تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
سنه تسع وثلاثين
وثلاثمائة
في هذه السنه، رد القرامطة الحجر الأسود الى مكة، وكان بجكم قد بذل لهم
ان ردوه خمسين الف دينار، فلم يجيبوه، وكان بين قلعه ورده اثنتان
وعشرون سنه.
وفي هذه السنه، كانت وزارة ابى محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبى
لمعز الدولة، خلع عليه معز الدولة القباء والسيف والمنطقه، وسار
سبكتكين بين يديه الى دار الخلافه، فخلع عليه السواد والسيف والمنطقه.
وكان المهلبى ثقيل البدن، ومشى في صحون الخلافه، وقد اثقله ما عليه من
اللباس، فسقط بين يدي المطيع لله عند دخوله من ذلك، ومن شده الحر، ووقع
على ظهره، فأقيم وظن من معه انه يحصر بما جرى، فتكلم واحسن واطال في
الشكر والقول، وتمثل بابيات، فتعجب الناس من بديهته، وركب الى داره،
ومعه جميع الجيش وحجاب الخلافه، وداره هي الدار المعروفه بالمرشد،
ونزلها السلطان ركن الدولة في سنه سبع واربعين وأربعمائة عند دخوله
بغداد، ونقضها موفق، خادم القائم بأمر الله رضوان الله عليه في سنه خمس
وخمسين وأربعمائة وبنى بآلتها حجره للطيور، بباب النوبى، وعمرها سعد
الدولة الكهورانى، في سنه تسعين وأربعمائة، ولما قتل وقفتها زوجته نقد
ما كان نقض ما بقي في الدور الشاطبية بباب الطاق، وما امتدت يده من قصر
بنى المأمون رضى الله عنه ثم نزلها قوام الدولة كريغا، في سنه ثلاث
وتسعين وأربعمائة، ثم خلت بعد خروجه.
وقال ابو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباته السعدي يمدح المهلبى بقصائد
منها:
دع بين أثوابي وبين وسادي ... شخصا يصد فوارسى وجيادي
وقال فيه من اخرى:
اذم زيادا في ركاكه رايه ... وفي قوله اى الرجال المهذب
تكلم والنعمان شمس سمائه ... وكل مليك عند نعمان كوكب
(11/371)
ولو ابصرت عيناه شخصك مره ... لابصر منه
شمسه وهو غيهب
وفيها:
كفى وزراء الملك في الناس مفخرا ... بانك منهم حين تعزى وتنسب
كان قد كفى الابطال بأسا ونجده ... بان قيل منهم في الهياج المهلب
وانحدر المهلبى وروزهان لمحاربه عمران، فهزمهما واستأسر قوادهما.
ومضى المهلبى الى البصره.
وكاتب سيف الدولة الخليفة، يستاذنه في الغزو، فاذن له، فاوغل في بلاد
الروم، وسبى وافتتح حصونا، وعاد في ثلاثين ألفا، فاخذ عليه الروم
الدرب، فلم يفلت الا في عدد يسير، وقال المتنبى قصيده منها:
قل للدمستق ان المسلمين لكم ... خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا.
(11/372)
سنه اربعين
وثلاثمائة
فيها تم الصلح بين عمران ومعز الدولة، وقلده البطائح، واطلق عياله
الماسورين واطلق القواد.
وورد الخبر بمعاودة ابن قراتكين حرب ركن الدولة بعد انهزامه، ودخول ركن
الدولة الري بعد ان تقابلا سبعه ايام.
وواصل ابن قراتكين الشرب أياما، فمات فجاه، وكفى ركن الدولة خطبه بعد
ما حل به وبعسكره من البلاء بحصاره.
وورد ابن وجيه صاحب عمان البصره فقاتله المهلبى، وأخذ منه خمسه مراكب
وهزمه، ووصل المهلبى الى بغداد ومعه الأسارى والمراكب.
وفيها مات ابو القاسم الكلواذى بعد الفقر، وقد مضت اخباره.
وفيها مات ابو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي، امام اصحاب ابى
حنيفه.
قال الخطيب: كان مع غزاره علمه، وكثره روايته، عظيم العباده، كثير
الصلاة، صبورا على الفقر والحاجة، عزوفا عما في أيدي الناس ولما اصابه
الفالج في آخر عمره، حضره اصحابه فقالوا: هذا مرض يحتاج الى نفقه
وعلاج، وهو مقل، ويجب الا نبذله الى الناس، ونكتب الى سيف الدولة فنطلب
منه ما ننفق عليه، ففعلوا، واحس ابو الحسن بما هم عليه، فسال عن ذلك،
فاخبر به فبكى وقال: اللهم لا تجعل رزقي الا من حيث عودتني، فمات قبل
ان يحمل اليه سيف الدولة شيئا ثم ورد كتاب سيف الدولة ومعه عشره آلاف
درهم، ووعد ان يمده بأمثالها، فتصدق اصحابه بها.
ومات ليله النصف من شعبان من هذه السنه، ومولده سنه ستين ومائتين، وصلى
عليه القاضى ابو تمام الحسن بن محمد الهاشمى الزينبى- وكان من اصحابه-
بحذاء مسجده في درب ابى زيد، على نهر الواسطيين، وقد بقي من مسجده
اليوم
(11/373)
قطعه من حائط القبله، يعرف اليوم بمقلع ابن
صابر.
قال التنوخي: كان ابو زهير الجنابى الفقيه ورعا عارفا بمذهب ابى حنيفه،
فدخل بغداد، فبلغه اخبار ابى الحسن الكرخي في ورعه، فلقيه، فقال: يا
أبا الحسن، بلغنى انك تأخذ من السلطان رزقا في الفقهاء، قال: نعم، قال:
ومثلك في علمك ودينك يفعل هذا؟ قال له ابو الحسن: اوليس قد أخذ الحسن
البصرى في زمنه، وفلان وفلان، فعدد خلقا من الصالحين الفقهاء ممن أخذ
من بنى اميه، فقال ابو زهير: ذهاب هذا عليك اطرف، بنو اميه كانت
مصائبهم في اديانهم، وجباياتهم الأموال سليمه، لم يظلموا في العشر ولا
الخراج، فكان الفقهاء يأخذون منهم الأموال مع سلامتها، وهؤلاء الأمراء
الذين تأخذ منهم أموالهم فاسده، مع اديانهم وجبايتهم لها بالظلم
والغشم، فسكت ابو الحسن، ولم يأخذ شيئا الى ان مات.
(11/374)
سنه احدى واربعين
وثلاثمائة
ورد الخبر بدخول الروم سروج، واحراقهم مساجدها وسبى أهلها.
وفيها بنى سيف الدولة مرعشا، فقال ابو الطيب المتنبى يمدحه بقصيده:
فديناك من ربع وان زدتنا كربا
يقول فيها:
هنيئا لهذا الثغر رأيك فيهم ... وانك حزب الله صرت له حزبا
فيوما لخيل تطرد الروم عنهم ... ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
سراياك تترى والدمستق هارب ... واصحابه قتلى وأمواله نهبي
اتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا ... وادبر إذ اقبلت يستبعد القربا
وهل رد عنه باللقان وقوفه ... صدور العوالي والمطهمة القبا
ارى كلنا يبغى الحياه لسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس اورده البقا ... وحب الشجاع الحرب اورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد ... الى ان يرى احسان هذا لذا ذنبا
كفى عجبا ان يعجب الناس انه ... اتى مرعشا تبا لأربابها تبا
وما الفرق ما بين الأنام وبينه ... إذا حذر المحذور واستصعب الصعبا
لامر اعدته الخلافه للعدى ... وسمته دون العالم الصارم العضبا.
(11/375)
سنه اثنتين واربعين
وثلاثمائة
ورد الخبر في شهر ربيع الآخر، بغزاة سيف الدولة وغنيمته واسره لقسطنطين
ابن الدمستق، فقال النامي يمدحه بقصيده منها:
ومن جمع الفخرين فخر ربيعه ... وفخر ابى الهيجاء كان بلا ند
يمر عليك الحول سيفك في الطلا ... وطرفك ما بين الشكيمه واللبد
ويمضى عليك الدهر فعلك للعلا ... وقولك للتقوى وكفك للرفد
بنى الأصفر اصفرت وجوه حماتكم ... وقد ردها في البيض تحمر في الرد
فلم تر يوما مثلك الخيل فارسا ... اجر لخيل في الجهاد على الجهد
وقد سار في الروم الدمستق باغيا ... له ساعه نكراء في نوب نكد
فتسقى دم الأكباد وهي على ظما ... وتخترم الاعمار وهي على حقد
إذا حبست في حد سيفك سخطها ... توثب او تلقى الظبى مطلق الحد
وكمن قسطنطين تحت صليبه ... ومد القنا من فوق ارعن معتد
كأنك قد قدمت جندا لهزمها ... وقد سرت في جند وحزمك في جند
واسلم قسطنطين للاسر بردس ... وولى وقد خدته فوهاء في الخد
وقال ابو الطيب قصيده:
ليالي بعد الظاعنين شكول.
فيها:
وما قيل سيف الدولة اثار عاشق ... ولا طلبت عند الظلام ذحول
- قال ابن جنى: اثار افتعل من الثار، واصله اتثار فابدلت التاء ثاء
لتوافقهما في الشده وقرب مخرجهما، وقال قيس:
(11/376)
ثارت عديا والخطيم فلم أضع ... وصيه اشياخ
جعلت ازاءها
والذحول: جمع ذحل وهو الثار.
فيها:
على قلب قسطنطين منه تعجب ... وان كان في ساقيه منه كبول
لعلك يوما يا دمستق عائد ... فهل هارب مما اليه يؤول
نجوت باحدى مهجتيك جريحه ... وخلفت احدى مهجتيك تسيل
اغركم طول الجيوش وعرضها ... على شروب للجيوش اكول
وورد الخبر بموت ابى الفضل العباس بن فسانحس، بالبصرة، وسنه سبع وسبعون
سنه، وحمل تابوته الى الكوفه.
وتقلد الديوان بعده ابنه ابو الفرج محمد.
وورد الخبر بتمام الصلح بين ركن الدولة وبين ابى على بن محتاج، بعد
حروب جرت بينهما على باب الري، ومنازله ثلاثة اشهر، وانصرف ابن محتاج
الى خراسان وركن الدولة الى الري.
وفي شوال مات ابو عبد الله بن فهد الموصلى.
وفي هذه السنه ماتت بدعه الصغيره والمعروفه بالحمدونيه عن اثنتين
وتسعين سنه.
(11/377)
سنه ثلاث واربعين
وثلاثمائة
في هذه السنه، ورد رسول ابى على بن محتاج الى معز الدولة، فاوصله الى
الخليفة، وذلك بعد موت نوح بن نصر، فعقد لأبي على على خراسان، وسلم
اليه العهد والخلع، وضم اليه أبا بكر بن ابى عمرو الشرابي، واقام
الخطبه للمطيع في هذه السنه، ولم تكن قد أقيمت له ببلاد خراسان الى هذه
الغاية.
وبلغ الخبر بموت موسى قتادة، فانحدر المهلبى لحيازه تركته وكانت عظيمه.
وفي مستهل شعبان، ورد الخبر بوقعه كانت بين الدمستق وبين سيف الدولة
بالحدث، وقتل سيف الدولة خلقا من اصحاب الدمستق، واسر ابن ابنه وصهره
وبطارقته، وبنى الحدث بعد ان اخربوها، وقال السرى مذكرا اخرابهم لها:
ان تشتك الحدث الحسناء حادثه ... سعى بها خائن منهم ومغرور
فإنها نشوه ولت عذوبتها ... وخر ذو التاج عنها وهو مخمور
سينقض الوتر من اعدائه ملك ... عدوه حيث كان الدهر مقهور
فحاذروا وزرا منه وهل وزر ... والسيف في يد سيف الله مشهور!
وقال ابو الطيب قصيدته:
ذي المعالى فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا والا فلا لا
- قال ابن جنى: يريد انهم بعثوا سيف الدولة على اتمام بنائه واعلائه،
فكانوا سبب ذلك، يقول فيها:
قصدوا هدم سورها فبنوه ... وأتوا كي يقصروه فطالا
واستجروا مكايد الحرب حتى ... تركوها لهم عليه وبالا
رب امر أتاك لا تحمد الفعال ... فيه وتحمد الافعالا
(11/378)
- قال ابن جنى: الفعال: الهراب، والافعال
انهزامهم-
وقسى رميت عنها فردت ... في قلوب الرماه عنك النصالا
أخذوا الطرق يقطعون بها الرسل ... فكان انقطاعهم إرسالا
وهم البحر ذو الغوارب الا ... انه صار عند بحرك آلا
الغوارب: الأمواج.
وفي شوال مات ابو جعفر محمد بن القاسم الكرخي.
وعرض لمعز الدولة مرض في إحليله، وهو الإنعاظ الدائم.
وورد الخبر بدخول ركن الدولة وابن محتاج جرجان ومضى وشمكير هاربا الى
خراسان.
(11/379)
سنه اربع واربعين
وثلاثمائة
عقد معز الدولة لابنه بختيار الرئاسة.
وارجف على معز الدولة عند عمران، فاجتاز به مائه الف دينار، قد حملت من
الاهواز وأمثالها للتجار فأخذها معز الدولة الكوكبى نقيب الطالبيين
برسالته في اطلاق ماله واموال التجار، فرد ما يتعلق بمعز الدولة، ومضت
امتعه التجار.
وفي هذه السنه سد معز الدولة فوهه نهر الرفيل، وسد ى يثق النهروانات،
وحفر للخالص فحوله، وشرع في سد يثق الروبانيه ببادوريا.
وفي رجب ورد الخبر بموت ابى على بن محتاج بالري، في وباء حدث بالبلد.
وورد رسول ابى الفوارس عبد الملك بن نوح، فعقد الخليفة له على خراسان.
وانحدر روزهان في شهر رمضان لقتال عمران، وجاء المهلبى الى زاوطا
لمعاونته.
(11/380)
سنه خمس واربعين
وثلاثمائة
ترك روزبهان محاربه عمران، ومضى الى الاهواز عاصيا، واستكتب أبا عبد
الله الجويني واستامن اليه رجال المهلبى.
وكان روزبهان من صنائع معز الدولة لأنه رقاه الى هذه المنزله، وكان
يتبع موسى قتادة، فاضطرب الديلم على معز الدولة، وأظهروا ما في نفوسهم.
وانصرف المهلبى الى الأبله وانحدر معز الدولة والمطيع لله.
وهم ناصر الدولة بالانحدار الى بغداد، وأخذها، فوصلها سبكتكين فلم
يقدم.
وواقع معز الدولة روزبهان بقنطرة اربق، سلخ شهر رمضان، وقاتله بالاتراك
ولم يثق بالديلم، فاسره واصعد به الى بغداد في زبزب.
وكثر دعاء العامه على روزهان، ورجموه بالأجر، واشار عليه مسافر
باتلافه.
وعلم معز الدولة ان الديلم على اخذه، وكره قتله، لان معز الدولة كان
يكره الدماء، ولم يكن متسرعا الى اراقتها، ثم اخرجه ليلا الى الانايتين
تحت البلد فغرقه.
وكان أخو روزهان قد عصى بفارس، فظفر به هناك.
ودخل الخليفة داره، في مستهل ذي القعده، بعد وصول معز الدولة.
ومات في هذا اليوم ابو عبد الله الحسين بن احمد الموسوى.
وفيها مات ابو عمر الزاهد، غلام ثعلب، وجوز العالم جنازته في الكرخ،
فوقعت الفتنة لأجلها.
وحكى ابو عمر قال: كان سبب انفرادى في هذه الخربه اننى أخذت كتاب
سيبويه، وتوجهت لأقرأه على المبرد، فسمعت الشبلى يقص في الجامع وانشد
في قصصه:
قد نادت الدنيا على أهلها ... لو ان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر واريته ... وجامع فرقت ما يجمع
(11/381)
ووجدت بخط التميمى قال: عاد ابو عمر مريضا
فلم يجده، فكتب على بابه:
واعجب شيء سمعنا به ... مريض يعاد فلا يوجد
وحكى رئيس الرؤساء ابو الحسن بن صاحب النعمان قال: مضيت مع ابى الى ابى
عمر، فلما دخلنا عليه قال: تاجروا، فاخذ كل واحد منا آجره وجلس عليها،
ثم أخذ ابى يعتذر من تاخره عنه، فقال: يا أبا الحسين، كم تعتذر؟ اما
علمت ان الصديق لا يحاسب، وان العدو لا يحسب، ثم قال: يا أبا الحسن ان
ابن عبيد الله كان يبرني، واراد منى الخروج الى الكوفه لتعليم ولده
برزق سماه لي فلم افعل، فغضب وقطع ما كان يعطيني، اما علمت يا أبا
الحسن ان رزقي على من إذا غضب لم يقطع، قال: وطال الحديث وودعه ابى
وانصرفنا.
(11/382)
|