تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء
وزارة أبي الحسن
الثانية
لما قبض عليه في اليوم المقدم ذكره من سنة تسع وتسعين ومائتين اعتقل في
بعض الحجر من دار الخلافة، ولم يزل معروف الخبر إلى جمادي الآخرة سنة
ثلاثمائة، فإنه نقل إلى بعض المواضع المستورة، وخفي أمره على الناس
عامة حتى رجمت الظنون فيه. ثم أُخرج تابوت فيه هارون الشاري وقد مات
على أنه تابوته، فزال الشك في موته، وصلى عليه أبو الحسن علي بن عيسى،
وظهر بعد ذلك بقاؤه وحياته. وكان أبو بشر عبد الله بن فرجويه قد سلم من
النكبة عند القبض على ابن الفرات في الوزارة الأولى، وقام على الاستتار
مدة وزارة أبي علي الخاقاني ووزارة أبي الحسن علي بن عيسى. وواصل
مكاتبة أبي الحسن بن الفرات في محبسه على يد سومنة الطبيب وتعريفه
الأمور، وترددت جواباته إليه بما رسمه له من مكاتبة المقتدر بالله عن
نفسه بالطعن على أبي الحسن علي بن عيسى ووقوف الأمر على يده،
(1/35)
وتأخر أرزاق الجند والحواشي في نظره. وكانت
رقاعه تصل إلى المقتدر بالله فيقف عليها ابن الفرات فيقرر عنده صحة ما
يذكره ويورده، ويهم المقتدر بصرف علي بن عيسى، فإذا شاور مؤنساً فيه
منعه منه، ووصفه بالأمانة والكفاية عنده، إلى أن أُخرج مؤنس إلى مصر
لمحاربة العلوي، فقام غريب الخال ونصر الحاجب بأمر ابن الفرات قياماً
تم على علي بن عيسى الصرف معه. ثم كتب ابن فرجويه رقعة يقول فيها: متى
صرف علي بن عيسى ورد ابن الفرات أطلق للولد والحرم والخدم ومن بالحضرة
من الفرسان برسم التفاريق مثل ما كان يطلقه في وزارته الأولى تماماً
وإدرارا، وحمل إلى المقتدر بالله في كل يوم ألف دينار وإلى السيدة
والأمراء خمسمائة دينار. والتمس وقوف ابن الفرات على رقعته وتعرف ما
عنده على ما بذله عنه، فعرضها المقتدر بالله عليه فالتزم القيام بذلك
والوفاء بجميعه وكتب له خطه واستقر أمره. وأُطلق في اليوم الذي قبض فيه
على علي بن عيسى، ووصل إلى المقتدر بالله وخاطبه بالجميل، وقلده النظر
في الأمور، وخلع عليه خلع الوزارة، وركب ومعه أبو القاسم غريب الخال
وبين يديه الحجاب والقواد والغلمان، ونزل في دار سليمان بن وهب وحضره
الناس على طبقاتهم للسلام والتهنئة.
وحمل إليه المقتدر مالاً وثياباً وطيباً وطعاماً وأشربة وثلجاً وكذاك
السيدة. وأقام في هذه الدار ثم نقل الدواوين إليها، وكتب إلى الأمراء
والعمال بخبره وإقرارهم على أعمالهم. ورد المقتدر بالله ما كان قبض عنه
وعن أهله وكتابة وأسبابه من الضياع والأملاك، فارتجع ما كان حصل في
أيدي الناس القواد
(1/36)
وخواص المقتدر من ذاك، ووقع بأن يوغر حق
بيت المال في جميعه بألف درهم في كل سنة على استقبال سنة أربع
وثلثمائة، ووفر جاري الوزارة ولم يأخذه، وتقدم برد جاري أصحاب الدواوين
وكتابهم وكتابه إلى ما كان عليه في أيامه الأولى فأضعف ذاك، وصار جاري
صاحب ديوان السواد وكتابه مع ثمن الكاغد والقراطيس نحو سبعة آلاف دينار
في كل شهر. وأقطع زيدان التي كانت موكلة به ضياعاً بنواحي كسكر
ومستغلات بالبصرة لها ارتفاع وافر، ووقع لجماعة من أصحاب السلطان
بتسويغات وإقطاع وحمالات، وبسط يده في كل ما فعله من ذلك، وأدر المقتدر
بالله ما كان وعده به، وللأمراء والسيدة من ألف وخمسمائة دينار منسوبة
إلى رسم الخريطة، ونصب ديواباً للمرافق واستوفاها فيه من العمال
والمتصرفين كما تستوفى الحقوق، وتتبع ما بقي من ودائعه السالمة في
نكبته، فارتجع منها خمسمائة ألف دينار.
وقدم عبد الله بن فرجويه وعول عليه، وتوفر على أبي محمد بن علي ابن
مقلة، وأدخله في أموره وأسراره، وقلده أعمالاً كثيرة، فكانت مدة أبي
الحسن بن الفرات في اعتقال المقتدر بالله خمس سنين وأربعة أيام.
وكان عبد الله بن جبير عند مقامه بواسط في أيام علي بن عيسى قد عرف قدر
ارتفاعها وما يتحصل لحامد بن العباس من الفضل في ضمانها، فلما عاد إلى
بغداد وقد وزر ابن الفرات عظم ذلك عنده.
وكان حامد لما انقضت مدة الضمان الذي عقده الخاقاني عليه أخر عن علي
(1/37)
ابن عيسى الوظيفة التي كان يحملها في كل
شهر، وطالب بتجديد الضمان. وكاتب علي بن عيسى بأنه محمول على ما كان
تقرر معه ومجرىً في الشراط عليه، وله على ما في وثيقته، ولم يثبت
الكتاب في الدواوين، لكن حامداً ركن إليه وعول عليه. واستأذن عبد الله
بن جبير ابن الفرات في مكاتبة حامد بما أخرج عليه، فأذن له، وكاتبه
مكاتبة أجاب عنها بالاحتجاج لنفسه، وتردد من القول ما بسط ابن جبير معه
لسانه فيه. وبلغه فظن أنه عن مواطأة من ابن الفرات له عليه، وشرع فيما
يدفع به التأول عنه. وكان قسيم الجوهري يشرف للسيدة أم المقتدر بالله
على ضياعها بواسط، ويكثر هناك المقام، ويحضر عند حامد فيبسطه ويتوفر
عليه، فوافقه على السفارة له في الوزارة، وأصعد قسيم وخاطب نصراً
الحاجب في ذلك وأطعمه في حامد، وملأ يده منه، وعرفه سعة صدره وسخاء
نفسه، وضمن له عنه تصحيح المال الكثير من ابن الفرات وأسبابه، وراسل
السيدة أيضاً. ووافق هذا القول والسعي سوء رأي نصر الحاجب في ابن
الفرات، وخوفه منه وكثرة الوقيعة فيه، وقول الناس إنه قلد ولده
الدواوين، وأقاربه الأعمال وأخذ من ودائعه القديمة التي الجملة اتسعت
الأقوال فيها وكتبه إلى العمال بحمل المرافق إلى هارون بن عمران،
وإفراده إياه بذلك وبقبض أموال المصالحين والمصادرين وعدله بها عن بيت
المال. وأن المقتدر بالله طلب من ابن الفرات مالاً لبعض مهمه فمنعه منه
(1/38)
واعتل عليه فيه، فتم بذلك أمر حامد، وروسل بالاصعاد إلى الحضرة، وأن
يكتب على عدة أطيار بخروجه في يومه ليقبض على ابن الفرات عند المعرفة
بتوجهه، فأصعد، وكتب بخبره، وعرض الكتاب أبو القاسم بن الحواري على
المقتدر بالله، فلما وقف عليه أنفذ نصراً الحاجب وشفيعاً المقتدري إلى
دار أبي الحسن ابن الفرات حتى قبضا عليه في وقت العصر من يوم الخميس
لثلاث بقين من جمادي الأولى سنة ست وثلثمائة، وعلى المحسن ابنه وموسى
بن خلف وعبد الله بن فرجويه وعيسى بن جبير وسعيد بن إبراهيم التستري
ودولة أم ولد أبي الحسن بن الفرات والحسن ابنها منه، وحملا الجماعة إلى
دار الخلافة، واعتقل أبو الحسن وحده عند زيدان والباقون عند نصر
الحاجب، وختم أبو نصر بشر بن علي خليفة حامد ببغداد على جميع الدواوين.
وإنما قبض على ابن الفرات في داره لأن الارجاف قوي بصرفه قوةً استوحش
منها كتابه وأصحابه وكان إذا ركب إلى دار السلطان تفرقوا واستتروا،
وإذا عاد إلى داره ظهروا وحضروا وركب في أول النهار وهم على الجملة من
الخوف والإشفاق، وعاد فعادوا على السكون إلى ذلك. وكانت مدة نظره في
هذه الدفعة سنةً وخمسة أشهر وتسعة عشر يوماً. |