تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
سنه 317
ذكر صرف المقتدر الى الخلافه
واخرج مؤنس المظفر المقتدر بالله وساله الرجوع الى الدار، والظهور
للناس فاستعفاه من ذلك فلم يدعه حتى رده في طيارة، مع خادمه بشرى، فلما
صعد القصر سال عن عبد الله بن حمدان، فاخبر بقتله، فساءه ذلك، وكان قد
صح عنده انه لم يرد من أول امره ما اراده نازوك، ولا ظن الحال تبلغ حيث
بلغت ثم ان المقتدر قعد للناس، وخاطبهم بنفسه، وقال للرجاله: لكم على
ست نوب وزياده دينار، وقال للغلمان: لكم على ارزاق اربعه اشهر، وقال
لسائر الجند: لكم على ارزاق اربعه اشهر وزياده خمسه دنانير لكل واحد
منكم، وما عندي ما يفى بهذا ولكنى أبيع ما بقي من ثيابي وفرشي وأبيع
ضياعي وضياع من يجوز عليه امرى، فبايعه الناس بيعه مجدده
(11/124)
واجتهد في توفيتهم ما ضمنه لهم، وصرف أواني
الذهب والفضه، ثم اعجلوه عن صرفها فكان يزنها لهم مكان الدنانير
والدراهم ووفى بكل الذى ضمنه، وكان القاهر لما اقعد للخلافة قد احضر
محمد بن على الوزير يوم السبت ويوم الأحد، وامره ان يجرى الأمور
مجاريها، فلم يحدث شيئا ولا حاول امرا فلما عاد المقتدر الى حالته
احضره وشكر ما كان منه، فكتب محمد بن على الى جميع الأمراء والعمال
والاطراف بما جدده الله للمقتدر بالله، وكفاه اياه، وارتجل الكتاب
إملاء بلا نسخه، فاحسن فيها وأجاد.
واضطربت الأمور ببغداد الى ان ولى المقتدر شرطته ابراهيم ومحمد ابنى
رائق مولى المعتضد، وخلع عليهما، وذلك بمشوره مؤنس المظفر وعن امره،
فقاما بالأمر احسن قيام وضبطا البلد أشد ضبط، وطاف كل واحد منهما
بالليل في جانبه من بغداد، وكان اكثر الضبط لمحمد فهو الذى كان يقيم
الحدود، ويستوفى الحقوق وكانت في ابراهيم رحمه ورقه قلب.
وقدم ياقوت من فارس في غره شهر ربيع الاول، فخلع عليه للحجابه وعلى
محمد ولده لسبب هزيمتهم للسجستانيه بكرمان، وولى الاعمال جماعه ممن
اشار بهم مؤنس ومحمد بن على ولم يف مال المقتدر والانيه التي احضرها
بارزاق الجند، فامر بارتجاع ما كان اقطعه الناس من الأموال والضياع
والمستغلات، وافرد لها ديوانا، وقلد الوزير ابن مقله ذلك الديوان عبد
الله بن محمد بن روح، وسمى ديوان المرتجعة، فتقلده في آخر المحرم، فعسف
عليه الجند بالمطالبة بالمال، فاستعفى الوزير فأعفاه وقلد مكانه الحسين
بن احمد بن كردى الماذرائى ووردت الاخبار باستيلاء العدو على الثغور
الجزرية، ونصبهم في كل مدينه رجلا منهم لقبض الجبايه، فاخرج السلطان
طريفا السبكرى لدفعهم، وكتب الى من قارب تلك الناحية ان يسيروا معه.
وورد الخبر بان اصحاب ابى مسافر اضطربوا عليه باذربيجان، فزال عنهم الى
المراغه، فحصروه بها حتى قتلوه، وتراضوا على قائد منهم اسمه مفلح،
فراسوه عليهم، وترددت الأنباء الشاغله الغامه.
[أخبار متفرقة]
وتوفى في هذا العام ابو الحسين بن ابى العباس الخصيبى والحسين بن احمد
الماذرائى بمصر، وتوفيت ثمل القهرمانه التي كانت مع والده المقتدر
(11/125)
وفيها توفى ابو القاسم ابن بنت منيع
المحدث، وهو ابن مائه سنه وثلاث سنين، مولده سنه اربع عشره ومائتين.
وتوفى نحرير الصغير بالموصل وكان يتولى معونتها.
وتوفى ابو معد نزار بن محمد الضبي.
وكان نصب الحج للناس في هذه السنه عمر بن الحسن بْن عبد العزيز بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ العباس، خليفه لأبيه الحسن
بن عبد العزيز فصده الجنابى عن الحج.
(11/126)
ثم دخلت
سنه ثمان عشره وثلاثمائة
(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)
[أخبار متفرقة]
فيها اقبل مليح الأرميني الى ناحيه شمشاط للغارة على أهلها، فخرج اليه
نجم غلام جنى الصفواني، وكان يلى المعاون بديار مضر، ويتولى اعمال
الرقة، فاوقع بمليح وباصحابه وقيعه عظيمه، فانفذ ابنا له يقال له
منصور، ويكنى أبا الغنائم الى الخليفة ببغداد بأربعمائة اسير منهم عشره
رؤساء مشاهير، فادخلهم بغداد في شهر ربيع الأول من هذه السنة مشاهير
على الجمال 4.
وفي هذه السنه خرج اعراب بنى نمير بن عامر وبنى كلاب بن ربيعه فعاثوا
بظهر الكوفه، واستطالوا على المسلمين، وأخافوا السبيل، فخرج اليهم ابو
الفوارس محمد بن ورقاء امير الكوفه في جمع من اشراف الكوفه وبنى هاشم
العباسيين والطالبيين ولم يكن معه جند سواهم فقاتل الاعراب بنفسه، وصبر
لمحاربتهم فأسروه وأسروا معه ابن عمر العلوي وابن عم شيبان العباسي من
ولد عيسى بن موسى، وسار بهم الاعراب في اخبائهم، ولم يجسروا على إيقاع
سوء بهم فطلبوا منهم الفداء فاجابوهم اليه، وفدوا انفسهم وتخلصوا منهم.
وفيها خلع على عبد الله بن عمرويه، وقلد شرطه البصره مكان محمد بن
القاسم بن سيما، وخلع على على بن يلبق لمعاون النهروان وواسط مكان سعيد
بن حمدان، فخرج الى واسط، وبلغه ان إسحاق الكردى المعروف بابى الحسين،
خرج لقطع الطريق على عادته، ومعه جمله من الأكراد، فراسله على ولاطفه،
ووعده تقديم السلطان له على جميع الأكراد فاقبل اليه وبات عنده وخلع
عليه وحمله ثم صرفه الى عسكره ليغدو عليه في اليوم الثانى، واجتمع
رؤساء اهل واسط الى على، فعرفوه بما قد هياه الله له في
(11/127)
الكردى وانه لو انفق مائه الف دينار لما
تمكن ما تمكن منه فيه، وانه ان افلت من يديه انكر السلطان ذلك عليه
فلما بكر الكردى الى على بن يلبق تقبض عليه وعلى من كان معه، وركب من
وقته الى موضع عسكره، فقتل منهم خلقا واسر جماعه وادخل ابو الحسين الى
بغداد مشهورا، ومعه اربعه عشر رجلا بين يدي يلبق المؤنسى وابنه على،
وذلك لثمان خلون من جمادى الاولى، فحبسوا ولم يقتلوا وفيها خلع على
محمد بن ياقوت وولى شرطه بغداد على الجانبين مكان ابراهيم ومحمد ابنى
رائق المعتضدي، وقلد الحسبه.
ذكر الإيقاع بجند الرجاله ببغداد
ومن الحوادث في هذه السنه التي عظمت بركتها على السلطان والمسلمين، ان
الرجاله المصافيه لما قتلوا نازوك، وتهيأ لهم ما فعلوه في امر المقتدر،
وقبضوا الست النوائب والزيادة التي طلبوها، ملكوا امر الخلافه، وضربوا
خياما حوالى الدار.
وقالوا:
نحن اولى من الغلمان بحفظ الخليفة وقصره، وانضوى اليهم من لم يكن منهم،
وزادت عدتهم على عشرين ألفا، وبلغ المال المدفوع اليهم لكل شهر مائه
الف وثلاثين الف دينار، وتحكموا على القضاه، وطالبوهم بحل الحباسات
واخراج الوقوف من ايديهم، واكتنفوا الجناة، وعطلوا الأحكام، واستطالوا
على المسلمين، وتدلل قوادهم على الخليفة وعلى الوزير، حتى كان لا يقدر
ان يحتجب عن واحد منهم في اى وقت جاء من ليل او نهار، ولا يرد عن احد
حاجه كائنا ما كانت، فلم يزالوا على هذه الحال الى ان شغب الفرسان،
وطلبوا أرزاقهم، وعسكروا بالمصلى، ودخل بعضهم بغداد يريد دار ابى
القاسم بن الوزير محمد بن على فلما قربوا منها دافعهم الرجاله الذين
كانوا ملازمين بها، ومنعوهم الجواز في الشارع، فتجمع الفرسان، ورشقوهم
بالنشاب، وقتلوا منهم رجلا، فانهزم الرجاله اقبح هزيمه، فطمع الفرسان
حينئذ فيهم، وافترصوا ذلك منهم، وراسلوا الغلمان الحجريه في امرهم
وتأمروا معهم على الإيقاع بهم
(11/128)
وبلغ محمد بن ياقوت صاحب الشرطه الخبر،
فحرص على نفاذه، واغرى الفرسان بالعزم فيه، وسفر في الأمر واحكمه،
وأومى اليهم الوزير بوجه الرأي فيه، ودبره من حيث لا يظن به، إذ علم ما
في نفس الخليفة عليهم من الغيظ لقبيح ما كانوا يحدثونه عليه فوثب
الغلمان الحجريه يوم الأربعاء لثمان ليال بقين من المحرم بالرجاله
المصافيه وطردوهم عن المصاف، ورشقوهم بالنشاب، فانصرفوا منهزمين، واخرج
ابن ياقوت صاحب شرطه بغداد غلمانا كثيرا في طيارات وتقدم اليهم الا
يتركوا رجلا يعبر من جانب الى جانب الا قتلوه، ولا ملاحا يجيز احدهم
الا رموه بالنشاب، واخافوه ومنعوا من عبور الجسر، والح عليهم بالطلب،
ونودى فيهم الا يبقى ببغداد منهم احد، واعانت عليهم العامه، وانطلقت
فيهم الأيدي، فلم يجتمع منهم اثنان، وحظر عليهم الا يخرجوا الى الكوفه
والبصره والاهواز، فتخطفوا في كل وجه واميحوا بكل مكان، فهل ترى لهم من
باقيه، وقصد الفرسان مع العامه الى الموضع الذى كان فيه مستقر السودان
بباب عمار، فنهبوهم واحرقوا منازلهم، فطلبوا الامان، وسألوا الصفح،
فرفع عنهم القتل وحبس منهم الوجوه واسقطت عنهم الجرايات.
كتاب على بن مقله الى القواد والعمال
وكتب الوزير محمد بن على بن مقله فيهم نسخه انفذت الى القواد والعمال
وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم: قد جرى اعزك الله من امر الرجاله المصافيه
بالحضرة ما قد اتصل بك، وعرفت جملته وتفصيله وجهته وسبيله، وقد خار
الله عز وجل لسيدنا امير المؤمنين وللناس بعده بما تهيأ من قمعهم
وردعهم، خيره ظاهره متصله بالكفاية الشامله التامة بمن الله وفضله، ولم
ير سيدنا ايده الله استصلاح احد من هذه العصبة الا السودان فإنهم كانوا
اخف جناية، وايسر جريره، فراى اعلى الله رايه اقرارهم على أرزاقهم
القديمه، وتصفيتهم بالعرض على المحنة لعلمه ان العساكر لا بد لها من
رجاله وامر اعلى الله امره، ان يستخدم بحضرته من تؤمن بائقته وتخف
مؤنته، وترجى استقامته
(11/129)
وبالله ثقه امير المؤمنين وتوفيقه، وقبلك
وقبل مثلك رجاله أنت اعلم بمن مرضت طاعته منهم، ومن يعود الى صحه
وصلاح، فان قنع من ترضاه منهم بأصل الجاري عليه فتمسك به واقره على
جاريه، ومن رايت الاستبدال به فأمره إليك والله المستعان.
ذكر صرف ابن مقله عن الوزارة وولايه ابن
مخلد
وفي جمادى الاولى يوم الأربعاء لاربع عشره ليله بقيت منه صرف محمد بن
على ابن مقله عن الوزارة، ووكل به في الدار، وحبس فيها، واحضر محمد بن
ياقوت صاحب الشرطه أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد، فوصل الى
الخليفة وقلده وزارته، وخلع عليه، ومضى في الخلع التي كانت عليه الى
الدار التي كان يسكنها ابن الفرات والوزراء بعده ثم نزل منها الى
طيارة، ومضى الى منزله، فاقر عبيد الله الكلواذى على دواوين السواد
والاهواز وفارس وكرمان، واقر كثيرا ممن كان على سائر الدواوين وقلد
ابنه احمد بن سليمان ديوان المشرق، واستخلف له عليه من يتولاه له، وقلد
ابنه أبا محمد ديوان الفراتيه، وقلد أبا العباس احمد بن عبيد الله
الخصيبى الاشراف على اعمال فارس وكرمان، ورد التدبير اليه فكان يعزل
ويولى، وقلد أبا بكر محمد بن على الماذرائى اعمال مصر، فسار سيره
جميله، وعضده على بن عيسى برايه، وكان على يجلس للمظالم منذ خرج من
الحبس الى وقته ذلك، ثم اتصل قعوده مده.
وفي جمادى الآخرة من هذا العام شغب الفرسان وصاروا الى دار على بن
عيسى، فنهبوا اصطبله وقتلوا عبد الله بن سلامه حاجبه 4.
ثم ان الرجاله السودان طلبوا الزيادة على ما كان رسم لهم، وشغبوا
وحملوا السلاح، فسار اليهم محمد بن ياقوت ورفق بهم، ودارى امرهم فلم
يقنعهم ذلك، وبقوا على حالهم، وامتدوا الى الفرسان وقاتلوهم فتقدم
اليهم سعيد بن حمدان وجماعه من اصحاب ابن ياقوت، ورشقوهم بالنشاب
وادخلوا الى منازلهم النار فهربوا الى النهروان وقطعوا الجسر بعد ان
قتل منهم خلق كثير، ثم ساروا الى واسط، وتجمع اليهم خلق كثير من
البيضان، ولحق بهم جماعه من قوادهم، وراسهم نصر الساجي، وطالبوا عمال
ذلك
(11/130)
الجانب بالأموال، فندب السلطان للشخوص
اليهم مؤنسا المظفر، فخرج اليهم ورفق بهم ودعاهم الى القناعه بما رسمه
السلطان لهم، فأبوا ولجوا في غيهم، واجتمعوا في مصلى واسط من الجانب
الغربي، وحفروا الابار حوالى عسكرهم، وفجروا المياه، وأقاموا النخل
المقطوع منصوبه في الطريق المسلوكه اليهم ليمنع الخيل من التقحم عليهم،
فعبر مؤنس حتى نزل بقربهم، ثم سار اليهم بمن كان معه على الظهر وفي
الماء على مخاضه وجدوها، ووضعوا فيهم السيف، فقتل اكثرهم، وغرق بعضهم
واسر رئيسهم نصر الساجي، وأخذ ابن ابى الحسين الديراني واستامن بعض
السودان، فنقلهم مؤنس وفرقهم في النواحي، واقر على بن يلبق على شرطه
واسط وكانت هذه الوقيعه لخمس بقين من رجب، ورجع مؤنس الى بغداد لعشر
بقين من شعبان.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنه اسر الحسن بن حمدان شاريا خرج بكفر غرثا، يقال له:
غزون، وانفذه الى السلطان، فحمل على فيل، وادخل بغداد مشهورا ثم حبس،
وذلك في ذي الحجه.
وقبل ذلك بشهر ما وجه ابو السرايا نصر بن حمدان بن سعيد بن حمدان شاريا
خرج بالرادفيه من موالي بجيله، فادخل بغداد على فيل وبين يديه ولدان له
على جملين ومائه راس من رءوس اصحابه، وسار رجل من وجوه البرابر يعرف
بابى شيخ الى دار السلطان في ذي القعده، فذكر ان جماعه من وجوه القواد
والكتاب قد بايعوا أبا احمد محمد بن المكتفي بالله، واستجاب له نحو
ثلاثة آلاف رجل من الجند، فامر السلطان بحفظ ابن المكتفي بالله في
داره، وانتشر خبر ابى شيخ فخيف عليه ان يقتله الجند، فبعث الى الجبل
الى ابن الخال ليكون في جيشه.
وورد الخبر في ذي القعده بوقوع الحرب بالبصرة بين البلاليه والسعديه،
وان عبد الله بن محمد بن عمرويه والى المعونة بها اعان البلاليه فهزموا
السعديه واحرقوا محالهم، فاخرجوا من البصره ثم ردوا إليها بعد مده عن
سؤال منهم وتضرع.
قال الصولي: ولما ورد الخبر بذلك، كتب على بن عيسى الى اهل البصره في
ذلك كتابا بليغا ينهاهم فيه عن العصبية ويعرفهم سوء عاقبتها، فدخلت
اليه وهو يملى الكتاب،
(11/131)
فلما اوعب املاءه امر كاتبه بدفعه الى
لأقرأه قال: فحسن عندي الكتاب، وقلت له: قد كان لإبراهيم بن العباس
كتاب في العصبية فقال لي: ما اعرفه، فما هو؟
قلت: حدثنى عون بن محمد الكندى قال: قدم علينا بسر من راى كاتب من اهل
الشام، يقال له عبد الله بن عمرو من بنى عبد كان المصريين، فجعل يستصغر
كتاب سر من راى، ولا يرضى احدهم قال عون: فحدثت ابى بحديثه فانف من
ذلك، وقال: والله يا بنى لاضعفنه ولاهونن نفسه اليه فمضى به الى
ابراهيم بن العباس، وادخله عليه، وهو يملى رساله في قتل إسحاق بن
اسماعيل، وفيها ذكر العصبية، فسمع الشامي ما اعجبه، وقال لأبي: هذا من
لم تلد النساء مثله فانى سمعته يملى شيئا كأنه فيه تدبر مبين قال عون
فنسخ ابى ما املاه من الرسالة وهو:
وقسم الله عدوه اقساما ثلاثة: روحا معجلة الى عذاب الله، وجثه منصوبه
لأولياء الله، وراسا منقولا الى دار خلافه الله، استنزلوه من معقل الى
عقال، وبدلوه آجالا من آمال، وقديما غذت العصبية أبناءها، فحلبت عليهم
درها مرضعه، وركبت بهم مخاطرها موضعه، حتى إذا وثقوا فآمنوا وركبوا
فاطمأنوا وامتد رضاع، وآن فطام، فجرت مكان لبنها دما وأعقبتهم من حلو
غذائها مرا، ونقلتهم من عز الى ذل، ومن فرحه الى ترحه، ومن مسره الى
خسره، قتلا واسرا، وغلبه وقسرا، وقل من وأضع في الفتنة مرهجا، واقتحم
لهبها مؤجحا الا استلحمته آخذه بمخنقه، وموهنه بالحق كيده، حتى جعلته
لعاجله جزرا ولأجله حطبا، وللحق موعظه وعن الباطل مزجره، أولئك لَهُمْ
خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وما الله
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ*.
وورد الخبر في ذي الحجه بوثوب اصحاب اسفار بن شيرويه الديلمى المتغلب
على الري عليه، واعتزامهم على قتله، وانه هرب في نفر من خاصته وغلمانه،
فصار مكانه الى الري ديلمى يقال له مرداويج بن زيار
(11/132)
ومن الحوادث في هذه السنه ان الحريق وقع
ليله الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى في دار محمد بن على بن
مقله التي كان بناها بالزاهر على شاطئ دجلة، ويقال انه انفق فيها مائتي
الف دينار، فاحترقت بجميع ما كان فيها، واحترقت معها دور له قديمه، كان
يسكنها قبل الوزارة، وانتهب الناس ما بقي من الخشب والحديد والرصاص،
حتى صارت مستطرقا للسابلة من دجلة، وبطل على السلطان ما كان يصير اليه
من اجارات الزاهر، وذلك جمله وافرة في السنه، ثم امر السلطان بسد
أبوابها ومنع السابلة من تطرقها، وتحدث الناس بان محمد بن ياقوت فعل
ذلك لضغن كان لمحمد بن على بن مقله عنده في قلبه.
وفيها خلع المقتدر على ابنه ابى عبد الله هارون لتقلد فارس وكرمان يوم
الاثنين لست بقين من شوال، وركب في الخلع الى داره المعروفه بجراده،
بقرب الجسر، وكان المقتدر قد ثقف ولده هذا بنصر الحاجب، وجعله في حجره،
فلما مات نصر تكفل امره ياقوت كما كان يتكفله نصر قبله، الا ان نصرا
كان يهدى له، ويتقرب اليه.
قال الصولي: انا شهدت نصرا الحاجب قد اشترى ضيعه على نهر ديالى
والنهروان يقال لها قرهاطيه، كانت للنوشجانى، فاشتراها حصصا واقساما
وقامت عليه بثمانية عشر الف دينار، ثم أهداها الى ابى عبد الله بن
المقتدر، وهي تساوى ثلاثين الف دينار، وصنع له فيها ولأخيه ابى العباس
يوم أهداها اليه وخرجا معه إليها في وجوه القواد والغلمان، فأقاموا بها
يومين، وانفق عليهم نصر مالا جسيما، ووصل الغلمان والخدم بصلات سنيه،
وحمل بعضهم على خيل بسروجها ولجمها، قال: وحكى لي بعض وكلائه انه احصى
ما ذبح في هذين اليومين من حمل وجدي وطير وغير ذلك من صنوف الدراج
والطائر فبلغ ذلك اربعه آلاف راس.
قال الصولي: ولما خلع على ابى عبد الله هارون للولاية، وصح عزمه على
الخروج، دعانى الى المسير معه والكون في عديد صحبه، فكره ذلك الأمير
ابو العباس بن المقتدر، فاعتلك على ابى عبد الله، فغضب على وقطع اجراءه
عنى قال: ثم بلغنى ان خروجه غير تام، فكتبت اليه بقصيده فيها تشبيب حسن
ومديح مثله.
واجتلب الصولي جميع القصيده في كتاب الورقه الذى الفه باخبار الدولة،
فرايت
(11/133)
اثبات ابيات منها في هذا الكتاب ليستدل
بمباطنه الصولي لهم، على علمه باخبارهم، وحفظه لما جرى في ايامهم، فليس
المخبر الشاهد كالسامع الغائب، ومن قصيده الصولي:
ظلم الدهر والحبيب ظلوم ... اين من ذين يهرب المظلوم
عطفت باللقاء ريح بعاد ... فاستهلت على فؤادى الهموم
يا سقيم الجفون اى صحيح ... لم يدعه هواك وهو سقيم
احرام عليك وصلى أم السائل ... وصلا مباعد محروم
قد كتمت الهوى واصعب شيء ... ان تاملته هوى مكتوم
فمتى اخصم الحبيب وايامى ... بما يشتهى على خصوم
لأبي عبد الله هارون عندي ... حادث من فعاله وقديم
هو بدر السماء يطلع في سعد ... المعالى والناس فيها نجوم
ورث المجد عن خلائف غر ... سبعه ما يعد فيهم بهيم
يا نسيم الحياه أنت لايامى ... إذا ما ركدن عنى نسيم
قد تذوقت منك طعم نوال ... مثله لا عدمته معدوم
لا تكلني الى شواهد ظن ... ليس يقضى بها على عليم
ليس تمضى الا ومن اتهمت ... ناج مما ظننت سليم
فانا الان راحل ان ترحلت ... وثاو إذا اقمت مقيم
ارنى للرضا علامه انصاف ... فدهرى وقد كفاك غسوم
نظم هذا المديح ان انصفوه ... لا يدانيه لؤلؤ منظوم
قد اتى ساحبا ذيول المعالى ... فيك والمدح بالنوال زعيم
وفيها مات ابو بكر محمد بن ابراهيم بن المنذر بن الجارود النيسابورى
بمكة يوم الأحد انسلاخ شعبان.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الحسن العباسي.
(11/134)
|