تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنه تسع عشره وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[أخبار متفرقة]
قال ابو محمد عبد الله بن احمد الفرغاني في كتابه الذى وصل به كتاب
محمد بن جرير الطبرى، وسماه المذيل: في هذه السنه في المحرم منها طالب
قوم من الفرسان ببغداد الوزير سليمان بن الحسن بأرزاقهم، وشتموه
واغلظوا له، فرماهم غلمانه بالأجر من اعالى الدار، وقتلوا رجلا من
الأولياء فهجموا في الدار بعد ان احرقوا الباب.
فخرج الوزير على باب ثان، وجلس في طيار، وسار الى دار على بن عيسى.
فانصرفوا عن بابه.
وفيه قلد ابراهيم بن بطحا الحسبه بمدينه السلام.
وفي صفر ورد بغداد مؤنس الخادم الورقانى، منصرفا من الحج بالناس
سالمين، فأظهر اهل مدينه السلام لذلك السرور والفرح، ونشروا الزينة في
الاسواق، واخرجوا الثياب والحلى والجواهر، ونصبت القباب في الشوارع،
وخلع السلطان على مؤنس واوصله نفسه وخلع على جماعه معه، وذلك يوم
الخميس لعشر خلون من صفر، فذكر الحاج انها لحقتهم مجاعه عظيمه في
الطريق، إذ كانت خاليه من العمارة، وكاد يأكل بعضهم بعضا من الجوع.
وللنصف من صفر قصد الشطار واهل الزعارة من العامه دار الخليفة فاحرقوا
باب الميدان، ونقبوا في السور، وصعد الخليفة الى المجلس المثمن ومعه
يلبق وسائر الغلمان، فضمن لهم يلبق ازاحه عللهم والانفاق عليهم،
فانصرفوا ثم شغبوا بعد ذلك وقصدوا دار ابى العلاء سعيد بن حمدان
فحوربوا منها، وقتل منهم رجل فانصرفوا وبكروا إليها من الغد، وقد كان
ابو العلاء وضع حرمه وجميع ما يملكه في الزوارق داخل الماء، فلم يصلوا
الى ما املوه منه، فاحرقوا بابه وصاروا الى السجون والمطبق ففتحت بعد
محاربتهم لمن
(11/135)
كان يمنع منها وقتل من طلاب الفتن من
العامه خلق كثير وقعدوا بعد ذلك في مجلس الشرطه، وقتلوا رجلا يعرف
بالذباح قيل انه ذبح ابن النامي، فلما اصبح الناس ركب ابن ياقوت اليهم
زورقا، وبعث باصحابه وغلمانه على الظهر، ثم وضع السيف والنشاب في اهل
الزعارة من العامه، فلم يزل القتل يأخذهم من رحبه الحسين الى سوق
الصاغه بباب الطاق، فارتدع الناس وكفوا.
وفي آخر صفر خرج طريف السبكرى الى الثغر غازيا، وخرج في ربيع الاول
نسيم الخادم الشرابي الى الثغر أيضا، وشيعه مؤنس المظفر.
وخرج من الفسطاط بمصر احد عشر مركبا للغزو في البحر الى بلاد الروم،
وعليها ابو على يوسف الحجري.
وفي هذه السنه اجتمع نوروز الفرس والشعانين في يوم واحد، وذلك يوم
الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الاول، وقل ما يجتمعان.
ولثمان بقين منه خلع على ابى العلاء بن حمدان، وقلد ديار ربيعه وما
والاها، وتقدم اليه بالغزو، وفيه تقلد اعمال البصره ابو إسحاق وابو بكر
ابنا رائق.
4 وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنه ورد الخبر بان الاعراب صاروا في جمع
كثير الى الأنبار فأفسدوا وقتلوا، فجرد اليهم على بن يلبق في جيش كثيف،
وخرج يلبق أبوه في اثره، فلحقوهم وواقعوهم يوم الأحد لثلاث عشره ليله
بقيت منه بعد حرب شديده، وانهزم الاعراب، فقتلوا منهم وأسروا وغنم
الأولياء غنيمه عظيمه.
وفي ربيع الآخر وقع حريق في مدينه الفسطاط بموضع يقال له خولان نهارا
فذهبت فيه دور بنى عبد الوارث وغيرها.
ولاربع عشره ليله بقيت من جمادى الاولى ادخل الى مدينه السلام خمسه
وسبعون رجلا من الأرمن، وجه بهم بدر الخرشنى ممن حارب، فشهروا وطيف
بهم، وادخل أسارى القرامطة الخارجين بسواد الكوفه بعث بهم بشر النصرى
وهم نحو مائه فشهروا وطوفوا بمدينه السلام.
وفي جمادى الآخرة من هذه السنه ازدادت وحشه مؤنس المظفر من ياقوت
وولده،
(11/136)
ودارت بينهم مدافعات، فصرف ابن ياقوت عن
الشرطه، ورد امرها بالجانب الشرقى الى احمد بن خاقان، وبالجانب الغربي
الى سرور مولى المقتدر.
وفي هذا الشهر قلد ابو بكر محمد بن طغج مدينه دمشق وأعمالها، وصرف
الراشدى عنها، ورد اليه عمل الرملة ونفذ كتاب الخليفة الى ابن طغج
بالولاية، فلما وصل اليه الكتاب سار من وقته الى دمشق، وخرج الراشدى
الى الرملة، فسر اهل دمشق بقدوم ابن طغج، ودخلها احسن دخول.
وفي مستهل رجب من هذه السنه راسل مؤنس الخليفة، وساله اخراج ياقوت
وابنه عن مدينه السلام، فلم يجبه الى ذلك، فاوحشه فعله، واستاذن هو في
الخروج فلم يمنع، فخرج الى مضاربه برقه الشماسيه مغاضبا واتصل به ان
ياقوتا وابنه امرا بقصده والفتك به، فاستجلب مؤنس الرجاله المصافيه الى
نفسه، فلحقوا به بالشماسيه وصاروا معه، ثم طالب الأولياء ابن ياقوت
ببقايا أرزاقهم فنهددهم فلحق جميعهم بمؤنس بعد ان قطعوا خيامهم التي
كانت حوالى دار الخليفة بالسيوف، فقوى امر مؤنس، وانضم عسكره على قريب
من سته آلاف فارس وسبعه آلاف راجل، فتقدم ابن ياقوت الى اصحاب السلاح
الا يبيعوا منهم سلاحا ووجه اليهم مؤنس قواده يحذرهم ان يمنعوا أحدا من
اصحابه بيع ما يلتمس من السلاح، وحمل يلبق وبشر واصطفن وابن الطبرى الى
مؤنس مالا كثيرا وقالوا له: هذا المال افدناه معك، وهذا وقت حاجتك
اليه، وحاجتنا، فشكرهم على ذلك وفرقه في اصحابه وعلى من قصده.
ولما قوى امر مؤنس وانحاز الجيش اليه ركب اليه الوزير سليمان بن الحسن
وعلى بن عيسى وشفيع ومفلح، فلما حصلوا في مضربه بباب الشماسيه، شغبت
عليهم حاشيه مؤنس، وضربوا وجوه دوابهم، وقبضوا عليهم، واظهرت حاشيه
مؤنس انهم يريدون الفتك بهم، فاهمتهم نفوسهم، واعتقلوا يومهم، وبلغ
المقتدر الخبر فاقلقه، وجرى الأمر بينهما على اخراج ياقوت وابنيه عن
بغداد ووجه الخليفة الى ياقوت وولده اخرجوا حيث شئتم، فخرجوا في الغلس
يوم الأربعاء لثمان خلون من الشهر، وجميع حاشيتهم في الماء مع نيف
واربعين سفينه محمله مالا وسلاحا وسروجا وسيوفا ومناطق وغير ذلك،
وثمانية طيارات وشذاه فخلى مؤنس سبيل على بن عيسى، ومن اعتقله
(11/137)
معه، ورجع مؤنس الى داره، واحرقت دار ياقوت
وابنه، ونودى بمدينه السلام الا يظهر احد ممن اثبت ابن ياقوت، واظهر من
سائر الناس ونظر مؤنس فيمن يرد اليه الحجابه، فوقع اختياره على ابنى
رائق للمهانه التي كانت فيهما، وانهما كانا يلقبان بخديجة وأم الحسين،
فبعث فيهما، وقلدهما الحجابه، فقبلا يده ورجله، وقالا له: نحن عبدا
الأستاذ وأبونا من قبلنا، وانصرفا وغلمان مؤنس بين أيديهما حتى بلغا
منازلهما.
وفي يوم الاثنين لعشر بقين من رجب ادخل مفرج بن مضر الشاري مع رجلين
وجه بهم ابن ورقاء من طريق خراسان، فشهروا على فيل وجملين.
ذكر القبض على سليمان بن الحسن الوزير
وتقليد الكلواذى الوزارة
وفي يوم السبت لست بقين من رجب قبض على الوزير سليمان بن الحسن، وذلك
ان المال ضاق في ايامه، واتصل شغب الجند، وظهر من سليمان في وزارته ما
كان مستورا من سخف الكلام وضرب الأمثال المضحكه، واظهار اللفظ القبيح
بين يدي الخليفة مما يجل الوزراء عنه، فاستنقصه الخلق، وهجاه الشعراء،
واستعظموا الوزارة لمثله، وكانت لابن ياقوت فيه ابيات ضمن في آخرها هذا
البيت:
يا سليمان غننى ... ومن الراح فاسقني
ولابن دريد فيه:
سليمان الوزير يزيد نقصا ... فاحر بان يعود بغير شخص
أعم مضره من ابى خلاط ... وأعيا من ابى الفرج بن حفص
وولى الوزارة ابو القاسم عبيد الله بن محمد الكلواذى واحضر الدار وخلع
عليه، وذلك يوم الأحد لاربع بقين من رجب من هذه السنه.
وفي شعبان من هذه السنه ورد الخبر بان أبا العباس احمد بن كيغلغ لقى
الاشكرى صاحب الديلم فهزمه الديلم وتفرق عنه اصحابه، حتى بقي في نحو من
(11/138)
عشرين، ومضى الديلم في آثار من انهزم من
اصحابه، ودخلوا أصبهان، وملكوا دورها، وصاروا فيها ووافى الاشكرى على
أثرهم في نفر من الديلم، فلما نظر اليهم ابن كيغلغ قال لمن حوله:
أوقعوا عيني على الاشكرى، فاروه اياه فقصده وحده، وكان الديلمى شديد
الخلق فلما نظر اليه مقبلا سال عنه فقيل له: هذا ابن كيغلغ، فبرز كل
واحد منهما لصاحبه ورمى الديلمى أبا العباس بن كيغلغ بمزراق كان في
يده، فانفذ ما كان يلبسه، ووصل الى خفه، فانفذ عضله ساقه وأثبتها في
نداد سرجه، فحمل عليه ابن كيغلغ، وضربه بسيفه على أم راسه، فانصرع عن
دابته وأخذ راسه وتوجه به بين يديه فتفرق اصحاب الديلمى وتراجع اصحاب
ابن كيغلغ، ودخل أصبهان والراس قدامه، فوضع اهل المدينة سيوفهم ورماحهم
في الديالمة الذين حصلوا بها، فقتلوا عن آخرهم ونزل ابن كيغلغ في داره،
واستقام امره وحسن اثره عند المقتدر، واعجب الناس ما ظهر من شجاعته
وبأسه، مع كبر سنه.
ولعشر بقين من شعبان ورد الخبر بان القرامطة صاروا الى الكوفه ونزلوا
المصلى العتيق، وعسكروا به، وأقاموا، وسارت قطعه منهم في مائتي فارس
فدخلوا الكوفه، وأقاموا بها خمسه وعشرين يوما مطمئنين، يقضون حوائجهم،
وقتلوا بها خلقا كثيرا من بنى نمير خاصه، واستبقوا بنى اسد، ونهبوا
اهراء فيها غلات كثيره للسلطان وغيره.
وفي هذه السنه وصل زكرى الخراسانى الى عسكر سليمان بن ابى سعيد الجنابى
فجاز له عليهم من الحيله والمخرقه ما افتضحوا به وعبدوه، ودانوا له بكل
ما امرهم، به من تحليل المحارم وسفك الرجل دم أخيه وولده وذوى قرابته
وغيرهم، وكان السبب في وصوله اليهم ان القرامطة لما انتشروا في سواد
الكوفه، وانتهوا الى قصر ابن هبيرة فأسروا جماعه من الناس كانوا
يستعبدون من يأسرونه ويستخدمونهم، وكان له عرفاء، على كل طائفه منهم،
فاسر زكرى هذا فيمن اسر، وملكه بعض المتراسين عليهم، فلما اراد
الاستخدام به تمنع عليه واسمعه ما كره فلما نظر الى قوه
(11/139)
كلامه وجراته هابه وامسك عنه، وانهى خبره
الى الجنابى سليمان فاحضره من وقته وخلا به، وسمع كلامه ففتنه، ودان له
وامر اصحابه بان يدينوا له ويتبعوا امره وحمله في قبة وستره عن الناس،
وشغل خبره القرامطة وانصرفوا به راجعين الى بلادهم، وهم يعتقدون انه
يعلم الغيب ويطلع على ما في صدورهم وضمائرهم، وهو كان بعد ذلك السبب
لهلاكهم وفنائهم، على ما ياتى ذكره في الوقت الذى دار فيه ذلك.
وفي هذه السنه انحدر ياقوت وابنه من مدينه السلام في الماء، ومن تبعه
من جيشه من الجانب الشرقى يريدان أعمالهما من بلد فارس، وكان على بن
يلبق بواسط متقلدا لها ومعه من الغلمان الذين اشخصهم مؤنس اليه جمله
مثل سيما المنخلى وكانجور وشفيع وتكين الخاقانى وغيرهم، فحملت هذه
الطبقة ابن يلبق على تلقى ياقوت ومحاربته واتصل الخبر بيلبق ابيه،
فأنكر الأمر أشد الانكار، وكاتب ابنه يخوفه ركوب هذه الحال، ويأمره بان
يتقدم الى خلفائه بواسط ان يتلقوا ياقوتا، ويخدموه ويكونوا بين يديه
الى ان يخرج عن واسط وكاتب القواد الا يطاوعوا ابنه على مكروه ان هم
به، وكاتب ياقوتا يسأله العبور الى الجانب الغربي خوفا من اجتماع
العسكرين، ثم تحمل يلبق المصير الى ابنه وملازمته أياما الى ان جاز
ياقوت وخرج عن واسط وفي شعبان من هذا العام شغب الرجاله ببغداد،
فحاربهم يلبق وسائر الجيش ولم تزل الحرب بينهم من غدوه الى صلاه العصر،
وخرج من الفرسان جماعه، وقتل من الرجاله عدد كثير، ثم تمزق الفريقان في
الأزقة والدروب وانصرفوا
. ذكر صرف الكلواذى عن الوزارة وتقليدها
الحسين بن القاسم
وكان عبيد الله بن محمد الكلواذى احد الكتاب الكبار، وجليلا في نفوس
الناس، فقدروا ان فيه كفاية وقياما بالأمر، فأقام على الوزارة شهرين
وهو متبرم بها لضيق الأموال وكثره الاعتراضات واتصال الشغب وقعود
العمال عن حمل المال فاستعفى وقال:
ما اصلح ان أكون وزيرا، فصرف عنها ولم يعنف ولا نكب ولا تعرض احد من
حاشيته،
(11/140)
وانصرف الى داره، واستقر فيها فامر الخليفة
بحفظها وصيانتها.
وكان ابو الجمال الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب يسعى
دهره في طلب الوزارة، ويتقرب الى مؤنس وحاشيته ويصانعهم حتى جاز عندهم،
وملا عيونهم، وكان يتقرب الى النصارى الكتاب بان يقول لهم: ان اهلى
منكم وأجدادي من كباركم، وان صليبا سقط من يد عبيد الله بن سليمان جده
في ايام المعتضد فلما رآه الناس، قال: هذا شيء تتبرك به عجائزنا،
فتجعله في ثيابنا من حيث لا نعلم، تقربا اليهم بهذا وشبهه، يعنى الى
مؤنس واصحابه.
وقلد الوزارة يوم السبت سلخ شهر رمضان وخلع عليه في هذا اليوم، وركب في
خلعه وسائر القواد والناس على طبقاتهم معه واخذه بوله في الطريق، فنزل
وهو في خلع الخليفة الى دار محمد بن فتح السعدي فبال عنده، وامر له
بزيادة في رزقه ونزله، وركب منها الى داره
. [أخبار متفرقة]
ولسبع بقين من شوال اخرج على بن عيسى الى ديرقنا.
وفيه قرئت كتب في جامع الرصافه بما فتحه الله لثمل بطرسوس في البر
والبحر.
وفيه خلع على ابى العباس احمد بن كيغلغ وطوق وسور، وعقد لابن الخال على
اعمال فارس، ولياقوت على أصبهان، ولابنه محمد على الجبل، واخرجت إليهما
الخلع للولاية.
وفي شوال من هذه السنه خلع على الوزير عميد الدولة وابن ولى الدولة
الحسين بن القاسم لمنادمه المقتدر.
وفي يوم الجمعه لخمس بقين منه ظهرت في السماء فيما يلى القبله من مدينه
السلام حمره ناريه شديده لم ير مثلها، وصلى في هذا النهار الوزير عميد
الدولة وابن ولى الدولة الحسين بن القاسم، في مسجد الرصافه، وعليه
شاشيه وسيف بحمائل، فعجب الناس منه.
وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن على الهاشمى من اهل مكة المعروف برقطه
خليفه لأبي حفص عمر بن الحسن بن عبد العزيز.
(11/141)
ثم دخلت
سنه عشرين وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[مخالفة مؤنس المظفر على المقتدر]
فيها خالف مؤنس المظفر على المقتدر، وخرج من بغداد الى الموصل، ثم خلعه
بعد ذلك وقتله، وكان السبب في ذلك ان مؤنسا لما ابعد ياقوتا وولده عن
الحجابه، وأخرجهما عن مدينه السلام، واختار ابنى رائق لملازمه المقتدر
وحجابته، ورجا طوعهما له وقله مخالفتهما اياه، وكان مؤنس عليلا من
النقرس قاعدا في منزله كالمقعد، وكان يلبق غلامه الذى صيره مقام نفسه
وعقد له الجيش، وضمه اليه ينوب عنه في لقاء الخليفة واقامه اسباب الجند
والأمر والنهى، فقوى امر ابنى رائق وتمكنا من الخليفة لقربهما منه،
وقيل لهما: ان مؤنسا يريد ان يصير الحجابه الى يلبق، فالتاثا على مؤنس
واستوحشا منه، وباطنا عليه من كان بحضره الخليفة مثل مفلح والوزير ابن
القاسم وغيرهما، وراسلا ياقوتا وولده وابن الخال وغيرهم واتصل ذلك
بمؤنس وصح عنده، فاوحشه ذلك من المقتدر وممن كان معه، ثم سالت الحجريه
والساجيه المقتدر بما احكمه لها ابنا رائق، بان يصلوا اليه كلما جلس
للسلام، واستعفوه من يلبق، وطعنوا على مؤنس في ضمهم اليه.
فلما كان يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم جلس المقتدر أيضا للسلام،
ووصل اليه الناس، ووصلت اليه الحجريه والساجيه وصرف عنهم يلبق ولم يخلع
عليه، واظهر المقتدر الانفراد بامره والاستبداد برايه، فانكشف لمؤنس
الأمر، وصح عنده ما دبر عليه، وعلم انه مطلوب.
ولما كان يوم الخميس لثمان خلون من الشهر جلس المقتدر أيضا للسلام،
فخرج مؤنس الى باب الشماسيه وعسكر بها ونهب اصحابه دار الوزير الحسين
بن القاسم.
وبلغ ذلك المقتدر، فامر بشحن القصر بالرجال ونودى فيمن سخط عليه من
(11/142)
الرجاله بالرضا عنهم، فظفروا ووعدوا بزيادة
دينار على النوبه، ووعد الفرسان بزيادة خمسه دنانير على الرزق، فظهر
الرجاله، وقوى امر الخليفة واستتر اصحاب مؤنس ولحق به خاصته وخرج اليه
يلبق.
فلما كان يوم الجمعه لتسع خلون من الشهر، وتمت صلاه الناس في الجامع،
ركب المقتدر بين الظهر والعصر في قباء تاختج وعمامة سوداء وعلى راسه
شمسه تظله وبين يديه اولاده الكبار ركبانا، وهم سبعه وجميع الأمراء
والقواد معه وبين يديه، فسار من باب الخاصة الى المجلس الذى في طرف
الميدان، وقد ضرب له قبة شراع ديباج فدخلها، ثم انصرف وظهر للعامه ودعا
الناس له، وبعث مؤنس بشرى خليفته الى المقتدر يوم السبت مترضيا له،
ومعتذرا اليه بانه لم يخرج خالعا ولا عاصيا، وانما خرج فارا من
المطالبه له فقبض على بشرى وصفع وقيد، فلما اتصل الخبر بمؤنس زاد في
ايحاشه ونفاره، وامر بوضع العطاء في اصحابه، ودخلوا السوق ليبتاعوا
السلاح وما يحتاجون اليه، فمنعوا من ذلك حتى وجه مؤنس من قواده الى
المدينة من حضر ابتياعهم لما أرادوا، ثم انتقل مؤنس الى البردان، وزال
عنه كثير من جيشه الى دار السلطان وكان ممن رجع عنه ابو دلف القاسم بن
دلف ومحمد بن القاسم بن سيما وغيرهم من قواده، ودخل هارون بن غريب
الخال الى بغداد للنصف من المحرم، ونزل في النجمى، ودخل ابن عمرويه
قافلا من البصره، ودخل نسيم الشرابي من الثغر، وخلع على سرور، وجمعت له
الشرطتان ثم دخل محمد بن ياقوت لثمان بقين من المحرم، فتجمع للمقتدر
قواده وقوى امره وخلع على الوزير ابى الجمال، ولقب عميد الدولة، وكنى
ونفذت الكتب بذلك الى العمال من الوزير ابى على عميد الدولة بن ولى
الدولة القاسم بن عبيد الله، وكتب اسمه على السكك، وخلع على ابته
لكتابه الأمير ابى العباس بن المقتدر، وهو الراضي ولما اجتمع الجيش
ببغداد، واتفقت كلمه اصحاب المقتدر وانتقل عن مؤنس كثير من اصحابه الى
دار السلطان، قلع مؤنس عن البردان في الماء مضطرا ومعه نحو مائه غلام
اكابر واصاغر من غلمانه وأربعمائة غلام سودان، كانوا له وسار يلبق
وابنه وباقى غلمان مؤنس على الظهر في نحو الف وخمسمائة رجل، وكان معه
من وجوه القرامطة نحو سبعين رجلا، منهم خطا أخو هند وزيد بن صدام واسد
بن جهور، وكلهم انجاد مبرزون في الباس
(11/143)
لا يرد احدهم وجها عن عدو، فسار مؤنس الى
سر من راى، وعسكر بالجانب الشرقى.
واجتمع الناس بقصر الجص الى مؤنس فكلمهم ووعدهم، وقال لهم: ما انا بعاص
لمولاي، ولا هارب عنه، وانما هذه طبقه عادتنى، وغلبت على مولاى، فأثرت
التباعد الى ان يفيقوا من سكرتهم، واتامل امرى معهم، ولست مع هذا
اتجاوز الموصل اللهم الا ان يختار مولاى مسيرى الى الشام، فاسير إليها
وقال لهم في خلال ذلك: من اراد الرجوع الى باب الخليفة فليرجع، ومن
اراد المسير معى فليسر، فردوا عليه احسن مرد وقالوا له: نحن في طاعتك،
ان سرت سرنا، وان عدت عدنا.
وبعث مؤنس أبا على المعروف بزعفران مع عشره من القرامطة في مال كان له
مودعا عند بعض وكلائه بعكبراء، فأتاه منها بخمسين الف دينار، فدفع منها
مؤنس ارزاق من كان معه، وزادهم خمسه دنانير واقام مؤنس يومه ذلك بقصر
الحص، فاحترق سقف من سقوف القصر، فشق ذلك على مؤنس، واجتهد في إطفاء
النار فتعذر ذلك عليه، ثم سار وهو مغموم لما دار من الحريق في القصر،
يريد الموصل.
ونفذت كتب الوزير ابن القاسم من المقتدر الى جميع من في الغرب من
القواد كبني حمدان وابن طغج صاحب دمشق، والى تكين صاحب مصر، والى ولاه
ديار ربيعه والجزيرة وآذربيجان وملوك أرمينية والثغور الجزرية والشامية
يأمرهم، بأخذ الطرق على مؤنس ويلبق وولده وزعفران، ومن كان معهم
ومحاربتهم والقبض عليهم.
وبلغ ذلك مؤنسا، فغمه الأمر، وكتمه عن جميع من كان معه وسار الى تكريت،
وقد انصرف عنه اكثر من كان معه ثم ان مؤنسا فكر في امره والى اين يكون
توجهه، فلم يجد في نفسه اوثق عنده ولا اشكر ليده من بنى حمدان فانه كان
عند ذكره إياهم يقول: هم أولادي، وانا أظهرتهم وكانت له عند حسين بن
حمدان وديعة، فاراد ان يجتاز به ويأخذها ويسير بها الى الرقة، وقد كان
بلغه تجمع بنى حمدان وحشدهم لمحاربته، فلم يصدق ذلك، ثقه منه بهم، فرحل
عن تكريت الى بنى حمدان، بعد ان شاور من حضره في الطرق التي يأخذ
عليها، فأشارت عليه طائفه بقطع البريه والخروج الى هيت ثم المسير الى
شط الفرات وقال يلبق وزعفران لمؤنس:
(11/144)
الصواب مسيرك الى الموصل كيف تصرفت الحال
لوجوه من المصالح، اما واحده فلعجزك عن ركوب البريه فتتعجل الرفاهية في
الماء، واخرى لئلا يقال: جزع لما بلغه خبر بنى حمدان وتجمعهم، وثالثه
انك ان بليت بقتالهم كانوا اسهل عليك من غيرهم، فوقع هذا الرأي من مؤنس
بالموافقة، وسار يريد بنى حمدان فلم يلق لهم في طريقه رسولا، ولا سمع
لهم خبرا الى ان وافى عليه بشرى النصراني كاتب ابى سليمان داود بن
حمدان، فاستأذن عليه يوم السبت لليلة بقيت من المحرم، وخلا بمؤنس وادى
اليه رساله صاحبه ورساله الحسين بن حمدان وابى العلاء وابى السرايا
بأنهم على شكره ومعرفه حق يده، ولكنهم لا يدرون كيف الخلاص مما وقعوا
فيه، فان أطاعوا سلطانهم كانوا قد كفروا نعمه مؤنس اليهم، وان أطاعوا
مؤنسا وعصوا سلطانهم، نسبوا الى الخلعان، وسألوه ان يعدل عن بلدهم لئلا
يلتقوا به ولا يمتحنوا بحربه فقال له مؤنس: قل لهم عنى: قد كنت ظننت
بكم غير هذا، وما أخذت نحوكم الا لثقتي بكم، وطمعي في شكركم، فإذا
خالفتم الظن فليس الى العدول عنكم سبيل، ونحن سائرون نحوكم بالغد،
كائنا ما كان منكم وأرجو ان إحساني إليكم سيكون من انصارى عليكم،
وخذلانكم لي غير صارف لفضل الله عنى وبات مؤنس بقصور مرج جهينة، وكان
عسكر بنى حمدان بحصباء الموصل، وبات المحسن زعفران في الطلائع على
المضيق الذى منه المدخل الى الموصل، وباكر مؤنس المسير في الماء على
رسمه قبل ذلك.
وسار اهل العسكر على الظهر، ووقع ابو على المحسن زعفران في آخر الليل
على مقدمه بنى حمدان التي كانوا أنفذوها نحو المضيق، فقتل منهم جماعه
واسر نحو ثلاثين رجلا، وملك المضيق وامده يلبق برجال زياده على من كان
معه وصبح الناس القتال يوم الأحد لثلاث خلون من صفر، وما كان جميع من
يضمه عسكر مؤنس الا ثمانمائه وثلاثة واربعين فارسا، وستمائه وثلاثين
راجلا بين اسود وابيض.
هكذا حكى الفرغاني عن احمد بن المحسن زعفران وكان شاهدا مع ابيه في
عسكر مؤنس، وعنه ينقل اكثر الحكايات وكان بنو حمدان في عساكر عظيمه قد
حشدوها من العرب والعجم وقبائل الاعراب وغيرهم، فتلاقى الفريقان على
تعبئه، وأخذ مؤنس ويلبق وابنه ومن كان معهم من القواد في حربهم احزم
ماخذ، وتوزعوا على مقدمه وميمنه وميسره وقلب، وجعلوا في كل مصاف منها
ثقاتهم واكابر قوادهم ثم
(11/145)
حملت مقدمتهم على مقدمه بنى حمدان، فضرب
داود بن حمدان بنبله دخلت من كم درعه، فصرعته وحملت ميمنه يلبق على
ميسره بنى حمدان فقلعتها وطحنتها وغرق اكثرهم في دجلة.
ثم حمل يلبق بنفسه ورجاله الذين كانوا في القلب على قلب عسكر بنى
حمدان، فهزموا من كان فيه، واتصل القتل فيهم، واسر ابن لأبي السرايا
ابن حمدان وغنم عسكرهم وتفرق جميعهم، ودخل مؤنس الموصل لاربع خلون من
صفر واعطى اصحابه الصلات التي كان وعدهم بها مع الزيادة، وصار في عسكره
خلق كثير من غلمان ابن حمدان ورجاله، وتوجه ابو العلاء بن حمدان وابو
السرايا الى بغداد مستنجدين للسلطان، وانحاز الحسين بن عبد الله بن
حمدان الى جبال معلثايا واجتمع اليه بها بعض غلمانه وغلمان اهله، فسار
اليه يلبق فهزمه وفرق جمعه، وعبر الحسين الى الجانب الغربي هاربا
مفلولا، وقلد يلبق ابنه نصيبين وما والاها، وانصرف هو الى موضع يلبق
وقلدها يمنا الأعور، وقلد يأنسا جزيرة بنى عمر، وأبا عبيد الله بن خفيف
الحديثه.
وبلغ اهل بغداد اخبار مؤنس وغلبته وفتوحاته، فاخذ كل من زال عنه في
الرجوع اليه واتصل بمؤنس ان جيوشا اجتمعت للروم، وفيها بنو ابن نفيس
وكانوا قد هربوا الى بلاد الروم عند خلع المقتدر أولا، وانهم قاصدون
ملطيه للغارة على المسلمين، فكتب مؤنس الى بلد الروم يستدعى بنى ابن
نفيس ويعده ويمنيه، ويسأله صرف الروم عن ملطيه، فاقبل بنى الى الموصل
وصرف الجيش عن ملطيه، فسر به مؤنس سرورا شديدا، وخلع عليه، واكرمه وانس
به، فكان يعاشره ويشاربه.
ووافاه أيضا بدر الخرشنى من ارزن في نحو ثلاثمائة رجل، فسر به مؤنس
ويلبق ومن كان معهما، وقدم عليهم طريف السبكرى من حلب في نحو أربعمائة
فارس، فسروا به أيضا، وتوالت الفتوحات على مؤنس ويلبق، فلما طال مقام
مؤنس بالموصل، ودامت فتوحه وعظمت هيبته، ابتدأ رجال السلطان الذين
كانوا بالحضرة بالهرب اليه، وتاكدت محبتهم له، فكان احد من جاءه بالدوا
غلام ابن ابى الساج-
(11/146)
وكان بطلا شجاعا- في نحو مائتي فارس، ولقى بالدوا في طريقه عسكرا
للسلطان فكسره، وأخذ احمال مال كانت معهم يريدون بها بغداد فجاء بها
بالدوا الى مؤنس ووهبها له ولرجاله، ثم استامنه الحسين بن عبد الله بن
حمدان لما ضاقت به الارض، وانقطع رجاؤه من امداد السلطان، وامنه مؤنس،
وقدم عليه، ففرح مؤنس بقدومه، وقال له: نحن في ضيافتك منذ سبعه اشهر
على كره لك، فشكره الحسين ولم يزل يخدم واقفا بين يدي مؤنس في دراعه
وعمامة بغير سيف مده مقام مؤنس بالموصل. |