تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

 [تكملة تاريخ الطبري لمحمد بن عبد الملك الهمذاني]
[مقدمة]
(بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم اما بعد الحمد الله الذى وفقنا لهدايته، ووهب لنا التمسك بشريعته، والصلاة على نبيه محمد، الذى اختاره لرسالته، وفضله بنبوءته، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته.
والدعاء لمن الدنيا مهناه بمصادفه سلطانه، والفضائل مستفيده من تيامن إحسانه، والدهر مفتخر بحصول عنانه في يديه، ومثوله في جمله العبيد لديه، سيدنا ومولانا الامام المستظهر بالله امير المؤمنين، لا زال سلطانه باذخ المكان، راسخ الأركان وايامه رفيعه العماد، منيعه البلاد ليؤرخ من مناقبها ما لا تتعلق النجوم باذياله، وتقصر عين الزمان عن شماله.
فان علم التاريخ، رغب في الاطلاع عليه ساده الأمم والقبائل، واهل المحامد والفضائل، الأئمة من ولد العباس رضوان الله عليهم، وهم الأسرة الطاهره، والدوحه الزاهره، هداه الاعلام، وشموس الاسلام، وكانوا اكثر الخلق روايه لمن تقدمهم، وآثار من كان قبلهم، فما كان في ذلك من استقامة في الاحوال كان بالنعم مذكرا، وما شاهدوا فيه من الاختلال كان منبها ومنذرا.
وقد روى ان رجلا سال سعيد بن المسيب رحمه الله عليه، فقال: رايت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال له: يا هذا ان الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، فمن كان على خير بشره وامره بالزيادة، ومن كان على شر حذره وامره بالتوبة.
والاطلاع في اخبار الناس، مرآه الناظر، تصدق عن المحاسن والمقابح، ويهذب ذوى البصائر والقرائح وبها يذكر الله تعالى من عباده ما يراه أهلا لذكره، ومستوجبا لكريم ثوابه واجره

(11/187)


هذا المنصور رضى الله عنه، وهو بازل الأئمة، وكافل الامه، قال لأصحابه:
الملوك اربعه: معاويه وكفاه زياده، وعبد الملك وكفاه حجاجه، وهشام وكفاه مواليه، وانا ولا كافى لي، واجماله لذلك استنهاض منه لهم على معرفه اخبارهم، حين انكر عليه الاسراف في ثمن عمامته، فقال له: أنت ابتعت جاريه باضعاف ذلك، لأخس اطرافك، فما تنكر من ابتياعى هذه لأكرم أطرافي! واخبر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال: لو كنت في قتله الحسين بن على عليهما السلام، ثم امرت بدخول الجنه لم افعل حياء ان تقع عيني في عين محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الهادي رضوان الله، اخبر عن السندي بن شاهك، قال: كنت معه بجرجان فسمع بين بساتينها صوت رجل يتغنى، فامر باحضاره، فقلت له: ما اشبه قصه هذا الجائى بقصة صاحب سليمان بن عبد الملك، فقال: وما ذاك؟ فقلت:
خرج سليمان في منزه له مع حرمه، فسمع صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، وقال: على بصاحب الصوت، فاتى به، فقال له: ما حملك على الغناء وأنت على القرب منى، وبجانب حرمي؟ اما علمت ان الفرس يصهل فتستأتى له الرماك.
وان الحمار ليعشر فتودق له الأتن، وان التيس ليهب فتزعج له الغنم، وان

(11/188)


الرجل ليغنى فتغتلم المرأة يا غلام جبه، فجبه فلما كان في العام المقبل رجع سليمان الى ذلك المنزل، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: على بالرجل الذى جببته ان كان حيا فأتاه به، فقال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك! فما دعاه الرجل الا باسمه، وقال: يا سليمان، قطعت نسلى، وذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما بعت واما وهبت! لا والله حتى أقف بين يدي الله عز وجل! فقال الهادي لصاحب الشرطه: لا تعرض للرجل.
وكان الرشيد رضوان الله عليه في بعض أسفاره، وقد نزل الثلج فاذاه، فقال له بعض اصحابه: الى متى سهرك يا امير المؤمنين؟ فقال: اسكت، للرعية المنام، وعلينا القيام، ولا بد للراعي من حراسه الاغنام.
وقد روى قطن بن وهب، عن ابيه، ان عمر بن الخطاب امير المؤمنين رضى الله عنه اجتاز في بعض أسفاره على صاحب غنم، فقال: يا ذا الرجل، ان كل راع مسئول عن رعيته، وانى رايت في المكان الفلاني عشبا امثل من موضعك ثم اثنى على عمر رضى الله عنه، وذكر سيرته، يقول الشاعر فيه:
غضبت لغضبتك القواطع والقنا ... لما نهضت لنصره الاسلام
ناموا الى كنف لعدلك واسع ... وسهرت تحرس غفله النوام
ولو تتبعت امثال هذا لأطلت، ولم أر اجمع لهذا العلم من كتاب محمد بن جرير الطبرى، فرايت ان اضيف اليه مجموعا عولت فيه على ما نقلته من تصانيف المؤرخين وتاليف المحققين كالصولى والتنوخي والخطيب ابى بكر احمد بن ثابت

(11/189)


المحدث وابى إسحاق الصابى، واولاده وابن سنان وغير هؤلاء، واضفت الى ذلك ما حفظته من شعر الشعراء وحكايات العلماء تشهد بالحال، واختصرته بجهدى، ولخصته بحسب طاقتي، واقتصرت فيه على الأمور المشهوره، والاحوال السائره المأثورة.
وختمته ببيعه سيدنا ومولانا الامام المستظهر بالله امير المؤمنين، الذى قضى حق الله في بريته، وارتسم امره في رعيته فمن نظر في فضائله، داوى فكره العليل، وشحذ طبعه الكليل، وما من احد اوتى ذخيره تحصيل، وبصيره راى اصيل، يبدع في تدوين مناقبه، ولا يغرب في اثبات فضائله، ومن قصر في جمعها، فله في انعام المتأمل لذلك مجال يحرسه عن الم التقريع وثقته تفصح الناظر، وتغنى عن التبذل والمعاذير.
فالرغبه الى الله تعالى في ان يمد ظلال ايامه التي بها اعتدل المائل، وارتدع الجاهل، وامن السابل، وقصر المتطاول، وان يجعل له من سيدنا ومولانا عمده الدين عضدا ينوء بقوتها، ويدا تسطو ببسطتها، وان يبلغه منه قاصيه الايثار وينيله منه غاية الاختيار وتبديد اعدائه تحت الذلة والصغار، والخيبة والخسار، لا يعتصمون بعصمه الا أباح الله حوزتها، ولا يعتضدون بفرقه الا شتت الله كلمتها.
ومن نظر في عزمات سيدنا ومولانا الامام المستظهر بالله امير المؤمنين رضوان الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وابنائه الاكرمين، علم انها تأتي بما لم تقرع الاسماع من قبلها، ولا عثر في السير بمثلها، وتحقق انها ابعد مجدا، وان كانت اقرب عهدا، وارفع عمادا، وان كانت احدث ميلادا، فحفظ الله على الدنيا سياسته، وعلى أهلها حسن رأفته، حتى تضع له الدنيا خدودها ضارعه وتستجيب لأمره سامعه طائعة، انه ولى ذلك والقادر عليه، بمنه ولطفه.
ولما ختم ابن جرير تاريخه سنه اثنتين وثلاثمائة، وهي السنه السابعه من خلافه المقتدر بالله رضى الله عنه، واشار الى الأمور اشاره خفيه، رايت ان ابتدى بخلافته ووقت بيعته، وبالله التوفيق.

(11/190)


خلافه المقتدر بالله
مده خلافه المقتدر بالله ابى الفضل جعفر بن المعتضد بالله اربع وعشرون سنه وشهران وعشره ايام، ومولده لثمان بقين من شهر رمضان سنه اثنتين وثمانين ومائتين، ولم يل الخلافه اصغر سنا منه.
وليها وسنه ثلاث عشره سنه وشهر واحد وعشرون يوما بايع له لما مات المكتفي بالله ابو احمد العباس بن الحسن، وكان قد مال الى تقرير الأمر لعبد الله بن المعتز بمشوره ابى عبد الله محمد بن داود بن الجراح فثنى رايه عن ذلك ابن الفرات وقال: ان ابن المعتز يخبر نعم اصحاب السلطان، ويعرف اسرارهم وذخائرهم، وقد خالط الناس وفهم أمورهم، فعينه ممتدة الى ما في ايديهم، وان كان جعفر بن محمد المعتضد بالله صغيرا، فأنت تدبره، فقرر ذلك في نفسه.
ولما مات المكتفي بالله، انفذ الوزير العباس بن الحسن، بصافى الحرمي الى دار ابن طاهر، والمقتدر بالله بها، فاحدره الى دار الخلافه واجتازت الحراقة على دار الوزير فامر الوزير غلمانه فنادوا الملاحين بالدخول ليغير زيه، فظن صافى ان ذلك لتغير راى فيه، فجرد سيفه على الملاح، وامره الا يعرج على مكان غير دار الخلافه.
وبويع حينئذ على صلاه الاستخارة، واطال الدعاء، وكان العباس بن الحسن قد عول على ان ينصب في الخلافه أبا عبد الله بن المعتمد على الله، او أبا الخير ابن المتوكل على الله، فماتا مختلسين.

(11/191)


سنه ست وتسعين ومائتين
قد ذكرت ميل ابى عبد الله محمد بن داود بن الجراح صاحب الديوان الى ابن المعتز فلما لم يجد عند الوزير ما يريده، عدل الى الحسين بن حمدان، فاشار عليه بالمعاضده على فسخ امر المقتدر بالله وتمهيد حال ابن المعتز، وبادر الحسين بن حمدان الى الوزير العباس بن الحسن وقد ركب من داره بدرب عمار عند الثريا، الى بستانه المعروف ببستان الورد، عند مقسم الماء، فاعترضه بالسيف فقتله، وقتل معه فاتكا المعتضدي وكان المقتدر بالله قد ركب لمشاهده اجراء الخيل، فسمع الضجة، فبادر الى الدار وكان الحسين قد قصد للفتك به، واغلقت الأبواب دونه، فانصرف الى المخرم، وجلس في دار سليمان بن وهب، وعبر اليه ابن المعتز، وكان نزل بدار على الصراة، وحضر ارباب الدولة من الكتاب والقواد والقضاه فبايعوه ولقبوه المرتضى بالله.
واستخفى ابن الفرات واستوزر ابن المعتز ابن الجراح ومضى ابن حمدان الى دار الخلافه، فقابله الخدم والغلمان على سورها ودفعوه.
وكان مع المقتدر بالله غريب الخال، ومؤنس الخادم، الذى لقبه بالمظفر ومؤنس الخازن.
ولما جن الليل مضى ابن حمدان باهله وماله واصعد الى الموصل واصعد

(11/192)


غريب الخال ومؤنس المظفر في الزبازب الى المخرم فهرب الناس من عند ابن المعتز، وخرج وحده، واستجار بابن الجصاص.
واستتر على بن عيسى وابن الجراح عند بقلى، فأخرجهما العامه وسبوهما وسلموهما الى خادم اجتاز بهم فحملهما على بغل وقتل مؤنس المظفر جميع من بايع ابن المعتز غير على بن عيسى وابن عبدون والقاضى محمد بن خلف بن وكيع.
وانفذ المقتدر بالله مؤنسا الخازن لطلب ابن الفرات، وكان قد استتر عند جيرانه، فكتموه امره، فحلف لهم ان السلطان يريد ان يستوزره، فاظهروه وحمله الى الخليفة، فولاه وزارته.
ونم خادم لابن الجصاص بخبر ابن المعتز الى صافى الحرمي، فكبس عليه واخذه وأخذ ابن الجصاص معه، فصودر على اموال جمه وسال ابن الفرات فيه.
واستنقذ ابن الفرات على بن عيسى ومحمد بن وكيع القاضى، وابن عبدون، ونفى ابن عبدون الى الاهواز، ونفى على بن عيسى الى واسط، فلما حصلا بالموضعين قرر سوسن مع المقتدر بالله احضار ابن عبدون وتوليته الوزارة.
فلما حصل بواسط، بلغ ذلك ابن الفرات، فاغرى المقتدر سوسن حتى قتله وانفذ الى ابن عبدون من صادره واعتقله وكتب على بن عيسى الى ابن الفرات يسأله ابعاده الى مكة لتزول عنه التهم ففعل، وسار إليها على طريق البصره.
وظهر موت ابن المعتز فسلم الى اهله ميتا.
وكان ابن الجراح مستترا، وعزم ابن الفرات على التوصل الى الصفح عنه، وأتاه رجل برقعته، فأمره بالاستتار حتى يدبر طريق العفو عن جرمه العظيم، واعلمه ان صافيا الحرمي يعاديه فلم يصبر ابن الجراح، فتتبعت امراه نصرانية كانت تحمل رقاعه، فاخذ وحمل الى مؤنس فقتله.
واتى ابن الفرات رجل، فاخبره انه يعرف مكانه، فقال ان كان هذا صحيحا، فلك الف دينار، والا عوقبت لكذبك الف سوط، فرضى وامر ابن الفرات حاجبا

(11/193)


له بمراسلته ليبعد عن المكان الذى هو فيه مستتر فلما علم انه قد تركه، ومضى الى غيره انفذ بالساعى به مع صاحب الشرطه، فلم يجدوه فامر ابن الفرات بضرب الساعى مائتي سوط واشهاره والنداء على نفسه: هذا جزاء من يسعى بالباطل، ثم امر له بمائتي دينار ونفاه الى البصره سرا وقال: لو لم افعل هذا به، سعى بي الى الخليفة بأنني توانيت في امره.
واما ابو عمر القاضى فسال فيه أبوه يوسف بن يعقوب القاضى، فاحترم لكبر سنه، وادى عنه مائه الف دينار على ان يلازم منزله.
وانفذ الخليفة بالقاسم بن سيماء وابى الهيجاء بن حمدان، لمحاربه أخيه الحسين ابن حمدان، فهزمهما، ودبر ابن الفرات حتى كتب له أمانا وولاه قم.
وفي هذه السنه، قلد يوسف بن ابى الساج اعمال آذربيجان وأرمينية، على ان يحمل بعد إعطاء الجند والنفقات مائه وعشرين الف دينار في السنه.
وقدم بارس غلام اسماعيل بن احمد صاحب خراسان في اربعه آلاف تركي مفارقا لصاحبه، فقلد ديار ربيعه.
وكان للوزير العباس بن الحسن ابن كنيته ابو جعفر، واسمه محمد، فمضى بعد قتل ابيه الى بخارى واقام عند الملوك السامانيه، ومن شعره:
لئن اصبحت منبوذا ... باطراف خراسان
ومجفوا نبت عن لذة ... التغميض اجفانى
ومحمولا على الصعبه ... من اعراض سلطان
ومخصوصا بحرمان ... من الأعيان اعيانى
ومكلوما باظفار ... ومكدوما باسنان
وملقى بين اخفاف ... وأظلاف توطآنى
وما ذنبي الى من هو ... عنى عطفه ثانى

(11/194)


سوى انى ارى في الفضل ... فردا ليس لي ثانى
كان المجد إذ كشف ... عنى كان غطانى
ساسترفد صبري انه ... من خير أعواني
واستنجد عزمي انه ... والحزم سيان
وأنضو الهم من قلبي ... وان أنضيت جثماني
وانجو بنجاتى ان ... قضاء الله نجاني
الى ارضى التي ارضى ... وترضيني وترضانى
فان سلمني الله ... وبالصنع تولاني
واوطانى اوطانى ... وأعطاني أعطاني
واخلى ذرعي الدهر ... وخلاني وخلاني
فانى لا أجد العود ... ما عاد الجديدان
الى الغربه حتى تغرب ... الشمس بشروان
فان عدت لها يوما ... فسجانى سجاني
وللموت الوحى الأحمر ... القانى القانى
وقال بعض الشعراء في العباس بن الحسين، وقد ساء خلقه بعلو سنه:
يا أبا احمد لا تحسن ... بأيامك ظنا
فاحذر الدهر فكم اهلك ... املاكا فافنى
كم رأينا من وزير ... صار في الأجداث رهنا
اين من كنت تراهم ... درجوا قرنا فقرنا
فتجنب مركب الكبر ... وقل للناس حسنا
ربما امسى بعزل ... من باصباح يهنى
وقبيح بمطاع الأمر ... الا يتأنى
اترك الناس وأيامك ... فيهم تتمنى
قال جحظه: اضقت مره اضاقه شديده، فجلست مع ملاح، ومعى طنبورى، وانحدرت حتى دار الوزارة بالمخرم، والوزير إذ ذاك العباس بن الحسن، والسماء

(11/195)


متغيمه، والستائر منصوبه، والماء زائد على نيف وعشرين ذراعا، فأمرت الملاح، فشد السميريه في الروشن، وغنيته:
عللانى بجامه وبطاس ... قهوة من ذخائر الشماس
سقيانى فقد صرفت صروف الدهر ... عنى بدولة العباس
ملك ينثر الثمين من الدر ... بألفاظه على القرطاس
فامر بي، فاصعدت، وامر لي بألفي دينار.

(11/196)


سنه سبع وتسعين ومائتين
فيها انفذ السبكرى مقلد فارس، مع كاتبه الفضل عبد الرحمن بن جعفر الشيرازى طاهرا ويعقوب بن محمد بن عمرو بن الليث الصفار وكان قد أسرهما، ثم عزم السبكرى على الخلاف، فانفذ اليه ابن الفرات مؤنسا فصالحه على عشره آلاف الف درهم، فلم يرض بذلك ابن الفرات، وانفذ اليه جيشا، ومعه محمد بن جعفر العبرتائي، فواقعوا السبكرى على باب شيراز، فهزموه الى سجستان، فاسره احمد بن اسماعيل، واسر معه بعض بنى عمرو بن الليث، وأنفذهما الى بغداد.
وتوفى العبرتائي بفارس، فقلد مكانه عبد الله بن ابراهيم المسمعي.
وفيها غرقت فاطمه القهرمانه في طيارها تحت الجسر في يوم ريح عاصف، فحضر صهرها بنى بن نفيس جنازتها، وجعلت السيده مكانها أم موسى.

(11/197)


سنه ثمان وتسعين ومائتين
فيها اعتل صافى الحرمي، ووهب داره بقصر عيسى لغلامه قاسم، وابراه من كل امر، ومات فحمل الى ابن الفرات من ماله مائه وعشرون الف دينار وسبعمائة منطقه ذهبا وفضه، فحملها ابن الفرات الى المقتدر بالله، فاقر مرتبه استاذه.
وولى غريب الخال ما كان يتقلده صافى من الثغور الشامية.
وفي هذه السنه مات المظفر بن حامد امير اليمن، وحمل الى مكة فدفن بها.
وكان ملاحظ قد انفذه الخليفة مددا فتولى مكانه.
وفي هذه السنه توفى احمد بن ابى عوف، وشارعه في الجانب الغربي معروف وكان احد العدول، وتوفى وسنه نيف وثمانون سنه وقال: أصابني هم لم اعرف سببه في بعض الأيام، فخرجت الى بستان لي على نهر عيسى، فاجتاز بي ركابى، ثم وقف في ظل شجره، فتقدمت له بما يأكله، لأنني رايته والجوع غالب عليه، فأكل ثم نام فأخذت الكيس الذى فيه كتبه، فإذا فيه كتاب التجار من الرقة، الى اصدقائهم ببغداد ومعارفهم، يأمرونهم بشراء كل زيت ببغداد، ويخبرونهم انه معدوم عندهم، فبادرت وامرت وكلائى بابتياع ما يقدرون عليه من الزيت، فابتيع الى آخر النهار بعشره آلاف دينار، وكنت قد وعدت الركابى بدينارين ان اقام ليلته عندي، ولم اعرفه السبب ولم يبت ببغداد زيت لغيري، فلما اصبحت سرحت الركابى، وانتشر الذين وصلت الكتب اليهم في طلب الزيت، فلم يجدوه، فاربحونى في كل درهم درهما، فعلمت انه انما كان خروجى الى بستاني لاحوز عشره آلاف دينار من غير مشقة.
وفي هذه السنه توفى محمد بن داود الاصبهانى الفقيه، صاحب الكتاب المعروف بالزهرة.
حكى الشيخ ابو إسحاق الشيرازى في كتاب الفقهاء، عن القاضى ابى الطيب

(11/198)


الطبرى عن ابى العباس الخضرى قال: كنت جالسا عند ابن داود، فاتته امراه فقالت: ما تقول في رجل له زوجه، لا هو ممسكها، ولا هو مطلقها؟ فقال ابو بكر:
قد اختلف اهل العلم في ذلك، فقال قائلون: يؤمر بالصبر والاحتساب، ويبعث على الطلب والاكتساب وقائلون: يؤمر بالإنفاق، والا يحمل على الطلاق فلم تفهم المرأة، فاعادت مسألتها، فقال: يا هذه، قد اجبتك الى مسألتك، وارشدتك الى طلبتك، ولست بسلطان فامضى، ولا زوج فارضى، ولا قاض فأقضي فذهبت المرأة ولم تعرف قوله.
ولما مات أبوه، قال الشيخ ابو إسحاق في كتاب الفقهاء: كان يحضر مجلس داود أربعمائة صاحب طيلسان واحتضر فجلس محمدا مكانه، فاستصغره الناس، فسألوه عن حد السكر، فقال مبادرا: حد الكسر ان تغرب عنه الهموم، وان يبوح من سره المكتوم، فعلموا نجابته حينئذ.
وكان يهوى محمد بن جامع، ولأجله صنف كتاب الزهرة وكان محمد بن جامع من احسن الناس، واكثرهم مالا، ولا يعرف معشوق كان ينفق الأموال على عاشق الا ابن جامع مع ابن داود.
قال الخطيب في تاريخه وخرج ابن جامع من الحمام، فاخذ المرآه، فنظر الى وجهه، فغطاه وركب الى ابن داود، فلما رآه مغطى الوجه، قال له ما الخبر؟
وخاف ان يكون قد لحقته آفه، فقال: رايت وجهى في المرآة، فغطيته واحببت الا يراه احد قبلك، فغشى على محمد بن داود.
وحضر ابن داود وابن سريج مجلس ابى عمر القاضى، فتكلما في مساله العود، فقال ابن سريج: عليك بكتاب الزهرة فقال ابو داود: ابكتاب الزهرة تعيرني وانا اقول فيه:

(11/199)


اكرر في روض المحاسن وجهه ... وامنع نفسي ان تنال المحرما
وينطق سرى عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسى رده لتكلما
رايت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فما ان ارى حبا صحيحا مسلما
فقال ابن سريج: او على تفخر بهذا القول؟ وانا الذى اقول:
ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بت امنعه لذيذ سباته
ضنا بحسن حديثه وعتابه ... واكرر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولى بخاتم ربه وبراته
فقال ابن داود لأبي عمر: أيد الله القاضى، قد اقر بالمبيت وادعى البراءة، فما توجبه؟ قال ابن سريج: من مذهبي ان المقر إذا اقر إقرارا وناطه بصفه، كان اقراره موكلا الى الصفة فقال ابن داود: للشافعى في هذه المسألة قولان، فقال ابن سريج: فهذا القول الذى قلته اختياري الساعة.

(11/200)


سنه تسع وتسعين ومائتين
فيها قبض على ابن الفرات، وهتكت حرمه، ونهبت دوره ودور أسبابه، فكان صاحب الشرطه مؤنس الخازن المعروف بالفحل تحت يده تسعه آلاف فارس وراجل، وإذا كثر النهب وعظم الخطب يركب، فيسكن المنتهبون عند ركوبه، ويعودون الى النهب عند نزوله ودام ذلك ثلاثة ايام بلياليها.
وتقلد بعده ابو على محمد بن عبيد بن يحيى بن خاقان الوزارة وكان ابو على يتقلد ديوان الضياع بعد وفاه ابيه في وزارة الحسن بن مخلد.
وكانت أم موسى القهرمانية تعنى بابني ابى البغل فولى أبا الحسن منهما أصبهان، وولى الآخر الصلح والمبارك.
وكان ابن الفرات قد نفى أبا الهيثم العباس بن ثوابه الى الموصل لقرابته من ابن عبدون، فاستدعاه ابن الخاقانى، وقلده مصادره بنى الفرات، فاسرف في المكروه بهم وغلب على الاحوال.
وكان في احوال الخاقانى تناقض، وكان يتقرب الى العامه، فانحدر يوما في زبزبه الى دار السلطان، فراى جماعه من الملاحين يصلون على دجلة، فصعد وصلى معهم.
وولى ابنه عرض الكتب على الخليفة، وكان مدمنا للشرب، ففسدت الأمور بذلك وكان اولاده وكتابه يرتفقون من العمال بما يولونهم به الولايات، ثم يعزلونهم إذا رأوا مطمعا فاجتمع بحلوان في خان بها سبعه عمال ولاهم في عشرين يوما ماء الكوفه وكان إذا ساله انسان حاجه قال: نعم وكرامة! ودق صدره.
وكتب الى بعض العمال: الزم وفقك الله المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحمل ما امكن من الدجاج فحمل العامل دجاجا كثيرا، وقال: هذا دجاج وفره بركه السجع

(11/201)