تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء
ونسخة الثالثة وكانت
إلى ابن بسطام في صرف سوسن عن الحجابة والقبض عليه
عوائد الله عند أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فيمن يشاقه ويناويه،
توفي على غاية محابه ونهاية أمانيه، فليس يظهر أحد عصيانه ويبديه، أو
يجاهر به أو يخفيه، إلا جعله الله عظةً للأنام، وأهلكه بعاجل الاصطلام،
والله عزيز ذو انتقام. وممن نكث وغدر، وفسق ومرق، وطغى وبغى، وكاشف
وخالف، سوسن الحاجب، فإنه كان لدم أبي أحمد العباس بن الحسن رحمه الله
من السافكين، وفي معاونة عبد الله بن المعتز على فتنته من المشمرين.
وكان يظهر لأمير المؤمنين أطال الله بقاءه موالاة ونصراً، ويضمر عداوة
وغدراً، ويسعى في إفساد ملكه ودولته، ويوحش وجوه غلمانه وخاصته، إلى أن
عاجله أمير المؤمنين أدام الله عزه بسطوته
(1/102)
وأزال عن الدولة حرسها الله ما عراها من
معرته، وقلد مكانه من وثق بدينه وأمانته، ونصيحته ومخالصته، فاستوسقت
الأمور، واستبشر الجمهور، وارتفع الأولياء وانقمع الأعداء، والله يخير
لأمير المؤمنين فيما يبرمه ويمضيه، ويوفقه لما يحبه ويرضيه بجوده،
ومجده، وكرمه وحمده، إنه فعال لما يريد. هذه أعزك الله حال الباغين
والمارقين، والطاغين والناكثين، ومن تغره المهلة، وتفسده الغفلة، وتزله
قدماه، ويعصي مولاه، فإن العاقبة للمتقين، والدائرة على المجرمين،
والسلامة في طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
وقال أبو الحسين بن هشام: سمعت أبا الحسن بن الفرات يملي جواباً لبعض
العمال على ظهر كتاب: ورد منه بجملة عشرة آلاف دينار، فكان ما أحسن ولا
قارب الإحسان، ولا أنا بالراضي بشيء من أمره، ولا بالمؤخر عنه ما يكرهه
إن أقام على ما هو عليه، وأين عشرة آلاف دينار مما يجب عليه حمله؟
ليكبت إليه في ذلك أغلظ كتاب وأفظعه، وليعرف أني إن استفسدته بعد
استصلاحي إياه أنسيته ما سلف مما جرى عليه، فليختر لنفسه ما يراه أصلح
لها إن شاء الله.
وحدث أبو الحسين قال: حدثني أبو القاسم سليمان بن الحسن قال: حضرت
مناظرة أبي محمد حامد بن العباس وأبي الحسن علي بن عيسى وأبي علي
الحسين ابن أحمد المادرائي الملقب بأبي زنبور، لأبي الحسن علي بن محمد
بن الفرات وكان ذلك بدار الخلافة، وحضر نصر الحاجب والقواد والقضاة،
وأُخرج ابن الفرات وعليه قميصان ورداء، فلما توسط المجلس سلم سلاماً
عامً وجلس، فكان ذلك أول
(1/103)
استخفافه بالقوم، فأقبل عليه حامد وقال له:
مددت رجلك، وأطمعت في المحال نفسك، وعولت على القهرمانة يعني زيدان في
الشفاعة لك، والمدافعة عنك وظننت أنه يقنع منك بثلاثمائة ألف دينار
ونيف، أقررت بها من ودائعك. نريد أن نحاسبك على ما أغللت في ثمانية عشر
شهراً من ارتفاعك، وما انضاف إلى ذلك من رزقك، وحق بيت المال في ضياعك
التي رفعت عن نفسك لنفسك بأنك أوغرته، وخمسمائة ألف دينار قد حضر من
ثقاتك من يواقفك على أنك ارتجعتها من ودائعك التي بقيت لك بعد نكبتك
الأولى فكتمتها السلطان أعزه الله بعد يمينك له بالصدق عن جميع مالك،
فإذا فرغنا من ذلك عدلنا إلى مرافقك. فقال: أما استغلال ضيعتي فلا
مطالبة تتوجه علي به، وقد ردها أمير المؤمنين علي. وأما حق بيت المال
الذي أوغرنيه فالحال واحدة فيه. وأما الودائع فلم يكن بقي لي ما لم
أصدق عنه فيما تقدم. وأما الثقة الذي أشرت إليه في مواقفتي، فالثقة لا
يكون ساعياً لحق ويكني عن باطل. فقال له: قد علمنا أنك تحسن المناظرة،
ويطول لسانك بالأقوال المحالة، هذا موقف يحتاج فيه إلى وزن المال، ولا
تغتر بالصيانة عن المكروه، فإنني قد شرطت على أمير المؤمنين أعزه الله
تسليمك إلي، فاحفظ نفسك ما دمت في ظله قبل أن أبسط عليك من المكاره ما
لا تثبت له. قال له ابن الفرات: المكاره تبسط على من أخذ أموال السلطان
وفاز بها، وضمن ضمانات باطلةً بفتاوي الفقهاء والكتاب، وحصل الفضل
الكبير منها، ولولا إشفاقك من ذلك لما تعرضت لما لا تحسنه وفضحت نفسك،
وهتكت المملكة بالدخول فيه.
(1/104)
فقال له حامد: ما هذا التبسط يا عاض كذا من
أبيه، حتى كأنك الوزير ونحن بين يديك. فقال ابن الفرات: دار أمير
المؤمنين تصان عن السخف، وحضور هؤلاء القواد القضاة يمنع عن الفحش. فيا
ليت شعري يا حامد ما الذي غرك؟ وليس ما أنت فيه بيدراً تقسمه، وأكاراً
تشتمه وتحلق لحيته وتضربه، وعاملاً تذبح دابته وتعلق رأسها في عنقه،
فإنما هذه الدار وهذا المجلس دار ومجلس الخليفة اللذان منهما يشيع
العدل في أقطار الأرض، وإنما مكنت من مناظرتي، ولم تجعل لك سبيل إلى
عرضي، ولولا أنني أتصون عن فعل مثلك لاقتصصت في القول والشتم منك، ومع
إمساكي فقد وجب الحد عليك فيما أطلقت به لسانك. فأقبل علي بن عيسى على
حامد وقال له: يدعني الوزير أعزه الله حتى أناظره، وقال لأبي الحسن بن
الفرات: يا أبا الحسن أعزك الله تعرف هذا؟ وأومى إلى أبي زنبور فقال:
ما أُنكره من سوء. قال: هو أبو علي الحسين بن أحمد المادرائي عامل مصر
الذي قصدته وأفقرته، وخدمته معروفة في رده مصر على السلطان دفعات. فكيف
لا تعرفه؟ فقال: لم ينكر علي أني لم أُثبته؟ فإن عهدي طويل به، وكنت
أعرفه يكتب لعامل نهر جوبر بعشرين ديناراً في الشهر. ثم صحب الطولونيين
العصاة، فعظمت حاله ونعمته معهم، ولم أره إلى وقتي هذا. فقال علي بن
عيسى لأبي زنبور: واقفه على ما ذكرت.
(1/105)
فقال نعم. وأقبل علي ابن الفرات وقال:
توليت لك أعمال أجناد الشام سوى جند قنسرين والعواصم، فطالبتني من
المرفق بما كنت أحمله إلى العباس ابن الحسن قبلك، وهو عشرة آلاف دينار
في كل شهر. وأخذت ذلك لمدة وزارتك الأولى، فكان المبلغ أربعمائة
وأربعين ألف دينار. ثم إنك نصبت في وزارتك الثانية ديواناً للمرافق،
واستخرجت هذا المال وأوردته في جملة مرافق حملتها إلى أمير المؤمنين.
فأمسك ابن الفرات ساعة، حتى قال نصر الحاجب بعجومته: تكلمي يا قرمطية.
فقال له: أمسك يا أبا القاسم عما لا ينفعك ولا يضرني. وقال لأبي زنبو:
ليس يخلو ما تدعيه من حالين، إما أن يكون حملك للمال مع رسل أو بسفاتج
تجار على تجار، فإن كان مع رسل فأحضرهم أو أحضر القبوض التي كتبت على
أيديهم، أو بسفايج فالقبوض مع أربابها. فقال أبو زنبور: هذا شيء لا
يكتب به قبوض. فقال: إذا كان ذلك كذلك وجب أن تجعل بدلاً من أربعمائة
ألف أربعة آلاف ألف لتكون الحال فيه واحدة. ثم اقبل على علي بن عيسى
فقال: حكم الله ورسوله في الدعاوي معروف، وأرجو ألا يخرجني أمير
المؤمنين فيه عن الانصاف. ثم قال لأبي زنبور: قد وليت
(1/106)
لأبي الحسن وأومى إلى علي بن عيسى الشام
أربع سنين، فإن كنت حملت إليه هذا المرفق في هذه المدة فهو عليه، أو لم
تفعل فهو عليك لاعترافك بوجوبه.
فقال به أبو زنبور: هذا لا يلزمني، ولكن ها هنا مال الاستثناء بمصر،
وهو مائة ألف دينار في كل سنة، وقد أخذت منه في وزارتك الأولى سبعمائة
ألف وخمسين ألف دينار. فقال له ابن الفرات: قد وليت أيضاً مصر لأبي
الحسن أربع سنين، وحكم ذلك فيما يتوجه على أبي الحسن أو عليك حكم ما
قبله. والآن فها هنا ثمانمائة ألف دينار واجبة لأمير المؤمنين أعزه
الله ومن الواجب أن تخرجا إليه منها. فقال له علي بن عيسى: أنا معروف
الطريقة ومكشوف الرأس من مثل هذه الأسباب وكشف عن رأسه. قال: وكان
المقتدر بالله قريباً من الموضع فسمع ما جرى. فقال ابن الفرات: ومن ها
هنا بارك الله عليك مغطى الرأس؟ ولو تكلم الناس كلهم في هذا الموضع
لوجب لك ألا تتكلم. فقال: لم يا أبا الحسن؟ أعزك الله. قال: لأن لهذا
الرجل يعني أبا زنبور ومحمد بن علي ابن أخيه بمصر والشام من الضياع
مسافة مائة فرسخ في مائة فرسخ، وما أخذت من حق بيت المال منها في
وزارتك درهماً واحداً. فمن ترك على قوم حقوق بيت المال لم لم يأخذ
المرافق منهم؟ ثم التفت إلى شفيع اللؤلؤي وإليه البربد وقال له: أنت
ثقة أمير المؤمنين، وقد تعين على هذا الرجل يعني أبا زنبور مال يلزمه
الخروج منه
(1/107)
بإقراره واعترافه أو إقامة حجة تبرئه منه،
فأنه إلى أمير المؤمنين ذلك، وطالبه به.
وأقبل عليه حامد وقال له: قد أخذت في التمويهات، وعولت يا ابن الفاعلة
على دفع الحق بالمباهتات. قال له: وأي شيء في يدك من الحق حتى أدفعه يا
حامد، تحمل إلى السلطان مائتين وأربعين ألف دينار في كل سنة من واسط،
وتدعي أن الخاقاني الأبله المتخلف ضمنك ثمن الحاصل من زرع لم يزعر. ثم
تعترف بأنك تغل ضمان هذه الناحية سبعمائة ألف دينار، وتشنع بذلك، أوليس
هذا الفعل شاهد عقلك وصناعتك ومقدارك في دينك وأمانتك؟ وقد رضينا بهذا
الشيخ يعني علي ابن عيسى في كشف أمرك وتأمل ما عليك، فإن شغل السلطان
باستيفاء ما يلزمك مما دخلت في الوزارة لتدفعه عن نفسك لما اردت
استخراجه منك أعود عليه وأنفع له. فشتمه حامد شتماً مسرفاً، وأمر أن
تنتف لحيته، فلم يقدم عليه أحد حتى مد حامد يده إلى لحيته وكان جالساً
بالقرب منه فأخذ منها خصلة، وصاح ابن الفرات: أوه. وضرب أبو زنبور يده
إلى الدواة وكتب بأنه يضمن استخراج مائة ألف دينار من ابن الفرات في
مدة ثلاثين يوماً إذا سلم إليه بعد ما أداه إلى هذا الوقت. فقال له ابن
الفرات: يكون عليك ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار بالمواقفة لك في هذا
المجلس، ثم تدفعها بأن تضمنني بأقل من نصفها؟ إن ذلك من أطرف الأمور،
وأعجب السياسة! فقال حامد: وأنا أضمنك بسبعمائة ألف دينار عاجلة في
عشرة أيام، إذا سلمت إلي وكتب حامد وأبو زنبور خطهما بما بذلا فيه.
واستدعى حامد مرشداً الخادم،
(1/108)
وسلم إليخ الخطين، وأمره بعرضهما على
المقتدر بالله، فدخل وعاد وقال: أمير المؤمنين يقول: أنا أعلم أن عليه
وعنده من الأموال أكثر مما قلتماه وضمنتماه. وأنا أدري كيف أستخرجها
منه، وأُقابله على تقاعده بي. ومكايدته إياي، فأما أن أُضمنه وأُسلمه
فلا حاجة بي إلى ذلك. ثم أقيم من المجلس إلى محبسه، فما وقعت للجماعة
عين عليه بعد ذلك.
قال أبو الحسين بن هشام: فلما ولي أبو الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة
حكي هذا المجلس على هذه السياقة، وزاد فيها أن علي بن عيسى قال له: ما
اتقيت الله في تقليدك ديوان جيش المسلمين رجلاً نصرانياً، وجعلت أنصار
الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمره. فقلت له: ما هذا شيء
ابتدأته ولا ابتدعته، وقد كان الناصر لدين الله قلد الجيش إسرائيل
النصراني كاتبه. وقلد المعتضد مالك بن الوليد النصراني كاتب بدر ذلك.
فقال علي بن عيسى: ما فعلا صواباً. فقلت: حسبي الأسوة بهما وإن أخطأ
على زعمك. ولعمري إنك لا ترى أمانتهما، ولا تعتقد طاعتهما، فلذلك لا
تقتدي بآرائهما، ولا ترتضي بأفعالهما، ومع هذا فما وجدت لي روحين إذا
مضى أحدهما بقي الآخر. قال: ما أردت بهذا القول؟ قلت: وجدت العباس بن
الحسن قد قلد محمد بن داود بن الجراح ديوان
(1/109)
الجيش، فطمع في الوزارة، وسعى على العباس
حتى قتله، وخلع أمير المؤمنين أعزه الله وأجلس عبد الله بن المعتز.
فخفت أن يتم علي وعلى الدولة ما تم منه. قتال: ثم صحت، وأنا أعلم أن
الخليفة يسمع: يا أمير المؤمنين، قد اجتمع هؤلاء يريدون قتلي خوفاً من
علمي بمساوئهم، وما في ذممهم من الأموال التي تلزمهم، كما اجتمع الكتاب
في أيام المتوكل جدك في نجاح بن سلمة حتى قتلوه، ولي عليك حق حرمة
وخدمة، فاحرس نفسي. وبارك الله لك في مالي. قال: فما استوفيت القول حتى
خرج الخدم وحملوني إلى موضعي، ولم أجتمع مع واحد منهم حتى جلست هذا
المجلس.
وحكى أبو الحسن ثابت بن سنان أن أبا زنبور لم يقم من مجلسه الذي ناظر
ابن الفرات فيه حتى قال له: إن أقررت على نفسك مصادرةً التزمت عنك
خمسين ألف دينار. فلما خرج قال له علي بن عيسى ونصر الحاجب وابن
الحواري: دخلت إلى الرجل لتناظره وخرجت من عنده وقد بذلت مرفقاً
مصانعةً. فقال: نعم، أدخلتموني إلى رجل قال لي بعضكم لما دخلت إليه:
أنظر لمن تخاطب وقال آخر: أنظر بين يديك وقال آخر الله الله في نفسك.
فلم أجد أقرب إلى الصواب مما فعلته. قال: فلما تقلد ابن الفرات الثالثة
قبض على ولد لأبي زنبور وأخذ خطه بخمسة وعشرين ألف دينار كانت واجبةً
عليه للسلطان، وأخر مطالبته بها إلى أن وافى أبوه من الشام، ثم قال له
وعدتني في المجلس الذي ناظرتني فيه بحمل خمسين ألف دينار، وقد كنت مالك
أمرك في أن تفعل أو لا تفعل،
(1/110)
وهذا خط ابنك بخمسةً وعشرين ألف دينار
واجبة عليه لا حجة له ولا لك في دفعها عنه وقد رددته إليك مكافأةً عما
عملت وبذلت. ووجدت في هذه الحكاية من الزيادة أن حامداً قد كان أحضر
أبا علي ابن مقلة معه لمواقفة ابن الفرات على استخرجه من ودائعه في
وزارته الثانية، فلما طلبه وجده قد انصرف، ورساله بالعود فقال: أنا
أكتب خطي. وأشهد على نفسي بجميع ما تريده مني، فأما أن أواجه ابن
الفرات به فما لي وجه يثبت على ذلك. فكان هذا الفعل سبب سوء رأيه فيه.
وحدث أبو الحسين بن هشام. قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد ابن عبد
الحميد كاتب السيدة يحدث أبي في يوم عيد الأضحى من سنة ست وثلاثمائة
قال: لما صح عند أبي الحسن بن الفرات فساد أومره عند المقتدر بالله،
وتمام التدبير عليه في صرفه وتقليد حامد استدعاني وخلا بي وقال: أنت
عارف بخدمة هذه المرأة وما فيه صلاح رأيها، وأريد أن تلطف في استمالتها
واستعطافها حتى تبطل ما دبره أعدائي علي وأشر علي بما أفعله في أمري.
فقلت له: قد دبر عليك تدبير لا ينحل سريعاً، وجنيت على نفسك في هذه
الدفعة ثلاث جنايات لا يمكن تلافي الخطأ فيها. فقال: وما هي؟ قلت:
أولها أن صرفت أصحاب الدواوين والعمال والمنفقين وأصحاب البرد والخرائط
وأكثر القضاة وبعض المعاون. وقلدت أصحابك وذوي عناياتك، فصاروا أعداءك
وسعاةً عليك، وقال الناس، إنك قلدت للعناية لا للكفاية، وحتى قال
الخليفة: ما كان في هؤلاء المتصرفين من يصلح للإقرار على عمله.
(1/111)
وثانيها: أنك أخذت توقيع الخليفة برد
أملاكك وضياعك عليك، وقد تفرق أكثرها في أهل الدار والقواد والخواص
فانتزعت ذلك من أيديهم ولم تعوضهم عنه. وقد أنفق أكثرهم النفقات
العظيمة عليه، وانضاف هؤلاء إلى أولئك وصارت كلمتهم واحدةً في السعي
عليك. وثالثتها: أن حلفت للخليفة وأنت في حبسه قبل أن تقلدت من وزارته
ما تقلدته أنه لم يبق لك وديعة ولا ذخيرة إلا وقد صدقته عنها، ثم قعدت
في ولايتك تطالب بالودائع ظاهراً، وتستخرجها شائعاً، فكيف يمكن إصلاح
فساد هذه أسبابه؟ ولكنني أُشير عليك برأي إن قبلته أحمدته. قال: وما
هو؟ قلت تقسط على نفسك وكتابك وعمالك مالاً يقارب النصف من أحوالهم
وتحمله إلى الخليفة فترضيه به، وأعقد لك مع السيدة عقداً يقوم بأمرك
معه، وأُحلفها عليه يميناً تسكن النفس إلى مثلها. وأنت وهم قادرون على
الاعتياض فيما تعطونه على مهل. فقال: أما هذا الرأي فقد أشار به علي
جماعة من أسبابي، منهم موسى بن خلف وابن فرجويه، وأبو الخطاب، وهشام
قال أبو الحسين: وإنما حدث ابن عبد الحميد أبي بهذا الحديث لتعلقه
بذكره فخطأت جميعهم فيه، وقد كنت عندي بعيداً من الخطأ، وقد شاركتهم
فيه الآن. فقلت: وكيف؟ قال: ما بذل قط وزير ولا كاتب ولا عامل بذلاً
على وجه المصادرة في ولايته إلا كان من أكبر دواعي الطمع. وأكثر أسباب
الحجة عليه، لأن أعداءه يقولون قد بان الآن كثرة ماله وحاله بما بذله
عفواً من نفسه ووراء ذلك أضعافه. ويكون هذا القول مسموعاً مقبولاً،
ويتم ما يتم وإن يدافع يوماً ومدة وقد مضى المال
(1/112)
ضائعاً. ومع هذا فأي شيء أقبح بي مع علو
همتي وكثرة نعمتي من أن أُنشئ أصحاباً وعمالاً يلون بولايتي وينكبون
بنكبتي ويتصرفون بتصرفي ويتعطلون بعطلتي ثم أُزيل نعمهم وأحوالهم بيدي
وفي أيامي؟ القتل والله أهون من ذلك. فعجبت من كبر نفسه وعظم كرمه،
وانصرفت، فقبض عليه بعد أيام. وحدث أبو الحسين قال. دخلت مع هشام والدي
إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق ابن البهلول القاضي عقيب عيد لأهنئه به،
فتطاولا الحديث، وقال له والدي في عرضه: قد كنت أُكاتب الوزير يعني ابن
الفرات في محبسه وأُعرفه ما عليه القاضي من موالاته ومشاركته والتألم
من محنته، ومواصلة الدعاء بتفريجها عنه، وهو الآن على شكر للقاضي
واعتداد به. فلما سمع ذلك صرف من كان في مجلسه وخلوا. وقال له القاضي:
ليس يخفى علي ما أراه في عين الوزير ونظره من التغير والتنكر، وإن كان
ما نقضي من منزلة ولا عمل، وبالله أحلف لقد لقيت حامد بن العباس
متلقياً بالمدائن لما أصعد للوزارة، فقام إلي في حراقته قياماً تاماً،
وأقبل علي وسألني عن خبري وقال: هذا أمر لك ولولدك، وستعرف ما أفعله في
زيادتك من العمال والأرزاق، ثم لقيته يوم خلع عليه فتطاول لي، فلما
فعلت في أمر الوزير بحضرة أمير المؤمنين ما فعلته عاداني ولم يعرني
طرفه من بعد، وتخوفته حتى كفاني الله أمره بتفرد علي بن عيسى بالعمل،
وتشاغله هو بالضمان وسقوط الحاجة إلى لقائه، ومالي إلى الوزير ذنب يوجب
انقباضه عني، واستيحاشه مني إلا أنني
(1/113)
سلمت الوديعة التي كانت له عندي، والله لقد
دافعت عنها بغاية ما أمكنتني المدافعة به، مع ما اتي بحيث لا يمكن مثلي
الكذب فيما يسأل عنه، حتى جاء ابن حماد كاتب موسى بن خلف وأقر بها علي،
وأقام الدليل بإحضار المرأة التي كانت حملتها إلي، فلم أستطع مع هذه
الحال إنكارها، ولم أجد بداً من تسليمها. وقد فعل أبو عمر مثل ذلك فيما
كان عنده، غير أنه أخذ مالاً من ماله ووضعه في أكياس وختمه بخاتم نفسه
وكتب عليه علي بن محمد. فلما عاد الوزير قال له: إن الوديعة بعينها
عندي، وإنما غرمت ما غرمته من مالي، تقرباً إليه وتنفقاً عنده ومالي من
المال ما لأبي عمر، ولا عندي من الاستحلال مثل ما عنده، ولا جرت عادتي
أن أقدح في أمانتي ومروءتي بمثل فعله. والآن فأُريد أن تستل سخيمة
الوزير وتصلح قلبه، وتذكره بحقي القديم عليه، ومقامي له بين يدي
الخليفة المقام الذي قمته، فإن مثله يرعى ويراعى. فقال له: ما الذي
أفعل وأتلطف؛ وقد اختلفت الأقوال فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي
أن يشرحه لي. فقال أبو جعفر كنت أنا وأبو عمر وحامد وعلي ابن عيسى
بحضرة الخليفة، وفي المجلس جماعة من خواصه الذين يعادون الوزير أيده
الله وينحروه عنه، إذ أحضر
حامد الرجل الجندي الذي زعم أنه وجده راجعاً من أردبيل إلى قزوين،
ومتردداً بينهما وبين أصبهان والبصرة، وأنه أقر له عفواً أنه رسول ابن
الفرات إلى ابن أبي الساج في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين
بطبرستان، وأن الشروع واقع من الجماعة في أخذ البيعة له، ومسير ابن أبي
الساج إلى بغداد به، حتى إذا قرب عاونه ابن الفرات ومهد له من أمر
الحضرة ما يجب تمهيده. وقال حامد للرجل: اصدق عما عندك. فذكر مثل ما
ذكره حامد عنه، ووصف أن موسى بن خلف اختاره لابن الفرات لأنه من الدعاة
إلى الطالبيين، وأن موسى قد كان مضى في وقت من الأوقات إلى ابن أبي
الساج في شيء من ذلك. فلما استتم الرجل قوله اغتاظ الخليفة غيظاً
شديداً بان في وجهه، واقبل على أبي عمر فقال: ما عندك فيمن فعل هذا
واستجازه؟ فقال: لئن كان فعله لقد ركب عظيماً، وأقدم على أمر يضر
بالمسلمين جميعاً، واستحق كذا بكلمة عظيمة لا أحفظها. قال أبو جعفر:
وتبينت في وجه علي بن عيسى كراهيةً لما يجري وإنكاراً لهذه الدعوى
وهزؤا بما قيل فيها، فقويت بذاك نفسي، وعطف الخليفة إلي فقال: ما عندك
يا أحمد فيمن فعل ما سمعته؟ قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن
الجواب. قال: ولم؟ قلت: لأنه ربما أغضب من أنا محتاج إلى رضاه، وخالف
رأيه وهواه، واستضررت بذلك ضرراً أتأذى به. قال: لا بد من أن تقول.
فقلت: الجواب ما قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ينَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ". ومثل هذا
الأمر الكبير لا يقبل فيه خبر الواحد، والعقل يمنع من قبول مثله على
ابن الفرات، لأن من المحال أن يرضى ببياعة ابن أبي الساج، ولعله ما كان
يؤهله لحجابته في أيام وزارته. ثم أقبلت على الرجل فقلت له: صف لي
أردبيل أعليها سور أم لا؟ فلا شك في معرفتك بذلك مع ما ذكرته من دخولك
إياها. واذكر لي باب دار العمارة هل هو حديد أو ملبس أم خشب؟ فلجلج في
كلامه. ما كنية ابن محمود كاتب ابن أبي الساج؟ فلم يعرف ذاك. وقلت:
فأين الكتب التي معك؟ قال: لما أحسست بوقوعي في أيديهم رميت بها
إشفاقاً من أن يجدوها معي فأُعاقب. فقلت: يا أمير المؤمنين هذا رجل
جاهل مكتسب أو مدسوس من عدو غير محصل. فقال علي بن عيسى: قد قلت ذاك
للوزير فما قبل مني، وليس يخوف هذا فضلاً عن أن ينزل به مكروه إلا وقد
أقر بالصورة. فأقبل الخليفة على نذير الحرمي وقال له: بحقي عليك إلا
ضربته مائة مقرعة أشد ضرب إلى أن يصدق وإنما عدل بهذا الأمر عن نصر
الحاجب لما كان يعرفه من عداوته لابن الفرات قال: فأُخذ الرجل من حضرة
الخليفة ليضرب على بعد. فقال: لا، لا، ها هنا. فضرب بحيث يشاهده دون
خمس مقارع. فقال: غررت وضمنت لي ضمانات فكذبت، ووالله ما رأيت أردبيل
قط. وطلب أبو معد نزار بن محمد الضبي صاحب الشرطة فكان قد انصرف. وقال
الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن يضربه مائة سوط ويثقله بالحديد
ويطرحه في المطبق. فوالله لقد رأيت حامداً وقد كاد يسقط انخزالاً
وانكساراً ووجلاً وإشفاقاً. وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب وانصرف
حامد، وأخذ علي بن عيسى ينظر في أمور كلم فيها، وأخر أمر الرجل حتى قال
له ابن عبدوس حاجبه: قد أُنفذ بدبر المضروب المتكذب. قال أبو جعفر:
فقلت: هذا رجل قد جهل، وغمني إذ كنت سبباً لما لحقه، فإن أمكنك أن تسقط
عنه المكروه المستأنف أو بعضه كان لك فيه أجر. فقال: لعن الله هذا. وأي
أجر في مثله؟ ولكنني أقتصر به على خمسين مقرعة وأعفيه من السياط. ثم
وقع بذلك إلى نزار وانصرف. وقد صار حامد من أشد الناس حنقاً علي
وعداوةً لي. امد الرجل الجندي الذي زعم أنه وجده راجعاً من أردبيل إلى
قزوين، ومتردداً بينهما وبين أصبهان والبصرة، وأنه أقر له عفواً أنه
رسول ابن الفرات إلى ابن أبي الساج في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين
المقيمين بطبرستان، وأن الشروع واقع من الجماعة في أخذ البيعة له،
ومسير ابن أبي الساج إلى بغداد به، حتى إذا قرب عاونه ابن الفرات
(1/114)
ومهد له من أمر الحضرة ما يجب تمهيده. وقال
حامد للرجل: اصدق عما عندك. فذكر مثل ما ذكره حامد عنه، ووصف أن موسى
بن خلف اختاره لابن الفرات لأنه من الدعاة إلى الطالبيين، وأن موسى قد
كان مضى في وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من ذلك. فلما
استتم الرجل قوله اغتاظ الخليفة غيظاً شديداً بان في وجهه، واقبل على
أبي عمر فقال: ما عندك فيمن فعل هذا واستجازه؟ فقال: لئن كان فعله لقد
ركب عظيماً، وأقدم على أمر يضر بالمسلمين جميعاً، واستحق كذا بكلمة
عظيمة لا أحفظها. قال أبو جعفر: وتبينت في وجه علي بن عيسى كراهيةً لما
يجري وإنكاراً لهذه الدعوى وهزؤا بما قيل فيها، فقويت بذاك نفسي، وعطف
الخليفة إلي فقال: ما عندك يا أحمد فيمن فعل ما سمعته؟ قلت: إن رأى
أمير المؤمنين أن يعفيني عن الجواب. قال: ولم؟ قلت: لأنه ربما أغضب من
أنا محتاج إلى رضاه، وخالف رأيه وهواه، واستضررت بذلك ضرراً أتأذى به.
قال: لا بد من أن تقول. فقلت: الجواب ما قال الله تعالى: " يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ينَبأ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى
مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ". ومثل هذا الأمر الكبير لا يقبل فيه خبر
الواحد، والعقل يمنع من قبول مثله على ابن الفرات، لأن من المحال أن
يرضى ببياعة ابن أبي الساج، ولعله ما كان يؤهله لحجابته في أيام
وزارته. ثم أقبلت على الرجل فقلت له: صف لي أردبيل أعليها سور أم لا؟
فلا شك في معرفتك بذلك مع ما ذكرته من دخولك إياها. واذكر لي باب دار
العمارة هل هو حديد أو ملبس أم خشب؟
(1/115)
فلجلج في كلامه. ما كنية ابن محمود كاتب
ابن أبي الساج؟ فلم يعرف ذاك. وقلت: فأين الكتب التي معك؟ قال: لما
أحسست بوقوعي في أيديهم رميت بها إشفاقاً من أن يجدوها معي فأُعاقب.
فقلت: يا أمير المؤمنين هذا رجل جاهل مكتسب أو مدسوس من عدو غير محصل.
فقال علي بن عيسى: قد قلت ذاك للوزير فما قبل مني، وليس يخوف هذا فضلاً
عن أن ينزل به مكروه إلا وقد أقر بالصورة. فأقبل الخليفة على نذير
الحرمي وقال له: بحقي عليك إلا ضربته مائة مقرعة أشد ضرب إلى أن يصدق
وإنما عدل بهذا الأمر عن نصر الحاجب لما كان يعرفه من عداوته لابن
الفرات قال: فأُخذ الرجل من حضرة الخليفة ليضرب على بعد. فقال: لا، لا،
ها هنا. فضرب بحيث يشاهده دون خمس مقارع. فقال: غررت وضمنت لي ضمانات
فكذبت، ووالله ما رأيت أردبيل قط. وطلب أبو معد نزار بن محمد الضبي
صاحب الشرطة فكان قد انصرف. وقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن
يضربه مائة سوط ويثقله بالحديد ويطرحه في المطبق. فوالله لقد رأيت
حامداً وقد كاد يسقط انخزالاً وانكساراً ووجلاً وإشفاقاً. وخرجنا
وجلسنا في دار نصر الحاجب وانصرف حامد، وأخذ علي بن عيسى ينظر في أمور
كلم فيها، وأخر أمر الرجل حتى قال له ابن عبدوس حاجبه: قد أُنفذ بدبر
المضروب المتكذب. قال أبو جعفر: فقلت: هذا رجل قد جهل، وغمني إذ كنت
سبباً لما لحقه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه المستأنف أو بعضه كان
لك فيه أجر. فقال: لعن الله هذا. وأي أجر في مثله؟ ولكنني أقتصر به على
خمسين مقرعة وأعفيه من السياط. ثم وقع
(1/116)
بذلك إلى نزار وانصرف. وقد صار حامد من أشد
الناس حنقاً علي وعداوةً لي.
وحدث أبو الحسين علي بن هشام قال: لما وزر أبو الحسن بن الفرات وزارته
الأولى وجد سليمان بن الحسن يتقلد مجلس المقابلة في ديوان الخاصة من
قبل علي بن عيسى، وهو صاحب الديوان إذ ذاك، فقلده الديوان بأسره، وأقام
يتقلده سنتين. واتفق أن قام في بعض العشيات يصلي المغرب، فسقطت من كمه
رقعة بخطه فيها سعاية بابن الفرات وأسبابه، وسعي لابن عبد الحميد كاتب
السيدة في الوزارة، فوقعت في يد أحد الحواشي، فحملها إلى ابن الفرات،
فلما وقف عليها قبض عليه من وقته، وأنفذه في زورق مطبق إلى واسط، فصودر
هناك وضرب. ثم رفع صاحب البريد إلى ابن الفرات في جملة رفوعه أن أم
سليمان ماتت ببغداد ولم يحضرها ولدها ولا شاهدته قبل موتها، فاغتم بذلك
وهزته الرعاية لأن كتب إليه بخطه كتاباً أقرأناه سليمان من بعده فحفظته
وهو: ميزت أكرمك الله بين حقك وجرمك، فوجدت الحق يوفي على الجرم، وذكرت
من سالف خدمتك في المنازل التي فيها ربيت، وبين أهلها غذيت، ما ثناني
إليك، وعطفني عليك، وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت، فثق
أكرمك الله بذلك واسكن إليه، وعول في صلاح ما اختل من أمرك عليه. واعلم
أنني أراعي فيك حقوق أبيك التي تقوم بتوكد السبب مقام اللحمة والنسب
وتسهل ما عظم من جنايتك، وتقلل
(1/117)
ما كثر من إساءتك، ولن أدع مراعاتها
والمحافظة عليها، إن شاء الله، وقد قلدتك أعمال دستميان لسنة ثمان
وتسعين ومائتين وبقايا ما قبلها، وكتبت إلى أحمد ابن حبش بحمل عشرة
آلاف درهم إليك، فتقلد هذه الأعمال وأظهر فيها أثراً حميداً يبين عن
كفايتك، ويؤدي إلى ما احبه من زيادتك إن شاء الله.
وحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسين علي
ابن هشام قال: كنت حاضراً مع أبي مجلس أبي الحسن بن الفرات في شهر ربيع
الآخر سنة خمس وثلاثمائة في وزارته الثانية فسمعته يتحدث ويقول: دخل
إلي أبو الهيثم العباس بن محمد بن ثوابة الأنباري في محبسي في دار
المقتدر بالله وطالبني بأن أكتب له خطي بثلاثة عشر ألف ألف دينار.
فقلت: هذا مال ما جرى على يدي للسلطان في طول أيام ولايتي فكيف أصادر
على مثله؛ قال: قد حلفت بالطلاق على أنه لا بد أن تكتب بذلك. فكتبت له
بثلاثة عشر ألف ألف، ولم أذكر درهماً ولا ديناراً. فقال اكتب ديناراً
لأبرأ من يميني فكتبت وضربت عليه وخرقت الرقعة ومضغتها وقلت: قد برت
يمينك ولا سبيل بعد ذلك إلى كتب شيء. فاجتهد ولم أفعل، ثم عاد إلي من
غد ومعه أم موسى القهرمانة، وجدد مطالبتي وأسرف في شتمي، ورماني
بالزنا، فحلفت بالطلاق والعتاق وتمام الأيمان الغموس أنني ما دخلت في
محظور من هذا الجنس منذ نيف وثلاثين سنةً، وسمته أن يحلف
(1/118)
بمثل يميني على أن غلامه القائم على رأسه
لم يأته في ليلته تلك. فأنكرت أم موسى هذا القول، وغطت وجهها حياء منه.
فقال لها ابن ثوابة: هذا رجل بطر بالأموال التي معه، ومثله مثل المزين
مع كسرى، والحجام مع الحجاج بن يوسف. فتستأمرين السادة في إنزال
المكروه به حتى يذعن بما يراد منه وكان قوله: السادة، إشارةً إلى
المقتدر بالله والسيدة والدته وخاطف ودستنويه أُم ولد المعتضد بالله،
وهم إذ ذاك مستولون على التدبير لصغر المقتدر بالله فقامت أم موسى
وعادت وقالت لابن ثوابة: يقول لك السادة: قد صدقت فيما قلت ويدك مطلقة
فيه. قال ابن الفرات: وكنت في دار لطيفة، والحر شديد فتقدم بتنحية
البواري عن سمائها حتى نزلت الشمس إلى صحنها، وإغلاق أبواب بيوتها،
فحصلت في الشمس من غير أن أجد مستظلاً منها، ثم قيدني بقيد ثقيل،
وألبسني جبة صوف قد نقعت في ماء الأكارع، وغلني بغل، وأقفل باب الحجرة
وانصرف، فأشرفت على التلف. وعددت على نفسي ما عاملت الناس به، فوجدتني
قد عملت كل شيء منه، من مصادرة ونهب وقبض ضياع وحبس وتقييد وتضييق
وإلباس جباب الصوف، وتسليم قوم إلى أعدائهم وتمكينهم من مكروههم، ولم
أذكر أنني غللت أحداً، فقلت: يا نفس هذه زيادة. ثم فكرت أن النرسي كاتب
الطائي ضمنني من عبيد الله بن سليمان، فلم يسلمني إليه وسلمه إلي
فسلمته إلى الحسن المعلوف المستخرج، وكان عسوفاً، وأمرته بتقييده
وتعذيبه ومطالبته بمال حددته له، وألط
(1/119)
ولم يود، فتقدمت بغله ثم ندمت بعد أن غل
مقدار ساعتين. وأمرت بإنزال الغل عنه. وتجاوزت الساعتين وأنا مغلول،
فذكرت أمراً آخر، وهو أنه لما قرب سبكرى مأسوراً مع رسول صاحب خراسان
كتبت إلى بعض عمال المشرق بمطالبته بأمواله وذخائره. فكتب بإلطاطه
وامتناعه، فكتبت بأن يعل، فوصل الكتاب الأول وغل، وتلاه الثاني بعد
ساعتين فحل. فلما تجاوزت عني أربع ساعات سمعت صوت غلمان مجتازين في
الممر الذي فيه حجرتي، فقال الخدم الموكلون: هذا بدر الحرمي وهو
صنيعتك. فاستغثت به وصحت: يا أبا الخير، لي عليك حقوق، وأنا في حال
أتمنى معها الموت، فتخاطب السادة وتذكرهم حرمتي وخدمتي في تثبيت دولتهم
لما قعد الناس عن نصرتهم، وافتتاحي البلدان المأخوذة، واستيفائي
الأموال المنكسرة، وإن لم يكن إلا مؤاخذتي بذنب ينقم علي فالسيف فإنه
أروح. فرجع ودخل إليهم وخاطبهم ورققهم، وأمروا بحل الحديد كله عني،
وتغيير لباسي وأخذ شعري، وإدخالي الحمام وتسليمي إلى زيدان، وراسلوني:
بأنك لا ترى بعد ذلك بؤساً. وأقمت عند زيدان مكرماً إلى أن رددت إلى
هذا المجلس. قال أبو الحسين: ثم ضرب الدهر ضربه فدخلت إليه مع أبي في
الوزارة الثالثة وقد غلب المحسن على رأيه وأمره. فقال له أبي: قد أسرف
أبو أحمد في مكاره الناس حتى أنه يضرب من لو قال له: اكتب خطك بما
يريده منه لكتب بغير ضرب. ثم يواقف المصادر على الأداء في وقت بعينه،
فإن تأخر إيراد
(1/120)
الروز به، أعاد ضربه. ومع هذا الفعل شناعة
مع خلوه من فائدة. فقال له أبو الحسن: يا أبا القاسم، لو لم يفعل أبو
أحمد ما يفعله بأعدائنا ومن أساء معاملتنا لما كان من أولاد الأحرار
ولكان نسل هوان. أنت تعلم أنني قد أحسنت إلى الناس دفعتين فما شكروني،
وسعوا على دمي. ووالله لأسلكن بهم ضد تلك
الطريقة. فلما خرجنا من حضرته قال لي أبي: سمعت أعجب من هذا القول؟ إذ
كنا لم نسلم مع الإحسان نسلم مع الإساءة؟ فما مضى إلا أيام يسيرة حتى
قبض عليه وجرى ما جرى في أمره. قال القاضي أبو علي التنوخي قلت لأبي
الحسين بن هشام: قد عرفنا خبر المزين مع كسرى وهو أنه جلس ليصلح وجهه
فقال له: أيها الملك، زوجني بنتك، فأمر بأن يقام، فأقيم. وقيل له: ما
قلت؟ فقال: لم أقل شيئاً. ففعل به ذلك ثلاث دفعات. فقال الملك: لهذا
المزين خطب، وأحضر أهل الرأي فأخبرهم بحاله. فقال جميعهم: ما أنطق هذا
المزين إلا باعث بعثه من مال وراء ظهره. فأنفذ إلى منزله فلم يوجد له
شيء. فقال الملك: احفروا مكان مقعده عند خدمته لي، فحفر فوجد تحته كنز
عظيم. فقال الملك: هذا الكنز كان يخاطبني. ثم قلت لأبي الحسين: فهل
تعرف خبر الحجام مع الحجاج؟ قال: نعم. بلغنا أن الحجاج احتجم ذات يوم،
فلما ركب المحاجم على رقبته قال له: أُحب أيها الأمير أن تخبرني بخبرك
مع ابن الأشعث، وكيف عصا عليك. فقال له: لهذا الحديث وقت آخر، وإذا
فرغت من شأنك حدثتك. فأعاد مسألته وكررها، والحجاج يدفعه ويعده ويحلف
له على الوفاء له. فلما فرغ ونزع المحاجم عنه، وغسل الدم، أحضر الحجام
وقال له: إنا وعدناك بأن نحدثك حديث ابن الأشعث معنا، وحلفنا لك، ونحن
محدثوك: يا غلام، السياط. فأُتي بها، فأمر الحجاج فجرد وعلته السياط،
واقبل الحجاج يقص عليه قصة ابن الأشعث بأطول حديث. فلما فرغ استوفى
الحجام خمسمائة سوط، فكاد يتلف. ثم رفع الضرب وقال له: قد وفينا لك
بالوعد، وأي وقت أحببت أن تسأل خبرنا مع غير ابن الأشعث على هذا الشرط
أجبناك. الطريقة. فلما خرجنا من حضرته قال لي أبي: سمعت أعجب من هذا
القول؟ إذ كنا لم نسلم مع الإحسان نسلم مع الإساءة؟ فما مضى إلا أيام
يسيرة حتى قبض عليه وجرى ما جرى في أمره. قال القاضي أبو علي التنوخي
قلت لأبي الحسين بن هشام: قد عرفنا خبر المزين مع كسرى وهو أنه جلس
ليصلح وجهه فقال له: أيها الملك، زوجني بنتك، فأمر بأن يقام، فأقيم.
وقيل له: ما قلت؟ فقال: لم أقل شيئاً. ففعل به ذلك ثلاث دفعات. فقال
الملك: لهذا المزين خطب، وأحضر أهل الرأي فأخبرهم بحاله. فقال جميعهم:
ما أنطق هذا المزين إلا باعث بعثه من مال وراء ظهره. فأنفذ إلى منزله
فلم يوجد له شيء. فقال الملك: احفروا مكان مقعده عند خدمته لي، فحفر
فوجد تحته كنز عظيم. فقال الملك: هذا الكنز كان يخاطبني. ثم قلت لأبي
الحسين: فهل تعرف خبر الحجام مع الحجاج؟ قال: نعم. بلغنا أن الحجاج
احتجم ذات يوم، فلما ركب المحاجم على رقبته قال له: أُحب أيها الأمير
أن تخبرني بخبرك مع ابن الأشعث، وكيف عصا عليك. فقال له: لهذا الحديث
وقت آخر، وإذا فرغت من شأنك حدثتك. فأعاد مسألته وكررها، والحجاج يدفعه
ويعده ويحلف له على الوفاء له. فلما فرغ ونزع المحاجم عنه، وغسل الدم،
أحضر الحجام وقال له: إنا وعدناك بأن نحدثك حديث
(1/121)
ابن الأشعث معنا، وحلفنا لك، ونحن محدثوك:
يا غلام، السياط. فأُتي بها، فأمر الحجاج فجرد وعلته السياط، واقبل
الحجاج يقص عليه قصة ابن الأشعث بأطول حديث. فلما فرغ استوفى الحجام
خمسمائة سوط، فكاد يتلف. ثم رفع الضرب وقال له: قد وفينا لك بالوعد،
وأي وقت أحببت أن تسأل خبرنا مع غير ابن الأشعث على هذا الشرط أجبناك.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسين بن هشام قال: حدثني
أبو علي بن مقلة قبل وزارته قال: عزم أبو الحسن بن الفرات في وزارته
الأولى يوماً على الصبوح من غد، وكان يوم الأحد من رسمه أن يجلس
للمظالم فيه. ثم قال له: كيف نتشاغل نحن بالسرور، ونصرف عن بابنا قوماً
كثيرين قد قصدوا من نواح بعيدة وأقطار شاسعة مستصرخين متظلمين؟ فهذا من
أمير، وهذا من عامل، وهذا من قاض، وهذا من متعزز، ويمضون مغمومين داعين
علينا. والله ما أطيب نفساً بذلك، ولكن أرى أن تجلس أنت يا أبا علي
ساعةً ومعك أحمد بن عبيد الله بن رشيد صاحب ديوان المظالم وتستدعيا
القصص وتوقعاً منها فيما يجوز توقيعكما فيه، وتفردا ما لا بد من وقوفي
عليه، وتحضرانيه لأُوقع فيه، وينصرف أرباب الظلامات مسرورين، وأتهنأ
يومي بذلك. فقلت: السمع والطاعة. وبكرت من غد فقال لي: اخرج واجلس على
ما واقفتك عليه. فخرجت ومعي ابن رشيد، وجلسنا ووقعنا في جمهور ما رفع
إلا عشر رقاع كانت مما يحتاج إلى وقوفه عليها توقيعه بخطه فيها، وكان
منها رقعة كبيرة ضخمة ترجمتها: المتظلمون من أهل روذمستان وهرمزجرد
وهما ناحيتان من السيب الأسفل وجنبلاء، وكانتا إذ ذاك
(1/122)
في إقطاع السيدة. وقدرت أنها في ظلامة من
وكيلها في تغيير رسم ونقص طسق. فجعلتها فيما أوردته، وعدت إلى أبي
الحسن فعرفته ما جرى. فأخذ الرقاع ولم يزل يوقع فيها إلى أن انتهى إلى
هذه الرقعة، فقرأها ووجهه يربد ويصفر، وينتقل من لون إلى لون، فضاق
صدري وندمت على ترك قراءتها وقلت: لعل فيها أمراً يتهمني فيه، وأخذت
ألوم نفسي على تفريطي فيما فرطت فيه. وفرغ منها، فكتمني ما وقف عليه
فيها وقال: هاتوا أهل روذمستان وهرمزجرد. فصاح الحجاب دفعات، فلم يجب
أحد، وقام وهو مهموم منكسر، ولم يذاكرنا بأمر أكل ولا شرب ودخل بعض
الحجر، وتأخر أكله، وزاد شغل قلبي، وقلت لخليفة لساكن صاحب الدواة،
وكان أُميا: أريد رقعةً لابن بسام الشاعر، عليها خرج لأقف عليه، ولم
أزل أخدعه حتى مكنني من تفتيش ما هو مع الدواة، ولو كان ساكن حاضراً
لما تم لي ذلك. وأخذت الرقعة فإذا هي رقعة بعض أعداء ابن الفرات، وقد
قطعه فيها بالثلب والطعن وتعديد المساوئ والقبائح، وهدده بالسعاية،
وقال فيما قاله: قد قسمت الملك بين نفسك وأولادك وأهلك وأقاربك وكتابك
وحواشيك، واطرحت جميع الناس، وأقللت الفكر في عواقب هذه الأفعال، وما
ترضى لمن تنقم عليه ما تنقمه بالإبعاد وتشتيت الشمل حتى تودعهم الحبوس
وتفعل وتصنع. وختمها بأبيات هي:
لو كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائماً أبداً
لكن رأيت الليالي غير تاركةٍ ... ما ساء من حادثٍ أو سر مطّردا
وقد سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
(1/123)
قال وبطل صبوح أبي الحسن، ودعانا وقت الظهر
فأكلنا معه على الرسم، ولم أزل أبسطه وأقول أقوالاً تسكنه، إلى أن شرب
بعد انتباهه من نومه غبوقاً، ومضى على هذا اليوم أربعة أشهر وقبض عليه،
واستترت عند الحسين بن عبد الأعلى. فلما خلع على أبي علي محمد بن عبيد
الله بن خاقان جلسنا نتحدث ونتذاكر أمر ابن الفرات. فقال لي ابن عبد
الأعلى: كنت جالساً في سوق السلاح أنتظر جواز الخاقاني بالخلع لأقوم
إليه وأهنئه، فاتفق معي رجل شاب حسن الهيئة، جميل البزة، وحدثني أنه
صاحب لأبي الحسين محمد بن أحمد بن أبي البغل، وأنه أنفذه من أصبهان
قاصداً حتى دس إلى ابن الفرات رقعةً على لسان بعض المتظلمين، فيها كل
طعن وثلب ودعاء وسب وتوعد وتهدد وفي آخرها شعر. فقلت له: على رسلك هذه
الرقعة على يدي جرت ووصلت إلى ابن الفرات، وخرج الحديث متقابلاً.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسين بن هشام قال: سمعت أبي يقول
لأبي علي بن مقلة في أول وزارته الأولى وقد جلس مجلساً نقض فيه الأعمال
وبان منه فضل كفاية واستقلال: العمل في يد الوزير أيده الله ذليل.
فقال: على هذه الحال نشأنا يا أبا القاسم، وأخذناها عمن كانت الدنيا
والمملكة يطرحان الأثقال عليه فنهض بها يعني أبا الحسن بن الفرات ثم
قال أبو علي: لقد رأيته جالساً في الديوان للمظالم، والوزير إذ ذاك
القاسم بن عبيد الله، فتظلم إليه رجل من رسم ثقله عليه الطائي وغير به
رسماً له قديماً خفيفاً، ويسأل رده إلى ما كان عليه أولاً. وهو يقول:
قد سمتني أن أُبطل رسماً قرره أبو جعفر الطائي رحمه الله في محله من
العدل والثقة والبصيرة بأسباب العمارة، وقد درت عليه الأموال، وصلحت
(1/124)
الأحوال، وأحمده لجمهور، واستقامت عليه
الأمور. وهذا سوم إعنات. ويكتب بحمله على ما رسمه أبو جعفر. ثم رأيت
مرة ثانية متظلماً آخر من رسم ثقيل حففه الطائي لعلمه بأن الضيعة لا
تحتمل غيره، وقد اعترض عليه فيه ويسأل إجراءه على رسم الطائي فيقول له:
يا بارك الله عليك، ليس الطائي أبا بكر الصديق أو عمر بن الخطاب أو علي
بن أبي طالب الذين نقتفي آثارهم ونمضي أفعالهم. وإنما الطائي ضامن عمل،
رأى ما رآه حظاً لنفسه، وما يلزم السلطان تقريره، وأنت معنت في تظلمك.
ويكتب بأن يجرى على الرسم القديم الثقيل. ويخاطب كلاً من الرجلين بلسان
غير اللسان الآخر شحاً على الأموال وحفظاً لها. وحكى القاضي أبو علي
التنوخي قال: اجتمعت مع أبي علي بن أبي عبد الله ابن الجصاص، فرأيت
شيخاً حسن المحاضرة، وحدثني قال: حدثني أبي قال: لما ولي أبو الحسن بن
الفرات إحدى وزاراته قصدني قصداً قبيحاً، وأطلق لسانه في ثالباً
متنقصاً، ورسم للعمال حط ضياعي ونقص معاملاتي، وأدام الغص مني والكسر
بجاهي، ووسطت بيني وبينه جماعةً من الناس، وبذلت له بذلاً في مثله ما
صلحت القلوب، فأقام على أمره، وأقمت على احتماله، إلى أن زاد الأمر،
وسمعت حاجبه يقول وقد وليت عنه: أي بيت مال يمشي على وجه الأرض؟ أي
ألفي ألف دينار مالها من يأخذها؟ فعلمت أن القول قول صاحبه، وأنني
منكوب على يده. وكان عندي في الوقت ما قدرته وقيمته سبعة آلاف دينار
مالاً وجوهراً سوى باقي المملوكات، فضاقت علي الدنيا، وأشفقت إشفاقاً
شديداً، وسهرت أكثر
(1/125)
ليلي مفكراً في تدبير أمري. ثم عن لي الرأي
آخر الليل إلى أن ركبت إلى ابن الفرات، فوجدت بابه مغلقاً لم يفتح بعد
فدققته. فقال البوابون: من الطارق؟ فقلت: ابن الجصاص. فقالوا: الوزير
نائم وما هذا وقت وصول. فقلت: عرفوا الحجاب أنني حضرت في مهم، فعرفوهم.
فخرج إلي أحدهم وقال: الساعة تنبه، تجلس ساعةً وتدخل. قلت: الأمر أهم
من ذلك. فدخل وعرفه ما قلته له. وخرج بعد ساعة وأدخلني من دار إلى أخرى
حتى وصلت إلى مرقده، وهو على سريره، وحواليه خمسون فراشاً كأنهم حفظة،
ووجدته مرتاعاً من قولي، وقد ظن حدوث حادثة، وأنني جئته برسالة
الخليفة. فلما رآني وقال لي: ما جاء بك في هذا الوقت؟ قلت: خير، وما
حدثت حادثة، ولا معي رسالة، وإنما حضرت في أمر يخص الوزير ويخصني، ولم
يجز إيراده إلا على خلوة تامة. فسكن ثم قال لمن كان حواليه: انصرفوا.
فمضوا وقال: هات. قلت: قصدتني أيها الوزير أعظم قصد، وشرعت في هلاكي
وزوال نعمتي من كل وجه، وليس من المهجة والنعمة عوض. ولعمري إنني قد
أسأت في خدمتك، وحرمت التوفيق في معاملتك، إلا أن في بعض هذه المقابلة
بلاغاً وكفاية، وما تركت باباً في صلاح قلبك إلا طرقته، ولا أمراً في
استعطاف رأيك إلا قصدته، ووسطت بيني وبينك فلاناً وفلاناً، وبذل لك كذا
وكذا، وأنت مقيم على أمرك في أذيتي، وما حيوان أضعف من السنور، وإذا
عاثت في دكان بقال ثم ملكها ولزمها ولزها إلى زواية ليخنقها وثبت عليه،
وخدشت وجهه، وخرقت ثيابه، وطلبت الخلاص بكل ما تقدر عليه، وقد وجدت
نفسي معك في هذه المنزلة، ورأيتها كالسنور التي هي على هذه الصورة. فإن
صلحت لي، وفعلت ما تقتضيه الفتوة
(1/126)
والمروءة معي، وإلا فعلي وعلي وحلفت له
أيماناً مغلظة لأقصدن الخليفة الساعة، ولأُحولن إليه ألفي ألف دينار
عيناً من خزانتي، فلا يصبح إلا وهي في يديه، وأنت تعلم قدرتي عليها،
ولأقولن له: خذ المال، واستوزر فلاناً، وسلم
ابن الفرات إليه. نعم، ولا أذكر له إلا من يقبله قلبه، ويكون فيه نفاذ
وحركة ولسان ومحرقة، ما يتعدى هذه الصفة أحد كتابك فيسلمك والله في
الحال حرصاً على المال، ويراني المتقلد بمنزلة من أعطى ماله في قضاء
حقه وبلوغ غرضه، فيخدمني ويتدبر بتدبيري، ويتسلمك فينتهي في مكروهك إلى
حد يستخرج به المال منك، ويرده علي، وحالك تحتمله، ولكنك تفتقر بعده،
فأكون قد حرست نفسي، وشفيت غيظي، وأهلكت عدوي واسترجعت مالي، وازددت
محلا بصرف وزير وتقليد وزير. فلما استوفى قولي سقط في يديه وقال: يا
عدو الله، أو تستحل ذلك مني؟ قلت: لست عدو الله، ولكني أستحل السعي على
من يريد هلاكي وإزالة نعمتي فقال: أو أي شيء؟ قلت: تحلف لي الساعة بما
أستحلفك به، على أن تكون معي لا علي، وأن تجريني على رسومي، وتحرس
ضياعي، وترفع مني، وتعتقد الجميل في ولا تسعى لي في سوء، ولا تمكن مني
أبداً ظاهراً أو باطناً، وتفعل كل ما تؤمنني به. فقال: وتحلف لي أيضاً
على إخلاص النية، واعتقاد الطاعة، واعتماد المؤازرة والمظاهرة. فقلت:
أفعل، وعملنا نسخة يمين حلف وحلفت بها على الشرائط المقدم ذكرها. وقال
لي بعد ذلك: لعنك الله فما أنت إلا إبليس، والله لقدر سحرتني وعظمت مع
ذلك في نفسي، وخففت ثقلاً عن قلبي، ولعمري إن المقتدر بالله لا يفرق
بين موقعي وغنائي وكفايتي، وبين أخس كتابي مع الطمع الحاضر والمال
المبذول، فليكن ما جرى منطوياً. فقلت: سبحان الله. فقال: إذا كان من غد
فادخل إلى مجلس العموم لترى ما أُعاملك به. فقمت وقال: يا غلمان، بين
يدي أبي عبد الله. فخرج بين يدي نحو مائتي غلام وعدت إلى داري. ولما
طلع الفجر جئته عند الإصباح، وقد جلس في المجلس العام، فرفعني على كل
من بحضرته، وقرظني تقريظاً كثيراً، ووصفني وصفاً جميلاً، حتى علم
الحاضرون صلاح رأيه، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي بصيانة ضياعي،
وإعزاز وكلائي، وإمضاء رسومي، ووقع إلى كتاب الدواوين بإبطال ما ثبت
فيها من الزيادة علي، وقص معاملاتي، فدعوت له وشكرته، وقمت، فقال: يا
غلمان، بين يديه. فخرج الحجاب يجرون سيوفهم، والناس يشاهدونهم، ورجع
جاهي واستقامت أموري. فما حدثت بذلك إلا بعد القبض عليه. قال القاضي
أبو علي: فقال لي أبو علي بن الجصاص عند استتمامه لهذا الحديث: فهل فعل
أبي ما فعله مما يليق بما يقال فيه ويحكى عنه؟ قلت: لا. قال: فكانت له
في تلك المقالات والحماقات المروية إن كانت حقاً أغراض غير معروفة. بن
الفرات إليه. نعم، ولا أذكر له إلا من يقبله قلبه، ويكون فيه نفاذ
وحركة ولسان ومحرقة، ما يتعدى هذه الصفة أحد كتابك فيسلمك والله في
الحال حرصاً على المال، ويراني المتقلد بمنزلة من أعطى ماله في قضاء
حقه وبلوغ غرضه، فيخدمني ويتدبر بتدبيري، ويتسلمك فينتهي في مكروهك إلى
حد يستخرج به المال منك، ويرده علي، وحالك تحتمله، ولكنك تفتقر بعده،
فأكون قد حرست نفسي، وشفيت غيظي، وأهلكت عدوي واسترجعت مالي، وازددت
محلا بصرف وزير وتقليد وزير. فلما استوفى قولي سقط في يديه وقال: يا
عدو الله، أو تستحل ذلك مني؟ قلت: لست عدو الله، ولكني أستحل السعي على
من يريد هلاكي وإزالة نعمتي فقال: أو أي شيء؟ قلت: تحلف لي الساعة بما
أستحلفك به، على أن تكون معي لا علي، وأن تجريني على رسومي، وتحرس
ضياعي، وترفع مني، وتعتقد الجميل في ولا تسعى لي في سوء، ولا تمكن مني
أبداً ظاهراً أو باطناً، وتفعل كل ما تؤمنني به. فقال: وتحلف لي أيضاً
على إخلاص النية، واعتقاد الطاعة، واعتماد المؤازرة والمظاهرة. فقلت:
أفعل، وعملنا نسخة يمين
(1/127)
حلف وحلفت بها على الشرائط المقدم ذكرها.
وقال لي بعد ذلك: لعنك الله فما أنت إلا إبليس، والله لقدر سحرتني
وعظمت مع ذلك في نفسي، وخففت ثقلاً عن قلبي، ولعمري إن المقتدر بالله
لا يفرق بين موقعي وغنائي وكفايتي، وبين أخس كتابي مع الطمع الحاضر
والمال المبذول، فليكن ما جرى منطوياً. فقلت: سبحان الله. فقال: إذا
كان من غد فادخل إلى مجلس العموم لترى ما أُعاملك به. فقمت وقال: يا
غلمان، بين يدي أبي عبد الله. فخرج بين يدي نحو مائتي غلام وعدت إلى
داري. ولما طلع الفجر جئته عند الإصباح، وقد جلس في المجلس العام،
فرفعني على كل من بحضرته، وقرظني تقريظاً كثيراً، ووصفني وصفاً جميلاً،
حتى علم الحاضرون صلاح رأيه، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي
بصيانة ضياعي، وإعزاز وكلائي، وإمضاء رسومي، ووقع إلى كتاب الدواوين
بإبطال ما ثبت فيها من الزيادة علي، وقص معاملاتي، فدعوت له وشكرته،
وقمت، فقال: يا غلمان، بين يديه. فخرج الحجاب يجرون سيوفهم، والناس
يشاهدونهم، ورجع جاهي واستقامت أموري. فما حدثت بذلك إلا بعد القبض
عليه. قال القاضي أبو علي: فقال لي أبو علي بن الجصاص عند استتمامه
لهذا الحديث: فهل فعل أبي ما فعله مما يليق بما يقال فيه ويحكى عنه؟
قلت: لا. قال: فكانت له في تلك المقالات والحماقات المروية إن كانت
حقاً أغراض غير معروفة.
(1/128)
وحدث أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش
القاضي: أن رجلاً اتصلت عطلته، وانقطعت مادته، فحمل نفسه على أن زور
كتاباً من أبي الحسن بن الفرات إلى أبي زنبور المادرائي عامل مصر في
معناه متضمناً للوصاة به، والتأكيد في الإقبال عليه، والإحسان إليه،
وخرج إليه فلقيه، وارتاب أبو زنبور بأمره لتغير الخطاب فيه عما يعهده،
وزيادة تأكيد على ما جرت به العادة في مثله، وأن الدعاء للرجل في
الكتاب أكثر مما يقتضيه محله. فراعاه مراعاةً قريبة، ووصله بصلة قليلة،
وارتبطه عنده على وعد وعده به، وكتب إلى ابن الفرات يذكر الكتاب الوارد
عليه، وأنفذه بعينه إليه، واستثبته. وقرأ ابن الفرات الكتاب المزور
فوجد فيه ذكر الرجل بأنه من أهل الحرمات به، والموات لديه، وما يقال في
ذلك، ويتبعه مما يعود بمعرفة حقه واعتماد نفعه. وعرضه على كتابه
وأصحابه، وعرفهم الصورة فيه، وتعجب منها وقال لهم: ما الرأي في أمر هذا
الرجل؟ فقال بعضهم: يؤدب بالضرب والحبس. وقال آخرون: تقطع إبهامه لئلا
يعاود مثل هذا التزوير. وقال أحسنهم محضراً: تكشف لأبي زنبور قصته
ويتقدم إليه بطرده وحرمانه مع بعد شقته. فقال لهم ابن الفرات: ما
أبعدكم من الخيرية: وأنفر طباعكم عن الحرية. رجل توسل بنا، وتحمل
المشقة إلى مصر في تأميل الصلاح بجاهنا، واستمداد صنع الله ورزقه
بالانتساب إلينا تكون، أحسن أحواله عند أجملكم محضراً تكذيب ظنه وتخييب
سعيه! والله لا كان هذا أبداً. ثم أخذ القلم ووقع بخطه على ظهر الكتاب
المزور: هذا كتابي، ولست أعرف لم أنكرت أمره واعترضتك شبهة فيه؟ وليس
كل من خدمنا وأوجب حقاً علينا عرفته. وهذا رجل تحرم بخدمتي، أيام
استتاري
(1/129)
ونكبتي، وما أعتقده فيه أكثر مما تضمنه
الكتاب من وصف ما عندي له. فأحسن تفقده، ووفره رفده، وصرفه فيما يعود
عليه نفعه، وتصل إليه فوائده. ورده إلى أبي زنبور من يومه. فلما مضت
مدة طويلة دخل على أبي الحسن بن الفرات رجل ذو هيئة وبزة جميلة، وأقبل
يدعو له ويثني عليه ويبكي ويقبل الأرض بين يديه، فقال ابن الفرات: من
أنت بارك الله عليك؟ وكانت هذه كلمته. قال: صاحب الكتاب المزور إلى أبي
زنبور الذي صححه كرم الوزير وتفضله، صنع الله به وصنع. فضحك ابن الفرات
وقال له: كم وصل إليك منه؟ قال: أوصل إلي من ماله وتقسيط قسطه وعمل
صرفني فيه عشرين ألف دينار. فقال ابن الفرات: الحمد لله، الزمنا فإنا
نعرضك لما يزداد به صلاح حالك. ثم اختبره وامتحنه فوجده كاتباً سديداً.
فاستخدمه وأكسبه مالاً جزيلاً.
وحدث أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي الكاتب
قال: حدثني غير واحد من كتاب الحضرة أن أبا أحمد العباس بن الحسن لما
مات المكتفي بالله جمع كتابه وخواصه وخلا بهم وشاورهم فيمن يقلده
الخلافة. فأجمعوا وأشاروا على العباس بعبد الله بن المعتز إلا أبا
الحسن بن الفرات فإنه أمسك. فقال له العباس: لم أمسكت ولم تورد ما
عندك؟ فقال: هو أيها الوزير موضع إمساك. قال: ولم؟ قال: إنه وجب أن
ينفرد الوزير أعزه الله بكل واحد منا فيعرف رأيه وما عنده. ثم يجمع
الآراء ويختار منها بصائب فكره وثاقب نظره ما شاء. فأما أن يقول كل
واحد رأيه بحضرة الباقين فربما كان عنده ما يسلك سبيل التقية في كتمانه
وطيه. قال: صدقت والله، قم معي، فأخذ يده ودخلا وتركا الباقين بمكانهم.
فقال له
(1/130)
ابن الفرات: قررت رأيك على ابن المعتز؟
قال: هو أكبر من يوجد. قال: وأي شيء تعمل برجل فاضل متأدب قد تحنك
وتدرب وعرف الأعمال ومعاملات السواد وموقع الرعية في الأموال، وخبر
المكاييل والأوزان وأسعار المأكولات والمستعملات، ومجاري الأمور
والمتصرفات، وحاسب وكلاءه على ما تولوه، وضايقهم وناقشهم، وعرف من
خياناتهم واقتطاعاتهم أسباب الخيانة والاقتطاع التي يدخل فيها غيرهم،
فكيف يتم لنا معه أمر إن حمل كبيراً على صغير، وقاس جليلاً على دقيق؟!
هذا لو كان ما بيننا وبينه عامراً وكان صدره علينا من الغيظ خالياً،
فكيف وأنت تعرف رأيه؟ قال العباس: وأي شيء في نفسه علينا؟ قال: أنسيت
أنه منذ ثلاثين سنة يكاتبك في حوائجه فلا تقضيها، ويسألك في معاملاته
فلا تمضيها، وعمالك يصفعون وكلاءه فلا تنكر، ويتوسل في الوصول إليك
ليلاً فلا تأذن، وكم رقعة جاءتك بنظم ونثر فلم تعبأ بها ولا أجبته إلى
مراده فيها. وكم قد جاءني منه ما هذه سبيله فلم أُراع فيه وصولاً إلى
ما يريد إيصاله إليه. وهل كان له شغل عند مقامه في منزله وخلوته بنفسه
إلا معرفة أحوالنا والمسألة عن ضياعنا وارتفاعنا وحسدنا على نعمتنا؟
هذا وهو يعتقد أن الأمر كان له ولأبيه وجده، وأنه مظلوم منذ قتل أبوه،
مهضوم مقصود مضغوط، فكيف يجوز أن نسلم إليه نفوسنا فنتحرس، فضلاً عن
أموالنا؟ فقال العباس: صدقت والله يا أبا الحسن، فمن يقلد وليس ها هنا
أحد؟! قال: تقلد جعفر بن المعتضد، فإنه صبي لا يدري أين هو، وعامة
سروره أن يصرف من المكتب، فكيف أن يجعل خليفة ويملك الأعمال والأموال
وتدبير النواحي
(1/131)
والرجال؟ ويكون الخليفة بالاسم وأنت هو على
الحقيقة، وإلى أن يكبر قد انغرست محبتك في صدره، وحصلت محصل المعتضد في
نفسه. قال: فكيف يجوز أن يبايع الناس صبياً أو يقيموه إماماً؟ فقال له:
أما الجواز، فمتى اعتقدت أنت أو نحن إمامة البالغين من هؤلاء القوم؟!
وأما إجابة الناس، فمتى فعل السلطان شيئاً فعورض فيه، أو أراد أمراً
فوقف؟ وأكثر من ترى صنائع المعتضد، وإذا أظهرت أنك اعتمدت في ذلك
مراعاة حقه، واقرار الأمر في ولده، وفرقت المال، وأطلقت البيعة، وقع
الرضا، وسقط الخلاف. وطريق ما تريده أن تواقف بعض أكابر القواد وعقلاء
الخدم على المضي إلى دار ابن طاهر وحمله إلى دار الخلافة، وأن تستر
الأمر إلى أن يتم التدبير، وإن اعتاص معتاص مد بالعطاء والإحسان. فقال
العباس: هذا هو الرأي. واستدعى في الحال مؤنساً مولى المعتضد، وأورد
عليه ما ذهب فيه إلى الجنس الذي أشار به أبو الحسن في الوفاء للمعتضد،
ورعاية ما كان منه في اصطناع الجماعة، ورسم له قصد دار ابن طاهر، وحمل
جعفر إلى دار الخلافة والسلام عليه بها. ففعل، وماج الجند ففرق فيهم
مال البيعة، ودخل عليهم من طريق الوفاء للمعتضد وتم التدبير. فلما زال
أمر العباس، وكان من قتله ما كان، وانتظمت الأمور بعد قتل ابن المعتز،
وتقلد أبو الحسن الوزارة، صارت ثمرة هذا الرأي له، وكان يقف بين يدي
المقتدر بالله وهو صبي قاعد على السرير، فيخاطب الناس والجيش عنه. فإذا
انصرفوا أمرت السيدة بأن يعدل بأبي الحسن إلى حجرة، فيجلس فيها، ويخرج
المقتدر فيقوم إليه فيقبل يده ورأسه، ثم يقعد ويقعده في حجره كما يفعل
الناس بأولادهم. وتقول له السيدة من وراء الباب: هذا يا أبا الحسن
ولدك، وأنت قلدته
(1/132)
الخلافة أولاً وثانياً. تعني ما تقدم من
مشورته على العباس به وبتقلده الخلافة، ومن بعد إزالة فتنة ابن
المعتز. فيقول ابن الفرات: هذا مولاي وإمامي ورب نعمتي وابن مولاي
وإمامي. وبقي على ذلك مدة وزارته الأولى، وتمكن أبو الحسن من الخزائن
والأموال وفعل ما شاء وأراد. ز. فيقول ابن الفرات: هذا مولاي وإمامي
ورب نعمتي وابن مولاي وإمامي. وبقي على ذلك مدة وزارته الأولى، وتمكن
أبو الحسن من الخزائن والأموال وفعل ما شاء وأراد.
قال أبو محمد الصلحي: قال لنا أبو علي بن مقلة، وقد جرى ذكر ابن
الفرات: يا قيوم، سمعتم بمن سرق عشر خطوات سبعمائة ألف دينار؟ قلنا:
كيف ذلك؟ قال: كنت بين يدي ابن الفرات في وزارته الأولى، ونحن في دار
الخلافة نقرر أرزاق الجيش، ونقيم وجوه مال البيعة، ونرتب إطلاقه، وذلك
عقيب فتنة ابن المعتز. فلما فرغ مما أراده، وخرج فركب طياره، وبلغ نهر
المعلي. فقال: إنا لله، إنا لله، قفوا. فوقف الملاحون. فقال لي وقع إلى
أبي خراسان صاحب بيت المال بحمل سبعمائة ألف دينار تضاف إلى مال البيعة
وتفرق على الرجال. فقلت في نفسي: أليس قد وجهنا وجوه المال كله؟ ما هذه
الزيادة؟ ووقعت بما رسمه، وعلم فيه بخطه، ودفعه إلى غلام وقال: لا تبرح
من بيت المال حتى تحمل هذا المال الساعة إلى داري. ثم سار. قال: فحمل
إليه بأسره، وسلم إلى خازنه، فعلمت أنه أُنسي أن يأخذ شيئاً لنفسه في
الوسط، ثم ذكر أنه باب لا يتفق مثله سريعاً، ويحتمل ما احتمله من هذا
الاقتطاع الكثير، فاستدرك من رأيه ما استدرك، وتنبه من فعله على ما
تنبه. وحدث أبو محمد الصلحي قال. حدثنا جماعة من كتاب أبي الحسن بن
الفرات وخواصه قالوا: عاد أبو الحسن من الموكب يوماً، فجلس بسواده
مغموماً يفكر فكراً
(1/133)
طويلاً. فشغل ما رأينا منه قلوبنا، وظنناه
لحادث حدث، فسألنا عن أمره، ودافعنا، وألححنا عليه، فحاجزنا، وقال: ما
ها هنا إلا خير وسلامة. فقام ابن جبير، وكان من بيننا متهوراً مدلاً.
فقال: تأمر أيها الوزير بأمر؟ قال: إلى أين؟ قال: أستتر وأستر عيالي،
وسبيل هؤلاء الذين بين يديك أن يفعلوا مثل فعلي. قال: ولم؟ قال: تعود
من دار الخلافة وأنت من الغم الظاهر في وجهك على هذه الصورة، ونسألك عن
أمرك فتكتمنا، ولم تجر عادتك بذلك معنا، هل وراء هذا إلا القبض والصرف؟
فقال له: اجلس يا أحمق حتى أُحدثك السبب. فجلس. وقال: ويحكم، قد علمتم
أنني أشكو إليكم نقصان هذا الرجل يعني المقتدر دائماً وشدة تلومه
واختلاف رأيه، وإنني أحب منذ مدة أن أزوره وأعرف قدر ذلك منه، وهل هو
في كل الأمور أو في بعضها، وفي صغارها أم في كبارها؟ فقلت له اليوم في
أمر رجل كبير ولم يسمه ابن الفرات: يا أمير المؤمنين إن فلاناً قد فسد
علينا، وليس مثله من أخرج عن أيدينا. وقد رأيت أن أُقلده كذا، واقطعه
وأُسوغه كذا وأكثر لتستخلصه بذلك، وتستخلص نيته، وتستديم طاعته، ولم
يجز أن أفعل أمراً إلا بعد مطالعتك، فما تأمر؟ قال: افعل. ثم حدثته
طويلاً وخرجت من أمر إلى آخر، وقرب وقت انصرافي فقلت له: يا مولانا،
عاودت الفكر في أمر فلان فوجدت ما نعطيه إياه مما استأذنت فيه كثيراً
مؤثراً في بيت المال، ولا نأمن أن يطمع نظراؤه في مثل ذلك، وإن أجبناهم
عظمت الكلفة، وإن منعناهم فسدوا، وقد رأيت رأياً آخر في أمره. قال: ما
هو؟ قلت: أن نقبض عليه ونأخذ نعمه ونخلده الحبس أبداً. قال: افعل.
فقلت: واويلاه كذا والله تجري حالي معه. يقال: إن ابن الفرات الكافي
(1/134)
الناصح، وهو وطأ لك الأمر، وأقامك في
الخلافة وهو.. وهو ... فيقول: نعم. ويقربني ويقدمني، ثم يقف غداً بين
يديه رجل فيقول: قد سرق ابن الفرات الأموال، ونهب الأعمال، وفعل وصنع.
والوجه أن يقبض عليه ويصرف ويقيد ويحبس، ويقلد وزير آخر. فيقول: نعم.
ويفعل ذلك بي. ثم يعاود ويقال له: لا يجوز أن يوحش ابن الفرات ويستبقى،
ولا يؤمن أن يستفسد ويترك، والصواب قتله، فيقول: افعلوا. فأهلك. قال:
واستشعر هذا فكان على ما قدره. وقد توارت هذه الحكاية عن جماعة عنه.
ومما ذكر عن ابن الفرات أنه كان يقول: تمشية أمور السلطان على الخطأ
خير من وقوفها على الصواب. ويقول أيضاً: إذا كانت لك حاجة إلى الوزير
فاستطعت أن تقضيها بخازن الديوان أو كاتب سره فافعل، ولا تبلغ إليه
فيها.
وحدث أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي قال: حدثني أبو علي بن مقلة قال:
كنت أكتب لأبي الحسن بن الفرات في التحرير أيام خلافته أبا العباس أخاه
على ديوان السواد بجاري عشرة دنانير في كل شهر، ثم تقدمت حاله فأرزقني
ثلاثين ديناراً في كل شهر، فلما تقلد الوزارة جعل رزقي خمسمائة دينار
في الشهر، ثم أمر بقبض ما في دور القوم الذين بايعوا ابن المعتز. فحمل
في الجملة صندوقان، فسألك هل علمتم ما فيهما؟ قالوا: نعم. جرائد بأسماء
من يعاديك ويدبر في زوال أمرك. فقال: لا يفتحان. ثم دعا بنار، دعاءً
كرره وصاح فيه، وأحضرها الفراشون
(1/135)
فأججت. وتقدم بطرحهما في النار على ما هما
فلما أحرقت أقبل على من كان حاضراً وقال: والله لو فتحتها وقرأت ما
فيها لفسدت نيات الناس كلهم علينا، واستشعر الخوف منا، ومع فعلنا ما
فعلناه طوينا الأمور بهذا، فهدأت القلوب واطمأنت النفوس. ثم قال لي
يقول هذا أبو علي بن مقلة: قد آمن الله والخليفة أعزه الله كل من بايع
ابن المعتز، فاكتب الأمانات للناس جميعاً وجئني بها لأوقع فيها، ولا
ترد أحداً عن أمان يطلبه، فقد أفردتك لذلك، لأنه باب مكسب كبير. وقال
لمن حضر: أشيعوا قولي وتحدثوا به بين الخاص والعام ليأنس المستوحش،
ويأمن المستتر. قال أبو علي: فحصل لي في كتب الأمانات مائة ألف دينار
أو نحوها. وحدث محدث أن التزويرات كثرت على أبي الحسن علي بن عيسى عند
صرفه وتقلد أبي الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة، وزاد الأمر فيها:
فوقع ابن الفرات إلى أصحاب الدواوين توقيعاً نسخته: قد نسخ لكم أكرمكم
الله آخر هذا التوقيع كتاب ورد من أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فيما
انتهى إليه من حال توقيعات في أيدي الناس بخط علي بن عيسى، بزيادات
ونقل وفك وإثبات، فأمر أعلى الله أمره بترك إمضاء شيء منها، فانتسخوا
هذا التوقيع في مجالسكم، وامتثلوا ما أمر به فيه، ولا تنفذوا توقيعاً
من علي بن عيسى بحطيطة وتسويغ واحتمال أو نقل جار، وتحروا من ايقاع
حيلة في ذلك أو في شيء منه إن شاء الله. ونسخة كتاب المقتدر بالله في
آخره: أمتعني الله بك وبالنعمة عندك، انتهى في الخبر حال توقيعات كثيرة
زورت
(1/136)
على أنها بخط علي بن عيسى، وظهرت في
الدواوين بزيادات لقوم في أرزاقهم، فرأيت ألا تمضي يا أبا الحسن أمتعني
الله بك توقيعاً من علي بن عيسى في زيادة ولا نقل ولا إثبات ولا في شيء
يجري هذا المجرى إلا ما كتبت به جامعاً حتى إذا اجتمعت عندك الجوامع،
عرضت علي في كل ثلاثة أشهر ما يجتمع منها لأقف عليه وآمر برأي فيه.
فاعمل متعني الله بك بذلك، ولا تخالفه، وعرفني امتثالك إياه إن شاء
الله.
وحدث أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن الحسن بن عبد الأعلى قال: كنت
بحضرة أبي الحسن بن الفرات في وزارته الأولى، وهو جالس يعمل، إذ رفع
رأسه، وترك العمل من يده، وقال: أريد رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم
الآخر يطيعني حق الطاعة فأُنفذه في مهم لي، فإذا بلغ فيه ما أرسمه له
أحسنت إليه إحساناً يظهر عليه وأغنيته. فأمسك من حضر. ووثب رجل يكنى
بأبي منصور أخ لابن أبي شبيب حاجب ابن الفرات فقال: أنا أيها الوزير.
قال: وتفعل؟ قال: أفعل وأزيد. قال: كم ترتزق؟ قال: أرتزق مائةً وعشرين
ديناراً. قال: وقعوا له بالضعف. وقال: سل حوائجك. فسأله أشياء أجابه
إليها، فلما فرغ من ذلك قال: خذ توقيعي وامض إلى ديوان الخراج، وأوصله
إلى كاتبي الجماعة وطالبهما بإخراج ما على محمد بن جعفر بن الحجاج،
وطالبه بأداء المال، وأتلفه إلى أن يستخرج جميعه، ولا تسمح له حجة، ولا
تمهله البتة. فخرج وأخذ من رجالة الباب ثلاثين رجلاً، فقلت: لأخرجن
وأمضين إلى الديوان حتى أنظر ما يؤول إليه الحال. فخرجت، وصرت إلى
الديوان وهو في الدار المعروفة بفتح القلانسي فدخل أبو منصور هذا إلى
الصقر بن محمد،
(1/137)
وعبيد الله بن محمد الكلوذاني، وهما صاحبا
المجلس شركةً، فلم يجد الكلوذاني ووجد الصقر بن محمد، فأوصل إليه
التوقيع وقال له: أخرج ما على ابن الحجاج. فقال: عليه من باب واحد ألف
ألف درهم، نطالبه بذلك إلى أن تفرغ بالعمل بسائر ما يلزمه وكان محمد بن
جعفر من عمال أبي الحسن علي بن عيسى. قال: فأحضر ابن الحجاج وشتمه
وافترى عليه، وابن الحجاج يستعطفه ويخضع له. ثم أمر بتجريده وإيقاع
المكروه به فأُوقع، وهو في ذلك كله يقول: يكفي الله. ثم أمر أبو منصور
بنصب ذقل، فنصب، وجعل في رأسه بكرة فيها حبل، وشدت فيه يد ابن الحجاج،
ورفع إلى أعلى الدقل، وهو يستغيث ويقول: يكفي الله. فما زال معلقاً
وأبو منصور يقول له: المال المال. وهو يسأله حطه وإنظاره إلى أن يواقف
الكتاب على ما اخرج عليه، وهو لا يسمع فعله. فلما ضجر قال لمن يمسك
الحبال: أرسلوا ابن الفاعلة وعنده أنهم يتوقفون ولا يفعلون. فأرسلوه
لما رأوه عليه من الحدة والغضب. ووافى ابن الحجاج إلى الأرض، وكان
بديناً سميناً، فوقع على عتق أبي منصور فدقها، وخر على وجهه، وسقط ابن
الحجاج مغشياً عليه. فحمل أبو منصور إلى منزله في محمل فمات في الطريق،
ورد ابن الحجاج إلى محبسه وقد تخلص من التلف. وعجب من حضر مما رأى.
وكتب صاحب الخبر بالصورة إلى ابن الفرات، فورد عليه منها أعظم مورد.
وبكرت عرفان زوجة ابن الحجاج إلى موسى بن خلف حتى
(1/138)
أوصلها إلى ابن الفرات، فقررت أمره على
مائة ألف دينار سلمت ببعضها جعدة وقراها من طسوج كوثي، ونجم الباقي،
وأطلق ابن الحجاج. وكان الناس يعجبون من قول ابن الفرات: أريد رجلاً لا
يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يطيعني.
وحدث محمد بن عبيد الله بن جعفر بن الحسن بن الجنيد قال: حضرت أبا
العباس أحمد بن محمد بن بعد شر، وبين يديه أبو الحسن بن الفرات في
المكروه. وهو يقول: يا قوم بمن أسأت؟ ولمن ضربت؟ فقال له: فمن قتل
حامداً والنعمان وابن الحواري؟ فقال: ما خرج حامد من داري إلا صحيحاً،
ولقد كنت أُطعمه من طعامي، وأسقيه من شرابي، وأُلبسه من ثيابي، وأبخره
من بخوري. وأما النعمان فذكر ما لست أعرفه في أمره. فأما ابن الحواري
فسلوا هذا الفتى يعني المحسن عنه، فلعله يورد حجةً أو يظهر خطوطاً تبرئ
ساحته منه. وأنا قلت للخليفة: قد أطلقت يد هذا الغلام في مطالبة الناس،
وقد تخطى إلى ما فيه وهن على المملكة، فأمرني بترك الاعتراض عليه.
وحدث أبو عمرو بن الجمل النصراني كاتب شفيع اللؤلؤي قال: لما قبض على
أبي الحسن بن الفرات في الدفعة الثالثة من وزارته امتنع القواد من
اعتقاله في دار الخلافة إشفاقاً من أن يراسل المقتدر بالله ويستعطفه
ويستميله ويحتال عليه ويخدعه، واستقر الأمر على تسليمه إلى شفيع
اللؤلؤي، فلما حمل إلى داره وصعد الدرجة من شاطئ دجلة لم يمسك أحد
بيده، فجعل يعلق بالدرج ويصعد. ثم أقبل على شفيع
(1/139)
وأنا حاضر فقال: يا أبا الغصن، ما هكذا
عاملت غيري؟ فقال له: كان غيرك أتقى لله منك يعني أبا الحسن علي بن
عيسى قال: فأفرده شفيع بحبس له، ودعا طباخه سراً وقال له: استزد فإن
ابن الفرات ملك، فاستزاد له، وفرغ من الطعام. فقال لي شفيع: ادخل إليه
واعرض عليه الطعام، فدخلت وآذنته فقال:
على كلّ حال يأكل القوم زادهم ... على البؤس والنعماء والحدثان
هات الطعام. فقدم إليه، فأكل أكلاً مستوفىً منه، وسقي ماء مثلوجاً، فلم
يستبرده، فاستزاد من الثلج حتى صار مائعاً، ثم شربه، وقال لي: من قلد
الوزارة؟ قلت: أبو القاسم الخاقاني. قال: نكب السلطان لا أنا. فمن قلد
ديوان السواد؟ قلت: أبو الفرج بن حفص. فتبسم وعجب وقال: رمي بحجره. فمن
تقلد الدواوين الباقية؟ قلت: تقلد المالكي ديوان المغرب، والمصري ديوان
المشرق، وابن هبنتي القنائي دواوين بيت المال والخاصة والمستحدثة
وضياعك، وعبد الوهاب الخاقاني الأزمة، وصلح ديوان النفقات. فقال: لقد
أُيد الوزير أعزه الله بالكفاة. ثم قال لي: أريد الاجتماع مع أبي
الغصن. فقلت. هو نائم. فقال أنبهه وعرفه أن بيننا مهماً أريد مجاراته
إياه. فأنبهته وعرفته ما قال. فقال: ما أُحب لقاءه، ولكن تعرف ما عنده،
فعدت إليه واعتذرت وسألته عما يريد. فقال: قل له عرف أمير المؤمنين
أيده الله عني أنني لا أدع نصحاً والياً ومنكوباً، وأنني حاسبت هارون
بن عمران الجهبذ البارحة محاسبةً تولاها هشام صاحب بيت المال، فكان
الباقي عنده من أموال المصادرين مائة ألف وخمسةً وخمسين ألف دينار
ومائتين ذكرها ابن الفرات وربما عدل بها الخاقاني
(1/140)
عن بيت مال الخاصة وادعى أنه أثارها
واستراح إلى تمشية أمره بها، وهي لأمير المؤمنين خاصةً. وكتب شفيع إلى
المقتدر بالله بذلك عنه، ونفذ بالرقعة مع قيصر خليفته. فعاد جواب
المقتدر بالله بخطه إلى شفيع بأن يبادر بنفسه إلى دار الخاقاني ويقبض
على هارون بن عمران، ويأخذ المال من يده، ولا يمكن الخاقاني منه. ففعل
شفيع ذلك، والخاقاني لم يعلم بعد بما عند هارون الجهبذ. وكانت هذه
الحال من أول ما حير به الخاقاني وأدهشه، وحمل المال إلى بيت مال
الخاصة وصحح فيه.
وحدث أبو علي عبد الرحمن بن عيسى قال: حدثني أبو الحسن سعيد ابن سنجلا
الكاتب. قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن إسماعيل زنجي الكاتب قال: كنت
بحضرة أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات في وزارته الأخيرة، وقد رسم لي
كتب كتاب عنه في مهم من أمور السلطان، فأنا متشاغل به، وقد شاع أمر
مؤنس ونفوذ الكتاب إليه وهو بالرقة في الورود إلى الحضرة، وابن الفرات
شديد الإشفاق من القصة حتى استؤذن لأبي الهواء نسيم الخادم، وهو من
خواص الخدم وجلتهم ودخل، فلما جلس أومى إلى التخلي لتأديه رسالة، فنهض
من كان في المجلس وبقيت وحدي مقشعراً من الجلوس، وأخذوا في السرار
والخطاب، وأكمشت على ما في يدي من الكتاب حتى فرغت ثم قمت. فقال لي:
اجلس. فجلست وأظهر ابن الفرات ما كان يسره ثم قال: بيننا يا أبا الهواء
حقوق تلزمك أن تراعيها. وأنت قليل التراسل فيما بيني وبين السادة،
وأريد أن أُحملك رسالة
(1/141)
تؤديها كما أقولها. فقال: أيها الوزير. إن
كانت جميلة فعلت، وإن كان فيها غلظة فليس في عادتي إلا إعادة ما يحسن.
فقال: لا بد من أن توردها على حالها وتتحمل لي ما في ذاك من مشقة.
وقال: تقول للسادة: أنتم تعلمون ما كان مني في ابتداء هذا الأمر، فإن
الخاص والعام اعتزلوكم جانباً، وأفرجوا عنكم إفراجاً كلياً غيري، فإنني
أقمت على طاعتكم، وتفردت بنصرتكم، وكان غاية أملي وتقديري المقام على
ما كنت عليه أتولاه من ديوان السواد، لا تشره نفسي إلى غيره ولا يدور
في فكري تجاوزه، فأخذتموني بتقلد هذا الأمر والقيام به، ولم تفارقوني
حتى أجبت إليه، وجددت في الأمر إلى أن انعقد وتوكد، وعاديت كل أحد في
رضاكم حتى استوسقت لكم الأمور، وتكامل في حياطة دولتكم التدبير، وفتحت
لكم فارس وما يليها، ووفرت عليكم الأموال ومرافقها، وكددت ديني ودنياي
فيها، فلما قام لكم الأمر وعلا مناره واستحصفت لكم الطاعة ممن بعدت
ودنت داره، نكبتموني فهتكت حرمتي وسلبت نعمتي وقبضت ضيعتي؛ ثم
أعدتموني، فما حلت عما عهدتموه مني، ولا فارقت ما كنتم تحمدونه وتصفونه
عني. ثم أوقعتم بي إيقاعاً ثانياً، فاستوعبتم بقية النعمة، وأتيتم على
الأصل والتتمة، وجذبتموني إلى هذه الدفعة الثالثة، فقد علمتم ما كان
مني في استخراج الأموال، وإصلاح الأحوال، والاستقصاء على جميع من خدمكم
من الكتاب والعمال. ووالله لا لحقني مكروه في هذه الدفعة في
(1/142)
نفس أو ولد ولا حال إلا ولحقكم مثله، وإن
تمادى أمده، من الله تعالى جده، فاعملوا ما بدا لكم. وما زال يكرر هذا
وأشباهه حتى عرفه نسيم ووعاه وانصرف. وألقى ابن الفرات ذقنه على صدره
ولحيته ساعةً ثم رفع رأسه فقال: سمعت ما كنا فيه؟ فقلت: نعم. وما كان
لما جرى وجه، والقوم مكنوك واستناموا إليك في هذه الدفعة زيادةً على ما
تقدمها. فقال: دعني من هذا يا أبا عبد الله، فوالله ليصحن ما قلت.
وأُخبرك في هذا المعنى بخبر طريف جرى بين وبين أبي الحسن علي ابن عيسى،
ما لهوت عنه إلا في هذه الدفعة، فإنه يتصور لي في النوم واليقظة،
ويعترضني في الشغل والخلوة، وأنا أخبرك به: لما بلغ المكتفي بالله آخر
أمره، كان العباس بن الحسن يجلس في كل يوم آخر النهار، فإذا فرغ من
العمل جارانا خبر المكتفي بالله وعلته، وآيسنا من عافيته، وشاورنا فيمن
يقوم بالأمر بعده، فلا يستقر الرأي على شيء يعتمده، إلى أن تكامل اليأس
منه. فنحن في بعض العشايا عنده، وقد أردنا النهوض حتى قال: قد انقضى
أمر الخليفة، وما نفترق إلا بعد تقرر الرأي على من يقعد مقعده، فما
عندكم؟ فقال أبو عبد الله محمد بن داود: الله الله أيها الوزير أن نعدل
عمن يقوم بهذا الأمر ونلزمه خيره وشره ونتصرف على أمره ونهيه. ونحو هذا
الكلام. فقال لعلي بن عيسى: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: الله الله
أيها الوزير في الإسلام، نحن جميعاً صنائع المعتضد بالله رحمة الله
عليه ثم هذا الخليفة، ولكنه أمر الدين فقلد هذا شيخاً قد فهم الأمور
وعرف بصواب الرأي والتدبير بعمارة هذه الثغور وحج البيت المعمور، ويقيم
الحدود، ومن إذا قلت:
(1/143)
أمير المؤمنين، صدق قولك الصغير والكبير.
قال ابن الفرات: فعارضت قوله بأن قلت للعباس: قلد أيها الوزير الأمر من
يكون في حجرك، ويتدبر برأيك، فتسلم نعمتك ونعمتنا معك. فقال العباس:
رأيي لرأيك تبع يا أبا الحسن. ونهض وانصرفنا. فلما حصلنا في
بعض الممرات قبض أبو الحسن علي بن عيسى على يدي وقال: بيننا شيء. فوقفت
معه، وابتدأ يحلف يميناً أغرق فيها وأبلغ على أنه ما أراد بقوله ورأيه
غير الله عز ذكره وإعزاز دينه وإصلاح شؤونه. ثم حلف على أني ما أردت
أنا الله بما قلته وأشرت به، وقال: كيف استجزت أن تجيء إلى رجل معروف
يعني العباس فتساعده على ما يسخط الله به، ويبعد من الحق، ويزيده
تسلطاً وجرأة على الظلم؟! فقلت: لا والله يا أبا الحسن أعزك الله ما
نعمل إلا للدنيا، وإن جاء من يعرف أسعار الخبز واللحم لم نأمنه على
نفوسنا ونعمنا. قال: فقال لي مجيباً: والله لئن تم الأمر على هذا
وانتظم لا بلي بالمحنة فيه غيرك، فانظر لنفسك أو دع. فمضى ما مضى بما
فيه، وصليت بما صليت به منه، ويوشك أن يصح قول أبي لحسن علي بن عيسى
ولا يبعد، لأن من أراد الله كان الله معه، ومن أراد غيره خذله، فما
يخلو فكري من قوله وخاصةً في هذه الدفعة، ونسأل الله حسن العاقبة. وحدث
هارون بن إبراهيم النصراني الكاتب قال: حضرت مجلس القاسم ابن عبيد الله
في بعض الأيام، وبين يديه كتاب الدواوين، إذ خرج إليه توقيع من المكتفي
بالله يعرفه فيه ما عزم عليه من الخروج إلى سر من رأى للتصيد، ويرسم له
إنفاذ من يصلح الطرق وإعداد العلوفة والمير وما تدعو إليه الحاجة
للعكسر. فرمى به إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، لأنه مما كان
يجري في ديوانه، وقال له: اكتب في هذا المعنى بما يؤكده، وأضف إليه
منشوراً لتستحث المطالبة والإعجال، ومشاهدة ما يجري عليه الحال. فقال:
نعم أعز الله الوزير وجعل التوقيع تحت فخذه، وطلب دواةً، فحضرت وتركت
بين يديه، وأخذ يكرر النظر في كتب قد أخرجت إليه متعلقة بديوانه، ومضت
ساعة. فقال له القاسم: كتبت الكتب؟ قال: نعم. والتفت فقال: ادعوا
زنجياً الكاتب لينشئ نسخ ذلك ويحررها فإنه أعرف برسوم المناشير، فضحك
القاسم بن عبيد الله ثم أقبل علي أبي عبد الله محمد بن داود بن الجراح
فقال: الأمر يا أبا عبد الله مهم لا يحتمل التأخير، ومنشئ أبي الحسن
غير حاضر، ولعله يحتبس. وقال لابن الفرات: ادفع إليه التوقيع ليكتب في
المعنى بما يتضمن. قال: فأخذ أبو عبد الله التوقيع وكتب سريعاً بأبلغ
عبارة وأشد استيفاء ووصاة. وخجل ابن الفرات. ولم تكن كتابته مقصرة ولا
بلاغته متأخرة، ولكن يده كانت تخونه وتقعد به. ض الممرات قبض أبو الحسن
علي بن عيسى على يدي وقال: بيننا شيء. فوقفت معه، وابتدأ يحلف يميناً
أغرق فيها وأبلغ على أنه ما أراد بقوله ورأيه غير الله عز ذكره وإعزاز
دينه وإصلاح شؤونه. ثم حلف على أني ما أردت أنا الله بما قلته وأشرت
به، وقال: كيف استجزت أن تجيء إلى رجل معروف يعني العباس فتساعده على
ما يسخط الله به، ويبعد من الحق، ويزيده تسلطاً وجرأة على الظلم؟!
فقلت: لا والله يا أبا الحسن أعزك الله ما نعمل إلا للدنيا، وإن جاء من
يعرف أسعار الخبز واللحم لم نأمنه على نفوسنا ونعمنا. قال: فقال لي
مجيباً: والله لئن تم الأمر على هذا وانتظم لا بلي بالمحنة فيه غيرك،
فانظر لنفسك أو دع. فمضى ما مضى بما فيه، وصليت بما صليت به منه، ويوشك
أن يصح قول أبي لحسن علي بن عيسى ولا يبعد، لأن من أراد الله كان الله
معه، ومن أراد غيره خذله، فما يخلو فكري من قوله وخاصةً في هذه الدفعة،
ونسأل الله حسن العاقبة. وحدث هارون بن إبراهيم النصراني الكاتب قال:
حضرت مجلس القاسم ابن عبيد الله في بعض الأيام، وبين يديه كتاب
الدواوين، إذ خرج إليه توقيع من المكتفي بالله يعرفه فيه ما عزم عليه
من الخروج إلى سر من رأى للتصيد، ويرسم له إنفاذ من يصلح الطرق وإعداد
العلوفة والمير وما تدعو إليه الحاجة
(1/144)
للعكسر. فرمى به إلى أبي الحسن علي بن محمد
بن الفرات، لأنه مما كان يجري في ديوانه، وقال له: اكتب في هذا المعنى
بما يؤكده، وأضف إليه منشوراً لتستحث المطالبة والإعجال، ومشاهدة ما
يجري عليه الحال. فقال: نعم أعز الله الوزير وجعل التوقيع تحت فخذه،
وطلب دواةً، فحضرت وتركت بين يديه، وأخذ يكرر النظر في كتب قد أخرجت
إليه متعلقة بديوانه، ومضت ساعة. فقال له القاسم: كتبت الكتب؟ قال:
نعم. والتفت فقال: ادعوا زنجياً الكاتب لينشئ نسخ ذلك ويحررها فإنه
أعرف برسوم المناشير، فضحك القاسم بن عبيد الله ثم أقبل علي أبي عبد
الله محمد بن داود بن الجراح فقال: الأمر يا أبا عبد الله مهم لا يحتمل
التأخير، ومنشئ أبي الحسن غير حاضر، ولعله يحتبس. وقال لابن الفرات:
ادفع إليه التوقيع ليكتب في المعنى بما يتضمن. قال: فأخذ أبو عبد الله
التوقيع وكتب سريعاً بأبلغ عبارة وأشد استيفاء ووصاة. وخجل ابن الفرات.
ولم تكن كتابته مقصرة ولا بلاغته متأخرة، ولكن يده كانت تخونه وتقعد
به.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: سمعت بعض شيوخ الكتاب يقول: كان أبو
الحسن علي بن عيسى معظماً لصناعة الكتابة، محافظاً على مكانه منها،
متحذراً من عيب يلحقه فيها، وكانت المنافسة واقعة بين أبي الحسن بن
الفرات وبينه في الأعمال والمنازل والكتابة والصناعة، فاتفق أن عمل علي
بن عيسى مؤامرة لعامل يعنى به أبو الحسن بن الفرات، وأخرج عليه فيها
مائة ألف دينار، واعتقد مواقفته عليها وإلزامه إياها. ثم أحضره وأراه
المؤامرة وقال له: قف عليها واذكر ما عندك في كل باب منها، فإن كانت لك
فيه حجة تسقطه وإلا التزمته وأديته. فقال: أريد أن أقرأها قراءة تأمل،
وأنظر فيها نظر تصفح، وما يكون ذلك إلا
(1/145)
في منزلي عند خلوتي بنفسي. فقال: خذها.
فأخذها وجاء إلى أبي الحسن بن الفرات، فشرح له صورته، وسأله النظر في
المؤامرة، وتلقينه الجواب عن كل باب منها. فقرأها ابن الفرات وقال
للعامل: لولا أن علي بن عيسى قد سها فيها سهواً ظاهراً ربما خلصك لما
سقط عنك درهم واحد مما أخرج عليك، وذلك أنه صدر المؤامرة بباب خرج عليك
فيه فضل الكيل في غلات ناحيتك، وأنك لم تورده، وحصل عليك صدراً كبيراً
من المال عنه، ثم ذكر بعد ذلك في باب آخر أنك اقتطعت من غلات المقاسمة
ما لم تورده، وأقام الشاهد عليك فيه، وألزمك مالاً جزيلاً عنه. وقد كان
من قانون الكتابة أن يبتدئ بذكر الاقتطاع من أصول الغلة. ثم يجعل فضل
الكيل مؤخراً، فإذا صدر فضل الكيل فقد صح به الأصول، وهذا غلط فاحش
وخطأ ظاهر غير محيل، والصواب أن تمضي إليه وتخلو به وتقول له: محلك في
الصناعة لا يقتضي ما فعلته في هذه المؤامرة، وقد سهوت فيها سهواً
قبيحاً وهو كذا وكذا، وأنا معك بين أمرين، إما أن أكشف للناس خطأك
فعليك فيه ما تعرفه، وليس يكون ما يلحقك من القباحة بأقل مما تتناولني
به من النكبة، وإما أن تفضلت بطي هذا الأمر وستره وإبطال المؤامرة
والإمساك عنها ولك من ذلك مرفق أحمله إليك. فإن إشفاقه على جاهه،
وكراهته ما يقدح في صناعته، ورغبته في المرفق، يحمله على إبطال
المؤامرة. قال العامل: فمضيت سحراً إلى داره، فلما رآني قال: ما عملت
في المؤامرة؟ فقلت له: بيننا شيء أقوله سراً، ودنوت إليه فقال: ما هو؟
فأوردت عليه ما كان ابن الفرات علمنيه، ونشرت المؤامرة ووقفته على
المواضع، فحين شاهدها وتأملها وجم
(1/146)
وجوماً شديداً وقال: يا هذا، قد وفر الله
عليك المرفق، وأسقط عنك المؤامرة، فإن أكبر الأمور عندي في هذه القصة
أن وقفت على غلطي وتيقظت مستأنفاً من مثله، والله بيني وبين ابن
الفرات، فإن هذا من تعريفه وتوقيفه وإلا فلست ممن يتنبه على ما هذه
سبيله. ونهضت من عنده وقد كفيت الأمر، وزالت عني المؤونة والمطالبة،
وربحت المرفق الذي كنت على التزامه، وعدت إلى أبي الحسن بن الفرات،
وحدثته بالحديث فضحك.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق قال:
لما حمل علي بن عيسى إلى ابن الفرات في وزارته الثالثة رآه ابن الفرات
وهو مقبل إليه فبدأ يكتب كتاباً، وجاء علي بن عيسى وهو كالميت خوفاً
وجزعاً، فوقف قائماً وابن الفرات يكتب، وعند علي بن عيسى والحاضرين أنه
لم يره، وبقي واقفاً نحو ساعة إلى أن فرغ ابن الفرات من كتابته، ثم رفع
رأسه وقال: اقعد بارك الله عليك. فأكب علي ابن عيسى عليه يقبل يده
ويقول: أنا عبد الوزير وخادمه وصنيعته القديم، وصنيعة أبي العباس أخيه
رحمه الله تعالى، ومن لا يعرف صاحباً ولا أستاذاً غيره. فقال: هو كذلك
وأنت فيه صادق، وإني لأرعى لك حق خدمتك القديمة لي ولأخي رحمه الله،
وما عليك بأس في نفسك، ولولا طاعة السلطان ما أفسدت صنيعتنا عندك. وقرر
عليه من المصادرة ما قرره، وعمل المحسن بن علي بن الفرات على قتل علي
بن عيسى، فلم يدعه أبوه. واستقر الأمر على نفسه وإبعاده عن الحضرة،
واختار هو الخروج إلى مكة وأظهر أنه يريد الحج والمجاورة. وخرج بعد أن
ضم
(1/147)
إليه موكلون، ووصاهم المحسن بسمه في الطريق
إن تمكنوا أو قتله بمكة، وعرف علي بن عيسى ذلك فتحرر في مأكله ومشربه.
ووصل إلى مكة رجل يعرف بأحمد بن موسى الرازي، وكان داهيةً ذا مكر وخبث،
وقد اصطنعه علي بن عيسى في وزارته، وقلده القضاء هناك. فلما اجتمع علي
بن عيسى معه حدثه بحديثه، وسأله إعمال الحيلة في تخليصه وحراسة نفسه،
فتلطف في ذلك بأن وضع أهل البلد وقد كانوا قدموه وأطاعوه على أن
اجتمعوا وثاروا بالموكلين، وخاف أن يجري ما يلحقه فيه إثم وإنكار من
السلطان، فطرح نفسه عليهم حتى خلصهم وأخرجهم ليلاً إلى بغداد، بعد أن
أعطاهم نفقةً. وأقام بمكة. وقد كان أبو العباس أحمد ابن محمد بن الفرات
في خلافته عبيد الله بن سليمان على الأمور عمل ديواناً سماه ديوان
الدار، وجمع إليه سائر الأعمال ودبره بنفسه وكتابه، واستناب أخاه أبا
الحسن علي بن عيسى، وأبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح عمه، فكانا
يجلسان بحضرة أبي الحسن، ويأمرهما وينهاهما، ويسميانه أُستاذنا، على
رسم أصحاب الدواوين إذ ذاك. وجرى الأمر على هذا الترتيب إلى أن عزم
المعتضد بالله على إخراج المكتفي بالله إلى الجبل، ومعه عبيد الله بن
سليمان، والخروج بنفسه إلى آمد والثغور، ومعه القاسم بن عبيد الله،
فقال عبيد الله لأبي العباس بن الفرات: أريد كاتباً يصحبني ويتصفح
أعمال كل بلد نفتحه ويقرر معاملاته على ما يدل عليه الديوان القديم من
رسومه. فقال: ذلك محمد بن داود. وإليه من ديوان الدار مجلس ما فتح من
(1/148)
أعمال المشرق، وفيه الحسبانات العتيقة.
وقال القاسم: وأنا أريد آخر يكون معي إلى المغرب. فقال: يكون علي بن
عيسى.
وخرج محمد بن داود علي بن عيسى في جملة عبيد الله والقاسم. فنفق محمد
على عبيد الله وقرب منه واختص به، ورأى من فضله وصناعته ما أعجبه،
وانتهى أمره معه إلى أن زوجه عبيد الله بنته، وانتزع مجلس المشرق من
ديوان الدار وجعله ديواناً مفرداً وقلده محمد بن داود رئاسةً. وحصلت
لعلي بن عيسى حرمة بالقاسم، وشاهد من كفايته وسداده وكتابته ونفاذه ما
عظم به في عينه، فقدمه وتوفر عليه. وفعل مثل فعل أبيه مع محمد بن داود
في انتزاع مجلس المغرب من ديوان الدار وتقليده علي بن عيسى رئاسة، ولم
يجعلا لأبي العباس بن الفرات بعد ذلك عليهما يداً. وكان قول علي بن
عيسى لابن الفرات ما قاله من أنني عبدك وصنيعتك وعبد وصنيعة أبي العباس
أخيك. وقبول ابن الفرات ذلك منه وتصديقه إياه فيه، على هذا الأصل. وحدث
أبو علي عبد الرحمن بن عيسى قال: كان أخي أبو إسحاق إبراهيم ابن عيسى
يتقلد أعمال الزاب الأعلى في أيام عبيد الله بن سليمان خلافةً لأبي
الحسن علي بن عيسى ثم رئاسةً، فصرفه بمحمد بن محمد بن حمدون بن سليمان
الواسطي عنها، قال: فحدثني ابن حمدون هذا قال: أحضرني أبو العباس أحمد
بن محمد بن الفرات فقال لي: قد صرفت إبراهيم بن عيسى بك، وأريد أن
تعتقله وتضيق عليه. واتفق أن حضر أبو عبد الله محمد بن داود مسلماً
عليه، وقد عرف
(1/149)
الخبر، فقال له: تتقدم أعزك الله إليه في
إمضاء مقاطعتي وإجمال معاملتي. قال: فقال لي ابن الفرات: أبو عبد الله
من قد عرفت محله من الوزير أبي القاسم ومنا، فاعمل تصنيعته في جميع
إرادته. فلما انصرف أبو عبد الله قال لي: إياك أن تمضي مقاطعته أو تدع
الاستقصاء عليه في مسامحه، ووكل بغلته حتى تستوفي حق بيت المال منها
على واجبه وتمامه وكماله، وإبطال مظالمه. قال: فورد علي من ذلك أعظم
مورد، وتبينت به ما في نفسه على آل الجراح، وشخصت إلى العمل، فما داجيت
أبا إسحاق، وطالبته بأن يجيئني في كل يوم، فغلظ ذلك عليه، وهو لا يعلم
ما تقدم به ابن الفرات في أمره، واتصلت كتب ابن الفرات إلي بالحث على
ما وصاني به والتاكيد فيه اتصالاً طويته عن أبي إسحاق الإشراف على
أعمال واسط كنت أدخل إليه فيقل الإقبال علي، ويظهر الانحراف عني، حتى
خفت أذيته في ضيعتي، فجئته في بعض الأيام، ومعي بعض ما كان ابن الفرات
يكتبه إلي في بابه. فلما خلا وجهه دنوت منه وقلت له: قد تبينت منك
إعراضاً وسوء رأي، ولا شك أن ذلك لما كان مني إليك، وقد علم الله
نيابتي كانت عنك، وحراستي إياك مما كنت أُطالب به فيك، ومن الدليل على
صدقي هذه الكتب. وأخرجتها إليه وقرأتها عليه. فلما وقف على ما فيها
أكبره وأعظمه، وبسط عذري فيما عاملته به، وعاد إلى ما أحبه. وكان تقلد
أبي إسحاق الإشراف على واسط بعد أن تقلد أعمال
(1/150)
الراذانين. وكاشف ابني الفرات فيما اقتطعاه
واجتذباه من الضياع السلطانية، وحسن أثره عند القاسم بن عبيد الله،
فنقله إلى الإشراف على أعمال واسط نقلاً كان من سببه أن كان القاسم سيء
الرأي في أبي العباس بن الفرات. فقال لأبي الحسن علي بن عيسى: قد كثرت
ضياع ابني الفرات بنواحي واسط، واستضافا إليها ضياعاً سلطانية، وصارا
يأخذان لمصالحهما نحو عشرين ألف دينار في السنة، وأريد رجلاً حصيفاً
أرد إليه الإشراف على هذه النواحي وأُعول عليه في كشف ضياع ابني
الفرات، وإثارة الفضل الذي في أيديهما، وآمن عنده محاباةً لهما وخوفاً
منهما، فهل في أهلنا من يصلح لذلك؟ فوصف له أبا إسحاق بالشهامة
والاستقلال، واستحضره وقلده، وانحدر وجد في النظر والكشف، وواصل كتب
الكتب بما وقف عليه وعرفه، وعمل الأعمال بما اثاره واستدركه، فكان من
ذلك عمل ما يقبضه وكلاء ابن الفرات لمصالح ضياعهما بواسط، وهو زيادة
على عشرين ألف دينار في السنة، وعمل آخر لما اقتطعاه من ضياع السلطان
وأضافاه إلى أملاكهما، وهو نيف وثلاثون بيدراً، منها بيدر يعرف
باليهودي، ارتفاعه نحو الخمسين ألف درهم. وعاد إلى الحضرة وعرض الأعمال
على القاسم، فقال له: تواقف ابن الفرات على أعمالك هذه؟ فقال: ما
عملتها لأسترها وأخاف المناظرة عليها. فأحضره وقد حضر أبو العباس بن
الفرات، وواقفه في المجلس مواقفة ألزمه فيها مالاً كثيراً، فرأى القاسم
من أبي إسحاق صرامةً عجيبةً، وتبين ابن الفرات من القاسم إنكاراً همته
نفسه معه.
(1/151)
قال أبو علي عبد الرحمن، فحدثني بعض
أصحابنا قال: لما انصرف أبو العباس ابن الفرات من هذا المجلس إلى
منزله، وهو مثخن، وجد أخاه أبا الحسن يعمل. فقال له: يا أبا الحسن ما
فارقتني حتى هتكتني ونكبتني، قرأ هذا العمل. ورمى إليه بعمل المصالح
وقال له: إذا كانت نفقات مصالحنا عشرين ألف دينار فأي شيء نقول للسلطان
والوزير والناس في الارتفاع والاستغلال؟! ثم أعطاه العمل بالضياع
المستضافة. قال: هذه الطامة الكبرى والفضيحة العظمى. قال عبد الرحمن:
وهم القاسم بن عبيد الله بالقبض عليهما والإيقاع بهما، فتدافع الأمر
بظهور صاحب الخال والتشاغل بخطبه والخروج إلى المغرب في طلبه. فلما
عادوا لم تطل المدة حتى توفي القاسم بن عبيد الله وأبو العباس بن
الفرات في آخر سنة إحدى وتسعين ومائتين. ثم ولي أبو الحسن بن الفرات
الوزارة فقصد أبا إسحاق ونفاه إلى الصافية، ووزر أبو الحسن علي بن عيسى
بعد ذلك وصرف، وعاد ابن الفرات فنكب أبا إسحاق وصادره على خمسين ألف
دينار استخرج منها ثلاثين ألف دينار. وأقام أبو إسحاق في منزله وامتنع
من العمل بعد ما لحقه. فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة
أعاد القبض عليه وطالبه ببقية المصادرة، ثم بمثلها فأداه ثم بمثلها
دفعة ثالثة بعد مكروه عسفه به، وأخرجه بعده إلى البصرة، وسلمه إلى ابن
الأصبغ عاملها، فيقال إنه سمه، ومضى لسبيله.
(1/152)
وحدث أبو علي عبد الرحمن قال: كان سبب
العداوة بين أبي الحسن بن الفرات ومحمد بن عبدون أنه غلب علي العباس بن
الحسن واختص به فسعى في صرف أبي الحسن بن الفرات ونكبته لقبيح قديم كان
بينه وبينه، واستمال محمد بن عبدون أبا عبد الله محمد بن داود بن
الجراح عمي فمال معه، وساماً أبا الحسن علي بن عيسى أخي الدخول معهما
فامتنع، وجرت في ذلك خطوب طويلة باطنة وظاهرة. وتجرد محمد بن عبدون
بفضل شر وحسد كانا فيه في مكروه ابن الفرات وطالب العباس بإطلاع
المكتفي بالله على خياناته واقتطاعاته وما تأثل من حاله بذاك وعظم من
نعمته، وساعده محمد بن داود على أمره. قال عبد الرحمن: فأذكر، وقد صار
أبو الحسن بن الفرات في بعض الأيام إلى أخي أبي الحسن علي بن عيسى في
داره، فقام إليه وأكرمه، وجعل ابن الفرات يشكو إليه ما يلاقيه من محمد
بن عبدون، ويعرض بمحمد بن داود عمي، وأخي يسترجع ويقول له: يكفيك الله
ثم قال له أخي: أما أنا فقد عرفت إخلاصي لك، وما يراني الله تعالى
مساعداً فيما يسوءك، وأما عمي فالأمر معه قريب، وسأرده وأكفيك ما تخافه
منه، ومع هذا فدبر أمرك تدبيراً يصلحه مع صاحبنا وصاحبك. فقال له: أشر
علي يا سيدي. فقال: استعطف الوزير. قال: قد فعلت. قال: زد، وليس بكثير
أن تغرم في هذه القصة خمسين ألف دينار، وإن احتجت إلى مالي في ذلك فهو
بين يديك. فتكره وقال: أريد التوثقة منك. فقال له أخي: ما تجد عندي
خلافاً عليك إلا أن اليمين غير مباركة وما بنا إليها حاجة، وفي الأقوال
الصادقة والآراء الصافية غنىً وكفاية. وقام فانصرف.
قال عبد الرحمن: ووافي ابن عبدون في بعض الأيام إلى أبي الحسن أخي،
فلما
(1/153)
جلس قال له: قد فرغنا من أمر الرجل إن كانت
منك مساعدة. فقال:
اللهم غفراً. وقمنا، وخلوا وتحدثا. ثم نهض ابن عبدون، وعدت أنا
وإبراهيم ابن أيوب الكاتب إليه، فوجدناه مقطباً واجماً. فقال لنا
مبتدئاً: ما أعجب ما نحن فيه! نعوذ بالله من البغي وجوالبه. ثم قال:
وافانا هذا الرجل يعني ابن عبدون يريد أن يلفتنا عن ديننا، وذكر أن
الخليفة قد استجاب إلى صرف ابن الفرات إن توليت ديوانه، فقلت له: يا
هذا، إن صرفت ابن الفرات ازددت بصرفه رزقاً وأجلاً، وإن لم أصرفه نقصني
الله ما قرره لي؟ قال: لا. قلت: فإن تركتموني أُدبر هذا الأمر معكم
وأقوم بما إلي منه، وإلا لزمت منزلي وأرحت نفسي. فانصرف متنكراً
متسخطاً وقال: هذا الأمر يراد. ومضى ابن الفرات إلى العباس فأعطاه
وأرضاه. وقد كان قال للمكتفي بالله: إن حال ابن الفرات قد عظمت، وأنا
آخذ منه خمسين ألف دينار أردها في بيت مال الخاصة، وأُبقي عليه صدراً
من نعمته. فقال له. نعمة ابن الفرات لي، ومتى أردتها أخذتها، وما يمكني
إنشاء كاتب واصطناعه والرفع منه حتى يكون حاله الحال الذي يظن فيه.
وكان ما قاله المكتفي بالله وفعله من أحسن ما روي وأُثر عن كل خليفة
قبله. وقد كان خفيف السرمقندي الحاجب يقوم بأمر ابني الفرات ويعضدهما
ويشد منهما، فقلما طمع في أبي الحسن وانبسطت الألسن فيه.
وحدث عبد الرحمن قال: لما عقد الأمر لأبي العباس عبد الله بن المعتز،
ووزر له محمد ابن داود بن الجراح عمي تأخر أبو الحسن علي بن عيسى أخي
عن الحضور، ووصلت مراسلة بالاستدعاء، وهو يأبى ويتوقف، حتى إذا زاد
الإلحاح عليه وبلغه عن عبد الله بن المعتز أنه قال: علي بن عيسى متأخر
عنا ليمضي إلى جعفر، فإن كانت
(1/154)
له خلص عمه، وإن كانت لنا خلصه عمه. وليس
كذلك. فإنه لات حين مناص صار إلى القوم. فلما لم ير ابن الفرات قال
لمحمد بن داود: ما فعل ابن الفرات؟ قال له: وأية فائدة في حضوره؟ قال:
كل فائدة، وستعلم ما تكون عواقب تأخره وأنه لا يكون هلاك الجماعة إلا
على يده. فكأن قوله وافق قدراً. ولما انتقض أمر ابن المعتز ووزر أبو
الحسن بن الفرات وأُخذ علي بن عيسى ومحمد بن عبدون وحملا إلى دار بدر
اللاني، كتباً رقعة إلى ابن الفرات ترجماها: لعبديه محمد بن عبدون وعلي
بن عيسى. فعاد الجواب: فهمت هذه الرقعة يا أبا الحسن علي بن عيسى أطال
الله بقاءك. وأدام عزك وسعادتك، وأنت تعلم ما يلزمني من حقك، وما أنا
عليه لك، ولن أدع ممكناً في تخليصك واستنقاذك وردك إلى أفضل ما كنت
عليه إلا أتيته وبلغته وقضيت حقك به. ولم يذكر محمد بن عبدون بشيء،
فلما وقفا على ذلك لطم محمد بن عبدون على رأسه وقال: قتلني والله. وكان
الأمر كما قال: ولم يدع ابن الفرات المنافسة في الرئاسة والغيرة على
الوزارة حتى نفي علي بن عيسى إلى مكة. وحدث عبد الرحمن قال: لما ثقل
علي أبي الحسن بن الفرات أمر سوسن وبلغه عنه عمله على الإيقاع به
وشروعه لمحمد بن عبدون في الوزارة، خوف المقتدر
(1/155)
بالله منه، وأعلمه أنه على الوثوب به، وأنه
كان على تقديم عزمه منه إلى أن سأله أنوش بن الحرهان كاتب سوسن أن يؤخر
ذلك في هذا اليوم لعيد له، ووقع الاتفاق بيهم على الإيقاع بك وبي
وبجماعة معنا في يوم الثلاثاء المقبل بعد يوم الموكب، وقرر ذلك في نفسه
وحققه عنده، فلما كان يوم الاثنين لثمان بقين من رجب ركب المقتدر بالله
إلى الميدان، ومعه تكين الخاصة ونازوك وغريب الجيلي ورائق وياقوت، وقد
ضمن ابن الفرات لتكين أن يقلده مصر إن ساعده على أمر سوسن. وأحس سوسن
بما يدبر عليه ويراد به، فتحرز في أمره ودخل الميدان ولم ينزل عن فرسه،
ولعب مع الخليفة ساعة بالصولجان، ثم مضى إلى صافي الحرمي يعوده من شيء
وجده، وتبعه مؤنس الخازن والغلمان، فلما نزل إلى صافي وكان في آخر
الميدان قبض عليه تكين الخاصة.
قال عبد الرحمن: حدثني تكين الخاصة عند اجتماعنا بمصر، وقد جرى ذكر
سوسن وتجبره وعتوه قال: فلما مضى إلى صافي بادرت كأني معه، ونزل فمددت
يدي إلى منطقته كأنني أتوكأ عليها، فجذبتها، وأخرجت سكيناً معي
فقطعتها، وحصلت مع السيف في يدي، وسلبه الغلمان ما كان عليه، ودفعناه
حتى أدخلناه باب الميدان، فعند ذلك بكى، وحمل الخدم السلاح، ووكل
بداره، واجتمع من كان خلفه وصار في حيزه من الغمان، فخرج إليهم خادم
وقال: مولانا يقول لكم: أنتم غلماني وخاصتي، وهذا عبدي ومملوكي، وقد
بلغني عنه ما أريد موافقته عليه، وأنا لكم بحيث تحبون. فدعوا وقالوا:
الأمر لمولانا. وتفرقوا ولم يعد منهم قول بعد ذلك. وقرر ابن الفرات في
نفس المقتدر بالله دخول محمد بن عبدون وعلي بن عيسى
(1/156)
مع سوسن فيما كان عمل عليه وهم به. فأما
محمد بن عبدون فإنه أنفذ من حمله من الأهواز إلى الحضرة. قال عبد
الرحمن: فحدثني من سمع ابن الفرات يقول له: والله لأقتلنك. وابن عبدون
يقول: يكفي الله ويعفو الوزير. فقال: لا والله. ما فيها إلا التلف
وحسبنا الله ونعم الوكيل. وحبس أياماً يسيرة وأخرج ميتاً وطرح في مشرعة
الساج عند داره، ووجد عند غسله وقد أكل لحم ذراعية فما طالت الأيام حتى
أصاب من ساعد ابن الفرات على أمره مثل ذلك. فأما أبو الحسن علي بن عيسى
فكتب بحمله إلى الكوفة، وأقام بها إلى وقت الموسم، وخرج إلى مكة وقد
وكل به حبشي بن إسحاق السجان.
وحدث أبو علي عبد الرحمن قال: وزر أبو الحسن بن الفرات، وارتفاع ضيعته
وضيعة أخيه أبي العباس نحو مائتي ألف دينار، وصرف بعد أربعة وعشرين
شهراً. وقد بلغ ثمانمائة ألف دينار وكسراً. وذلك بما استضافه واجتذبه
من الأملاك والضياع. ووجد له أبو علي الخاقاني عند تقلده بعده في
الدواوين والودائع نحو ثلاثة آلاف ألف دينار أكثرها محمول من بيت مال
الخاصة الذي بنى له المعتضد بالله، وكان قلعة قد صب في أنقالها الرصاص.
ومات وقد اجتمع فيه تسعة آلاف ألف دينار وكسر، وكان نذر عند بلوغ ذلك
عشرة آلاف ألف دينار أن يترك عن أهل البلاد ثلث الخراج في سنة البلوغ،
وأضاف المكتفي بالله إلى هذه الجملة في أيام خلافته سبعة آلاف ألف
دينار حتى تكامل المبلغ ستة عشر ألف دينار وكسراً. ومات المكتفي بالله،
وتفرق المال
(1/157)
وتمزق. وقيل: إنه وجد فيما وجد من ودائع
ابن الفرات ما هو بختوم أبي خراسان فرغان الخادم خازن المعتضد على بيت
مال القلعة. وذلك أن الأمر فيما كان يحول إلى حضرة المقتدر بالله ويخرج
إلى مجلس العطاء زاد علي الحد. وخرج عن الضبط. قال عبد الرحمن: وقرأت
توقيعاً لفاطمة القهرمانة خرج إلى ابن الفرات تقول فيه: أمر أمير
المؤمنين بحمل أربعين بدرةً عيناً من بيت مال الخاصة إلى حضرته. وتوقيع
ابن الفرات في آخره بامتثال المرسوم فيه، وكانت لهذا التوقيع نظائر
كثيرة، وابن الفرات يحتال لنفسه في أمثال ذلك، حتى قيل إنه أخذ من بيت
مال القلعة ألف ألف دينار. وأطلق منها لعبد الله بن جبير مائة ألف
دينار، ولأصطفن بن يعقوب كاتب بيت مال الخاصة وخليفة دانيال بن عيسى
كاتب مؤنس الخادم الملقب بالمظفر مائة ألف دينار. قال عبد الرحمن
فحدثني أبو الحسن سعيد بن عمرون سنجلا أن رزق ابن جبير لما كان يكتب
وهو بين يدي ابن الفرات في مجلس من مجالس ديوان الخراج خمسة وعشرون
ديناراً. فلما تقلد ابن الفرات الوزارة بلغ به مائة دينار وأن رزق
يعقوب بن اصطفن كان في أيام مؤنس وهو ينوب عن دانيال بن عيسى عشرة
دنانير. ثم بلغ أربعين ديناراً في وزارة ابن الفرات الثانية، فظهر لهما
من الحال ما قدر فيها ألف ألف دينار.
وحكى عبد الرحمن بن هشام بن عبد الله الملقب بأبي قيراط كاتب ابن
الفرات على ديوان بيت المال أنه قال له في بعض الأيام سراً: قد وقفت
على أنه قد اقتطع من بيت مال الخاصة ألف ألف دينار. وحمله ما حول منه.
فعلم من قوله اطلاعه
(1/158)
على القصة، وقال له: لن تعدم نصيبك يا أبا
القاسم. وأوصل إليه في أوقات مائة ألف دينار عظمت بها حاله، وابتاع
منها ضياعاً جليلة بنواحي واسط، حتى كتب إلى القاهر بالله يخطب وزارته
فدفع رقعته إلى أبي العباس الخصيبي وسأله عنه، فقال: هذا رجل جاهل أخذ
من المال في أيام ابن الفرات كذا وكذا المبلغ الذي ذكرناه وأنا أستخرجه
منه. وانصرف ووقع إليه: قد رسم تقليدك بعض الدواوين فاحضر. فقدر ان
رقعته قد حركت أمره، وبادر فقبض عليه، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، أدى
بعضها وكتب على ضيعته بباقيها ونفاه إلى الموصل.
وحدث أبو علي عبد الرحمن قال: فلما حصل أبو الحسن أخي بمكة خرجت للحج
وتجديد العهد به، ووصلت إليه واجتمعت معه، وورد عليه كتاب ابن الفرات
بالإذن له في الحج، لأنه كان محبوساً في داره، ممنوعاً من التصرف على
إيثاره، ووافى بعد أيام أبو الحسن عبيد الله بن عيسى أخي في الرفقة
الأخيرة، فسأله أخي عن شخوصه من مدينة السلام ووقته. فقال: خرجت في آخر
الناس لاحتباسي على لقاء ابن الفرات ووداعه. فقال عبد الرحمن: فلما كان
يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين مضيت إلى
المسجد الحرام ارتفاع النهار، وصليت وطفت وسعيت وعدت إلى المسجد، وجلست
عند باب السهميين، فوافاني خادم لنا أسود شيخ يقال له مقبل غلام الجدة،
واستنهضني فنهضت إلى جوار المسجد، وقال لي: اعلم أن سيما الفلاني من
غلمان الحجر لقيني الساعة وهو صديقي وأعلمني سراً أن ابن الفرات قد قبض
عليه. فورد علي من السرور ما لم أتمالك نفسي، وبادرت
(1/159)
إلى أبي الحسن أخي، وهو جالس يسبح. فعرفته
ما عرفني. فقال: ويحك، من أين له هذا؟ قلت: قد أخبرتك بما خبرني به،
وما عنده زيادة عليه. فقال: امض إلى أبي الحسين أخيك وسله عما عنده.
فمضيت إليه وحدثته. فقال: ما خلق الله لذلك أصلاً وأنا آخر من ودعه وهو
جالس للمظالم على أجل حال وأنفذ أمر. فقال أبو الحسن أخي: فاقصد ابن
مجاشع المنفق وسله. ففعلت، وكان قولاً وقول أبي الحسين واحداً.
وأمسكنا، وشاع ذلك بمكة، وكثرت به الأراجيف. فلا والله ما كان إلا عند
وصولنا إلى الحاجر راجعين حتى وافى مؤنس الورقاني صاحب السرية ليلا
لتلقي الحاج. فقال: أبشروا يا معاشر الحاج، قد قبض على ابن الفرات،
واتفق أن كان قريباً مني، والليل يحجر بينه وبين معرفتي، فقلت له
مبادراً: ومتى كان ذلك يا مبارك؟ فقال: يوم الأربعاء السادس من ذي
الحجة. فورد علي من قوله وموافقه اليوم الذي سمعت فيه ما سمعته ما عجبت
منه واستطرفته، ووجدت هذا الحديث مشاكلاً حديث الرشيد في موته بطوس
وانتشار خبره بمدينة السلام في يومه. والحديث ماثور مشهور. وأنشدت لأبي
الحسن ابن الفرات:
معذبتي هل لي إلى الوصل حيلةٌ ... وهل لي إلى استعطاف قلبك من وجه
فلا خير في الدنيا وأنت بخيلةٌ ... ولا خير في وصلٍ يكون على كره
وقال جعفر بن حفص: مضيت قاصداً حتى رأيت أبا العباس بن الفرات وأبا
الحسن أخاه ينظران في الأعمال، فنظرت إلى حفظ لأمر الدنيا لم أر مثله،
ولو رآهما من تقدم من الكتاب لعلموا أنهم لم يروا مثلهما.
(1/160)
وذكر أبو علي الصولي قال: خرجت يوماً مع
أبي العباس النوفلي من دار أبي الحسن بن الفرات مع صلاة المغرب، فخرج
معنا فراشان بشمعتين، فلما نزلنا إلى السميرية دفعا الشمعتين إلى
غلماننا، فرددناهما وامتنعنا من أخذهما، فقالا: قد أمرنا بأن ندفع إلى
كل من يخرج من الدار عند اصفرار الشمس شمعةً. فقلنا: قد قبلناهما
ووهبناهما لكما. فقالا: تريدان أن نعاقب ونصرف؟ وتركاهما ومضيا.
وحدث أبو الفضل بن الوارث قال: لما قبض على أبي الحسن بن الفرات في
وزارته الأولى نظرنا فإذا هو يجري على خمسة آلاف إنسان ما بين مائة
دينار في الشهر إلى خمسة دراهم، ونصف قفيز دقيقاً إلى عشرة أقفزة. وحدث
أبو العباس أحمد بن العباس النوفلي وكان جليساً لبني الفرات قال: سمعت
الوزير أبا الحسن قبل الوزارة يقول: ما رأيت أحداً قط في داري أو على
بابي ليس لي عنده إحسان إلا كنت أشد اهتماماً بإيصال ذلك إليه منه
والاحتيال له. وحكي أن أبا الحسن بن الفرات ألس يوماً للمظالم في سنة
ثمان وتسعين ومائتين. فتقدم إليه خصمان في دكاكين بالكرخ. وتأملهما
فقال لأحدهما: أرفعت إلى قصة في سنة اثنتين وثمانين في هذه الدكاكين؟
ثم رجع فقال له: سنك تصغر عن هذا. فقال: ذاك أبي. فقال: نعم، قد كان
رفع قصةً فوقعنا له فيها. ثم وقع بإخراج رفع القصص والتوقيعات في سنة
اثنتين وثمانين من الديوان. وقال للخصمين: كونا ها هنا. قال بعض من حضر
المجلس: فلما خرجت
(1/161)
من عند الوزير أبي الحسن سمعت أحدهما يدعو
له. فقلت له: ما شأنك؟ قال: لما سمع خصمي بهذا فر وعلم أن التوقيع كان
بتسليم الدكاكين إلى أبي.
وقال الحسين الخادم المعروف بالمخلدي: سمعت خفيفاً لسمرقندي الحاجب
يقول للمكتفي بالله: الخليفة الماضي لم يستغن عن ابني الفرات ووزيره
عبيد الله ابن سليمان، كيف تستغني أنت عنهما ووزيرك القاسم؟ قال القاضي
أبو علي التنوخي: أنشدني أبو الحسين علي بن هشام لنفسه لما قتل أبو
الحسن بن الفرات:
فرات غاض من آل الفرات ... ففاض عليه دمع المكرمات
سماءٌ غودرت في بطن أرضٍ ... وبحر غاض في بعض الفلاة
عسى الأيام آخذةً بثأرٍ ... فتأخذ لي بثأر المأثرات
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو الحسين علي بن هشام قال: سمعت أبا
الحسن بن الفرات يتحدث في مجلسه قال: كنا بعد وفاة أبينا وقبل تصرفنا
مع السلطان نقدم إلى بغداد من سر من رأى فنقيم بها المدة بعد المدة،
ونتفرج ثم نعود، وننزل إذا وردنا شارع عمرون بن مسعدة بالجانب الغربي،
فبكرنا يوماً نريد بستاناً، فإذا بخالد الكاتب والصبيان يولعون به، وقد
اختلط وهو يرجم ويشتم، ففرقناهم عنه، ومنعناهم منه، ورفقنا به، وسألناه
أن يصحبنا وأنزلنا أحد غلماننا من مركوبه وأركبناه، وحملناه إلى
البستان. فلما أكل وسكن وجدناه متماسك العقل، بخلاف ما رأيناه عليه،
وظنناه به، وسمعناه عنه، فقلنا له:
(1/162)
ما الذي يلحقك؟ فقال: أكثر آفتي هؤلاء
الصبيان فإنهم يزيدون علي حتى أعدم بقية عقلي وأصير إلى ما شاهدتموه
مني. وأخذ ينشدنا لنفسه، ويورد الحسن من شعره. وطاب لنا يومنا معه.
وأحب أخي أن يمتحنه في قول الشعر، وهل هو على ما كان أم قد اختل، فقال
له: أريد أن تعمل شيئاً في الفراق الساعة، فأخذ الدواة وفكر وقال:
عيني أكنت عليك مدّعياً ... أم حين أزمع بينهم خنت
إن كنت فيما قلت صادقةً ... فعلى فراقهم ألا بنت
وحدث محدث عمن حضر مجلس أبي الحسن بن الفرات في يوم من أيام نظره أن
نسوةً رفعن إليه قصةً يشكون فيها رقة أحوالهن، وانتسبن إلى أنهن بنات
ابن رستم، فقدر أنه ابن رستم كاتب كان بسر من رأى، ووقع بأن يجري عليهن
دقيق ودراهم في كل شهر. فلما انصرفن قال له أحد الكتاب: ليس هؤلاء
النسوة بنات ابن رستم الذي أشار الوزير إليه، وإنما هن بنات ابن رستم
الذي كان مع بغا الشرابي. فقال: ليكن من كن فقد أخذن رزقهن، وإن حضر
أولئك أجرينا لهن أيضاً وأحسنا إليهن.
وحدث أبو الحسين أحمد بن محمد بن ميمون قال: كنت بحضرة أبي الحسن ابن
الفرات في بعض العشايا، فقط الفراش الشمعة التي كانت بين يديه قطاً
استعجل فيه، فسقط منها شرار قرب منه، وخاف الفراش فمضى مبادراً، وتبعه
خادم كان يرؤس على حواشيه لينكر عليه ويضربه، فصاح الوزير به وقال له:
عد إلى مكانك، أتراه البائس تعمدني بما فعل واعتقد أن يحرقني؟ وإنما
اتفق ما اتفق على سبيل الغلط.
(1/163)
وحدث أبو الحسين قال: عرض أبو أحمد المحسن
على أبيه عملاً من أعمال المغرب الذي كان يتولى ديوانه، وقد أخطأ
المحرر له فكتب سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وأراد سنة ثلاث وثلاثمائة.
فقال الوزير أبو الحسن: هذا غلط وكان يجب أن يكون سنة ثلاث وثلاثمائة.
فأظهر المحسن الغيظ على الكاتب، فقال له الوزير: كأني بك عند خروج وقد
استدعيته ووبخته وعنفته. فبحياتي عليك إن فعلت وعامل كتابك وأصحابك
بفضل الحلم وحسن العشرة ولطف القول فإن الناس لا يخلون من السهو. وكانت
عادته جاريةً مع كتابه إذا وقف لهم على خطأ فيما يعملونه أن يواقف
صاحبه عليه من غير إنكار ولا تهجين، ثم يسلم العلم إليه ليتولى إصلاحه،
وإن طعن أحدهم على صاحبه في عمله أنكر قوله ورده وسهل على المطئ خطأه
وأقام فيه عذره. وحدث محدث أن أحمد بن أيوب صاحب خبره رفع إليه يذكر
أنه كان له في وزارته الأولى سبعة دنانير برسم النوبة. فلما تقلد
الخاقاني قطعها وجعلها لرجل أسماه وسأله ردها عليه، فوقع على ظهر
رقعته: أما إسقاط الرجل المثبت فلا أراه ولا أستجيزه، ولكن اطلب رسم
رجل ساقط بأكثر من هذا الرزق لأوقع لك به، وقد بلغني أن هذا البائس قد
التزم على ما أثبت باسمه جملةً. ثم وقع لأحمد بن أيوب بمثل ما كان له.
وعرض عليه كتاب من صاحب ديوان الجيش أو صاحب الإعطاء يذكر فيه أنه قد
توفر من جاري جماعة من المشايخ والزمني ومن يجري أمره هذا
(1/164)
المجري أسقطوا نحو خمسمائة دينار، فوقع على
ظهره: إن كان هؤلاء أسنوا وأصيبوا في طاعة السلطان وخدمته فليمض أمرهم،
أو كانوا بدلاء ودخلاء أقيموا مقام غيرهم فليصدق عن صورتهم. ثم أتبع
ذلك بأن قال: أمض أمر جماعتهم، ولا تسقط أحداً منهم فإنني أكره أن أقطع
معيشة إنسان.
وعمل قوم من الكتاب لأحمد بن العباس بن عيسى بن شيخ وكان رجلاً كبيراً
مغفلاً توقيعاً بتضمينه آمد وجميع ما كان إلى عيسى بن شيخ وتقلد. ونقل
غلمانه من برسم الأحرار إلى رسم المماليك، وزيادته في أرزاقه وأرزاق من
معه، وضم جماعة من الرجال إليه، وصار الشيخ إلى ديوان المغرب، وتنجز
الكتب وأخرجت له الخروج، وبينما هو في ذلك شك أبو أحمد المحسن في بعض
ما عرض عليه، واستثبت أباه فيه، فأنكره واستعظم الإقدام عليه بمثله،
وأمر بإحضار الشيخ. فلما حضر غلظ عليه في القول وقال له: ما حملك على
هذا القول؟. فقال: خدمتك وأن أظهر كفايتي عندك، وأراك قد استكثرت لي
هذا العمل، وهذا بلد لم نزل نتولاه، وقد تقلده أخي وابن أخي وما أنا
بدونهما. وأقبل يخاطبه مخاطبة المحاج المناظر لا الجاني المحاذر. فضحك
منه عندما سمعه من قوله. وعلم أنه استغفل واحتيل عليه. فقال له: عرفني
من أخرج هذه التوقيعات لك، فأقر على جماعة من الكتاب، أحضر بعضهم
وحبسوا أياماً ثم أطلقوا، ولم يعرض للشيخ ولا لحقه منه مكروه. وحدث
محدث أن بنات محمد بن سعيد الأزرق الأنباري الكاتب الذي
(1/165)
كان يتقلد أمر الجيش وقبض عليه مع أصحاب
عبد الله بن المعتز، ومات في حبس مؤنس رفعن إلى أبي الحسن بن الفرات أن
وكيلاً كان لأبيهن غلبهن على ماله وأنكرهن إياه، وابتاع عقارات
ومستغلات به. فنظر إليهن نظراً رق فيه لهن، ودمعت عيناه عطفاً عليهن
ورأفة بهن، وتقدم بإحضار الوكيل. فلما حضر خاطبه على ما ادعينه عليه،
فأنكر أن يكون محمد بن سعيد خلف في يده مالاً، وجحد ذلك جحداً شديداً.
وأمر الوزير أحد أصحابه بالمسألة عن حال الرجل وما كان يتصرف فيه قبل
أن يصحب محمد بن سعيد، وما تصرف فيه بعده، وإعلامه ذلك على صحة. فامتثل
صاحبه ما رسمه له، وعاد وعرفه أن هذا الوكيل ما تصرف قبل محمد بن سعيد
ولا معه ولا بعده تصرفاً يقتضي كسبه الذي في يده. فأعاد إحضاره، ولم
يزل يراوضه إلى أن اعترف عنده ببعض ما ادعي عليه، وأشهد لبنات محمد بن
سعيد بشيء من العقار الذي كان ابتاعه. فأحياهن بما استخلصه لهن، وسترهن
بما أعاده إليهن.
وذكر أبو القاسم بن زنجي أن أبا الحسن بن الفرات خوطب في معنى أسماء
بنت عيسى أخت أبي الحسن علي بن عيسى وزوجة علي بن محمد بن داود، وعرف
رقة حالها واختلال أمرها، فرد عليها الضيعة المقبوضة عن محمد بن داود
بكوثي ونهر درقيط، وأجرى عليها خمسمائة درهم في كل شهر من ماله. فلما
تقلد أبو الحسن علي بن عيسى أخوها منعها ذلك. ووجدت ثبتاً بما كان أبو
الحسن بن الفرات يخاطب به السيدة والأمراء وأولاد الخلفاء والولاة
والكبراء وأصحاب الأطراف وعمال الأعمال وسائر الطبقات في كتبه توقيعاً
به إليهم أيام وزراته الثالثة. وقد تغيرت الرسوم ووهت الأمور
(1/166)
ووقع التسمح منه فيما كان من قبل يضايق
فيه، فأوردته متعجباً ومعجباً من التفاوت الشديد بين ما كان وبين ما
نحن عليه الآن، فإننا اليوم في انخراق قد زاد وأسرف، وتمادى وما وقف،
حتى أن الملوك ومن بعدهم من الوزراء قد أنفوا من ذكرهم بسيدنا،
واستقلوا خطابهم بمولانا، فعدل الناس بأولئك إلى الحضرة الشريفة،
والحضرة العالية والحضرة السامية، وبالوزراء إلى مثل ذلك. ثم كنوا عن
الخلفاء بالموقف الأشرف المقدس، وذكروه بالمقام الأطهر النبوي، ونقلوا
الملك إلى الأشرف والأعظم. وقالوا في الدعاء: نوره الله ونصره الله:
إلى ما بعد ذلك من المغالاة والمبالغة، وانتهت هذه الحال إلى أن شاركهم
فيها الأكابر من أصحاب الأطراف، ووقفوا بالوزارة على الحضرة السامية.
ثم ألحقوا بها: المظفرة والمنصورة، مع النسبة إلى الألقاب كالوزيرية
والعميدية والكمالية، وما أرى هذا المجرى، وداخلهم في ذلك من يتلوهم من
خلفائهم، وأصحاب الجيوش وأمراء العرب والأكراد. واتسع هذا الباب، فدخل
فيه كل من أراد من غير احتشام ولا ارتقاب. ولا أعرف معنى للموقف ولا
الحضرة، لأنه إشارة إلى غير شخص متمثل، وعبارة عن غير محسوس متشكل، وما
الذي يتعلق بالمخاطب من ذلك؟ أم أي موضع للدعاء إذا كان لما لاحظ له
فيه، ولا عائدة عليه منه؟ ولقد استخير من هذا الأمر ما لا جمال فيه،
ولا جلالة ولا عظم ولا فخامة. وإنما يشار إلى الحضرة والموقف كما يشار
إلى الباب الذي يطرقه الزوار والوفود، والمجلس الذي يكون فيه المثول
والقعود والمقام الذي يكون فيه الحضور والوقوف. فأما الخلفاء فذكرهم
بالسادة وأمير المؤمنين التي لا يشاركون فيها، ولا يجاذبون عليها أولى
وأعلى من هذه الفقاقيع التي لا تفيد معنى. وأما الملوك والوزراء فذكرهم
بالسيادة والملك والوزارة وما هو جار ذلك المجرى
(1/167)
كان أحرى ولخلصوا من المشاركة الواقعة،
وحصلت لهم منزلة الانفراد بهذه السمة الرائعة، وإنما تبين الرتب إذا
تفاوتت، وتظهر المنازل إذا تباينت، وأما أن يبتدر الرئيس والمرؤوس
بحالة واحدة، ويجروا في طريقة جامعة، فإن ذلك يدعو إلى التساوي ويخلط
الأدون بالعالي، ولو أعيد الوقوف بالخلفاء على: سيدنا ومولانا أمير
المؤمنين، وأفراد الملوك بمولانا الملك، واقتصر بالوزراء على: سيدنا
الوزير، واتبع في ذلك ما كان معهوداً من قبل، وطبق من بعدهم على حكم
منازلهم، وقدر مواقعهم، لكان التمييز موجوداً، والاختلاط مفقوداً، على
أنه لم يكن يعرف فيما مضى مولانا، ولا مولاي، ولا سيدين وإنما كان
التكاتب والتخاطب بالدعاء فقط. ولقد بلغني أن بعض خواص المقتدر بالله
رحمة الله عليه سأل أبا الحسن علي بن عيسى زيادة أحد العمال المتقدمين
في خطابه، وكان يخاطبه: بأعزك الله، فامتنع عليه امتناعاً شديداً،
وعاوده حتى وعده. وكتب إلى الرجل: بأعزك الله. ممدود ما بين العين
والزاي فقال ألم يعدني الوزير بالزيادة؟ قال: قد فعلت. قال: في أي
شيء؟. قال: كنت أجمع بين العين والزاي. وقد مددت بينهما مدةً وهي
الزيادة. فكان القوم على هذه الصورة من المناقشة ليبين الترتيب فيها
ويلوح التطبيق في مجاريها. فأما عصرنا هذا فقد اختلفت الرسوم وانقلبت
الأعيان فيه، وقلت المراعاة لما كانت موكولة به، وصارت ملوكه المدبرون
للأمر يخاطبون وزراءهم بمولاي الأجل وزير الوزراء أدام الله علوه.
(1/168)
ومن بعدهم من أصحاب الجيوش وأمراء العرب
والأكراد، وخلفاء الوزراء ومن جرى مجراهم بالأجل. على الكناية. ويجمعون
في الأجل بين وجوه الكتاب والأتراك والحواشي وحتى القضاة والشهود. فأما
الألقاب فقد خرجت عما يحاط به ويوصف أو يأتي عليه حصر، وصار لقب الأصغر
أعظم من لقب الأكبر. ومن أنموذج هذا الإفراط والاختلاط أنني كنت أشاهد
الوزراء في آخر أيام عضد الدولة، وأيام صمصام الدولة يذكرون عنهما بأبي
فلان فلان بن فلان أدام الله عزه. وأراهم وأرى خلفاءهم وأصحاب الدواوين
ونطراءهم وزعماء الجيوش ومن يتلوهم من القواد وخواص الناس من سائر
الأصناف ينزلون من دوابهم في الباب العام من دار المملكة في أماكن ما
يقنع اليوم بما كان الوزراء إذ ذاك منها كاتب طائفة من الأتراك، وكان
البوابون يدعون بدابة الوزير غلام الأستاذ، مطلقاً بغير كنية. ومن بعده
بالكني الذين يفضلون في مراتب أربابها بإعلاء الصوت وخفضه. وبعد المدى
وقربه، ويقتصرون في الأقل الأدنى على اللفظ المدغم الذي لا يرفع ولا
يكاد يسمع، هذا فيمن يتميز أدنى تميز. فأما الجمهور الأكبر فلا يفعل
معهم ذلك، وأوسط الكتاب والحواشي يدعى بدابته اليوم بغلام الرئيس
الأجل، والأجل مع اللقب إن كان، مع غير تمييز ولا ترتيب. لا جرم أن
الرتب قد نزلت لما تساوت، وسقطت لما توازت. ولم يبق لها طلاوة يشار
إليها ولا حلاوة يحافظ عليها. حتى لقد بلغني عن مولانا الخليفة القائم
بأمر الله أطال الله بقاءه أنه قال: لم تبق رتبة لمستحق.
(1/169)
ومن أطرف طريف أن السلطان أطال الله بقاءه
يذكر القضاة والشهود بالأجل والجليل. وقاضي القضاة يوقع إليهم بما يقول
فيه: أبو فلان فلان بن فلان أيده الله يفعل كذا. ومعلوم أن ذلك مما
يتفاوت ويتباين ولا يتناسب، وعهد وأنا أوقع في قصص المتظلمين في أيام
صمصام الدولة عن أبي إسحاق جدي في ديوان الانشاء إلى قضاة الحضرة
الناظرين فيها: أبو فلان فلان بن فلان القاضي أعزه الله، والقاضي مؤخر،
وربما تقدم لمن تميز. وإلى قضاة النواحي: فلان بن فلان الحاكم، بغير
كنية ولا دعاء ولا ذكر قضاء. وأما المناشير فلم تجر العادة فيها بذكر
أحد بكنية ولا دعاء. وقد فعل في زماننا ذلك على الزيادة والتناهي.
والعلة في ألا يذكر الناس بالكنية والدعاء أن ذكر السلطان يكون فيها
بألقابه خاصةً من دون الدعاء، فلا يجوز أن يقع التميز عنه. فظاهر
قولنا: هذا كتاب من فلان لفلان، إخبار عن الكتاب ولذلك يقال في الكتب
عن الخلفاء: من عبد الله أمير المؤمنين إلى فلان، إما بلقب ونية بغير
لقب أو باسم دون الكنية واللقب. ولا يدعى للمكتوب عنه حتى إن استتم
التصدير استوقف الدعاء بعد قولهم: أما بعد. فقيل: أما بعد، أطال الله
بقاءك وأمتع بك. وما شاكل ذلك وما كان الأصل. فما تغير عن الرسوم
الصحيحة واستوقف من هذه الفقاقيع الطريفة إلا أبو الحسن علي بن عبد
العزيز بن حاجب النعمان. فإن القادر بالله صلوات الله عليه منعه
(1/170)
بعد فخر الملك أبي غالب من مخاطبة أحد من
الوزراء بمولانا. فلما ورد أبو محمد بن سهلان إلى بغداد كتب إليه:
بسيدنا. فأنكر أبو محمد ذلك، ورمى بالرقعة وقال: يزيدني وينقصني عما
كان يخاطب به أبا غالب، لا أرضى بهذا ولا أقبله ولا أقرأ له رقعة به.
ومضت مدة فكتب إليه: بالحضرة العالية الوزيرية على ما يكتب الآن
فاستنكر ذلك وقال: هذا فرار من: مولانا. ولا أقنع به. فقيل له: هذا أجل
وأعظم، وأعلى وأفخم، وما منعك من: مولانا. إلا لأن الخليفة حظر عليه
خطاب أحد بمولانا سواه. فقبل هذا القول وتصور زيادةً به لا نقيصةً.
فاقتفى الناس أثره فيه. ثم أخرج أبو الحسن في ذكر الخليفة: الحضرة
المقدسة النبوية. اختراعاً جعله قربةً فصار سنةً، وأشرك به: السدة
النبوية. ومضى من هذا الفن ما خرق به العرف والعادة، وأسقط معه
القوانين القديمة المعهودة، وتجاوز هذه المنزلة إلى أن صارت كتابته عن
الخليفة بالخدمة، وتصرف في ذلك حتى قال: قالت الخدمة، وفعلت الخدمة،
وسئلت الخدمة. حتى رأيت بخط أبي الحسن بن أبي الشوارب القاضي في ترجمة
رقعة: خادم الخدمة الشريفة فلان بن فلان. ومضى من يعرف الأصول، ونشأ من
لم يعرف ولم يسمع إلا بهذه الفروع، فخالها الصحيح، وتعدى الأمر من حال
إلى حال، في الباطل والانتقال، حتى أفضى هذا إلى الاختلال والانحلال.
(1/171)
|