تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء
ثم وزر الوزارة
الثالثة
وأُخرج من حبسه عند زيدان القهرمانة يوم الخميس لتسع بقين من شهر ربيع
الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة، وخلع عليه وعلى أبي أحمد المحسن ابنه،
وقد كان
(1/39)
أُفرج عن المحسن من قبل وأقام في منزله،
وركبا إلى داريهما بسوق العطش وجلسا للتهنئة، وظهر أولادهما وكتابهما
وحواشيهما وأسبابهما. فأما حامد فإن أبا الحسن ابن الفرات أقره على
أعمال واسط بحكم ما شرطه المقتدر بالله عليه في أمره. وخاطبه بنحو مما
خاطب هو علي بن عيسى به عند خلافته إياه.
وقد كان أصحاب الدواوين في وزارة أبي علي الخاقاني شرطوا على حامد في
ضمانه الأول لأعمال واسط أن يؤدي في آخر سني ضمانه لما ينفق على كري
الأنهار وحراسة البزندات والبذور والمعاون مثل ما أنفق وأطلق في ذلك في
آخر سنة من سني الاعتبار عليه وكان نيفاً وتسعين ألف دينار ليتولى عمال
السلطان الإنفاق، وشرطوا له أن يؤخر باعتبار أموال الخراج والضياع
الخاصة العباسة ومبلغه مائة وسبعة وخمسون ألف دينار إلى آخر سني الضمان
لتصير الجملة مائتين وخمسين ألف دينار. فما زالت المطالبة بذلك تتأخر
مع تجديد الضمان سنة بعد أخرى. وقلد أبو الحسن بن الفرات أبا سهل
النوبختي أعمال المبارك، وأبا العلاء محمد ابن علي البزوفري أعمال
الصلح والمزارعات، ووافقهما على مطالبة حامد بالمال المذكور، فطالبه
النوبختي مطالبة الكتاب، وسلك البزوفري معه سبيل العنت والإرهاق، وتبسط
عليه في المناظرة والخطاب، ثم عمل له الأعمال، وادعى عليه أنه ابتاع من
المزارعات السلطانية بأسافل الصلح ضواحي الجامدة في أيام الخاقاني
(1/40)
وبعدها ضياعاً جليلة، وأخرج عليه من الفضل
فيها خمسمائة ألف دينار، مكثراً عليه بذلك. ورأى ابن الفرات تجرد
البزوفري لما هو متجرد له من استعمال القبيح مع حامد وعمل الأعمال فيه،
فكاتبه وأحمد فعلته، وأنفذ إليه المؤامرات المعمولة بالحضرة له، وأمره
بمطالبته والاستقصاء عليه والابتداء بنفقات المصالح والبزندات والبذور
والمعاون هو والنوبختي، وإنفاقها على عمارة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
فأجاب البزوفري بأن حامداً ليس يلتفت إليه، ولا يعطي شيئاً من المال،
وقد بدأ بإطلاق ما يريد إطلاقه للمزارعين وأهل البلاد للعمارة
المستأنفة، وادعى شروعه في ضمان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وأنه غير
متمكن منه مع قوته، وأن معه أربعمائة غلام كبار يتبعهم آخرون وسبعمائة
رجل، وأهل البلاد على ميل إليه وتعصب له. فعرض ابن الفرات كتابه على
المقتدر بالله، فأمر مفلحا الأسود بإنفاذ مائة غلام من الحجرية ومائة
راجل من المصافية إلى واسط للشد من البزوفري وبسط يده. وقال لابن
الفرات: اكتب إليه بإثبات خمس مائة راجل يستظهر بهم على أمره. ففعل
جميع ذلك. وكتب ابن الفرات إلى البزوفري يرسم له التوكيل بحامد عند
وصول من أنفذ إليه، ومطالبته عاجلاً بالمصالح والبذور، إذ ليس يأذن
السلطان في عقد الضمان مستأنفاً عليه. فأشارع البزوفري ذلك قبل ورود
القوم، وعرف حامد الخبر في وقته، فأظهر ورود كتاب المقتدر بالله عليه
بالمبادرة إلى الحضرة، فضرب البوق
(1/41)
وأصعد بكتابه وحواشيه ورجالته، ومعه ثيابه
وفرشه وآلته بعد ما أودعه بواسط من ماله، وسار في السفن والسميريات،
وأنفذ كراعه على الظهر، فلم يقدر البزوفري على منعه ولا الاعتراض عليه
في فعله، لكنه بادر إلى ابن الفرات بالخبر على الطيور. فلما عرفه انزعج
منه، وظن أنه عن أصل انطوى عنه، واستشار المحسن ابنه وخواصه فيما يدبر
الأمر به. فقالوا تنهي إلى المقتدر ما كان منه، وتستعلم ما عنده فيه.
ففعل وقال المقتدر: ما كوتب بشيء مما ادعى أنه كوتب به، وتقرب بينه
وبين ابن الفرات إنفاذ نازوك إلى المدائن في عدد كثير من الغلمان
والرجالة والفرسان للقبض على حامد وأسبابه، ووقف نازوك على ذلك. واتصل
بحامد انحدار نازوك، فاستتر وترك سفنه وماله وأصحابه، ووافى نازوك فقبض
على ما وجده له وحمله، وأمر المقتدر بالله بتسليم الحسبانات إلى ابن
الفرات، والكراع في الاصطبلات، وما سوى ذلك إلى الخزائن. ووقع الارجاف
بأن المقتدر بالله كاتب حامداً ينكر عليه خروجه من واسط على الحال التي
خرج عليها، ورسم له الاستتار ودخول بغداد سراً ليرده إلى الوزارة،
ويسلم إليه الجماعة، فأشفق أبو الحسن بن الفرات واستتر المحسن والحسين
والحسن أولاده وحرمهم وكتابهم.
(1/42)
وكانت سعادة حامد قد انقضت، ومدته قد
انقرضت، فدعاه المقدور إلى قصد دار السلطان في زي الرهبان، واستأذن على
نصر الحاجب، فلما دخل ورآه قال له: إلى أين جئت؟ قال: جئت بكتابك. قال:
إلى ها هنا كاتبتك بالمجيء؟ ولم يقم له ولا وفاه حقه؛ واعتذر إليه
بخوفه من سخط الخليفة متى تجاوز به ما وقف عنده. وراسل نصر مفلحاً
الأسود بالخروج إليه، لأن المقتدر بالله كان عند الحرم، فخرج إليه وقال
له: قد ورد حامد على ما تراه من هذه الصورة، وهو اليوم في موضع رحمة،
وما أولاك باستعمال الجميل معه. وقال حامد لمفلح: تقول لأمير المؤمنين
أنا أرضى بأن اعتقل في دارك كما اعتقل علي بن عيسى، ويناظرني الوزير
والمحسن والكتاب بحضرة القضاة والفقهاء والقواد، فإن وجب علي شيء خرجت
منه بعد أن أُومن على نفسي، وأُمكن من استيفاء حججي. ويمنع المحسن من
مقابلتي على المكاره التي أوقعتها به في طاعة أمير المؤمنين، فإنه شاب
وبسط يده على مثلي ممن بلغ إلى مثل سني ووجب له من الحرمة ما وجب لي
غير لائق بعادات أمير المؤمنين. فأراه مفلح أنه يفعل، ودخل إلى المقتدر
فأورد عليه ضد ما قاله، وتكلمت السيدة في أمر حامد وأجابته إلى سؤاله.
فقال مفلح: متى فعل ذلك لا يتم لابن الفرات أمر مع الأراجيف الواقعة
به. فقال له المقتدر بالله: صدقت. وأمره بأن يتقدم إلى نصر بإنفاذ حامد
إلى ابن الفرات، فخرج إليه وعرفه ما رسم له. فاستدعي حامد من نصر
ثياباً يغير بها ما عليه، فامتنع مفلح من الإذن له في ذلك، وقال: وقد
أمرني مولانا بإنفاذه على زيه الذي حضر فيه. فلم يزل نصر يشفع له إلى
أن أذن في تغيير، وأنفذه مع ابن الزنداق الحاجب.
(1/43)
فلما دخل على ابن الفرات قال له: لم جئت؟ قال بكتابك. قال له: فلم لم
تقصد داري؟ قال: حرمت التوفيق. قال له: لا ولكنك عملتها طائيةً فجاءتك
طائية. وذاك أن الطائي ضمن إسماعيل بن بلبل من الموفق وصار إلى داره في
زي الفيوج ليقيم فيها ليلته وينجز له من غد ما وعده، فلما حصل عنده
أنفذه إلى إسماعيل في ذلك الزي، فأوقع به إسماعيل مكروهاً غليظاً،
واستخرج منه ومن كتابه مالاً جليلاً. وتقدم أبو الحسن بن الفرات إلى
أستاذ داره بأن يفرد لحامد داراً يفرشها فرشاً جميلاً، ويتفقده في
طعامه وشرابه وطيبه تفقداً كثيراً. ونحن نذكر تمام حديثه إلى حين وفاته
في أخباره. |