تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ثم دخلت

سنه ثلاث عشره وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[أخبار متفرقة]
فيها سعى الوزير عبد الله بن محمد الخاقانى على نصر الحاجب عند المقتدر، وحمله على الفتك به، والتقبض عليه، فكتب المقتدر الى مؤنس الخادم، وكان بواسط ان يقدم عليه، ليكون القبض على نصر الحاجب بمشاهدته وعن راى منه ورضا، إذ كان المقتدر مصغيا اليه، ومحتاجا الى رايه وغنائه فلما قدم مؤنس بغداد وشاوره المقتدر في امر نصر، قال له: والله يا سيدي لا اعتضت منه ابدا، ولولا مكانه من نصيحتك وخدمتك ما تهيأ لي ان افارق قصرك، ولا اغيب من مشاهده امرك، وباينه في امره مباينه وقفته عنه ثم اوصل المقتدر نصرا الى نفسه، وقرب مكانه ومكان مؤنس، واصغى إليهما، ولقب مؤنس بالمظفر من حين قدومه من الغزاة، فكان مما قاله نصر للمقتدر وقد علم ما كان ذهب اليه فيه: كم من امر قد عقد على امير المؤمنين، وابتغى به ادخال الكدح في سلطانه: ولم يعلم به، فكفاه الله اياه بسعايتنا في صرفه عنه، فحلف لهما المقتدر انه ما هم بسوء فيهما قط، ولا يفعل مكروها بأحدهما ما بقيا.
فقوى امر نصر وتأيد بمؤنس، وضعف امر الوزير عبد الله بن محمد، واعتل ولزم بيته، فكان الناس يدخلون عليه وهو لقى، وتولى اعماله ونظره عبيد الله بن محمد الكلواذى صاحب ديوان السواد، وبنان النصراني كاتبه، ومالك بن الوليد النصراني، وكان اليه ديوان الدار وابن القناني النصراني واخوه وكان اليه ديوان الخاصة وبيت المال وابنا سعد حاجباه ومما اوهن امر الوزير وكرهه الى الناس غلاء الأسعار في زمانه، ولم يكن عنده ماده من حيله يكثر بها ورود المير الى بغداد.
وكان مما اشار اليه نصر عند مكالمته للمقتدر بما كان يدار عليه، ويسعى فيه من الوثوب عليه، ولم يشرح ذلك له ان بعض القواد واطئوا قوما من الاعراب على ان يقعدوا

(11/108)


عند ركوب الخليفة الى الثريا بالقرب من طريقه، فإذا وازاهم وثبوا من ثلم كانت تهدمت في سور الحلبه، وأوقعوا به، ثم يخرجون ويحكمون على انهم شراه، فكان نصر حينئذ قد اراد كشف ذلك للمقتدر، وشاور من وثق به فيه، فقال له: لا تفعل، فلست بآمن الا يتضح الأمر للخليفة فتوحشه وترعبه، ثم يصير من اتهم بهذا عدوا لك وساعيا عليك، ولكن امنعه الركوب الى الثريا حتى تبنى ثلم السور، وان عزم على الركوب استعددت بالغلمان والعده، والزمتهم تلك المواضع المخوفه، وعملت مع هذا في استئلاف كل من سمى لك من هؤلاء القواد ومن تابعهم على مذهبهم، فمن كان منهم متعطلا من ولايه وليته ومن كان مستزيدا زدته، ومن كان خائفا آمنته، وان امكنك تفريقهم في الاعمال فرقتهم فيها.
وكان نصر رجلا عاقلا، فعمل براى من اشار عليه بهذا وسعى في ولايه بعض القوم، فاخرج واحدا الى سواد الكوفه، واخرج آخر الى ديار ربيعه ولما صفت الحال بين نصر ومؤنس واستالف نصر ثمل القهرمانه، وكانت متمكنه من المقتدر.
وظهر من امر الوزير عبد الله بن محمد ما ظهر، تكلموا في عزله، وشاوروا في رجل يصلح للوزارة مكانه، فمالت ثمل برأيها وعنايتها الى احمد الخصيبى، وكان يكتب لام المقتدر، وساعدها نصر على ذلك حتى تم له، وصح عزم المقتدر عليه.

ذكر التقبض على الوزير الخاقانى وولايه احمد الخصيبى
وقبض على الوزير عبد الله بن محمد الخاقانى لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، ووكل به في منزله، فكانت ولايته ثمانية عشر شهرا، وخلع في هذا النهار على ابى العباس احمد بن عبيد الله بن احمد بن الخصيب للوزارة، وانصرف الى منزله بقنطرة الانصار، ثم جلس من الغد في دار سليمان بن وهب بمشرعه الصخر، فهابه الناس لموضعه من الخليفة بالوزارة التي صار إليها، لمحله من خدمه السيده وكتابتها،

(11/109)


ولعناية ثمل القهرمانه به، وهابه كل منكوب من اصحاب الخاقانى وابن الفرات، فحصل له من ما لهم الف الف دينار، اصلح منها أسبابه، ثم ركب الوزير الخصيبى الى القصر، فرماه الجند بالنشاب من جزيرة بقرب قصر عيسى، فلجا الى الشط، وتخلص منهم بجهد، فلما جلس في مجلسه قال: لعن الله من اشار بي لهذا الأمر وحسن دخولي فيه، فقد كان كرهه لي من أثق به وبرايه، وكرهته لنفسي، ولكن القدر غالب، وامر الله نافذ.
واقر الخصيبى عبيد الله بن محمد الكلواذى على ديوان السواد وفارس والاهواز، واقر على الازمه وديوان الجند أبا الفرج محمد بن جعفر بن حفص، وقلد ابن عم له شيخا يعرف بإسحاق بن ابى الضحاك ديوان المغرب.
ولم يكن للناس في هذا العام موسم لتغلب القرامطة على البلاد، وقله المال، وضيق الحال، فطولب بالأموال قوم لا حجه عليهم الا لفضل نعمه كانت عندهم، والح الوزير على الناس في ذلك حتى طلب امراه المحسن ودوله أم على بن محمد بن الفرات وابنه موسى بن خلف، وامراه احمد بن الحجاج بن مخلد باموال جليله، وكثر الناس في ذلك وانكروه غاية الانكار.

(11/110)


ثم دخلت

سنه اربع عشره وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[أخبار متفرقة]
فيها اشتدت مطالبه الخصيبى الوزير الأموال عند الناس، واكثر التعلل عليهم فيها، ولم يدع عند احد مالا احس به الا اخذه باتعس ما يكون من الأخذ والشده، وكان نصر بن الفتح صاحب بيت مال العامه قد توفى في شهر ربيع الاول من هذا العام، فطالب الخصيبى جاريته وابنته بالأموال، واحضرهما عند نفسه واشتد عليهما، فلم يجد عندهما كثير مال، إذ كان نصر رجلا صحيح الأمانة، وكان له معروف عند الناس واياد حسنه.
وفيها امر المقتدر ابن الخصيب وزيره باستقدام ابن ابى الساج من الجبل لمحاربه القرمطى، فاستقدمه، واقبل يريد مدينه السلام، فاشتد على نصر الحاجب ونازوك وشفيع المقتدرى وهارون بن غريب الخال وغيرهم من الغلمان دخوله بغداد، فكتب اليه مؤنس بان يعدل الى واسط ليكون مقامه بها وغزوه القرامطة منها، فسار إليها ثم تأخر نفوذه الى القرمطى ولم يتم خروجه اليه لشروط شرطها واموال طلبها، وكانت الأموال في غاية التعذر فلم يجب الى ما اشترطه، وكان ذلك سببا لتوقفه.
وفيها اتخذت أم المقتدر كاتبا يقوم بأمر ضياعها وحشمها وأسبابها لما رات الخصيبى قد اشتغل بالوزارة والنظر في اسباب المملكة، فقالت لثمل القهرمانه: ارتادى لي كاتبا يقوم مكانه ويحل محله، فاتخذت لها عبد الرحمن بن محمد بن سهل، وكان قد لزم بيته، واقتصر على ضيعه له، فاستخرج من منزله، وكتب لام المقتدر وتولى أمورها، وكانت فيه كفاية وأبوه شيخ من مشايخ الكتاب، وممن عنى بالعلم، فصعب امره على الخصيبى الوزير، وتمنى انه لم يكن تولى الوزارة حين فارق خدمه أم المقتدر، وكانت انفع له من الخليفة، فجعل امره يضعف كلما قلت الأموال التي كان يتقرب بها ويشتد على الناس فيها.

(11/111)


ذكر التقبض على الوزير الخصيبى وولايه على بن عيسى الوزارة
ثم ان المقتدر امر بالتقبض على الخصيبى احمد بن عبيد الله الوزير يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعده سنه اربع عشره وثلاثمائة وعلى ابنه معه ومن لف لفه، وتولى ذلك فيه نازوك صاحب الشرطه، واستتر اصحاب دواوينه ومن افلت من اهله، وكان على بن عيسى بالمغرب متوليا للاشراف، فاستوزر واستخلف له عبيد الله بن محمد الكلواذى الى وقت قدومه، وانفذ المقتدر سلامه أخا نجح الطولونى رسولا اليه ليأخذ به على طريق الرقة، ويتعجل استقدامه، فكانت مده وزارة الخصيبى اربعه عشر شهرا، وضبط عبيد الله بن محمد الأمر وقام به بقية سنه اربع عشره.
وفيها مات احمد بن العباس أخو أم موسى وماتت أختها أم محمد، فأظهر المقتدر الرضا عن أم موسى، وردت عليها دورها وضياعها التي كانت اعتقلت عليها عند ما اتهمت به على ما تقدم ذكره.
وحج بالناس في هذه السنه ابو طالب عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز.

(11/112)


ثم دخلت

سنه خمس عشره وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها قدم على بن عيسى بغداد يوم الأربعاء لخمس خلون من صفر، بعد ان تلقاه الناس جميعا بالأنبار وفوق الأنبار، ودخل الى المقتدر بالله، فاستوزره وامر بالخلع عليه فاستعفى فلم يعفه، وسلم اليه الخبيصى ليناظره عن الأموال، فلم يستبن عليه خيانة، ولا علم انه أخذ من مال السلطان شيئا فقال له: ضيعت، والمضيع لا رزق له فرد ما ارتزقت وما اقطعت من الضياع، فرد ذلك وقال على بن عيسى الوزير للخليفة: ما فعلت سبحه جوهر أخذت من ابن الجصاص قيمتها ثلاثون الف دينار؟ قال له: هي في الخزانه، فسأله ان يأمر بتطلبها، فطلبت فلم توجد فأخرجها على من كمه وقال له: عرضت على هذه السبحه بمصر فعرفتها واشتريتها، فإذا كانت خزانه الجوهر لا تحفظ، فما الذى حفظ بعدها! وامير المؤمنين يقطع خزانه وخدمته الأموال الجليله والضياع الواسعه فاشتد هذا الأمر على السيده أم المقتدر وعلى غيرها من بطانته واتهمت بالسبحه زيدان القهرمانه، وكان لا يصل الى خزانه الجوهر غيرها، وضبط على بن عيسى الأمر جهده، ونظر ليله ونهاره، وجلس للمظالم في كل يوم ثلاثاء وكان لا يأخذ مال احد، ولا يتعلل على الناس كما كان يفعل غيره، فآمن البراء في ايامه، وقطع الزيادات والتعلل، وتحفظ من ان تجرى عليه حيله، ودعته الضرورة بقله المال الى الاخلال ببعض الاقامات في طريق مكة وغيرها، وخرج اليه توقيع المقتدر بالا يزيل الكلواذى عن ديوان السواد ولا محمد ابن يوسف عن القضاء، فقال: ما هممت بشيء من هذا، وان العهد فيه الى لتخليط على، وكدح في نظري واشار على بن عيسى على المقتدر بان يلزم خمسه آلاف فارس من بنى اسد طريق مكة بعيالاتهم ويثبت لهم مال الموسم، فانه يكفيهم ويترك ابن ابى الساج مكانه، ويبعث لحرب القرمطى خمسه آلاف رجل من بنى شيبان باقل من ربع المال الذى كان ينفق على ابن ابى الساج وكان على قد نظر الى ما طلبه ابن ابى الساج،

(11/113)


فوجده ثلاثة آلاف الف دينار، ووجد مال بنى اسد وبنى شيبان الف الف دينار.
والفى كاتب نازوك يرتزق تسعمائة دينار في النوبه، فأسقطها عنه، وقال: رزقه على صاحبه، واسقط من رزق مفلح الأسود الف دينار في جمله الغلمان، واقره على الف دينار كان يرتزق في النوبه.
واراد مؤنس المظفر الخروج الى الثغر فتبعه على بن عيسى وساله المقام، وقال له: انما قويت على نظري بهيبتك ومقامك، فان رحلت انتقض على تدبيرى، فأقام وقلد شيرزاد ما كان يتقلد قلنسوة من امر الحبس، وضم اليه كاتب نازوك، واجرى له مائه وعشرين دينارا، ولمن يخلفه ثلاثين دينارا، وكان قلنسوة يرتزق لهذه الاعمال ثمانمائه دينار، وصرف ياقوتا عن الكوفه، وولاها احمد بن عبد الرحمن بن جعفر الى ان يصير إليها ابن ابى الساج.
ولما راى المقتدر اجتهاد على بن عيسى قال: لقد استحييت من ظلمي قبل هذا له، وأخذي المال منه، وامر بان يرد عليه ذلك، وأحال به على الحسين بن احمد الماذرائى فاشترى على بن عيسى بالمال ضياعا، وضمها الى الضياع التي وقفها على اهل مكة والمدينة.
وكان في ناحيه بنى الفرات رجل يعرف بابى ميمون الأنباري، قد اصطنعوه وأحسنوا اليه، فوجد له على بن عيسى ارزاقا كثيره، فاقتصر على بعضها، فهجاه الأنباري ومن شعره المشهور فيه عند وزارته هذه:
قد اقبل الشؤم من الشام ... يركض في عسكر ابرام
مستعجلا يسعى الى حتفه ... مدته تقصر عن عام
يا وزراء الملك لا تفرحوا ... أيامكم اقصر ايام
وكان على بن عيسى قد كتب الى ابن ابى الساج ان يقيم بالجبل، فلم يلتفت الى كتابه، وبادر بالاقبال الى حلوان يريد دخول بغداد، فكره اصحاب السلطان دخوله لها، وكتب اليه مؤنس في العدول الى واسط، وعرفه ان الأموال من ثم ترد عليه فصار الى واسط، وعاث اصحابه بها على الناس، وكثر الضجيج منهم والدعاء عليهم، فلم يغير ذلك، فقال الناس: من اراد محاربه عدوه عمل بالانصاف والعدل، ولم يفتتح امره بالجور والظلم، وانتصحه من عرفه فلم يقبل النصيحه وخرج ابن ابى الساج

(11/114)


الى القرمطى من واسط، فأبطأ في سيره وسبقه القرمطى الى الكوفه، ثم التقيا فهزمه القرمطى، واخذه أسيرا، وسار القرمطى يريد بغداد، فعبر جسر الأنبار، وخرج مؤنس المظفر ونصر الحاجب وهارون بن غريب الخال وابو الهيجاء ومعهم جيش السلطان يريدون القرمطى، وقد بلغهم رحيله اليهم، وبادر نصر اصحابه، واختلف رأيهم، وجزع اصحاب السلطان، وامتلأت قلوبهم رهبه للقرمطى، ووقفوا على قنطره تعرف بالقنطره الجديده، وأرادوا قطعها لئلا يجوز القرمطى اليهم، وتابعه اكثر اهل العسكر، فقطعت القنطرة فلما صار القرمطى واصحابه إليها رماهم اصحاب السلطان بالنشاب، ورأوا كثره الخلق، فرجعوا وتبددوا في الموضع، فعزم نصر على العبور اليهم ومناجزتهم فلم يدعه مؤنس ووجه السلطان الى الفرات بطيارات، وشميليات فيها جماعه من الناشبة، وعليهم سبك غلام المكتفي، فحالوا بين القرامطة وبين العبور وكان ثقل القرمطى وسواد عسكره بحيال الأنبار، وابن ابى الساج محبوس عندهم، فاراد نصر ان يحتال للعبور في السفن ليلا، وان يكبسوا السواد طمعا في تخليص ابن ابى الساج فحم نصر الحاجب حمى ثقيله اذهبت عقله يومين وليلتين، وشاع ما اراد ان يفعله وقدم مؤنس غلامه يلبق في نحو الفين، فعبروا الفرات ليلا ووافوا سواد القرمطى بالأنبار وكان يلبق في جيش عظيم، وسواد القرمطى في خيل يسيره، فانهزم اصحاب السلطان، واسر جماعه منهم، واسر ابن ابى الأغر في جملتهم فلما أتاهم القرمطى جلس لهم، وضرب اعناق جميعهم، ودعا بابن ابى الساج من الموضع الذى كان محبوسا فيه، فقال له: انا اكرمك وانوى الصفح عنك، وأنت تحرض على أصحابك! فقال له: قد علمت انى ما اقدر على مكاتبتهم ولا مراسلتهم، فأي ذنب لي في فعلهم! فقال له: ما دمت حيا فلأصحابك طمع فيك، فامر به فضربت عنقه.
وفيها اتصل بمؤنس المظفر ان أم المقتدر عامله على قتله، وانها قد نصبت له من يقتله إذا دخل الدار، فاستوحش واحترس، وطلب الخروج الى الثغر، فأجيب الى ذلك، ثم اضطرب امره لما حدث من امر القرمطى

(11/115)


وفيها ورد الخبر بموت ابراهيم بن عبد الله المسمعي امير فارس، فخلع على ياقوت، وقلد مكانه، وولى محمد بن عبد الصمد كرمان.
وحج بالناس في هذه السنه ابو احمد عبيد الله بن عبد الله بن سليمان من بنى العباس.

(11/116)