تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنه سبع وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها اشخص عبد الله بن
حمدان الى مؤنس الخادم لمعاونته على حرب يوسف ابن ابى الساج، فواقعه
باردبيل، وانهزم ابن ابى الساج، فاسر وادخل مدينه السلام مشهرا، عليه
الدراعه الديباج التي ألبسها عمرو بن الليث الصفار، والبس برنسا طويلا
بشفاشج وجلاجل، وحمل على الفالج، وادخل من باب خراسان، فساء الناس ما
فعل به إذ لم تكن له فعله ذميمه في كل من اسره او ظفر به، وحمل مؤنس
وكسى وخلع على وجوه اصحابه، ووكل المقتدر بابن ابى الساج، وحبس في
الدار، وامر بالتوسع عليه في مطعمه ومشربه، وهرب سبك غلام ابن ابى
الساج عند الوقيعه، وكان صاحب امره كله ومدبر جيشه، وهرب معه اكثر رجال
ابن ابى الساج، فقال مؤنس ليوسف: اكتب الى سبك في الاقبال إليك، فان
ذلك مما يرفق الخليفة عليك.
ففعل ابن ابى الساج، وكتب الى سبك، فجاوبه: انى لا افعل حتى اعلم صنعهم
فيك، وإحسانهم إليك، فحينئذ آتى طائعا.
وكانت لابن ابى الساج اشعار وهو محبوس منها:
اقول كما قال ابن حجر أخو الحجى ... وكان امرا راض الأمور ودوسا:
فلو انها نفس تموت سويه ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
ولست بهياب المنيه لو أتت ... ولم ابق رهنا للتأسف والاسى
اجازى على الاحسان فيما فعلته ... وقدمته ذخرا جزاء الذى اسا
وانى لأرجو ان أءوب مسلما ... كما سلم الرحمن في اليم يونسا
فاجزى امام الناس حق صنيعه ... وامنح شكرى ذا العنايه مؤنسا
وفيها ركبت أم موسى القهرمانه بهديه امرت أم المقتدر بتهيئتها واهدائها
عن بنات غريب الخال لأزواجهن بنى بدر الحمامي، فسارت أم موسى في موكب
عظيم
(11/72)
فيه الفرسان والرجاله، وقيد بين يديها اثنا
عشر فرسا بسروجها ولجمها، منها سته بحليه ذهب، وسته بحليه فضه، مع كل
فرس خادم بجنبه عليه منطقه ذهب وسيوف بمناطق ذهب، واربعون طختا من فاخر
الثياب ومائه الف دينار مسيفه، كل ذلك هديه من قبل النساء الى ازواجهن.
وفيها قدم ابو القاسم بن بسطام من مصر الى بغداد، بعد ان كتب اليه في
القدوم لإدارة أدارها على بن عيسى عليه، ومطالبه ذهب الى اخذه بها فلما
قدم وجه الى الخليفة والى السيده بهديه فخمه، واموال جزيله، فقطعا عنه
مطالبه على بن عيسى، وانقطع بنفسه الى الوزير حامد، فاعتنى به وكان ذلك
سببا لفساد ما بين الوزير حامد وبين على بن عيسى، ووقعت بينهما ملاحاة،
خرجا معها الى التهاتر والتساب، وبعث ذلك حامد الوزير الى ان يضمن
للخليفة فيما كان يتقلده على واحمد ابنا عيسى اموالا عظيمه، فأجيب الى
ذلك واستعمل حامد عليها عبيد الله بن الحسن بن يوسف، فبلغته عنه بعد
ذلك خيانة أقلقته، فاستأذن الخليفة وشخص من بغداد الى واسط، واقام بها
أياما وانحدر منها الى الاهواز واحكم ما اراد، واوفى ما عليه من
الأموال مقسطا في كل شهر سوى ما وهب وانفق فزعم انه وهب مائه الف
دينار، وانفق مائه الف دينار.
وقدم الى بغداد في غره ذي القعده وخلع عليه وحمل قال الصولي: رايته
يوما وقد شكا اليه شفيع المقتدرى فناء شعيره، فجذب الدواة الى نفسه
وكتب له بمائه كر، وكتب لام موسى بمائه كر، وكتب لمؤنس الخادم بمائه
كر.
وفي هذه السنه تتابعت الاخبار من مصر باقبال صاحب المغرب إليها
وموافاته الإسكندرية.
ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بوقعه كانت بين اصحاب السلطان وبينهم في
جمادى الاولى، وانه قتل من البرابر نحو من اربعه آلاف، ومن اصحاب
السلطان مثلهم، فندب المقتدر مؤنسا الخادم للخروج الى مصر مره ثانيه،
فخرج في شهر رمضان سنه سبع، وشيعه الى مضربه ابو العباس محمد بن امير
المؤمنين المقتدر واجلاء الناس، وسار في آخر شهر رمضان فكان في الطريق
باقى سنه سبع
(11/73)
وفيها مات ابو احمد بن عبيد الله بن يحيى
بن خاقان لايام مضت من صفر.
وفي آخر صفر لست بقين منه توفى محمد بن عبد الحميد، كاتب السيده، وكان
ممن عرضت عليه الوزارة فاباها، وكان موسرا بخيلا، وكان من مشايخ الكتاب
الذين يعول عليهم في الأمور وفي احكام الدواوين، وأخذت السيده أم
المقتدر بالله من مخلفيه من العين مائه الف دينار، واستكتبت السيده
احمد بن عبيد الله بن احمد ابن الخصيب بعده وكان يكتب لثمل قهرمانتها،
فضبط الأمر ضبطا شديدا وحمد اثره فيه.
واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس الهاشمى.
(11/74)
ثم دخلت
سنه ثمان وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) وفيها ورد مؤنس الخادم
مصر يوم الخميس لاربع خلون من المحرم، وكان المقتدر قد وجهه إليها
لمحاربه الشيعة بها على ما تقدم ذكره في العام قبله، فالفى مؤنس أبا
القاسم الشيعى مضطربا بالفيوم، فخرج القضاه والقواد ووجوه اهل مصر الى
مؤنس، ونزل خارج المدينة، واجتبى ابو القاسم خراج الفيوم، وضياع مصر،
ودفع مؤنس ارزاق الجند من اموال اهل مصر، وباع بعض ضياعها فيما اعطاهم،
وضم مؤنس الجيوش اليه، وقويت بذلك نفوس اهل مصر، وجرت بين ابى القاسم
الشيعى وبين اهل مصر مكاتبات واشعار بعث بها مؤنس الى الخليفة، وفيها
توبيخ لهم وتحامل عليهم، وسب كثير تركنا ذكره لما فيه وقد اجتلبنا
بعضها ما لم يكن فيه كبير رفث، وكذلك ما فعلنا في الجواب، وأول شعر
الشيعى:
أيا اهل شرق الله زالت حلومكم ... أم اختدعت من قله الفهم والأدب
صلاتكم مع من؟ وحجكم بمن؟ ... وغزوكم فيمن؟ أجيبوا بلا كذب
صلاتكم والحج والغزو ويلكم ... بشراب خمر عاكفين على الريب
الا ان حد السيف اشفى لذى الوصب ... واحرى بنيل الحق يوما إذا طلب
الم ترني بعت الرفاهة بالسرى ... وقمت بأمر الله حقا كما وجب
صبرت وفي الصبر النجاح وربما ... تعجل ذو راى فأخطأ ولم يصب
الى ان اراد الله اعزاز دينه ... فقمت بأمر الله قومه محتسب
وناديت اهل الغرب دعوه واثق ... برب كريم من تولاه لم يخب
فجاءوا سراعا نحو اصيد ماجد ... يبادونه بالطوع من جمله العرب
وسرت بخيل الله تلقاء أرضكم ... وقد لاح وجه الموت من خلل الحجب
واردفتها خيلا عتاقا يقودها ... رجال كأمثال الليوث لها جنب
(11/75)
شعارهم جدي ودعوتهم ابى ... وقولهم قولي
على الناى والقرب
فكان بحمد الله ما قد عرفتم ... وفزت بسهم الفلج والنصر والغلب
وذلك دابى ما بقيت ودابكم ... فدونكم حربا تضرم كاللهب
فذكر الصولي انه امر بالجواب، فقال قصيده له طويله، كتبنا منها أبياتا
وحذفنا منها مثل الذى حذفناه مما قبله:
عجبت وما يخلو الزمان من العجب ... لذى خطل في القول اهدى لنا الكذب
وجاء بملحون من الشعر ساقط ... فأخطأ فيما قال فيه ولم يصب
تباعد عن قصد الصواب طريقه ... فما عرفت تاويل اعرابه العرب
ولو كان ذا لب وراى موفق ... لقصر عن ذكر القصائد والخطب
فمن أنت يا مهدى السفاهه والخنا ... ابن لي فقد حقت على وجهك الريب
فلو كنت من اولاد احمد لم يغب ... عن الناس ما تسمو اليه من النسب
ولو كنت منهم ما انتهكت محارما ... يذبون عنها بالاسنه كالشهب
ولم تقتل الأطفال في كل بلده ... فتركب من أماتهم شر مرتكب
ابحت فروج المحصنات وبعت من ... اصبت من الاسلام بيعك للجلب
وكم مصحف خرقته فرماده ... مثاره مسفى الريح من حيث ما تهب
كفرت بما فيه وبدلت آيه ... وقضبت حبل الدين كفرا فما انقضب
وقد رويت أسيافنا من دمائكم ... فلم ينجكم منا سوى الجد في الهرب
تضيء بأيدينا وتظلم فيكم ... فكانت لنا نارا وكنتم لها حطب
فقل لي اى الناس أنتم وما الذى ... دعاكم الى ذكر الجحاجحة النجب
أولئك قوم خيم الملك فيهم ... فشدت أواخيه ومدت له الطنب
بهم غزونا اما سالت وحجنا ... فشق لما اسمعت جيبك وانتحب
أيا اهل غرب الله اظلم امركم ... عليكم فأنتم في نكوب وفي حرب
ولو كانت الدنيا مطيه راكب ... لكان لكم منها بما حزتم الذنب
قال محمد بن يحيى الصولي: فلما صنعت هذا الشعر عن عهد الخليفة الى
أوصلني الى نفسه، فانشدته جميعه، فلما فرغت من الإنشاد قال على بن عيسى
للخليفة: يا سيدي، هذا عبدك الصولي- وكان جده محمد الصولي حادي عشر
(11/76)
النقباء، وهو الذى أخذ البيعه للسفاح مع
ابى حميد- قال: فنظر الى كالإذن لي في الكلام فتكلمت ودعوت قال: فامر
لي بعشره آلاف درهم.
وكتب ابو القاسم الى اهل مكة يدعوهم الى الدخول في طاعته، ويعدهم بحسن
السيرة فيهم، فأجابوه: ان لهذا البيت ربا يدفع عنه، ولن نؤثر على
سلطاننا غيره.
وبقي ابو القاسم الشيعى بالفيوم ومؤنس بمصر، وكل واحد منهما محجم عن
لقاء صاحبه، وساءت احوال من بينهما ومعهما.
وفي هذه السنه غلت الأسعار ببغداد، فظنت العامه ان ذلك من فعل حامد بن
العباس، بسبب ضمانه للمقتدر، ما كان ضمنه، وانه هو منع من حمل الاطعمه
الى بغداد، فشغبوا عليه وسبوه، وفتحوا السجون وكبسوا دار صاحب الشرطه
محمد بن عبد الصمد، وكان ينزل في الجانب الشرقى في الدار المعروفه لعلى
بن الجهشيار، وانتهبوا بعض دوابه وآلته حتى تحول الى باب خراسان الى
الجانب الغربي، ووثب الناس به في الجانب الغربي أيضا، حتى ركب اليهم
محمد بن عبد الصمد في جيش كثيف في السلاح، فارتدعوا، وقتل قوم من
العامه بباب الطاق وسعر السلطان على الدقاقين، فكان ذلك أشد على الناس
واعظم، واشار نصر الحاجب ان يترك الناس، ولا يسعر عليهم، فكان ذلك
صوابا، وصلح امر السعر.
واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس أخو أم موسى.
(11/77)
ثم دخلت
سنه تسع وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها زاد شغب الناس
ببغداد على حامد بن العباس الوزير، بسبب غلاء الأسعار حتى صاروا الى حد
الخلعان، وحاربهم السلطان عند باب الطاق، وركب هارون ابن غريب الخال
ونازوك وياقوت وغيرهم، بعد ان فتحت العامه السجون، ووثبوا على ابن درهم
خليفه صاحب المعونة، وأرادوا قتله حتى حماه بعضهم، فلما راى ذلك حامد
بن العباس دخل الى المقتدر فقال له: لعبدك حوائج، ان رايت قضاءها له،
اكدت بذلك إنعامك عليه، قال: افعل، فما هي؟ قال: أولها فسخ ضماني فقد
جاء من العامه ما ترى، وظنوا ان هذا الغلاء من جهتي فأجاب المقتدر الى
ذلك، وساله ان يأذن له في الشخوص الى واسط، لينفذ عماله بما فيها من
الاطعمه الى بغداد، فأجابه الى ذلك، وساله ان يعفيه من الوزارة فلم
يجبه الى ذلك، فشخص حامد الى واسط ولم يبق غاية في حمل الاطعمه، حتى
صلح امر الأسعار ببغداد ثم قدم في غره شهر ربيع الآخر، فتلقاه الناس،
وشكروا فعله، وقد كان المقتدر عرض على على بن عيسى الوزارة فاباها،
فكساه ووصله، واعطاه سوادا يدخل به عليه، كما يفعل الوزير، فاستعفى من
ذلك ولم يفارق الدراعه.
وفي هذه السنه زحف ثمل الفتى الى الإسكندرية، فاخرج عنها قائد الشيعة
ورجال كتامه، والفى لهم بها سلاحا كثيرا وأثاثا ومتاعا واطعمه، فاحتوى
على الجميع واطلق كل من كان في سجنهم ثم اقبل ممدا لمؤنس واجتمعا
بفسطاط مصر، وزحفا الى الفيوم لملاقاه ابى القاسم الشيعى ومناجزته،
ومعهما جنى الصفواني وغيره من القواد، فجعل مؤنس يقصر المحلات، فعوتب
على ذلك، فقال لهم: انكم انما تمشون في طرق المنايا، فلعل الله يصرفهم
عنا، ويكفينا امرهم كما فعل قبل هذا فلقى جنى الصفواني بعض قواد ابى
القاسم، فهزمه وقتل كثيرا ممن كان معه، وانهزم الباقون الى ابى القاسم،
فراعه امرهم، وقفل عن الفيوم منصرفا الى إفريقية لليلة بقيت من صفر،
وحمل ما
(11/78)
خف من امتعته، واحرق الباقى بالنار، وأخذ
على طريق قليله الماء، فهلك كثير من رجاله عطشا بعد ضربه الف سوط، وقطع
يديه ورجليه وكان الحلاج هذا رجلا
(11/79)
غويا خبيثا، يتنقل في البلدان، ويموه على
الجهال، ويرى قوما انه يدعو الى الرضا
(11/80)
من آل محمد، ويظهر انه سنى لمن كان من اهل
السنه، وشيعى لمن كان مذهبه التشيع،
(11/81)
ومعتزلي لمن كان مذهبه الاعتزال وكان مع
ذلك خفيف الحركات شعوذيا قد حاول
(11/82)
الطب، وجرب الكيميا، فلم يزل يستعمل
المخاريق حتى استهوى بها من لا تحصيل
(11/83)
عنده، ثم ادعى الربوبيه، وقال بالحلول،
وعظم افتراؤه على الله عز وجل ورسله،
(11/84)
ووجدت له كتب فيها حماقات، وكلام مقلوب
وكفر عظيم وكان في بعض كتبه:
انى المغرق لقوم نوح والمهلك لعاد وثمود، وكان يقول لأصحابه: أنت نوح
وأنت موسى،
(11/85)
وأنت محمد، قد اعدت ارواحهم الى أجسادكم
ويزعم بعض الجهله المتبعين له بانه كان يغيب عنهم ثم ينزل عليهم من
الهواء، اغفل ما كانوا، وحرك لقوم يده فنثر منها دراهم،
(11/86)
وكان في القوم ابو سهل بن نوبخت النوبختى
فقال له: دع هذا وأعطني درهما واحدا عليه اسمك واسم ابيك، وانا أومن
بك، وخلق كثير معى فقال له: كيف وهذا لم يصنع؟،
(11/87)
فقال له: من احضر ما ليس يحاضر صنع غير
مصنوع، قال محمد بن يحيى الصولي: انا رايت هذا الرجل مرات، وخاطبته،
فرايته جاهلا يتعاقل، وعييا
(11/88)
يتفصح، وفاجرا يظهر التنسك، ويلبس الصوف،
فأول من ظفر به على بن احمد الراسبى، لما اطلع منه على هذه الحال،
فقيده وادخله بغداد على جمل قد شهره،
(11/89)
وكتب بقصته وما ثبت عنده في امره، فاحضره
على بن عيسى ايام وزارته في سنه احدى وثلاثمائة، واحضر الفقهاء، ونوظر
فاسقط في لفظه، ولم يحسن من القرآن شيئا
(11/90)
ولا من الفقه ولا من الحديث ولا من الشعر،
ولا من اللغة، ولا من اخبار الناس فسحفه وصفعه، وامر به فصلب حيا في
الجانب الشرقى ثم في الجانب
(11/91)
الغربي، ليراه الناس، ثم حبس في دار
الخليفة، فجعل يتقرب اليهم بالسنه، فظنوا ما يقول حقا ثم انطلق، وقد
كان ابن الفرات كبسه في وزارته الاولى وعنى بطلبه موسى ابن خلف فافلت
هو وغلام له، ثم ظفر به في هذه السنه، فسلم الى الوزير حامد،
(11/92)
وكان عنده يخرجه الى من حضره فيصفع وينتف
لحيته.
واحضر يوما صاحب له يعرف بالسمرى فقال له حامد الوزير: أما زعمت بان
صاحبكم هذا كان ينزل عليكم من الهواء، اغفل ما كنتم؟ قال: بلى، فقال
له:
فلم لا يذهب حيث شاء، وقد تركته في دارى وحده، غير مقيد، ثم احضر حامد
الوزير
(11/93)
القاضى والفقهاء واستفتاهم فيه، فحصلت عليه
شهادات بما سمع منه اوجبت قتله، فعرف المقتدر بما ثبت عليه، وما افتى
به الفقهاء فيه، فوقع الى صاحب شرطته محمد ابن عبد الصمد بان يخرجه الى
رحبه الجسر، ويضربه الف سوط، ويقطع يديه ورجليه، ففعل ذلك به، ثم احرقه
بالنار وذلك في آخر سنه ثلاثمائة وتسع.
واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس.
(11/94)
ثم دخلت
سنه عشر وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) وفي هذه السنه اعتل
المقتدر بالله عله شديده، فزعموا ان أم موسى القهرمانه أرسلت الى بعض
اهله برسالة تقرب عليه ولايه الأمر، وانكشف ذلك له ولامه وجميع خاصته،
وقبضوا عليها وعلى أختها أم محمد وأخيها احمد بن العباس، وأخذت منهم
اموال، وأخذت لهم ودائع عند قوم وكثر الارجاف بحامد بن العباس، والطعن
عليه، وسميت الوزارة لأقوام، فقيل يخرج على بن محمد بن الفرات فيولاها،
وقيل يجبر على بن عيسى على ولايتها، وقيل ابن ابى الحوارى، وقيل ابن
ابى البغل، فكتبت رقعه وطرحت في الدار التي فيها السلطان، وفيها:
قل للخليفة قل لي ... ان كنت في الحكم تنصف
من الوزير علينا ... حتى نقر ونعرف
احامد فهو شيخ ... واهي القوى متخلف
أم البخيل ابن عيسى ... فهو المنوع المطفف
أم الذى عند زيدان ... للمشورة يعلف
أم الفتى المتانى ... أم الظريف المغلف
أم ابن بسطام اعجل ... أم الشيخ المعفف
أم طارئ ليس ندري ... من اى وجه يلقف
الفتى المتانى ابن الخصيبى، والشيخ المعفف ابن ابى البغل.
وفي هذه السنه استضعف السلطان صاحب شرطه بغداد فيما كان من العامه،
فعزله وولى شرطته نازوك المعتضدي، فبانت صرامته في أول يوم، وقام
بالأمر قياما لم يقم مثله احد وفل من حد الرجاله، وكانت نارهم موقده،
وحاربهم حتى أذعنوا وتناولوا حوائجهم منه بخضوع له بعد ان قصدوا داره
ليحرقوها، وهو في وقته الذى ولى فيه نازل
(11/95)
على دجلة وعلى الزاهرية، فاستعان بالغلمان
فشردهم واعانه نصر الحاجب عليهم، وهو كان سبب توليته، لأنه بلغه ان
عروسا زفت الى زوجها بناحيه سوق الشتاء، فخرج بعض اولاد الرجاله، ومعه
جماعه منهم، فأخذها وأدخلها الى داره، وفجر بها.
ثم صرفها الى أهلها، فأظهر الناس شده الانكار لهذا، وعظموه بحسب عظمه،
وكل ما قدر عليه نصر الحاجب ان اسقط رزق هذا الرجل، ونفاه، ثم اشار
بولاية نازوك فاشتد عليهم، وصلب في امرهم وشكر له فعله فيهم.
وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بْن عبد الملك.
(11/96)
ثم دخلت
سنه احدى عشره وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) كانت هذه السنه ببغداد
وما والاها شديده الوطأة على الناس، حتى سميت سنه الدمار وذلك ان على
بن محمد بن الفرات ولى فيها الوزارة المره الثالثه، وتقبض على الوزير
حامد بن العباس وعلى على بن عيسى وذلك يوم الخميس لتسع ليال بقين من
شهر ربيع الآخر، فدخل الجنابى والقرامطة البصره ليله الاثنين بعد
ولايته باربعه ايام وكان خبر ولايه ابن الفرات والقبض على حامد وعلى بن
عيسى قد وصل الى الجنابى واصحابه من وقته من قبل من كان يكاتبهم، لان
بعض البصريين الثقات حكوا ان القرامطة كانوا يقولون لهم يوم دخولهم:
ويلكم ما ارك سليطينكم في ابعاد ذلك الشيخ عن نفسه، وليعلمن ما يلقى
بعده قالوا: ونحن لا ندري ما يقولون حتى وردنا الخبر بعد ذلك بالقبض
على حامد وعلى وولايه ابن الفرات، فعلمنا ما ارادت القرامطة، وان الخبر
أتاهم من وقته في جناح طائر على ما ازكن الناس آلته، واعتقدوا صحته
فعاثت القرامطة في البصره، ودخلت الخيل المربد، وكان سبك المفلحى
القائد بها، فلما سمع الصيحة وقت الفجر فخرج وهو يظن انها لفزعه دارت
فلما توسط المربد يريد الدرب رأته القرامطة وهم وقوف بجانبي الشارع،
فشدوا عليه فقتلوه، وقتلوا بعض من كان معه، وركض الباقون فافلتوا،
وقاتلهم اهل البصره في شارع المربد الى عشى ذلك اليوم، ولا سلطان معهم
فلم يظفروا بهم الا بالنار فإنهم كانوا كلما حووا موضعا احرقوه، وانهزم
اهل البصره وجال القرامطة في شارع
(11/97)
المربد، ومروا بالمسجد الجامع وسكه بنى
سمره حتى انتهوا الى شط نهر البصره المعروف بنهر ابن عمر الذى كان انفذ
حفره عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز، وكانوا يخرجون من البصره ليلا
الى معسكرهم بظهر البصره، ولا يبيت بها منهم احد فرقا، فأقاموا أياما
على ذلك، ثم انصرفوا، وقد كان السلطان انفذ الى البصره حين بلغه ذلك
بنى بن نفيس وجعفر بن محمد الزرنجى في جيش.
ثم ولى شرطه البصره محمد بن عبد الله الفارقى وانفذه في جيش ثان.
وخرج ابن الفرات في هذه الوقعه مغيظا على الناس، واطلق يد ابنه المحسن،
فقتل الناس، وأخذ أموالهم، وغلبا على أم المقتدر بالله وملكا امرها
وكان الذى سفر لهما في ذلك مفلح الخادم الأسود، وكان الأمر كله اليه
والى كاتبه النصراني المعروف ببشر بن عبد الله بن بشر، وكان مجبوبا،
فاحتالوا على مؤنس المظفر، حتى اخرجوه الى الرقة وازعجوه من باب
الشماسيه فكان كالنفى له وكان حامد بن العباس قد استتر وعليه من المال
الذى عقده على نفسه الف الف دينار، فاحتال حامد الى ان وصل الى باب
السلطان، فدخل الى نصر الحاجب، فقال له: قد تضمننى بألف الف دينار،
فخذوا منى الف الف دينار وخمسمائة الف دينار واحبسونى عندكم، واحتسبوا
لابن الفرات بألف الف دينار التي تضمننى بها ولا تطلقوا ايديهم على
فاخبر بذلك الخليفة، واشار به عليه، وقال: هاهنا فضل مال، ويكون في
حبسنا رجل هو بيت مال للسلطان، فتلوموا في ذلك وقال المحسن لمفلح
الخادم يفسد على امرى كله، ولا بد من تسليمه الى، فلم يزل مفلح
بالمقتدر والسيده حتى زالا عن الصواب، وسلما حامدا الى ابن الفرات فكان
يصفع ويضرب، ويخرجه المحسن إذا شرب فيلبسه جلد قرد، له ذنب، ويقيم من
يرقصه ويصفعه، ويشرب على ذلك، واجرى على حامد افاعيل قبيحه ليست من
افاعيل الناس، ولا يستجيزها ذو دين ولا عقل، ولم يصل من ماله كثير شيء
الى السلطان، وضاع ما كان بذله، وحدر الى واسط وسلم الى البزوفري
العامل، فقتله، واخرجه الى اهل واسط، وسلمه الى من يجنه فاجتمع الناس،
وصلوا عليه وعلى قبره أياما متواليه.
وزعم ابن الفرات للسلطان ان على بن عيسى خائن ممالئ للقرمطى، فصادره
على مال استخرج بعضه من قبله، ثم نفاه الى اليمن ووكل به رجلا من
اصحابه، وامره
(11/98)
بالاحتيال لقتله، فقبض الله يده عن ذلك
بصاحب لشفيع اللؤلؤى صاحب البريد، كان قد وكله به فلما خرج عن مكة لقيه
اصحاب ابن يعفر، فحالوا بينه وبين الموكلين به، وأرادوا قتل الموكل به
لأنه كان أضجعه بمكة ليذبحه، فخالفه عون كان معه، ودفع عنه، فمنع على
بن عيسى من قتل الموكل به ولما بلغ ابن يعفر تلقاه اخوه ومعه هدايا
عظيمه القدر، فاكرمه وانزله في دار عظيمه، وانزل الموكل به في دار
غيرها، ولم يزل على بن عيسى يجرى بعد ذلك على العون المخالف في قتله،
وعلى عياله الجرايات دهرا طويلا.
ووجه المحسن ابن ابى الحوارى الى الاهواز، فقتل بموضع يعرف بحصن مهدى،
وكان نصر الحاجب يدارى المحسن وأباه، ويطيل عنده الى نصف الليل القعود،
وينصرف عنه حتى اتصل به ان المحسن ضمن لعشرين غلاما عشرين الف دينار،
على ان يقتلوا نصرا إذا خرج من عند ابيه في بعض الممرات فتحفظ منه،
وكان لا يركب الا في غلمان كثيره وسلاح عتيد، واحتال في ازاله نصر بكل
حيله، فما قدر على ذلك، واحتال على شفيع المقتدرى، فدس من يقع فيه
ويقول: انه ان خرج الى الثغر يحصل عنده مال عظيم، فلم يجب الى ذلك،
ونفى أبا القاسم سليمان ابن الحسن وأبا على محمد بن على بن مقله الى
شيراز، وكتب الى ابراهيم بن عبد الله المسمعي في اتلافهما فسلمهما
الله، ونفى النعمان بن عبد الله الكاتب، وكان رجل صدق، وقد اعتزل
الاعمال، ولزم بيته وغله ضيعه له، فغربه الى واسط، ووجه المحسن رجلا
كان يصحب ابن ابى العذافر خلفه، فذبحه بواسط، ونفى ابراهيم بن عيسى
وعبد الله ابن ما شاء الله الى واسط، ودس إليهما من قتلهما، وطالب ابن
حماد الموصلى الكاتب فقال له نصر الحاجب: سلمه الى وعلى مائه الف دينار
من قبله، واسلمه بعد هذا إليكم على ان تلزموه بيته، فلم يفعل المحسن
ذلك وعنف به وشتمه، فرد عليه ابن حماد القول فقتله.
وكان ابو بكر احمد بن محمد بن قرابه يتكلف للمحسن نفقاته كلها من ماله
ايام نكبه ابيه وخموله، فلما ولى الوزارة اكرمه أبوه، واقبل عليه فحسده
المحسن، وجعل يحتال في تلفه، وعزم على ان يركبه معه ليلا في طيارة من
داره التي يسكنها المحسن الى دار ابيه بالمخرم، فإذا توسط دجلة امر من
يرمى بابن قرابه فيها، وكانت ايام مدود
(11/99)
قال الصولي: فعرفني بذلك سرا خادم للمحسن
يقال له مريث لموده كانت بيني وبينه فاشعرت ابن قرابه بما ذهب اليه
فيه، فلم يدخل له دارا ولا جلس معه في طيار الى ان فرج الله امرهم، ولم
تطل المده قال الصولي: وكان المحسن مقيما عندي ايام نكوبهم، وكنت كثير
الانحراف اليهم، فلما عادوا الى المنزله التي كانوا بعدوا عنها اختصني
على بن الفرات وأمرني بملازمه مجلسه وزاد في رزقي سبعين دينارا وقال
لي:
انظر ما تريد من الاعمال اقلدك اياه، فسعى بي المحسن الى ابيه بفعل واش
وشى بي اليه، فثقل جانبي على الوزير، حتى قلت في ذلك قصيده فاصغى إليها
وقبل اعتذارى فيها، وزال ما كان في نفسه، وبقي المحسن على غله، ومن
الشعر إذا اختصرناه.
قل لرحا ملكنا وللقطب ... وسيد وابن ساده نجب
وللوزير البعيد همته ... البالغ المجد غاية الرتب
لا والذى أنت من فواضله ... يا منقذ الملك من يد النوب
ما كان شيء مما وشى لكم ... ذو حسد مفتر وذو كذب
هل عله اوجبت على سوى ... مدحى وشكرى في الجد واللعب
اكفر نعماكم ويشكرها ... عدوكم ان ذا من العجب
فسائلوا علم ذاك انفسكم ... فليس رأيي عنكم بمحتجب
متى سمعتم من السعاة أراني ... الله أشلاءهم على الخشب
واوطن الحتف في ديارهم ... حتى يبادوا بالويل والحرب
وليكم راس مالكم ابدا ... والراس ان ضاع ليس كالذنب
وفي هذه السنه توفى يانس الموفقى، وكان رفيع المكانه عند السلطان، عظيم
الغناء عنه، ولقد عزى به نصر الحاجب يوم وفاته، فجعل يبكى ولا يتعزى،
وقال: لقد اصيب الملك مصيبه لا تنجبر، وقال: من اين للخليفة رجل مثله!
شيخ ناصح مطاع ينزل عند سور داره من خيار الفرسان والغلمان والخدم الف
مقاتل، فلو حزب السلطان امر وصاح به صائح من القصر لوافاه من ساعته في
هذا العدد قبل ان يعلم بذلك غيرهم من جنسه فلما توفى يانس انتصح نصر
الحاجب الخليفة في أمواله
(11/100)
وكانت عظيمه، وكانت له ضياع ومستغلات
وامتعه ووطاء وكسوه لا يعرف لشيء منها قدر، فقال نصر الحاجب للمقتدر ان
يأنسا خلف ضياعا تغل ثلاثين الف دينار الى ما خلف من سائر المال، واشار
عليه بان يوجه ابنه أبا العباس الى دار يانس، فيصلى عليه ويأمر بدفنه،
ويحضر جميع فرسانه وخدمه وحاشيته فيقول لهم: انا مكان يانس لكم وفوقه،
وزائد في الاحسان إليكم، والتفقد لأحوالكم ثم يحصى ما تخلفه ولا يفوت
منه شيء، فيجمع بذلك الاستحماد الى الرجال والاحراز للمال فاصغى
المقتدر الى نصيحه نصر الحاجب، وظهر له صواب قوله: فلما خرج عنه حوله
ابن الفرات وولديه عن رايه، وامر المحسن بتحصيل التركه فاذهب أكثرها،
وخان الخليفة فيها وأخذ اكثر ذلك لنفسه، حتى لقد كانت الشقاق الدبيقيه
الشقيريات التي اقل ثمن كل واحده منها سبعون دينارا، تحشى بها المخاد
الأرمينيه والمساور، وتباع فتشترى للمحسن على ان الذى داخلها حشو صوف،
وكذلك فعل بالقصب المرتفع الرشيدي والملحم الشعبى والنيسابورى، ولقد
أخذ من الوسائد الرفيعه والمساور المحكمه فحشاها بالندو العود، عتيا
وطغيانا، وكذلك كان يتكئ عليها.
ومما يعتد به على ابن الفرات وولده ان احمد بن محمد بن خالد الكاتب
المعروف بأخي ابى صخره كان قد ولى الدواوين وكان من مشايخ الكتاب
ورؤسائهم فتوفى في هذا العام وخلف ورثه احداثا، فانهى كثره ما خلف من
المال الى المقتدر، فامر بالتوكيل بخزانته وداره، فسار بعض الورثه الى
المحسن وضمنوا له مالا على ازاله التوكيل وحل الاعتقال، فكلم المحسن
أباه في ذلك، وركب الى المقتدر، فقال له: ان المعتضد والمكتفي قد كانا
قطعا الدخول على الناس في المواريث، وانا ارى لمولاي ان يحيى رسومهما،
وان يأمر باثبات عهد الا يتعرض احد في ميراث، فأجابه المقتدر الى ذلك
إذ ظن انها نصيحه منه، فسلمت الدار الى ورثه الكاتب، وأنشأ ابن الفرات
كتابا عن المقتدر في اسقاط المواريث نسخته.
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن امير المؤمنين المقتدر بالله يؤثر
في الأمور كلها
(11/101)
ما قربه من الله عز وجل، واجتلب له جزيل
مثوبته، وواسع رحمته، وحسنته العائده على كافه رعيته كما جعل الله في
طبعه، واولج في بيته، من التعطف عليها وايصال المنافع إليها، وابطال
رسوم الجور التي كانت تعامل بها، جاريا مع احكام الكتاب والسنه، عاملا
بالآثار عن الافاضل من الأئمة، وعلى الله يتوكل امير المؤمنين، واليه
يفوض وبه يستعين.
وانهى الى امير المؤمنين المقتدر بالله ابو الحسن على بن محمد الوزير
ما يلحق كثيرا من الناس من التحامل في مواريثهم، وما يتناول على سبيل
الظلم من أموالهم، وانه قد كان شكى الى المعتضد بالله مثل ذلك، فكتب
الى القاضيين يوسف بن يعقوب وعبد الحميد يسالهما عن العمل في المواريث،
فكتبا اليه: ان عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود ومن اتبعهم من الأئمة وعلماء
هذه الامه رحمهم الله رأوا ان يرد على اصحاب السهام من القرابة ما يفضل
عن السهام المفروضه لهم في كتاب الله عز وجل من المواريث ان لم يكن
للمتوفى عصبه يرثون ما بقي، ممتثلين في ذلك كتاب الله عز وجل في قوله
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ،
* ومحتملين على سنه رسول الله في توريث من لا فرض له في كتاب الله من
الخال وابن الاخت والجده، وان تقليد العمال امر المواريث دون القضاه
شيء لم يكن الا في خلافه المعتمد على الله، فانه خلط في ذلك، فامر
المعتضد بابطال ما كان الأمر جرى عليه ايام المعتمد في المواريث، وترك
العمل فيها بما روى عن زيد بن ثابت بان يرد على ذوى الارحام ما اوجب
الله رده وأولو العلم من الأئمة.
فامر امير المؤمنين المقتدر بالله ان يجرى الأمر على ذلك ويعمل به،
وكتب يوم الخميس.
لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة احدى عشره وثلاثمائة، فلما نفذ
كتاب المقتدر بهذا، واشهد على ورثه ابن خالد الكاتب بتسليم ما خلفه
وقبضهم له وجه المحسن، اليهم من أخذ جميع مالهم وحبسهم واخافهم.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.
(11/102)
ثم دخلت
سنه اثنتى عشره وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[أخبار متفرقة]
فيها ورد الخبر في أول المحرم على الخليفة ببغداد بقطع الجنابى
والقرامطة على الحاج، وما حدث فيهم من القتل والاسر، وذهاب عامه الناس،
آل السلطان وغيرهم، وان عبد الله بن حمدان قد قلد امر الطريق.
فمضى الناس في القافلة الاولى فسلموا في أول مسيرهم، حتى إذا صاروا
بفيد اتصل بهم خبر القرامطة، فتوقفوا، وورد كتاب ابى الهيجاء على نزار
بن محمد الخراسانى، وكان في القافلة الاولى بان يتوقف عليه حتى
يجتمعوا، فتوقف نزار وتلاحقت قوافل الشارية والزيريه والخوارزمية، فلما
صاروا باجمعهم بالهبير غشيهم الجنابى واصحابه القرامطة، فقتلوا عامتهم
واتصل الخبر بسائر القوافل، وقد اجتمعت بفيد، فتشاوروا في العدول الى
وادي القرى، ولم يتفقوا على ذلك ثم عزموا على المسير، فقطع بهم الجنابى
واسر ابو الهيجاء القائد، وافلت نزار وبه ضربات أثخنته، واسر ابن
للحسين ابن حمدان واحمد بن بدر العم واحمد بن محمد بن قشمرد وابنه،
واسر مازج الخادم صاحب الشمسه، وفلفل الفتى ونحرير فتى السيده، وكان
على القافلة الثالثه، وقتل بدر ومقبل غلاما الطائي، وكانا فارسين
مشهورين ممن يسير بالقوافل ويدافع عنها، ولهما قدر وذكر، واسر خزرى
وابنه، وكانا من القواد، وقتل سائر الجند، وأخذت القرامطة الشمسه وجميع
ما كان للسلطان من الجواهر والطرائف، وأخذوا من اموال الناس ما لا يحصى
وتحدث من افلت بانه صار اليهم من الدنانير والورق خاصه نحو الف الف
دينار، ومن الأمتعة والطيب وسائر الأشياء ما قيمته اكثر من هذا، وان
جميع عسكره انما كان ثمانمائه فارس، وسائرهم رجاله وكل من افلت من أيدي
القرامطة،
(11/103)
اكلهم الاعراب، وسلبوا ما بقي معهم مما كان
تخباه الناس من أموالهم، ومات اكثر الناس عطشا وجوعا.
ولما صح عند المقتدر ما نال الناس وناله في رجاله وماله عظم ذلك عنده
وعند الخاصة والعامه، وجل الاغتمام به على كل طبقه، وتقدم الخليفة الى
ابن الفرات في الكتاب الى مؤنس الخادم بان يقدم من الرقة ليخرج الى
القرمطى وكتب اليه نصر الحاجب بالاستعجال والبدار، فسلك الفرات في
خاصته واسرع في مسيره، ووصل الى بغداد في غره شهر ربيع الاول.
ذكر التقبض على ابن الفرات وابنه وقتلهما
وفي يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الآخر، قبض على على بن محمد
ابن الفرات الوزير، واختفى المحسن ابنه، فاشتد السلطان في طلبته، وعزم
على تفتيش منازل بغداد كلها بسببه، وامر بالنداء بهدر دم من وجد عنده
وأخذ ماله، وهدم داره، وتشدد على الناس في ذلك التشدد الذى لم يسمع
بمثله، فجاء من اعطى نصرا الحاجب خبره، ودله على موضعه، فوجه بالليل من
كبسه واخذه، وقد تشبه بالنساء وحلق لحيته، وتقنع، فاتى به على هيئته
وفي زيه لم تغير له حال، وضرب في الليل بالدبادب ليعلم الناس انه قد
أخذ، وغدت العامه الى دار الخليفة ليروه، وتكاثر الناس، وازدحموا للنظر
اليه، وهو في ذلك الزي الذى وجد عليه ثم احضر ابو القاسم عبد الله بن
محمد بن عبيد الله الخاقانى فاستوزر، واقعد، وخلع عليه للوزارة،
فاستوزر منه رجل قد تكهل وفهم وجرب، وفارق ما كان عليه في ايام ابيه من
الحداثة، وغلب عليه الوقار والسكينة.
وكان مؤنس الخادم هو الذى اشار به، وزين امره وحض المقتدر على
استيزاره، فأول ما قعد نصب لمناظرة ابن الفرات وولده، ومحاسبتهما رجلا
يعرف بابن نقد الشر، فتشدد عليهما في الأموال فلم يذعنا الى شيء، إذ
علما انهما تالفان، وكان في
(11/104)
أول ضمهما قد دسسا الى من تضمن عنهما مالا
عظيما على ان يحبسا في دار السلطان، ولا ينطلق عليهما أيدي اعدائهما،
فهم المقتدر بذلك، واصغى اليه، فاجتمع الرؤساء:
مؤنس وشفيع اللؤلؤى ونصر وشفيع المقتدرى ونازوك وكلهم عدو لابن الفرات
ومطالب له، فسعوا في احاله راى الخليفة عن ضمه الى الدار، وتقدموا الى
الغلمان بان يشغبوا ويحملوا السلاح ويقولوا: قد عزم السلطان ان يستوزر
ابن الفرات مره رابعه لا نرضى الا بقتله على عظيم ما احدث في الملك،
وافسد من الأمور، واتلف من الرجال.
ففعلوا، وكتب شفيع اللؤلؤى الى المقتدر، وكان صاحب البريد والثقه في
ايراد الاخبار يشنع عليه قيام الغلمان، وتشوف الناس الى الخلعان، فامر
المقتدر بقتل ابن الفرات وابنه، وتقدم الى نازوك بان يضرب أعناقهما في
الدار التي كانت لابن الفرات، ويوجه اليه برأسيهما، فنفذ ذلك من وقته
وبعث بالرأسين في سفط ثم رد السفط الى شفيع اللؤلؤى، فوضع الرأسين في
مخلاه وثقلهما بالرمل وغرقهما في دجلة وفي هذا العام قبل القبض على ابن
الفرات بايام توفى محمد بن نصر الحاجب، وكان خلفا من ابيه، قال الصولي:
عرفته والله فتى كريما عالى الهمه، جميل الأمر، سرى الإله، كثير
المحاسن، قد اشتهى جمع العلم وكتب الحديث، وتخلف كتبا باكثر من الفى
دينار.
قال: وكان قد خرج على اماره الموصل ونواحيها، فدعاني الى الخروج معه
على ان اقيم شهرا او شهرين بألف دينار معجلا عند الخروج والف مؤجلا عند
الانصراف.
قال: فلم ينتظم لي امرى على الخروج معه، ففعل قريبا مما قال، وانا مقيم
بمنزلي.
ثم ان أباه لم يصبر عنه فاقدمه بغداد، فقلت شعرا اذكر فيه مفارقته
وقدومه على عروض كان يعجبه، وهو هذا اختصرناه:
حرق ذابت لها الأحشاء ... من حر الفراق
بقيت وقفا على هم ... واحزان بواقى
آه من فجعه بين ... جلبت ماء المآقي
وتباريح اشتياق ... ساق قلبي للشياق
ان صبري عن ابى نصر ... لضرب من نفاق
(11/105)
عن امير جل عن اتيان ... افعال دقاق
واسع الهمه في الافضال ... ممدود الرواق
نشرب الصافى من جدواه ... في كاس دهاق
هو بحر واعالى الناس ... في الجود سواقي
ان أكن عنك تاخرت ... بجد ذي محاق
وزمان آخذ من ... كل حر بالخناق
فلقد شد سروري ... ونشاطي في وثاق
ووجدت الماء في بعدك ... كالملح الزعاق
فحمدت الله إذ من ... بقرب وتلاقى
وعلى الحج مقرونا ... بغزو وعتاق
ان تسمحت لنفسي ... بعد هذا بفراق
وفي هذه السنه توفى محمد بن عبيد الله بن خاقان والد الوزير وعزى منه،
فكان جميل العزاء، وملتزما للصبر واعتل الوزير عبد الله بن محمد في
جمادى الآخرة من هذا العام بعد وفاه ابيه، فكان يتحامل على الجلوس
للناس، فيدخلون عليه، وهو لقى شديد العله، فلم يزل على هذه الحال حتى
استهل شهر رمضان، ثم صلحت حاله ونقه من علته، وكان الوزير قد نافر نصرا
الحاجب وعمل عليه عند المقتدر، حتى هم بالقبض على نصر، وظن الوزير ان
ذلك مما يسر به مؤنسا في نصر إذ كان توهم ان الذى بينهما فاسد، وكانا
عند الناس متخالفين، وهما في الحقيقة كنفس واحده، فقدم مؤنس وبعث اليه
نصر كاتبه، فتلقاه باسفل المدائن، وعرفه خبر نصر كله، فوجده لنصر
كمنزله نفسه، وقال للكاتب: قل له عنى: بحقي عليك، ان تلقيتني واخليت
الدار، فلا مؤنه عليك منى، فان كنت لا بد فاعلا فبالقرب، فتلقاه نصر
بسوق الأحد، وكان دخول مؤنس في أول سنه ثلاث عشره وسيقع خبره في موضعه
ان شاء الله.
وفي ذي القعده من هذه السنه قدم خلق كثير من الخراسانيه الى مدينه
السلام
(11/106)
للحج، واستعدوا بالخيل والسلاح، فاخرج
السلطان القافلة الاولى مع جعفر بن ورقاء، وكان امير الكوفه يومئذ،
فوقع اليه خبر القرمطى وتحركه مرتصدا للقوافل، فامر جعفر الناس بالتوقف
والمقام حتى يتعرف حقائق الاخبار.
وتقدم جعفر في اصحابه، ومن خف وتسرع من الحاج، فلما قرب من زبالة اتبعه
الناس، وخالفوا امره، فوجدوا اصحاب الجنابى مقيمين ينتظرون موافاه
القوافل، وقد منعوا ان يجوزهم احد يخبر بخبرهم، فلما راوه ناوشوه
القتال، ثم حال بينهم الليل، وخلص ابن ورقاء بنفسه، وقتل خلق كثير ممن
كان معه وترك الحاج المتسرعه جمالهم ومحاملهم وفروا راجعين الى الكوفه
واتبعهم القرمطى.
وكان بالكوفه جنى الصفواني، وثمل الطرسوسى وطريف السبكرى فاجتمعوا
واجتمع اليهم بنو شيبان، فحاربوا القرمطى عشيه، فقاموا به وانتصفوا منه
ثم باكرهم بالغدو، فهزمهم واسر جنيا الصفواني، وقتل خلقا من الجند،
وانهزم الباقون الى بغداد، واقام القرامطة بالكوفه، وأخذوا اكثر ما كان
في الاسواق، وقلعوا أبواب حديد كانت بالكوفه، ثم رحل الى البحرين، وبطل
الحج من العراق في هذه السنه وصح حج اهل مصر والشام، وكان معهم بمكة
على بن عيسى، فكتب الوزير عبد الله بن محمد الى على ابن عيسى بان يتقلد
اعمال مصر والشام، وجعل امر المغرب كله اليه، فمضى على لما تم الحج من
مكة الى الشام ومصر، وندب المقتدر مؤنسا الخادم الى الكوفه، فوصل إليها
وقد رحل الجنابى عنها، فأقام بها أياما ثم كتب اليه السلطان ان يعدل
الى واسط، فيقيم بها، فرحل إليها، واستقر بها، ولم يغن شيئا في حركته
هذه، على انه انفق في خروجه فيما حكاه نصر الحاجب ومن حصل ذلك معه نحو
الف الف دينار.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.
(11/107)
|