تاريخ دمشق لابن القلانسي

ودخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة
أولها يوم الأحد والشمس في برج الحمل والطالع الجدي. وفي سادس وعشرين من المحرم منها ورد الخبر من ناحية مصر بأن العادل المعروف بابن سلار الذي كانت رتبته قد علت ومنزلته في الوزارة قد تمكنت ونفذ أمره في البسط والقبض وحكمه في الابرام والنقض وأنه كان قد جلس للانفاق في رجال الاسطول ليجهزه في البحر إلى ناحية عسقلان بالميرة لتقوية من بها على النازلين عليها من الافرنج والمضايقين لها وهو في الجمع الكثير والجم الغفير بالمال والرجال والغلال واشراف أهلها على الخطر وأنه نهض من المجلس على العادة للراحة من النصب والهجعة عقيب التعب وكان لزوجته ولد يعرف بالأمير عباس قد قدمه واعتمد عليه في الأعمال ولعباس هذا ولد قدمه الوزير وأنعم عليه وأذن له في الدخول بغير إذن إليه فدخل عليه وهو نائم في فرشته على العادة فأخذ سيفه وضربه به فقطع رأسه وخرج به بين أثوابه ولم يشعر أحد وأتى به إلى باب القصر في يوم الأحد الثاني عشر من المحرم وقال لخدم الامام الظافر بالله: هذا رأس المنافق. فقيل له: ما كان منافقاً. وكان جماعة من الأتراك قد اصطنعهم الوزير المقتول لنفسه فتجمعوا في زهاء ثلاثمائة فارس وأنهم طلبوا ليقتلوا فحموا نفوسهم بالسهام وحصلوا بظاهر القاهرة وصادفهم عباس عائداً من بلبيس حين وافه الخبر فوعدهم الجميل واقرارهم على واجباتهم فلم يقوا به وتفرقوا على أقبح حال ووصلوا إلى دمشق في أواخر المحرم وقيل أن عباساً المذكور حصل في منصب العادل المذكور واستقام له الأمر وتمكن في الأعمال وقيل أن العادل كان قد قتل من الحجرية والريحانية وأصناف الأجناد حتى استقام له الأمر وتمكن في الأعمال
وتواصلت الأخبار من ناحية نور الدين سلطان حلب والشام بقوة عزمه على جمع العساكر والتركمان من سائر الأعمال والبلدان للغزو في أحزاب

(1/495)


الشرك والطغيان بنصرة أهل عسقلان على النازلين عليها من الافرنج وقد ضايقوها بالزحف إليها بالبرج المخذول وهو في الجمع الكثير والله يحرسها من شرهم واقتضت الحال توجه مجير الدين صاحب دمشق إلى نور الدين في جمهور عسكره للتعاضد على الجهاد في يوم السبت الثالث عشر من المحرم واجتمع معه في ناحية الشمال واتفق بينهما وجماعة المقدمين من أمراء الأعمال والتركمان وهم في العدد الدثر. وقد ملك نور الدين الحصن المعروف بافلس بالسيف بأمر قضاه الله وسهله ويسره وعجله وهو في غاية المنعة والحصانة وقتل من كان فيه من الافرنج والأرمن وحصل للعسكر من المال والسبي الشيء الكثير ونهضوا طالبين ثغر بانياس ونزلوا عليه في يوم السبت تاسع وعشرين صفر وقد خلا من حماته وتسهلت أسباب ملكته وقد تواصلت استغاثة أهل عسقلان واستنصارهم بنور الدين فقضى الله تعالى بالخلف بينهم والقتل وهم في تقدير عشرة ألف فارس وراجل فأجفلوا عنها من غير طارق من الافرنج طرقهم ولا عسكر منهم أرهقهم ونزلوا على المنزل المعروف بالأعوج وعزموا على معادة النزول على بانياس وأخذها ثم أحجموا عن ذلك من غير سبب ولا موجب وتفرقوا. وعاد مجير الدين إلى دمشق ودخلها سالماً في نفسه وجملته في يوم الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الأول من السنة وعاد نور الدين إلى حمص ونزل بها في عسكره ووردت الأخبار بوصول اسطول مصر إلى عسقلان وقويت نفوس من بها بالمال والرجال والغلال وظفروا بعدة وافرة من مراكب الافرنج في البحر وهم على حالهم في محاصرتها ومضايقتها والزحف بالبرج إليها قد تقدم من شرح الحال للرئيس في تمكنه من منصب الوزارة بنفيه

(1/496)


من نفاه من المعاندين له بحيث طابت نفسه وتوكد أنسه فعرض بينه وبين أخويه عز الدولة وزينها مشاحنات ومشاجات اقتضت المساعدة إلى مجير الدين في جمادى الأولى من السنة وأنفذ مجير الدين إلى الرئيس يستدعيه للاصلاح بينهم في القلعة فامتنع من ذلك وجلس في داره وهم بالتحصن عنه بأحداث البلد والغوغاء وآلت الحال إلى تمكن زين الدين منه بمعاونة مجير الدين عليه لأسباب تقدمت وتقرر بينهما إخراج الرئيس من البلد وجماعته إلى حصن صرخد مع مجاهد الدين بزان واليه في يوم الثلاثاء التاسع عشر من جمادى الأولى بعد أن قرر له بقاء بداره وبستانه وما يخصه ويخص أصحابه وتقلد أخوه زين الدين له مكانه وخلع عليه وأمر ونهى ونفذ الأشغال على عادته في العجز والتقصير وسوء الأفعال والتماس الرشاء على أقل الأعمال. ورأى مجير الدين عقيب ذلك التوجه إلى بعلبك لتطييب نفس واليها عطاء الخادم واستصحابه معه إلى دمشق لينوب عنه في تدبير الأمور والأعمال والمعونة على مصالح الأحوال وعاد وهو معه واستشعر مجاهد الدين أن نية مجير الدين قد تغيرت فيه فاستوحش من عوده إلى البلد عن غير يمين يحلف له بها على أيمانه على نفسه فوعد بالاجابة إلى ما رغب فيه وبقي الأمر موقوفاً لأسباب اقتضت التوقف ووردت الأخبار في أثناء ذلك بأن الافرنج النازلين على عسقلان قد ضايقوها بمغاداة القتال ومراوحته إلى أن تسهلت لهم أسباب الهجوم عليها من بعض جوانب سورها فهدموه وهجموا البلد وقتل بين الفريقين الخلق الكثير والجأت الضرورة والغلبة إلى طلب الأمان فأجيبوا إليه وخرج منها من أمكنه الخروج في البر والبحر إلى ناحية مصر وغيرها. وقيل أن في هذا الثغر المفتتح من العدد الحربية والأموال والميرة والغلال ما لا يحصر فيذكر. ولما شاع هذا الخبر في الأقطار ساء سماعه وضاقت الصدور وتضاعفت الأفكار بحدوث مثله فسبحان من لا يرد نافذ قضائه ولا يدفعه مختوم أمره عند نفوذه ومضائه

(1/497)


وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الأديب أبي الحسين أحمد بن منير الشاعر في أيام من جمادى الآخرة سنة 548 بعلة هجمت عليه ربا فيها لسانه بحيث قضي نحبه وكان أديباً شاعراً عارفاً بفنون اللغة وأوزان العروض لكنه مرهوب اللسان خبيث الهجاء مجيد فيه لا يكاد يسلم من مقاطيع هجائه منعم عليه ولا مسيء إليه وكان طبعه في الذم أخف منه في المدح وكان يصل بهجائه لا بمدحه وثنائه
ووصل إلى دمشق الأديب أبو عبد الله محمد بن نصر ويقال له ابن صغير القيسراني الشاعر من حلب يوم الأحد الثاني عشر من شعبان سنة 48 باستدعاء مجير الدين له وحضر مجلسه وأنشده قصيدةً حبرها يائية مقيدة حسنة المعاني والمقاصد فاستحسنها السامعون واستجادها وشفعها بغيرها ووصله أحسن صلة واتفق عوده إلى منزله فعرضت له حتى حادة وجاء معها اسهال مفرط قضى نحبه في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان من السنة وكان أديباً شاعراً مترسلاً فاضلاً بليغ النظم مليح المعاني كثير التطبيق والتجنيس وله يد قوية في علم النجوم والأحكام والهيئة وحفظ الأخبار والتواريخ وكان بينه وبين أبي الحسين أحمد بن منير على قديم الزمان مشاحنات حرص معها على الاصلاح بينهما فما تهيأ ذلك لمن رامه وكان بينهما هذه المدة اليسيرة وكان قد ورد من بغداد إلى دمشق في أوائل سنة 548 الشيخ الامام الفيلسوف أبو الفتوح بن الصالح وكان غايةً في الذكاء وصفاء الحسن والنفاذ في العلوم الرياضية الطب والهندسة والمنطق والحساب وفنون النجوم والأحكام والمواليد والفقه وما يتصل به وتواريخ الأخبار والسير

(1/498)


والآداب بحيث وقع الاجتماع عليه بأنه لم ير مثله في جميع العلوم وحسن الخلق ونزاهة النفس بحيث لا يقبل من أحد من الولاة صلة قلت أو كثرت واتفق للحين المقضي أنه عرض له مرض حاد ومعه اسهال مفرط أضعف قوته أقام به أياماً وتوفي إلى رحمة الله في دمشق يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة وقيل أنه من بيت كبير في العلم والأصل. ونظم فيه هذه الأبيات بصفة حالة في هذا الموضع ليعرف محله:
سررت أبا الفتوح نفوس قومٍ ... رأوك وحيد فضلك في الزمان
حويت علوم أهل الأرض طرّاً ... وبيّنت الجليّ من البيان
دعيت الفيلسوف وذاك حقٌّ ... بما أوضحت من غرر المعافي
ووافاك القضاء بعبد دارٍ ... غريباً ما له في الفضل ثان
فأودعت القلوب عليك حزناً ... يعضّ عليه أطراف البنان
لئن بخل الزمان عليّ ظلماً ... بأني لا أراك ولن تراني
فقد قامت صفاتك عند مثلي ... مقام السمع مني والعيان
سقى جدثاً به أصبحت فرداً ... ملاك الغيث يهمي غير وان
وفي أيام من تشرين الثاني الموافق لأيام من شعبان سنة 48 أرسل الله تعالى وله الحمد والشكر من الغيث المتدارك الهطال ما أحيا به الأرض بعد القحط والجدب وأجرى أودية حوران وأفعم بكرها بعد جفافها وقيل أن هذا الغيث لم ير مثله في هذا الوقت في السنين الماضية وأنه أفرط في أعمال طبرية بحيث حدث منه سيل جارف هدم عدة من مساكنها ورماها إلى البحيرة فسبحان محيي عباده ومغيث بلاده وفي يوم الخميس انسلاخ شعبان من السنة توفي الشيخ الامام الفقيه برهان الدين أبو الحسن علي البلخي رئيس الحنفية رحمه الله ودفن في مقابر باب الصغير المجاور لقبور الشهداء رضي الله عنهم وكان من التفقه

(1/499)


على مذهب الامام أبي حنيفة رحمه الله ما هو مشهور شائع مع الورع والدين والعفاف والتصون وحفظ ناموس الدين والعلم والتواضع والتردد إلى الناس على طريقة مرضية وسجية محمودة لم يشاركه فيها غيره ووقع الأسف عليه من جميع الخاص والعام والتأبين له والحزن عليه قد مضى من ذكر الرئيس المسيب في حصوله بصرخد وتقرر بعد ذلك تطييب نفس مجاهد الدين والحلف له على إزالة ما خامره من الاستيحاش والنفار ما سكن إليه واعتمد عليه وعاد إلى داره بدمشق أواخر شعبان وصام رمضان فيها ثم هجس في خاطره من مجير الدين وخواصه ما أوحشه منهم ودعاه ذلك إلى الخروج من البلد سراً في يوم الثلاثاء الثاني عشر من شوال طالباً صرخد فحين عرف خبره نهض في طلبه وقص أثره جماعة من الخيل فأدركوه وقد قرب من صرخد فقبض عليه وأعيد إلى القلعة بدمشق واعتقل بها اعتقالاً جميلاً
وحدث في هذه الأيام من تتابع الأمطار في الأماكن والثلوج في الجبال والأعمال البقاعية ما لم ير مثله ثم ذاب الثلج وسالت بمائه الأودية والشعاب وساح على الأرض كالسيل الجارف وامتلأت به الأنهار والتقت الشطط وأفسد ما مر به من الأراضي المنخفضة ووصل المد إلى بردى وما قرب منها ورأى من كثرته وعظمه وتغير لونه ما كثر التعجب منه والاستعظام له فسبحان مالك الملك منزل الغيث من بعد القنوط إنه على كل شيء قدير ثم تجدد عقيب ذلك من الرئيس الوزير حيدرة المقدم ذكره أشياء ظهرت عنه مع ما في نفس الملك مجير الدين منه ومن أخيه المسيب والمعرفة بالسعي والفساد ما اقتضت الحال استدعاءه إلى القلعة على حين غفلة منه وعن القضاء النازل به لسوء أفعاله وقبح ظلمه وخبثه ثم عدلت به

(1/500)


الجندارية إلى الجمام بالقلعة في يوم الأحد مستهل ذي القعدة من السنة وضربت عنقه صبراً وأخرج رأسه ونصب على حافة الخندق ثم طيف به والناس يلعنونه ويصفون أنواع ظلمه وتفننه في الأدعية والفساد ومقاسمة اللصوص وقطاع الطريق على أموال الناس المستباحة بتقريره وحمايته وكثر السرور بمصرعه وابتهج بالراحة منه ثم رجعت العامة والغوغاء ومن كان من أعوانه على الفساد من أهل العيث والافساد إلى منازلة خزائنه ومخازن غلته وأثاثه وذخائره فانتهبوا منها ما لا يحصى وغلبوا أعوان السلطان وجنده عليها بالكثرة ولم يحصل للسلطان من ذلك إلا النزر اليسير ورد أمر الرئاسة والنظر في البلد في اليوم المقدم ذكره إلى الرئيس رضي الدين أبي غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي وطاف في البلد مع أقاربه وسكن أهله وسكنت الدهماء ولم يغلق في البلد حانوت ولا اضطرب أحد واستبشر الناس قاطبةً من الخاص والعام والعسكرية وعامة الرعية وبولغ في اخراب منازل الظالم ونقل أخشابها وهذه عادة الباري تعالى في الظالمين " والفَسَقَة المفسدين وَكَذلِكَ أَخذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ " وفي ذي القعدة سنة 48 وردت الأخبار من ناحية بغداد بورود الأخبار إليها من ناحية الشرق باضطراب الأحوال في الأعمال الخراسانية وانفلال عسكر السلطان سنجر والاستيلاء عليه والقهر والاستظهار وحصره في دار مملكته بلخ والتضييق عليه واستدعاء ما في خزائنه من الأموال والآلات والذخائر والأمتعة والجواهر بخلق عظيم من الغز والتركمان تجمعوا من أماكنهم ومعاقلهم وحللهم في الأعداد الدثرة والتناهي في الاحتشاد والكثرة ولم يكن للسلطان سنجر مع كثرة عساكره

(1/501)


وأجناده طاقة ولا لدفعه عنه قوة فقهروه وغلبوه وحصروه وقيل إن نيسابور وتلك الأعمال حدث فيها من الفساد والخلف والقتل والنهب والسلب ما ترتاع النفوس باستماع مثله وتفرق من قبح فعله ونهبت بلخ بالمذكورين المقدم ذكرهم أشنع نهب وأبشع سلب فسبحان مدبر بلاده وعباده كما يشاء إنه على كل شيء قدير وفي الشهر المذكور حدث بمدينة دمشق ارتفاع السعر لعدم الواصلين إليها بالغلات من بلاد الشمال على جاري العادة بتقدم نور الدين صاحب حلب بالمنع من ذلك وحظره فأضر ذلك بأهلها من المسترين والضعفاء والمساكين وبلغ سعر الغرارة الحنطة خمسة وعشرين ديناراً وزاد على ذلك وخلا من البلد الخلق الكثير ولقوا من البؤس والشدة والضعف ما أوجب موت جماعة وافرة في الطرقات وانقطعت الميرة من كل الجهات وذكر إن نور الدين عازم على قصد دمشق بمنازلتها والطمع لهذه الحال في مملكتها وذلك مستصعب عليه لقوة سلطانها وكثرة أجنادها وأعوانها والله تعالى المرجو لقرب الفرج وحسن النظر بخلقه بالرأفة والرحمة كما جرت عوائد احسانه وفضله فيما تقدم
وفي أواخر ذي القعدة استدعي الرئيس رضي الدين إلى القلعة المحروسة وشرف بالخلع المكملة والمركوب بالسخت والسيف المحلى والترس وركب معه الخواص وأصحاب الركاب إلى داره وكتب له المنشور بالتقليد والاقطاع ولقب بالرئيس الأجل رضي الدين وجيه الدولة سديد الملك فخر الكفاة عز المعالي شرف الرؤساء وكان عطاء الخادم المقدم ذكره

(1/502)


قد استبد بتدبير الأمور ومد يده في الظلم وأطلق لسانه بالهجر وأفرط في الاحتجاب عن الشاكي والمشتكي بالغلمان والحجاب وقصر في قضاء الحوائج تقصيراً منكراً واتفق للأقضية المقدرة والمكافأة المقررة إن تقدم مجير الدين باعتقاله وتقييده والاستيلاء على ما في داره ومطالبته بتسليم بعلبك وما فيها من مال وغلال وسرت بمصرعه النفوس ونهب العوام والغوغاء بيوت أصحابه وأسبابه. وأرسل الله تعالى الغيث المتدارك بحيث افترت الأرض عن نضارتها وأبانت عن اخضرارها وغضارتها ولما كان في يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي الحجة من السنة أمر مجير الدين بضرب عنق عطاء الخادم المذكور لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه. وفي يوم الأربعاء السابع وعشرين من ذي الحجة استدعى مجير الدين بالفضل ولد نفيس الملك المستوفي لجده تاج الملوك رحمه الله ورد إليه استيفاء ديونه على عادة أبيه ولقبه لقب أبيه وجيه الدين نفيس الملك وتقرر أشراف الديوان سعد الدولة أبي الحسن علي بن طاهر الوزير المزدقاني

ودخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة
أولها يوم الأربعاء مستهل المحرم والطالع للعالم الجوزاء. وفي العشر الثاني من المحرم منها وصل الأمير الاسفهسلار أسد الدين شيركوه رسولاً من نور الدين صاحب حلب إلى ظاهر دمشق وخيم بناحية القصب من المرج في عسكر يناهز الألف فأنكر ذاك ووقع الاستيحاش منه وإهمال الخروج إليه لتلقيه والاختلاط به وتكررت المراسلات فيما اقتضته الحال ولم يسفر عن سداد ولا نيل مراد

(1/503)


وغلا سعر الأقوات لانقطاع الواصلين بالغلات ووصل نور الدين في عسكره إلى شيركوه في يوم الأحد الثالث من صفر وخيم بعيون الفاسريا عند دومة ورحل في الغد ونزل بأرض الضيعة المعروفة ببيت الآبار من الغوطة وزحف إلى البلد من شرقيه وخرج إليهم من عسكريته وأحداثه الخلق الكثير ووقع الطراد بينهم ثم عاد كل من الفريقين إلى مكانه ثم زحف يوماً بعد يوم. فلما كان يوم الأحد العاشر من صفر للأمر المقدر المقضي والأمر الماضي وسعادة نور الدين الملك وأهل دمشق وكافة الناس أجمعين باكر الزحف وقد احتشد وتهيأ لصدق الحرب وظهر إليه العسكر الدمشقي على العادة ووقع الطراد بينهم وحملوا من الجهة الشرقية من عدة أماكن فاندفعوا بين أيديهم حتى قربوا من سور باب كيسان والدباغة من قبلي البلد وليس على السور نافخ ضرمة من العسكرية والبلدية لسوء تدبير صاحب الأمر والأقدار المقدرة غير نفر يسير من الأتراك المستحفظين لا يؤبه لهم ولا يعول عليهم في أحد الأبراج. وتسرع بعد الرجالة إلى السور وعليه امرأة يهودية فأرسلت إليه حبلاً فصعد فيه وحصل على السور ولم يشعر به أحد وتبعه من تبعه واطلعوا علماً نصبوه على السور وصاحوا أصحاب نور الدين يا منصور وامتنع الأجناد والرعية من الممانعة لما هم عليه من المحبة لنور الدين وعدله وحسن ذكره وبادر بعض قطاعي الخشب بفأسه إلى الباب الشرقي فكسر إغلاقه وفتح فدخل منه العسكر على رغب وسعوا في الطرقات ولم يقف أحد بين أيديهم وفتح باب توما أيضاً ودخل الناس منه. ثم دخل الملك نور الدين وخواصه وسر كافة الناس من الأجناد والعسكرية لما هم عليه من الجوع وغلاء الأسعار والخوف من منازلة الافرنج الكفار

(1/504)


وكان مجير الدين لما أحس بالغلبة والقهر قد انهزم في خواصه إلى القلعة وأنفذ إليه وأومن على نفسه وماله وخرج إلى نور الدين فطيب نفسه ووعده الجميل ودخل القلعة في يوم الأحد المقدم ذكره. وقد أمر نور الدين في الحال بالمناداة بالأمان للرعية والمنع من انتهاب شيء من دورهم وتسرع قوم من الرعاع والأوباش إلى سوق علي وغيره فعاثوا ونهبوا وأنفذ المولى الملك نور الدين إلى أهل البلد بما طيب نفوسهم وأزال نفرتهم. وأخرج مجير الدين ما كان له في دوره بالقلعة والخزائن من المال والآلات والأثات على كثرته إلى الدار الأتابكية دار جده وأقام أياماً ثم تقدم إليه بالمسير إلى حمص في خواصه ومن أراد الكون معه من أسبابه وأتباعه بعد أن كتب له المنشور باقطاعه عدة بأعمال حمص برسمه ورسم جنده وتوجه إلى حمص على القضية المقدرة. ثم أحضر بعد غد ذلك اليوم أماثل الرعية من الفقهاء والتجار وخوطبوا بما زاد في إيناسهم وسرور نفوسهم وحسن النظر لهم بما يعود بصلاح أحوالهم وتحقيق آمالهم فأكثر الدعاء له والثناء عليه والشكر لله على ما أصاروه إليه. ثم تلا ذلك إبطال حقوق دار البطيخ وسوق البقل وضمان الأنهار وأنشأ بذلك المنشور وقرئ على المنبر بعد صلاة الجمعة فاستبشر الناس بصلاح الحال وأعلن الناس من التناء والفلاحين والحرم

(1/505)


والمتعيشين برفع الدعاء إلى الله تعالى بدوام أيامه ونصره وأعلامه والله سبحانه ولي الاجابة بمنه وفضله وقد كان مجاهد الدين بزان قد أطلق يوم الفتح من الاعتقال وأعيد إلى داره ووصل الرئيس مؤيد الدين المسيب إلى دمشق مع ولده النائب عنه في صرخد إلى داره معولاً على لزومها وترك التعرض لشيء من التصرفات والأعمال فبدا منه من الأسباب المعربة عن إضمار الفساد والعدول عن مناهج السداد والرشاد ما كان داعياً إلى فساد النية فيه. وكان في إحدى رجليه فنخ قد طال به ونسر ثم لحقه معه مرض وانطلاق متدارك أفرط عليه وأسقط قوته مع فواق متصل وقلاع في فيه زائد فقضى نحبه في الليلة التي صبيحتها يوم الأربعاء الرابع من شهر ربيع الأول سنة 49 ودفن في داره واستبشر الناس بمهلكه والراحة منه ومن سوء أفعاله بحيث لو عدت مخازيه مع جنونه واختلاله لطال بها الشرح وعجز عنها الوصف
وفي أواخر المحرم من السنة ورد الخبر من ناحية ماردين بوفاة صاحبها الأمير حسام الدين بن ايل غازي بن أرتق رحمه الله في أول المحرم وكان مع شرف قدره في التركمان ذكياً محباً لأهل العلم والأدب مميزاً عن أمثاله بالفضيلة. وفي شهر ربيع الأول من السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بأن الامام الظافر بالله أمير المؤمنين صاحبها كان ركن إلى أخويه يوسف وجبريل وإلى ابن عمهم صالح بن حسن وانس بهم في أوقات مسراته فعملوا عليه واغتالوه وقتلوه وأخفوا أمره في يوم الخميس انسلاخ صفر سنة 49 وحضر الامام العادل عباس الوزير وولده ناصر الدين وجماعة من الأمراء والمقدمين للسلام على الرسم فقيل لهم: إن أمير المؤمنين ملتاث الجسم. فطلبوا الدخول عليه لعبادته فاحتج عليهم فلم يقبلوا وألحوا في الطلب فظهر الأمر وانكشف واقتضت الحال

(1/506)


المسارعة إلى قتل الجناة في الوقت والساعة وإقامة ولد الظافر عيسى وهو صغير يناهز ثلاث سنين ولقبوه الفائز بنصر الله وأخذ له البيعة على الأجناد والعسكرية وأعيان الرعية على جاري العادة والعادل عباس الوزير وإليه تدبير الأمور واستمرت الأحوال على المنهاج ثم ورد الخبر بعد ذلك بأن الأمير فارس المسلمين طلائع بن رزيك وهو من أكابر الأمراء المقدمين والشجعان المذكورين لما انتهى إليه الخبر وهو غائب عن مصر قلق لذاك وامتعض وجمع واحتشد وقصد العود إلى مصر فلما عرف عباس الوزير بما جمع خالف الغلبة والاقدام على الهلكة إذ لا طاقة له بملاقاته في حشده الكثير ولم يمكنه المقام على الخطار بالنفس فتأهب للهرب في خواصه وأسبابه وحرمه ووجوه أصحابه وما تهيأ من ماله وتجمله وكراعه وسار مغذاً. فلما قرب من أعمال عسقلان وغزة ظهر إليه جماعة من خيالة الافرنج فاغتر بكثرة من معه وقلة من قصده فلما حملوا عليه فشل أصحابه وأعانوا عليه وانهزم أقبح هزيمة هو وولد له صغير وأسر ابنه الكبير الذي قتل ابن السلار مع ولده وحرمه وماله وكراعه وحصلوا في أيدي الافرنج ومن هرب لقي من الجوع والعطش ومات العدد الكثير من الناس والدواب ووصل إلى دمشق منهم من نجاه الهرب على أشنع صفة من العدم والعري والفقر في أواخر شهر ربيع الآخر من السنة وضاقت صدور المسلمين بهذه المصيبة المقضية بيد الافرنج فسبحان من لا يرد له قضاء ولا محتوم أمر

(1/507)


وفي آخر شهر ربيع الأول وصل الأمير الاسفهسلار مجد الدين أبو بكر محمد نائب المولى الملك نور الدين في حلب إلى دمشق عقيب عوده من الحج وأقام أياماً وعاد منكفئاً إلى منصبه في حلب وتدبير أعمالها وتسديد أحوالها وفي شهر ربيع الآخر سنة 549 ثار في دمشق مرض مختلف الحميات منه ما يقصر ومنه ما يطول وأعقبه بعد ذلك موت في الشيوخ والشباب والصبيان ثم تقاصر ذلك وفي أيام من جمادى الأولى من السنة ورد الخبر من ناحية مصر بأن عدة وافرةً من مراكب الافرنج من صقلية وصلت إلى مدينة تنيس على حين غفلة من أهلها فهجمت عليها وقتلت وأسرت وسبت وانتهبت وعادت بالغنائم بعد ثلاثة أيام وهي صفر وبعد ذلك عاد من كان هرب منها في البحر بعد الحادثة ومن سلم واختفى وضاقت الصدور عند استماع هذا الخبر المكروه وفي شهر رمضان ورد الخبر من ناحية حلب بفاة القاضي فخر الدين أبي منصور محمد بن عبد الصمد الطرسوسي رحمه الله وكان ذا همة ماضية ويقظة مضيئة ومرؤة ظاهرة في داره وولده ومن يلم به من غريب ووافد وقد نفذ أمره وتصرفه في أعمال حلب في أيام الملكية النورية وأثر في الوقوف أثراً حسناً توفر به ارتفاعه. ثم انعزل عن ذلك أجمل اعتزال.

(1/508)


وفي يوم الثلاثاء الثامن من شهر رمضان سنة 549 توفي الحكيم أبو محمد بن حسين الطبيب المعري رحمه الله وكان حسن الطريقة والصناعة كثير التجربة ثاقب المعرفة فكثر التأسف عليه وعند فقد مثله

ودخلت سنة خمسين وخمسمائة
وأولها يوم الاثنين مستهل المحرم والطالع العقرب عشرون درجة وثلاثون دقيقةً وثمان وأربعون ثانيةً. وفي اليوم الرابع والعشرين من ربيع الأولى من السنة تقررت أسباب الموادعة بين الملك العادل نور الدين صاحب دمشق وبين ملك الافرنج تقدير السنة وتمهدت القاعدة على هذه الحال إلى آخر المدة المستقرة. وبعد أيام قلائل من ذلك خرج الأمر الملكي النوري بالقبض على ضحاك والي بعلبك وطلب منه تسليمها فأجاب إلى ذلك ورحل العسكر المنصور إليها لتسلمها وفي يوم الخميس السابع من شهر ربيع الأول من السنة كان تسلمها ورتب فيها من سلمت إليه واعتمد في حفظها عليه. وفي يوم الاثنين الحادي وعشرين من رجب من السنة توجه الأمير أسد الدين شيركوه إلى حلب عند استدعاء الملك العادل نور الدين له وفي أيام من شعبان من السنة ورد الخبر من ناحية مصر بأن المنتصب في الوزارة فارس الاسلام بن رزيك لما استقام له الأمر عزم على مصالحة الافرنج وموادعتهم واستكفاف شرهم ومصانعتهم بمال يحمل إليهم من

(1/509)


الخزانة وما يفرض على اقطاع المقدمين من الأجناد فحين شاورهم في ذلك أنكروه ونفروا منه وعزموا على عزله والاستبدال به من يرتضون به واختاروا مقدماً يعرف بالأمير..... مشهوراً بالشهامة والبسالة وحسن السياسة. وارتضي لتولية الاسطول المصري مقدماً من البحرية شديد البأس بصيراً بأشغال البحر فاختار جماعةً من رجال البحر يتكلمون بلسان الافرنج وألبسهم لباس الافرنج وأنهضهم في عدة من المراكب الاسطولية وأقلع في البحر لكشف الأماكن والمكامن والمسالك المعروفة بمراكب الروم وتعرف أحوالها ثم قصد مينا صور وقد ذكر له إن فيه شختورة رومية كبيرة فيها رجال كثيرة ومال كثير وافر فهجم عليها وملكها وقتل من فيها واستولى على ما حوته وأقام ثلاثة أيام ثم أحرقها وعاد عنها في البحر فظفر بمراكب حجاج الافرنج فقتل وأسر وانتهب وعاد منكفئاً إلى مصر بالغنائم والأسرى وفي الشهر المذكور ورد الخبر من ناحية حلب بوقوع الخلف بين أولاد الملك مسعود بعد وفاته وبين أولاد قتلمش وبين أولاد قلج أرسلان وإن الملك العادل نور الدين صاحب دمشق وحلب دخل بينهم للصلح والاصلاح والتحذير من الخلف المقوي للأعداء من الروم والافرنج وطمعهم في المعاقل الاسلامية وبالغ في ذلك بأحسن توسط وبذل التحف والملاطفات وصلحت بينهم الأحوال وتناصرت الأخبار في هذا الأوان من ناحية العراق بأن الامام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين قد اشتدت شوكته وظهر واستظهر على كل مخالف له وعادل عن حكمه ولم يبق له مخالف مشتاق ولا عدو منافق وإنه مجمع على قصد الجهات المخالفة لأمره

(1/510)


وفي يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة 550 عاد الملك العادل نور الدين إلى دمشق من حلب وقد كان ورد الخبر قبل ذلك بأن الأمير قرا أرسلان بن داود بن سكمان ابن ارتق ورد على الملك العادل نور الدين وهو بأعمال حلب فبالغ في الاكرام له والسرور بمقدمه ولاطفه وألطفه بما جل قدره وعظم أمره من التحف والعطاء ثم عاد عنه إلى عمله مسروراً شاكراً وورد الخبر أيضاً في شهر رمضان سنة 50 بأن الملك العادل نور الدين نزل في عسكره بالأعمال المختصة بالملك قلج أرسلان بن الملك مسعود بن سليمان بن قتلمش ملك قونية وما والاها فملك عدة من قلاعها وحصونها بالسيف والأمان وكان الملك قلج أرسلان وأخواه ذو النون ودولاب كذا مشتغلين بمحاربة أولاد الدانشمند واتفق إن أولاد الملك مسعود رزقوا النصر على أولاد الدانشمند والاظهار على عسكره في وقعة كانت على موضع يعرف باقصرا في شعبان سنة 550 فلما عرف وعاد ما كان من الملك العادل نور الدين في بلاده عظم عليه هذا الأمر واستبشعه مع ما بينهما من الموادعة والمهادنة والصهر وراسله بالمعاتبة والانكار عليه والوعيد والتهديد وأجابه بحسن الاعتذار وجميل المقال وبقي الأمر بينهما مستمراً على هذه الحال

ودخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة
وأولها يوم الجمعة مستهل المحرم والطالع الدلو خمس عشرة درجة وست عشرة عاشرة وبعد وصول الحجاج يوم الجمعة السادس من

(1/511)


صفر من السنة توجه الملك العادل نور الدين إلى ناحية حلب في بعض عسكره في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من صفر من السنة عند انتهاء خبر الافرنج إليه بعيثهم في أعمال حلب وافسادهم وصادفه في طريقه المبشر بظفر عسكره في حلب بالافرنج المفسدين على حارم وقتلهم جماعةً منهم وأسرهم ووصل مع المبشر عدة وافرة من رؤوس الافرنج المذكورين وطيف بها في دمشق. وفي يوم الثلاثاء الثالث من شهر ربيع الأول من السنة توفي الشيخ الفقيه الزاهد أبو البيان نبا بن محمد المعروف بأن الحوراني رحمه الله وكان حسن الطريقة مذ نشأ صيتاً إلى أن قضى متديناً ثقةً عفيفاً محباً للعلم والأدب والمطالعة للغة العرب وكان له عند خروج سريره لقبره في مقابر الصغيرة المجاورة لقبور الصحابة من الشهداء رضي الله عنهم يوم مشهور من كثرة المناسقين والمتأسفين عليه وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الشريف السيد بهاء الدين أبي الحسن الهادي بن المهدي بن محمد الحسيني الموسوي رحمه الله في اليوم السابع عشر من رجب سنة 551 وكان حسن الصورة فصيح اللسان بالعربية والفارسية جميل الأخلاق والخلال مشكور الأفعال كريم النفس مليح الحديث واسع الصدر مكين المحل من الملك العادل نور الدين ركن الاسلام والمسلمين سلطان الشام أدام الله علاه وناله من الحزن لفقده والتأسف عليه ما يقتضيه مكانه المكين عنده ونظم فيه هذه

(1/512)


الأبيات رثاه بها من كان بينه وبينه مودة مستحكمة أوجبت ذاك إن رأيت اثباتها في هذا الموضع مع ذكره وهي:
نعى الناعي جاء الدين لمّا ... أتاه نازل القدر المتاح
فروّع كل ذي علمٍ وفضلٍ ... من الأدباء والعرب الفصاح
بكته غزالة الآفاق حزناً ... واظلم رزؤه ضوء الصباح
وأسبلت العيون دماً عليه ... كذلك عادة المقل الصحاح
فكم متفجّع يبكي عليه ... بحرقة موجعٍ دامي الجراح
وينشر فضله في كل نادٍ ... بألفاظ محبرةٍ فصاح
على حسناته تبكي المعالي ... بدمعة ثاكل خود رداح
فلو رام البليغ لها صفاتٍ ... لقصّر عن مراثٍ وامتداح
له خلقٌ صحيحٌ لا يضاهى ... ووجهٌ مشرق الأرجاء صاح
وكفٌّ جودها كالغيث يهمي ... على العافين كالجود المباح
له شرفان في عرب وفرس ... وقد صالا بمرهفه الصفاح
فأضحى لا مساجل في جلالٍ ... ولا شرفٍ ينير ولا سماح
على أمثاله عند الرزايا ... يعطّ جيوب أرباب البطاح
ومن كان الحسين أباه قدماً ... فقد نال المعلّى في القداح
لئن واراه في حلبٍ ضريح ... بعيدٌ عن مواطنه الفساح
وأصبح فيه منفرداً غريباً ... عن الأهلين في غلسٍ وضاح
فهذا الرسم جارٍ في البرايا ... بلا قصدٍ يكون ولا اقتراح
فلا برحت عمائم كل نود ... تروّضه بأنوار الأقاحي
ورحمة محيي الأموات تسري ... عليه في الغدو وفي الرواح
هدى الأيام ما ناحت هتوفٌ ... ولاح بقفره بيض الأداحي

(1/513)


وفي اليوم الخامس والعشرين توفي الشيخ أبو طالب شيخ الصوفية بدمشق رحمه الله وكان خيراً تقياً عفيفاً حسن الطريقة مشكور الخلال

شرح الزلازل الحادثة في هذه السنة المباركة وتواليها
في ليلة الخميس التاسع من شعبان سنة 551 الموافق لليوم السابع والعشرين من أيلول في الساعة الثانية منها وافت زلزلةٌ عظيمة رجفت بها الأرض ثلاث أو أربع مرات ثم سكنت بقدرة من حركها وسكنها سبحانه وتعالى من مليك قادر قاهر ثم وافى بعد ذلك ليلة الأربعاء الثاني وعشرين من شعبان المذكور زلزلة وجاءت قبلها وبعدها مثلها في النهار وفي الليل ثم جاء بعد ذلك ثلاث دونهن بحيث أحصين ست مرات وفي ليلة السبت الخامس وعشرين من الشهر المذكور جاءت زلزلة أرتاع الناس منها في أول النهار وآخره ثم سكنت بقدرة محركها سبحانه وتعالى
وتواصلت الأخبار من ناحية حلب وحماة بانهدام مواضع كثيرة وانهدام برج من أبراج أفامية بهذه الزلازل الهائلة وذكر إن الذي أحصى عدده منها تقدير الأربعين على ما حكى والله تعالى أعلم. وما عرف مثل ذلك في السنين الماضية والأعصر الخالية وفي يوم الأربعاء التاسع وعشرين من الشهر بعينه شعبان وافت زلزلة تتلو ما تقدم ذكره آخر النهار وجاءت في الليل ثانيةً في آخره ثم وافى في يوم الاثنين أول شهر رمضان من السنة زلزلة مروعة للقلوب وعاودت ثانيةً وثالثةً ثم وافى بعد ذلك في يوم الثلاثاء ثالثةً ثلاث زلازل إحداهن في أوله هائلة والثانية والثالثة دون الأولى وأخرى في وقت الظهر مشاكلة لهن ووافى بعد ذلك اخرى هائلة أيقظت النيام وروعت القلوب انتصاف الليل فسبحان

(1/514)


القادر على ذلك ثم وافى بعد ذلك في الساعة التاسعة من ليلة الجمعة النصف من شهر رمضان من السنة زلزلة عظيمة هائلة أعظم مما سبق ولما كان عند الصباح من الليلة المذكورة وافت أخرى دونها وتلا ما تقدم في ليلة السبت أولها وجاءت أخرى آخرها ثم تلا ذلك في يوم الاثنين زلزلة هائلة وتلا ذلك في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان في الثلاث الأول منها زلزلة عظيمة مزعجة وفي غداة يوم الأحد ثاني شوال من السنة تالي ما تقدم ذكره وافت زلزلة أعظم مما تقدم روعت الناس وأزعجتهم وفي يوم الخميس سابع شوال المذكور وافت زلزلة هائلة في وقت صلاة الغداة وفي يوم الأحد الثالث عشر منه وافت زلزلة هائلة في وقت صلاة الغداة وفي يوم الاثنين تلوه وافت زلزلة أخرى مثلها ثم أخرى بعدها دونها ثم ثالثة ثم رابعة. وفي ليلة الأحد الثاني والعشرين من شوال وافت زلزلة عظيمة روعت النفوس ثم وافى عقيب ذاك ما أهمل ذكره لكثرته ودفع الله تعالى عن دمشق وضواحيها ما خاف أهلها من توالي ذلك وتتابعه برأفته بهم ورحمته لهم فله الحمد والشكر لكن وردت الأخبار من ناحية حلب بكثرة ذلك فيها وانهدام بعض مساكنها إلا شيزر فإن الكثير من مساكنها انهدم على سكانها بحيث قتل منهم العدد الكثير. وأما كفرطاب فهرب أهلها منها خوفاً على أرواحهم وأما حماة فكانت كذلك وأما باقي الأعمال الشامية فما عرف ما حدث فيها من هذه القدرة الباهرة وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 551 وصل المولى الملك نور الدين أعز الله نصره إلى بلده دمشق عائداً من ناحية حلب وأعمال الشام بعد تهذيبها وتفقد أحوالها سالماً في النفس والجملة بعد استقرار الموادعة بينه وبين ولد السلطان مسعود وصاحب قونية وزوال ما كان حدث بينهما

(1/515)


وفي شوال تقررت الموادعة والمهادنة بينه وبين ملك الافرنج مدة سنة كاملة أولها شعبان وإن المقاطعة المحمولة إليهم من دمشق ثمانية آلاف دينار صورية وكتبت المواصفة بذلك بعد تأكيدها بالأمان بالمواثيق المشددة. وكان المعروف بأبي سالم بن همام الحلبي قد ولي مشارفة الديوان بدمشق بعناية الأمير أسد الدين النائب عن الملك العادل نور الدين فظهر منه خيانات اعتمدها وتفريطات قصدها بجهله وسخافة عقله وتقصيره فأظهرها قوم من المتصرفين عند الكشف عنها والتحقيق لها فاقتضت الحال القبض عليه والاعتقال له إلى أن يقوم بما وجب عليه فلما كان في يوم الأحد السادس عشر من شوال سنة 551 خرج الأمر السامي النوري بالكشف عن سعاياته في فضول كان غنياً عنها فاقتضت الحال بأن يحلق لحيته ويركب حماراً مقلوباً وخلفه من يعلوه بالدرة وأن يطاف به في أسواق دمشق بعد سخام وجهه وينادى عليه هذا أجزاء كل خائن ونمام ثم أقام بعد ذلك في الاعتقال أياماً ثم أمر بنفيه إلى حلب بشفاعة من شفع فيه من مقدمي الدولة السعيدة فمضى على أقبح صفة من لعن الناس ونشر مخازيه وتعديد مساويه وفي شعبان من السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بارتفاع أسعار الغلة بها وقلة وجودها وشدة أضرارها بالضعفاء والمساكين وغيرهم وأمر المتولي لأمرها التناء والمحتكرين لها ببيع الزائد على أقواتهم على المقلين والمحتاجين ووكد الخطاب في ذلك وما زادت الحال إلا شدةً مع ما ذكر من توفية النيل في السنة
وفي شعبان وردت الأخبار من ناحية العراق بخلاص السلطان سنجر ابن السلطان العادل من ضيق الاعتقال المتطاول به بتدبير أعمل على الموكلين به ووعود وافية بحيث أجابوا إلى ذلك وعاد إلى مكانه من السلطنة

(1/516)


ووفى بما وعد المساعدين له على الخلاص وقويت شوكته واستقامت مملكته وفي شهر رمضان وردت الأخبار من ناحية الموصل بأن السلطان سليمان شاه بن السلطان محمد عزم على العبور في عسكره إلى أعمال الموصل فأنفذ إليه واليها ومدبرها الأمير زين الدين علي كوجك يقول له: إنك فعلت وأضررت بالأعمال وأذيت أهلها. وسأله فلم يقبل ونهض إليه في عسكره من الموصل ومن انضاف إليه وصافه فرزق النصر عليه وهزم عسكره أقبح هزيمة واستولى على سواده وعاد به إلى الموصل ظافراً منصوراً وفي العشر الأخير من ذي الحجة من السنة غدر الكفرة الافرنج ونقضوا ما كان استقر من الموادعة والمهادنة بحكم وصول عدة وافرة من الافرنج في البحر وقوة شوكتهم بهم ونهضوا إلى ناحية الشعراء المجاورة لبانياس وقد اجتمع فيها من جشارات خيول العسكرية والرعية وعوامل الفلاحين فلاحي الضياع ومواشي الجلابين والعرب الفلاحين الشيء الكثير الذي لا يحصى فيذكر للحاجة إلى الرعي بها والسكون إلى الهدنة المستقرة ووقع من المندوبين لحفظهم من الأتراك تقصير فانتهزوا الفرصة واستاقوا جميع ما وجدوه وأفقروا أهله منه مع ما أسروه من تركمان وغيرهم وعادوا ظافرين غانمين آثمين والله تعالى في حكمه يتولى المكافأة لهم والادالة منهم وما ذلك عليه بعزيز

(1/517)


ودخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة
أولها يوم الأربعاء مستهل المحرم والطالع برج الدلو اثنتين وعشرين درجةً وثماني عشرة دقيقة. قد تقدم شرح ما حدث من الزلازل إلى أواخر سنة 51 ما يغنى عن ذكره ولما كانت ليلة الأربعاء التاسع عشر من صفر سنة 552 وافت زلزلة عظيمة عند انبلاج الصباح فروعت وأزعجت ثم سكنها محركها بلطفه ورأفته بعباده ثم تلا ذلك اخرى دونها إلى ليلة الخميس تاليه بعد مضي ساعات منها ووافت بعدهما اخرى بعد صلاة الجمعة تاليه وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال بعظم تأثير هذه الزلازل الأول منها والآخر في مدينة شيزر وحماة وكفرطاب وأفامية وما والاها إلى مواضع من حلب والله تعالى ذكره وعز اسمه أعلم وأرحم لخلقه وفي العشر الأخير من صفر ورد كتاب السلطان غياث الدنيا والدين أبي الحرث سنجر ابن السلطان العادل أبي الفتح بن السلطان ألب ارسلان أعز الله نصره إلى الملك العادل نور الدين أدام الله أيامه بالتشوق إليه والاحماد بجلاله وما ينتهى إليه من جميع أفعاله وأعلامه وما من الله عليه به من خلاصه من الشدة التي وقع فيها والأسر الذي بلي به في أيدي الأعداء الكفرة من ملوك التركمان بحيلة دبرها وسياسة أحكمها وقررها بحيث عاد إلى منصبه من السلطنة المشهورة واجتماع العساكر المتفرقة عنه إليه واذعانها بطاعته وامتثالهم لأوامره وأمثلته واحسان وعده لكافة المسلمين بنصره على أحزاب الضلال من الافرنج الملاعين.
وتواصلت مع ذلك إلى نور الدين رسل أرباب الأعمال والمعاقل والولايات بالاستعداد للخفوف إلى أعداء الله الملاعين وغزو من بإزائه من

(1/518)


المشركين الأضداد المفسدين في البلاد والناكثين أيمانهم الموكدة في الموادعة والمهادنة. فعند ذلك أمر المولى نور الدين بزينة البلد المحروس سروراً بهذه الأحوال وفعل في ذلك ما لم تجر عادة فيما تقدم في أيام الولاة الخالية وأمر مع ذلك بزينة قلعته ودار مملكته بحيث حلى أسوارها بالآلات الحربية من الجواشن والدروع والتراس والسيوف والرماح والطوارق الافرنجية والقنطاريات والأعلام والمنجوقات والطبول والبوقات وأنواع الملاهي المختلفات وهرعت الأجناد والرعايا وغرباء البلاد من المسافرين لمشاهدة الحال فشاهدوا ما استحسن منه مدة سبعة أيام فالله تعالى يقرن ذلك بالتوفيق والاقبال وتحقيق الآمال في اهمال الكفرة أولي الأفك والضلال بمنه وفضله
وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول توجه المولى نور الدين أدام الله أيامه إلى ناحية بعلبك لتفقد أحوالها وتقرير أمر المستحفظين لها وتواصلت الأخبار إليه من ناحية حمص وحماة باغارة الافرنج الملاعين على تلك الأعمال واطلاقهم فيها أيدي العيث والفساد والله تعالى يحسن الادالة منهم وتعجل البوار عليهم والاهلاك لهم وفي يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول توجه زين الحجاج كثر الله سلامته إلى ناحية مصر رسولاً من المولى نور الدين لايصال ما صحبه من المطالعات إلى صاحب الأمر فيها وصحبته أيضاً الرسول الواصل منها وفي يوم الأحد الخامس عشر من شهر ربيع الأول ورد المبشر من المعسكر المنصور برأس المال بأن نصرة الدين أمير ميران لما انتهى إليه خبر الافرنج الملاعين بأنهم قد أنهضوا سريةً وافرة من العدد من أبطالهم الموفورة العدد إلى ناحية بانياس لتوليها وتقويتها بالسلاح والمال

(1/519)


فأسرع النهضة إليهم في العسكر المنصور وقد ذكر إن عدتهم سبعمائة فارس من أبطال الاسبتارية والسرجندية والداوية سوى الرجالة فأدركهم قبل الوصول إلى بانياس وقد خرج إليهم من كان فيها من حماتها فأوقع بهم وقد كان كمن لهم في مواضع كمناء من شجعان الأتراك وجالت الحرب بينهم واتفق اندفاع المسلمين بين أيديهم في أول المجال وظهر عليهم الكمناء فأنزل الله نصره على المسلمين وخذلانه على المشركين فتحكمت من رؤوسهم ورقابهم مرهفات السيوف بقوارع الحمام والحتوف وتمكنت من أجسادهم مشرعات الرماح وصوارم السهام بحيث لم ينج منهم إلا القليل ممن ثبطه الأجل وأطار قلبه الوجل وصاروا بأجمعهم بين قتيل وجريح ومسلوب وأسير وطريح وحصل في أيدي المسلمين من خيولهم وعدد سلاحهم وكراعهم وأموالهم وقراطيسهم وأسراءهم ورؤوس قتلاهم ما لا يحد كثرةً ومحقت السيوف عامة رجالتهم من الافرنج ومسلمي جبل عاملة المضافين إليهم وكان ذلك في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول ووصلت الأسرى والرؤوس من القتلى والعدد إلى البلد المحروس في يوم الاثنين تاليه وأطيف بهم البلد وقد اجتمع لمشاهدتهم الخلق الكثير والجم الغفير وكان يوماً مشهوداً مستحسناً سرت به قلوب المؤمنين وأحزاب المسلمين وكان ذلك من الله تعالى ذكره وجل اسمه مكافأةً على ما كان من بغي المشركين واقدامهم على نكث أيمان المهادنة مع المولى نور الدين أعز الله نصره ونقض عهود الموادعة وأغارتهم على الجشارات ومواشي الجلابين والفلاحين المضطرين إلى المرعى في الشعراء لسكونهم إلى الأمن بالمهادنة والاغترار بتأكيد الموادعة. وكان قد أنفذ إلى المولى نور الدين إلى بعلبك جماعة من أسرى المشركين فأمر بضرب أعناقهم صبراً ذلك لهم خزي في الحيوة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم " وَسَيعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ "

(1/520)


وتبع هذا الفتح المبين ورود البشرى الثانية من أسد الدين باجتماع العدد الكثير إليه من شجعان التركمان وإنه قد ظفر من المشركين بسرية وافرة ظهرت من معاقلهم من ناحية الشمال فانهزمت وتخطف التركمان منهم من ظفروا به ووصل أسد الدين إلى بعلبك في العسكر من مقدمي التركمان وأبطالهم للجهاد في أعداء الله المشركين وهم في العدد الكثير والجم الغفير واجتمع بالملك العادل نور الدين في يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة وتقررت الحال على قصد بلاد المشركين لتدويخها وإقامة فرض الغزو والجهاد لمن بها والابتداء بالنزول على بانياس والمضايقة لها والجهاد في افتتاحها والله يسهل ذلك بلطفه ويعجله بمعونته
ووصل نور الدين إلى البلد المحروس في يوم الخميس السابع والعشرين من شهر ربيع الأول لتقرير الأمر في إخراج آلات الحرب وتجهيزها إلى العسكر بحيث يقيم أياماً يسيرةً ويتوجه في الحال إلى ناحية العساكر المجتمعة من التركمان والعرب للجهاد في الكفرة الأضداد والله يسهل أسباب الادالة منهم ويعجل البوار والهلاك لهم إن شاء الله تعالى. وفي وقت وصوله شرع في انجاز ما وصل لأجله وأمر بتجهيز ما يحتاج إليه من المناجيق والسلاح إلى العسكر المنصور بالنداء في البلد المحروس في الغزاة والمجاهدين والأحداث المتطوعة من فتيان البلد والغرباء بالتأهب والاستعداد لمجاهدة الافرنج أولي الشرك والالحاد وبادر بالمسير في الحال إلى عسكره المنصور مغذاً غير متلوم ولا متربث في يوم السبت انسلاخ شهر ربيع الأول وتبعه بين الأحداث والمتطوعة والفقهاء والصوفية والمتدينين العدد الكثير الدثر المباهي في الوفور والكثرة فالله تعالى يقرن آراءه وعزماته بالنصر المشرق المنار والظفر باخراب المردة الكفار ويعجل لهم أسباب الهلاك والبوار بحيث لا تبقى لهم باقية ولا يرى لهم رائحة ولا غادية وما ذلك على الله تعالى القادر القاهر بعزيز

(1/521)


ولما كان يوم السبت السابع من شهر ربيع الآخر تالي اليوم المقدم ذكره عقيب نزول الملك العادل نور الدين على بانياس في عسكره المنصور ومضايقته لها بالمنجنيقات والحرب سقط الطائر من العسكر المنصور بظاهر بانياس يتضمن كتابه الاعلان بورود المبشر من معسكر أسد الدين بناحية هونين في التركمان والعرب بأن الافرنج خذلهم الله أنهضوا سريةً من أعيان مقدميهم وأبطالهم تزيد على مائة فارس سوى أتباعهم لكبس المذكورين ظناً منهم إنهم في قل ولم يعلموا إنهم في ألوف فلما دنوا منهم وثبوا إليهم كالليوث إلى فرائسها فأطبقوا عليهم بالقتل والأسر والسلب ولم يفلت منهم إلا اليسير ووصلت الأسرى ورؤوس القتلى وعددهم من الخيول المنتخبة والطوارق والقناريات إلى البلد في اليوم الاثنين تالي اليوم المذكور وطيف بهم فيه فسرت القلوب بمشاهدتهم وأكثروا الشكر لله على هذه النعمة المسهلة بعد الأولى المتكملة والله المأمول لتعجيل هلاكهم وبوارهم وما ذلك على الله بعزيز. وتتلو هذه الموهبة المجددة سقوط الطائر من المعسكر المحروس ببانياس في يوم الثلاثاء يتلو المذكور بذكر افتتاح مدينة بانياس السيف قهراً على مضي أربع ساعات من يوم الثلاثاء المذكور عند تناهي النقب واطلاق النار فيه وسقوط البرج المنقوب وهجوم الرجال فيه وبذل السيف في قتل من فيه ونهب ما حواه وانهزام من سلم إلى القلعة وانحصارهم بها وإن أخذهم بمنية الله تعالى لا يبطئ والله يسهله ويعجله واتفق بعد ذلك للأقضية المقدرة إن الافرنج تجمعوا من معاقلهم عازمين على استنقاذ الهنفري صاحب بانياس ومن معه من أصحابه الافرنج المحصورين بقلعة بانياس وقد أشرفوا على الهلاك وبالغوا في السؤال للأمان للمولى نور الدين ويسلمون ما في أيديهم من القلعة وما حوته لينجوا سالمين فلم يجبهم إلى ما سألوه ورغبوا فيه. فلما وصل ملك الافرنج في جمعه من الفارس والراجل من ناحية الجبل على حين غفلة من العسكرين

(1/522)


النازلين على بانياس لحصارها والنازل على الطريق لمنع الواصل إليها واقتضت السياسة الاندفاع عنها بحيث وصلوا إليها واستحصلوا من كان فيها فحين شاهدوا ما عم بانياس من خراب سورها ومنازل سكانها يئسوا من عمارتها بعد خرابها وذلك في أيام من العشر الأخير من شهر ربيع الآخر
وفي يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى سقطت الأطيار بالكتب من المعسكر المحروس النوري تتضمن الأعلام بأن الملك العادل نور الدين أعز الله نصره لما عرف إن معسكر الكفرة الافرنج على الملاحة بين طبرية وبانياس نهض في عسكره المنصور من الأتراك والعرب وجد في السير. فلما شارفهم وهم غازون وشاهدوا راياته قد أظلتهم بادروا بلبس السلاح والركوب وافترقوا أربع فرق وحملوا على المسلمين فعند ذلك ترجل الملك نور الدين وترجلت معه الأبطال وأرهقوهم بالسهام وخرصان الرماح فما كان إلا كلا ولا حتى تزلزلت بهم الأقدام ودهمهم البوار والحمام وأنزل الله العزيز القهار نصره على الأولياء الأبرار وخذلانه على المردة الكفار وتمكنا من فرسانهم قتلاً وأسراً واستأصلت السيوف الرجالة وهم العدد الكثير والجم الغفير ولم يفلت منهم على ما حكاه الخبير الصادق غير عشرة نفر ممن ثبطه الأجل وأطار قلبه الوجل، وقيل إن ملكهم لعنهم الله فيهم وقيل إنه في جملة القتلى ولم يعرف له خبر والطلب مجد له والله المعين على الأظفار به ولم يفقد من عسكر الاسلام سوى رجلين أحدهما من الأبطال المذكورين قتل أربعة من شجعان الكفرة وقتل عند حضور أجله وانتهاء مهله والآخر غريب لا يعرف فكل منهما مضى شهيداً مثاباً مأجوراً رحمهما الله. وامتلأت أيدي العسكرية من خيولهم وعددهم وكراعهم وأثاث سوادهم الشيء الذي لا يحصى كثرةً وحصلت كنيستهم في يد الملك نور الدين بآلاتها المشهورة وكان فتحاً من الله القادر

(1/523)


الناصر عزيزاً ونصراً مبيناً أعز الله بهما الاسلام وأهله وأذل الشرك وحزبه ووصلت الأسرى ورؤوس القتلى إلى دمشق في يوم الأحد تالي يوم الفتح وقد رتبوا على كل جمل فارسين من أبطالهم ومعهما راية من راياتهم منشورة وفيها من جلود رؤوسهم بشعرها عدة والمقدمون منهم وولاة المعاقل والأعمال كل واحد منهم على فرس وعليه الزردية والخوذة وفي يده راية والرجالة من السرجندية والدركيولية كل ثلاثة وأربعة وأقل وأكثر في حبل وخرج من أهل البلد الخلق الذي لا يحصى لهم عدد من الشيوخ والشبان والنسوان والصبيان لمشاهدة ما منح الله تعالى ذكره كافة المسلمين من هذا النصر المشرق الأعلام وأكثروا من التسبيح ومواصلة التقديس لله تعالى مولى النصر لأوليائه ومديلهم من أعدائه وواصلوا الدعاء الخالص للملك العادل نور الدين المحامي عنهم والمرامي دونهم والثناء على مكارمه والوصف لمحاسنه ونظم في ذلك أبيات في هذا المعنى وهي:
مثل يوم الفرنج حين عليتهم ... ذلّة الأسر والبلا والشقاء
وبراياتهم على العيس زفوا ... بين ذلٍّ وحسرةٍ وعناء
بعد عزٍّ لهم وهيبة ذكرٍ ... في مصافّ الحروب والهيجاء
هكذا هكذا هلاك الأعادي ... عند شن الاغارة الشعواء
شؤم أخذ الجشار وكان وبالاً ... عمّهم في صباحهم والمساء
نقضوا هدنة الصلاح بجهلٍ ... بعد تأكيدها بحسن الوفاء
فلقوا بغيهم بما كان فيه ... من فساد يجلّهم واعتداء
لا حمى الله شملهم من شتاتٍ ... بمواضٍ تفوق حدّ المضاء
فجزاء الكفور قتلٌ وأسر ... وجزاء الشكور خير الجزاء
فلربّ العباد حمدٌ وشكرٌ ... دائمٌ مع تواصل النعماء

(1/524)


وشرع في قصد أعمالهم لتملكها وتدويخها والله المعين والموفق لذلك بمنه ولطفه ومشيئته. وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الأولى وافت زلزلة عظيمة بعد مضي ثلاث ساعات منه اهتزت لها الأرض هزات ثم وافت بعدها ثانية قرنت بعد مضي ست ساعات من اليوم ثم بعد مضي ثماني ساعات من هذا اليوم المذكور وافت ثالثة أشد من الأوليين وأزعج فسبحان محركهن بقدرته ومسكنهن بحكمته تعالى علواً كبيراً
وفي آخر هذا اليوم وافت زلزلة رابعة لما تقدم بين العشائين من ليلته مروعة هائلة أزعجت وأقلقت وضج الناس بالتهليل والتسبيح والتقديس. وفي ليلة الأحد الرابع من جمادى الآخرة من السنة آخرها عند صلاة الغداة وافت زلزلة هائلة وجاء بعدها اخرى دونها وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال بأن هذه الزلازل أثرت في حلب تأثيراً أزعج أهلها وأقلقهم وكذلك في حمص وهدمت مواضع فيها وفي حماة وكفرطاب وأفامية وهدمت فيها ما كان من هدم ما بني من المهدوم بالزلازل الأول وحكي عن تيماء إن هذه الزلازل أثرت في مساكنها تأثيراً مهولاً وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة تواصلت الأخبار بوصول ولد السلطان مسعود في خلق كثير للنزول على انطاكية وأوجبت الصورة تقرير المهادنة بين الملك العادل نور الدين وملك الافرنج وتكررت المراسلات بينهما والاقتراحات والمشاجرات بحيث فسد الأمر ولم يسفر على ما يؤثر من الصلاح ومرضي الاقتراح المقرون بالنجاح ووصل الملك العادل نور الدين أعز الله نصره إلى مقر عزه في بعض عسكره في يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من السنة وأقر بقية عسكره ومقدميه مع العرب بإزاء أعمال المشركين خذلهم الله وكانت الأخبار تناصرت من بغداد بإظهار أمير المؤمنين المقتفى لأمر

(1/525)


الله أعز الله نصره على عسكر السلطان محمد شاه المخالف لأمره ومن انضم إليه من عسكر الموصل وغره بحيث قتل منهم العدد الكثير والجم الغفير ورحلوا عن بغداد مفرقين مفلولين خاسرين بعد المضايقة والتناهي في المحاصرة والمصابرة وفي يوم الأحد الثالث من رجب توجه الملك العادل نور الدين إلى ناحية حلب وأعمالها لتجريد مشاهدتها والنظر في حمايتها بحيث عبث المشركون فيها وقرب عساكر الملك ابن مسعود منها والله الموفق له فيما يراه ويقصده ويتوخاه وفي الساعة التاسعة من يوم الاثنين الرابع من رجب سنة 52 وافت زلزلة عظيمة في دمشق لم ير مثلها فيما تقدم ودامت وجفاتها حتى خاف الناس على أنفسهم ومنازلهم وهربوا من الدور والحوانيت والسقايف وانزعجوا وأثرت في مواضع كثيرة ورمت من فص الجامع الشيء الكثير الذي يعجز عن إعادة مثله ثم وافت عقيبها زلزلة في الحال ثم سكنتا بقدرة من حركها وسكنت نفوس الناس من الروعة والخوف برحمة خالقهم ورازقهم لا الله إلا هو الرؤوف الرحيم. ثم تبع ذلك في أول ليلة اليوم المذكور زلزلة وفي وسطه زلزلة وفي آخره زلزلة أخف من الأولى والله تبارك وتعالى لطيف بعباده وبلاده وله الحمد والشكر رب العالمين. وتلا ذلك في يوم الجمعة الثامن من رجب زلزلة مهولة أزعجت الناس وتلاها في النصف منها ثانية وعند انبلاج الصبح ثالثة وكذلك في ليلة السبت وليلة الأحد وليلة الاثنين وتتابعت بعد ذلك بما يطول به الشرح ووردت الأخبار من ناحية الشمال بما يسوء سماعه ويرعب النفوس

(1/526)


ذكره بحيث انهدمت حماة وقلعتها وسائر دورها ومنازلها على أهلها من الشيوخ والشبان والأطفال والنسوان وهم العدد الكثير والجم الغفير بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسير. وأما شيزر فإن ربضها سلم إلا ما كان خرب أولاً وأما حصنها المشهور فإنه انهدم على واليها تاج الدولة بن أبي العساكر بن منقذ رحمه الله ومن تبعه إلا اليسير ممن كان خارجاً وأما حمص فإن أهلها كانوا قد أجفلوا منها إلى ظاهرها وسلموا وتلفت مساكنهم وتلفت قلعتها وأما حلب فهدمت بعض دورها وخرج أهلها وأما ما بعد عنها من الحصون والمعاقل إلى جبلة وجبيل فأثرت فيها الآثار المستبشعة وأتلفت سلمية وما اتصلت بها إلى ناحية الرحبة وما جاورها ولو لم تدرك العباد والبلاد رحمة الله تعالى ولطفه ورحمته ورأفته لكان الخطب الخطير والأمر الفطيع المزعج بحيث نظم في ذلك من قال:
روّعتنا زلازل حادثاتٌ ... بقضاء قضاه ربّ السماء
هدمت حصن شيزر وحماةً ... أهلكت أهلها بسوء القضاء
وبلاداً كثيرةً وحصوناً ... وثغوراً موثّقات البناء
وإذا ما رنت عيونٌ إليها ... أجرت الدمع عندها بالدماء
وإذا ما قضى من الله أمرٌ ... سابق في عباده بالمضاء
حار قلب اللبيب فيه ومن كا ... ن له فطنة وحسن ذكاء
وتراه مسبّحاً باكي العين م ... مروعا من سخطة وبلاء
جلّ ربي في ملكه وتعالى ... عن مقال الجهال والسفهاء
وأما هل دمشق فلما وافتهم الزلزلة من هولها وأجفلوا من منازلهم والمسقف إلى الجامع والأماكن الخالية من البنيان خوفاً على نفوسهم ووافت بعد ذلك اخرى وفتح باب البلد وخرج الناس إلى ظاهره والبساتين

(1/527)


والصحراء وأقاموا عدة ليال وأيام على الخوف والجزع يسبحون ويهللون ويرغبون إلى خالقهم ورازقهم في العفو عنهم واللطف بهم والله تعالى والي الاجابة وقبول الرغبة والانابة ووردت الأخبار مع ذلك من ناحية العراق في أوائل رجب سنة 552 بوفاة سلطان غياث الدنيا والدين أبي الحرث سنجر ابن السلطان العادل أبي الفتح ابن السلطان البارسلان وهو سلطان خراسان عقيب خلاصه من الشدة التي وقع فيها والأسر الذي حصل فيه وكان يحب العدل والانصاف للرعايا حسن الفعل جميل السيرة وقد علت سنه وطال عمره وتولاه الله برحمته وسابغ مغفرته بفضله ورأفته وفي شهر رمضان من السنة ورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الشيخ الأمير مخلص الدين أبي البركات عبد القاهر بن علي بن أبي جرادة الحلبي رحمه الله في العشر الثاني منه بعرض عرض له وهو الأمين على خزائن مال الملك العادل نور الدين سلطان الشام فراعني فقده والمصاب بمثله لأنه كان خيراً كاتباً بليغاً حسن البلاغة نظماً ونثراً مستحسن الفنون من التذهيب البديع وحسن الخط المحرر على الأصول القديمة المستطرفة مع صفاء الذهن وتوقد الفطنة والذكاء وكان بيني وبينه مودة محصدة الأسباب في أيام الصباء وبعدها بحكم تردده من حلب إلى دمشق وأوجبت هذه الحال تفجعي به وتأسفي على مثله نظم هذه الأبيات أرثيه بها وأصف محاسنه فيها وهي:
فجعت بخلٍّ كان يونس وحشتي ... تذكره في غيبةٍ وحضور
فتى كان ذا فضلٍ يصول بفضله ... وليس له من مشبهٍ ونظير
وقد كان ذا فضلٍ وحسن بلاغةٍ ... ونظم كدرٍّ في قلائد حور

(1/528)


يفوق بحسن اللفظ كل فصاحةٍ ... وخطٍّ بديع في الطروس منير
وقد كنت ذا شوق إليه إذا نأى ... فقد صرت ذا حزن بغير سرور
سأشكوا زماناً روّعتني صروفه ... بفقدي من أهوى بغير مجير
وما نافعي شكوى الزمان وقد غدا ... على كل ملكٍ في الزمان خطير
وأجناده بالمرهفات تحوطه ... وكل شجاع فاتكٍ ونصير
سقى الله قبراً ضمّه بمجلجل ... بكل أصيل حادث وبكور
ليصبح كالروض الأنيق إذا بدا ... بزهر يروق الناظرين نضير
برحمة من يرجى لرحمة مثله ... وغفران ربٍّ للعباد غفور
وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر رمضان من السنة وافت في دمشق زلزلة روعت الناس وأزعجتهم لما قد وقع في نفوسهم مما قد جرى على بلاد الشام من تتابع الزلازل فيها وهدم ما هدمت منها. ووافت الأخبار من ناحية حلب بأن هذه الزلزلة المذكورة جاءت في حلب هائلة قلقلت من دورها وجدرانها العدد الكثير وأجفل منها أهلها إلى ظاهرها خوفاً على نفوسهم. وإنها كانت بحماة أعظم ما كانت في غيرها وإنها هدمت ما كان عمر فيها من بيوت يلتجأ إليها وإنها دامت فيها أياماً كثيرةً في كل يوم عدة وافرة من الرجفات الهائلة وتتبعها صيحات مختلفات توفي على أصوات الرعود القاصفة المزعجة فسبحان من له الحكم والأمر ومنه تؤمل الرحمة واللطف وهو على كل شيء قدير. وتلا بعد ذلك رجفات متوالية أخف من غيرهن فلما كان في ليلة السبت العاشر من شوال وافت زلزلة هائلة بعد صلاة العشاء الآخرة أزعجت وأقلقت وتلاها في أثرها هزة خفية ثم سكنهما محركهما بقدرته ورأفته بأهل دمشق ورحمته فله الحمد والشكر رب العالمين
وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من شوال من السنة ورد الخبر من ناحية بصرى باستشهاد واليها فخر الدين سرخاك غيلةً في مقره من حصنها بتدبير

(1/529)


تقرر بين الأمير علي بن جولة زوج ابنته ومن وافقه من أعيان خاصته وأماثل بطانته وكان فيه افراط من التحرز واستعمال التيقظ ولكن القضاء لا يغالب ولا يدافع والمحتوم النافذ لا يمانع وفي أول ليلة الأحد العشرين من شوال من السنة توفي الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن سلامة بمرض عرض له وقد علت سنه وبلغ سبعاً وتسعين سنة المعروف بابن الحراسى وكان شيخاً ظريفاً حسن الهيئة نظيف اللبسة أديباً فاضلاً حسن المحاضرة عند المثابتة والمذاكرة وكان أكثر زمانه مقيماً بشيزر بين آل منقذ مكرماً محترماً رحمه الله وفي ليلة السبت العاشر من ذي القعدة من السنة وافت أولها زلزلة رجفت لها الأرض ووجلت لها القلوب وتبعها عدة أخف من الأولى. وفي غد هذا اليوم بعد مضي تقدير ساعتين منه وافت زلزلة وأخرى في أثرها وسكنهن المحرم لهن بقدرته وحكمته وسلم منهن برحمته ورأفته سبحانه وتعالى الرؤوف الرحيم وكان الغيث قد احتبس وسميه عن العادة المعروفة واحتاج ما بذر من الغلال إلى سقيه وضاقت الصدور لذلك وقنطت النفوس ثم بعث الله برحمته لخلقه في أول ذي القعدة منه ما روى الوهاد والآكام وعم حوران وسائر البقاع وسرت بذلك النفوس وانحط سعر الغلة بعد ارتفاعه فلله الحمد على انعامه على عبيده وله الشكر وفي ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ذي القعدة التالي لما تقدم بعد مضي ساعة منها وافت زلزلة روعت القلوب وهزت المنازل والمساكن ثم سكنها محركها بقدرته القاهرة ورحمته الواسعة فله الحمد والشكر رب العالمين

(1/530)


وفي ليلة الأحد الخامس والعشرين من الشهر المذكور التالي يوم الجمعة المقدم ذكره وافت في أوائلها زلزلة أزعجت وأقلقت ثم تلاها ثانية عند انتصافها أعظم منها نفر الناس من هولها إلى الجامع والأماكن المكتشفة وضجوا بالتكبير والتهليل والتسبيح والدعاء إلى الله تعالى والتضرع إليه ثم وافى بعد تلك الثانية ثالثة دونها عند تصرم الليل ثم وافى بعد الثالثة رابعة دونها ثم خامسة وسادسة ثم سكنت بقدرة محركها ولم تؤثر أثراً منكراً في البلد فلله الحمد تعالى أمره وعظم شأنه وفي أوائل ذي القعدة من هذه السنة ورد الخبر من حمص بوفاة واليها الأمير الملقب بصلاح الدين وكان في أيام شبوبيته قد حظي في خدمة عماد الدين أتابك زنكي صاحب حلب والشام رحمه الله وتقدم عنده بالمناصحة وسداد التدبير وحسن السفارة وصواب الرأي ولما علت سنه ضعفت قوته وآلته عن السعي إلا في ركوب الخيل والجأته الضرورة إلى الحمل في المحفة لتقرير الأحوال والنظر في الأعمال ولم ينقص من حسه وفهمه ما ينكر عليه إلى حين وفاته وخلفه من بعده أولاده في منصبه وولايته وفي يوم الجمعة انسلاخ ذي القعدة من السنة بعد مضي تقدير ساعتين منه وافت زلزلة رجفت بها الأرض وانزعج الناس لها ثم سكنت بقدرة المحرك لها وحكمته البالغة فله الحمد على لطفه بعباده تبارك الله رب العالمين
وفي أيام من شوال سنة 552 ورد إلى دمشق أمير من أئمة فقهاء بلخ في عنفوان شبابه وغضارة عوده ما رأيت أفصح من لسانه ببلاغته العربية والفارسية ولا أسرع من جوابه ببراعته ولا أطيش من قلمه في كتابته فقلت ما ينبغي أن يهمل إثبات اسم هذا الأمير الامام في هذا التاريخ المصنف لأنني ما رأيت مثله ولا شاهدت شبيهاً له فالتمست

(1/531)


نعوته التي بها يعرف واليه تنسب فأنفذ إلي كتاباً قد كتب عن السلطان غياث الدنيا والدين أبي شجاع محمود بن محمد بن ممدود قسيم أمير المؤمنين في الطغراء وكتاب وزيره محمود بن سعد بن عبد الواحد مخلص أمير المؤمنين إلى الملك العادل نور الدين ملك الشام وكلاهما ينطق بحسن صفاته واحترامه والوصية المؤكدة باكرامه ووصفه بنعوته المكملة وهي: الأمير الامام الأجل العالم المحترم الأخص الحميد الأعز نظام الدين عماد الاسلام تاج الملوك والسلاطين ملك الكلام بستان العالم أفصح العرب والعجم أعجوبة الدهر كريم الأطراف فخر الأسلاف افتخار ما وراء النهر تاج العراق سراج الحرمين مقتدى الأئمة مرتضي الخلافة رئيس الأصحاب شرقاً وغرباً مهذب الأئمة والأفاضل ذو المناقب والفضائل نادر الزمان نسيب خراسان أبو الحياة محمد بن أبي القسم بن عمر البلخي ووعظ في جامع دمشق عدة أيام والناس يستحسنون وعظه ويستطرفون فنه وسلاطة لسانه وسرعة جوابه وحدة خاطره وصفاء حسه ونظمت في صفاته هذه الأبيات:
نظام الدين أفضل من رأينا ... من العلماء في عربٍ وعجم
وأنهى منهم لفظاً وخطّاً ... بحسن بلاغةٍ وصفاء فهم
يفوق فصاحةً قسّاً ويوفي ... عليه عند منثورٍ ونظمٍ
إذا رام البديع من المعاني ... أتاه مسرعاً كالغيث يحمي
فليس له مجارٍ في فنون ... حوى احساناً من كل علم
إذا وعظ الامام سمعت وعظاً ... يحط العصم من قال الأشم
ويحرق حسن منطقه إذا ما ... تكرّر حسنه سمع الأصم
له الشرف الرفيع إذا تناهت ... مفاخرة الشراف بكل قرم
وما ألفيت من يحظى بمدحٍ ... سواه إذ مضى في المدح عزمي

(1/532)


وما سمحت لغير علاه نفسي ... على ضني به عن كل فدم
فلا زالت مطايا المدح تسري ... إليه وقد خلا من كل ذمّ
مدى الأيام ما هتفت هتوفٌ ... على غصنٍ بغضّ النور ينمي
قد تقدم من ذكر الملك العادل نور الدين في نهوضه من دمشق في عساكره إلى بلاد الشام عند انتهاء الخبر إليه بتجمع أحزاب الافرنج خذلهم الله وقصدهم لها وطمعهم فيها بحكم ما حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة بها وما هدمت من الحصون والقلاع والمنازل في أعمالها وثغورها لحمايتها والذب عنها وإيناس من سلم من أهل حمص وشيزر وكفرطاب وحماة وغيرها بحيث اجتمع إليه الخلق الكثير والجم الغفير من رجال المعاقل والأعمال والتركمان وخيم بهم بإزاء جمع الافرنج في الأعداد الدثرة والتناهي في الكثرة بالقرب من انطاكية وحصرهم بحيث لم يقدر فارس منهم على الاقدام على الافساد فلما مضت أيام من شهر رمضان سنة 552 عرض للملك العادل نور الدين ابتداء مرض حاد فلما اشتد به وخاف منه على نفسه استدعى أخاه نصرة الدين أمير ميران وأسد الدين شيركوه وأعيان الأمراء والمقدمين وأوصى إليهم ما اقتضاه رأيه واستصوبه وقرر معهم كون أخيه نصرة الدين القائم في منصبه من بعده والساد لثلمة فقده واشتهاره بالشهامة وشدة البأس ويكون مقيماً بحلب ويكون أسد الدين في دمشق في نيابة نصرة الدين واستحلف الجماعة على هذه القاعدة. فلما تقررت هذه القاعدة اشتد به المرض فتوجه في المحفة إلى حلب وحصل في قلعتها وتوجه أسد الدين إلى دمشق لحفظ أعمالها من

(1/533)


فساد الافرنج وقصد أعمال الملاعين في أواخر شوال من السنة وتواصلت عقيب هذه الحال الأراجيف بالملك نور الدين فقلقت النفوس وانزعجت القلوب فتفرقت جموع المسلمين واضطربت الأعمال وطمع الافرنج فقصدوا مدينة شيزر وهجموها وحصلوا فيها فقتلوا وأسروا وانتهبوا وتجمع من عدة جهات خلق كثير من رجال الإسماعيلية وغيرهم فاستظهروا عليهم وقتلوا منهم وأخرجوهم من شيزر
واتفق وصول نصرة الدين إلى حلب فأغلق والي القلعة مجد الدين في وجهه الأبواب وعصى عليه فثارت أحداث حلب وقالوا: هذا صاحبنا وملكنا بعد أخيه. وزحفوا في السلاح إلى باب البلد فكسروا إغلاقه ودخل نصرة الدين في أصحابه وحصل في البلد وقامت الأحداث على والي القلعة باللوم والانكار والوعيد واقترحوا على نصرة الدين اقتراحات من جملتها إعادة رسومهم في التأذن بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر فأجابهم إلى ما رغبوا فيه وأحسن القول لهم والوعد ونزل في داره. وأنفذ والي القلعة إلى نصرة الدين والحلبيين يقول: مولانا الملك العادل نور الدين حي في نفسه مقيم في مرضه. وما كان إلى ما فعل حاجة تدعو إلى ما كان فقيل الذنب في ذاك إلى الوالي وكتم الحال وصعد إلى القلعة من شاهد نور الدين حياً يفهم ما يقول وما يقال له فأنكر ما جرى وقال: الآن أنا أصفح للأحداث عن هذا الخطل ولا أواخذهم بالزلل وما طلبوا إلا صلاح حال أخي وولي عهدي من بعدي وشاعت الأخبار وانتشرت البشارات في الأقطار بعافية الملك نور الدين فأنست القلوب بعد الاستيحاش وابتهجت النفوس بعد القلق والانزعاج وتزايدت العافية وصرفت الهمم إلى مكاتبات المقدمين بالعود إلى جهاد الملاعين وكان نصرة الدين قد ولي مدينة حران وأضيف إليها وتوجه نحوها. وكان الغيث قد أمسك عن أعمال حوران وعزم أهلها على

(1/534)


النزوح من ضياعها لعدم ماء شربهم وبعده عنهم وكذلك سائر الأعمال فلطف الله تعالى بعباده وبلاده فأرسل عليهم في العشاء الآخر من كانون الثاني من السنة الشمسية الموافق للعشر الآخر من ذي الحجة من السنة القمرية سنة 552 من الغيث الهطال المتدارك والثلج المتتابع ما روى الوهاد والآكام وجرت به أودية حوران ودارت أرحيتها وانتعشت زروعها وأنبتت بالغيث سباخها فلله تعالى الحمد على هذه النعمة التي لا يحصى لها عدد ولا يحصر لها أمد ولما تناصرت الأخبار بالبشائر إلى أسد الدين بدمشق بعافية الملك العادل نور الدين واعتزامه على استدعاء عساكر الاسلام لجهاد أعداء الله والمقيمين بالشام سارع بالنهوض من دمشق إلى ناحية حلب ووصل إليها في خيله واجتمع مع الملك العادل نور الدين فأكرم لقياه وشكر مسعاه وشرعوا في حماية الأعمال من شر عصب الكفر والضلال بما يعود بصلاح الأحوال والله المسهل لنيل المباغي والآمال بمنه وفضله. ونظمت هذه الأبيات في هذا المعنى:
لقد حسنت صفاتك يا زماني ... وفزت بما رجوت من الأماني
فكم أصبحت مرعوباً مخوفاً ... فبدّلت المخافة بالأمان
فكم من وحشةٍ وافت وزالت ... وهدّمت الرفيع من المباني
وجاءتنا أراجيفٌ بملكٍ ... عظيم الشأن مسعود الزمان
فروّعت القلوب من البرايا ... وصار شجاعها مثل الجبان
وثارت فتنةً تخشى أذاها ... على الاسلام في قاصٍ ودان
ووافى بعد ذاك بشير صدقٍ ... بعافية المليك مع التهاني
فوّلى الخوف مهدوم المباني ... وعاد الأمن معمور المغاني

(1/535)