تاريخ دمشق لابن القلانسي
ودخلت سنة ثلاث
وخمسين وخمسمائة
وأولها يوم الاثنين أول المحرم والطالع الجدى. وفي أوائله تناصرت
الأخبار من ناحية الافرنج خذلهم الله المقيمين في الشام في مضايقتهم
لحصن حارم ومواظبتهم على رميه بحجارة المناجيق إلى أن أضعف وملك بالسيف
وتزايد طمعهم في شن الغارات في الأعمال الشامية وإطلاق الأيدي في العيث
والفساد في معاقلها وضياعها بحكم تفرق العساكر الاسلامية والخلف الواقع
بينهم باشتغال الملك العادل بعقابيل المرض العارض له ولله المشيئة التي
لا تدافع والأقضية التي لا تمانع
وفي صفر منها ورد الخبر والمبشر بروز الملك العادل نور الدين من حلب
المتوجه إلى دمشق واتفق للكفرة الملاعين متواتر الطمع في شن الغارات
على أعمال حوران والاقليم واطلاق أيدي الفساد والعيث والاحراق والاخراب
في الضياع والنهب والأسر والسبي وقصد داريا والنزول عليها في يوم
الثلاثاء انسلاخ صفر من السنة واحراق منازلها وجامعها والتناهي في
إخرابها وظهر إليهم من العسكرية والأحداث والعدد الكثير وهموا بقصدهم
والاسراع إلى لقائهم وكفهم فمنعوا من ذلك بعد أن قربوا منهم وحين شاهد
الكفار خذلهم الله كثرة العدد الظاهرة إليهم رحلوا في آخر النهار
المذكور إلى ناحية الاقليم ووصل الملك نور الدين إلى دمشق وحصل في
قلعتها غرة يوم الاثنين السادس من شهر ربيع الأول سالماً في نفسه
وجملته ولقي بأحسن زي وترتيب وتجمل واستبشر العالم بمقدمه المسعود
وابتهجوا وبالغوا في شكر الله تعالى على سلامته وعافيته والدعاء له
بدوام أيامه ونصر أعلامه وشرع في تدبير أمر الأجناد والتأهب للجهاد
والله تعالى يمده بالنصر وإدراك كل بغية ومراد
(1/536)
وفي أوائل شهر ربيع الأول من سنة 53 ورد
الخبر من ناحية مصر بخروج فريق وافر من عسكرها إلى غزة وعسقلان وأغاروا
على أعمالها وخرج إليها من كان بها من الفرنج الملاعين فأظهر الله
المسلمين عليهم قتلاً وأسراً بحيث لم يفلت منهم إلا اليسير وغنموا ما
ظفروا وعادوا سالمين ظافرين وقيل أن مقدم الغزاة في البحر ظفر بعد من
مراكب المشركين وهي مشحنة بالافرنج فقتل وأسر منهم العدد الكثير والجم
الغفير وحاز من أموالهم وعددهم وأثاثهم ما لا يكاد يحصى وعاد ظافراً
غانماً وورد الخبر في الخامس عشر من شهر ربيع الأول من السنة من ناحية
حلب بحدوث زلزلة هائلة روعت أهلها وأزعجتهم وزعزعت مواضع من مساكنها ثم
سكنت بقدرة محركها سبحانه وتعالى ذكره. وفي ليلة السبت الخامس والعشرين
من ربيع الأول من السنة وافت زلزلة بدمشق روعت وأقلقت ثم سكنت بقدرة
محركها تعالى ذكره وفي يوم الأحد التاسع من شهر ربيع الآخر من السنة
برز الملك العادل نور الدين من دمشق إلى جسر الخشب في العسكر المنصور
بآلات الحرب مجداً في جهاد الكفرة المشركين وقد كان أسد الدين قبل ذلك
عند وصوله في من معه من فرسان التركمان غار بهم على أعمال صيدا وما قرب
منها فغنموا أحسن غنيمة وأوفرها وخرج إليهم ما كان بها من خيالة
الافرنج ورجالتها وقد كمنوا لهم فغنموهم وقتل أكثرهم وأسر الباقون
وفيهم ولد المقدم المولى حصن حارم وعادوا سالمين بالأسرى ورؤوس القتلى
والغنيمة لم يصب منهم غير فارس واحد فقد ولله الحمد على ذلك والشكر وفي
يوم الثلاثاء أول شهر تموز الموافق لأول جمادى الآخرة من السنة وافى في
البقاع مطر هطال بحيث حدث منه سيل أحمر كما جرت به العادة في تنبول كذا
الشتاء ووصل إلى بردى ووصل إلى دمشق فكثر التعجب من قدرة الله سبحانه
وتعالى حدوث مثل ذلك في مثل هذا الوقت
(1/537)
وفي آخر ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من
رجب من السنة وافت زلزلة عند تأذين الغداة روعت القلوب وأزعجت النفوس
ثم سكنت بقدرة الله الرؤوف الرحيم ثم وافت أخرى عقيب الماضية في ليلة
الخميس وقت صلاة الغداة ثم سكنت بقدرة الله تعالى وورد الخبر من العسكر
المحروس بأن الافرنج خذلهم الله تجمعوا وزحفوا إلى العسكر المنصور وأن
المولى نور الدين نهض في الحال في العسكر والتقى الجمعان واتفق أن في
عسكر الاسلام حدث لبعض المقدمين فشل فاندفعوا وتفرقوا بعد الاجتماع
وبقي نور الدين ثابتاً بمكانه في عدة يسيرة من شجعان غلمانه وأبطال
خواصه في وجوه الافرنج وأطلقوا فيهم السهام فقتلوا منهم ومن خيولهم
العدد الكثير ثم ولوى منهزمين خوفاً من كمين يظهر عليهم من عسكر
الاسلام ونجى الله وله الحمد نور الدين من بأسهم بمعونة الله تعالى له
وشدة بأسه وثبات جأشه ومشهور شجاعته وعاد إلى مخيمه سالماً في جماعته
ولام من كان السبب في اندفاعه بين يدي الافرنج وتفرق جمع الافرنج إلى
أعمالهم وراسل ملك الافرنج في طلب الصلح والمهادنة وحرض على ذلك وترددت
المراسلات بين الفريقين ولم يستقر حال بينهما وأقام العسكر المنصور بعد
ذلك مدة ثم اقتضى الرأي السعيد الملكي النور الانكفاء إلى البلد
المحروس فوصل إليه في يوم ... من شعبان من السنة
ولما كان في أواخر أيام من رجب سنة 553 تجمع قوم من سفهاء العوام
وعزموا على التحريض للملك العادل نور الدين على
(1/538)
إعادة ما كان أبطاله وسامح به أهل دمشق من
رسوم دار البطيخ وعرضة البقل والأنهار وصانهم من أعنات شر الضمان
وحوالة الأجناد وكرروا بسخف عقولهم الخطاب وضمنوا القيام بعشرة آلاف
دينار بيضاء وكتبوا بذلك حتى أجيبوا إلى ما راموه فشرعوا في فرضها على
أرباب الأملاك من المقدمين والأعيان والرعايا فما اهتدوا إلى صواب ولا
نجح لهم رأي في خطاب ولا جواب وعسفوا الناس بجهلهم بحيث تألموا وأكثروا
الضجيج والاستغاثة إلى الملك العادل نور الدين فصرف همه إلى النظر في
هذا الأمر فنتجت له السعادة وإيثار العدل في الرعية في إعادة ما أشكل
إلى ما كان عليه فلما كان يوم الاثنين العاشر من شهر رمضان أمر بإعادة
الرسوم المعتادة إلى ما كانت من أمانها وتعفية أثرها وأضاف إلى ذلك
تبرعاً من نفسه ابطال ضمان الهريسة والجبن واللبن ورسم بكتب منشور يقرأ
على كافة الناس بإبطال هذه الرسوم جميعها وتعفية ذكرها فبالغ العالم في
ذلك من مواصلة الأدعية للملك العادل والثناء عليه والنشر لمحاسنه فالله
تعالى يستجيب منهم ويديم أيامه ويقرن أيامه بالسعادة والنصر لأوليائه
وأعلامه وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رمضان من السنة وصل
الحاجب محمود المولد من ناحية مصر بجواب ما تحملنا من المراسلات من
الملك الصالح متولي أمرها ومعه رسول من مقدمي أمرائها ومعه المال
المنفذ برسم الخزانة الملكية النورية وأنواع الأثواب المصرية والجياد
العربية. وكانت فرقة من الافرنج خذهم الله قد ضربوا المهم
(1/539)
في المعابر فأظفر الله بهم بحيث لم يفلت
منهم إلا القليل النزر ثم تلا ذلك وورد الخبر من العسكر المصري بظفره
بجملة وافرة من الافرنج والعرب تناهز أربعمائة فارس وتزيد على ذلك في
ناحية العريش من الجفار بحيث استولى عليهم القتل والأسر والسلب وكان
فتحاً حسناً وظفراً مستحسناً والله المحمود على ذلك المشكور وفي يوم
الثلاثاء ثالث شوال من السنة توفي المنتجب أبو سالم بن عبد الرحمن
الحلبي متولي كتابة الجيش وعرض الأجناد في ديوان الملك العادل نور
الدين رحمه الله وكان خيراً حسن الطريقة مجموعاً على شكره والتأسف على
فقد مثله وتلا مصابه وفاة المهذب أبي عبد الله بن نوفل الحلبي في دمشق
أيضاً رحمه الله في يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة من السنة
وكان كاتباً للأمير الاسفهسلار أسد الدين ووزيره وهو موصوف بالخيرية
محمود الأفعال مشكور المقاصد في جميع الأحوال والخلال واستخدم ولده في
منصبه وتلا ذلك ورود الخبر من ناحية حماة في العشر الأخير من ذي الحجة
من السنة بوفاة رضي الدين أبي المجد مرشد بن علي بن عبد اللطيف المعري
بحماة رحمه الله وكان من الرجال الأسداء الكفاة فيما كان يستنهض فيه في
أيام الأتابكية وكذلك في الأيام النورية وكان مع ذلك موصوفاً بالخيرية
وسلامة الطبع مستمراً في ذلك على منهاج أسوته وكانت الأخبار قد تناصرت
من ناحية القسطنطينية في ذي الحجة من السنة ببروز ملك الروم منها في
العدد الكثير والجم الغفير لقصد الأعمال والمعاقل الاسلامية ووصوله إلى
مروج الديباج وتخييمه فيها
(1/540)
وبث سراياه للاغارة على الأعمال الأنطاكية
وما والاها وأن قوماً من التركمان ظفروا بجماعة منهم هذا بعد أن افتتح
من الأعمال لاوين ملك الأرمن عدة من حصونه ومعاقله. ولما عرف الملك
العادل نور الدين هذا شرع في مكاتبة ولاة الأعمال والمعاقل بإعلامهم ما
حدث من الروم ويبعثهم على استعمال التيقظ والتأهب للجهاد فيهم
والاستعداد للنكاية بمن يظفر منهم والله تعالى ولي النصر عليهم
والاظفار بهم كما جرت عوائده الجميلة في خذلانهم والاظهار عليهم ورد
بأسهم في نحورهم وهو تعالى على كل شيء قدير.
وقد اتفق في هذه السنة السعيدة التي هي سنة 553 منذ ابتداء تشرين
الثاني الكائن فيها إلى أوائل شباط أن السماء بأمر خالقها أرسلت
عزاليها بتدارك الثلوج والأمطار مع توالي الليل والنهار بحيث عمت
الأقطار وروت الوهاد والأغوار والبراري والقفار وجرت الأودية وتتابعت
السيول بمائها المصندل واللبني والبنكي واكتست الأراضي المنخفضة
والبقاع بخضرة الزرع وعشب النبات وأشبعت السائمة بعد الضعف والسغب
وإراحتها من كلفة العناء والتعب وكذلك سائر المواشي الراعي والوحوش
القاصية والدانية وتناصرت الأخبار من سائر الجهات بعموم هذه النعمة
وذكر الشيوخ أنهم لم يشاهدوا مثل ذلك في السنين الخالية فلله على نعمته
خالص الحمد ودائم الشكر
ودخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة
أولها يوم الجمعة مستهل المحرم منها. وفي هذا اليوم وافت زلزلة عظيمة
ضحى نهاره وسكنها محركها بقدرته ورحمته وتلاها في يومها ثنتان دونها
(1/541)
وكان في أوائل أيام من ذي الحجة سنة 553 قد
عرض للملك العادل نور الدين مرض تزايد به بحيث أضعف قوته ووقع الارجاف
به من حساد دولته والمفسدين من عوام رعيته وارتاعت الرعايا وأعوان
الأجناد وضاقت صدور قطان الثغور والبلاد خوفاً عليه وإشفاقاً من سوء
يصل إليه لا سيما مع أخبار الروم والخبر من الافرنج خذلهم الله. ولما
أحس من نفسه بالضعف تقدم إلى خواص أصحابه وقال لهم: إنني قد عزمت على
وصية إليكم بما قد وقع في نفسي فكونوا لها سامعين مطيعين وبشروطها
عاملين. فقالوا: السمع والطاعة لأمرك وما تقرره من رأيك وحكمك فإنا له
قابلون وبه عاملون. فقال: إني مشفق على الرعايا وكافة المسلمين ممن
يكون بعدي من الولاة الجاهلين والظلمة الجائرين وإن أخي نصرة الدين
أمير ميران أعرف من أخلاقه وسوء أفعاله ما لا أرتضي معه بتوليته أمراً
من أمور المسلمين وقد وقع اختياري على أخي الأمير قطب الدين مودود بن
عماد الدين متولي الموصل وخواصه لما يرجع إليه من عقل وسداد ودين وصحة
اعتقاد بأن يكون في منصبي بعدي والساد لثلمة فقدي فكونوا لأمره بعدي
طائعين ولحكمه سامعين فأحلفوا له بصحة من نياتكم وسرائركم واخلاص من
عقائدكم وضمائركم. فقالوا: أمرك المطاع وحكمك المتبع. فحلفوا الأيمان
الموكدة على العمل بشروطها واتباع رسومها وأنفذ رسله إلى أخيه المذكور
لأعلامه صورة الحال ليكون لها مستعداً وإليها مسرعاً. ثم تفضل الله
تعالى عليه وعلى كافة المسلمين ببدوء الابلال من المرض وتزايد القوة في
النفس والجسم وجلس المدخول إليه والسلام عليه فسرت النفوس بهذه النعمة
وقويت بتجديدها وكان الأمير مجد الدين النائب في حلب قد رتب في الطرقات
من يحفظ السالكين فيها فظفر المقيم في منبج برجل حمال من أهل دمشق يعرف
بابن مغزو معه كتب فأنفذه بها إلى مجاهد الدين متولي حلب فلما وقف
عليها أمر بصلب متحملها. وأنفذها في الحال إلى الملك العادل
(1/542)
نور الدين فلما وقف في يوم الخميس من العشر
الثاني من المحرم من السنة الجديدة وجدها من أمين الدين زين الحاج أبي
القسم متولي ديوانه ومن عز الدين متولي ولاية القلعة مملوكه ومن محمد
حفري كذا أحد حجابه إلى أخيه نصرة الدين أمير ميران صاحب حران باعلامه
بوقوع اليأس من أخيه الملك العادل ويحضونه على المبادرة والاسراع إلى
دمشق لتسلم إليه. فلما عرف ذلك عرض الكتب على أربابها فاعترفوا به فأمر
باعتقالهم وكان في جملتهم الرابع لهم سعد الدين عثمان وكان قد خاف فهرب
قبل ذلك بيومين. وورد في الحال كتاب صاحب قلعة جعبر يخبر بقطع نصرة
الدين مجداً إلى دمشق فأنهض أسد الدين في العسكر المنصور لرده ومنعه من
الوصول فاتصل به خبر عوده إلى مقره عند معرفته بعافية الملك العادل
أخيه فعاد أسد الدين في العسكر إلى البلد
ووصلت رسل الملك من ناحية الموصل بجواب ما تحملوه إلى أخيه قطب الدين
وفارقوه وقد برز في عسكره متوجهاً إلى ناحية دمشق فلما فصل عن الموصل
اتصل به خبر عافية الملك نور الدين فأقام بحيث هو ونفذ الوزير جمال
الدين أبا جعفر محمد بن علي لكشف الحال فوصل إلى دمشق في يوم السبت
الثامن من صفر سنة 554 في أحسن زي وأنهى تجمل وخرج إلى لقائه الخلق
الكثير. وهذا الوزير قد ألهمه الله تعالى من جميل الأفعال وحميد
الأخلاق وكرم النفس وانفاق ماله في أبواب البر والصلات والصدقات
ومستحسن الآثار في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومكة والحرم والبيت
ما قد شاع ذكره وتضاعف عليه مدحه وشكره واجتمع مع الملك العادل نور
الدين وجرى بينهما من المفاوضات والتقريرات ما انتهى عوده إلى
(1/543)
جهته بعد الاكرام له وتوفيته حقه من
الاحترام وأصحبه برسم قطب الدين أخيه وخواصه من الملاطفة ما اقتضته
الحال الحاضرة وتوجه معه الأمير الاسفهسلار أسد الدين شيركوه في خواصه
يوم السبت النصف من صفر من السنة المذكورة وقد كان وصل من ملك الروم
رسول من معسكره ومعه هدية أتحف الملك العادل من أثواب ديباج وغير ذلك
وجميل خطاب وبغال وقوبل بمثل ذلك وعاد إليه في أواخر صفر من السنة.
وحكي عن ملك الافرنج خذله الله أن المصالحة بينه وبين ملك الروم تقررت
والمهادنة انعقدت والله يرد بأس كل واحد منهما إلى نحره ويذيقه عاقبة
غدره ومكره وما ذلك على الله بعزيز وفي العشر الثاني من صفر من السنة
توجه الحاجب محمود المسترشدي إلى مصر عائداً مع رسلها كتب الله سلامتهم
بجرايات ما كان ورد معهم من مكاتبات الملك العادل الصالح متولي أمرها
عن الملك العادل نور الدين أعز الله نصره ووردت أخبار من ناحية ملك
الروم باعتزامه على أنطاكية وقصد المعاقل الاسلامية فبادر الملك العادل
نور الدين بالتوجه إلى البلاد الشامية لايناس أهلها من استيحاشهم من شر
الروم والافرنج خذلهم الله فسار في العسكر المنصور صوب حمص وحماة وشيزر
والاتمام إلى حلب إلى أن اقتضت الحال ذلك في يوم الخميس الثالث من شهر
ربيع الأول من السنة وفي الليلة الأحد الثاني والعشرين من شهر ربيع
الأول من السنة وافت في انتصافه زلزلة هائلة ماجت أربع موجات أيقظت
النيام وأزعجت اليقظى وخاف كل ذي مسكن مضطرب على نفسه وعلى مسكنه ثم
(1/544)
سكنها محركها بلطفه ورحمته فله الحمد
الرؤوف بعباده الرحيم ولم يعلم تأثيرها في الأماكن النائية فسبحان
القادر على ما يشاء العليم الحكيم وفي العشر الأول من شهر ربيع الآخر
من السنة ورد الخبر من ناحية حلب بوفاة أبي الفضل اسمعيل بن وقار
الطبيب في يوم الجمعة آخر شهر ربيع الأول رحمه الله وكان في خدمة الملك
العادل نور الدين أعز الله أنصاره وكان قد حظي عنده بإصابات في صنائعه
وقرب سعادته مع ذكاء فيه ومعرفة بكونه سافر إلى بغداد من دمشق واجتمع
بجماعة من فضلائها وقرأ عليهم وأخذ عنهم هذا مع خبرته وحميد طريقته
واجتماع الناس على إحماده والتأسف على فقد مثله في حسن فعله لكن القضاء
لا يدافع والمقدور لا يمانع وفي يوم الجمعة التاسع من جمادى الأولى من
السنة هبت ريح شديدة أقامت يومها وليلتها فأتلفت أكثر الثمار صيفيها
وشتويها وأفسدت بعض الأشجار ثم وافت آخر الليل زلزلة هائلة ماجت موجتين
أزعجت وأقلقت وكسنها محركها وحرس المساكين مثبتها برحمته وقدرته فله
الحمد والشكر رب العالمين
وفي جمادى الأولى من السنة في أوله تناصرت الأخبار المبهجة من ناحية
العسكر المنصور الملكي النوري بأعمال حلب بتواصل الأمراء المقدمين ولاة
الأعمال المجاهدة أحزاب الكفرة الضلال من الروم والافرنج لقصد الأعمال
الاسلامية والطمع في تملكها والافساد فيها والحماية لها من شرهم والذب
عنها من مكرهم في التناهي في الكثرة والاعداد الدثرة فقضى الله بحسن
لطفه بعباده ورحمته ورأفته ببلاده أن سهل للعزائم المنصور الملكية
النورية من صائب الرأي والتدبير وحسن السياسة والتقرير وخلوص النية لله
تعالى وحسن السريرة بحيث المهادنة الموكدة والموادعة المستحكمة بين
الملك العادل نور الدين وملك الروم ما لم يكن في
(1/545)
الحساب ولا خطر ببال بحيث انتظمت الحال في
ذلك في عقد السداد وكنه المراد بحسن رأي ملك الروم ومعرفته بما يؤول
إليه عواقب الحروب ويعسر الأمل المطلوب بعد تكرر المراسلات والاقتراحات
في التقريرات وأجيب ملك الروم إلى ما التمسه من اطلاق مقدمي الافرنج
المقيمين في حبس الملك نور الدين وأنفذهم بأسرهم وما اقترحه إليه
وحصولهم لديه وقابل ملك الروم هذا الفضل بما يضاهيه أفعال عظماء الملوك
الأسداء من الاتحاف بالأثواب الديباج الفاخرة المختلفة الأجناس الوافرة
العدد ومن جوهر نفيس وخيمة من الديباج لها قيمة وافرة وما استحسن من
الخيول المحلية ثم رحل عقيب ذلك في عسكره من منزله عائداً إلى بلاده
مشكوراً محموداً ولم يؤذ أحداً من المسلمين في العشر الأوسط من جمادى
الأولى سنة 554 فاطمأنت القلوب بعد انزعاجها وقلقها وأمنت عقيب خوفها
وفرقها فلله الحمد على هذه النعمة حمد الشاكرين وورد الخبر بعد ذلك بأن
الملك العادل نور الدين صنع لأخيه قطب الدين ولعسكره ولمن ورد معه من
المقدمين والولاة وأصحابهم الواردين لجهاد الروم والافرنج في يوم
الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى من السنة سماطاً عظيماً هائلاً
يناهي فيه بالاستكثار من ذبح الخيول والأبقار والأغنام وما يحتاج إليه
في ذلك مما لا يشاهد مثله ولا شبه له مما قام بجملة كبيرة من الغرامة
وفرق من الحصن العربية والخيول والبغال العدد الكثير من الخلع وأنواع
الديباج المختلفة وغيره والصحون الذهب الشيء الكثير الزائد على الكثرة
وكان يوماً مشهوداً في الحسن والتجمل. واتفق أن جماعة من غرباء
التركمان وجدوا من الناس غفلةً باشتغالهم بالسماط وانتهابه فغاروا على
العرب من بني أسامة وغيرهم واستاقوا مواشيهم فلما ورد الخبر بذلك أنهض
في أثرهم فريق وافر من العسكر المنصور فأدركوهم
(1/546)
واستخلصوا منهم جميع ما أخذوه وأعيد إلى
أربابه وسكنت النفوس بعد انزعاجها والله المحمود المشكور ثم تقرر الرأي
الملكي النوري أعلاه الله على التوجه إلى مدينة حران لمنازلتها
واستعادتها من أخيه نصرة الدين حسبما رأه في ذلك من الصلاح ورحل في
العسكر المنصور في أول جمادى الآخرة فلما نزل عليها وأحاط بها وقعت
المراسلات والاقتراحات والممانعات والمحاربات إلى أن تقررت الحال على
إيمان من بها وتسلمت في يوم السبت الثالث والعشرين من جمادى الآخرة
المذكور وقررت أحوالها وأحسن النظر إليها في أحوال أهليها وسلمت إلى
الأمير الجل الاسفهسلار زين الدين على سبيل الاقطاع له وفوض إليه تدبير
أمورها
ودخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة
وأولها يوم الثلاثاء مستهل المحرم والشمس في كح درجة وكح دقيقة من
الجدى والثاني عشر من كانون الثاني والطالع القوس سبع عشرة درجة وخمس
دقائق. وفي ليلة الجمعة من صفر من هذه السنة توفي الأمير مجاهد الدين
بزان بن مامين أحد مقدمي أمراء الأكراد والوجاهة في الدولة رحمه الله
موصوف بالشجاعة والبسالة والسماحة مواظب على بث الصلات والصدقات في
المساكين والضعفاء والفقراء مع الزمان وكل عصر ينقضي وأوان جميل المحيا
حسن البشر في اللقاء وحمل من داره بباب الفراديس إلى الجامع للصلاة ثم
إلى المدرسة المشهورة باسمه
(1/547)
فدفن فيها في اليوم ولم يخل من باك عليه
ومؤبن له ومتأسف على فقده بجميل أفعاله وحميد خلاله ورثي بهذه الأبيات
المختصرة وهي:
كم غافل وسهام الموت مصمية ... تصميه في غفلة منه ونسيان
بينا تراه سريع الخطو في وطر ... حتى تراه سريعاً بين أكفان
كذاك كان بزانٌ في امارته ... ما بين جندس وأنصار وأعوان
هبّت رياح الرزايا في منازله ... فغادرتها بلا أنسٍ وجيران
أمسى بقبرٍ وحيداً جنب مدرسة ... بلا رفيقٍ ولا خلٍّ واخوان
ما عاينت نعشه عينٌ مؤرقةٌ ... إلاّ بكنه بأنواءٍ وتهتان
فرحمة الله لا ينفكّ زائره ... لحداً حوى جسمه منه بغفران
ولا أغبّت ثراه كل مرعدةٍ ... تهمي عليه بغيثٍ ليس بألواني
حتى تروّضه منها بصيبها ... بكل زهرٍ غضيضٍ ليس بالفاني
ما دامت الشهب في الأفلاك دائرةً ... وناحت الورق ليلاً بين أغصان
من يفعل الخير في الدنيا فقد ظفرت ... يداه بالحمد من قاصٍ ومن دان
وفي يوم الخميس مستهل صفر من السنة رفع القاضي ذكي الدين أبو الحسن علي
ابن محمد بن يحيى بن علي قاضي دمشق إلى الملك العادل نور الدين رقعةً
يسئله فيها الاعفاء من القضاء والاستبدال به فأجاب سؤاله وولى قضاء
دمشق القاضي الأجل الامام كمال الدين بن الشهرزوري وهو المشهور بالتقدم
ووفور العلم وصفاء الفهم والمعرفة بقوانين الأحكام وشروط استعمال
الانصاف والعدل والنزاهة عن الاشفاف وتجنب الهوى والظلم وحكم بين
الرعايا بأحسن افصال في الحكم وكتب له
(1/548)
المنشور بذلك بنعوته المكتملة وصفاته
المستحسنة ووصاياه البليغة المتقنة واستقام له الأمر على ما يهواه
ويؤثره ويرضاه على أن القضاء من بعض أدواته واستقر أن [يكون] النائب
عنه عند اشتغاله ولده
هذا آخر ما وجد من مذيل التاريخ الدمشقي والحمد لله وحده وصلواته على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وكان الفراغ من كتابته سلخ
ربيع الآخر سنة 629 كتبه أسير ذنبه الراجي عفو ربه محمد بن أبي بكر بن
اسمعيل بن الشيرجي الموصلي غفر الله له زلله وخطأه وخطله ولجميع
المسلمين
(1/549)
|