صلبان الذهب والفضه، وذلك يوم الخميس لاربع عشر ليله بقيت من شهر ربيع
الاول.
وفيها خالف سبكرى والتوى بما عليه، فندب لمحاربته وصيف كامه غلام
الموفق، وشخص معه وجوه القواد، وفيهم الحسين بن حمدان وبدر غلام
النوشرى وبدر الكبير المعروف بالحمامى، فواقعوا سبكرى في باب شيراز
وهزموه، وأسروا القتال صاحبه وهرب بعض قواده عنه وفتق عسكره بماله
واثقاله الى ناحيه كرمان، وورد الخبر بان سبكرى اسر، وكان الذى اسره
سيمجور غلام احمد بن اسماعيل، ثم قدم وصيف كامه بالقتال صاحب سبكرى،
فادخل على فيل وعليه برنس طويل، وبين يديه ثلاثة عشر أسيرا على الجمال،
وعليهم دراريع وبرانس من ديباج، فخلع على وصيف وسور وطوق بطوق ذهب
منظوم بجوهر، ثم دخل سبكرى وحضر دخوله الوزير ابن الفرات وسائر القواد
يوم الاثنين لإحدى عشر ليله بقيت من شوال، وكان قد حمل على فيل وشهر
ببرنس طويل، وبين يديه الكرك ومن يضرب بالصنوج، وخلفه الليث بن على على
فيل آخر، فخلع على ابن الفرات وحمل وكان يوما مشهودا.
وحدث محمد بن يحيى الصولي انه شهد هذا اليوم قال: فتذكرت فيه حديثا كان
حدثناه صافى الحرمي يوم بويع فيه المقتدر بالله، قال صافى: رايت
الخليفة المقتدر بالله وهو صبى في حجر المعتضد، والمعتضد ينظر في دفتر
كان كثيرا ما ينظر فيه، وهو يضرب على كتف المقتدر، ويقول له: كأني
بملوك فارس قد ادخلوا إليك على الفيله والجمال، عليهم البرانس، وكان
صافى يوم بيعه المقتدر يحدث بهذا، ويدعو الى الله ان يحقق هذا القول
(11/37)
وفيها وردت على المقتدر هدايا من خراسان
أنفذها اليه احمد بن اسماعيل بن احمد، فيها غلمان على دوابهم وخيولهم
وثياب ومسك كثير وبزاه وسمور وطرائف، لم يعهد بمثلها فيما اهدى من قبل.
وفيها جلس ابن الفرات الوزير لكتاب العطاء، فحاسبهم واشرف لهم على
خيانة نحو مائه الف دينار، فورى عن الأمر قليلا إذ كان كتابه منهم،
واستخرج ما وجد من المال في رفق وستر.
وفي جمادى الآخرة من هذا العام فلج عبد الله بن على بن ابى الشوارب
القاضى، فامر المقتدر ابنه محمد بن عبد الله بتولى امور الناس خليفه
لأبيه، حتى يظهر حاله وما يكون من علته فنظر كما كان ينظر أبوه، وانفذ
الأمور مثل تنفيذه
(11/38)
ثم دخلت
سنه تسع وتسعين ومائتين
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[أخبار متفرقة]
فمن ذلك غزوه رستم الصائفه من ناحيه طرسوس، وهو والى الثغور، فحاصر حصن
مليح الأرميني، ثم دخل عليه واحرق ارباض ذي الكلاع.
وفيها ورد رسول احمد بن اسماعيل بكتاب منه الى السلطان بانه فتح
سجستان، وان اصحابه دخلوها واخرجوا من كان فيها من اصحاب الصفار، وان
المعدل بن على ابن الليث صار اليه بمن معه من اصحابه في الامان، وكان
المعدل يومئذ مقيما معهم بزرنج، وصار الى احمد بن اسماعيل وهو مقيم
ببست والرخج، فوجه به احمد وبعياله ومن معه الى هراة، ووردت الخريطة
بذلك على السلطان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر.
وفيها وافى بغداد العطير صاحب زكرويه ومعه الأغر، وهو احد قواد زكرويه
مستأمنا
. ذكر القبض على ابن الفرات
وفي ذي الحجه غضب المقتدر على وزيره على بن محمد بن الفرات لاربع خلون
منه، وحبس ووكل بدوره، وأخذ كل ما وجد له ولأهله، وانتهبت دوره اقبح
نهب، وفجر الشرط بنسائه ونساء اهله، وكان ادعى عليه انه كتب الى
الاعراب بان يكبسوا بغداد في خبر طويل.
واستوزر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان فكانت وزارة ابن الفرات
ثلاث سنين وثمانية اشهر واثنى عشر يوما، وطولب ابن الفرات بأمواله
وذخائره، فاجتمع منها مع ودائع كانت له سبعه آلاف الف دينار- فيما حكى
عن الصولي- وكان مشاهدا ومشرفا على اخبارهم
(11/39)
قال: وما سمعنا بوزير جلس في الوزارة وهو
يملك من العين والورق والضياع والأثاث ما يحيط بعشره آلاف الف غير ابن
الفرات.
قال: وكانت له اياد جليله وفضائل كثيره قد ذكرتها في كتاب الوزراء قال
ولم ير وزير اودع وجوه الناس من الأموال ما اودع ابن الفرات من قبل
ولايته الوزارة، وكانت غلته تبلغ الف الف دينار ولم يمسك الناس ببغداد
عن انتقاص ابن الفرات وهجوه مع حسن آثاره، واحضر محمد بن عبيد الله بن
يحيى بن خاقان دار المقتدر في الوقت الذى ضم فيه على ابن الفرات، فقلد
الوزارة، وانصرف الى منزله بباب الشماسيه في طيار، وركب يوم الخميس
بعده، فخلع عليه وحمل وقلد سيفا.
وقيل ان السبب في ولايته كان بعناية أم ولد المعتضد بامره على ان ضمن
لها مائه الف دينار، وقوى امره عندها رياء كان يظهره وكان الخدم من
الدار يأتونه بالكتب، فلا يكلم الواحد منهم الا بعد مائه ركعة يصليها،
فكانوا ينصرفون بوصفه وما رأوا منه، وخلع على ابنه عبد الله بن محمد
لخلافه ابيه، واستبدل بالعمال، وعزل كل من كان خطوطه الى على بن الفرات
وآله.
وفي هذه السنه مات وصيف موشجير يوم الخميس لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر
رمضان.
وفيها مات الخرقى المحدث.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.
(11/40)
ثم دخلت
سنه ثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها امر جعفر المقتدر
برفع مطالبه المواريث عن الناس، وان يورث ذوو الارحام، ولا يعرض لأحد
في ميراث الا لمن صح انه غير وارث وكان الناس من قبل ذلك في بلاء وتعلل
متصل من المستخرجين والعاملين.
وفيها اخرج محمد بن إسحاق بن كنداجيق بعض اصحابه لمحاربه قوم من
القرامطة جاءوا الى سوق البصره، فعاثوا بها، وبسطوا ايديهم وأسيافهم
على الناس فيها، فلما واقفهم اصحاب ابن كنداجيق، صدمهم القرامطة صدمه
شديده حتى هزموهم، وقتل من اصحاب ابن كنداجيق جماعه، وكان محمد بن
إسحاق قد خرج كالممد لهم، فلما بلغه امرهم وشده شوكتهم انصرف مبادرا
الى المدينة، فانهض السلطان محمد بن عبد الله الفارقى في رجل كثير
معونه لابن كنداجيق ومددا له فأقاما بالبصرة ولم يتعرضا لمحاربه.
وفي شعبان من هذه السنه قبض على ابراهيم بن احمد الماذرائى، وعلى ابن
أخيه محمد بن على بن احمد، فطالبهم ابو الهيثم بن ثوابه بخمسمائة الف،
فجملوا منها خمسين ألفا الى بيت المال، وصانعوا الوزير ابن خاقان وابنه
وابن ثوابه بمال كثير، وصادر ابن ثوابه جماعه على مائه الف دينار، فحمل
منها ابن الجصاص عشرين ألفا، وفرضت البقية على جماعه، منهم ابن ابى
الشوارب القاضى وغيره.
وظهر في هذا العام ضعف امر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزير،
وتغلب ابنه عبد الله عليه وتحكمه في الأمور دونه، وكثر التخليط من محمد
في رايه وجميع امره، فكان يولى العمل الواحد جماعه في اسبوع من الأيام،
وتقدم بالمصانعات حتى قلد عماله بادوريا في احد عشر شهرا احد عشر
عاملا، وكان يدخل الرجل الذى قد عرفه دهرا طويلا فيسلم عليه فلا يعرفه،
حتى يقول له: انا فلان ابن فلان، ثم يلقاه بعد ساعه فلا يعرفه
(11/41)
وفيها ورد الخبر بانخساف جبل بالدينور،
يعرف بالتل وخروج ماء كثير من تحته غرقت فيه عده من القرى، وورد الخبر
أيضا بانخساف قطعه عظيمه من جبل لبنان وسقوطها الى البحر، وكان ذلك
حدثا لم ير مثله.
وفيها ورد كتاب صاحب البريد بالدينور، يذكر ان بغله هناك وضعت فلوه
ونسخه كتابه:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الموقظ بعبره قلوب الغافلين، والمرشد
بآياته الباب العارفين، الخالق ما يشاء بلا مثال، ذلك الله البارئ
المصور في الارحام ما يشاء وان الموكل بخبر التطواف بقرماسين رفع يذكر
ان بغله لرجل يعرف بابى برده من اصحاب احمد بن على المري وضعت فلوه،
ويصف اجتماع الناس لذلك، وتعجبهم لما عاينوا منه، فوجهت من أحضرني
البغله والفلوه فوجدت البغله كمتاء خلوقيه والفلوه سويه الخلق تامه
الأعضاء منسدله الذنب سبحان الملك القدوس لا معقب لحكمه وهو سريع
الحساب.
وكان المقتدر لما راى عجز محمد بن عبيد الله الوزير وتبلده قد انفذ
احمد بن العباس أخا أم موسى الهاشمية الى الاهواز، ليقدم باحمد بن يحيى
المعروف بابن ابى البغل ليوليه الوزارة، فخرج اليه، واقبل به حتى صار
بواسط، فلما قرب من دار السلطان سلم احمد بن العباس على احمد بن محمد
بالوزارة، وحمل اليه ثلاثة آلاف دينار، فاتصل الخبر بمحمد بن عبيد الله
الوزير من قبل حاشيته وعيونه، فركب الى الدار، وصانع جماعه من الخدم
والحرم، وضمن لام ولد المعتضد التي كانت عنيت بولايته في أول امره
خمسين الف دينار، فنقضت امر ابن ابى البغل، ورد واليا على فارس.
وفي شوال من هذا العام توفى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكان اكثر
الناس أدبا وجلاله وفهما ومروءة، وهو ابن احدى وثمانين سنه، وصلى عليه
احمد بن عبد الصمد الهاشمى، ودفن في مقابر قريش وفيها مات ابو الفضل
عبد الواحد بن الفضل بن عبد الوارث يوم السبت لسبع بقين من ذي الحجه.
واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك بن عبد الله
الهاشمى.
(11/42)
ثم دخلت
سنه احدى وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها وافى بغداد على
بن عيسى بن داود بن الجراح مقدمه من مكة، وذلك يوم الاثنين لعشر خلون
من المحرم، فمضى به من فوره الى دار المقتدر، فقلد الوزارة وخلع عليه
لولايتها، وقلد سيفا، وقبض على محمد بن عبيد الله وابنيه عبد الله وعبد
الواحد فحبسوا وكانوا قد ركبوا في ذلك النهار الى الدار، ووعدوا بان
يخلع عليهم ويسلم على بن عيسى اليهم، فسلموا اليه، ووقع الأمر بضد ما
ظنوه، وقعد على ابن عيسى لمحمد بن عبيد الله وناظره فقال له: اخربت
الملك، وضيعت الأموال، ووليت بالعناية، وصانعت على الولايات بالرشوة،
وزدت على السلطان اكثر من الف الف دينار في السنه، فقال: ما كنت افعل
الا ما أراه صوابا وكان محمد بن عبيد الله فيما ذكر من تسناه يأخذ
المصانعات على يدي ابى الهيثم بن ثوابه، ولا يفى بعهد لكل من صانعه
برشوه، حتى قيلت فيه اشعار كثيره منها:
وزير ما يفيق من الرقاعه ... يولى ثم يعزل بعد ساعه
إذا اهل الرشا صاروا اليه ... فاحظى القوم أوفرهم بضاعة
وليس بمنكر ذا الفعل منه ... لان الشيخ افلت من مجاعه
وكان محمد بن عبيد الله قبل ان يستحيل به الحال فيما ذكر اهل الخبر.
وحسن الرأي فيه ذا دهاء وعقل، وكان ابنه عبد الله كاتبا بليغا حسن
الكلام مليح اللفظ حسن الخط، جوادا يعطى العطايا الجزيله، ويقدم
الأيادي الجليله، وصل عبد الله بن حمدون من ماله في مده ولايته بتسعين
الف دينار الى ما وصل به غيره، واعطاه كثيرا ممن كان امله.
وفي هذه السنه رضى عن القاضى محمد بن يوسف، وقلد الشرقيه، وعسكر المهدى
وخلع عليه دراعه وطيلسان وعمامة سوداء، وركب من دار الخليفة الى مسجد
الرصافه، فصلى ركعتين، ثم قرئ عليه عهده بالولاية
(11/43)
وفيها ورد الخبر بوثوب ابى الهيجاء عبد
الله بن حمدان بالموصل ومعه جماعه من الأكراد، وكانوا أخواله لان أمه
كرديه، واغاث الجند اهل الموصل، فقتلت بينهم مقتله عظيمه، وصار ابو
الهيجاء الى الأكراد، وتامر عليهم كالخالع للطاعة.
وتظلم اهل البصره من عاملهم محمد بن إسحاق بن كنداج، وشكوا به الى على
ابن عيسى الوزير، فعزله عنهم بعد ان استامر فيه المقتدر لئلا يستبد
بالرأي دونه، وولى البصره نجحا الطولونى، ثم ولى محمد بن إسحاق بن
كنداج الدينور، وولى سليمان بن مخلد ديوان الدار، وكتابه غريب خال
المقتدر، وولى على بن عيسى ابراهيم أخاه ديوان الجيش، واستخلف عليه
سعيد بن عثمان والحسين بن على.
وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنه دخل مؤنس الخادم مدينه السلام، ومعه
ابو الهيجاء قد اعطاه أمانا فخلع على مؤنس وعليه.
وقلد نصر القشورى مع الحجابه التي كان يتولاها ولايه السوس وجندى سابور
ومناذر الكبرى ومناذر الصغرى، فاستخلف على جميع ذلك يمنا الهلالي
الخادم.
وفي هذه السنه اغارت الاتراك على المسلمين بخراسان، فسبت منهم نحو
عشرين ألفا، الى ما ذهبت به من الأموال وقتلت من الرجال، فخرج اليهم
احمد بن اسماعيل، وكان واليها في جيوش كثيره، واتبعهم فقتل منهم خلقا
كثيرا واستنقذ بعض الأسرى، واوفد الى السلطان رجلا شيخا يعرف بالحمادى
يستحمد اليه بفعله بالاتراك، ويخطب اليه شرطه مدينه السلام واعمال فارس
وكرمان فأجيب الى كرمان وحدها وكتب له بها كتاب عهد.
وفي جمادى الآخرة من هذه السنه اطلق محمد بن عبيد الله الذى كان وزيرا
وابنه عبد الله وامرا بلزوم منازلهما.
وفيها خلع على القاسم بن الحر وولى سيراف، وخلع على على بن خالد
الكردى، وولى حلوان.
وفي هذه السنه ركب ابو العباس محمد بن المقتدر من القصر المعروف
بالحسنى، وبين يديه لواء عقده له أبوه المقتدر على المغرب، ومعه القواد
كلهم، والغلمان الحجريه وجماعه الخدم حول ركابه، وعلى بن عيسى عن يمينه
ومؤنس الخادم عن يساره ونصر الحاجب بين يديه، فسار في الشارع الأعظم،
ورجع في الماء والناس معه،
(11/44)
فاعترضه رجل بمربعه الحرشي، فنثر عليه
دراهم مسيفه، وقال له: بحق امير المؤمنين الا أذنت لي في طلى الفرس
بالغالية، فوقف له وجعل الرجل يطلى وجه الفرس، فنفر منه، وقيل له: دع
وجهه، واطل سائر بدنه، فاقبل يطلى عرف الفرس وقوائمه بالغالية، فقال
محمد بن المقتدر لمن حوله: اعرفوا لنا هذا الرجل.
وفي هذه السنه قلد ابو بكر محمد بن على الماذرائى اعمال مصر والاشراف
على اعمال الشام وتدبير الجيوش، وخلع عليه، وذلك يوم الخميس للنصف من
شهر رمضان وخلع في هذا النهار أيضا على القاسم بن سيما، وعقد له على
الإسكندرية واعمال برقه.
وفي هذه السنه في جمادى الآخرة، ورد الخبر بوفاه على بن احمد الراسبى،
وكان يتقلد جندى سابور والسوس وماذرايا الى آخر حدودها، وكان يورد من
ذلك الف الف دينار وأربعمائة الف دينار في كل سنه، ولم يكن معه احد
يشركه في هذه الاعمال من اصحاب السلطان لأنه تضمن الحرب والخراج
والضياع والشحنه وسائر ما في عمله، فتخلف- فيما وردت به الاخبار- من
العين الف الف دينار ومن آنيه الذهب والفضه قيمه مائه الف دينار ومن
الخيل والبغال والجمال الف راس، ومن الخز الرفيع الطاقي ازيد من الف
ثوب، وكان مع ذلك واسع الضيعه كثير الغلة وكان له ثمانون طرازا ينسج له
فيها الثياب من الخز وغيره فلما ورد الخبر بوفاه الراسبى، انفذ المقتدر
عبد الواحد بن الفضل بن وارث في جماعه من الفرسان والرجاله لحفظ ماله
الى ان يوجه من ينظر فيه، ثم وجه مؤنس الخادم للنظر في ذلك، فيقال: انه
صار اليه منه مال جليل، وخلع على ابراهيم بن عبد الله المسمعي، وولى
النظر في دور الراسبى.
وتوفى مؤنس الخازن يوم الأحد لثمان بقين من شهر رمضان، ولم يتخلف احد
عن جنازته من الرؤساء، وصلى عليه القاضى محمد بن يوسف، ودفن بطرف
الرصافه، وكان جليل القدر عند السلطان، فلما مات قلد ابنه الحسن ما كان
يتولاه من عرض الجيوش، فجلس ونظر، وعاقب واطلق، وفرق سائر الاعمال التي
كانت الى مؤنس
(11/45)
على جماعه من القواد الذين كانوا في رسمه،
وضم اصحابه الى ملازمه ابى العباس بن المقتدر، ولم يخلع على الحسن بن
مؤنس للولاية مكان ابيه، فعلم ان ولايته لا تتم وعزل بعد شهرين، وعزل
محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان خليفته على الجانب الشرقى، وقدم مكانه
بدر الشرابي، وعزل خزرى بن موسى خليفه مؤنس على الجانب الغربي وولى
مكانه إسحاق الاشروسنى، وولى شفيع اللؤلؤى البريد وسمى شفيعا الاكبر.
وورد الخبر في شعبان بان احمد بن اسماعيل بن احمد صاحب خراسان قتله
غلمانه غيله على فراشه، وكان قد اخاف بعضهم فتواطئوا على قتله ثم اجتمع
سائر غلمانه فضبطوا الأمر وبايعوا لابنه نصر بن احمد وورد كتابه على
المقتدر يسأله تجديد العهد له، ووردت كتب عمومته وبنى عمه يسال كل واحد
منهم ناحيه من نواحي خراسان، فافرد الخليفة بالولاية ابنه وتم له
الأمر.
قال الصولي: شهدت في هذا العام بين يدي محمد بن عبيد الله الوزير
مناظره كانت بين ابن الجصاص وابراهيم بن احمد الماذرائى، فقال ابراهيم
بن احمد الماذرائى في بعض كلامه: لابن الجصاص مائه الف دينار من مالي
صدقه، لقد ابطلت في الذى حكيته وكذبت! فقال له ابن الجصاص: قفيز دنانير
من مالي صدقه، لقد صدقت انا وابطلت أنت، فقال له ابن الماذرائى: من
جهلك انك لا تعلم ان مائه الف دينار اكثر من قفيز دنانير، فعجب الناس
من كلامهما قال الصولي: وانصرفت الى ابى بكر بن حامد فخبرته الخبر،
فقال: نعتبر هذا بمحنه، فاحضر كيلجه وملاها دنانير ثم وزنها فوجد فيها
اربعه آلاف دينار، فنظرنا فإذا القفيز سته وتسعون الف دينار كما قال
الماذرائى.
وفي هذه السنه مات ابو بكر جعفر بن محمد المعروف بالفاريابى المحدث،
لاربع بقين من المحرم وصلى عليه ابنه ودفن في مقابر الشونيزيه وفيها
توفى عبد الله بن محمد بن ناجيه المحدث وكان مولده سنه عشر ومائتين.
وفيها مات الحسن بن الحسن بن رجاء، وكان يتقلد اعمال الخراج والضياع
بحلب، مات فجاءه، وحمل تابوته الى مدينه السلام، ووصل يوم السبت لخمس
(11/46)
بقين من شهر ربيع الاول.
وفيها مات محمد بن عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى المعروف
بالأحنف، وكان خليفه ابيه على قضاء عسكر المهدى والشرقيه والنهروانات
والزوابي والتل وقصر ابن هبيرة والبصره وكور دجلة وواسط والاهواز، ودفن
يوم الأحد لتسع ليال خلون من جمادى الاولى في حجره بمقام باب الشام وله
ثمان وثلاثون سنه وفي هذه السنه بعد قتل احمد بن اسماعيل ورد الخبر بان
رجلا طالبيا حسينيا خرج بطبرستان يدعو الى نفسه يعرف بالأطروش.
وفي آخر هذه السنه توفى احمد بن عبد الصمد بن طومار الهاشمى، وكان من
قبل نقيب بنى هاشم العباسيين والطالبيين، فقلد ما كان يتقلده أخو أم
موسى، فضج الهاشميون من ذلك، وسألوا رد ما كان يتولاه ابن طومار الى
ابنه محمد بن احمد، فأجيبوا الى ذلك، وكان لأحمد بن عبد الصمد يوم توفى
اثنتان وثمانون سنه.
واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.
(11/47)
ثم دخلت
سنه اثنتين وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ركب شفيع الخادم
المعروف بالمقتدرى في جماعه من الجند والفرسان والرجال الى دار الحسين
بن احمد المعروف بابن الجصاص، التي في سوق يحيى، ولحقه صاحب الشرطه بدر
الشرابي، فوكل شفيع بالأبواب وقبض على جميع ما تحويه داره من مال وجوهر
وفرش واثاث ورقيق ودواب، وحمل في وقته ذلك صناديق مختومه، ذكر ان فيها
جوهر وآنيه ذهب، ووجد في داره فرشا سلطانيا من فرش أرمينية وطبرستان
جليلا لا يعرف قدره، ووجد فيها من مرتفع ثياب مصر خمسمائة سفط وحفرت
داره فوجدت له في بستانه اموال جليله مدفونة في جرار خضر وقماقم مرصصه
الرءوس، فحملت كهيئتها الى دار المقتدر، وأخذ هو فقيد بخمسين رطلا من
حديد وغل، وتسمع الناس ما جرى عليه، فصودر على مائه الف دينار بعد هذا
كله، واطلق الى منزله.
وقال ابو الحسن بن عبد الحميد كاتب السيده: ان الذى صح مما قبض من مال
الحسين بن احمد بن الجصاص الجوهري من العين والورق والانيه والثياب
والفرش والكراع والخدم- لا ثمن ضيعه في ذلك ولا ثمن بستان- ما قيمته
سته آلاف الف دينار.
وفي هذه السنه في رجب ورد كتاب محمد بن على الماذرائى الى السلطان من
مصر يزعم ان وقعه كانت بين اصحاب السلطان وبين جيش القيروان فقتل من
اصحاب الشيعى سبعه آلاف واسر نحوهم، وانهزم من بقي منهم، ومضوا على
وجوههم، فمات اكثرهم قبل وصولهم الى برقه، ووردت كتب التجار بدخول
الشيعة برقه، وعظم ما أحدثوا في تلك الناحية، وان الغلبه انما كانت لهم
(11/48)
قال الصولي: وفيها جلس على بن عيسى للمظالم
في كل يوم ثلاثاء، فحضرته يوما، وقد جيء برجل يزعم انه نبى، فناظره
فقال: انا احمد النبي، وعلامتي ان خاتم النبوه في ظهري، ثم كشف عن ظهره
فإذا سلعه صغيره، فقال له: هذه سلعه الحماقة، وليست بخاتم النبوه، ثم
امر بصفعه وتقييده وحبسه في المطبق.
وفي شهر رمضان من هذه السنه وافى باب الشماسيه قائد من قواد صاحب
القيروان يقال له ابو جده، ومعه من اصحابه مائتا فارس، نازعين الى
الخليفة فاحضر القائد دار السلطان، وخلع عليه، واخرج هو واصحابه الى
البصره ليكونوا مع محمد بن إسحاق بن كنداج.
وفيها اطلق المقتدر من سجنه الصفاري المعروف بالقتال، خلع عليه، واقطعه
دارا ينزلها واجرى عليه الرزق، وامره بحضور الدار في يومى الموكب مع
الأولياء، واطلق أيضا محمد بن الليث الكردى وخلع عليه، وهو ممن ادخل مع
الليث، وطوف على جمل.
وفيها جاء رجل حسن البزة طيب الرائحة الى باب غريب خال المقتدر، وعليه
دراعه وخف احمر وسيف جديد بحمائل، وهو راكب فرسا ومعه غلام، فاستأذن
للدخول، فمنعه البواب، فانتهره واغلظ عليه، ونزل فدخل، ثم قعد الى جانب
الخال، وسلم عليه بغير الإمرة، فقال له غريب وقد استبشع امره: ما تقول
اعزك الله؟ قال: انا رجل من ولد على بن ابى طالب، وعندي نصيحه للخليفة
لا يسعني ان يسمعها غيره، وهي من المهم الذى ان تأخر وصولي اليه حدث
امر عظيم.
فدخل الخال الى المقتدر والى السيده، واعلمهما بامره، فبعث في الوزير
على بن عيسى واحضر الخال الرجل، فاجتهد الوزير والحاجب نصر والخال ان
يعلمهم النصيحه ما هي، فأبى حتى ادخل الى الخليفة، وأخذ سيفه، وادنى
منه، وتنحى الغلمان والخدم، فاخبر المقتدر بشيء لم يقف عليه احد، ثم
امره بالانصراف الى منزل اقيم له وخلع عليه ما يلبسه، ووكل به خدم
يخدمونه، وامر المقتدر ان يحضر ابن طومار نقيب الطالبيين ومشايخ آل ابى
طالب، فيسمعون منه ويفهمون امره، فدخلوا عليه وهو
(11/49)
على برذعه طبرية مرتفعه، فما قام الى واحد
منهم، فسأله ابن طومار عن نسبته فزعم انه محمد بن الحسن بن على بن موسى
بن جعفر الرضا وانه قدم من البادية، فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن-
وكان قوم يقولون انه اعقب، وقوم قالوا لم يعقب- فبقى الناس في حيره من
امره، حتى قال ابن طومار: هذا يزعم انه قدم من البادية وسيفه جديد
الحلية والصنعه، فابعثوا بالسيف الى دار الطاق، وسلوا عن صانعه وعن
نصله، فبعث به الى اصحاب السيوف بباب الطاق، فعرفوه واحضروا رجلا
ابتاعه من صيقل هناك، فقيل له: لمن ابتعت هذا السيف؟ فقال:
لرجل يعرف بابن الضبعى، كان أبوه من اصحاب ابن الفرات، وتقلد له
المظالم بحلب، فاحضر الضبعى الشيخ، وجمع بينه وبين هذا المدعى الى بنى
ابى طالب فاقر بانه ابنه، فاضطرب الدعي وتلجج في قوله، فبكى الشيخ بين
يدي الوزير حتى رحمه ووعده بان يستوهب عقوبته ويحبسه او ينفيه، فضج بنو
هاشم، وقالوا: يجب ان يشهر هذا بين الناس، ويعاقب أشد عقوبة، ثم حبس
الدعي، وحمل بعد ذلك على جمل، وشهر في الجانبين يوم الترويه ويوم عرفه،
ثم حبس في حبس المصريين بالجانب الغربي.
وفي هذه السنه اضطرب امر خراسان لما قتل احمد بن اسماعيل، واشتغل نصر
بن احمد والده بمحاربه عمه، ودارت بينهما فتوق، فكتب احمد بن على
المعروف بصعلوك، وكان يلى الري من قبل احمد بن اسماعيل ايام حياته الى
المقتدر، ووجه اليه رسولا يخطب اليه اعمال الري وقزوين وجرجان
وطبرستان، وما يستضيف الى هذه الاعمال، ويضمن في ذلك مالا كثيرا، وعنى
به نصر الحاجب، حتى انفذ اليه الكتب بالولاية، ووصله المقتدر من المال
الذى ضمن بمائه الف درهم، وامر بمائده تقام له في كل شهر من شهور
الأهلة بخمسه آلاف درهم، واقطعه من ضياع السلطان بالري ما يقوم في كل
سنه بمائه الف درهم.
وفي هذه السنه ركب المقتدر الى الميدان، وركب باثره على بن عيسى الوزير
ليلحقه، فنفرت دابته وسقط سقطه مؤلمه، وامر الخليفة اصحاب الركاب
باقامته،
(11/50)
وحمله على دابته، فانهضوه وحملوه، وقيلت
فيه اشعار منها:
سقوطك يا على لكسف بال ... وخزى عاجل وسقوط حال
فما قلنا لعا لك بل سررنا ... وكان لما رجونا خير فال
أضعت المال في شرق وغرب ... فلم يحظ الامام بجمع مال
قال: وكان على بن عيسى بخيلا، فابغضه الناس لذلك.
ووردت الاخبار بدخول صاحب إفريقية الإسكندرية وتغلبه على برقه وغيرها،
وكتب تكين الخاصة والى مصر يطلب المدد، ويستصرخ السلطان، فعظم ذلك على
المقتدر ورجاله وكانوا من قبل مستخفين بأمر عبيد الله الشيعى وبابى عبد
الله القائم بدعوته، وكانوا قد فحصوا عن نسبه ومكانه، وباطن امره.
قال محمد بن يحيى الصولي: حدثنا ابو الحسن على بن سراج المصرى، وكان
حافظا لاخبار الشيعة ان عبيد الله هذا القائم بإفريقية هو عبيد الله بن
عبد الله بن سالم من اهل عسكر مكرم بن سندان الباهلى صاحب شرطه زياد،
ومن مواليه وسالم جده، قتله المهدى على الزندقة.
قال: وأخبرني غير ابن سراج ان جده كان ينزل بنى سهم من باهله بالبصرة،
وكان يدعى انه يعرف مكان الامام القائم وله دعاه في النواحي، يجمعون له
المال بسببه، فوجه الى ناحيه المغرب رجلا يعرف بابى عبد الله الصوفى
المحتسب، فأرى الناس نسكا، ودعاهم سرا الى طاعه الامام، فافسد على
زياده الله بن الاغلب القيروان، وكان عبيد الله هذا مقيما بسلميه مده،
ثم خرج الى مصر فطلب بها، وظفر به محمد ابن سليمان، فاخذ منه مالا،
واطلقه، ثم ثار المحتسب على ابن الاغلب وطرده عن القيروان، وقدم عليه
عبيد الله، فقال المحتسب للناس: الى هذا كنت ادعو، وكان عبيد الله يعرف
أول دخوله القيروان بابن البصرى، فأظهر شرب الخمر والغناء، فقال
المحتسب: ما على هذا خرجنا، وانكر فعله، فدس عليه عبيد الله رجلا من
المغاربه يعرف بابن خنزير، فقتله، وملك عبيد الله البلاد، وحاصر اهل
طرابلس حتى فتحها، وأخذ اموالا عظيمه ثم ملك برقه واقبل جيشه يريد مصر،
وقدم ولد
(11/51)
عبيد الله الإسكندرية، وخطب فيها خطبا
كثيره محفوظه، لولا كفر فيها لاجتلبت بعضها.
ولما وردت الاخبار باستطاله صاحب القيروان بجهة مصر، انهض المقتدر
مؤنسا الخادم وندب معه العساكر، وكتب الى عمال اجناد الشام بالمصير الى
مصر.
وكتب الى ابنى كيغلغ وذكا الأعور، وابى قابوس الخراسانى باللحاق بتكين
لمحاربته.
وخلع على مؤنس في شهر ربيع الاول سنه ثنتين وثلاثمائة وخرج متوجها الى
مصر، وتقدم على بن عيسى الوزير بترتيب الجمازات من مصر الى بغداد ليروح
عليه الاخبار في كل يوم، فورد الخبر بان جيش عبيد الله الخارج مع ابنه،
ومع قائده حباسه انهزموا وبشر على بن عيسى بذلك المقتدر، فتصدق في يومه
بمائه الف درهم، ووصل على ابن عيسى بمال عظيم، فلم يقبله ثم رجع على
وقد باع له ابن ما شاء الله ضيعه باربعه آلاف دينار، وفرقها كلها شكرا
لله عز وجل، ودخل مؤنس الخادم بالجيوش مصر في جمادى الآخرة، وقد انصرف
كثير من اهل المغرب عن الإسكندرية ونواحيها، وانصرف ولد عبيد الله
قافلا الى القيروان وكتب محمد بن على الماذرائى يذكر ضيق الحال بمصر
وكثره الجيوش بها وما يحتاج اليه من الأموال لها، فانفذ اليه المقتدر
مائتي بدره دراهم على مائتي جمازه مع جابر بن اسلم صاحب شرطه الجانب
الشرقى ببغداد.
وورد الخبر من مصر في ذي القعده بان الاخبار تواترت عليهم بموت عبيد
الله الشيعى فانصرف مؤنس يريد بغداد، وعزل المقتدر تكين عن مصر، وولاه
دمشق ونقل ذكا الأعور من حلب الى مصر.
وفي هذه السنه صرف ابو ابراهيم بن بشر بن زيد أبا بكر الكريزى العامل
عن اعمال قصر ابن هبيرة ونواحيه، فطالبه وضربه بالمقارع حتى مات، وحمل
الى مدينه السلام في تابوت.
وفيها مات القاسم بن الحسن بن الاشيب، ويكنى أبا محمد، وكان قد حدث
وحمل عنه الناس توفى لليلتين بقيتا من جمادى الاولى، ولم يتخلف عن
جنازته قاض ولا فقيه ولا عدل.
وفيها ماتت بدعه جاريه عريب مولاه المأمون لست خلون من ذي الحجه
(11/52)
وصلى عليها ابو بكر بن المهتدى، وخلفت مالا
كثيرا وجوهرا وضياعا وعقارات، فامر المقتدر بالله بقبض ذلك كله، وتوفيت
ولها ستون سنه ما ملكها رجل قط.
وقطع في هذه السنه بطريق مكة على حاتم الخراسانى وعلى خلق عظيم معه،
خرج عليهم رجل من الحسينية مع بنى صالح بن مدرك الطائي، فأخذوا الأموال
واستباحوا الحرم ومات من سلم عطشا، وسلمت القوافل غير قافلة حاتم.
واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.
(11/53)
ثم دخلت
سنه ثلاث وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ورد الخبر بان
رجلا من الطالبيين ثار بجهة واسط وانضم اليه جماعه من الاعراب والسواد،
وكان للأعراب رئيس يقال له محرز بن رباح، وذلك انه بلغهم بان صاحب فارس
والاهواز والبصره بعث الى حضره السلطان من المال المجتمع قبله ثلاثمائة
الف دينار، حملت في ثلاث شذوات، فطمعوا في انتهابها وأخذها، وكمنوا
للرسل في بعض الطريق، ففطن بهم اهل الشذوات، فافلتت منها واحده،
وصاعدت، ورجعت الاثنتان الى البصره، ولم يظفر الخارجون بشيء فصاروا الى
عقر واسط، وأوقعوا بأهلها، واحرقوا مسجدها، واستباحوا الحرم وبلغ حامد
بن العباس خبرهم، وكان يتقلد اعمال الخراج والضياع بكسكر وكور دجلة وما
اتصل بذلك، فوجه من قبله محمد بن يوسف المعروف بخزرى، وكان يتقلد له
معونه واسط، وضم اليه غلمانه وقوما فرض لهم فرضا، وكتب الى السلطان
بالخبر، فامده بلؤلؤ الطولونى، فلم يبلغ اليه لؤلؤ حتى قتل الطالبي
ومحرز بن رباح واكثر الاعراب الخارجين معهما، واسر منهم نحو مائه
اعرابى، وكتب حامد بالفتح الى المقتدر، وبعث بالأسرى، فادخلوا مدينه
السلام في جمادى الاولى وقد البسوا البرانس، وحملوا على الجمال، فضجوا
وعجوا وزعم قوم منهم انهم براء، فامر المقتدر بردهم الى حامد ليطلق
البريء، ويقتل النطف، فقتلهم اجمعين على جسر واسط، وصلبهم.
وفي هذه السنه في جمادى الاولى ورد الخبر بان الروم حشدوا وخرجوا على
المسلمين، فظفروا بقوم غزاه من اهل طرسوس، وظفرت طائفه منهم اخرى بخلق
كثير من اهل مرعش وشمشاط، فسبوا من المسلمين نحوا من خمسين ألفا، وعظم
الأمر في ذلك، وعم حتى وجه السلطان بمال ورجال الى ذلك الثغر، فدارت
على الروم بعد ذلك وقعات كثيره
(11/54)
وفيها كانت لهارون بن غريب الخال جناية وهو
سكران بمدينه السلام، على رجل من الخزر يعرف بجوامرد، ولقيه ليلا فضرب
راسه بطبرزين كان في يده، فقتله بلا سبب، فشغب رفقاؤه الذين كان في
جملتهم، وطلبوا هارون ليقتلوه، فمنع منهم وكانوا نحو المائه، فشكوا
امره، وترددوا طالبين لاخذ الحق منه، فلم ينظر لهم فلما أعوزهم ذلك،
خرجوا باجمعهم الى عسكر ابن ابى الساج، وكان قد تحرك على السلطان،
وانفذ اليه المقتدر رشيقا الحرمي ختن نصر الحاجب رسولا ليصرفه عن
مذهبه، فحبسه ابن ابى الساج عند نفسه، ومنعه ان يكتب كتابا الى المقتدر
ثم انه اطلقه بعد ذلك، وبعث بهدايا ومال فرضى عنه.
وفيها عظم امر الحسين بن حمدان بنواحي الموصل، فانفذ اليه السلطان أبا
مسلم رائقا الكبير، وكان اسن الغلمان المعتضديه واعلاهم رتبه، وكان فيه
تصاون وتدين وحسن عقل، فشخص ومعه وجوه القواد والغلمان، فحارب الحسين
بن حمدان، وهو في نحو خمسه عشر ألفا، فقتل رائق من قواد ابن حمدان
جماعه منهم الحسن بن محمد ابن أبا التركى، وكان فارسا شجاعا مقداما
وابو شيخ ختن ابن ابى مسعر الأرميني ووجه الحسين بن حمدان الى رائق
جماعه يسأله ان يأخذ له الامان، وانما اراد ان يشغله بهذا عن محاربته،
ومضى الحسين مصعدا ومعه الأكراد والاعراب وعشر عماريات، فيها حرمه وكان
مؤنس الخادم قد انصرف من الغزاة وصار الى آمد، فوجه القواد والغلمان في
اثر الحسين، فلحقوه وقد عبر باصحابه واثقاله واديا، وهو واقف يريد
العبور في خمسين فارسا، ومعه العماريات، فكابرهم حتى اخذوه أسيرا، وسلم
عياله وأخذ ابنه ابو الصقر أسيرا فلما راى الأكراد هذا عطفوا على
العسكر فنهبوه وهرب ابنه حمزه وابن أخيه ابو الغطريف، ومعهما مال، ففطن
بهما عامل آمد، وكان العامل سيما غلام نصر الحاجب، فاخذ ما معهما من
المال وحبسهما.
ثم ذكر ان أبا الغطريف مات في الحبس، فاخذ راسه، وكان الظفر بحسين بن
حمدان يوم الخميس للنصف من شعبان، ورحل مؤنس يريد بغداد، ومعه الحسين
ابن حمدان واخوته على مثل سبيله، واكثر اهله، فصير الحسين على جمل
مصلوبا على
(11/55)
نقنق، وتحته كرسي، ويدير النقنق رجل، فيدور
الحسين من موقفه يمينا وشمالا، وعليه دراعه ديباج سابغه قد غطت الرجل
الذى يدير النقنق، ما يراه احد، وابنه الذى كان هرب من مدينه السلام
ابو الصقر قد حمل بين يديه على جمل، وعليه قباء ديباج وبرنس، وكان قد
امتنع من وضع البرنس على راسه، فقال له الحسين: البسه يا بنى فان اباك
البس البرانس اكثر هؤلاء الذين تراهم- وأومأ الى القتال وجماعه من
الصفاريه- ونصبت القباب بباب الطاق، وركب ابو العباس محمد بن المقتدر
بالله وبين يديه نصر الحاجب، ومعه الحربه وخلفه مؤنس وعلى بن عيسى
واخوه الحسين خلف جمله عظيمه، عليهم السواد في جمله الجيش.
ولما صار الحسين بسوق يحيى قال له رجل من الهاشميين: الحمد لله الذى
امكن منك، فقال له الحسين: والله لقد امتلأت صناديقى من الخلع
والالويه، وافنيت أعداء الدولة، وانما اصارنى الى هذا الخوف على نفسي،
وما الذى نزل بي الا دون ما سينزل بالسلطان إذا فقد من اوليائه مثلي
وبلغ الدار ووقف بين يدي المقتدر بالله، ثم سلم الى نذير الحرمي فحبسه
في حجره من الدار، وشغب الغلمان والرجاله يطلبون الزيادة، ومنعوا من
الدخول على مؤنس او على احد من القواد، ومضوا الى دار على بن عيسى
الوزير، فاحرقوا بابه، وذبحوا في اصطبله دوابه وعسكروا بالمصلى ثم سفر
بالأمر بينهم، فدخلوا واعترفوا بخطئهم وكان الغلمان سبعمائة، وكان
الرجاله خلقا كثيرا، فوعدهم مؤنس الزيادة، فزيدوا شيئا يسيرا، فرضوا.
وفي آخر شهر رمضان ادخل خمسه نفر أسارى من اصحاب الحسين، فيهم حمزه
ابنه ورجل يقال له على بن الناجى لثلاث بقين من هذا الشهر، ثم قبض على
عبيد الله وابراهيم ابنى حمدان، وحبسا في دار غريب الخال ثم أطلقا.
وفي هذه السنه في صفر قلد ورقاء بن محمد الشيبانى معونه الكوفه وطريق
مكة، وعزل عن الكوفه إسحاق بن عمران، وكان عقده على طريق مكة وقصبه
الكوفه واربعه من طساسيجها: طسوج السيلحين، وطسوج فرات بادقلا، وطسوج
بابل وخطرنيه والخرب، وطسوج سورا، وخلع عليه وعقد له لواء
(11/56)
وفي هذه السنه اغلظ على بن عيسى لأحمد بن
العباس أخي أم موسى، وقال له:
قد افنيت مال السلطان ترتزق في كل شهر من شهور الأهلة سبعه آلاف دينار،
وكتب رقعه بتفصيلها، فلم تزل أم موسى ترفق لعلى بن عيسى الى ان امسك
عنه.
وفي هذه السنه نظر على بن عيسى بعين رايه الى امر القرامطة فخافهم على
الحاج وغيرهم، فشغلهم بالمكاتبة والمراسله والدخول في الطاعة، وهاداهم
واطلق لهم التسوق بسيراف، فردهم بذلك وكفهم، فخطاه الناس فلما عاينوا
بعد ذلك ما فعله القرامطة حين احرجوا، علموا ان الذى فعله على صواب كله
وشنع على على بن عيسى بهذا السبب انه قرمطى، ووجد حساده السبيل الى
مطالبته بذلك، وكان الرجل ارجح عقلا، واحسن مذهبا من الدخول فيما نسب
اليه.
وفي هذه السنه مات ابو الهيثم بن ثوابه الاكبر بالكوفه في الحبس بعد ان
أخذ منه إسحاق بن عمران مالا جليلا للسلطان ولنفسه وقيل انه احتال في
قتله خوف ان يقر عليه يوما بما أخذ منه لنفسه.
وفيها مات الفضل بن يحيى بن فرخان شاه الديراني النصراني من ديرقنا
فقبض السلطان على جميع املاكه، وكانت له عند رجل مائه وخمسون الف
دينار، فأخذت من الرجل، ووجه شفيع المقتدرى ومعه غلمان وخدم الى قنا
فاحصوا تركته وضياعه.
وفيها مات ادريس بن ادريس العدل في القادسية وهو حاج الى مكة، وكان
امره قد علا في التجارة والمكانه عند السلطان، وكان يحج في كل سنه،
ويحمل معه مالا ينفقه على من احتاج الى النفقة قال محمد بن يحيى
الصولي: انا سمعته يوما يقول: يلزمني كل سنه في الحج نفقه غير ما اصرفه
في أبواب البر خمسه آلاف دينار.
وفيها مات ابو الأغر السلمى فجاءه لسبع خلون من ذي الحجه قال نصف
النهار بعد ان تغدى ثم حرك للصلاة فوجد ميتا.
واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.
(11/57)
|