تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
سنه ست واربعين
وثلاثمائة
خرج ابو الحسين بن مقله الى كربلاء، للزيارة وبه فالج، فمات في طريقه،
واعيد الى داره، ودفن بمربعه ابى عبد الله.
وفيها تزوج بختيار بابنه سبكتكين بحضره الخليفة.
(11/383)
سنه سبع واربعين
وثلاثمائة
ورد الخبر ان الروم نهبوا سواد ميافارقين، وقتلوا نادرا، غلام سيف
الدولة، وانهم غلبوا على سميساط وأحرقوها، وان سيف الدولة افلت منهم في
عدد يسير، وأسروا اهله وقرابته.
واخر ناصر الدولة حمل المال عن معز الدولة، فسار الى نصيبين وراءه وبعد
ناصر الدولة الى ميافارقين.
وانفذ معز الدولة بسبر مردى، وهو حدث، في خمسمائة من الديلم الى سنجاب،
فهرب منه ابو المرجى جابر وهبه الله، ابنا ناصر الدولة، الا ينفذه، فلم
يقبل منه، فقال:
طفل يرق الماء في ... وجناته وينض عوده
ويكاد من شبه العذارى ... منه ان تبدو نهوده
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده
وقال السرى المعروف بالرفاء يمدح أبا المرجى:
الله اكبر فرق السيف العدا ... فتفرقت أيدي سبا اخبارها
لا تجبر الأيام كسر عصابه ... كسرت وذل بجابر جبارها
رحلت فكان الى السيوف رحيلها ... وثوت فكان الى السيوف مزارها
علم الأعاجم ان وقع سيوفكم ... نار تشب وأنتم اعصارها
من ذا ينازعكم كريمات العلا ... وهي البروج وأنتم اقمارها
الحرب تعلم انكم آسادها ... والارض تشهد انكم أمطارها
(11/384)
في وقعه لك عزها وسناؤها ... وعلى عدوك
عارها وشنارها
عمرت ديارك من قبور ملوكها ... وخلت من الانس المقيم ديارها
ولابن الحجاج في ذلك:
لله يا سير مردى يوم حجار ... حين دعاك الى ذي لبده ضار
سرى إليك وجنح الليل منسدل ... بجحفل مثل جنح الليل جرار
وصبحتك جيوش الله معلمه ... من كل اغلب ماضى العزم مغوار
يأبى له الضيم- ان الضيم منقصه ... انف حمى وجاش غير خوار
لما سما لك في الهيجاء منفردا ... بمرهف القد ماضى الحد بتار
عضب المهزة لا يبتز رونقه ... يوم الكريهة الا نفس جبار
لقيتم غير انكاس ولا عزل ... ولا نكول على الهيجاء اغمار
لما راى العز في ايراد مهجته ... مضى فاوردها من غير احدار
ليث يكر إذا كروا وان لجئوا ... الى الفرار راوه غير فرار
ابى النزول على حكم نزلت به ... فما انثنى بعد اقبال لادبار
حتى هوى تحت أيدي الخيل يخبطه ... في سائل من دم الأوداج موار
ثاو بسنجار لا يغدو إذا ظعن ... الغادون عنها ولا يسرى مع السارى
يا آل احمد ايها هكذا ابدا ... صونوا الحريم وحوطوا حوزه الدار
واصلوا بنار الردى من دون شحنكم ... والحر بالنار اولى منه بالعار
لا ترهبوهم فان القوم اكثرهم ... من حزتموهم لثاما يوم سنجار
لله ذلك من يوم اعاد لكم ... يا شيعه الله فيهم يوم ذي قار
كروا فان صدور الخيل عابسه ... يحملن كل رحيب الصدر كرار
يحملن أسدا بخفان مواطنها ... منها الهصور ومنها المشبل الضاري
فاما حال ناصر الدولة، فانه توجه من ميافارقين الى حلب، قاصدا لأخيه
سيف الدولة، واستامن اكثر جيشه اخوه ابو زهير الى معز الدولة.
واكرم سيف الدولة أخاه، ونزع خفه بيده، وتوسط الحال بين معز الدولة
وبين أخيه على ما تقرر ضمنه
(11/385)
وقال السرى يذكر ذلك لسيف الدولة:
راى من أخيك الشام اكرم شيعه ... واصدق برق في المحول يشام
ارى الخائن المغرور قام بأرضكم ... كان المنايا الحمر عنه تنام
فطورا لكم في العيش رحب منازل ... وطورا لكم بين السيوف رجام
وأنتم على اكباد قوم حراره ... وبرد على أكبادنا وسلام
ورجع معز الدولة بضمان سيف الدولة الى الموصل، وتقرر معه دفع الفى الف
وستمائه الف درهم، واطلاق الماسورين من اصحابه.
فلما سار بين المؤنسيه وادرمه، وذلك في ثالث ذي الحجه، وهو الخامس عشر
من شباط، هبت ريح مغرب بارده، فتلف من عسكره ثمانمائه رجل، ولحق معز
الدولة الغشي من البرد مع كثره ما عليه من الخز والوبر، وقلع العسكر
سقوف ادرمه وأبوابها، فاوقدوها، واطلق لهم معز الدولة ثلاثة آلاف درهم
عوضا عما أخذ من الخشب.
(11/386)
سنه ثمان واربعين
وثلاثمائة
في هذه السنه، وافى ابو إسحاق القراريطى مصر مع الحاج.
في شهر ربيع الاول، توفى ابو بكر محمد بن جعفر الادمى القارئ.
قال دره الصوفى: كنت بائتا بكلواذى على سطح عال، فلما هدئ الليل قمت
لأصلي، فسمعت صوتا ضعيفا يجيء من بعد، فأصغيت اليه وتاملته شديدا، فإذا
صوت ابى بكر الادمى، فقدرته منحدرا في دجلة، فلم أجد الصوت يقرب، ولا
يزيد على ذلك القدر ساعه ثم انقطع، فشككت في الأمر وصليت ونمت.
فبكرت فدخلت بغداد بعد ساعتين من النهار، وكنت مجتازا في السميريه،
فإذا بابى بكر الادمى ينزل الى الشط، من دار ابى عبد الله الموسوى
العلوي، التي بقرب فرضه جعفر على دجلة، فصعدت اليه وسألته عن خبره،
فأخبرني بسلامته، فقلت: اين بت البارحه؟ فقال: في هذه الدار، فقلت:
قرات النوبه الفلانية؟
قال: نعم قبل نصف الليل، فعلمت انه الوقت الذى سمعت فيه صوته بكلواذى،
فعجبت من ذلك عجبا شديدا بان ما في له، فقال: مالك؟ فاخبرته، قال:
فاحكها للناس عنى، فانا احكيها دائما.
وقال ابو جعفر عبد الله بن اسماعيل الامام: رايت أبا بكر الادمى في
النوم بعد مديده من وفاته، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين
يديه وقاسيت شديدا وأمورا صعبه، قلت له: فتلك الليالى والمواقف
والقرآن؟ فقال: ما كان شيء أضر على منها، لأنها كانت للدنيا، قلت له:
فالى اى شيء انتهى امرك؟
قال: قال لي الله تعالى: آليت على نفسي الا اعذب أبناء اليثانين
(11/387)
وكان ابو بكر محبوبا الى الناس، قال: كسبت
بالقرآن ثلاثمائة الف دينار.
وحكى قال: لما ولد ابنى ابو عبد الله، قال: جئت الى مؤنس المظفر وحدثته
الحديث، فوهب لي دنانير كثيره، فلما كان بعد مده سألني، فقال: يا أبا
بكر ايش خبر الصبى المولود؟ فقلت: قد احتاج الى القميص ايها الأستاذ
وهو عريان، فاستدعى الخازن وقال: احضر ما عندك من الخرق، فجاء باكثر من
عشرين كاره من القصب والدبيقى والديباج والعتابى، فقال للخازن: أعطه من
كل شيء الربع، فأعطاني ما حمله جماعه من الحمالين، وبعت الباقى عن كسوه
ابنى واهلى بتسعه آلاف درهم.
وقبر ابى بكر عند قبر ابى عمر الزاهد في الضفة التي تقابل قبر معروف
الكرخي رحمه الله:
وفي هذه السنه كثر موت الفجأة بالطاعون، فجلس احد القضاه بسواده في
الجامع ليحكم فمات.
وافتض رجل بكرا فمات على صدرها.
وكان كافور الإخشيدي، قد ولى شبيب بن جرير العقيلي عمان والبلقاء، فعلت
منزلته، واشتدت شوكته، وغزا العرب وتجمعت عليه، فعصى على كافور وأخذ
دمشق وسار إليها في عشره آلاف، فخر عن فرسه ميتا، ففي ذلك يقول المتنبى
يمدح كافورا:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من اعدائك القمران
قال ابن جنى: هذا مدح ويحتمل ان يكون هجاء، بان يجعله مستخلفا ساقطا
والساقط لا يعاديه الا مثله، وخرج عن ذلك يقول:
ولله سر في علاك وانما ... كلام العدا ضرب من الهذيان
(11/388)
يقول فيها:
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان
اتته المنايا في طريق خفيه ... على كل سمع حوله وعيان
ولو سلكت طرق السلاح لردها ... بطول يمين واتساع جنان
تقصده المقدار بين صحابه ... على ثقه من دره وأمان
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه ... على غير منصور وغير معان
وفي هذه السنه خلع المطيع لله على بختيار، وقلده امره الأمراء ولقبه عز
الدولة.
وعقد لأبي على بن الياس على كرمان وتزوج عز الدولة بنته في رجب.
وفي رجب ماتت سريره الرائقيه، اشتراها ابن رائق من ابنه ابن حمدون،
بثلاثة عشر الف دينار، وكانت مولده سمراء حسنه الغناء ولما قتل ابن
رائق تزوجها ابو عبد الله الحسين بن حمدان.
وحكى التنوخي: ان المهلبى دعاها، واظهر من التحمل ما اعياه في مجالسه
وسماطه، وتبخر بما زاد على الحد، فقالت له جاريته تجنى: اننى أراك هود
اتزانك حتى ونيت بك، فقال لها: ويحك! ان هذه قد نشأت في نعمه تستصغر
فيها نعم ملكنا، فما اريد ان تزري علينا إذا خرجت.
وفي شعبان مات ابو على عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجراح، وزير
الراضي بالله.
حكى ابو محمد جعفر بن ورقاء قال: دخلت على ابى جعفر الكرخي بعد تقليده
للوزارة، صارفا عنها لأبي على عبد الرحمن بن عيسى، وقد كان الراضي
بالله حلف على الا يقنع من عبد الرحمن باقل من مائه الف دينار، وراعاه
الكرخي لحقوق أخيه، وانكشف له ان جميع ما يملكه عشره آلاف دينار، فعدل
الى ان قسط تقسيطا على الناس، بدا فيه بنفسه، والتزم ثلاثمائة الف
درهم.
قال ابو محمد: فدخلت على الوزير فسلم الى الدرج، وخاطبني في التزام
شيء، فقلت: يدعني الوزير ادبر الأمر، فقطعت الخطوط، وكتبت: ضمن
(11/389)
لمولانا امير المؤمنين اطال الله بقاءه
جعفر بن ورقاء، ان يصحح له لمن يأمره بتصحيح ذلك عنده، عن عبد الرحمن
بن عيسى مائه الف دينار، واخذه اى وقت امره بتصحيحها، وقلت للوزير:
أنفذها مع رسول عاقل ينظر ما يجرى، فعاد الخادم الذى انفذه وقال:
استدعاني الخليفة حين عرض عليه الحاجب الخط، فدخلت وهو جالس على كرسي
كالمغتاظ، وفي يده الرقعة مخرقه، فقال: من عند مولاك؟ فقلت ولم اجسر
على كذبه: جعفر بن ورقاء، فقال: قل له يا اعرابى، اردت ان ترى الناس ان
نفسك تتسع، لا تغرم غمرا لا حرمه له، وهو خادمى ما ضاقت نفسي عن تركه
عليه، فتظهر بذلك انك اكرم منى، والله لا كان هذا، قل لمولاك:
اطلق عبد الرحمن، وترد خط هذا الأعرابي الجلف، وانى اكفر عن يميني،
ورمى بالرقعة مخرقه.
قال: فقلت للكرخى: كيف راى الوزير رأيي؟ والله ما اعتمدت الا ان يقع في
نفسه مثل هذا، فيفعل ما فعله لعلمي بجوده عقله وكرم نفسه، ولو جرى
الأمر بخلاف ذلك لوزنت جميع ما املكه، واستسمحت الوزير والناس بعده حتى
اقوم بتصحيح المال، فاطلق ابو على الى منزله.
وفي هذه السنه ورد الخبر بان الروم، خذلهم الله، أسروا محمد بن ناصر
الدولة من نواحي حلب، وأسروا أبا الهيثم بن القاضى ابى حصين بن عبد
الملك بن بدر ابن الهيثم وغلمانه من سواد حران، فكتب ابو فراس الى
ابيه:
أيا راكبا نحو الجزيرة جسره ... عذافره ان الحديث شجون
تحمل الى القاضى سلامي وقل له ... الا ان قلبي مذ حزنت حزين
وان فؤادى لافتقادى اسيره ... لعان بأيدي الحادثات رهين
لعل زمانا بالمسره ينثني ... وعطفه دهر باللقاء تكون
فأشكو ويشكو ما بقلبي وقلبه ... كلانا على نجوى أخيه أمين
إذا غير البعد الهوى فهوى ابى ... حصين منيع الفؤاد حصين
(11/390)
سنه تسع واربعين
وثلاثمائة
ورد الخبر بغلاء السعر بالموصل، وبلوغ الكر من الحنطة بها ألفا ومائتي
درهم، فهرب الناس عنها الى بغداد والشام.
وفي هذه السنه انحدر ابو احمد الشيرازى، كاتب المستكفى بالله الى
شيراز، فقبله عضد الدولة، واقطع ابنه أبا الفضل مائه الف درهم وحصن به.
وورد الخبر بان نجا غلام سيف الدولة واقع الروم، وقتل منهم عده وافرة.
وان سيف الدولة غزا في جمع كثير، فاثر في بلد الروم، وفتح حصونا كثيره،
وانتهى الى خرشنه، فاخذ عليه الروم المضائق والدروب، في ثلاثمائة من
اصحابه بعد جهد، ومضى باقى اصحابه قتلى واسرى، واشار عليه اهل طرسوس
بترك الخروج، فلم يقبل، فاصيب.
وورد الخبر، بان أبا نصر بن المكتفي بالله، ظهر بناحيه أرمينية، وتلقب
بالمستجير بالله، ولبس الصوف، وامر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وغلب على
اذربيجان، فسار اليه ابن سالار فاسره.
وفي مستهل شهر رمضان، ورد تابوت ابى عبد الله بن ثوابه من القصر، وكان
قد احيل بحاريه عليها، فمات هناك.
وتقلد ديوان الرسائل ابو إسحاق الصابى.
وفي ذي الحجه، مات ابو القاسم البريدى ببغداد.
وصودر ابو السائب قاضى القضاه، على مائه الف درهم.
(11/391)
سنه خمسين وثلاثمائة
في هذه السنه بنى معز الدولة داره بقصر فرج عن بستان الصيمرى، وهدم ما
جاورها من العقارات وابتاعها من أهلها، وكان ابو العباس بن مكرم، وابو
القاسم ابن حسان العدلان وكيليه في ذلك، وقلع الأبواب الحديد، التي على
مدينه المنصور، والتي بالرصافة، ونقلها إليها، ونقض قصور الخلافه بسر
من راى، ونزل في المسنات ستا وثلاثين ذراعا، ولزمه على بنائها ثلاثة
عشر الف الف درهم، وكان المتولى للبناء ابو الفرج بن فسانحس.
وفيها مات ابو الحسن احمد بن الفضل بن عبد الملك الهاشمى، وتقلد ابنه
ما كان اليه من الصلات ونقابه العباسيين.
وفي المحرم مات القاضى ابو بكر بن كامل، عن سبعين سنه.
وفي شعبان ابتدئ ببناء المغيض بنهر الرفيل، تولى بناءه ابو بكر بن
الحلبى.
وفي هذه السنه توفى ابو السائب عتبة بن عبيد الله قاضى القضاه، ولابن
سكره فيه قصائد تجنبت إثباتها.
وسفر ارسلان الجامدار لأبي العباس بن ابى الشوارب في قضاء القضاه، وقرر
عليه مائتا الف درهم في كل سنه، وامتنع الخليفة من تقليده، فقلده معز
الدولة.
وورد الخبر بان أبا بكر بن مقاتل توفى بمصر وهو يتقلد اعمال الخراج
بها، ووجد له مدفونا في داره ثلاثمائة الف دينار.
وورد الخبر بان نجا غلام سيف الدولة، دخل بلد الروم، واسر وغنم وسبى
خمسمائة الف، اتى بهم في السلاسل.
وتمطر فرس عبد الملك بن نوح به فمات، وولى مكانه اخوه منصور بن نوح.
وفي آخر ذي الحجه، انحدر عز الدولة الى المطيع لله، ووصل اليه ابن
سالار صاحب اذربيجان، حتى عقد له، وسلم اليه العقد مع خلع سلطانيه
(11/392)
سنه احدى وخمسين
وثلاثمائة
ورد الخبر بان اهل زربه دخلوا في أمان الروم، وانهم غدروا بهم فقتلوهم،
وقطعوا منها اربعين الف نخله، واعاد سيف الدولة بناءها بعد ذلك.
واتى الروم منبجا، وكان فيها ابو فراس بن ابى العلاء بن حمدان، متوليا
لها، فأسروه فقال في اسره اشعارا كثيره منها:
ارث لصب بك قد زدته ... على بقايا اسره اسرا
قد عدم الدنيا ولذاتها ... لكنه لم يعدم الصبرا
فهو اسير الجسم في بلده ... وهو اسير القلب في اخرى
وكتبه الى أمه:
فيا امتا لا تعدمى الصبر انه ... الى الخير والنجح القريب رسول
ويا امتا لا تحبطى الاجر انه ... على قدر الصبر الجميل جزيل
اما لك في ذات النطاقين أسوة ... بمكة والحرب العوان تجول
اراد ابنها أخذ الامان فلم تجب ... وتعلم علما انه لقتيل
تاسى كفاك الله ما تحذرينه ... فقد غال هذا الناس قبلك غول
وكوني كما كانت بأحد صفيه ... إذا لعلتها رنه وعويل
لقيت نجوم الليل وهي صوارم ... وخضت سواد الليل وهو وحول
ولم ارع للنفس الكريمه حرمه ... عشيه لم يعطف على حليل
وما لم يرده الله فهو ممزق ... ومن لم يعز الله فهو ذليل
وما لم يرده الله في الأمر كله ... فليس لمخلوق اليه سبيل
ووافى الدمستق الى حلب ومعه ابن اخت الملك ولم يعلم سيف الدولة بخبره،
(11/393)
وخرج عند علمه، وحاربه قليلا، فقتل جميع
اولاد داود بن حمدان، وابن الحسين ابن حمدان، وانهزم سيف الدولة في نفر
يسير، وظفر الدمستق بداره- وهي خارج مدينه حلب- فوجد لسيف الدولة فيها
ثلاثمائة وتسعين بدره دراهم، والف وأربعمائة بغل، فاخذ الجميع، وأخذ له
من السلاح ما يجاوز الحد، واحرق الدار، وملك الربض، وقاتله اهل حلب من
وراء سورهم، فسقطت ثلمه على قوم فقتلتهم، وقاتل عليها اهل البلد،
واجتمعوا بالليل وبنوها، وانصرف الروم عنهم، فانتهب رجال الشرطه منازل
الناس، وامتعه التجار فمضوا لحربهم.
فلما خلا السور صعد الروم، وفتحوا الأبواب، ووضعوا السيف، وكان في حلب
عند المسلمين الف ومائتا اسير من الروم، فاطلقوهم وسبوا بضعه عشر الف
صبى وصبيه، وأخذوا من الأموال ما لا يحد، وضربوا الباقى بالنار، واقام
الروم بها تسعه ايام، وكان عسكرهم مائتي الف وثلاثين الف رجل بالجواشن،
وكان معهم ثلاثون الف صانع للهدم وتطريق الطرق، واربعه آلاف بغل، عليها
الحسك الحديد يخندقون به على عسكرهم.
وقال ابن اخت ملكهم: لا ابرح او افتح القلعة، وصعد الى مدرجها، فرماه
ديلمى بخشب في صدره فانفذه.
وسار متقدم الروم الى بلده عند ذلك، ولم يتعرض للسواد، وامر اهله
بعمارته، ووعدهم بالعود اليهم.
وفي جمادى الآخرة مات دعلج بن احمد بن دعلج المحدث العدل، وله خان
بسويقه غالب، عند قبر ابن سريج، وقف على اصحاب الشافعى رحمه الله الى
اليوم، وعمره نظام الملك رحمه الله، وقد اطلق له مائه دينار، في أول
نوبه دخلها حين مضى اليه اصحاب ابى رحمه الله، واعلموه مقاسهم
واستشفعوا بصحبته.
وحكى ابن نصر في كتاب المفاوضه قال: أنزلني الشيخ ابو الحسن العلوي
(11/394)
الحنفي الدار المعروفه بدعلج، في درب ابى
خلف، بإزاء داره، فقلت داره، فقلت له: لم أزل اسمع الناس يعظمون شان
هذه الدار، وما أجدها كما وصفت، فقال لي: كان دعلج في هذه الدار، وكان
شاهدا ومحدثا وعظيم الحال موسرا وكان المطيع لله قد اودع أبا عبد الله
بن ابى موسى الهاشمى عشره آلاف دينار قبل إفضاء الخلافه اليه، فتصرف
فيها وأنفقها وادل بالقدره عليها في طلبها، فلما ولى الخلافه، طالبه
بها، فوعده بحملها، ورجع الى منزله، وشرع في بيع شيء من املاكه وثماره
فتعذر، فالح المطيع بالمطالبة بالوديعة، فاعتذر بأنها مخبوءه لا يقدر
عليها الا بعد ثلاثة ايام، فانظره، فلما حضر وقت الوعد قلق ولم ينم،
ولم يتجه له وجه، وخاف ان يحرق به، ولم يعود ثلم جاهه، فركب في بقية
الليل بغير غلام، وترك راس البغله تمشى حيث شاءت، فافضت به الى قطيعه
الربيع، فدخلها وعطف الى درب ابى خلف، فإذا دعلج قد خرج وفي يده سمكه،
فتأمله فقال له: خير، فقال: لا، ابالله انزل، فنزل ودخل داره وقص قصته،
فقال: لا باس، اى نقد كانت الدنانير؟ فقال: النقد الفلاني فقال: يا
غلام، اغلق الباب، وحط ما عندك من العين، واجلس مع الشريف، وانتقد
النوع الفلاني الى ان ارجع من الحمام فلما عاد كان الغلام قد انتقد
القدر، فجعلها في اكياس، وأنفذها مع غلمانه، ثم قال: اكتب خطك في
دفترى، فكتبت خطى بذلك، الى مده اربعه اشهر وانصرفت.
واستدعيت الظرف التي كانت دنانير المطيع فيه، فنقلتها اليه، وختمتها
بالاسريحات التي كانت عليه، فأتاني رسول المطيع، فحملت المال ووضعته
بين يديه، وقلت: ان راى امير المؤمنين ان يتقدم بوزنه! فقال: ما افعل
ذلك وهي تحت ختمى، فخفت ان يتأمل الختم، فعجلت الى كسره، وحلفت بنعمته
لا بد مما تزنه، فوزن.
واتفق انه دخل من ضيعتى ثلاثة آلاف دينار قبل الأجل، فحضرت عند دعلج
ودفعتها اليه، فقال: لا اله الا الله، ايها الشريف، بم استحققت منك
هذا! ارتجعه قبل المده فأكون كذابا! فامسكت الدنانير حتى تكاملت في
وقتها
(11/395)
وفيها خلع معز الدولة على ابى الفرج محمد
بن العباس، وقلده كتابه عز الدولة مضافا الى ما اليه من الديوان وفي ذي
القعده مات ابو عبد الله بن ابى موسى الهاشمى.
ومات بعده ابو بكر النقاش، صاحب شفاء الصدور في تفسير القرآن.
وفيه لقب عضد الدولة بهذا اللقب.
(11/396)
سنه اثنتين وخمسين
وثلاثمائة
في هذه السنه، خرج النساء منتشرات الشعور، مسودات الوجوه، يلطمن في
الشوارع يوم عاشوراء على الحسين رضى الله عنه، وغلقت الاسواق.
وفي جمادى الآخرة، خرج المهلبى لفتح عمان.
وورد الخبر بغزاة سيف الدولة لنواحى ملطيه وغنيمته، فقال الببغاء يمدحه
بقصيده منها:
ورد الدمستق دون منظره ... خبر تضيق بشرحه الكتب
ناجته عنك البيض من بعد ... نصحا وانفذ جيشه الرعب
ولى ولو احببت حين نجا ... إدراكه لم ينجه الهرب
يا كالئ الاسلام يحرسه ... من ان يخالج حقه الريب
ان كنت ترضى ان يطيعك ما ... سجدوا له سجدت لك الصلب
وفي رجب عزل ابن ابى الشوارب عن القضاء، وقد ذكر انه ضمنه، فكان النظار
يحيلون عليه بمشاهره الساسة والنفاطين، فكانوا يجيئونه ويشدون نعالهم
على بابه، ويدخلون يطالبونه، كما يفعلون بضامن الماخور، فاتى ابو عبد
الله بن الداعي العلوي، معز الدولة وقال له: رايت في المنام جدي عليا،
رضى الله عنه، وهو يقول لك:
أحب ان تقطعني ما على الفضاء، وتامر بإزالته، قال: قد فعلت.
ولابن سكره في ابن ابى الشوارب:
نوب تنوبك بالنوائب ... وعجائب فوق العجائب
وغرائب موصوله ... في كل يوم بالغرائب
مما جنى قاضى القضاه ... حدندل بن ابى الشوارب
قاض تولى بالصبوح ... وبالطبول وبالدبادب
ومناديان يناديان ... عليه في وسط الكواكب
(11/397)
هذا الذى ضمن القضاء ... مع الفروج بغير
واجب
هذا قدار زماننا ... وأخو المثالب والمعائب
ولما عزل ابن ابى الشوارب تقلد ابو بشر عمر بن أكثم القضاء بغير رزق.
وقد ذكرنا خروج المهلبى قاصدا عمان، ولما بلغ الأبله، تضجر خدمه بسلوك
البحر، ومفارقه نعمهم ببغداد، فسموه، ظنا منهم ان حالهم تبقى عليهم،
فنشبت به المنيه وعاد الى زاوطا في محفه، يتناوبها الرجال، ومات بها في
آخر شعبان.
قال التنوخي: مضيت في أول يوم من شهر رمضان لتهنئه ابى الغنائم الفضل
بن المهلبى، وأبوه في الطريق لم يأت الخبر بموته، وهو جالس بداره على
الصراة، في دست، ودخل عليه صهره ابو العباس بن الحسين، وابو الفرج محمد
بن العباس فما تحرك لهما، فجاء خادم للفضل، فساره بشيء فقال: قم يا أبا
الغنائم فقد طلبك مولانا معز الدولة، وقد مات ابوك، فقام ابو الغنائم
باكيا، فقلنا: الان كنا بين يديه، وهو الساعة ذليل بين أيدينا! وختم
ابو الفضل على دار المهلبى، وعلى أمواله، وعلى تجنى جاريته.
وكان المهلبى، قد اصطنع أبا العلاء عيسى بن الحسن بن ايزونا النصراني
الكاتب، واستكتبه على خاصه، واطلعه على اموال وذخائر دفنها، فاخذ ابو
العلاء في جمله المأخوذين، وعوقب أشد عقوبة، وضرب ابرح ضرب، وهو لا يقر
بشيء ولا يعترف بذخيرة.
فعدل ابو الفضل وابو الفرج الى تجنى، فامرا بضرب ابنها ابى الغنائم بين
يديها، فبكى من عرفها من الذى نم عليها، وقالت لهم: ان مولاى المهلبى
فعل هذا بي حين استدعى آلات العقوبة لزوجه ابى على الطبرى، لما قبض
عليها بعد وفاته، ثم قالت:
احضرونى أبا العلاء بن ايزونا، فاحضروه وحمل في سبنيه بين اربعه
فراشين، فطرح بين يديها، فجعلت تسأله عن شيء، وهو يخبرها بمكانه، حتى
كان في جمله ذلك
(11/398)
ثلاثون الف دينار، فقال له من حضر: ويلك!
الست من الآدميين تقتل هذا القتل، ويفضى حالك الى التلف، وأنت لا
تعترف! فقال: يا سبحان الله! أكون ابن ايزونا والطبيب الفصاد على
الطريق بدانق ونصف دانق، يأخذني الوزير ابو محمد، ويصطنعنى ويجعلني
كاتب سره، واعرف بخدمته! واطلع الناس على ذخيره ذخرها لولده، والله ما
كنت لأفعل هذا ولو هلكت، فاستحسن فعله، وكان ذلك سببا لإطلاقه، وتقدم
بذلك عند ابى الفضل وابى الفرج وابن بقية، وتوفى سنه تسع وستين
وثلاثمائة في ايام عضد الدولة.
ومولد المهلبى بالبصرة سنه احدى وتسعين ومائتين، وكان ظريفا أديبا، ومن
شعره:
وصل الكتاب طليعه الوصل ... وذخيره الافضال والفضل
فشكرته شكر الفقير إذا ... اغناه رب المجد بالبذل
وحفظته حفظ الأسير وقد ... ورد الامان له من القتل
وله:
وحياه الهوى ومر التجنى ... وبخط العذار في صحن خده
لاذيبن وجنتيه بلحظي ... مثل ما قد أذاب قلبي بصده
قال التنوخي: وشاهدت المهلبى، وقد اشترى له ورد بألف دينار في ثلاثة
ايام، فشرب عليه، وانهبه.
قال ابو حيان: كان المهلبى يطرب على اصطناع الرجال، كما يطرب سامع
الغناء على الستائر ويرتاح لذلك كما يرتاح مدير الكاس على العشائر،
وقال:
لأكونن في دوله الديلم أول مذكور، إذ فاتنى ان أكون في دوله بنى العباس
رحمه الله عليهم آخر مذكور.
فممن نوه به ابو الفضل الشيرازى وابو عبد الله البقرى وابو معروف
القاضى وابو إسحاق الصابى وابو العلاء صاعد وابن جعفر صاحب الديوان،
وغيرهم كابى تمام الزينبى، وابن مريعه، وابى حامد المروروذي، وابى عبد
الله البصرى، وابى سعيد السيرافي وابن درستويه، والسرى، والخالدي، الى
من لا يحصى كثره.
وكان ابو الفرج الاصبهانى، يؤاكله، وكان اقذر الناس، فافرد له المهلبى
مائدة يجلس عليها وحده، فقال يهجوه:
(11/399)
ابعين مفتقر إليك رأيتني ... بعد الغنى
فرميتنى من حالق
لست الملوم انا الملوم لأنني ... املت للإحسان غير الخالق
وقال ابن الحجاج يرثى المهلبى:
يا معشر الشعراء دعوه موجع ... لا يرتجى فرج السلو لديه
عزوا القوافى بالوزير فإنها ... تبكى دما بعد الدموع عليه
مات الذى امسى الثناء وراءه ... وجميل عفو الله بين يديه
هدم الزمان بموته الحصن الذى ... كنا نفر من الزمان اليه
وتضاءلت همم المكارم والعلا ... وانبت حبل المجد من طرفيه
ولتعلمن بنو بويه انما ... فجعت به ايام آل بويه
قال التنوخي: قال المهلبى: لما عزم معز الدولة على إنفاذي الى عمان،
طرقني امر عظيم، فبت بليله ما بت في عمرى مثلها، لا في فقري، ولا في
صفر حالي، وما زلت اطلب شيئا اتسلى به عما دهمني فلم أجد الا انى ذكرت
انى كنت حصلت في ايام صباي بسيراف، لما خرجت إليها هاربا، فعرفت هناك
قوما اولونى جميلا، وحصلت لهم على ايادى، ففكرت وقلت: لعلى إذا قصدت
تلك البلاد ان اجدهم او بعضهم او اعقابهم، فاكافئهم على تلك الأيادي
فلما ذكرت هذا، تسليت عن المصيبة بالخروج، وسهل على، ووطنت نفسي عليه
ودفن المهلبى بالنوبختيه بمقابر قريش.
وجعل معز الدولة أبا الفضل الشيرازى وأبا الفرج بن فسانحس، المدبرين
للأمور من غير تسميه لواحد منهما بوزاره.
وفي ليله الخميس، ثامن عشر ذي الحجه، وهو اليوم الذى تسميه الشيعة غدير
خم، اشعلت النيران في الاسواق ولم تغلق الدكاكين، كما يعمل في الاعياد،
وضربت الدبادب والبوقات، وبكر المتشيعون الى مقابر قريش، وصلوا هناك.
(11/400)
|