تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

سنه اربع وستين وثلاثمائة
توفى في المحرم ابو منصور إسحاق بن المتقى لله على احدى وخمسين سنه.
وقدم حمدان بن ناصر الدولة على سبكتكين، واحدره على مقدمته، واصعد دبيس بن عفيف على مقدمه عز الدولة، فالتقى دبيس بحمدان تحت جبل، فاسر حمدان من اصحاب دبيس خلقا، وقتل آخرين، واستامن بعد ذلك الى عز الدولة.
وانحدر سبكتكين والاتراك، لقتال عز الدولة.
وانحدر الطائع لله ومعه أبوه المطيع، فلما بلغوا دير العاقول، توفى المطيع ليله الاثنين لثمان بقين من المحرم، وتوفى سبكتكين بعده، ليله الثلاثاء لسبع بقين منه، لذرب ناله، فكانت مده امارته شهرين وثلاثة عشر يوما، ففي ذلك يقول ابن الحجاج:
اغضوا وفي الأحشاء جمر الغضا ... واستقبلوا الحزن على ما مضى
عجبت من امركم ما بدا ... حتى تولى معرضا وانقضى
تفسحت دودتكم هيبة ... للصل في واسط إذ فضضا
لما سما مولاه في جحفل ... اسود كالليل يسد الفضا
ولاح برق الموت من سيفه ... والموت من حديه قد اومضا
امرضه الخوف ومن حق من ... ساوره الرئبال ان يمرضا
وانفتحت ثلمه باب استه ... فلم يزل يسلح حتى قضى
يا معشر الاتراك لا تعرضوا ... عن قول من صرح او عرضا
نوحوا وصيحوا يا قتيل الخرا ... قد كنت فينا ثقه مرتضى
قال الرئيس ابو الحسن: وجدت بخط سابور نسخه، ما خلفه سبكتكين الف الف دينار مطيعيه، وعشره آلاف الف درهم ورقا، وصندوقان طويلان فيهما جوهر،

(11/434)


وستون صندوقا طوالا، منها خمسه واربعون فيها آنيه الذهب والفضه، وخمسه عشر منها بلور محكم، وثلاثون مركب ذهب، ومنها خمسون، كل واحد وزنه الف مثقال، وستمائه مركب فضه، واربعه آلاف ثوب ديباجا، منها الفان وخمسمائة تستريه، وخمسمائة رومية ملكيه، والباقى بغداديه وعشره آلاف راس جمالا، وثلاثمائة داريه، واربعون خادما.
وحمل المطيع لله الى بغداد، ودفن في تربه والده المقتدر بالله رحمه الله عليهما بالرصافة، وصلى عليه ابن معروف، وكبر عليه خمسا.
ودفن سبكتكين بالمخرم.
وعقدت الاتراك الأمر لفتكين بن منصور، مولى معز الدولة، وعرض عليه الطائع اللقب فامتنع وكان يكتب من ابى منصور، مولى امير المؤمنين.
وانحدروا الى واسط وعز الدولة نازل بغربيها، واقامت الاتراك بشرقيها، وعبروا اليه وقاتلوه، واستظهروا عليه أياما كثيره.
وبينما حمدان يقاتلهم مع الديلم رماه تركي بنشابه فوقعت في صماخ دابته، فتمطرت به فوقع، فضربه الاتراك بالدبابيس حتى انحل وركه، واخذوه أسيرا.
وكان عز الدولة قد كاتب أبا تغلب، يستدعيه الى بغداد، فاستولى عليها العيارون، فدخلها ابو تغلب، وقتل منهم جماعه، وأخذ ما وجده الاتراك.
وذكر ابو حيان في كتاب الامتاع والمؤانسه، قال: حصل ببغداد من العيارين قواد منعوا الماء ان يصل الى الكرخ، وكان فيهم قائد يعرف باسود الزبد، لأنه كان يأوي الى قنطره الزبد، ويستطعم من حضر، وهو عريان لا يتوارى.
فلما فشا الهرج، راى هذا الأسود من هو اضعف منه، قد أخذ السيف، فطلب سيفا ونهب واغار، وظهر منه شيطان في مسك انسان، وضح وجهه، وعذب لفظه، وحسن جسمه، وأطاعه رجال، فصار جانبه لا يرام، وحريمه لا يضام، وظهر من حسن خلقه مع شره، ولعنه وسفكه الدم، وهتكه الحريم، وركوبه الفواحش، وتمرده على

(11/435)


ربه القاهر، ومالكه القادر، انه اشترى جاريه بألف دينار، فلما حصلت عنده، حاول منها حاجته فمنعته، فقال: ما تكرهين منى؟ فقالت: اكرهك كما أنت.
فقال: ما تحبين؟ قالت: ان تبيعني، قال: او افعل معك خيرا من ذلك؟
وحملها الى مسجد ابن رغبان، فأعتقها بين يدي القاضى ابن الرقاق، ووهب لها الف دينار، فعجب الناس من نفسه وهمته وسماحته وصبره على خلافها، وترك مكافاتها على كراهتها، ثم صار في جانب ابى احمد الموسوى، فحماه وسيره الى الشام، فهلك بها وقال ابن الحجاج، يذكر دخول ابى تغلب الى بغداد:
وأنت يا بغداد قولي فقد ... سألتك الحق ولا تكذبى
ارايت بدرا قط في تمه ... احسن من وجه ابى تغلب
دلى عليه او فهاتيه من ... اى مكان شئت او فاطلبى
هيهات هذا طلب فائت ... مختلف المعنى فلا تتعبى
وكنت قد اخبرت حاشاك يا ... نظيره الجنه ان تخربى
جاءتك من تغلب ساداتها ... وطال ما استعجمت فاستعر بي
فو الذى يعفو بإحسانه ... مقتدرا عن ذله المذنب
لو نطقت بغداد قالت نعم ... سبحان من فرج ما حل بي
اعاش حتى بعد ما مات أم ... في ليله القدر دعا لي النبي
يا عده الدولة كم دعوه ... مجابه فيك ولم تحجب
ولما بلغ الاتراك استيلاء ابى تغلب على دورهم، واخذه ما وجد فيها من انقاض وغيرها، اصعدوا معهم الطائع، فلما قاربوها اصعد ابو تغلب عنها فاصعدوا وراءه الأنبار، وانحدروا وقد بعد ودخلوا بغداد وانحدر الطائع الى داره.
وجدد الفتكين التوثقه على حمدان بن ناصر الدولة، ثم اطلقه وخلع عليه.
وانفذ ركن الدولة جيش الري مع ابى الفتح بن العميد، وساروا الى عضد الدولة، وامر بالنفوذ لمعارضه عز الدولة، فالتقوا بارجان، وساروا، وكان اكثر خوفهم ان

(11/436)


يتلقاهم الاتراك بباذبين وهم تعبون فكفوا ذلك باصعاد الاتراك.
ولما وصل عضد الدولة اجتمع به بختيار، واصعدوا عن واسط، وسار عضد الدولة في شرق دجلة، وعز الدولة في غربيها.
فاحضر الطائع الاشراف والقضاه، وأخذ على الاتراك الايمان بالطاعة، والمناصحة في الثبات والمكافحة، وركب الى باب الشماسيه، واستقر الناس لقتال عضد الدولة، واجتمع من العامه اليه الجم الغفير.
وكان عز الدولة، مع إيثاره لنصره ابن عمه، يخاف من مجيئه ومشاهده نعمته.
ولما قاربوا بغداد، انحدر المطيع والفتكين، وعبروا ديالى، وعسكروا ما بينه وبين المدائن، والتقوا بعضد الدولة، فكانت للاتراك أولا، ثم انهزموا، فغرق منهم خلق كثير، واستامن آخرون، ودخل بغداد في النصف من جمادى الاولى، ونزلوا عند باب الشماسيه، ثم رحلوا عند اسفار الصبح، وقد أخذوا عيالاتهم وأسبابهم، وتبعهم الخلق الكثير من اهل بغداد.
وانفذ عضد الدولة، ونادى ببغداد بالتسكين لأهلها، والعفو عن جناتها، ونزل بباب الشماسيه عند دخوله.
فلما وصل خبرهم من تكريت بتشتتهم، نزل عضد الدولة، في دار سبكتكين، ونزل عز الدولة داره، وهي دار المتقى لله.
وقال ابن الحجاج يستعطف عضد الدولة لأهل بغداد:
يا ايها الملك الرءوف المنعم ... ارحم فمثلك من يرق ويرحم
مولاى وصفك كان يعظم عندنا ... فالان أنت اجل منه واعظم
بغداد كانت جنه مسكونه ... فيما مضى فالان فهى جهنم
وراسل عضد الدولة الطائع لله، بابى محمد بن معروف حتى استعاده، ودخل الى بغداد في حديدى، جلس على سطحه، وخرج عضد الدولة في طيارة، فتلقاه قريبا من قطيعه أم جعفر، وصعد الحديدى، وقبل البساط، ويد الطائع

(11/437)


لله، وطرح له كرسي بين يديه، فجلس عليه، وكان عضد الدولة عليه قباء اسود وسيف ومنطقه، واحدقت الطيارات والزبازب بالحديدى.
وانحدروا كذلك الى دار الخلافه، وكان عضد الدولة تقدم بعمارتها وتطريتها، وانفاذ الفرش والآلات إليها.
وحمل الى الطائع مالا وثيابا وطيبا، وخطب له يوم الجمعه عاشر رجب، بعد ان قطعت الخطبه له، من عاشر جمادى الاولى، ولم يحطب الى هذه الغاية لأحد.
وكتب الصابى عن عضد الدولة: لما ورد امير المؤمنين البردان انعم بالاذن لنا في تلقيه على الماء، فامتثلناه وتقبلناه، وتلقانا من عوائد كرمه، ونفحات شيمه، والمخايل الواعده بجميل رايه، وعواطف انجابه وارعائه ما كنفنا يمينه، وشايعنا عزه، الى ان وصلنا الى حضرته البهيه، شرفها الله في الحديدية التي استقلت منه بسليل النبوه، وعقيد الخلافه، وسيد الأنام، والمستنزل بوجهه دار الغمام، فتكفأت علينا في ظلال نوره ونشره، وغمرتنا حميات بفضله وفضيلته، وأوسعنا من جميل لقياه وكريم نجواه، ما وسم بالعز اعقال النعم، وتضمن الشرف في النفس والعقب، وتكفل من الفوز في الدين والدنيا بغايات الأمل.
وكانت لنا في الوصول اليه، والمثول بين يديه، في مواقع الحاظه، وتوارد ألفاظه، مراتب لم يبلغها احد فيما سلف، ولم تجد الأيام بمثلها لمن تقدم.
وسرنا في خدمته على الهيئة التي القى شرفها علينا، وحض جمالها مدى الدهر لنا، الى ان سار الى سده دار الخليفة، والسعود تشايعه، والميامن تواطئه، وطالع الامال يستشرف له، وثغر الاسلام يتبسم اليه، فعزم علينا بالانقلاب عنه على ضروب من التشريف، لا مورد بعدها في جلال، ولا موقف وراءها لمذهب في جمال، واجتلت الاعين عين محاسن ذلك المنظر، وتهادت الالسن من مناقب ذلك المشهد، ما بهت الناظر، وعاد شمل الاسلام مجموعا، ورواق العز ممدودا، وصلاح الدهماء ماهولا.
ومدح عضد الدولة ابو نصر بن نباته، بقصيده يذكر فيها الفتح، منها:

(11/438)


فما ذاب شطر اليوم حتى تصافحت ... اسنه ارماح العدى وخدودها
واقدم وثابا على الهول خيله ... إذا كملت لا تقشعر جلودها
يعيد الى جر الطعان صدورها ... ولا يدرك الغايات الا معيدها
رميت جباه الترك يوم لقيتهم ... بشهباء من سر النزال قيودها
وكل فتى تحت العجاجة وكده ... إذا الخيل جالت ميته يستجيدها
تداركت اطناب الخلافه بعد ما ... وهي سمكها العالي ومال عمودها
فاعفيت من تدبيرها متكلفا ... يحل به يوم الحفاظ عقودها
وسربلت ايوان المدائن بهجه ... اناف به والحاسدون شهودها
هو الملك المخلوق من خطراته ... طريف المعالى كلها وتليدها
ملوك بنى ساسان تزعم انه ... له حفظت اسرارها وعهودها
فتاها ومولاها ووارث مجدها ... وسيدها ان كان رب يسودها
قبيله بهرام واسره بهمن ... يميت ويحيى وعدها ووعيدها
على زمن الضحاك كانت عصابه ... ولوعا بهامات الملوك حديدها
إذا سترت غب الحروب جراحها ... أتتها العوالي والسيوف تعودها
ولم أك ادرى ان إخوتها القنا ... وان الظبى آباؤها وجدودها
تفارق في رحب الثناء نفوسها ... وقد علمت ان الثناء خلودها
فلا تجعلوا الأقدار مثل سيوفها ... فقد تسبق الأقدار فيمن يكيدها
اقول وقد سلت عشيه جازر ... ولاذت بها أغمادها تستعيدها
اتلك رقاب زايلتها رءوسها ... لقى او سيوف زايلتها غمودها
وفي شهر رمضان، اعيد ابو تمام الزينبى الى النقابة على العباسيين وصرف ابو محمد عبد الملك عنها، وامر على الصلاة في الجوامع، واعيد ابن معروف الى قضاء القضاه، وصرف ابن أم شيبان.
واعيد ابو احمد الموسوى الى نقابه الطالبيين.
ومات ابو العباس احمد بن خاقان المفلحى، عن تسعين سنه، وحجب اربعه خلفاء، وتقلد المعونة بالحضرة دفعات.
وزادت الأسعار، وعدمت الأقوات، وبيع الكر من الدقيق بمائه وخمسه وسبعين

(11/439)


دينارا، وكانت الدراهم اربعه عشر بدينار، وبيع كل ثلاثة أرطال بدرهم.
ووافق عضد الدولة الديلم حتى شغبوا على عز الدولة، فاراد استصلاحهم، فقال لعضد الدولة: تقلد الأمر، وانفذ حينئذ الى داره فختم على خزائنها، وتولى له ابن بقية ذلك.
وقبض على ابى إسحاق وابى طاهر، اخوى عز الدولة.
وقرئ على القضاه والشهود والاشراف والأماثل بالجامع، كتاب يتضمن استعفاء عز الدولة من النظر، ورد الأمر الى عضد الدولة، ووعدوا بإفاضة العدل واحسان الرعية.
واختار ابن بقية ان يضمن واسط وتكريت وعكبرا واوانا، فأجيب الى ذلك، وخلع عليه، واقطع خمسمائة الف درهم في كل سنه، وانحدر الى واسط.
وقد كان عضد الدولة، قد عاهد عمران بن شاهين، واعفى أبا تغلب من حمل مال، وكان بينهما موده قديمه ومكاتبه.
ولما حصل ابن بقية بواسط، خلع الطاعة، وعول على انه متى قصد النجا الى نهر الفضل واعمال عمران، فكاتبه عضد الدولة بتسكينه، وبذل الامان في كتابه، فأجابه: اننى افلت إفلات المجروح المكلوم، وتخلصت تخلص المصلوب المظلوم، وقد حصلت على اهلى بين قوم سيوفهم حداد، وجعلت دون كل واحد منهم أناسا على البغاة غلاظ شداد، وقد وجدته اعطى قبلي أمانا لقوم قولا، واسقطه فعلا، فلم يف بشيء منه، بل صدق في الجميع عنه، فليت شعرى اى الأمانات يعطيني؟
أمان بنى شيرزيل، وقد عاهدهم الصيمرى له، واستعان بهم على سائر عساكره، بعد وفاه عماد الدولة، وحلف لهم ايمانا نقض جميعها، وابطل سائرها، واباد خضراءهم، وقلع من فارس اصولهم! أم بنى شكرسنان، وقد كانوا الممهدين له الدولة، والمصلحين له الجمله، أم الموصلين وقد اوردهم بساطه، واظهر بتقريبهم سروره واغتباطه، فلما حصلهم ببلاده واراضيه، قضى فيهم بالغدر اقبح قواضيه

(11/440)


وحكى لي ابو الزيان صاحبه متبجحا، انه ما بقي منهم صاحبه بأرض الا سته نفر، وما بقي من أماناته فهو أكبرها وأجلها، وهو وروده تحت الركاب لنصره ابن عمه، على زعمه.
فلما ورد على تلك الصورة، وقع التشكك فيه قبل ان يحكم أموره، واعطاه من الايمان والعهود ما استدعى التائبين بفعله، واستجلب السكون الى ما اضمره من اغتياله وختله، وعز الدولة ينسب الى ما يأتيه الى الجميل، ولا يستريب به في كثير ولا قليل.
فلما سكن اليه، واعتمد في التوسط بينه وبين اوليائه عليه، وانتهز فرصته، واستلب غرته، واستولى على الأمور كأنه مالكها، وانشب مخالبه فيها، فكانه لم يزل مدبرها، وجعل أرش مسيره لمعاونته انتهاك محارمه، وتشتيت اصحابه وحرمه، وتناسى افعال معز الدولة له ولوالده منذ ثلاثين سنه، وبذله عنهما عظيم الأموال، ونفيس الاحوال، في دفع اصحاب خراسان كل دفعه، وكسر عساكر وشمكير، والله تعالى يهلك الظالمين، ويأخذ الباغين.
وراى انه متى عاجلني ظهر تمويهه، وثار به سائر الأولياء، وانكشف تدبيره، فاسر امرى في نفسه، ولم يتمكن من اظهاره في وقته، فأطمعته كل الأطماع في ارتفاع ما ضمنته من الأموال، واعتمدت في أموره على من أعطاني المقدره عليها، ولجات الى كرمه فيما عود منها، حتى قفزت من بين يديه قفزه يا لهفه عليها لو أدركها، واسفه على ما تم لي فيها، وكنت بحول الله في تدبيرى، كما قال ثابت الخزاعي:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... اضاع وقاسى امره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذى ليس نازلا ... به الخطب الا وهو للقصد مبصر
وكانت نفسي تنازعنى تقديم ما تأخر، وتجاذبني تعجيل ما تاجل، فأجبتها بما قاله على بن محمد البصرى العلوي:
وإذا تنازعنى اقول لها اصبري ... موتا يريحك او صعود المنبر
ما قد قضى سيكون فاصطبرى له ... ولك الامان من الذى لم يقدر
وقد لقيت كافه جيوشه، وعامه اصحابه، وهي كعدد اهل احد كثره، بفتيان كعدد اهل بدر قله، فما زلت معهم في كل الأيام، كما قال على بن محمد أيضا:
وانا لتصبح أسيافنا ... إذا ما انتضين ليوم سفوك

(11/441)


منابرهن بطون الأكف ... واغمادهن رءوس الملوك
وانا اعرض عليه، ضد ما عرض على، لأنه صحيح وانا به مليء وفى، وقد آمنت عضد الدولة فناخسره بن ركن الدولة ابى على، مولى امير المؤمنين، على نفسه ومماليكه، ومن يختار المسير معه من اصحابه، بأمان الله، وأمان رسوله ص، وأمان مولانا عز الدولة، وامانى الا ان يكون سفك دما في بلادنا، فالحكم يجمعه واصحاب القواد، او أخذ مالا من غير واجب، فلا سبيل الى غير رده، او ظلم أحدا في ممالكنا، او أخذ مالا من غير واجب، فلا سبيل الى غير رده، او ظلم أحدا في ممالكنا، فلا طريق الى الصفح عنه، الا بعد الانتصاف للمظلوم منه واعتد عضد الدولة باطلاق ابن بقية في كتابه، فأجابه ابن بقية:
فما بقيا على تركتمانى ... ولكن خفتما صرد النبال
وحصل عضد الدولة من المصادرات، الف الف وتسعمائة وخمسين الف درهم، منها من ابى عمرو بن عمر، ادى كاتب سبكتكين الف الف وخمسمائة الف درهم، ومن ابى بكر الاصفهانى ألفا الف درهم، ومن ابن قريعة مائه الف درهم.
وقبض ابن بقية على من اصحبه عضد الدولة من القواد، واجتمع والمرزبان ابن عز الدولة، وكان بالبصرة، على مكاتبه ركن الدولة، بالاستغاثة من عضد الدولة وابى الفتح بن العميد، فوردت كتب ركن الدولة إليهما، يأمرهما بالتمسك بمكانهما، ويعدهما المسير بنفسه.
وكتب بمثل ذلك الى ابى تغلب، فلما عرفوا نيته فيه تجاسروا عليه، واقدمت عليه العامه، فانفذ بابن العميد وابن بندار، وقال لهما قولا لأبي ان انا خرجت من بغداد انفسدت على الممالك، وانا اقاطعه على ثلاثين الف الف درهم في كل سنه، واقدم منها عشره آلاف الف.
فلما وصلا الى ركن الدولة، اراد قتلهما وسئل فيهما، فاوصلهما وقال: عودا

(11/442)


اليه، وقولا: تريد ان تمن على بنى أخي بدرهمين أنفقتهما، وامراه بالخروج عن بغداد وتسليمها الى عز الدولة.
فعاد ابن العميد الى عضد الدولة وحده، وعرفه الحال، فاضطر الى الخروج عن بغداد الى فارس، وافرج عن عز الدولة واخوته، وخلع عليهم.
وثار عليه العيارون والعامه، فقابلهم بالاستخفاف والسب، ووافق ابن العميد على الا يتخلف بعده اكثر من ثلاثة ايام.
فلما خرج، طابت بغداد لابن العميد، ونزل في الدور على دجلة، وحصلت له الزبازب والأغاني، وكانت قد حصلت بينه وبين ابن بقية موده.
وامتنع ابن العميد عن الشرب، لما قبض عضد الدولة على بختيار، فكتب اليه ابن الحجاج، وقد شرب ابن بقية:
حقي على الأستاذ قد وجبا ... فإليه قد اصبحت منتسبا
يا بن العميد وأنت سيدنا ... ما قلتها زورا ولا كذبا
يا خير اهل الارض كلهم ... اما ويا اسرى العباد أبا
مولاى ترك الشرب ينكره ... من كان في بغداد محتسبا
ان كان من غم الأمير فلم ... ووزيره بالرطل قد شربا
ان الملوك إذا هم اقتتلوا ... اصبحت فيهم كلب من غلبا
فلذاك اسكر غير مكترث ... والف من خيشومى الذنبا
يا سادتى قد جاءنا رجب ... فتفضلوا واستقبلوا رجبا
بمدامه لولا ابوتها ... ما كنت قط اشرف العنبا
خمر كمثل النار موقده ... لم تلق لا نارا ولا حطبا
من قال ان المسك يشبهها ... ريحا فلا والله ما كذبا
وكان ابن العميد، قد سال ابن الحجاج الحضور عنده، فامتنع واعتذر بانقطاعه الى خدمه عز الدولة، فسال عز الدولة حتى انفذه اليه، وشغف به وقال له: لم تاخرت عنى؟ فقال له ابن الحجاج: اننى تركت ما كان عليه أسلافي من الكتابه، وعدلت

(11/443)


الى الشعر السخيف، الذى هتك ستر تجملى، وفكرت في انك ممن لا يسامى قدره، ولا يرد امره ونهيه، واتهمتك بانك جبلي الأخلاق، فظ العشرة، ولم آمن من الا انفق عليك، او لا تنفق أنت على، فتذهب قطعه من عمرى، وقد تنغص عيشي، فقال له ابن العميد: فكيف رأيتني؟ قال: بالضد مما اتهمتك فيه، فاجعلني في حل، فقال له: قد تساوينا، لك على مثل مالي عليك، فاننى كنت اقرا اشعارك فاظنك سخيفا، قليل المروءة، كثير العيوب، حتى شاهدتك فكنت بخلاف ذلك، فان أحللتني احللتك.
واعتد ابن العميد على بختيار بما صنعه معه من ابعاده عضد الدولة، فعرض عليه وزارته، فقال: لا يمكنني، فاننى واهلى في خدمه ركن الدولة، منذ خمسين سنه وهو هالك، فإذا مضى جئتك بقطعه من عسكره وكان ذلك يبلغ عضد الدولة، فحنق عليه.
وورد ابن بقية بغداد في ذي القعده، وملا عين ابن العميد بالهدايا، وقال في بعض الأيام: لا بد ان اخلع عليه، فلما اكل وقعدا على الشرب، أخذ ابن بقية بيده فرجيه ورداء في غاية الحسن والجلاله، ووافى بهما الى ابن العميد، وقال: صرت يا استاذ جامدارك، فانظر هل ترضيني لخدمتك، فطرح الفرجيه عليه، فاخذ الرداء منه ولبسه.
وقصد الفتكين في ثلاثمائة غلام دمشق، وكان العيارون قد استولوا عليها، فخرج اليه اشرافها وشيوخها، وسلموها اليه، فاحسن السيرة، وقمع اهل الفساد، وقامت هيبته، وعظمت منزلته، وقصد العرب وابعدهم، وظهرت شجاعته، وكان اعور.
وكان ابن الشمشقيق، قد جاء في الروم، فاخذ بلاد الثغور، وصالح اهل دمشق على مال كثير، فخرج اليه الفتكين، ولعب بين يديه بالرمح، فأعجبته فروسيته، ووهب ما قرره على اهل دمشق له، فسأله ان يهدى له سلاحه، فقاد مع فرسه وسلاحه عشرين فرسا بتجافيفها، فردها ابن الشمشقيق، ولم يقبل غير فرس الفتكين وسلاحه وحده

(11/444)


وانصرف عنه الى جبله وبيروت، ففتحهما عنوه، وتحصن منه اهل أنطاكية، فاستخلف عليها صاحبا له، فقطع شجرها التين، وهو يجرى مجرى النخل بالبصرة، وفتحت له بعد ذلك.
وسار ابن الشمشقيق الى قسطنطينيه، فما بعدت وفاته.
ومضى الى الفتكين، والده عز الدولة، واخواه ابو إسحاق وابو طاهر، وابنه المرزبان بعد قتله، على ما نشرحه، فأولاهم الجميل، واحسن اليهم، وقصدته العساكر من مصر متكاثره، وكان ما ياتى ذكره في السنه الآتية، وما بعدها.

(11/445)


سنه خمس وستين وثلاثمائة
توفى المعز بمصر، في شهر ربيع الآخر، سنه خمس وستين، ومده عمره خمس واربعون سنه وسبعه اشهر ويومان، ومده نظره ثلاث وعشرون سنه وخمسه اشهر وسبعه عشر يوما، منها بمصر ثلاث سنين.
وقام ابنه نزار مقامه، ولقب بالعزيز، فكاتب الفتكين بالاستماله، فاغلظ في جوابه، وقال: هذا بلد أخذته بالسيف، ولا أدين لأحد فيه بطاعة فانفذ اليه جوهرا في عساكر كثيره، فدعا اهل البلد واعلمها، ما قد أضلهم، وانه على مفارقتهم، فقالوا: ان أرواحنا دونك، وانا باذلون نفوسنا دون نفسك.
ولما حصل جوهر بالرملة، كاتب الفتكين، وعرفه انه قد استصحب له أمانا، وكتابا بالعفو عما فرط فيه، وخلعا يفيضها عليه، واموالا، فأجابه الفتكين اجابه مغالط، وأحال على اهل دمشق فعل جوهر على الحرب، وسار اليه، فالتقيا بالشماسيه، ودامت الحرب واتصلت مده شهرين، وظهر من شجاعة الفتكين وغلمانه، ما عظموا به في النفوس.
وعاضد الفتكين الحسن بن احمد القرمطى، واجتمعا في خمسين ألفا، فانصرف جوهر الى طبرية، ومنها الى عسقلان، فحاصراه بها، وقطعا عنه الماء.
وكان جوهر في الشجاعة معروفا، فكان يبارز الفتكين، ويعرض عليه الطاعة لصاحبه، فيكاد ان يجيبه فيعترضهما القرمطى، فلا يمكن الفتكين من ذلك.
فاجتمعا يوما، فقال جوهر: قد علمت ما يجمعنى وإياك من تعظيم الدين، وقد طالت الفتنة، ودماء من هلك في رقابنا، وان لم تجب الى الطاعة، فاسالك ان تمن على بنفسي وباصحابى وتذم لنا، وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف، فقال الفتكين: انا افعل، على ان اعلق سيفي ورمح القرمطى، على باب

(11/446)


عسقلان، وتخرج من تحتهما، قال: رضيت، وأخذ خاتم الفتكين على الوفاء.
وانفذ اليه جوهر مالا والطافا، فاجتهد القرمطى بالفتكين ان يغدر، فلم يفعل، فخرج وخرج جوهر وشرح لصاحبه الحال، فامر باخراج المال، واثبات الرجال، وسار جوهر على مقدمته، واستصحب توابيت آبائه.
ولما عرف الفتكين، والقرمطى الحال، عاد الى الرملة واحتشد، وتقارب العسكران، واصطفا للقتال، وجال الفتكين بين الصفين، فكبر وحمل وطعن وضرب.
فعلا العزيز على رابيه، وعلى راسه المظلة، وقال لجوهر: ارنى الفتكين، فأراه اياه، وكان على فرس ادهم بتجفاف من مرايا، وعليه فزاعند، اصفر وهو يطعن تاره، ويضرب باللت اخرى، والناس يتحامونه.
فالتفت العزيز الى ركابى يختص به، وقال له: امض الى الفتكين وقل له:
انا العزيز، وقد أزعجتني من سرير ملكي، واخرجتنى لمباشره الحرب، وانا اسامحك بجميع ذلك، ولك على عهد الله، بانى أهب لك الشام باسره، واجعلك اسلسهار عسكرى.
فمضى الركابى واعاد الرسالة، فخرج الفتكين، بحيث يراه الناس، وترجل وقبل الارض مرارا، ومرغ خديه، وقال: قل لمولانا، لو تقدم القول لسارعت، فاما الان فليس الا ما ترى.
فعاد الى العزيز بالجواب، فقال: ارجع اليه وقل له: تقرب منى بحيث أراك وترانى، فان استحققت ان تضرب وجهى بالسيف فافعل.
فمضى، فقال الفتكين: ما كنت بالذي اشاهد طلعته وانابذه الحرب، وقد خرج الأمر عن يدي.
وحمل عند ذلك على الميسره فهزمها، وقتل كثيرا من أهلها، فحمل العزيز، والمظلة على راسه، فانهزم الفتكين والقرمطى، ووضع السيف في عسكرهما، فقتل منه عشرين الف رجل

(11/447)


ومضى القرمطى هاربا، وبذل لمن يأتيه بالفتكين مائه الف دينار.
وكان الفتكين يميل الى المفرج بن دغقل بن الجراح الطائي، وبتمرده لملاحته، وشاع ذلك عنه، فانهزم يطلب ساحل البحر، ومعه ثلاثة من غلمانه، وبه جراح، وقد جهده العطش، فلقيته سريه فيها المفرج، فلما رآه، التمس منه ماء، فسقاه، وقال له: سيرني الى اهلك، فحمله الى قريه تعرف بلبني، واحضر له ماء وفاكهة، ووكل به جماعه، وبادر الى العزيز فاخبره، فاعطاه المال الذى ضمنه، ومضى معه جوهر فتسلمه.
وتقدم بضرب مضارب، واحضر كل من حصل في الاسر من اصحاب الفتكين، فامنهم وكساهم، وجعل كل واحد منهم فيما كان فيه معه، ووصل الفتكين فاخرج العسكر لاستقباله، وهو لا يشك انه مقتول.
فلما وصل الى النوبه، وراى اصحابه مكرمين، وترجل الناس له، وحمل الى دست قد نصب ليجلس فيه، رمى بنفسه الى الارض، والقى عمامته، وعفر وبكى بكاء شديدا، وقال: لم استحققت هذا الإبقاء! وامتنع من الجلوس في الدست.
ووافاه أمين الدولة ابو الحسن بن عمار، وجوهر والخدم على ايديهم الثياب، واعلموه رضا العزيز عنه، والبسوه الخلع، وتقدم الى البازيار به واصحاب الجوارح بالمصير الى مضربه، وراسله بالركوب الى الصيد تانيسا له، وقاد اليه عده دواب، وعاد عشاء، واستقبله الفراشون والنفاطون بالمشاغل، ونزل وركب العزيز اليه ليلا، فقبل الارض وخاطبه بما سكن منه، وجعله حاجب حجابه.
وعفا عن الحسن بن احمد القرمطى، واقام بطبريه، وجعل له سبعين الف دينار في كل سنه، وتوجه اليه جوهر، وقاضى الرملة فاستخلفاه.
ومضى الفتكين مع العزيز الى مصر، وقد استامن اليه أخو عز الدولة وابنه، فزاد في اكرام الفتكين.
وكان يتكبر على ابى الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وتدرجت الوحشة، وامرهما العزيز بالإصلاح، فلم يفعل الفتكين، فدس عليه ابو الفرج سما فقتله، وحزن عليه العزيز، وقبض على ابى الفرج، وقد اتهمه بقتله نيفا واربعين يوما، وأخذ منه خمسمائة الف دينار، ووقفت الأمور باعتزاله الظر، فاعاده حين لم يجد منه بدا

(11/448)


وتزوج الطائع بنت عز الدولة على صداق مائه الف دينار، وخطب ابو بكر ابن قريعة خطبه النكاح.
وفي ذي القعده توفى ابو الحسن ثابت بن سنان بن قصره الصابى صاحب التاريخ.
وقسم ركن الدولة الممالك بين اولاده، فجعل لعضد الدولة فارس وكرمان وارجان، ولمؤيد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور.
ومرض ركن الدولة، فسار اليه عضد الدولة، وقبل الارض بين يديه، والتقيا بأصبهان، وعمل ابن العميد دعوه، جمع فيها ركن الدولة واولاده الأمراء، وخاطبهم ركن الدولة، بان عضد الدولة ولى عهده، وخلع ابن العميد على القواد الف قباء والف كساء.
وأخذ عز الدولة لسهلان بن مسافر خلعا من الطائع، ولقبه عنه عصمه الدولة وأنفذها له.
وانفذ الى فخر الدولة مثلها، فلم يلبساها، ولم يتلقب سهلان مراقبه لعضد الدولة.

(11/449)


سنه ست وستين وثلاثمائة
توفى ركن الدولة ابو على بالري في ثامن عشر المحرم، وقال ابو بكر الخوارزمي يرثيه:
احين جرى ملكه في الملوك ورد به الله ملك العجم وخط الفناء على قبره بخط البلى وبنان السقم إذا تم امر بدا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم وأتاها مؤيد الدولة، وانفصل عن أصبهان، واقر أبا الفتح بن العميد على ما كان اليه، وكان يكتب له في حياه ابيه الصاحب ابو القاسم محمد بن العميد، حسده الصاحب وغيظه من قربه ان حمل الجند على الشغب، فحسم مؤيد الدولة المادة باعاده الصاحب الى أصبهان.
وكان في نفس عضد الدولة على ابن العميد ما ذكرناه، حتى انه كان يقول:
خرجت من بغداد، وانا زريق الشارب، وابن العميد خرج ملقبا بذى الكفايتين، لان اهل بغداد كانوا يلقبون عضد الدولة بزريق الشارب.
ونشط ابن العميد للشرب، وتداخله ارتياح، فعمل مجلسا عظيما، وشرب ببقية نهاره وعامه ليله، وعمل شعرا وهو يشرب، وامر بتلحينه والغناء له به، ففعل المغنون ذلك، والشعر:
دعوت المنى ودعوت العلا ... فلما أجابا دعوت القدح
وقلت لايام شرخ الشباب ... الى فهذا أوان الفرح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
ولما غنى له بشعره، واستفزه الطرب، وشرب حتى سكر، وقال لغلمانه:
غطوا المجلس واتركوه على حاله، حتى نشرب عليه ونصطبح، وقام الى بيت منامه

(11/450)


وباكره رسول مؤيد الدولة يستدعيه، فركب وعنده انه يخاطبه على مهم، ويعود سريعا، فلما دخل اليه قبض عليه وأخذ أمواله.
ومن شعر ابى الفتح:
يقول لي الواشون كيف تحبها ... فقلت لهم بين المقصر والغالي
ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت هوى لم يهوه قط أمثالي
وكم من شفيق قال: ما لك واجما ... فقلت: ابى ما بي وتسألني مالي
وترامت به الحال الى قتله.
وحكى ان أباه رآه وهو يخطر خطره أنكرها من مشيه امثاله، فقال لمن حضره:
انى لأخذه بالأدب حتى لانغص عليه عيشه، فانه قصير العمر، وعمره على ما يدل عليه نجمه ثمان وعشرون سنه، هذا ما حكاه الثعالبي في اليتيمه.
وقال ابن الحجاج يرثيه من قصيده:
رويدك ان الحزن ضربه لازم ... الا فليقم ناعي البحور الخضارم
الا ان هذا المجد قد ساخ طوده ... فاصبح منهد الذرا والدعائم
الا ان بحر الجود قد غاض لجه ... فمن للقلوب الصاديات الحوائم
فيا صارما فل البلى غرب خده ... وكتابه تقرى متون الصوارم
مضى جسمك الفاني وخلفت بعده ... معالى تلك المأثرات الجسائم
اخلاى بالري الذين عهدتهم ... يوفوننى حق الصديق المساهم
الموا جميعا او فرادى بقبره ... وقولوا له عن اجدع الأنف راغم
كظيم وما زال الاسى متحاملا ... على كل موتور السرائر كاظم
أيا راحلا عن قومه غير آئب ... ويا غائبا عن اهله غير قادم
لمثلك فلتبك العيون باربع ... وما فائضا بعد الدموع السواجم
وما كنت الا صارما فل حده ... باخر مشحوذ الغرارين صارم
فلا هز هندي سقى دمك الثرى ... غداه الوغى الا باوهن قائم
ومما يسلى الحزن انك وارد ... على فرح في جنه الخلد دائم

(11/451)


ولم لا وقد قدمت زادا من التقى ... نهضت به مستبشرا غير نادم
تجيء إذ صحف المظالم نشرت ... ببيضاء غفل من سمات المظالم
وكنت إذا الفحشاء نادتك معرضا ... أصم غضيض الطرف دون المحارم
عجبت لمن انحى عليك بسيفه ... فانحى على غصن من البان ناعم
اما راعه ذاك الشباب وحسنه ... فتدركه في الحال رقه راحم
أبا الفتح يأبى سلوتى عنك اننى ... جعلت عليك الحزن ضربه لازم
فما قصرت بي عن حقوقك ونيه ... ولا أخذتني فيك لومه لائم
ولما بلغ عز الدولة وفاه ركن الدولة، قال: انا ولى عهد عمى ركن الدولة، وحلف لعمران بن شاهين، وتزوج ابو محمد عمران ابنه عز الدولة، وحضر بين يدي الطائع، وحلف لعده الدولة ابى تغلب، فقال ابن الحجاج من قصيده:
أنت علمتني المدائح حتى ... صرت فيها مجودا مطبوعا
أنت واصلتنى وكنت على الباب ... طريدا مبعدا ممنوعا
أنت جددت ثوب عزى ... وقد كان لبيسا مفتتا مرقوعا
ملك عين من يعاديه ... لا تطعم غمضا ولا تذوق هجوعا
ايها السيد الذى طاب في المجد ... اصولا كريمه وفروعا
ان يوم الخميس اصبح فيه ... علم المجد والعلا مرفوعا
رفعت رايه الهدى بيد ... النصر وخر النفاق فيه صريعا
دوله عزها وعمدتها ... اليوم اضافا الى الجموع الجموعا
وصلا الحبل بالتصافى فاضحى ... ظهر من يظهر الخلاف قطيعا
وله رايه إذا ضحك النصر إليها ... تبكى السيوف نجيعا
في جيوش تطبق الارض خيلا ... وسيوفا قواطعا ودروعا
ينصرون الامام خير امام ... لم يكن خالعا ولا مخلوعا
ورث الأمر عن ابيه بحق ... لم يكن محدثا ولا مصنوعا
فهو مثل الهلال في الأفق نورا ... وعلوا ورفعه وطلوعا
وترانى بدرتي اصفع الحاسد ... في اخدعيه صفعا وجيعا
لا احابى وحق من خلق الجنه ... لا تابعا ولا متبوعا

(11/452)


ولو انى حابيتهم كنت نذلا ... ساقطا سفله خسيسا وضيعا
وفي رجب، قبض على ابى الفرج بن فسانحس، وحمل الى سر من راى، وتحرك ما كان في نفس عضد الدولة من قصد العراق، فاستخلف عز الدولة على بغداد الشريف أبا الحسن محمد بن عسر، وخرج معه ابن بقية، فزارا مشهد الحسين ع.
وقصد ابن بقية الكوفه وحده، فزار واجتمع، وانحدر الى واسط، وقال ابن الحجاج يودعه:
يا من اليه الامال تختلف ... ومن عليه القلوب تنعطف
ومن بنو عمه واخوته ... ملوك اهل الدنيا به شرفوا
من استقلت بنو بويه به ... كما استقلت بالعاتق الكتف
مولاى صبرا فان سائر ما ... تراه عما تحب ينكشف
وكل ما تشتهى وتؤثره ... ياتى كما تشتهى ولا يقف
ومن أتانا يسوقه طمع ... عنك بخفي حنين ينصرف
تثنيه عن هفوة الشباب غدا ... راى بعيد من النوى نصف
أولا فعزيه ململمه ... تستر منها السيوف والحجف
وذيل يحكم الطعان لها ... بأنها في الصدور تنقصف
وشرب ضمر فوارسها ... لا عزل فوقها ولا عنف
هذا ونفسي الأمير دونك للرماة ... في حومه الوغى هدف
فانهض به نحوهم إذا نهضوا ... وازحف اليهم به إذا زحفوا
وأنت اعلى بنى بويه يدا ... وان تساوى القديم والخلف
كنتم بنى اهل بيت مكرمه ... توصف منهم بمثل ما وصفوا
حتى تلوناكم فكان لكم الفضل ... عليهم والمجد والشرف
والدر جنس لكن له قيم ... في الفضل عند التجار يختلف
وليس يدرى ما فضل فاخره المكنون ... حتى يفتح الصدف
يا من إذا احلف البحار ففي ... نداه من كل فائت خلف
ينتظم المدح فيك متزنا ... وفي سواك المديح ينزحف
مولاى لما بعدت فاشتعلت ... نيران قلبي وطار بي الأسف

(11/453)


جئتك اعدو والشوق يعجلني ... إليك يا دافنى وانصرف
وسال عز الدولة الطائع الانحدار، فأجاب وانحدر الى واسط في عاشر شعبان، ومعه ابن معروف، ونزل في دار الوزارة بها.
وساروا الى الاهواز، فوصلوها عاشر رمضان.
وكتب عز الدولة عن الطائع كتابا يدعو الى الصلح، ونفذ به خادم، فقال عضد الدولة للخادم: قل لمولانا امير المؤمنين، لا يمكنني الجواب، إذا مثلت بحضرتك ولم يجب على الكتاب.
ولما اشرفت الحال على الحرب، اصعد الطائع الى بغداد، وكانت الحرب بناحيه يقال لها مشان من اعمال الباسيان، في نصف تموز، وهو يوم الأحد مستهل ذي القعده، وكان دبيس بن عفيف الأسدي على ميسره عز الدولة، فاستامن وعطف على النهب، فنهب، فانهزم عز الدولة، وقتل من اصحابه خلق، وغرق آخرون على جسر عقده بدجيل.
وكان حمدان في جمله المنهزمين، وتفرقت المذاهب بالمنهزمين، فالتقوا بمطارى.
واجتمع عز الدولة وبه جراح بأخيه عمده الدولة، وابن بقية بها على اسوا حال.
وانفذ عمران بابنه الحسن وكاتبه وقواده، في عده سفن الى عز الدولة، وانفذ اليه والى ابن بقية بمال وثياب، وانفذ المرزبان بن بختيار الى ابيه بمثل ذلك من البصره.
وانحدروا الى البصره، وهي مفتتنه، فاراد ابن بقية ان يصلحها، فازدادت فسادا واحترقت الاسواق، ونهبت الأموال.
وورد ابو بكر محمد بن على بن شاهويه صاحب القرامطة الكوفه في الف رجل منهم، واقام الدعوة بها وبسورا، وبالجامعين والنيل، لعضد الدولة

(11/454)


واشفق بختيار ان يسير عضد الدولة الى واسط، فيملكها، فتفوته النجاة، فاحترق البطائح، فتلقاه عمران في عسكره، واقام ابن بقية عنده ثلاثة ايام.
وكان عمران قد قال لعز الدولة، لما قصد حربه: سترى انك تحتاج الى، واعاملك من الجميل بخلاف ما عاملني به ابوك من القبح، فعجب الناس من هذا الاتفاق.
واستدعى البصريون من عضد الدولة، من يتسلم بدلهم، فانفذ أبا الوفاء طاهر بن محمد فدخلها.
واقام بختيار بواسط، وتراجع اليه اصحابه وجنده.
ورجع ابن بقية الى ذخيره له بها، واستمال الجند، فرغبوا فيه وآثروه على صاحبه.
وقال بعض البصريين في بختيار:
اقام على الاهواز خمسين ليله ... يدبر امر الملك حتى تذمرا
يدبر امرا كان اوله عمى ... واوسطه بلوى وآخره خسرا
ومن اعجب ما اتفق عليه، انه اسر له غلام اسمه باتكين، ولم يكن يميل اليه، فجن عليه، وتسلى عن ملكه الا عنه، وانقطع الى البكاء، وامتنع من الغذاء، واحتجب عن الناس فخف ميزانه، واستهان به ابن بقية، وانفذ بالشريف ابى احمد الموسوى، والحرب قائمه، يسال عضد الدولة في رد الغلام، وبذل في فدائه جاريتين، كان بذل ابو تغلب بن حمدان في إحداهما مائه الف درهم، وقال لأبي احمد: ان لم يرض عضد الدولة بهما، فأعطه هذا العقد- وكان فاخرا نادرا واضمن له ما اراد.
ولما مضى ابو احمد الى عضد الدولة، وادى الرسالة، امر برد الغلام، وكان قد حمل في عده غلمان الى ابى الفوارس بن عضد الدولة، فاعيد الى عضد الدولة، ولم يكن بين الغلام وبين غيره من الأسرى فرق، فامسكه عنده، وقال لأبي احمد:
لا انفذه حتى تمضى اليه برسائل، وتقرر معه القبض على ابن بقية، واضاف اليه أبا سعد بهرام بن أردشير الكاتب.
فلما وصلا الى بختيار، وخلوا به، اوحش ذلك ابن بقية

(11/455)


وكان بختيار ينزل في الجانب الغربي، وعول ابن بقية على طرد بختيار، وان ينفرد هو بالحرب، فعدل بختيار الى تسكينه وتلافيه.
فلما كان في ذي الحجه، اشار ابراهيم بن اسماعيل- وكان بختيار قد استحجبه، بعد ان كان نقيبا- بالقبض عليه إذا عبر اليه، ففعل ذلك، وانفذ أمواله وخزائنه، ووجد له سته آلاف رطل ثلجا، كان أعدها لسماط عزم على اتخاذه للجند، وطلب عز الدولة منه شيئا قبل القبض عليه، فانفذ اليه ثلاثين رطلا.
فكانت وزارة ابن بقية اربع سنين واحد عشر يوما.
واستخلص عز الدولة أبا العلاء صاعد بن ثابت النصراني، من مجلس ابن بقية، وكتب الى بغداد على الاطيار بالقبض على اهله، فوقعت الكتب في ايديهم، فهربوا الى بنى عقيل بالبادية.
وقبض على ابن بقية بمشهد ابن بهرام بن أردشير، واعاد معه الشريف أبا احمد.
وجرت اقاصيص حتى عاد اليه باتكين.
وقال ابن الحجاج يمدح أبا سعد بن بهرام:
أبا سعد قد انكشف الغطاء ... وأمكننا الحضور كما نشاء
وزالت رقبه الواشين حتى ... شفى من لوعة الشوق اللقاء
بنفسي أنت من قمر منير ... له في كل ناحيه ضياء
هزمت القوم أمس بغير حرب ... فامست في خفارتك الدماء
وكان القوم في داء ولكن ... لطفت فصادف الداء الدواء
بقول ما خلطت به نفاقا ... وراى لم يكن فيه رياء
فاضحوا والرجال لكم عبيد ... وامسوا والنساء لكم إماء
ولما حصل باتكين بالبصرة، تواترت البشائر الى بختيار، واظهر من السرور ما لم يعهد، وضمن انه إذا رد الغلام، عاد الى بغداد، واظهر الطاعة.
وامر عضد الدولة أبا احمد، الا يسلم الغلام، حتى يصعد بختيار الى بغداد.
وكان قد ورد عليه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه، في الف فارس لنصرته،

(11/456)


فلما رايا افعاله، كاتبا أباهما بالصورة، وعرفاه ضعف رايه، واختلال تدبيره، واصعدا، وفارقه عبد الرازق بجرجرايا، واستحيا بدر من مفارقته.
وعادت الرسالة اليه بسمل ابن بقية، ففعل وسمل بعده صاحبه ابن الراعى، وأخذت عليه الايمان بطاعة عضد الدولة، واثبات اسمه على راياته، واقامه الخطبه له في كل بلد دخله.
فانصرف عنه بدر بن حسنويه حينئذ.
وكان في جمله ما شرط عليه عضد الدولة، ان يرحل عن بغداد الى الشام، والا يؤذى أبا تغلب.
واتى عضد الدولة الاهواز، فرتب أمورها، وسار منها الى البصره، وقد انصرف عنها المرزبان بن بختيار، فوجدها مفتتنه، فأصلحها وضمن اكابر أهلها اصاغرهم.

(11/457)


سنه سبع وستين وثلاثمائة
في صفر ورد الخبر الى الكوفه بوفاه ابى يعقوب يوسف بن الحسن الجنابى صاحب هجر، فاغلقوا أسواقهم ثلاثة ايام، اجلالا لمصيبته، ومولده سنه ثمانين ومائتين، وعقدوا الأمر لستة نفر من اهل بيته، اشركوا في الأمر، وسموا السادة.
وصار ابو الحسن محمد بن يحيى العلوي الى عضد الدولة، وسار في مقدمته الى بغداد.
وسار عز الدولة عنها لليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر، وتفرق ديلمه عنه، ففرقه انحازوا الى الحسن بن فيلسار، وسار بها الى جسر النهروان، وانفذ عضد الدولة بمن أتاه به أسيرا، وبه عده ضربات.
وفرقه صاروا الى عضد الدولة، وفرقه ثبتوا معه.
فقال ابن الحجاج في خروجه:
فديت قوما ساروا ولكن ... ساروا على صوره خسيسة
نودى عليهم كما ينادى ... بسوق يحيى على الهريسة
كأنهم من يهود هطرى ... قد طردوهم من الكنيسه
آخر الجزء الاول، ويتلوه في الثانى مملكه عضد الدولة ابى شجاع والحمد لله حق حمده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما.

(11/458)