تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء
أصحاب البرد وسائر
النواحي
الطبقة الأولى ممن يتقلد الأعمال الجليلة: أكرمك الله، ومد في عمرك،
وأتم نعمته عليك وأدامها لك. والعنوان: لأبي فلان فلان بن فلان، أكرمه
الله، من أبي الحسن. والطبقة الثانية منهم: أكرمك الله وأبقاك، وأتم
نعمته عليك وأدامها لك. والطبقة الثالثة: حفظك الله وأبقاك وأمتع بك.
وعلى مثل ذلك يكاتب أصحاب الخرائط في النواحي. وأصحاب الوزير الذين من
قبله: أبقاك الله.
وحدث أبو علي بن هبنتي القنائي قال. كان بشر بن علي كاتب حامد صديقاً
لي ولأبي يعقوب أخي. فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة في الدفعة
الثالثة، واستعرت الدنيا ناراً بشر ابنه المحسن، وتسلطه وتبسطه، طلب
بشراً وأبا محمد بن عينونة في جملة من طلبه، وتتبعه وكبس عليه واستقصى
في أمره. فأما بشر فإنه أخذ لنفسه عند القبض على حامد صاحبه بأن استتر
وأخفى نفسه وشخصه. وأما ابن غينونة فإنه حصل عندي حصولاً لم أعلم أخي
به خوفاً من أن يحلف فيدل عليه. واتفق أن كتب أخي إلى بشر رقعةً ضمنها
كل إرجاف وفضول وما اطلع
(1/178)
عليه من تقرر الأمر لأبي القاسم الخاقاني
وقرب تقلده إياه، وأنه قد أحكم له ما يريد منه. وأجابه بشر في تضاعيفها
بما شاكل الابتداء من غير تحفظ ولا تحرز، فاختلطت الرقعة بين يدي أخي
بمكاتبات وحسبانات ضيعته وغير ذلك مما لا فكر فيه.
وكتب أبو أحمد عبيد الله بن محمد أخو أبي إبراهيم موسى بن محمد وكان
يتولى نصيبين إلى المحسن بما قال فيه: إن أردت ابن عينونة وعبد الرحمن
بن عيسى ابن داود فهما عند ابن القنائي. فما شعر أبي وأخي في يوم الأحد
النحس إلا بمريب خادم المحسن قد كبسهما في جماعة من الرجالة، وفتش جميع
الدور والحجر والبيوت، ولم يبق غايةً إلا بلغها في الاستقصاء
والاحتياط. فلما لم ير أحداً عدل إلى ما كان بين أيديهما من رقاع
وحساب، فجمعه وحمله إلى المحسن، وفي جملته رقعة بشر المشتملة على
العجائب. ورأى أخي ذلك، فمات في جلده، ولم يقصد داري أحد اكتفاءً بما
جرى على دار أبي وأخي، وعلم ابن عينونة، وكان في الوقت سكران لا فضل
فيه لحركة.
فحدثني أبو منصور فرخانشاه صهرنا قال: كان خبر الرقعة عندي، وقد علمت
أنها حصلت في جملة ما أخذه مريب من الرقاع التي بين يدي أبي يعقوب.
فأنا على مثل النار للإشفاق عليه منها، ولم أزل أمشي خلف مريب وهو
متأبط لما أخذه إذا انسلت الرقعة بعينها بتفضل الله جل وعز من بين سائر
الكتب والرقاع، وسقطت إلى الأرض ولم يشعر مريب بها، وأخذتها أنا وبادرت
إلى مستراح وطرحتها فيه، وهدأت نفسي عند ذلك. قال أبو علي بن هبنتي:
ومضى أبي وأخي مع مريب إلى المحسن، ووقف على الكتب والرقاع وقرأها، فما
وجد شيئاً أنكره وخاطبهما بالجميل والاعتذار، وعرفهما السبب الذي من
أجله أنفذ إليهما. وكتب
(1/179)
الوزير أبو الحسن أبوه ينكر عليه ما فعل،
وانصرفا مكرمين، وزالت البلية المخوفة بانسلال تلك الرقعة من بين
الرقاع المأخوذة، ولله الحمد والمنة.
وحدث أبو علي قال: خرج إلي في يوم من أيام وزارة أبي الحسن علي بن
الفرات الأخيرة وقد ابتدأ المحسن ابنه في مصادرة الناس وقتلهم، وقتل
أحمد بن حماد الموصلي وغيره سعيد وعبد الله إبنا الفرخان، وأنا في
ديوانهما فقالا لي: كنا الساعة مع الوزير في أمر طريف. قلت: فما هو؟
قالا: قال لنا: عمل أبو معشر مولدي، وحكم فيه بأشياء عظيمة صحت كلها
وقال: إن علي في سنة سبعين من عمري نكبةً عظيمة يكون سببها بعض ولدي
وأنا في السبعين. وقد دخل هذا الفتى أعني المحسن ولده من مكاره الناس
فيما نسأل الله السلامة من عاقبته. قلت لهما: فأي شيء قلتما له؟ قالا:
ما قلنا له شيئاً. قلت: قد غششتماه، فإنه كان يجب أن تشيرا عليه بقبض
يده وصرفه، وأن يستعمل من الخير ما يقربه إلى الله وإلى الناس. قالا:
لم نجسر على أن نواجهه بهذا الرأي، ولكن أباك متمكن منه، فقل له حتى
يشير عليه به. فقلت: أبي لا ينكب بنكبته، وأنتما أولى بالاشفاق عليه،
وعلى نفوسكما. قال أبو علي: وكنت قد حصلت طالع وقت نظره ومولده المحسن
ابنه. فجلعت أنظر فيهما وأسير الكواكب منهما حتى عرفت من ذلك يوم
نكبته، وصرت إلى أبي بشر بن فرجويه قبل ذلك بخمسة عشر يوماً فذكرته له
ونبهته عليه، وحذرته من أن يقع كما وقع في الدفعة الوسطى. فقال لي: ما
أصنع وأنا منوط بهذه الأعمال التي ترى. وبماذا أحتج على صاحبي؟ قلت:
تعالل وتأخر. قال: لا يتم لي ذلك إلا بأمره. قلت: فالله الله أن تحكي
له ما عرفتك إياه شيئاً؛ فإنه يقبح مواجهته به. ولكن اذكر ما عليه
الناس من
(1/180)
الإرجاف، وما يتحدث به من كون الاختلاط،
وما جرى عليك حين أخذت من المكروه الغليظ في جسمك، وأنك تخاف أن يلحقك
مثله فتتلف وتستأذنه في التعالل والتأخر. فإني ألازم الديوان مع خليفتك
أبي محمد المادرائي ولا أفارقه حتى يقضي الله بما هو قاض. قال: نعم.
واجتمعنا من غد فخلا معي وقال لي: جاريت الوزير ما جرى بيننا على جهته
فقال لي: من قال لك هذا؟ فإنه قد صدق فيه وأصاب، ونصح لك في الرأي، لأن
أبا معشر حكم في مولدي بنكبة مريخية في سنة سبعين، وهذه سنة سبعين، وقد
بقي من الأيام إلى الوقت الذي قاله أبو معشر كذا وكذا يوماً؛ قلت:
فلان. قال: قد سرني أن كان في هذه المنزلة من الصناعة، فاقبل ما أشار
به ولا تخالفه، فأنا ماض الآن لأستتر، فالزم أنت الديوان ولا تخل به،
ومن سألك عني عرفه أنني عليل حتى ننظر ما يكون. قلت: استخر الله. ثم
مضى واستتر أياماً، ثم لم أشعر به إلا وقد حضر الديوان، فسألته عن سبب
حضوره مع قرب المدة. قال: أرجو ألا يكون لما حكمت به وحذرت منه أصل،
ومتى تطاول انقطاعي عن صاحبي لم آمن من فساده علي. فما مضت شهد الله
خمسة أيام حتى قبض على ابن الفرات، وكان تقديري له أن ينكب في يوم
الاثنين، فنكب في يوم الثلاثاء بعد يوم التقدير، وحصل في الحبس، وأفلت
أبو بشر. فحدثني الموكل كان بابن الفرات قال: مكث أياماً كاسف البال
شديد الاشفاق، حتى إذا كان يوم ضربت فيه عنقه جزع جزعاً شديداً وقال
لي: ويحك، جاء الوزير اليوم؟ قلت: لا. قال: أرجو الله وأتوكل عليه.
فسألته عن قصته. قال: قد حكم لي أبو معشر في مولدي أنني متى سلمت
(1/181)
في هذا اليوم انحسرت المحنة عني، وزالت
المخافة علي، وتجددت لي حال جميلة، فأنا قلق إلى أن يتصرم النهار. فما
زال على هذه الصورة حتى سمع الحركة وأصوات الرجال والغلمان. فقال لي:
ما الخبر؟ قلت. الأمير نازوك قد حضر. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون!
ذهبت والله. ولم يكن بأسرع من أن دخل عليه فضربت عنقه. وحدث أبو القاسم
بن زنجي قال: تظلم إلى ابن الفرات في وزارته رجل من أهل السواد من بعض
العمال. وذكر أن ضيعته قطيعة، ورسمها قديم، وأنه قد عومل فيها على
معاملة الإستان، وسأل إنصافه وإزالة الظلم عنه، وحمله على رسمه، وكتب
إليه رقعة في هذا المعنى، فوقع عليها بإخراج الحال. فأخرج من ديوان
السواد خرج حكي فيه: أنه رجع إلى جماعة العامل للسنة الماضية فوجد في
التخريج: قد أجرى فيها البيدر الذي تظلم لأجله على معاملة الإستان.
فلما عرض ذلك على أبي الحسن عرفه وجوب الحجة عليه، وأن العامل لم
يتحيفه فيما فعله. وأقام على الظلامة، وأن غلته لم تقسم في السنة
الماضية إلا على مقاسمة
(1/182)
القطائع. وكان يكثر من الحضور في أيام
جلوسه للمظالم
ويعاود التظلم، ويقف له في الطريق، ويسأله تأمل أمره والتقرب إلى الله
تعالى بإنصافه. فلما ألح وألحف تقدم إلى أحمد بن يزيد المدير بأن يحضره
جماعة العامل لينظر فيها بنفسه. فأحضره إياها، وتأملها وتتبعها، وحسب
مبلغ ما يجيء من الغلة في سائر أعمال الناحية على أن تلك الغلة جارية
في معاملة الاستان ومبلغ ما يجب فيها على رسم القطائع، ووجد الحيلة قد
وقعت من بعض أعداء أصحاب الضيعة في حك موضع رسمها في القطائع وإثباته
في الإستان. فاستدعى صاحبها وأعلمه بالصورة، وأن الذي أراد الإساءة به
وإفساد معاملته لم يحسن التأتي لذلك، لأنه اقتصر على إصلاح موضع قسمة
الغلة دون تتبع مواضع الحمل، وأن رسمه صحيح لا شبهة فيه. فشكره ودعا
له، وسأله الكتاب إلى العامل بإجرائه على رسمه في القطائع. فتقدم به.
ثم عرفه أنه يتخوف أن يثبت في ديوان الناحية ما حمل من غلتها على غير
الرسم الصحيح، وسأله التوقيع بإطلاقه له ورده عليه. فوقع له بذلك، وكان
الرجل يدعو لابن الفرات ويقول: أي وزير يتفرغ لي حتى يتتبع جمل الجماعة
من أولها إلى آخرها، ويحصل ارتفاع الناحية بأسرها حتى يظهر له موضع
الحيلة علي؟ وكان عبيد الله بن الحسن النرسي رفع جماعته لأعمال السيب
الأعلى لسنة اثنتين وثمانين ومائتين إلى ديوان الخراج، فنظر فيها أحمد
بن محمد الهرلج الكاتب، وعمل لها معاملة تحصيل، فوجد بقايا المعاملة
شديدة الاضطراب، فقابل بها الجماعة لم يجد فيها خطأً، فقال: لا بد أن
يكون لهذا الاضطراب سبب، وتتبع مواضع الجمل التي تقتضيها معاملة
التحصيل، فكان قد عقد جملة النفقات في المعاملة بألوف دنانير، وأرج
النفقات التي عقد منها تلك الجملة، فعجزت ألفا وثلاثمائة دينار. وأخرج
الباب إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، وكانت إليه خلافة أبي
العباس أحمد بن محمد أخيه على ديوان الخراج، فأحضر أحمد بن إبراهيم بن
أفلح العكبري كاتب النرسي، ووقفه على ذلك، فلم تكن له حجة فيه، وعرف
النرسي ما جرى، فلام كاتبه وقال له: لا بد من أن تقف على دستور الجماعة
وأقابلك عليه. وكان النرسي عاملاً كاتباً فهماً بالحساب، وتقابلا، فوجد
النرسي أحمد بن إبراهيم كاتبة قد أغفل عند التحرير الاحتساب بألف
وثلاثمائة دينار انصرفت في النفقة على بثق بالسيب الأعلى. فصار إلى أبي
الحسن بن الفرات ووقفه على موضع السهو من الكاتب، وأعطاه رفع الداريج
بالنفقة، فلم يقبل أبو الحسن ذلك منه. ثم استظهر بالرجوع إلى ما رفع من
هذه الجملة إلى مجالس الأصل والجماعة والسودان، فكانت النسخة واحدةً،
وقد أغفل إيراد هذه النفقة في كل منها، فألزمه المال كملاً، ولم يلتفت
إلى ما أحضره إياه من رفع الداريج. وهذا حق في حكم الكتابة لا يدفع. د
التظلم، ويقف له في الطريق، ويسأله تأمل أمره والتقرب إلى الله تعالى
بإنصافه. فلما ألح وألحف تقدم إلى أحمد بن يزيد المدير بأن يحضره جماعة
العامل لينظر فيها بنفسه. فأحضره إياها، وتأملها وتتبعها، وحسب مبلغ ما
يجيء من الغلة في سائر أعمال الناحية على أن تلك الغلة جارية في معاملة
الاستان ومبلغ ما يجب فيها على رسم القطائع، ووجد الحيلة قد وقعت من
بعض أعداء أصحاب الضيعة في حك موضع رسمها في القطائع وإثباته في
الإستان. فاستدعى صاحبها وأعلمه بالصورة، وأن الذي أراد الإساءة به
وإفساد معاملته لم يحسن التأتي لذلك، لأنه اقتصر على إصلاح موضع قسمة
الغلة دون تتبع مواضع الحمل، وأن رسمه صحيح لا شبهة فيه. فشكره ودعا
له، وسأله الكتاب إلى العامل بإجرائه على رسمه في القطائع. فتقدم به.
ثم عرفه أنه يتخوف أن يثبت في ديوان الناحية ما حمل من غلتها على غير
الرسم الصحيح، وسأله التوقيع بإطلاقه له ورده عليه. فوقع له بذلك، وكان
الرجل يدعو لابن الفرات ويقول: أي وزير يتفرغ لي حتى يتتبع جمل الجماعة
من أولها إلى آخرها، ويحصل ارتفاع الناحية بأسرها حتى يظهر له موضع
الحيلة علي؟ وكان عبيد الله بن الحسن النرسي رفع جماعته لأعمال السيب
الأعلى لسنة اثنتين
(1/183)
وثمانين ومائتين إلى ديوان الخراج، فنظر
فيها أحمد بن محمد الهرلج الكاتب، وعمل لها معاملة تحصيل، فوجد بقايا
المعاملة شديدة الاضطراب، فقابل بها الجماعة لم يجد فيها خطأً، فقال:
لا بد أن يكون لهذا الاضطراب سبب، وتتبع مواضع الجمل التي تقتضيها
معاملة التحصيل، فكان قد عقد جملة النفقات في المعاملة بألوف دنانير،
وأرج النفقات التي عقد منها تلك الجملة، فعجزت ألفا وثلاثمائة دينار.
وأخرج الباب إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، وكانت إليه خلافة
أبي العباس أحمد بن محمد أخيه على ديوان الخراج، فأحضر أحمد بن إبراهيم
بن أفلح العكبري كاتب النرسي، ووقفه على ذلك، فلم تكن له حجة فيه، وعرف
النرسي ما جرى، فلام كاتبه وقال له: لا بد من أن تقف على دستور الجماعة
وأقابلك عليه. وكان النرسي عاملاً كاتباً فهماً بالحساب، وتقابلا، فوجد
النرسي أحمد بن إبراهيم كاتبة قد أغفل عند التحرير الاحتساب بألف
وثلاثمائة دينار انصرفت في النفقة على بثق بالسيب الأعلى. فصار إلى أبي
الحسن بن الفرات ووقفه على موضع السهو من الكاتب، وأعطاه رفع الداريج
بالنفقة، فلم يقبل أبو الحسن ذلك منه. ثم استظهر بالرجوع إلى ما رفع من
هذه الجملة إلى مجالس الأصل والجماعة والسودان، فكانت النسخة واحدةً،
وقد أغفل إيراد هذه النفقة في كل منها، فألزمه المال كملاً، ولم يلتفت
إلى ما أحضره إياه من رفع الداريج. وهذا حق في حكم الكتابة لا يدفع.
(1/184)
وكان أبو الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن أبي
البغل كتب إلى الوزير أبي أحمد العباس بن الحسن وهو يتولى له أعمال
البصرة كتاباً عدد فيه آثاره، وذكر أنه قد عقد صدقات أراضي العرب
بالبصرة لسنة ثلاث وتسعين ومائتين بمائة ألف وعشرة آلاف دينار، وأن
غيره عقد ذلك لسنة اثنتين وتسعين ومائتين ستةً وتسعين ألف دينار. وأخرج
الكتاب إلى ديوان الخراج، فنظر بعض كتاب المجالس فيه، ورجع إلى مواقفة
أبي الحسن بن أبي البغل لسنة اثنتين وتسعين ومائتين، فوجدها مرفوعة
لعشرة أشهر من هذه السنة، وقد أورد فيها من مال الصدقات نيفاً وثمانين
ألف دينار. ثم كتب بعد ذلك بما ارتفع إلى وقت انقطاع العرب، فكان تتمة
تسعين ألف دينار ونيف. ونظر في جماعته لسنة اثنتين وتسعين ومائتين،
فكان ما عقده من ارتفاع مال الصدقة في أرض العرب مثل ذلك، واتفق ما
أوجبته المواقفة وتضمنته الكتب الواردة. وأخرج في ذلك خرجاً إلى ابن
الفرات. وكان ابن الفرات يقصد ابن أبي البغل، ويتبع عثراته، ويبدي
مساويه، لميله كان إلى أبي الحسن علي بن عيسى وعمه أبي عبد الله محمود
بن داود، ومحمد بن عبدون، وانحرافه عن ابني الفرات. فلما وقف أبو الحسن
بن الفرات على ما أخرجه الكاتب. دعا بالجماعة والكتاب، وقابل على ما
ذكر في الباب، فوجده صحيحاً لا شبهة فيه. والتمس من ابن عمر خازن
الديوان كتاب ابن أبي البغل بالتقدير لسنة ثلاث وتسعين ومائتين وكل
كتاب له يتضمن التقدير. فحمل إليه ثلاثة كتب في ذلك قد، أورد فيها
آثاره، وزيادة تقدير مال الصدقة لسنة ثلاث وتسعين ومائتين على عبرتها
لسنة اثنتين وتسعين ومائتين. فلما قرأ ابن الفرات الكتب أمره بتحرير
الخراج وإنقاذه إلى
(1/185)
الوزير أبي أحمد. فلما قرأه الوزير أمر
بمطالبة ابن أبي البغل بالمال، وكتب إليه فيه كتاباً طويلاً عمل في
الديوان، فأجاب عنه بأن الارتفاع الذي ذكره في كتبه الوزير بالتقدير،
ونسبه إلى العبرة لسنة اثنتين وتسعين ومائتين في الصدقة بأراضي العرب
بالبصرة هو مع ارتفاع الشعبي والولدي، وأن الكاتب غلط في النقل ونسب
جميع المال إلى الصدقة، وأنه إذا تؤمل ارتفاع الشعبي والولدي وجد ستة
آلاف دينار وهو قدر الخلاف. وكتب إلى أصحابه المائلين إليه بنسخة جوابه
ليعرفوا الصورة فيه ويعارضوا ابن الفرات في مجلس الوزير أبي أحمد بما
أورده من حجته. وكان الوزير أبو أحمد أيضاً على عناية بابن أبي البغل
شديدة. فلما وقف على الكتاب خاطب ابن الفرات في ذلك بحضرة الكتاب فقال:
الآن وجب المال أيد الله الوزير ولزمه الخروج منه، لأنه اعترف بصحة ما
أخرج، وادعى السهو الذي لا يقبل من العمال بعد نفوذ كتبهم بالارتفاع
ورفعهم حسباناتهم به إلى الديوان. وضحك من المعارضين له ضحك متعجب
منهم. وقال: ما ظننت أن أحداً يذهب عليه هذا الموضع أو يلحقه منه شك.
فورد على القوم ما حيرهم وأدهشهم وقطعهم. وأمر الوزير حينئذ بإنفاذ
الرنداق إلى ابن أبي البغل لمطالبته بالمال، وذلك بعد أن أحضر ابن
الفرات الكتب والجماعات، وواقف الوزير والكتاب واعترفوا بكون الحق معه.
وانحدر الرنداق إلى البصرة، وحمل ابن أبي البغل من داره إلى ديوان
البلد وأقامه على ساق وعامله وخاطبه بما زاد فيه على ما أمر به، ولم
يبرح حتى أخرج ابن أبي البغل المال إلى مجلس العطاء، وأطلق للجند وأورد
جماعته سنة
(1/186)
ثلاث وتسعين ومائتين منسوباً إلى وجهه، وهو
من العين ستة آلاف دينار وكسر.
وكان أبو الحسن بن الفرات في وزارته الأواى قلد نصر بن علي براز الروز
والبند نيجين من أعمال طريق خراسان. فلما رفع الحسان بذلك إلى ديوان
الخراج أخرج الكتاب عليه أنه احتسب في الجاري بربع العشر في الارتفاع
وأوجبه عن ستمائة ألف درهم، ونظر في جماعته وما أورده فيها فوجد المال
خمسمائة وسبعين ألف درهم. وأخرج عليه التفاوت بين المبلغين وهو ثلاثون
ألف درهم. وأجمع الكتاب على مناظرته ومواقفته، فضج وقال: قد رضيت بحكم
الوزير، طالعوه بالصورة، وأنقذوا إليه المؤامرة، وكان متخلياً في دار
حرمه. فضحك وأمر بإيصال الجماعة إليه، وأصحاب المجالس يومئذ أبو القاسم
عبيد الله بن محمد الكلوذاني، وأبو منصور عبد الله بن جبير، وأبو
الحسين الصقر بن محمد، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن سهل، فدخلوا ومعهم
نصر بن علي فقال له ابن الفرات: ويلك يا نصر، عملت لنفسك مؤامرة، من
كان أخذك بذكر الارتفاع؟ ولم لم تقبض جاريك وتمسك عنه؟ قال: أخطأت أيها
الوزير. فقال: خطاؤك يلزمك المال. ثم ألزمه ربع العشر في الثلاثين وأخذ
خطه به. وكان من طريق ما أخرج على نصر أيضاً أنه كتب عند تقلد براز
الروز والبندنيجين فذكر أنه وجد في بعض البيوت من غلة السنة الماضية
نحو من مائة كر بالمعدل حنطةً وشعيراً. ثم أورد في حسابه ستين كراً،
فأوجب عليه التتمة. فقال: إنما كتبت: بنحو مائة كر. ورضي بحكم الوزير
أبي الحسن.
(1/187)
فأنفذ الكتاب الخرج بذلك إلى حضرته. فوقع
بخطه: النحو: من واحد إلى تسعة، فإذا تجاوز للعشرة لم يجز أن يقال فيه:
نحو. فلما وقفوا على ذلك وضعوا عنه عشرة أكرار، وألزموه ثلاثين كراً
حنطة وشعيراً.
وكان أبو أحمد الحسن بن محمد الكرخي يتقلد المسرقان من أعمال الأهواز
في وزارة أبي أحمد العباس بن الحسن، فعملت له مؤامرة عرضت على أبي
الحسن ابن الفرات، فلم يكن فيها على ما ذكر باب واحد يظهر وجوبه، وأخرج
في باب المرافق ما جرت العادة بالتأول فيه. فقال أبو الحسن: هذا لا
يخرج مثله كتاب الحضرة إذ كان رجماً لا يقوم على مثله بينة. وحضره
المظفر بن المبارك القمي بعد مديدة قريبة، وقد كانت له ضيعة بالأهواز
قد باعها على أبي الحسن ابن الفرات، فاستدعى منه حساب وكيله فيها
ليستدل منه على رسومها ومعاملاتها، وجاءه به في بعض العشايا، فقرأه.
ووجده للسنة التي كان الحسن بن محمد الكرخي مقلداً فيها. وقد احتسب
الوكيل فيه نحو خمسمائة دينار، ونسبها إلى الحسن بن محمد وعماله
وخلفائه على سبيل المرفق: فأنفذ في الوقت من أحضر الحسن بن محمد الكرخي
وأحمد بن محمد بن سهل والصقر بن محمد وعبيد الله بن محمد الكلوذاني،
فحضروا، ووجدوه يتميز غيظاً، ودعا بالمؤامرة التي كانت عملت للكرخي
فاطرحها، وأقل المبالاة بها، وأخذ في مناظرته على ما أخرج من المرافق،
فاحتج بما يحتج به مثله في ذلك، وعرض عليه الكتاب حساب ابن المبارك
القمي وقال له: يا عدو الله يا خائن، يا لص، تأخذ من ضيعة واحدة ورجل
واحد خمسمائة دينار مرفقاً وتقديرها نصف ارتفاعه! فكم أخذت من أهل
الكورة؟ وما أحتاج أن أنظر في غير هذا. فبهت الحسن وورد عليه ما لم يكن
في حسابه:
(1/188)
ثم قال: قد أخطأت وأنا بين يديك. فأخذ خطه
طائعاً بعد أن قبل يده مراراً بسبعة آلاف دينار، فأدى من ذلك خمسة آلاف
دينار. ثم استشفع على ابن الفرات، وعرفه سوء حاله وقصور يده، فسامحه
بالبقية، ورد خطه عليه، وقلده بابل وخطر نية.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: حدثني أبي قال: كان أبو العباس وأبو
الحسن ابنا الفرات يكرمان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ويعرفان حقه
وقدمته. فبعث إليه أبو الحسن في بعض الأيام مع أبي عبد الله محمد بن
عبد الله ابن رشيد الكاتب بجملة وافرة، وحمله رسالةً جميلة يعده فيها
بما يتلو ذلك ويتبعه من مراعاته وتفقده. قال ابن رشيد: فأوصلت المحمول
إليه، وأوردت القول معه عليه. فشكر ثم شكر ثم قال فيه أبلغ قول، وكتب
إليه:
أياديك عندي معظماتٌ جلائل ... طوال المدى، شكري لهنّ قصير
لئن كنت عن شكري غنياً فإنني ... إلى شكر ما أوليتني لفقير
قال: فقلت له: هذا أعز الله الأمير حسن. قال: أحسن منه ما سرقته منه.
فقلت له: إن رأيت أن تعرفنيه فافعل. قال: حديثان حدثنا بهما أبو الصلت
الهروي بخراسان عن أبي الحسن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم: أسرع الذنوب عقوبةً كفران
(1/189)
النعمة وبهذا الإسناد عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: يوتي بعبد فيوقف بين يدي الله تعالى فيأمر به
إلى النار فيقول: يا رب، لم أمرت بي إلى النار؟ فيقول: لأنك لم تشكر
نعمتي. فيقول: يا رب، أنعمت بكذا فشكرت بكذا. فلا يزال يحصي النعم
ويعدد الشكر. فيقول الله عز وجل: صدقت عبدي، إلا أنك لم تشكر من أنعمت
عليك على يديه. وانصرف ابن رشيد بالخبر إلى أبي الحسن، وهو في مجلس أبي
الباس أخيه، وعرفه ما جرى، فاستحسن أبو العباس الحكاية عن عبيد الله،
وبعث إليه بصلة أوفر من صلة أخيه على يدي ابن رشيد. فحكي أنه لما أوصل
ذلك إليه سر سروراً شديداً وكتب إلى أبي العباس:
شكري لك معقود بإيماني ... حكّم في سري وإعلاني
عقد ضميرٍ وفمٍ ناطقٍ ... وفعل أعضاءٍ وأركان
قال: فقلت: هذا أحسن من الأول. فقال: أحسن منه ما سرقته منه. قلت: وما
هو؟ قال: حدثني أبو الصلت الهروي بخراسان عن أبي الحسن الرضا عن أبي
الحسن موسى بن جعفر الكاظم عن الصادق عن الباقر عن السجاد عن السبط عن
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليم السلام. قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: الإيمان عقد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان.
(1/190)
وعدت إلى أبي العباس فعرفته ما ذكره عبيد
الله فاستحسنه. واتفق أن حضر المجلس ابن راهويه الفقية وكان متهماً
بالنصب فقال: ما هذا الإسناد؟ فقال له ابن رشيد: هذا سعوط الشيلثا الذي
إذا سعط به المجنون برأ.
قال أبو القاسم بن زنجي: قال لي أبو جعفر محمد بن القاسم بن الكرخي:
قال لي أبو القاسم بن محمد: ما حضرت مجلس رئيس قط إلا ووعدتني نفسي
بالقيام بما يقوم به والزيادة عليه إلا أبا العباس بن الفرات، فإنني
كنت أعلم من نفسي لقصور عما يقوم به، لبراعته في كل حال، واستقلاله
بالعظيم من الأعمال. وحدث أبو عبد الله زنجي قال: كان عبد الله بن
الحسن النرسي وإخوته يتقلدون عدة نواح من سقي الفرات، فاستقصى عليهم
أبو العباس وأبو الحسن ابنا الفرات في المعاملة استقصاءً غلظ عليهم،
وتخوفوهما معه، وعدلوا إلى استخصامهما ومظاهرة أعدائهما ومساعدتهم
عليهما، وأقبلوا يذكرونهما ويذكرون ما في أيديهم من الضياع، وما يتحصل
لهما من الارتفاع. فتقدم أبو العباس إلى أبي الحسن أخيه أن يعمل لما
يتقلدونه من الأعمال عملاً، ويخرج ما يلزمهم من مردود الجاري
والاحتسابات الباطلة، ولا يحتسب لهم إلا بالواجب الصحيح، ويرجع إلى ما
كتب به أصحاب البرد والأخبار فيما وصل إليهم من الأموال والاستثناء على
مبتاعي الغلات. فعمل ذلك وجوده، وأحضره أبو العباس، فوجده يشتمل على
ثلاثمائة ألف دينار، فاستحسنه ووافقه على أن يجعله في الديوان، فأي وقت
أنكر أحد من النرسيين أمراً أظهره. ولم يمض إلا أيام يسيرة حتى بلغ أبا
العباس اجتماعهم مع محمد بن داود ومحمد بن عبدون وإفاضتهم في ذكره وذكر
أخيه أبي الحسن، وأنهم قد جمعوهما على مخاطبة أبي القاسم عبيد الله بن
سليمان في بابهما، وأن يضمنا له عنهم مالاً وافراً من ضياعهما، ولم
يزالا بهما إلى أن خاطبا عبيد الله في ذلك. وواجهوا أبا العباس
(1/191)
وأبا الحسن بذكر الضمان، فثبت أبو العباس
وأقل الحفل بهم، وقال لعبيد الله: هذا كلام فارغ لا محصول له، وتشنيع
باطل لا حقيقة لشيء منه، وإنما دعاهم إليه الاستقصاء في المعاملة،
وعليهم أيها الوزير ما اقتطعوه من أصول الأموال، وسرقوه من الغلات،
وزادوه في الاحتسابات، ثلاثمائة ألف دينار، أنا أُصححها عليهم بالشواهد
الظاهرة والدلائل الواضحة. فلما سمع ذلك عبيد الله خاف أن يتصل خبر
المجلس بالمعتضد بالله رحمة الله عليه فسلمهم إليه ومكنه منهم. ووجه
أبو العباس من وقته إلى دورهم من كبسها، وحمل ما كان فيها من الأعمال
والحسبانات والكتب والرقاع. ونقلهم إلى ديوانه، وأقبل يناظرهم على باب
باب مما أخرج عليهم، حتى أخذ خطوطهم به، وأحضر عبيد الله بن سليمان
ذلك، فاستحسنه، وطولبوا بالمال فأدوه. قال أبو عبد الله زنجي: وقد كان
النرسي الأكبر عبد الله بن الحسن صار إلي في بعض الأيام مسلماً علي، ثم
سألني إجمال خلافته بحضرة أبي العباس ابن الفرات، وحفظ غيبه ومراعاة ما
يجري من ذكره، ووضع غلامه بين يدي صرة فيها ثلاثمائة دينار، وتختين
فيهما ثياب، وسامني قبول ذلك فامتنعت، وقال: إني لا أُكلفك أن تكشف لي
سراً لصاحبك ولكن تشعرني بما يجري من ذكرنا فقط. فقلت: مت ضمنت لك هذا
لم أف به، ولكنني أحسن المناب عنك، وأقضي ما يعرض من حوائجك ولا أُعلمك
ذلك ولا أمتن به عليك. وأما هذا المحمول فعلي وعلي، وحلفت يمنيناً
غموساً إن قبلته على وجه وسبب. فنهض وتركه بين يدي، وتقدمت إلى بعض
غلماني بأخذه إتباعه به، ورده عليه، وحذرته من أن
(1/192)
يرجع وهو معه، فأبطأ الغلام طويلاً، ثم عاد
وعرفني أنه لحقه، وقد نزل في دار بعض الوجوه، ولم يزل يسأله ويلطف به
إلى أن تقدم إلى غلامه بأخذه. فلما قبض ابنا الفرات على النرسيين،
وأُخذ ما كان في منازلهم من الأعمال والكتب وحمل إلى دارهما، وميزاه،
وجدا فيه ثبتاً بما بر به النرسيون أسبابهما. قال أبو عبد الله: وكنت
جالساً قريباً من أبي العباس، ومعي أبو منصور وأبو نوح عبد الله وعيسى
ابنا جبير وجماعة من الكتاب، فأنا أحدثهم بحديث قد شغلني عما سواه إذ
وقع هذا الثبت في يد أبي العباس فأخذه وأنفذه إلى أبي الحسن أخيه، وهو
قريب منه، وقال: انظر فيه هل ترى إسماً لصاحب الزاي يريد زنجي فقرأه
وتأمله ثم رده عليه وقال: ما فيه ذكر له. فأعاده إليه ثانياً وقال:
اردد نظرك فيه. فأعاد قراءته ورده وقال: ماله فيه ذكر. كل هذا ولا أعلم
صاحب الزاي من هو، حتى قال لي أبو منصور بن جبير: أيها المشغول بالحديث
قد افتضح اليوم الخلق غيرك، واسودت الوجوه وابيض وجهك. فقلت: بماذا؟
قال. وجد فيما أخذ من دور النرسيين
تبت بما رفعوه إلى واحد واحد من أسباب أستاذنا ولم يوجد لك فيه ذكر ولا
اسم. فحمدت الله وشكرته على ما وفقني له. ولما فرغ أبو العباس دعاني
إلى حجرة خلوته، فدخلت وهو جالس، ومعه أخوه أبا الحسن، فشكراني على
خروجي من جملة من قبل بر النرسيين وجزياني خيراً عن حفظ الأمانة،
واستقامة الطريقة، وخاطباني أجمل خطاب ووعداني أحسن وعد، وحلفا على
أنني قد أصبحت لديهما كأحدهما. ولم تزل الحال تزيد معها وعندهما إلى
آخر المدة. وكان النرسيون بفضل عدواتهم لهما قد توصلا إلى بر كتابهما
وخزانهما
(1/193)
وغلمانها والفراشين والقهارمة في دورهما،
ومن يتولى نفقات حرمهما، حتى لا يخفى عليهم شيء من أمورهما في خلواتهما
ولا مجالس أعمالهما. بما رفعوه إلى واحد واحد من أسباب أستاذنا ولم
يوجد لك فيه ذكر ولا اسم. فحمدت الله وشكرته على ما وفقني له. ولما فرغ
أبو العباس دعاني إلى حجرة خلوته، فدخلت وهو جالس، ومعه أخوه أبا
الحسن، فشكراني على خروجي من جملة من قبل بر النرسيين وجزياني خيراً عن
حفظ الأمانة، واستقامة الطريقة، وخاطباني أجمل خطاب ووعداني أحسن وعد،
وحلفا على أنني قد أصبحت لديهما كأحدهما. ولم تزل الحال تزيد معها
وعندهما إلى آخر المدة. وكان النرسيون بفضل عدواتهم لهما قد توصلا إلى
بر كتابهما وخزانهما وغلمانها والفراشين والقهارمة في دورهما، ومن
يتولى نفقات حرمهما، حتى لا يخفى عليهم شيء من أمورهما في خلواتهما ولا
مجالس أعمالهما.
وقال أبو القاسم بن زنجي: كان حامد بن العباس قد اعترف بأن له قبل
جماعة من أهل واسط نحو ثلاثمائة ألف دينار، منهم علي بن إسحاق وأبو
أحمد بن المنتاب وابن شاندة وابن جناح وإسحاق بن شاهين. وكتب إليهم
كتباً بخطه بتسليم ذلك إلى محمد بن علي البزوفري العامل كان يومئذ على
أكثر أعمال واسط وأنفذ الوزير أبو الحسن علي بن الفرات الكتب إلى محمد
بن علي، وأمره بأخذ المال من القوم وحمله. فكتب محمد بن علي يقول: إنهم
أنكروا ما ادعاه حامد عليهم وكتب بتسلمه منهم. ووقف الوزير على ذلك،
فغاظه، وعظم عليه، وظن أن غرض حامد فيما كتب به المدافعة والتربص ومضي
الأيام بنفوذ الكتاب ورجوع الإجابة. قال أبو القاسم: وكان ورود هذا
الجواب في يوم الجمعة، وأنا جالس بحضرته، فأعطانيه ومعه الكتب
المردودة، ورسم لي الدخول إلى حامد وأن أقفه على ما ورد، وأُتبع ذلك
بما تقتضيه الصورة من التحريك والغلظة في المخاطبة. فقمت، ومشى بين يدي
الغلام الموكل بالدار التي كان حامد فيها، فلما أراد فتح بابها وكان
مقفلاً سمع حامد صوت فتح القفل، فارتاع، وتشوف ورآني، فسكن لأنني كنت
أُكرمه وأعرف له حق رئاسته وجميل فعله بنا، وكان غيري ممن يدخل إليه
يسيء عشرته، ويلقاه بالقبيح فيما يخاطبه به. فأقرأته كتاب البزوفري،
وأريته الكتب المردودة، وعرفته ما وقع في نفس الوزير من أمرها، وقلت:
الصواب أن تكون الحال معمورةً، والمواعيد صحيحة، لئلا يتمكن طاعن من
طعن. فذكر أن المال قبل القوم على مبالغة التي كتب بها إلا ألف
(1/194)
دينار شك فيه. وذكر أنه قد كان كتب بدفعه
إلى أحد غلمانه، فإن كان أُطلق وضع من الجملة. وبذل إعادة المكاتبة
وتأكيد القول على القوم مما لا يكون بعد مراجعة. فقبلت ذلك منه، ووضع
غلامي الدرج والدواة بين يديه، وكتب إلي القوم بما استوفى الخطاب فيه.
وأخذت الكتب وعدت إلى الوزير، وابنه المحسن جالس على يساره وكذلك كان
يجلس ووضعتها بحضرته، وعرفته أن حامداً أنكر مخالفة القوم وعظم عليه
ردهم الكتب، وأعاد اليمين بحصول المال قبلهم، وأنه قد جدد مكاتبتهم بما
لا يتأخر معه صحته من جهتهم: فقرأ الكتب، وتقدم بإجابة البزوفري عن
كتابه، وأمره بإحضارهم، وقبض المال منهم، وحمله منفرداً عن مال الخراج.
ووقع فيه توقيعاً طويلاً يلزمه فيه المبادرة بالمال وترك تأخيره أو
قبول احتجاج في أمره، وأمرني بختمه وإنفاذه في خريطة محلقة. وأصلحه
صاحب الدواة في الخريطة، وجاءني بها فعنونتها وحلقتها بإحدى عشرة
حلقةً، وأنفذتها إلى أبي مروان عبد الملك بن محمد بن عبد الملك الزيات،
وكان على ديوان البريد. فلما خلا مجلس الوزير تقدمت إليه وعرفته سراً
أنني رأيت الشعر قد كثر على وجه حامد وذراعيه، ولم أستجز ستر ذلك عنه،
فأحمدني على مطالعته بذلك، وأمر بإحضار الحسن المزين، وكان في الدار،
وتقدم إلى بدر الخادم الحرمي بإحضار صينية المزين على مثل ما تقدم عليه
إليه. وأمر بإدخال الحسن المزين والصينية إلى حامد، وتقدم عقيب هذا
بإصلاح الحمام على أنه هو الداخل، ثم استحضر أبا زكريا
(1/195)
يحيى بن عبد الله الدقيقي قهرمانه، ورسم له
بإحضار ثياب تاختج وقصب ودبيقي وعمائم ليختار منها لحامد ما يصلح
لخلعتين. فقال له يحيى: ليس في الخزانة إلا متاع حمله التجار وما قطع
ثمنه معهم. فقال: هاته. فليس يلزمنا لهم أكثر من أن نعطيهم الثمن على
سومهم. فمضى وأحضر عدة تخوت اختير منها بحضرته ما يكفي لمبطنتين
ودراعتين من تاختج وثوبان من دبيقي لسراويلين وثوبان من قصب لقميصين
وعمامتان من تاختج، وأمره بإحضار الخياطين وألزمهم الفراغ عاجلاً من
خلعة واحدة ليلبسها حامد عند الخروج من الحمام. فذكر ان من برسم الدار
من الخياطين تأخروا لأنه يوم جمعة، فأنكر ذلك وقال: برسم الدار فوجان
أفتأخروا جميعاً؟ والآن فاستدع من على الطريق من الخياطين حتى يفرغوا
الساعة. وتفرق الرسل في طلب الخياطين إلى أن أحضروا جماعةً منهم، وسلمت
إليهم الثياب، ولم يزل يراعيهم إلى أن قاربوا الفراغ من خلعة واحدة.
وتقدم إلى بعض الغلمان بإنذار حامد بإصلاح الحمام. وأعلمه بذلك فدخله.
وأمر الوزير بحمل الخلعة التي فرغ منها إليه ليلبسها عند خروجه، فلما
خرج قدمت إليه فامتنع من لبسها. وعرف الوزير امتناعه فأنكره، وتقدم إلي
بالمضي إليه والرفق به وإبلاغه
رسالةً عنه في هذا المعنى، ففعلت ولطفت به في لبس الثياب فأبى وقال:
ثيابي غير محتاجة إلى تغيير. وعاودته فأقام على أمره. ووقع لي في هذا
الوقت تخوفه من حيلة تتم عليه في أمر الثياب، فحلفت له على بعد الحال
من ذلك وقلت: أنا أدخل الحمام وأُفيض علي الماء ثم أخرج وأتنشف وألبس
الثياب ثم أنزعها لتلبسها بعدي. وقلت: إن نية الوزير قد صلحت، فلا
تفسدها بما أنت عليه من هذا الامتناع. فلان في القول، وجددت اليمين
فسكن ولبس الثياب، وعدت إلى الوزير فعرفته ذلك فسر به. ثم تقدم بأن
يحمل إليه صينية الطيب وبخور كثير وماء ورد فأنفذت واستعمل منها ما
أراد. وخف من أن يعيد الوزير على ابنه المحسن ما جرى فيقع عنده أقبح
موقع فتقدمت إليه وسألته ستر ذلك عنه. فتبسم وجعلني على ثقة ألا يكون
لي فيه ذكر. ثم عدت إلى موضعي من المجلس. فلما قعدت فيه سمعت أصوات
الملاحين في طيار المحسن، ثم اتصل ذلك بصعوده فحمدت الله تعالى على ما
وقع لي من مخاطبة أبيه بما خاطبته به قبل حضوره. ثم خفت أن يجري في عرض
الحديث ذكر ذلك على غير عمد، فبينما أنا على هذه الجملة من الإشفاق إذ
وافى أبو صالح مفلح الخادم الأسود برقعة من المقتدر بالله رحمه الله
ورسالة فاجتمعوا على السرار. وكتب الوزير أبو الحسن الجواب بخطه وعنونه
وختمه، وسلمه إلى مفلح، وقد نودي بالصلاة وقت المغرب، وانصرف، وانصرف
المجلس في أثره. ولما عدت إلى منزلنا حدثت أبي بما جرى، فاستصوب فعلي
وقال لي: عرف الله تعالى نيتك فوقاك ما تخوفته. ً عنه في هذا المعنى،
ففعلت ولطفت به في لبس الثياب فأبى وقال: ثيابي غير محتاجة إلى تغيير.
وعاودته فأقام على أمره. ووقع لي في هذا الوقت تخوفه من حيلة تتم عليه
في أمر الثياب، فحلفت له على بعد الحال من ذلك وقلت: أنا أدخل الحمام
وأُفيض علي الماء ثم أخرج وأتنشف وألبس الثياب ثم أنزعها لتلبسها بعدي.
وقلت: إن نية الوزير قد صلحت، فلا تفسدها بما أنت عليه من
(1/196)
هذا الامتناع. فلان في القول، وجددت اليمين
فسكن ولبس الثياب، وعدت إلى الوزير فعرفته ذلك فسر به. ثم تقدم بأن
يحمل إليه صينية الطيب وبخور كثير وماء ورد فأنفذت واستعمل منها ما
أراد. وخف من أن يعيد الوزير على ابنه المحسن ما جرى فيقع عنده أقبح
موقع فتقدمت إليه وسألته ستر ذلك عنه. فتبسم وجعلني على ثقة ألا يكون
لي فيه ذكر. ثم عدت إلى موضعي من المجلس. فلما قعدت فيه سمعت أصوات
الملاحين في طيار المحسن، ثم اتصل ذلك بصعوده فحمدت الله تعالى على ما
وقع لي من مخاطبة أبيه بما خاطبته به قبل حضوره. ثم خفت أن يجري في عرض
الحديث ذكر ذلك على غير عمد، فبينما أنا على هذه الجملة من الإشفاق إذ
وافى أبو صالح مفلح الخادم الأسود برقعة من المقتدر بالله رحمه الله
ورسالة فاجتمعوا على السرار. وكتب الوزير أبو الحسن الجواب بخطه وعنونه
وختمه، وسلمه إلى مفلح، وقد نودي بالصلاة وقت المغرب، وانصرف، وانصرف
المجلس في أثره. ولما عدت إلى منزلنا حدثت أبي بما جرى، فاستصوب فعلي
وقال لي: عرف الله تعالى نيتك فوقاك ما تخوفته.
وحدث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأنباري زنجي قال: لما تقلد أبو
الحسن علي ابن محمد بن الفرات الوزارة الأولى واستدعاني واستدعى أبا
علي محمد بن علي بن مقلة، وبدأ فدفع لي درجاً فيه ثبت الدواوين بالحضرة
وأرزاقها، وقال لي: اختر من ذلك ما تحب أن أُقلدك إياه، فأخذته وقرأته
إلى آخره، ثم أعدت نظري فيه لأنني كلما رأيت شيئاً تتبعته نفسي. فلما
رأى ذلك قال: أنا أعرف منك بما تريده، وقد قلدتك ديوان الدار ومكاتبة
العمال بالسواد والأهواز وكرمان وما يجري مع ذلك من أعمال
(1/197)
الحرمين وعمان وأذربيجان وأرمينية وأصحاب
الأطراف والأعمال الجارية بحضرتي، وأجريت عليك في كل شهر خمسمائة
دينار، فقدر ما تحتاج إليه لكتابك. فقدرت ذلك بتفصيل اشتملت جملته على
خمسة وتسعين ديناراً، وتقدم إلى أبي علي بن مقلة بأن يوقع لي بذلك،
فوقع. ثم دفع الدرج إلى أبي علي وقال له: اختر منه ما تريد. فأخذه أبو
علي ودفعه إلي وقال لي: أحب أن تختار لي. فنظرت فلم أجد ما يصلح له أن
يتقلده إلا ديواني الفض والخاتم، وجاريهما في كل شهر أربعمائة دينار،
فعرفته ذلك. وسأل الوزير تقليده إياهما، فتقدم إلي بالتوقيع له بهما،
فوقعت. ثم قال لنا: إن بني أخي وأهلي سيصيرون إلي ويسألونني أن أقلدهم
بقية هذه الأعمال، فإن كان في نفوسكما أن تسألاني بقية شيء منها مضافاً
إلى ما قلدتكما إياه فاذكراه لأوقع لكما به. فشكرناه وعرفناه أن لا
حاجة بنا إلى زيادة عليه. وتقدم إلي بأن أسبب لنفسي وكتابي بجاري شهرين
على عمال الأهواز، وأسبب لأبي علي بن مقلة بمثل ذلك، ففعلت، وعرضت
الكتب عليه، فأمر بإخراج نسختها إلى الديوان، وضربها بالعالامات، وردها
إليه بعد ذلك. وجرى الأمر على هذا، وأُعيدت إليه، فوقع فيها وأمر
بختمها. وأحضر يوسف بن فنحاس الجهبذ اليهودي وكان جهبذ الأهواز، فقال
له: إن هذه الحال وافت ولم يتأهب أصحابنا لها، وقد سببت أرزاقهم على
مال الأهواز، ولا بد أن تقدم لهم مال شهرين. فذكر كثرة الأموال التي
ألزم تعجيلها من معاملة الأهواز، وأنه لا يتمكن من غير ذلك، فلم يزل
معه في مناظرة حتى استجاب إلى إطلاق جاري شهر معجلاً في ذلك اليوم. ثم
أنفذت بشرى غلامي معه لقبض المال منه، وفعل أبو علي مثل فعلي،
وانصرفنا، وفي منزل كل واحد منا ألوف دراهم كثيرة. فتعجبنا وتعجب الناس
(1/198)
من حسن رعايته، وأنه لم يبدأ بأحد قبلنا،
ولا شغلته الحال التي دفع إلى معاناتها عن افتقاد أمورنا والعناية
بمصالحنا. وقال أبو القاسم بن زنجي: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول في
وزارته الثالثة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة أنه أنفق على الدار التي
كان ينزلها في ذلك الوقت وفيها قبض عليه، وهي دار سليمان بن وهب
وموقعها في المخرم، وفي يد الحاجب الكبير أبي منصور سبكتكين الآن شيء
منها، وفي يد ابن لشكرون شيء آخر، وفي أيدي قوم من قواد الديلم الباقي
ثلاثمائة ألف دينار. واشتهى في وزارته هذه أن يجمع حرمه وبنات إخوته
وأصاغر ولده في الدار المعروفة بدار البستان، من هذه الدار المعروفة
بدار سليمان بن وهب، فتقدم بإصلاحها وتنظيفها وإنفاق ما يحتاج إليه من
تبييضها، فبلغت النفقة خمسين ألف دينار. وجلس وهم فيها يوماً واحداً،
ولم يعد بعد ذلك إلى الجلوس فيها معهم.
ومن أحاديث أبي العباس أحمد بن محمد أخي أبي الحسن في فضائله ما لا بأس
بإيراده في عرض أخباره. قال عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر: حدثني بعض
الكتاب قال: سمعت محمد بن عبدون يحدث في مجلسه قال: جاء ابن سمعان صاحب
بدر المعتضدي إلى أبي النجم بدر وقال له: أيها الأمير، أحمد بن محمد بن
الفرات لا يزال يستخف بنا، ويستهين برسلنا، ويجبههم بالقبيح فيما
يوصلونه إليه، ويعرضونه عليه من التوقيعات بإقطاعاتك، وهو عدو مكاشف
لهذه الدولة، وصاحب إسماعيل بن بلبل.
(1/199)
فقال له بدر: خذ نحريراً وامض به إلى
ديوانه وجئني به. فجاءه به، فلما رآه قال له: أمسيطر أنت على مولاي أم
شريك له؟ يقطعني الإقطاعات فتمتنع منها وتعترض فيها! فقال له: اسمع
أيها الأمير قولي، فإن ثبتت عندك حجة لي فخفض من لومي وإلا عملت بعدها
ما رأيت. أنت تعلم أن قوام الملك بالمال، وأن الجند لا يسمعون ولا
يطيعون إلا إن أعطاهم، وإن عدموا المال كان ذلك الداعية القوية إلى
ذهاب الملك وسفك الدماء وانقطاع السبل وانتهاك المحارم. وجميع المال في
عنقي وعلي فأذا خرجت الضياع من الإقطاع تبعها الخراج فتحيفت الحقوق،
وأضيف إلى كل ناحية ما يجاورها، وكان في ذلك مالاً خفاء به مما أعوذ
بالله منه. قال له: صدقت يا أبا العباس أيدك الله ارتفع فإن الحق في
يدك. وإنما تحرس بهذا الفعل نعمة مولاي من أن تزول، ودماء الخاصة
والعامة من أن تراق، وكل من يخاطبني فإنما يتبع هواي ولا ينظر في أعجاز
الأمور. أحضروني خلعاً. فأُحضرها فمنحها أبا العباس، واحتسبه حتى أكل
عنده وقدمه في مجلسه، ودعا بطيب طيبه به. فلما أُحضرت المجمرة قام أبو
العباس ليتبخر خارج المجلس، كما كان أبو القاسم عبيد الله يفعل وهو
كاتبه إذا أمر له بمثل هذا. فحلف بدر أنه لا يتبخر إلا بين يديه. فبخره
وخرج، فأمر نحريراً وابن سمعان بالركوب معه إلى ديوانه على سبيل
التكرمة وقال له: يا أبا العباس، لا ترى قط من إلا ما تحب بعد هذا
اليوم ولا تجري مني إلا مجرى الأخ، ولست أُورد عليك توقيعاً بإقطاع ولا
ضيعة بعد هذه الدفعة. قال: وسمعت أبا الحسن محمد بن عبدون يقول: سمعت
بدراً يقول بعد خروج ابن الفرات: لا يزال السلطان بخير ما دام في كتابه
مثل هذا الرجل لولا عجلة فيه.
(1/200)
قال أبو القاسم بن زنجي حدثني أبو عبد الله
أبي قال: وافت رسالة أبي النجم بدر في ذلك اليوم إلى أبي العباس بن
الفرات وأنا في الديوان بين يديه، فوجم لها كل من حضر سواه، فإنه بادر
إلى لبس ثيابه، واستدعى دوابه، وركب من وقته وسار إلى بدر. فعدل به ابن
سمعان إلى داره، فأجلسه فيها، وعرف أبو القاسم عبيد الله بن سليمان
ذلك، فقامت عليه القيامة منه، وعظمت في نفسه الحال فيه، وبادر إلى بدر
تخوفاً من أن يتصل بالمعتضد بالله فينكره على بدر ويجري ما يضيق صدراً
به. ووصل عبيد الله إلى باب بدر وسأل عن ابن العباس، فعرف انصرافه
مكرماً إلى ديوانه، فحين سمع ذلك أراد الرجوع قبل لقائه، فاستقبحه،
ودخل إليه. فابتدأه بدر بالحديث، ونسب الأمر عنده إلى أجمل وجوهه، وأخذ
عبيد الله في وصف ابن الفرات وتقريظه، وذكر كفايته وكتابته فصدقه بدر.
وقال: ما ظننه على ما شاهدته منه. ولا يزال السلطان بخير وأمره
مستقيماً، ما دام في أعوانه مثل هذا الرجل. ولما عرف بدر أن ابن سمعان
أدخل أبا العباس إلى داره قبل أن يطالعه بخبره أنكر ذلك عليه أشد
إنكار، وأغلظ عليه القول فيه أتم إغلاظ، وتقدم إليه بالإذن له والدخول
إلى بين يديه، وكان فعل ابن سمعان ما فعله مما حل ما كان في نفس بدر
وخففه.
وحدث أبو القاسم قال: حدثني أبو عبد الله أبي قال: كانت للمعتضد رحمة
الله عليه جارية يتحظاها يقال لها فريدة، فأمر بإقطاعها ضياعاً بمال
حده وبين مبلغه، فصار كاتبها إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان
بتوقيع المعتضد بالله بذلك، فقبله ووقع بامتثاله، واختار كاتبها ضياعاً
وبساتين بأكناف مدينة السلام من الجانب الشرقي، وعرض على عبيد الله بن
سليمان الثبت بذلك فوقع بتسليمه. وصار الكاتب إلى أبي العباس بن الفرات
به فقبله، وطالب بتسليم ما في الثبت من
(1/201)
الضياع والبساتين فامتنع عليه وقال: هذه
مواضع طرف أمير المؤمنين إذا ركب ولا يجوز أن يقطع لأحد. فأقام على
المطالبة بتسليم ذلك إليه، وأقام أبو العباس على منعه إياه. ومضى
الكاتب إلى فريدة، فأعاد عليها ما جرى شيئاً شيئاً وقال لها: مضيت إلى
الوزير فعرضت عليه توقيع الخليفة بما أمر لك به والتسمية بما اخترته
فقبل ووقع، وصرت إلى ابن الفرات كاتبه فدفعني وقال. إنه لا يسلم إليك
الضياع والبساتين. وجرى علي من رده القبيح ما استحييت معه من كل من حضر
عنده وهذا لا يشبه محلك من الخليفة وموضعك من جميل رأيه. وأتبع هذا
القول بما يشاكله من الطعن على أبي العباس بن الفرات. فدخلت على
المعتضد بالله وهي مقطبة كالسيف المرهف، وأعادت عليه قول الكاتب وقالت:
وأي شيء ينفعني من عنايتك بي ومحلي منك إذا كان كاتبك يعارضك في أوامرك
ولا يقبل توقيعك؟ وسألته أن يوقع لها توقيعاً مجرداً بإمضاء الإقطاع
على ما سمي في الثبت، فقال لها: لست أتهم ابن الفرات في معرفته بحقك.
ومن المحال أن يمنع كاتبك مما أراده إلا جحجة تقوم له بالعذر، فسليه
بأي شيء أحتج عليه، ولأي سبب منعه، ليكون ما أوقع به بحسب ذلك.
فاستعلمت الكاتب، فذكر أنه قال له: هذه مواضع طرف أمير المؤمنين إذا
ركب، ولا يجوز أن يقع عليها إقطاع لأحد. فقال المعتضد بالله: وقد صدق
ابن الفرات وأحسن فيما فعل، أرددي كاتبك إليه وسليه أن يختار لك بما لك
ضياعاً يعود عليك منها ما وقعت به. فعاد الكاتب إليه برسالتها فاختار
لها الضياع المعروفة بالفريديات من بزر جسابور، وكتب بتسليمها إليها.
قال أبو القاسم: وهذا قريب من حديث حدثني به عمي أبو الطيب أحمد ابن
إسماعيل فإنه قال: إن المعتضد بالله رحمه الله أقطع دريرة حظيته التي
قال فيها
(1/202)
علي بن محمد بن بسام ما قال إقطاعاً، ووقع
به توقيعاً تسلمه كاتبها وصار به إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان،
فوقع تحته بامتثاله. ثم جاء إلى أبي العباس ابن الفرات، فوقع بالعمل
عليه، وأنشأ الكتاب من حضرته بتسليم الإقطاع والتمكين منه، عنايةً منه
بأمرها، وإيثاراً لاجتلاب شكرها. وأمر المدير بإدارته في الدواوين،
وإثباته، وأخذ علامات الكتاب على رأسه ورده إلى حضرته من وقته، ففرغ
منه في نحو من ساعتين وسلمه أبو العباس إلى الكاتب وانصرف شاكراً. ومضى
إلى أبي القاسم ميمون بن إبراهيم صاحب ديوان الزمام، فعرض عليه التوقيع
والكتاب فقبل التوقيع وامتنع من إمضاء الكتاب، وذكر أنه يحتاج إلى أن
يخرج إليه من ديوان الزمام عين الإقطاع ليكون بما يمضيه على معرفة
وبينة. فالتمس منه توقيعاً إلى أبي أحمد ابن أخيه، وكان خليفته على
الديوان، فوقع له بذلك، ودفع التوقيع إلى أبي أحمد. فماطله ودافعه، ولم
يزل يتردد إليه وهو يعده ويخلفه، وعاد إلى أبي القاسم ميمون مستعدياً
به على خليفته، وشاكياً من مطله ومدافعته، فقال له: لا يجوز إمضاء
الكتاب إلا بعد الوقوف على العبرة من الديوان. وحمل الكاتب ما عرض
بقلبه من الضجر بوقوف أمره على أن صار إلى دريرة وعرفها الصورة،
وخاطبها بما بعثها فيه على مراجعة الخليفة، فدخلت إليه، وأعادت ما ذكره
الكاتب عليه. ثم شكرت الوزير وذمت ميمون
(1/203)
ابن إبراهيم، واستدعت منه توقيعاً بإنكار
ما كان منه، وإمضاء إقطاعها على ما أمر به وأمضاه وزيره وصاحب ديوانه.
فقال لها: الخطأُ منك ومن كتابك، ولو كنت عملت ما يوجبه الحزم ويقتضيه
الصواب لراج أمرك وعمل كتابك وتسلمت إقطاعك، ولكن كاتبك متخلف لا يحسن
التأتي لأمره، ويريد ما يريده على شدة وصعوبة، فقالت: يا مولاي، وما
كان الصواب؟ قال: أن تبعثي إليه بثياب وألطاف كما يفعل الناس، فإنك كنت
تستغنين عن خطابي وخطاب وزيري، وكان ذلك أنفع لك وأعود في العاقبة
عليك. قالت: يا مولاي، فأحتاج إلى هذا مع موضعي منك وموقعي من عنايتك؟!
قال: إي والله إنك لمحتاجة إليه. فعدلت عما كانت عليه، وبعثت إلى أبي
القاسم ميمون تخوتاً فيها ثياب فاخرة من قصب ودييقى، وطيباً كثيراً،
وراسلته بإنكارها على الكاتب تقصيره في حقه وإغفاله ما وجب أن يقدمه من
ملاطفته وبره، وسألته إمضاء الكتاب بإقطاعها. فقبل ما أنفذته، وأخذ
الكتاب من يد الرسول، وعلم عليه، وسلم إليه خرجاً كان خليفته قد أخرجه،
واشتمل على عبرة ثقيلة لا توجب إمضاء الإقطاع، وعرفه إغضاءه عن ذلك
ومسامحته إياها بالفضل، واعتماده موافقتها بهذا الفعل. فأعادت على
المعتضد بالله ما جرى، فاستصوب ما كان منها وقال لها: هذا أنفع لك من
عنايتي في هذا الوقت وفيما بعده. وكان أبو القاسم ميمون يفتخر على
الكتاب بأنه أخذ مصانعة بأمر الخليفة وأن ما فيهم من يجسر على مثل ذلك.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال حدثني أبو الطيب أحمد بن إسماعيل عمي قال:
مضيت في يوم من الأيام على الرسم إلى الديوان بالثريا، فبينما أنا أسير
(1/204)
إذ لحقني فارس فسايرني، وأقبل يحدثني
ويسألني عن اسمي وكنيتي ومنزلي وصناعتي، فلما ذكرت له مكاني مع أبي
العباس بن الفرات قال: كيف مذهبه في العمل؟ قلت: أحسن مذهب، يستقصي
حقوق سلطانه ويستوفي مناظرة عماله، ويجد في استخراج أمواله. قال لي:
فكيف يجري أمر هذا الوزير؟ يعني عبيد الله بن سليمان فإنني ما رأيت أشد
تخليطاً منه، ولا أفظ من حجابه، ولا أكثر إخلافاً للمواعيد منه، قلت
له: وكيف ذلك؟ قال: لأني رجل من الفرسان قد أخر عني رزقي، وأحوجني إلى
القدوم إلى الحضرة متظلماً منه، وأنا أجتهد في أن يطلق لي ما وجب من
رزقي فليس يلتفت إلي، ولا يفكر في، وكلما رفعت إليه رقعةً رمى بها،
ومتى وصلت إليه لم يخرج عليها توقيع، فقد احترقت وهلكت وذهبت نفسي
وطالت على بابه مدتي، فكيف يمكن هذا الرجل وهو على ما وصفته لك أن يعمل
أعمال الخليفة ويدبر أمر مملكته؟ قلت له: الذي نعرفه من مذهبه ومعرفته
وكفايته غير ما ذكرته عنه، وما يدع شيئاً إلا نظر فيه، ولا مظلوماً إلا
أنصفه. قال: الذي يبلغني عنه أنه قد اصطلم الدنيا، وأخذ الأموال لنفسه،
فالجند يتظلمون، وحاشية الخليفة يشكون، والنواحي خراب. فقلت: ما أحد من
الحاشية إلا وهو راض، والأموال كلها تحمل إلى الحضرة وقد حسب للعمال
أرزاق الشحن. والعمارة زائدة، والأمور منتظمة. فقال: ما الآفة في جميع
ما يجري إلا هذا الغلام الذي قد رفعه الخليفة، وأعطاه ما لا يستحقه
وصير الناس عبيداً وخولاً له. قلت: ومن الغلام الذي تعنيه؟ قال: بدر.
وأقبل يطعن عليه، ويتكلم فيه. قلت: ما وضعه الخليفة إلا موضعه، والرجال
حامدون له راضون برئاسته. ثم حول وجهه فنظر إلى كوكبة عظيمة من الفرسان
قد
(1/205)
أقبلت، فحرك دابته ومضى. فلم يبعد حتى أقبل
العسكر، وجاء قوم يسألوني عن الخليفة هل رأيته، وأين أخذ. فقلت لهم: ما
رأيت الخليفة. قالوا: فهل مر بك فارس على دابة من صفته كذا، وعليه من
اللباس كذا وكذا؟ قلت: نعم. قالوا: فأين مضى؟ قلت: بين أيديكم، فمن هو؟
قالوا: المعتضد بالله. فوقعت فيما لا ينادي وليده؟ وأقبلت أتذكر ما
خاطبني به وأجبته عنه، حذراً من أن يكون وقع خطأ منى أو طعن على إنسان
ممن سألني عنه. وصرت إلى الديوان بالثريا، وأنا لا أعقل غماً. فأنا في
تلك الحال إذ خرج عبيد الله بن سليمان من حضرة المعتضد بالله، وأحمد
عنده ما كان منى في الإجابة عما سألني عنه، وجزاني الخير. وخرج أبو
العباس فاستدعاني، وسألني عن حالي في طريقي فأعدت عيه خبر الفارس وجميع
ما جرى بيني وبينه، فصدقني فيه. وقال: إن الوزير أعاد على ملثه. وأقبل
يحمد الله على حسن توفيقه إياي فيما خاطبته به. ثم أوصاني بالتحفظ فيما
أخاطب به من يسايرني. والاحتراس من زلل تقع فيه، فصرت بعد ذلك لا أمر
في طريقي إلا ومعي جماعة، ومتى خاطبني إنسان تحرزت منه غاية التحرز.
وحدث أبو القاسم قال: حدثني أبو عبد الله والدي قال: كنت يوماً بحضرة
أبي العباس بن الفرات في الديوات في دار السلطان إذ جاءه خادم برسالة
من المعتضد بالله رحمه الله يقول فيها: إنه قد زوج جارية في داره من
أحد غلمانه،
(1/206)
وأنفذ إليه ألف دينار أمره أن يبتاع بها
لهما جهازاً، وأن يفرغ من جميعه في بقية يومه. فأجابه بالسمع والطاعة.
ثم أمرني بإثبات جميع ما يحتاج إليه، فأثبته، ونظر فيه وزاد فيما أراد.
ثم أحضر محمد بن عبد الوهاب وجماعةً ممن يسكن إلى نهوضه وكفايته، فأفرد
كل واحد منهم بصنف يبتاعه، ودفع إليه من المال بقدر حاجته، ووصاهم
باختيار ما يبتاعونه، والاحتياط في ثمنه، والمبادرة به إلى حضرته في
الدار ومضوا، ولم يزل يراعيهم إلى أن انصرفوا إليه بعد العصر بما
ابتاعوه، فنظر إليه وارتضاه، وقابل به الثبت الذي عمله فوجده قد انتظم
جميعه. ثم تذكر فقال: يحتاج أن يكون مع ذلك كبريت وحراق وأحجار النار
وسرج. وتقدم بإحضار ذلك فأُحضر. وطلب الخادم، فخرج وسلم إليه المتاع
وثبتاً به، وحمله الخادم ومن معه إلى حضرة المعتضد بالله. فلما عرض
عليه شاهده شيئاً شيئاً وقابل به الثبت، فوافق أحمد المعتضد فعل أبي
العباس فيما تفقده وقال: من راعى هذا الأمر هذه المراعاة حتى لم يخل
بشيء مما تدعو إليه الحاجة لحقيق بتدبير المملكة، وموضع للإعتماد
والتعويل. ووقع عنده ما كان منه ألطف موقع وأحسنه.
وحدث أبو القاسم قال: حدثني أبو عبد الله أبي قال: لما شخص أبو القاسم
عبيد الله بن سليمان إلى الجبل مع بدر المعتضدي استخلف أبا الحسين
القاسم ابنه على الوزارة وضاقت الأحوال على أبي الحسين، واشتدت
المطالبة بالاستحقاقات، فدعته الضرورة إلى طلب مائتي ألف دينار من
المعتضد بالله قرضاً إلى أن ترد الأموال فيرد عوضها. وخاطبه في ذلك،
وسأله إسعافه. فأجابه إلى إطلاق ما استدعاه منه إن حضر أحمد بن محمد بن
الفرات وضمن رده. فحملت القاسم الحاجة على أن سأل أبا العباش ضمان
المال للمعتضد بالله، فاستعفاه من لقائه، وعرفه كراهية
(1/207)
الدخول إليه، وكان القاسم لذلك أكره، لكن
الضرورة دعته إلى ما خالفه رأيه وإيثاره فيه، فأخذه معه، واستأذن له
على المعتضد بالله، فأوصله. فلما مثل بين يديه استدناه وقربه، وأقبل
يسأله عن نواحي السواد، وما يرتفع منها ومن عبرها القديمة في الوقت
الذي اقتتحت فيه. ثم تجاوز ذلك إلى نواحي البصرة ونواحي الأهواز ثم
فارس وكرمان وسبجستان وفرج بيت الذهب والقندهار والسند والهند والصين،
ثم نواحي خراسان والجبل، ثم نواحي الموصل وديار ربيعة ومضر وأجناد
الشام ومصر والإسكندرية وما وراء ذلك من البلدان. وهو يجيبه بارتفاع
ناحية ناحية، وفي أيام من فتحت، ويشرح له أحوالها، فاستعظم المعتضد
بالله ما شاهده وسمعه منه، وأعجبه إعجاباً شديداً، وأقبل عليه إقبالاً
كثيراً شق على أبي الحسين القاسم، وندم معه على الجمع بينه وبينه. ثم
سأل أبا العباس عما عنده في أمر المال الذي التمسه القاسم منه فعرفه
صدق الحاجة إليه، وضمنه رده إلى بيت مال الخاصة، فضمن له ذلك عند
افتتاح الخراج واتساع الارتفاع، فوقع إلى صاحب بيت المال بإطلاقه، ووقع
إليه وإلى صاحب بيت مال العامة بألا يقبلا توقيعاً للقاسم في شيء من
المال إلا بعد أن يكون فيه توقيع أحمد بن محمد بن الفرات، وأعلمه أن
إعتماده في استيفاء الأموال وجمعها عليه لا يعرف فيها سواه. وانصرف
القاسم كئيباً حزيناً بما جرى، ولم ينفذ له من بعد توقيع بإطلاق مال
إلا ما يوقع فيه أبو العباس.
وكتب القاسم إلى أبيه بصورة المجلس، فكتب إلى أبي العباس يشكره على ما
كان منه، وإلى القاسم يوبخه ويعنفه على فعله، وقال له في فصل من كتابه:
كنت ظننت أن السن حنكتك، والأيام قد ثقفتك، حتى ورد كتابك بما ورد به.
(1/208)
ثم أتبع ذلك بالخطاب القبيح بما يشاكله،
وأعلمه أنه قد أخطأ وأساء، وجنى على نفسه وعلى أبيه جناية لا يمكن
تلافيها، وأنه كان يجب أن يستسلف المال من التجار ويلتزم في ماله ومال
أبيه الربح فيه ولا يفعل ما فعله.
قال أبو القاسم: وسمعت جماعة من الكتاب يذكرون أن السواد لم يرتفع لأحد
بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثل ما ارتفع له إلا المعتضد بالله
فإن أبا العباس أحمد ابن محمد بن الفرات رفعه في أيامه ثلاثمائة ألف
وأربعين ألف كر شعيراً مصرفاً بالفالج، وباع الكرين بالمعدل من الحنطة
والشعير بتسعين ديناراً فكان ثمن الأكرار أربعة آلاف ألف وثمانين ألف
دينار، وحصل من الخراج وأبواب المال أكثر من ألف ألف دينار، فإذا أضيف
إلى ذلك فضل الشروط والمقاطعات والإيغارات، بلغت الجملة ما حصل لعمر بن
الخطاب رضوان الله عليه.
قال أبو القاسم: وسمعت مشايخ الكتاب يقولون: إنه لم يجتمع في زمن من
الأزمنة خليفة ووزير وصاحب ديوان وأمير جيش مثل المعتضد بالله. وأبي
القاسم عبيد الله ابن سليمان وأبي العباس بن الفرات وبدر. فكان التدبير
مع هؤلاء الأربعة مطرداً، والأمر منتظماً، والعمارة وافرة الأموال
دارةً، حتى اجتمع في بيت المال بعد النفقات الراتبة والحادثة وإطلاق
الجاري للأولياء في سائر النواحي وجميع المرتزقة بها وبالحضرة تسعة
آلاف ألف دينار فاضلةً عن جميع
(1/209)
النفقات. وكان المعتضد بالله رحمه الله قد
اعتقد أن يتمها عشرة آلاف ألف دينار، ثم يسبكها ويجعلها نقرةً واحدة
ويطرحها على باب العامة ليبلغ أصحاب الأطراف أن له عشرة آلاف ألف
دينار، وهو مستغن عنها، فاخترمته المنية، قبل بلوغ الأمنية.
وحدث أبو القاسم قال: حدثني أبو عبد الله أبي قال: تأخرت عن أبي العباس
ابن الفرات في يوم جمعة، وأقمت عند بعض أهلي بالجانب الغربي، وحضرتنا
مغنيتان محسنتان فاندفعت إحداهما وغنت
قايست بين فعالها وجمالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
والله لا كلمتها ولو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي
وضربت الأخرى وغنت:
يا ذا الذي حلف العشية جاهداً ... الا يكلمني فعال المسرف
قد جرت فيما كان منك وإنه ... ليزيد قبح الجور عند المنصف
قال: فاستحسنت أن أجابت الثانية الأولى بجواب في وزن الصوت وقافيته
ومعناه. وصرت إلى أبي العباس بن الفرات من غد، وسألني عن سبب تأخري
عنه، فأعلمته إياه، وحدثته حديث المغنيتين وما غنتا به، فعجب منه ومضى
إلى أبي الحسين القاسم ابن عبيد الله فأخبره. فكانت سبيله فيه سبيله
وقد كان أبو العباس سألني عن قائل الشعر. فقلت: هو لعبد الله بن
المعتز، وحضر القاسم بحضرة المكتفى بالله، فأعاد عليه الحديث فقال له:
لمن الشعر؟ فقال: لعبيد الله بن عبد الله
(1/210)
ابن طاهر. فقال: قد بلغني عنه خلة، فأحمل
إليه ألف دينار، وأعلمه أنني لا أُخليه من مثله في كل مدة. وانصرف
القاسم وعرف أبا العباس ما جرى، وما حمل إلى عبيد الله من الدنانير.
قال أبو عبد الله: وأخبرني أبو العباس بما جرى فقلت: الشعر لعبد الله
بن المعتز. فقال: قد أتاح الله لعبيد الله بن عبد الله الرزق من حيث لم
يحتسب، وهذا ما لا حيلة للمخلوقين فيه. وحدث أبو القاسم عن أبيه أنه
كان جالساً بحضرة أبي العباس بن الفرات في يوم سبت وقد ابتدأ المطر،
وهو يريد المضي إلى دار أبي القاسم عبيد الله بن سليمان، إذ وردت عليه
رقعة محمد بن إبراهيم بن الخصيب وفيها:
انعموا آل الفرات ... واشربوا بالبكرات
يوم سبتٍ ورذاذٍ ... وجوارٍ محسنات
ما قرى كسرى أنوشر ... وان هذا في الصفات
فعمل على القعود، وأضرب عن الركوب، وبعث إلى محمد بن إبراهيم في
الحضور، واستدعى أبا الحسن أخاه، ومر لنا أطيب يوم. وكتب أبو أحمد عبيد
الله بن عبد الله بن طاهر بخطه إلى أبي العباس أحمد ابن محمد بن
الفرات:
يا وليّ الإمام هنّأك الله ... بدين الهدى وشهر الصيام
وبكل الأعياد في الدين فاسعد ... أمد الدهر عابر الأيام
عالياً غاية الذّرى كالئ الدين ... رئيساً أقصى مدى الإحرام
(1/211)
أنت قطب الدنيا تدور عليه ... ما اديرت
وحافظ الإسلام
أنت بالدين في الزمان مهنّىً ... وله في يديك عقد الذمام
وتهنّي الدنيا وأعيادها من ... ك بطول البقاء والإحتكام
والمراقي في المجد والأمر والنّهي ... وأعلى الإعزاز والإكرام
واتّصال الإحسان منك إلى النا ... س وشفع الإيصال بالإنعام
أنت عنوان كلّ مجد وتاريخ ... المعالي وسيد الأقوام
حارس الإرث والخلافة والسلطان ... والدهر كله والأنام
علم الدهر فابق فيه تجاهاً ... علماً للمنار والأعلام
جمع الله كلّ خيرٍ ومأمو ... ل وسؤلٍ ونعمةٍ للهمام
جامعاً للوزير كل تمامٍ ... من أقاصي المنى بكل دوام
ذا دعائي وصلته بثنائي ... ومناي انتظمتها في نظام
مقسماً بالوفاء والشكر والإخ ... لاص والنّصح غاية الإقسام
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات
يقول: كثر القول في حفظ أبي جعفر أحمد بن إسرائيل الكاتب الأنباري،
فأحب أخي أبو العباس أن يقف على صحة ذلك من بطلانه، فمضى إليه، وأخذني
معه، ودخلنا داره، وقصدنا مجلسه، فوجدناه قد نهض منه يريد الركوب، فقال
لي أخي: فاتنا كل ما قدرناه. وسلمنا عليه ومشينا معه. فبينما نحن في
تلك الحال إذ جاءه خليفة لبعض العمال بكتاب ضخم من العامل الذي كان
يخلفه، فدفعه إليه، وفضه، وأخذ الغلام طرفه، وأقبل بهذه عليه هذا
سريعاً متصلاً حتى انتهى إلى آخره. ثم رمى به إلى الكاتب وقال له: وقع
عليه بأن يجاب
(1/212)
بكذا وكذا. ومشى إلى الموضع الذي يركب منه
وركب. فقال أخي: أُعطي الله عهداً إن كان قرأ الكتاب أو درى ما فيه،
وإنما فعل ما فعله ليرينا أنه قد قرأه وفهمه. وتقدم إلى بعض غلمانه
بطلب صاحب الدواة، وبذل شيء له على إخراج الكتاب إلينا لنقرأه ونرده من
وقته، ففعل ذلك، وجاءنا بالكتاب فقرأناه، وقرأنا التوقيع عليه، فوجدناه
قد انتظم بسائر معاني الكتاب. فعلمنا أن الذي تحدث به عنه حق لا تزيد
فيه.
وحدث أبو القاسم عن عبد الله أبيه قال: كان أبو العباس بن الفرات
يحتبسني عنده في أيام خلوته للأُنس، قال: فحضر عنده في بعض الأيام عدة
مغنيات، وغنت إحداهن لأبي العتاهية:
أخلاّي بي شجوٌ وليس بكم شجو ... وكل فتى من شجو صاحبه خلو
رأيت الهوى جمر الغضا غير أنّه ... على حره في حلق ذائقه حلو
فقال أبو العباس: هذا خطأ، وإنما يجب أن يكون البارد ضد الحار والحلو
ضد المر. فقلت له: فكيف كان يجب أن يقول؟ قال: كان يقول:
غدوت على شجو وراح بي الشجو ... وكل فتى من شجو صاحبه خلو
وباكرني العذّال يلحون في الهوى ... ومر الهوى في حلق ذائقه حلو
فلم يبق أحد ممن حضر إلا علم أن الذي قاله أحسن وأصوب.
وحدث أبو القاسم عن أبيه قال: تقدم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل إلى أبي
عبد الله محمد بن غالب الأصفهاني أن يكتب إلى العمال في النواحي كتباً
يدعوهم فيها إلى الاستكثار من العمارة، ويأمرهم بمطالبة الرعية بها،
فكتب
(1/213)
الكتب وأحضرها أبا الصقر، فاستحسنها وتركها
بين يديه. وأقبل أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات، فدفعها أبو الصقر
إليه وقال له: اقرأها وانظر ما أحسن ما أورده أبو عبد الله في هذا
المعنى. فقرأها، ووجده قد افتتحها بأن قال: الحمد لله الذي استعمر
عباده في أرضه ليخرج رزقهم منها وليكفتهم فيها. ثم قال بعد ذلك: ولو لم
يكن من فضيلة الازدراع إلا قول الله عز وجل في محكم كتابه: " كَزَرْعِ
أَخْرَجَ شَطْأَهْ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ " فلما قرأها
أدرجها، وأمسك عن إيراد شيء في معناها، فقال له أبو الصقر: ما عندك
فيها؟ وأطنب في وصفها، فعارضه أبو العباس في ذلك. فقال له: ما الذي
أنكرت؟ قال: ابتدأه بأن قال: الحمد الله الذي استعمر عباده في أرضه
ليخرج رزقهم منها وليكفتهم فيها. فلم يدع لهم نفساً. ثم ثنى بأن جعل
الآيات التي جعلها الله في نبيه وأصحابه عليهم السلام مثلاً للزرع،
وهذا خلاف ما جاءت به الروايات، وفسره المفسرون. فعلم أبو الصقر أن
الأمر على ما قال، وكلفه كتب الكتب من جهته، ودفع المكتوبة إليه. وكان
أبو عبد الله محمد بن غالب يعتب على أبي العباس لما كان منه في ذلك.
وحدث أبو القاسم عن أبيه قال: خلا أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات
للشرب في وزارته الأولى، في الدار المعروفة بالدار الجديدة من دار
سليمان بن وهب. وحضرت انا وجماعة من كتابه، وحضر من المغنيات بين يدي
الستائر ومن ورائها ما لا يحصى كثرة، وأُحضرت من أواني الذهب والفضة
ماله القيمة الوافرة.
(1/214)
ومر يوم حسن طيب إلى وقت العصر، وإذا
العباس الفرغاني حاجبه قد دخل وقال: يا سيدنا، قد حضرت بدعة الكبيرة
وهي في طيارها تستأذن للوصول. فأطرق مفكراً ثم رفع رأسه وقال: ارفعوا
ما ها هنا من الأواني. فرفع إلا قليلاً، ونهضت المغنيات اللواتي كن
قدام الستارة، وأمره بالإذن لها. فدخلت ووقفت بحضرته ثم تقدمت وقبلت
يده وقالت: بلغني أن سيدي الوزير قد نشط للشرب فحضرت للخدمة. فأمرها
بالجلوس، وجلست وطلبت العود، فجيء به، وغنت فجودت، واستحسن أبو الحسن
ما أتت به، وطرب عليه وشرب. ثم أخذ ربع قرطاس كان في دواته، وكتب شيئاً
وقطعه، ودفعه إلي وقرأته فكان:
إذا بدعةٌ جوّدت عودها ... تذلل في ضربها كل صعب
تغنّي فتجني ثمار القلوب ... وتهدي سروراً إلى كل قلب
فاستحسنت ذلك، وكانت بدعة بالقرب مني. فقلت لها: إسمعي إلى ما وصفك
الوزير به. وأنشدتها البيتين، فسرت وفرحت، وقامت مسرعة فقبلت يده ثم
الأرض وعادت إلى موضعها وقالت: بالله يا سيدي إلا أعدت الشعر علي حتى
أحفظه، ففعلت وحفظته وأدارته في حلقها، وعملت له لحناً من وقتها، ثم
ضربت وغنته، فجاء في نهاية الحسن. ونشط أبو الحسن، وتقدم برد المجلس
ومن كان فيه إلى ما كان عليه. ولم يزل ذلك الصوت صوتنا عليها بقية
ليلتنا. فقال أبو القاسم: فقلت لأبي عبد الله أبي: فلم كره حضور بدعة
وهي من آلة الشرب وموصوفة بالحذق في ذلك الوقت؟ قال لأنه كان يتهمها
بنقل أخباره إلى المقتدر بالله رحمه الله.
قال أبو القاسم: وكان لأبي الحسن بن الفرات مطبخان في داره. فأما مطبخ
(1/215)
الخاصة الذي يطبخ فيه فلا أحصى ما كان
يدخله من الغنم والحيوان لكثرته. وأما مطبخ العامة المرسوم بما يقدم
إلى خلفاء الحجاب المقيمين في الدار ويغرف منه للرجالة والبوابين
وأصاغر الكتاب وغلمان أصحاب الدواوين فكان يستعمل فيه في كل يوم تسعون
رأساً من الغنم وثلاثون جدياً ومائتا قطعة دجاجاً سماناً وفراريج
مصدرة، ومائتا قطعة دراجاً، ومائتا قطعة فراخاً. وهناك خبازون يخبزون
الخبز السميذ ليلاً ونهاراً، وقوم يعملون الحلواء عملاً متصلاً، ودار
كبيرة للشراب. وفيها ماذيان يجعل فيه الماء المبرد ويطرح في الثلج
كدراً، ويسقى منه جميع من يريد الشرب، الرجالة والفرسان والأعوان
والخزان ومن يجري مجري هذه الطبقة من الأتباع والغلمان، ومزملات فيها
الماء الشديد البرد. وبرسم خزانة الشراب خدم نظاف، عليهم الثياب
الدبيقية السرية، وفي يد كل واحد منهم قدح فيه سكنجبين أو جلاب ومخوض
وكوز ماء ومنديل من مناديل الشراب نظيف، فلا يتركون أحداً ممن يحضر
الدار من القواد والخدم السلطانيين والكتاب والعمال إلا عرضوا ذلك
عليه. وفي جانب الدار أدراج كثيرة لأصحاب الحوائج والمتظلمين حتى لا
يلتزم أحد منهم مؤونةً لما يبتاعه من ذلك، وأنصاف قراطيس وأثلاث.
قال أبو القاسم: وحدثني أبي قال: كان أبو الفضل بن الحجام النحوي
(1/216)
يكثر الجلوس إلى جانبي في دار أبي العباس
أحمد بن محمد بن الفرات يحادثني، فاتفق أن جلس يوماً على رسمه،
واستمددت من الدواة فترشش من ذلك المداد على ثيابه، فأخذ قلماً من
دواتي وقرطاساً من بين يدي وكتب إلى أبي العباس:
يا سيدي ومؤملي ... في كلّ حادثةٍ وريب
لك كاتب شاب الكتا ... بة بالبلاغة أيّ شوب
فإذا جلست بجنبه ... جعل اسمه صبغاً لثوبي
يعني زنجي فضحك أبو العباس مما كتب به، وأمر فحملت إليه عدة أثواب من
دبيقي وقصب وغير ذلك.
قال أبو القاسم: حدثني عمي أبو الطيب أحمد بن إسماعيل قال: كان معنا في
الديوان خازن شيخ قد خزن في الدواوين في سر من رأى، يعرف بجعفر
الحرامي، فكان يقول كثيراً: ما استطعت ألا تبيت مغموماً فافعل فكنت
أسمع هذا الكلام منه صفحاً. فلما كان بعد مدة، وأنا أكتب بين يدي أبي
العباس أحمد ابن محمد بن الفرات وأخفف عنه. جاءني رجل من التناء
بالسواد، ومعه توقيع بنقل مقاسمة بيدر له من رسم ثقيل إلى رسم خفيف،
ذكر أن أبا القاسم عبيد الله بن سليمان وقع له به، وتوقيع أبي العباس
ابن الفرات فيه بالعمل على موجبه. فاستربت بالتوقيع فشككت في صحته،
وبذل لي مائة دينار على إمضائه، وكتب الكتاب بمقتضاه. ففعلت وأخذت
المائة دينار وتسلم الكتاب فلما كان الليل وأويت إلى فراشي اجتهدت في
النوم فامتنع علي، وذكرت ما عملته وتجوزت فيه؛ فضاق صدري، وساء ظني،
وقلت: هذا الذي كان يحذرني منه جعفر الحرامي، وندمت على
(1/217)
ما كان مني، وتقلبت على الفراش من غير أن
يدخل النوم عيني، وحدثت نفسي بالركوب وقصد الرجل. وقد كان ذكر لي فيما
جرى بيننا من الحديث أن منزله في الجانب الغربي في سكة كذا من سكك
المدينة، فلم يمكن ذلك لأنه كان أول الليل، ثم لم أزل على حالي في
القلق طويلاً، حتى إذا زاد ما بي تقدمت إلى غلماني بأن يسرجوا لي
وبالخروج إلى الشارع، والمسألة عمن بتلك الطريق، فخرجوا وعادوا يذكرون
أنه ما مر أحد. ثم أمرتهم بأن يسرجوا لي على كل حال، وأسرجوا وحملوا
بين يدي شمعة، وركبت وسرت، فإذا الشرائج ممدودة، وأبواب الدروب مغلقة،
فما تهيأ لي فتح شيء منها إلا ببر الحراس. ولم أزل على ذلك حتى انتهينا
إلى رأس الجسر من الجانب الشرقي، فكان الباب مقفلاً، فسأل الغلمان
الموكل به فتحه، فأبى، وبذلوا له دراهم عن ذلك فلم يقبلها. ووقفت إلى
أن وافى فرانق من قبل بدر غلام المعتضد بالله بكتاب منه إلى بعض أهل
الدولة النازلين في الجانب الغربي، ففتح له الباب وجاز وجزت معه. ثم
وصلت بعد اجتهاد إلى دار الرجل، وتقدم غلماني إلى بابه فدقوه، وطالعهم
من السطح، وسألهم عما يريدونه، فأشعروه بحضوري، فأمهل قليلاً ثم فتح
الباب، وأذن في الدخول، ورآني فأنكر مجيئي في مثل ذلك الوقت، وقال: لو
كتبت إلي لجئتك! فما الذي تحب الآن؟ فقلت وقع على سهو في الكتاب الذي
كتبته لك، وخفت أن يقع عليه من يتتبعني وتتطرق من قوله قباحة علي.
فقال: هذا قول لا يجوز على مثلي، ومن المحال
(1/218)
أن يخرج عن يدك ما فيه لحن وخطأ، ولعلك
فكرت في شيء آخر من أمر الكتاب نفسه، فقلت: لا بد من إحضاره، فقال:
توقف قليلاً. ثم قام وغاب لحظة وجاء ومعه صرة فيها خمسون ديناراً،
وقال: تلك مائة وهذه خمسون ديناراً، وليس في كل وقت يعرض مثل ذلك، وكم
في الدواوين من توقيع يجري هذا المجرى ولا يؤبه له ولا يتنبه عليه؟
ورغبني فيها ترغيباً كدت معه أن آخذها. ثم ذكرت محلي من أبي العباس بن
الفرات، وموضعي من خدمته، ومكان أخي منه، وأنني أقدر أن أفيد معه وفي
جملته الفوائد الكثيرة، فتماسكت وامتنعت، وعاودته المطالبة بالكتاب،
ووضع غلامي بين يديه المائة الأولى. فقال: أحب أن تتوقف قليلاً. وقام
ثم رجع ومعه الكتاب وخمسون ديناراً أخرى، وقال: هذه مائتا دينار، وهذا
الكتاب، فاختر ما تريده منهما وخده. وأعاد من تهوين القصة وتجديد القول
الداعي إلى الرغبة ما كادت به يدي تمتد إلى الدنانير. ثم راجعت الفكر،
وأشفقت من ظهور الأعداء على الأمر، وفساد الجاه، وأخذت الكتاب ومزقته،
ونهضت وركبت. فلما توسطت الجسر رميته مخرقاً في الماء، وعدت إلى منزلي،
وكنت أنزل بسوق العطش. وقد بقيت سدفة من الليل، فطرحت نفسي على الفراش،
ونمت نوماً طيباً، وزال ما كنت عليه من سوء الفكر واستشعار الخوف،
وأصبحت وسألت غلماني عما عندهم من الطعام، وأنفذت إلى جماعة كانوا
يعاشرونني، فحضروا وأكلنا، وحضر النبيذ وشربنا، وجاءني غلامي وقال:
غلام أبي العباس بن الفرات بالباب يستدعيك. فأدخلته وأجلسته معنا، فأكل
وشرب، وقلت له: عرفه أنني عند بعض أهلي بالجانب الغربي. فمضى، ولم يبعد
أن جاء غلام آخر يطلبني، ففعلت به كمثل فعلي بالأول.
(1/219)
فانصرف. وقلت في نفسي: لأن ألقي أبا العباس
معتذراً من تأخر يوم عن خدمته أولى من أن ألقاه معتذراً من مثل ذلك
الذنب الكبير. فأقمت على جملتي بقية يومي
وباكرته من غد، فسألني عن سبب تأخري فأعلمته كوني عند بعض أهلي بالجانب
الغربي. ومضت أيام، وورد كتاب العامل الذي تلك الضيعة في عمله وفي درجه
حزر الغلة وقد نسب كل بيدر إلى مقاسمته؛ وعلى مثل هذا كانت الحزور ترد.
فقرأه أبو العباس على رسمه حرفاً حرفاً، ووجد قد حكي تحت اسم بيدر من
البيادر: مما ورد الكتاب بنقله من مقاسمة كذا إلى مقاسمة كذا. فلما
قرأة اختلط وأنكر ذلك وقال: ما أذكره، ومتى أمرنا بنقل المقاسمات
الثقيلة إلى المقاسمات الخفيفة؟ واستدعى أبا عبد الله أخي، وتقدم إليه
بأن يكتب إلى العامل بإنكاره ما وقف عليه من الحكاية التي حكاها في
الحزر، ويرد الكتاب الذي وصل إليه في هذا المعنى بعينه. فكتب ذلك، ومضت
أيام فلم أشعر وأنا بحضرته إلا بكتاب العامل قد ورد جواباً عما كوتب،
وفي درجة الكتاب الذي طلب منه. وقرأه أبو العباس ابن الفرات، وأقبل
يدفعه إلى واحد واحد من الكتاب الذين في مجلسه، ويسأله عن صاحب خطه. ثم
دفعه ألي فلما قرأته ذكرت اسم البيدر، وقلت في نفسي: أي شيء كان أسوأ
حالاً مني لو كان بخطي وقد ورد في مثل هذا المجلس الحافل؟ ولم يعرف أحد
من الحاضرين الخط، وسلمه إلي أحمد بن يزيد المدير وقال له: إمض به إلى
الديوان، وخذ خطوط أصحاب المجالس وخلفائهم بما عندهم من العلم به،
وجئني بنسخته إذا وجدتها من مواضعها. كرته من غد، فسألني عن سبب تأخري
فأعلمته كوني عند بعض أهلي بالجانب الغربي. ومضت أيام، وورد كتاب
العامل الذي تلك الضيعة في عمله وفي درجه حزر الغلة وقد نسب كل بيدر
إلى مقاسمته؛ وعلى مثل هذا كانت الحزور ترد. فقرأه أبو العباس على رسمه
حرفاً حرفاً، ووجد قد حكي تحت اسم بيدر من البيادر: مما ورد الكتاب
بنقله من مقاسمة كذا إلى مقاسمة كذا. فلما قرأة اختلط وأنكر ذلك وقال:
ما أذكره، ومتى أمرنا بنقل المقاسمات الثقيلة إلى المقاسمات الخفيفة؟
واستدعى أبا عبد الله أخي، وتقدم إليه بأن يكتب إلى العامل بإنكاره ما
وقف عليه من الحكاية التي حكاها في الحزر، ويرد الكتاب الذي وصل إليه
في هذا المعنى بعينه. فكتب ذلك، ومضت أيام فلم أشعر وأنا بحضرته إلا
بكتاب العامل قد ورد جواباً عما كوتب، وفي درجة الكتاب الذي طلب منه.
وقرأه أبو العباس ابن الفرات، وأقبل يدفعه إلى واحد واحد من الكتاب
الذين في مجلسه، ويسأله عن صاحب خطه. ثم دفعه ألي فلما قرأته ذكرت اسم
البيدر، وقلت في نفسي: أي شيء كان أسوأ حالاً مني لو كان بخطي وقد ورد
في مثل هذا المجلس الحافل؟ ولم يعرف أحد من الحاضرين الخط، وسلمه إلي
أحمد بن يزيد المدير وقال له: إمض به إلى الديوان، وخذ خطوط أصحاب
المجالس وخلفائهم بما عندهم من العلم به، وجئني بنسخته إذا وجدتها من
مواضعها.
(1/220)
قال: وسبق الخبر إلى الكتاب، وقد كان الرجل
صاحب البيدر برهم بجملة حتى أثبتوه عندهم، فما منهم إلا من قطعه وأخرجه
من شك الورق، ورمى به في المستراح، أو أعطاه غلامه حتى أخرجه من
الديوان وخبأه في خفه أو تحت الأرض. ولما دار عليهم ابن يزيد أنكروا
وجحدوا ما فيه من علاماتهم وخطوطهم فأخذ خطوطهم على ظهر الكتاب بما
ذكروه، وجاء به إلى أبي العباس. ونحن في تلك الحال إذ جاءت إليه رقعة
من متنصح يذكر فيها اسم الرجل الذي كتب الكتاب وموضع منزله، فدعا أبو
العباس العباس الفرغاني حاجبه، وأمره بكبس الدار وطلب الرجل، فإن وجده
أحضره وإن لم يجده أنهب كل ما فيها. فمضى ومعه ثلاثون راجلاً فكبس
الدار، ولم يظفر بالرجل، فنهب الرجالة والأتباع ما كان فيها، وعرف
الرجل الخبر فاستتر مدة، ثم خرج إلى الموصل هارباً، ولم يزل مقيماً بها
إلى أن مات أبو العباس، فحمدت الله وشكرته على ما وفقني له، وخلصني
منه، وعلمت أنه لا شيء أنفع من الصحة ولا أجل من الأمانة.
قال أبو القاسم: وحدثني أبي قال: كان أبو العباس بن الفرات يميل إلى
أبي خازم القاضي ويكرمه ويقبل عليه إذا حضر عنده، ويتحدث معه، وكان أبو
خازم أديباً وحافظاً، فحضر يوماً عند أبي العباس، وجرى الحديث بينهما،
إلى أن أنشده أبو خازم:
أأنت الذي أخبرت أنك ظاعنٌ ... غداة غد أو رائح لهجير
وقلت يسيرٌ نصف شهر أغيبه ... وما نصف يوم غيبةً بيسير
قال له أبو العباس: أتحفظ في هذا الشعر غير ما أنشدته؟ قال: لا. قال:
بلى
(1/221)
أنشدنا أبو محلم قال: أنشدنا الأصمعي لبعض
العرب:
وما أنس ملأشياء لا أنس موقفاً ... لنا ولها بالصفح سفح ثبير
ولا قولها يوماً وقد بل جيبها ... سوابق دمع للفراق غزير
أأنت الذي أخبرت أنك ظاعن ... غداة غد أو رائح لهجير
وقلت يسير نصف شهر أغيبه ... وما نصف شهرٍ غيبة بيسير
قال: فقلت له: ألا قال نصف لحظة، نصف ساعة. قال: إن العرب تتهالك في
أشعارها أحياناً، وتترك أحياناً فيه نفساً. فعجب أبو حازم من حفظه
وزيادته على ما كان عنده، وطلب الدواة وكتب الحكاية والزيادة عنه وقال
له: ما جئناك بفائدة إلا وانصرفنا من عندك بفوائد.
وحكى أبو القاسم عن أبيه قال: كان أبو العباس بن الفرات أذكر الناس
وأحفظهم لما يمر به من قليل وكثير، فقال لي يوماً. ما اشتهيت أن أحفظ
شيئاً قط إلا حفظته. وما آسي من عمري إلا على ثلاث سنين أفنيتها في علم
إقليدس، فكيف لم أفنها في الفقه؟ قال: وكان أعلم الناس بالفقة على سائر
المذاهب. وقال أبو القاسم: تأخرت أرزاق الكتاب في وزارة حامد بن العباس
ونظر علي بن عيسى تأخراً طويلاً. فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات
الوزارة الثالثة، وعرف ذلك، أنكره، وعجب من استمراره، وأنفذ المستحثين
إلى العمال للمطالبة به، فقبضوا في مدة عشرة أشهر جاري أربعة عشر
شهراً، وكان شديد التعصب لهم، والعناية بأمرهم. ولقد سمعته يوماً وقد
خاطبه مخاطب على أن يجعل جاري بعض الكتاب
(1/222)
لكاتب في ناحيته، وهو يقول: قطع الله رزقي
يوم أقطع رزق كاتب. ووقع للذي سئل في أمره بجار مستأنف. وقال أبو
القاسم: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول في وزارته الثالثة، وقد ذكر حال
السواد وجلالته: إن الإحسان إلى الرعية يزيد في ارتفاعه، ولولا خوفي من
أن يجلس في هذا المجلس من لا يعرف غرضي فيما أفعل، ويجعله تسوقاً علي
عند من لا يفهم، لنقصت المزارعين ثلاثة أقفزة في كل كر من مقاسمة
الإستان التام، ثم كان ينظر بعد ذلك كم يزيد في الارتفاع بهذه
المسامحة. وحكى أبو القاسم قال: كان أبو الحسن بن الفرات يطلق للشعراء
في كل سنة من سني وزارته عشرين ألف درهم رسماً لهم سوى ما يصلهم به
متفرقاً وعند مديحهم إياه. فلما كان في وزارته الأخيرة تذكر طلاب
الحديث وقال: لعل الواحد منهم يبخل على نفسه بدانق ودونه، ويصرف ذلك في
ثمن ورق وحبر، وأنا أحق بمراعاتهم ومعاونتهم على أمرهم. وأطلق لهم من
خزانته عشرين ألف درهم. قال أبو القاسم: وكان في جهتي رجل يعرف بأبي
بكر محمد بن إبراهيم البرني فأخذت له منها ثلاثمائة درهم، وأخذت لأبي
سعيد الحسن بن علي العدوى خمسمائة درهم؛ وكان جاري وقد سمعت منه سماعاً
كثيرة. وأخذت لأبي العباس أحمد بن عبد الله بن عمار لأنه كان يجيئني
ويقيم عندي وسمعت منه أخبار المبيضة
(1/223)
ومقتل حجر وكتب صفين وكتاب الجمل وأخبار
المقدمي وأخبار سليمان بن أبي شيخ وغير ذلك خمسمائة درهم. وتم لي أخذ
هذه الدراهم لمن أخذتها له وهم محدثون لا من طلاب الحديث بفضل الجاه
يومئذ.
وقال أبو القاسم: كان أبو الحسن بن الفرات قد تقدم إلى والدي أبي عبد
الله بأن يستأمره في كل توقيع يرد عليه، فكان يفعل ذلك، وحضره في بعض
الأيام رجل بتوقيع في آخر رقعة قد كتبها يشكو فيها حاله، ويسأل إجمال
النظر في أمره بإجراء خمسة عشر ديناراً في كل شهر وتسبيبها على بعض
الجهات، فلما قرأه عرفه ما أمر به الوزير من استئذانه في كل توقيع يرد،
وسأله عما يحبه في ترقيعة: من رده عليه لأنه كان قد استراب به أو عرضه
والاستئمار فيه. فآثر الاستئمار، وأعلمه أنه يفعل ذلك في يومه، وأنه
يجب أن يعود إليه في غده ليعرفه ما يكون منه فيه. وعرض والدي التوقيع
على أبي الحسن، فلما قرأه أنكره وعرفه أنه مزور، وتقدم إليه بإحضار
الرجل الذي أوصله إليه ليضربه بالسوط، ويشهره على جمل ويخلده الحبس،
ويجعله أدباً وعظة لغيره ممن يحدث نفسه بمثل هذا الفعل، وأكد القول
عليه. وحضر الرجل من غد متعرفاً لما جرى في أمر التوقيع، فأشار عليه
والدي بالإنصراف والإمساك وألا يعيد قولاً في ذلك. فامتنع امتناعاً
دعاه إلى أن شرح له الصورة، وأشعره بغلظ القصة وقال له: أنا أُخالف
الوزير فيما أمرني به، وأعرفه متى سألني عنك أنك لم تعد إلي. فذكر أن
توقيعه صحيح، وأنه لا يبالي بالحضور والوصول إلى حضرة الوزير، ولا يدع
عند ذلك إقامة حجته وإبراء ساحته. فراجعه وحذره إشفاقاً عليه؛ وهو مقيم
على أمره. ثم قال: فأتقدمك إلى الدار. قلت: الاختيار إليك. فانصرف.
قال أبو عبد الله: وتشاغلت بالنظر في حوائج من كان عندي من أسباب
(1/224)
المقتدر بالله رحمه الله وغيرهم. فلما فرغت
ركبت، ووجدته قد سبقني، ودخلت إلى أبي الحسن بن الفرات فقال لي: أين
الرجل صاحب التوقيع؟ فقلت: ها هو حاضر. فأمر بإيصاله إليه. فلما رآه
انتهره وزبره وقال له: تقدم على التزوير؟ وتقدم بحمله إلى صاحب الشرطة
ليعاقبه ويشهره، ثم سأله عن نسبه، فأعلمه أنه ابن عم العباس بن الحسن.
فلما ذكر ذلك له سكن غضبه، وأقبل عليه فتعرف منه خبر واحد واحد من
أهله، ووصف له حالهم. فقال له: ما الذي حملك على ما فعلته؟ فقال كتابك
الذين بحضرتك، لأني قصدتهم وسألتهم إيصال رقعة لي إليك أستعطف بها
رأيك، وأستدعي فيها إحسانك، فما منهم من فعل، وأحوجني فعلهم إلى أن
جعلت هذا التوقيع سبباً للوصول إلى مجلسك، وشكوى حالي إليك. فأخذ
التوقيع ووقع تحته بإمضائه، ورسم لي مراعاته فيه حتى يسبب له على حيث
يروج منه. ثم دعا أبا العباس أحمد بن مروان وكيله في داره، وتقدم إليه
بأن يطلق له عاجلاً ثلاثة آلاف درهم يصرفها في مؤونته، وأن يقيم له في
كل شهر خمسة عشر ديناراً من ماله سوى الجاري السلطاني الذي أمرنا
بإجرائه له. فلما خرج إلي قال لي: أيما كان أعرف الوزير، أنا أو أنت؟
وعجب الناس من كرم ابن الفرات ورعايته لأهل البيوتات وذوي النعم
والأقدار.
قال أبو القاسم: وحدثني أبي قال: كان أبو القاسم عبيد الله بن سليمان
قد قلد أبا عبد الله جعفر بن محمد بن الفرات أعمال بهرسير والرومقان
وإيغار يقطين وما يجري مع ذلك. وكان لأبي عبد الله محمد بن غالب
الأصبهاني هناك مقاطعة، وتتبعها جعفر بن محمد فوجد فيها فضلاً كثيراً
حمله على أن وكل بغلاتها إلى أن
(1/225)
يرد عليه الكتاب بالإفراج عنها أو غير ذلك.
وشق ما كان منه على محمد ابن غالب، وكتب إلى عبيد الله بن سليمان رقعة
في هذا المعنى، وأورد في آخرها أبيات شعر فيها:
أيظلمني عامل البهرسير ... ويركب مني صعب الأمور
ويبطل من سنتي ما جرى ... ويضغمني ضغم ذئبٍ عقور
وأوصلها من يده إلى عبيد الله، وكان أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات
حاضراً، فأعطاه عبيد الله الرقعة وقال لمحمد بن غالب: الأمر إلى أبي
العباس في الإمضاء أو الفسخ. فقال أبو العباس: فإني قد أمضيت. وأخذ
القلم من الدواة ووقع بإمضاء المقاطعة، والإفراج عن الغلة. فكان محمد
بن غالب يشكره على ذلك بعد عيبه عليه مما جرى في أيام أبي الصقر
إسماعيل بن بلبل.
وحدث أبو القاسم قال: اجتمع كتاب أبي الحسن بن الفرات يوماً بحضرته،
وذلك في وزارته الأخيرة، فذكر كل واحد منهم ما لحقه من الشدائد في
استتاره، فحدثه أبو عمرو سعيد بن الفرخان النصراني انه كان في موضع
وأراد الانتقال عنه، فخرج قبل طلوع الفجر، فلما توسط الطريق تبعه إنسان
لا يعرفه. وأخذ في غير الوجه الذي أراده، وتبعه، وخرج منه إلى غيره،
وهو يمشي معه. قال أبو عمرو: فلما كاد الصبح يسفر وقفت وقلت: أنا رجل
خائف، وأريد أن أقصد موضعاً أستتر فيه، وقد قارب الوقت الذي قدرته أن
يقرب باتباعك إياي. قال لي: قد عرفتك، وما قصدت فيما فعلته إلا الجميل
معك، ولو أردت الاستتار لكانت معوضة، وهذا منزلي لك وبين يديك، وأسألك
أن تعدل إليه وتعمل على المقام فيه. فنظرت فإذا الوقت قد أزف، ولا
يمكنني الوصول إلى الموضع الذي أردت قصده إلا مع طلوع الشمس. فمضيت
معه، وتقدمني واتبعته حتى وصل إلى منزله،
(1/226)
ودخل وأدخلني، فوجدت داراً طيبة، وفيها فرش
نظيف، وأكرمني ومهد لي، وجلس دوني وقال لي: اعلم جعلني الله فداك أني
رجل مزين، وأرجع إلى سعة حال ولي ثلاثون غلاماً، لكل واحد منهم منزل
مثل منزلي، فتقيم عندي ما أحببت، فمتى ضاق صدرك وأحببت الانتقال نقلتك
إلى منزل واحد واحد منهم، فأقمت فيه شهراً، ولعل المدة في فرج الله عنك
وبلوغك محابك أن تكون أقصر من ذلك، وبالعاجل قد أفردت لك داراً، وأعددت
فيها جميع ما تحتاج إليه، حتى لا تستعمل شيئاً مما نستعمله نحن، فربما
لم تستنظفه. ونهض من عندي وغاب ساعة وقال: إذا شئت يا سيدي. فقمت
وأدخلني إلى دار متصلة بداره، قد فرشت بفرش نظيف، وجعل فيها ما يحتاج
إليه، من طست وإبريق وجرار وكيزان وقدور وغضائر وجامات وسكرجات وصواني
وأطباق وقناني وأقداح، وإذا جارية سوداء واقفة. فقال: تكون هذه بين
يديك متولية لخدمتك، وأنا صاحب خبرك، فإذا كان عشية انصرفت إليك بما
أسمعه. فشكرته وجزيته الخير. ومضى وطبخ لي ما أردت، واحضرت من الشراب
ما طلبت، وكان يجيئني في آخر كل نهار فيحدثني بما يعرفه فلم أزل على
هذه الحال مدة أربعة اشهر لا أعدم شيئاً مما أريده. ثم ضاق صدري وأحببت
الانتقال، فأشعرته بذلك، فاختار لي واحداً من أصحابه ذكر تقدمه عنده
وثقته، فأشار بالنقلة إلى داره. فمضيت إليه معه، فكان منزله قريباً من
منزل مولاه، وخدمني وما قصر في معرفة حقي والقيام بما أريده، وأقمت
عنده شهراً،
(1/227)
وأردت الانتقال، فعرفت المزين ذلك، فأشار
بالرجوع إلى منزله، فرجعت ولم تمض إلا أيام يسيرة حتى فرج الله عنا،
وكشف وجوهنا بالوزير أدام الله تأييده.
فقال له الوزير أبو الحسن بن الفرات: فأي شيء عملت في أمر هذا الرجل؟
وبأي مكافأة كافأته على جميل فعله؟ قال: لا والله أيها الوزير ما عملت
معه قليلاً ولا كثيراً. فقال له: بئس ما فعلت. فإنك قد فضحت المستترين،
وضيقت عليهم مذاهبتهم. والآن أنا أولى بقضاء الحق عنك منك. أنفذ إلى
الرجل وجئني به. قال ابن الفرخان: فقلت لكاون غلامي: امض إلى المزين
الذي كنا مستترين عنده فجيء به، وعرفه أن الوزير يريده. فمضى فلما بعد
قال لي الوزير: أردده وتقدم إليه بأن يورد عليه رسالة جميلة يسكن
إليها، وأن يحضره على وفق وإكرام قال: فرددته وأوصيته، ومضى الغلام،
وتشاغل أبو الحسن بالنظر والعمل، وتشاغلنا بالتوقيع والكتب. ثم جاء
الغلام وعرف أبا عمرو بن الفرخان حضور المزين، وعرف أبو عمرو الوزير
ذلك. فقال: يدخل. وخرج الحاجب فأوصله إلى المجلس، فوقف على بعد،
فاستدناه وامتنع، فألح عليه فدنا، وأمره بالجلوس فأبى أشد الإباء. ولم
يزل به حتى جلس. ثم قال له: لم تتأخر مقابلة أبي عمرو لك عن جميل ما
أوليته إياه إلا لأنه خرج على حال مختلة، وذات يد قصيرة، وأنا أتولى
ذلك عنه، ولقد أحسنت بارك الله عليك وفعلت ما يفعله الأحرار. فقام
وقال: قد وصلت أيها الوزير إلى أعظم الجزاء بوصولي إلى هذا المجلس،
وسماعي لهذا الخطاب، وبلغت غاية أملي، ونهاية أمنيتي بذلك. وما بلغت ما
كان في نفسي من قضاء حقه وأشار إلى أبي عمرو فأمر أبو الحسن بإحضار أبي
العباس أحمد بن مروان وكيله، فحضر وأسر إليه شيئاً لم نعلم ما هو، فخرج
وأخذ المزين معه، ثم عاد بعد ساعة وحدثه ما لم نسمعه، فأخرج رأسه من
سراره وقال: أرأيتم مثل ما نحن فيه مع هذا
(1/228)
المزين؟ تقدمت إلى ابن مروان بأن يدفع إليه
خمسة آلاف درهم، فعرفني أنه امتنع من قبولها؛ وذكر سعة حاله واستغناءه
عنها. ورد إليه ابن مروان برسالة في هذا المعنى، فمضى وعاد فذكر إقامته
على الامتناع، فأمر الوزير أبا عمرو بن الفرخان بأن يقوم إليه، ويلطف
به ويرفق، ولا يدعه حتى يقبل ما أطلقه، وقال: لعله استقل الخمسة آلاف
درهم، فلتجعل خمسمائة دينار. فأحضره وألزمه أخذها، وعرفه أنه إن امتنع
من ذلك غضبت عليه وأنه يفسد ما قد حصل له في نفسي. فقام أبو عمرو ساعة
ثم عاد وقال ما زلت معه في مراوضة وملاطفة حتس قبلها وانصرف شاكراً.
فبقينا وبقي الناس زماناً يتعجبون من فعل المزين وكبر نفسه. وكرم ابن
الفرات وكافأته عن كاتبه.
قال أبو القاسم بن زنجي: كان أبو الحسن بن الفرات قد كاتب يوسف بن
ديوداد ابن أبي الساج في أمر الري، وطالبه بحمل ما وجب من مالها على
أنها ضمان في يده. فأجاب بأنه لم يضمن ضماناً يتعين عليه الخروج منه،
ويسأل أبو الحسن عما عنده في ذلك يعني علي بن عيسى وكان إذ ذاك مصروفاً
منكوباً في اعتقال أبي الحسن ابن الفرات فسأله عن ذلك، فذكر أنه ضمنه
الأعمال، وأن وثيقة الضمان عند صاحب الديوان. وكان أبو القاسم سليمان
بن الحسن بن مخلد يتقلد ديوان المشرق، وهذه الناحية جارية فيه، فطولب
بذلك، وأحال على أبي الفتح الفضل بن جعفر بن محمد ابن الفرات وكان
خليفته على الديوان. ورجع إليه فذكر أن الوثيقة حملت إليه، ووقف عليها،
وردها بعد أن حملها إلى صاحب الديوان. واعتقل أبو الحسن بن الفرات
الفضل ابن جعفر بهذا السبب، وجرت خطوب في هذا المعنى، وذلك في سنة إحدى
عشرة وثلاثمائة بعقب صرف حامد عن الوزارة وعلي بن عيسى عن خلافته،
(1/229)
وأوجبت الصورة طلب ذلك في الخزانة المنقولة
من دار علي بن عيسى إلى دار أبي الحسن بن الفرات.
قال أبو القاسم: فأمرني أبو الحسن بأن أدخل الخزانة، وأقلب ما فيها من
الأعمال، وألتمس وثيقة الضمان، وفعلت، وكانت خزانة عظيمة في بيت يعرف
بالدمشقي في داره المعروفة بسليمان بن وهب في المخرم، والأعمال تكاد
تبلغ السقف. وكان يمر في عرض ما أفتش عنه نسخ ما كتبه علي بن عيسى إلى
ذكا الأعور، المقيم كان بمصر، ثم إلى تكين الخاصة المتقلد لها بعده
وإلى الحسين بن أحمد المادرائي ومحمد بن جعفر القرمطي ونجح وابن رسم
وغير هؤلاء من الولاة، فأقرأها وأجدها في نهاية الحسن. وربما أخذت
بعضها وأجد في خلال ذلك حزوراً وكيولاً وكتباً من المنفقين في العساكر
بما توفر من أموال الرجال، وبما وقفوا عليه من حال البدلاء والدخلاء لم
يخرج إلى الدواوين، وأجمع ذلك وأخرج ألى الوزير أبي الحسن إضبارةً منه
في كل يوم. فكان يعجب من علي بن عيسى وتركه وإخراج هذه الأعمال إلى
الدواوين ويطعن عليه بذلك ويقول: يا قوم، سمعتم من يؤخر إخراج تقدير
الغلات وحزرها وكيلها وكتب المنفقين بما توفر من المال إلى الدواوين؟
لم لا يتناقل كبار الكتاب وأصاغرهم هذه الأعمال ويثبتونها في مجالسهم
ويقابلوا عليه ما عندهم؟ وأية حجة تكون لنا على الأعمال والعمال أذا
احتسبوا بمال الرجال على العبر من غير حطيطة؟ وكان فيما أخرجته في بعض
الأيام إليه عمل عمله عثمان بن سعيد المعروف بابن الصيرفي صاحب ديوان
الجيش لما يراد للجيش في مدة سنة، وقد أورد فيه حال المماليك لخمسة
أشهر، فحين وقف عليه جزاني الخير على إخراجه إليه، وذكر أن
(1/230)
نصرا القشوري طالبني بحضرة المقتدر بالله
بإطلاق مال المماليك لستة أشهر، وادعى أن على بن عيسى كان يطلق لهم على
ذلك، وأن هذا العمل يبطل قوله سيما وهو بخط ابن الصيرفي كاتبه وصاحب
ديوانه. فأخذه معه، وانحدر إلى المقتدر بالله، وواقف نصرا الحاجب عليه
بحضرته، فوقع له بذلك من المقتدر أحسن موقع، ولنصر أقبح موقع. قال أبو
القاسم: وكان في هذه الخزانة كتب إلى علي بن عيسى ممن كان يشخصه من
القاسم بن دينار وأحمد بن محمد بن رستم وزيد بن إبراهيم والحسين ابن
أحمد المعروف بأبي زنبور المادرائي وأبي بكر محمد بن علي المادرائي
فيها، العجائب، ودفتر منسوب إلى الحلاج فيه آداب الوزارة، وغير ذلك من
رقاع المقتدر بالله ووالدته إليه ونسخ أجوبتها.
قال أبو القاسم: وكان أبو الحسن بن الفرات قد استظهر في أمر الموسم
لسنة إحدى عشرة وثلاثمائة استظهاراً شديداً، لأنه أحب أن يجري أمره في
أيامه على أفضل ما جرى عليه فيما قبلها، وأطلق لأبي الهيجاء بن حمدان
في وقت واحد بإطلاق واحد مائة ألف دينار، وأخرج إلى أن نفذ في القافلة
الثانية ما قدره أبو بكر عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش، وكذلك لمن
صدر في القافلة الثالثة، وكان أكثر من مائة ألف دينار. وأزاح العلة في
ثمن جميع ما احتيج إلى ابتياعه من الحضرة، وابتيع ذلك وحمل، وانتظم أمر
القوافل، وتوجهت بأجمعها
(1/231)
من الحضرة. واتصل بأبي الحسن بن الفرات أن
القرامطة قد تحركوا للفساد وهموا باعتراض الجيش، فكتب إلى أبي الهيجاء
كتاباً بخطي يعرفه ما بلغه، ويوصيه ويحذره، ويأمره بالتيقظ والتحفظ
وإذكاء العيون في جميع الطرق، وأجابه من القصر جواباً أنفذ في درجه
كتاباً في جلد يضمن فيه المال والدم، وقد أشهد فيه جماعة الشهود
والوجوه والتناء في البلد. فلما قرأه أبو الحسن سرته قوة نفسه، وضاق
صدره من هذا الفعل الذي هو جار في سبيل البغي. وحدث في تلك السنة ما
حدث على الحاج مما زاد به القلق والانزعاج، وأنفذ نزار ابن محمد وغيره
من القواد لتلقيهم، وأطلق صدراً كبيراً من المال ابتاع به من الحضرة
القمص والسراويلات والعمائم والأردية والأرز ليدفع ذلك إلى من يحتاج
إليه، وحمل مالاً واسعاً ففرق على الناس بحسب أحوالهم وما يتحملون به
إلى منازلهم.
وحدث أبو القاسم قال: كان أبو العباس وأبو الحسن إبنا الفرات ينزلان في
أيام أبي الصقر إسماعيل بن بلبل في ربض حميد، وكان حد دارهما من الموضع
الموازي لسكة الحوض إلى درب أبي سورة، وهو حد الدار المعروفة بالعروض.
وعهدي بها وفيها بستان كبير كثير النخل والشجر، وبيت أحمر السقف
والحيطان يعرف ببيت الدم. ثم قبضت وبيعت مع أن أصلها وقف، وابتاعها
جماعة وتنقل الملك فيها من واحد إلى آخر. فمن ذلك الدار التي في الطرق
وتوازي
(1/232)
سكة الحوض، فإنها حصلت لأبي الحسن محمد بن
عبيد الله العلوي الكوفي، ثم انتقلت إلى ورثته. ومن ذلك دور وحجر وغرف
كثيرة تلي هذه الدار صارت لجماعة من الناس، ومن ذلك دار كانت لعثمان بن
الحسين ابن عبد العزيز الهاشمي، ويليها دار لعلي بن عبد الرحمن المعروف
بابن هانيء الكوفي، ثم دار كبيرة واسعة ملكتها نزهة الملقمة. وهي تنتهي
إلى آخر دور بني الفرات.. ولجعفر بن قدامة في أبي الحسن بن الفرات:
يا بن الفرات ويا كري ... م الخيم محمود الفعال
ضيعت بعدك واطرح ... ت وبان للناس اختلالى
وتغيرت مذ غيرت ... أحوالك الأيام حالي
لهفا أبا حسن على ... أيامك الغر الخوالي
لهفا عليها إنها ... بليت بأحوال بوالي
لا يجوز في لهفا التنوين لأن تفجع المرزئة لهفاه فحذفت الهاء في الوصل
وبقيت الألف على سكونها. وله أيضاً فيه:
لمّا خلوت من الفوا ... ئد والمنافع والصلات
وعدمت في الأعياد ما ... عودت من كل الجهات
وبقيت فيها حائراً ... كالسفر ضلوا في الفلاة
ناديت يا سقيا ويا ... رعيا لعصر ابن الفرات
(1/233)
ملك أشم مسود ... رطب الأنامل بالهبات
يعطي الرغيب ولا يمن ... ولا ينغص بالعدات
وله فيه أيضاً:
لما غدوت وفي الحشا ... نار مضرمة تشب
والفكر والأحزان مش ... حون بها جسم وقلب
أنشدت ما قال ابن جه ... مٍ وهو بالأشعار طب
أملقت بعدك يا علي ... ونالني ما لا أحب
وحدث أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان قال:
كان الفضل بن الحسن الواسطي يتولى بيع غلات أبي العباس وأبي الحسن ابني
الفرات، وكانت عظيمة لكثرة ضياعهما وزيادة ارتفاعهما. فاتفق أن مات،
فأقاما مقامه عبد الوهاب بن أحمد بن ما شاء الله أحد غلمانه الرفاشين
بين يديه، وقدماه ورفعا منه ونوها باسمه، وأكسباه مالاً جزيلاً، فتأثلت
به حاله وصرف أبو الحسن عن وزارته الأولى. فخدم علي بن عيسى وباع
غلاته. فلما عاد أبو الحسن بن الفرات إلى الوزارة ثانياً لم يؤاخذه
بخدمة علي بن عيسى، وأجراه على رسمه في بيع غلاته، وخاطب أبا عمر
القاضي في قبول شهادته وإظهار عدالته. وقبض علي بن الفرات، وتقلد
الوزارة حامد بن العباس، وخلفه علي بن عيسى ورؤساء الناس، فلما صرف
(1/234)
حامد ووزر ابن الفرات الوزارة الثالثة قبض
علي ابن ما شاء الله، فأنفذ مفلح الأسود خادم المقتدر بالله وله القدم
المتمكنة، والمنزلة المتقدمة، والدالة القوية على ابن الفرات لقيامه
بأمره عند عوده في هذا الوقت إى نظره يسأله في بابه، وحضر كاتبه
برسالته في معناه. فقال ابن الفرات: الأستاذ هو الصاحب، وأمره الممتثل،
وأنت أيها الرسول المأمون، لكنني أحضر ابن ما شاء الله، وأقفه بين يديك
على ما تسمعه، فإن أردت بعد ذلك أن تتخذه سلمته إليك ولم أراجعك فيه.
تم تقدم بإحضار ابن ما شاء الله، فحضر يرسف في قيوده، فأمر بنزع الحديد
عنه، فنزع من ورقته، ثم قال له: اجلس، فامتنع، فكرر عليه القول فجلس.
ثم أحلفه يميناً استوفاها عليه أن يسمع ما يقول له ويجيب بما عنده من
غير تقية، ولا تورية ولا مواربة، ومتى ذكر له ما فيه تزيد رده أو تعنت
دفعه، وناظره مناظرة النظير لنظيره من غير مراعاة لموضعه، ولا احتشام
لمكانه. فلما فرغ من ذلك قال له: ألم يكن الفضل ابن الحسن الواسطي بيعي
وبيع أبي العباس أخي، وله الحال والجاه والمنزلة والوجاهة بمعاملتنا
وتولى غلاتنا وكنت رفاشاً بين يديه؟ قال: بلى. قال: فلما مات ألم
نصطنعك ونقمك في خدمتنا مقامه ونرتبك الترتيب الذي شاع ذكرك فيه؟ ومال
الناس إلى معاملتك به من أبي الحسن علي بن عيسى خصمنا وغيره من أصحاب
السلطان حتى كثر مالك وتريشت حالك؟ قال: بلى. قال: فلما سخط السلطان
علي وانصرفت عما كنت أخدمه فيه ألم تعدل إلى أبي الحسن علي بن عيسى وهو
عدوى تعامله وتداخله؟ قال: بلى. قال: ثم عدت إلى خدمة السلطان فهل
(1/235)
واخذتك بذلك أو نقمته عليك أو عدلت في
خدمتي عنك؟ قال: لا. قال: فهل استعنا بك في نكبة، أو حملناك من أمرنا
كلفة، أو حملت إلينا قط مرعاة أو ملاطفة أو فعلت لك مع أحد من أسبابنا
في وقت استغناء أو حاجة؟ قال: لا. قال: أفلم نرفع من قدرك وألزمنا أبا
عمر القاضي قبول شهادتك حتى زدت على الأماثل من نظرائك؟ قال: بلى. ثم
قال له المحسن ابنه وكان حاضراً: أما جئتك ليلة في سميرية ومعي خديجة
بنت الفضل بن جعفر بن الفرات بنت عمي وزوجتي وثلاثون بدرة عيناً نقلتها
على كتفي إلى المسجد المجاور لدارك بشارع الماذيان وعلى قريب من سوق
الطعام، وأجلست المرأة تحفظ البدر، وطرقت بابك متخفياً، وعلي كنانة
سوداء، وبيدي طبرزين، ودفعت الباب ففتحت لي جاريتك وهجمت عليك وأنت
وحرمك في صفة دارك فارتعت وقلت: من أنت؟ فلما تبينت وجهي قلت: سيدنا
الوزير؟ قلت: لست الوزير أنا سرور غلام خديجة بنت الفضل بن جعفر، اخرج
معي وأبعد من معك عنك. فخرجت. ونقلنا البدر إلى دارك، ومعها زوجتي وقلت
لك: هذه خديجة بنت عمي وزوجتي وهي طالق مني ثلاثاً بتاتاً إن كان هذا
المال لي أو لأبي، بل هو ملكها وإرثها عن أبيها، وهو وديعة لها عندك،
وأمانة في عنقك، لا تعط أحداً منه ديناراً فما فوقه سواها. فقلت: نعم.
وتسلمت البدر؟ قال: نعم. قال: واعتذرت بما كان جرى فعذرتك وقلت لك:
إنما اعتبرتك واختبرتك؟ قال: نعم. فقال له أبو الحسن بن الفرات: أفلم
نحضر الشهود عند مصادرتنا وقد جمع الناس فحلفنا أنا والمحسن
(1/236)
ابني بالأيمان المغلظة السلطانية والمشتملة
على العتاق والطلاق وصدقة المال أنه لم يبق لنا موجود ولا مذخور ولا
مودوع، وأقسمنا بعد القسم بالله بحق رأس أمير المؤمنين على مثل ذلك،
وأحللناه من دمنا إن كنا كاذبين؟ قال: نعم. قال: أفلم تسمع اليمين وأنت
تعلم أننا صادقان فيها بخروج ما عندك عما نملكه مع ما قاله لك المحسن
في أمره أنه لزوجته من دونه ودون
غيره، وأنه مال ورثته عن أبيها، ما استفادته منا؟ قال: نعم. قال: أفلم
تقم في ذلك المجلس مع علمك ما تعلم وقلت كذب، له عندي ثلاثون بدرة
عيناً أودعنيها ابنه المحسن؟ ولو لم نبلغك ما بلغناك ونقدمك من منزلة
الشهود إلى ما قدمناك لما حضرت مثلك ذلك المجلس. ويا ليتك لما فعلت ما
فعلت صدقت عن باطن الأمر، فقد كان يسعك أن تعطي ما أعطيت وتسلم ما
تسلمت بعد أن تذكر ما جرى بين المحسن وبينك. فلما سمع كاتب مفلح من قول
ابن الفرات لابن ما شاء الله ما قال واعترافه له بجميع ذلك نهض وقال:
أستودع الله الوزير. وانصرف، وأمر الوزير برد ابن ما شاء الله إلى
محبسه ثم قتله. وقال الناس: إن كان دم لا يطالب الله به ابن الفرات فدم
ابن ما شاء الله. وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسن
الأزرق التنوخي قال: حدثني بعض أصحابنا قال: حدثني أبو علي بن مقلة
قال: هـ، وأنه مال ورثته عن أبيها، ما استفادته منا؟ قال: نعم. قال:
أفلم تقم في ذلك المجلس مع علمك ما تعلم وقلت كذب، له عندي ثلاثون بدرة
عيناً أودعنيها ابنه المحسن؟ ولو لم نبلغك ما بلغناك ونقدمك من منزلة
الشهود إلى ما قدمناك لما حضرت مثلك ذلك المجلس. ويا ليتك لما فعلت ما
فعلت صدقت عن باطن الأمر، فقد كان يسعك أن تعطي ما أعطيت وتسلم ما
تسلمت بعد أن تذكر ما جرى بين المحسن وبينك. فلما سمع كاتب مفلح من قول
ابن الفرات لابن ما شاء الله ما قال واعترافه له بجميع ذلك نهض وقال:
أستودع الله الوزير. وانصرف، وأمر الوزير برد ابن ما شاء الله إلى
محبسه ثم قتله. وقال الناس: إن كان دم لا يطالب الله به ابن الفرات فدم
ابن ما شاء الله. وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو الحسن
الأزرق التنوخي قال: حدثني بعض أصحابنا قال: حدثني أبو علي بن مقلة
قال: كنت أكتب بين يدي أبي الحسن بن الفرات قبل وزارته، فلما وزر قال
لي في يوم نظره: أحضر ابن الأكموش وعشرة أنفار من التجار وبع عليهم
ثلاثين ألف كر من غلات السواد، واستثن في كل كر بدينارين، وطالبهم
بتعجيل مال الاستثناء في ثلاثة أيام. ففعلت ذلك، وكتبت لهم بالتسليم،
وأنسيت مطالعة الوزير لشغل قطعني. ثم عرفته أياه. ثم استأذنته في تسليم
المال إلى من يراه، فقال:
(1/237)
يا سبحان الله، أقدرت أنني استثنيت به
لنفسي؟ لقد قبحت في هذا الظن، إنما أردت أن أصلح حالك به وأبين صحبتك
بمكانه، فخذه واصرفه فيما تحتاج إليه، فقبلت يده ودعوت له، وانصرفت ألى
منزلي وما أتمالك فرحاً، فطالبتني نفسي منذ حصل لي ما حصل من المال
بمعالي الأمور وكبير المنازل.
وحدث القاضي أبو علي قال: حدثني أبو جعفر طلحة بن عبد الله قال: حدثني
أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي قال: قال لنا أبو الحسن بن الفرات يوماً
وقد جرى بحضرته أمر رجل قد أسرف في الظلم: الظلم إذا زاد رفع نفسه.
وقال أحد مشايخ الكتاب: سمعت أبا الحسن بن الفرات يملي على كاتب بحضرته
إلى وكيل في ضيعته: استكثر من غلة المقاسمة فإنها لنا دون الأكار،
وتوسط في الشتوي فإنه لنا وللأكار، وقلل الصيفي فإنه للأكار دوننا.
وحدث أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن الروذباري قال: حدثني أبو بكر ابن
فتح الوراق قال: وقف علي أبو الحسن بن جعفر بن حفص الكاتب، وكان جماعة
للكتب قد قرأ وسمع، فقال لي: كنت يا أبا بكر في مجلس الوزير أبي القاسم
يعني عبيد الله بن سليمان فجرى ذكر الفيروزج فوصف أبو العباس ابن
الفرات أجناسه بأحسن وصف وأبلغ شرح، وخرج من ذلك إلى ذكر أصناف الأحجار
ومعادنها وخواصها وفضائلها، حتى استغرق المجلس، واشتمل عليه دون من كان
فيه من الرؤساء والعلماء، فمن أين علم ذلك؟ قلت: من كتاب هو عندك. قال:
فما هو؟ قلت: كتاب الأحجار، ولكن حفظ أبو العباس وأنسيت أنت. قال لي:
أحب أن تجيئني لنخرجه.
وحدث أبو الحسن الروذباري قال: مر أبو العباس بن الفرات في طريق له
(1/238)
على أرجاء عبد الملك وقد عطش، فنظر إلى باب
رحبة فيها دكان، عليه شيخ كبير اللحية، نظيف البزة، له رواء وهيئة،
يعرف بالمرى، فقال لأحد غلمانه: استسق لنا من هذا الشيخ ماء. ففعل
الغلام، وقام الشيخ مسرعاً، فجاء بثلجية نظيفة فيها ماء بارد، فشرب
وانصرف أبو العباس إلى منزله، فلم ينزع خفه حتى أنفذ من سأل عن خبره،
فتعرف اختلال حاله، فأمر بحمل مائتي دينار إليه، وأجري عليه في كل شهر
عشرة دنانير برسم الكتاب، فما زال يقبضها حتى مات: وحدث أبو بشر بن
فرجويه في وزارة أبي الحسن بن الفرات الثانية قال: بينما نحن في ليلة
من الليالي الشتوية نعمل؛ إذ خرج إلينا من حضرة الوزير أبي الحسن توقيع
بخطه مع خادم من خدمه، وقد مضى من الليل قطعة، يقول فيه: خرجت يا أبا
بشر جعلت فداك لأهريق الماء، فوجدت ريحاً قد هب، فوقفت حتى عرفتها، وهي
ريح إذا انشأت مرت على السكر الفلاني من أنهار الجامدة وأفسدته وقطعته،
فاكتب الساعة إلى وكيلنا بهذه الناحية، وإلى ابن المشرف المهندس في
المسير إلى الموضع ومراعاته، وإصلاح شيء إن كان اختل منه، وإعداد آلة
عتيدة تكون عنده، ووكد القول في ذلك غاية التأكيد، ولا تعتمد على حامد
بن العباس فيه، فإنه لا يهتم به. وقعد الخادم عندنا حتى كتبت الكتب.
ومن طريق أحاديث أبي الحسن بن الفرات في معرفته بالأمور ما حدث به أبو
علي الحسن بن حمدون، فإنه قال: كنت مع يوسف بن ديوداد بنواحي باب
الأبواب، وهو السد الذي كان أنوشروان عمله بين الخزر وأرض فارس، وطول
(1/239)
السور مسيرة يوم، وله مروحة في البحر طولها
ستمائة ذراع، تمنع مراكب الخزر من الدخول، والباب من حديد، والسور من
حجارة مهندمة، في كل حجر ثقبان فيهما عمودان من حديد، قد صب عليهما
الرصاص، والمروحة التي في البحر على هذا العمل. فاتفق أن سقطت هذه
المروحة، ودفعت يوسف بن ديوداد الضرورة إلى أن قصد الموضوع، ونزل عليه
لإصلاحه، وجمع المهندسين وذوي الخبرة بالأعمال، فقدروا له ستين ألف
دينار تنفق على إعادة المروحة. وكتب إلى الوزير أبي الحسن ابن الفرات
يعرفه الخبر، ويعتذر إليه من تأخير المال الذي واقفه عله بهذا الحادث
الذي حدث في هذا الموضع، فوالله ما كان إلا مقدار مسافة الطريق حتى ورد
علينا كتاب ابن الفرات يقول فيه: فهمت كتابك أطال الله بقاءك بما شرحته
من حال المروحة الساقطة، وما قدر لها من المال للنفقة. وقد قرأنا في
الأخبار أن أنوشروان لإشفاقه على هذا الموضع أعد له ما يكفيه، فأحضر
مشايخ أهل البلد وذوي الأسنان العالية منهم، وسلهم هل سقطت المروحة قبل
هذه الدفعة؟ فإن كانت سقطت فقد استعملت الآلة فيها، وإن كانت لم تسقط
فاطلب الآلة وسل عنها فإنك تجدها، وعرفني ما يكون منك إن شاء الله. قال
ابن حمدون: فلما ورد الكتاب على يوسف أحضر المشايخ وسألهم عن ذلك، فلم
يجد أحداً يذكر أو يخبر أن هذه المروحة سقطت قبل هذه الدفعة، وسألهم عن
الآلة وموضعها فلم يكن فيهم من يعرف حديثها إلا رجل منهم فإنه قال:
سمعت مشايخي يتذاكرون خبرها، وأنها مدفونة على قرب من المروحة. فلم يزل
يفتش عنها حتى وجدها وأخرجها، فكانت كاملة من حجارة منحوتة منقوبة،
وأعمدة من حديد مفروع منها، ورصاص وسائر ما يحتاج إليه، فاستعملها، ولم
يؤد من المال إلا قدر أجرة الصناع.
(1/240)
وحضر أحد العمال بحضرة أبي الحسن بن
الفرات. فلما ناظره على ما أراده لم يذهب فيه ولم يجيء. فقال له: يا
هذا، إن كنت تزوجت امرأتك على شرط أنك كاتب فقد بانت منك وحرمت عليك،
لأنك خلو من الصناعة منسلخ منها. ولما تقلد أبو الحسن بن الفرات
الوزارة قال أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: ما افتقرت
الوزارة إلى أحد قط مثل افتقارها إلى هذا الوزير المتقلد، على أنه لم
يتجدد عليه منها إلا الاسم، فأما أعمالها فما زالت دائرة عليه وعلى أبي
العباس أخيه. ولقد دخلت يوماً إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان وهما
بين يديه فرأيته يقف على الرقاع ثم يرمي بها إليهما، وينظر ما يقولان
فيأمر به، حتى ذكرت قول القائل:
خليفة مقتسم ... بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ... كما يقول الببغا
وقال خفيف السمرقندي: لما قام المعتضد بالله واستوزر عبيد الله بن
سليمان قال له: قد دفعت إلي ملكاً مختلاً، ودنياً خراباً، وأريد أن
أعرف ارتفاع النواحي لأجري النفقات والرواتب على موجب ذلك، فاعمل به
عملاً مشروحاً، وأتني به وعجله. فخاطب عبيد الله كتابه وأصحاب دواوينه
على ذلك فوعدوه واستنظروه. وكان أبو العباس وأبو الحسن ابنا الفرات
محبوسين مصادرين، وعرفا ما التمسه المعتضد بالله فبذلا القيام به
والفراغ منه في ثلاثة أيام، ووفيا بذاك وبلغا المراد منه. وعلم عبيد
الله أن الخبر سيصل إلى المعتضد بالله فكلمه فيهما واستأذنه في
استخدامهما والاستعانة بهما.
وحكى أبو بكر الصولي قال: خاطب يحيى بن علي المنجم أبا الحسن بن الفرات
في أبي حاتم محمد بن حاتم المزنوي، وأنه يريد الخروج إلى بلده، ويخاف
التتبع
(1/241)
لأجل رزقه، وسأله أسقاط جاريه، والإذن له
في الخروج الذي اعتزمه. فضحك وقال: ما أوجبت له في الرزق فأقطعه، ولو
كنت موجباً له لما رآني الله وأنا أوقع بقطع رزق أحد، فإن شاء فليقم،
وإن شاء فليخرج. ودفع أبو الحسن إسماعيل القاضي إلى أبي الحسن بن
الفرات رقعةً ذكر فيها أن ضيعته الفلانية قطيعة، وقد تأول عامل الناحية
عليه وادعى انها إستان. فلما وقف عليها قال: هذه الضيعة كانت في إقطاع
زبيدة، وانتقلت إلى إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وباعها ابنه محمد،
فاشتراها ابن فلان السي وتوفي فصارت لورثته فقال له أبو الحسن: أنا
اشتريتها من ابنه فلان. قال: فما فعلت حصة أخيه؟ قال: لولده، وهم
شركائي فيها. فوقع إلى العامل: هذه الناحية من القطائع القديمة، فأمضها
على رسمها ولا تعرض لها. فعجب الناس من حفظه ما حفظه. وحدث أبو الحسن
أحمد بن العباس بن الحسن قال: كنت بحضرة الوزير أبي أحمد والدي وعنده
كتابه، وهو يتصفح رقاعاً بين يديه، فرمى واحدة إلى محمد بن داود، وكانت
من صاحب الخبر. فلما قرأها محمد اضطرب وقال: كذب كاتبها أيها الوزير.
قال له وماذا يكون لو صدق؟ ثم رمى بأخرى إلى أبي الحسن علي بن عيسى
تتضمن ذكر ماله من الغلات بسوق الطعام فتغير وجهه واربد لونه وقال: كذب
كاتبها أيها الوزير والذي لي في الأحراز هناك دون المبلغ المذكور. ورمى
إلى محمد بن عبدون بثالثة فقرأها وجحد ما فيها. ثم رمى رابعة إلى أبي
الحسن بن الفرات فلما نظر فيها ضحك وقال له: أنا أذكر ما عندي في
معناها. وجلس إلى أن
(1/242)
تقوض المجلس ولم يبق عند أبي غيري، ثم قال
له: قد كذب صاحب الخبر أيد الله الوزير، فإن لي بسوق الطعام وعند
الباعة أضعاف ما ذكره، فإن كان قوله في غيري مثل قوله في فقد حابى
وصانع وكذب ولم يصدق، وأنا مستغن عن جميع ما أشرت إليه، ومستظهر على
الزمان بأكثر منه، ولله الحمد والمنة. بلى، لي إلى الوزير حاجة أسأله
الإنعام على بيها. قال: ما هي؟ قال: لا أقولها إلا بعد أن يشرط لي
الإجابة إليها. قال قد شرطت وفعلت، قال: عندي خمسمائة ألف دينار أنا في
غناء عنها، فليأذن لي الوزير في أن ابني بها داراً لأبي الحسن، وأبتاع
له ما يحتاج إليه فيها واجعل ما يبقى من المال في خزانته، فإنه في دار
الوزير، وموضعه ومكانه يقتضيان إفراده بدار وأثاث وتجمل وحال. فقال لي
أبي: بل يزيدك الله يا أبا الحسن ويضاعف مالك وحالك ويريني لك في الشهر
الواحد ضعف ذلك ويجريه على يدي في قضاء حقك. فقال له نقص الوزير شرطي،
وأخلف وعدي، وما أقنع منه إلا بالوفاء. فجعل يشكره ويدافعه وأبو الحسن
مقيم على أمره وملح في سؤاله، ثم قام على رجليه وأخذ يضرع إليه ويكرر
القول عليه، حتى قال له: قد قبلتها فلتكن لي قبلك إلى أن أعرفك من بعد
رأيي فيها. فعند ذلك أمسك وانصرف. وأقبل أبي يقول لي بعد خروجه: ما
أعلم أن الله تعالى خلق مثل هذا الرجل في سعة نفسه، ولا مثل أولئك في
ضيق نفوسهم وجحدهم القليل مما نسب إليهم، واعتراف هذا بأضعاف ما ذكر
أنه له، ثم بذله اياه هذا البذل من نية خالصة صادقة. ثم أخذ أبي ينشد
ويردد:
عزمت على إقامة ذي طلوح ... لأمر ما يسوّد من يسود
قال أبو الحسن: ودخل جدي ونحن في ذلك، فحدثه بما جرى، وقال له: قد
(1/243)
والله سرني ما شاهدته منه، وعلمت أنه ردء
للملك ومفزع متى دعته إليه حاجة. قال: وكان أبي ربما يمازحه ويقول له:
ما خبر تلك الجارية؟ فيقول: أكمل ما كانت، أفيأذن الوزير في حملها؟
فيقول لا بل تكون على حالها. وعرض عليه في وزارته الثانية وقد جلس
للمظالم رجل عمري رقعة تتضمن شكوى حاله ورقتها، وأن عليه ديناً قد ضاق
ذرعه به، وعلى ظهرها توقيع أحد الوزراء بأن يقضي دينه من مال الصدقات،
فقال له: يا هذا، إن مال الصدقات لأقوام بأعيانهم لا يتجاوزهم، ولقد
رأيت المهتدي بالله رحمة الله عليه وقد جلس للمظالم، وأمر في مال
الصدقات بما جرى هذا المجرى، فقال له أهلها: ليس لك يا أمير المؤمنين
ذلك! فإن حملتنا على أمرنا وإلا حاكمنا إلى قضاتك وفقهائك. فحاكمهم
فخاصموه. وإن شئت أنت حاكمتك. فقال له العمري: لا حاجة لي إلى
المخاصمة. قال: الآن نعم أواسيك وأقضي دينك. وفعل، وكان مبلغه خمسمائة
دينار.
وحدث محمد بن داود بن الجراح قال: قال ابن أبي بدر وغيره: أنشدنا أبو
العباس أحمد بن محمد بن موسى بن الفرات لنفسه:
وعلمتني كيف الهوى فحملته ... وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي
وأعلم مالي عندكم فيردني ... هواي إلى جهل فاقصر عن علم
وله أيضاً:
لا تلحني لست سامع الفند ... عدلت بي عن مناهج الرشد
إن كنت لم تصطبر لحادثة ... فالصبر في الحادثات من عددي
(1/244)
وقال أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات في
وزارته الثانية بحضرة أبي منصور ابن جبير: تأملت ما صار إلى السلطان من
مالي فوجدته عشرة آلاف ألف دينار وما أخذت من الحسين بن عبد الله
الجوهري فكان مثل ذلك. إلا أن فيما أخذ من الجوهري متاعاً وجوهراً.
وللقاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول في أبي الحسن بن الفرات في
وزارته الثالثة:
قل لهذا الوزير قول محق ... بثه النصح أيما إبثاث
قد تقلدتها مراراً ثلاثاً ... وطلاق البتات عند الثلاث
ووقع بيدي ثبت أخرج من ديوان المغرب في أيام الراضي بالله بما أخذه
المحسن ابن علي بن محمد بن الفرات من الخطوط ممن قبض عليه وصادره في
أيام وزارته الثالثة، نسختها: أحمد بن محمد بن إبراهيم البسطامي عن
النصف ممن بقي عليه من مصادرته في سنة ثلاثمائة، سبعة آلاف وثلثمائة
دينار.
علي بن الحسن الباذبيني الكاتب عما تولاه بالموصل أحد عشر ألف دينار.
أبو الفضل محمد بن أحمد بن بسطام، خمسين ألف درهم. محمد بن عبد الله
الشافعي عما تصرف فيه لعلي بن عيسى، ثلاثين ألف دينار. محمد بن علي بن
مقلة عما تصرف فيه، ثمانين ألف دينار. محمد بن الحسن المعروف بأبي طاه.
مائة ألف دينار. الحسن ابن أبي عيسى الناقد عما ذكر أنه وديعة لعلي بن
عيسى، ثلاثة عشر ألف دينار.
(1/245)
ومن الحسن بن أبي عيسى صلحاً عن نفسه،
أربعة آلاف دينار. إبراهيم بن أحمد المادرائي، عشرين ألف دينار. عبد
الواحد بن عبيد الله بن عيسى عن بقية مصادرة والده، ستة وثلاثين ألفاً
وثلاثمائة وثلاثين ديناراً. أحمد بن يحيى بن حاني الكاتب عن مصلحة
وجبت، عشرة آلاف دينار. إبراهيم بن أحمد بن إدريس الجهبذ عن صلحه، ستة
آلاف دينار. محمد بن عبد السلام بن سهل عما عنده من الوديعة لمحمد بن
علي وإبراهيم بن أحمد المادرائي، أربعة آلاف دينار. عبد الوهاب بن أحمد
بن ما شاء الله عن صلحة، أربعين ألف دينار. علي بن حسن الباذبيني صلحاً
عما تصرف فيه بالموصل، وقتل، مائتي ألف درهم. محمد بن عبد الله بن
الحارث عن صلحة، عشرة آلاف دينار. محمد بن أحمد بن حماد صلحاً عما تصرف
فيه بأعمال الموصل وغيرها وقتل بعد أيام يسيرة، مائتين وخمسين ألف
دينار. إبراهيم بن أحمد المادرائي عن الباقي عليه من جملة خمسين ألف
دينار، خمسة عشر ألف دينار. أبو عمر محمد بن أحمد، بن الصباح الجرجرائي
عن ضمانة الباقي من مصادرة أبي ياسر إسحاق بن أحمد، مائة ألف درهم. أبو
عمر بن الصباح أيضاً عن الباقي علي أبي العباس أحمد بن علي الجرجرائي
المعروف بقرقر، ثلاثة آلاف دينار. علي بن محمد الحواري، وقتل، سبعمائة
ألف دينار
(1/246)
عبيد الله بن أحمد اليعقوبي، مائة ألف درهم
هارون بن أحمد بن هارون الهمذاني، سبعة آلاف دينار. الحسن بن إبراهيم
الخرائطي صلحاً عما اقتطعه من مال الرئيس، مائة ألف درهم الحسين بن علي
بن نصير أخو نصير بن علي، مائة ألف درهم. عبد الله بن زيد بن إبراهيم،
ألفين وخمسين ديناراً. ومن عبد الله بن زيد صلحاً عن نفسه، خمسة عشر
ألف دينار. علي بن محمد بن أحمد بن السمان عن ورثة قرقر، ألفين
وخمسمائة درهم. علي بن مأمون بن عبد الله الإسكافي كاتب ابن الحواري،
وقتل، ستين ألف دينار. أبو بكر أحمد بن القاسم الأزرق الجرجاني عن ضياع
علي بن عيسى، عشرة آلاف درهم. الحسين بن سعد القطربلي، مائةً وثلاثين
ألف درهم. محمد بن أحمد بن ما سراد، ألف ألف وخمسمائة ألف درهم. أبو
الحسن محمد بن أحمد بن بسطام، ثلاثة آلاف ألف درهم. أحمد بن محمد بن
حامد بن العباس، خمسين ألف درهم. يحيى بن عبد الله بن إسحاق عما تصرف
فيه مع حامد، سبعين ألف دينار حامد بن العباس، وقتل، ألف ألف وثلاثمائة
ألف دينار محمد بن محمد بن حمدون الواسطي، مائة وخمسين ألف دينار. أبو
الحسن علي بن عيسى ثلاثمائة ألف واحداً وعشرين ألف دينار.
(1/247)
إبراهيم ين يوحنا جهبذ حامد بن العباس،
مائة ألف دينار. أبو محمد الحسن بن أحمد المادرائي، ألف ألف ومائتي ألف
دينار ومنه أيضاً بخط آخر، ألف ألف دينار. أبو بكر محمد بن علي
المادرائي، ألف ألف دينار وألف دينار وبخط آخر أيضاً، عشرة آلاف دينار.
سليمان بن الحسن بن مخلد، مائة وثلاثين ألف درهم. فذلك من العين سبعة
آلاف ألف وخمسمائة ألف وخمسة وتسعين ألفاً وستمائة وثمانين ديناراً ومن
الورق خمسة آلاف ألف وثلاثمائة ألف درهم. قيمة الورق عينا على التقريب
ثلاثمائة وثمانين ألف دينار. ويكون الجميع من العين ثمانية آلاف ألف
دينار وأربعين ألف دينار.
وحدث أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات أن منجماً أخبره أنه لم ينزل
زحل في برج السنبلة إلا حدثت حادثة، وقد جرت العادة بذلك على مضي
الأوقات، ومن ذلك أنه نزل هذا البرج سنة ثمان للهجرة فكان في تلك السنة
فتح خيبر ومكة، ونزل في سنة ثمان وثلاثين، فكانت حرب صفين بين علي عليه
السلام وبين معاوية، ونزل في سنة ثماين وستين وكان فيها حرب المختار
وعبد الملك وقصة عبد الله بن الزبير، ونزل في سنة ثمان وتسعين فمات
سليمان بن عبد الملك
(1/248)
وانتقل الأمر إلى عمر بن عبد العزيز، ونزل
في سنة ثمان وعشرين ومائة فظهر أبو مسلم وجرت قصة مروان بن محمد. ونزل
في سنة ثمان وخمسين ومائة فمات المنصور ونزل في سنة ثمان وثمانين ومائة
فأوقع الرشيد بالبرامكة. ونزل في سنة ثمان عشرة ومائتين فتوفي المأمون.
ونزل في سنة ثمان وأربعين ومائتين فتوفي المنتصر وقتل المتوكل. ونزل في
سنة ثمان وسبعين ومائتين فوتفي الموفق. وحدث من الأمور ما حدث.
وحدث أبو عبد الله زنجي قال: لما توفي أبو العباس أحمد بن محمد بن
الفرات أحضر المكتفي بالله القاسم بن عبيد الله وسأله عنه، فعرفه وفاته
وعزاه عنه، واستأذنه فيمن يقلده الديوان مكانه، فأعلمه ما كان يسمعه من
المعتضد بالله أبيه في وصف بني الفرات وذكر كفايتهم، وأمر بإقرار أبي
الحسن على دواوينه، وسمع خفيف السمرقندي ذلك فأنفذ إلى أبي الحسن سراً
فطالعه وهو جالس للعزاء عن أبي العباس أخيه، وأعلمه أنه أمر يجب كتمانه
إلى أن يظهر من غير جهته، وأنفذ إليه القاسم أبا علي وأبا جعفر ابنيه
معزيين له ولأبي محمد الفضل وأبي الخطاب العباس وأبي جعفر محمد بني أبي
العباس، وسار إليه وإليهم أبو أحمد العباس بن الحسن وأبو الحسين ابن
فراس، معزيين، ولم يبق أحد من القواد والكتاب والقضاة وسائر الطبقات
إلا فعل مثل ذلك. فحضر أبو الحسن بن الفرات بعد انقضاء أيام العزاء
الديوان، ونظر في الأعمال، وأمضى ما كان تأخر إمضاؤه منها. وكان في نفس
القاسم من أبي العباس وأبي الحسن ما لا يتمكن من إظهاره في حياة أبي
العباس، فلما توفي عاود محمد بن عبدون الوقيعة في أبي الحسن، وأغرى
القاسم به، وحمله مع علته على مطالبته بما كان أخرج عليه. فأمر بإحضار
الأعمال التي كانت عملت له، وجلس للنظر فيها، ومواقفه عليها في يوم
الثلاثاء قبل وفاته بثمانية أيام، وأقبل يناظر أبا الحسن
(1/249)
وهو وقيذ من علته ويشم الروائح الطيبة
طلباً للتماسك في قوته. فلما زاد ما يجده أشار عليه إسحاق بالإمساك
لئلا يزيد احتداد طبعه، ودعا بماء ورد فرشه على وجهه وانقضى المجلس.
واشتغل القاسم بنفسه وتوفي في يوم الأربعاء لست ليال خلون من ذي القعدة
سنة إحدى وتسعين ومائتين بعد أن كاتب المكتفي بالله، وعرفه اشتداد مرضه
ويأسه من برئه، وأشار عليه بالتعويل في مكانه على العباس بن الحسن
كاتبه، ووصفه بما رغبه فيه به. وكانت فارس الداية على عناية بأمره، لأن
القاسم استكتبه لها فأحسن خدمتها، فأشارت على المكتفي بالله وكان كثير
القبول منها بالتعويل عليه، والتفويض إليه، ففعل. وخرج المكتفي بالله
إلى سر من رأي، ومعه العباس ابن الحسن، وهو معتقد للقبض علي أبي الحسن
بن الفرات هناك. فذكر أبو عبد الله زنجي أنه خرج متبعاً لأبي الحسن بن
الفرات، فلقيه أبو القاسم ميمون ابن إبراهيم المادرائي منصرفاً عن
وداعه، وسأله عن مقصده، فعرفه أنه لاحق بأبي الحسن ابن الفرات ليكون
معه: فأشار عليه بالعود إلى منزله وأوحى إليه بإشفاقه من حادث يحدث
عليه. قال: فقلت: لا يحسن التأخر عنه، وكفاية الله من دون ما يشفق منه
وسار المكتفي بالله والعباس بن الحسن وأبو الحسن بن الفرات، وأنا في
الصحبة، ووصلنا إلى الأحمدي وليس مع أبي الحسن من كتابه غيري وغير أبي
منصور بن جبير. فلما كان في بعض الأيام حضرت عنده على رسمي، وقدم
الطعام، ودعاني إليه فامتنعت وقلت: إنني صائم. وسألني عن سبب ذلك وألح،
فعرفته أنني رأيت
(1/250)
في المنام أبا العباس أخاه وهو يقوله له:
قل لأبي الحسن أخي: لست تغتم بعد هذا اليوم. فسر بما حدثته به وقال:
أنا أحق بالصوم. وأمر برفع المائدة وجلسنا، فنحن في ذلك حتى وافاه خادم
أسود مسرع قد علا وجهه الغبار، فدنا منه وساره ثم انصرف. والتفت أبو
الحسن إلي وقال: قد حقق الله رؤياك، هذا رسول خفيف السمرقندي يعلمني عن
خفيف أن أمير المؤمنين المكتفي بالله ركب في هذا اليوم يتصيد ومعه
العباس بن الحسن، وأنه قال له: إن جماعة من الكتاب قد غلبوا على ضياع
للسلطان، وعليهم من حقوق بيت المال ما يحتاج معه إلى القبض عليهم
وارتجاع ما حصل في أيديهم. وأذن له في تدبير أمرهم بما يراه، قال: فلما
انصرف دنوت من أمير المؤمنين وقلت له: إنما أراد العباس بما قاله لك
أبا الحسن بن الفرات، وأن المعتضد بالله كان يوثقه ويوثق أبا العباس
أخاه، ويعول عليهما في تدبير الأعمال وحفظ الأموال. فقال لي: إذا كان
الأمر على ذلك فبادر إلى العباس وتقدم إليه بألا يعرض لأبي الحسن بن
الفرات ولا يغير شيئاً من أمره، ويعمل ما شاء في غيره. ففعلت وبادرت
إليه بمن قال له هذا لئلا يعجل إلى أمر من الأمور. فسجد أبو الحسن بن
الفرات شكراً لله تعالى وتصدق بصدقة كثيرة. وصحح يومئذ ثلاثين ألف
دينار عند صاحب بيت المال وأخذ خطه بقبضها، وصار إلى العباس فأعلمه أن
الكلام
قد كثر والخوض قد طال في ذكره وذكر ما كان في يده من ضياعه وأملاكه وما
خدم به وكلاؤه من حقوق بيت المال مما لا تعرف حقيقة الدعاوي فيه، وأنه
صحح لبيت المال ثلاثين ألف دينار صلحاً عن هذه القروف المشتبهة، وحسما
لمادة الأقوال المختلفة، وتخفيفاً عن قلب الوزير والإهتمام بأمره، وسلم
إليه الخط بالقبض. فأظهر العباس إنكاراً لفعله وقال له: عجلت إلى ما
وجب أن تتوقف عنه، وتعرفني ذلك وعزمك فيه. وأورد جميلاً كثيراً فيما
خاطبه به. ولما لم يجد العباس طريقاً إلى ما هم به في أبي الحسن بن
الفرات عدل إلى الإقبال عليه والتفويض إليه. وعاد المكتفي بالله من
سفره بعد أن ضاقت صدور أصحابه وندمائه من طول مقامه وشدة البرد الذي
يلاقونه والقشف الذي يقاسونه، وقال يحيي بن علي المنجم أحد جلسائه: قد
كثر والخوض قد طال في ذكره وذكر ما كان في يده من ضياعه وأملاكه وما
خدم به وكلاؤه من حقوق بيت المال مما لا تعرف حقيقة الدعاوي فيه، وأنه
صحح لبيت المال ثلاثين ألف دينار صلحاً عن هذه القروف المشتبهة، وحسما
لمادة الأقوال المختلفة، وتخفيفاً عن قلب
(1/251)
الوزير والإهتمام بأمره، وسلم إليه الخط
بالقبض. فأظهر العباس إنكاراً لفعله وقال له: عجلت إلى ما وجب أن تتوقف
عنه، وتعرفني ذلك وعزمك فيه. وأورد جميلاً كثيراً فيما خاطبه به. ولما
لم يجد العباس طريقاً إلى ما هم به في أبي الحسن بن الفرات عدل إلى
الإقبال عليه والتفويض إليه. وعاد المكتفي بالله من سفره بعد أن ضاقت
صدور أصحابه وندمائه من طول مقامه وشدة البرد الذي يلاقونه والقشف الذي
يقاسونه، وقال يحيي بن علي المنجم أحد جلسائه:
قالوا لنا إن في القاطول مشتانا ... ونحن نأمل صنع الله مولانا
والناس يأتمرون الرأي بينهم ... والله في كل يوم محدثٌ شانا
وغني للمكتفي بذلك، فسأل عن قائله فقيل: يحيى بن علي المنجم. فأمر
بالرحيل إلى بغداد وشكر الناس يحيى بن علي على شعره. ولما حصل العباس
بن الحسن بالحضرة وعاود محمد بن داود ومحمد بن عبدون وعلي بن عيسى
الوقيعة في أبي الحسن بن الفرات والاغراء به، والإطماع فيه، والكلام
على حاله.
قال أبو عبد الله زنجي: وحضرت مع أبي الحسن في دار العباس، فوجدناه
جالساً مجلسه، والجماعة المذكورون بين يديه، إذ نهض وأقام الكتاب على
انتظاره، وخرج كاتبه فاستدعى أبا الحسن، فدخل إليه، ولم يشك الحاضرون
أنه يقبض عليه. وقال أبو عبد الله: واشتد إشفاقي، وزاد خوفي، وتأخر
عنده طويلاً. والقوم متشوقون إلى علم ما جرى في أمره. ثم خرج العباس
وأبو الحسن معه، وقعد
(1/252)
وأقعده عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه، وزاد
في تقريبه وبسطه، ونظر بعض الجماعة إلى بعض واجمين بما يشاهدونه،
ومتعجبين من انعكاس ما كانوا يقدرونه. ثم نهض أبو الحسن منصرفاً إلى
داره، وصحبته، ووصل فما استقر به مجلسه حتى سألته عن خبره، وما جرى
عليه أمره مع العباس، فقال: دعاني ودخلت إلى حجرة ما دخلت إليها من
قبل، فوجدته جالساً خالياً بنفسه وبعض حواشيع، فتقدم إلى الحاجب بإخراج
كل من يقرب من موضعه، والجلوس على الباب، ومنع كل من رام الدخول،
وانفردنا جميعاً وبدأ يذكر ما يعتقده في من الجميل، وما هو عليه من
المحاماة عني، وأنه قد حمل في أمري على أشياء فوقف عنها مراعاة لحقي.
ثم قال: إن كان في نفسك من هذا الأمر يعني الوزارة شيء سلمتها إليك
وخليت عنها لك، على أن تحرسني في نفسي ومالي وحرمي وولدي. فأعلمته أنني
أحسن حالاً منه مع الأثقال التي عليه، وأنني أرجع من المال والنعمة
والأملاك والضيعة والجاه والقدرة إلى ما أستغني به عن زيادة. وراجعني
مراجعة بعد مراجعة. فلما رآني مقيماً على على حال واحدة قال. فإذا كان
ذلك كذلك فأنا أتصور أن الأمر من بعدي صائر إليك، وأوصيك بولدي وحرمي،
فقلت: بل يبقيك الله ويطيل عمرك ولا يخلي مكانك منك، ولا يريني سوءاً
ولا محذوراً فيك. فلم يقنع إلا بأن استحلفني ثم مد يده إلي وعانقني
وقال: أمرنا الآن واحد، ويدنا واحدة، فلا تلتفت إلى هؤلاء الكتاب
وأقوالهم، ولا تفكر في كلامهم وتشنيعاتهم، وثق بما لك عندي من مزية
المراعاة وزيادة المحاماة. فشكرته ودعوت له وأعلمته قوة نفسي الآن به،
وخرجنا. فكان ما رأيت من فعله. قال أبو عبد الله: فسررت كل سرور بما
حدثنيه. ثم رد العباس بعقب ذلك إلى أبي الحسن الزمام على علي بن عيسى.
وأعفاه من ديوان الجيش، وقد كان سأل القاسم ابن عبيد الله إعفاءه منه
لم يفعل.
(1/253)
وقيل إن أبا الحسن تصدق عنه إعفائه بعشرة
آلاف درهم. ولما قتل العباس بن الحسن ووزر أبو الحسن بن الفرات قبض على
أولاد العباس في جملة من قبض عليه. وأدخلت اليد في جميع أملاكهم فحدث
أبو عبد الله زنجي قال: التمس أبو الحسن بن العباس بن الحسن لقاء أبي
الحسن بن الفرات فمنع منه، فألح في ذلك إلحاحاً طولع به أبو الحسن فأمر
بإحضارهن فحضر وقال له: احفظ فينا أيها الوزير وصية أبينا لك وما أخذه
لنا من عهدك. قال: ومتى كان ذلك؟ قال: في اليوم الذي خلوت فيه معه في
الحجرة، وصرف كل من كان بين يديه وقريباً منه، وكان من حديثكما فيما
تفاوضتماه كذا وكذا. قال له: ومن أين عرفت ذاك ولم يكن معنا ثالث؟ قال:
كنت في الرواق خلف الباب، وسمعت ما جرى بينكما كله. قال: صدقت وقد كنت
أُنسيت ذلك. ثم أمر بإطلاقه وإطلاق إخوته والإفراج عن أملاكهم التي
تخصهم. ثم قلدهم بعد ذلك الدواوين.
وحدث أبو عبد الله زنجي قال: حضرت مع أبي الحسن بن الفرات مجلس أبي
أحمد العباس بن الحسن وهو وزير، وبين يديه الأعمال ينظر فيها، إذ مر به
كتاب من الحسن بن محمد القصري المعروف بابن زياد وإليه الصدقات بقصر
ابن هبيرة جواباً عما كوتب به من حمل ما اجتمع عنده من مالها. فلما
نشره قرأ في العطف الذي وراءه: ضربت وجهك يا عباس فلا حول ولا قوة إلا
بالله. فاستشاط غضباً واختلط غيظاً وقال: من ابن زياد الكلب حتى يلقاني
بما لقي، ويستعمل من الجرأة واطراح المراقبة ما استعمل؟! ودفع الكتاب
إلى أبي الحسن بن الفرات وقال له أنفذ إليه من يسحبه إلى الحضرة على
وجهه، ويعامله من المكروه بما استدعاه لنفسه، وإذا ورد لم يبرح من
الديوان إلا بعد الخروج مما عليه. وقام أبو الحسن ومضى إلى ديوانه
وتصفح ما قدم إليه من الكتب، فقرأه، ولحظ في طي عنوانه
(1/254)
ضربت وجهك يا علي بن محمد بلا حول ولا قوة
إلا بالله. فاغتاظ أبو الحسن مثل غيظ العباس وأكثر، وأمر بإنفاذ من
يجره من القصر إلى الحضرة ثم قال: لا، ولكن التمسوا ثلاثة أنفس من
المستحثين الغلاظ والفظاظ وأنفذوهم إليه وواقفوهم على ألا يفارقوه إلا
بعد تصحيح ما عليه، وأوجبوا لكل واحد منهم في اليوم دينارين يأخذونها
منه. قال أبو عبد الله بن زنجي: والتفت إلي وقال: اكتب لهم منشوراً
ينفذون به، وندب من يخرج، وكتبت المنشور، وحمل إلى حضرته مع غيره مما
كنت كتبته، فأول ما وقع بيده المنضور، فأخذه وقرأه وعزله إلى جانبه
وأقبل يقرأ ما سواه إلى أن استغرق قراءة الجميع. ثم قال لي وأنا جالس
بين يديه: قد والله يا أبا عبد الله ضرب ابن زياد وجهنا بشيء لا نقدر
معه على أن نسيء به، خرق المنشور وأضرب عن إنفاذ المستحثين، واكتب إليه
أن يعجل حمل ما عليه ولا يحوج إلى إنفاذ من يقيم عنده ويثقل عليه
مؤونته. ففعلت ذلك، ومضى الأمر عليه، ولم يعد من العباس فيه قول. ووجدت
نسخة ما كتب به أبو الحسن بن الفرات عن نفسه إلى ولاة البلاد عند تقلده
الوزارة وزوال فتنة عبد الله بن المعتز فكانت:
نعم الله عند أمير المؤمنين أطال الله بقاءه تتجدد في سائر أوقاته،
وتتوكد في جميع حالاته، فليس يخلو منها قاهرة لأعدائه وناصرة لأوليائه،
والله سبحانه وتعالى يعينه على أداء حقها والقيام بشكرها، إنه ذو فضل
عظيم. وكان جماعة من جلة الكتاب والقواد ووجوه الغلمان والأجناد حسدوا
أبا أحمد العباس ابن الحسن رحمة الله على محله ومنزلته، وما قام به
لأمير المؤمنين أيده الله من عقد بيعته، فسعوا في إتلاف مهته، وإزالة
نعمته، وتوصل إليهم عبد الله ابن المعتز بمكره وخديعته، فأوحشهم من
أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وشيعته، وحسن لهم الخروج عن طاعته،
فنكثوا ومرقوا، وغدروا وفسقوا، وشهروا سيوف
(1/255)
الفتنة، وأضرموا نيرانها، وأظهروا أعلامها.
وتفرد الحسين بن حمدان بأبي أحمد فقتله، وثنى بفاتك المعتضدي فأتلفه،
وقصد المارقون دار الخلافة، ووصلوا إلى جدرانها، وحرقوا عدةً من
أبوابها، ووفق الله الغلمان الحجرية والخدم والأولياء المصافية
لمنازلتهم ومحاربتهم، فانصرفوا مفلولين. واجتمعوا إلى عبد الله فعاقدوه
وبايعوه، وتسمى بالخلافة في ليلته، ووازره محمد بن داود بن الجراح على
ضلالته، وصحبهم من غلمان أمير المؤمنين أدام الله تمكينه وخاصته وذوي
البأس من رعيته من حسن دينه، وخلص يقينه، فتحصنوا بالإبعاد في الهرب
لما خافوه من شدة الطلب، وأُسر جماعة من أصحاب عبد الله بن المعتز
وكتابه، منهم: يمن الكبير ووصيف بن صوارتكين وخطارمش وعلى الليثي ومحمد
الرقاص وسرخاب الخادم، وأبناء دميانة ومحمد بن عبدون وعلي بن عيسى بن
داود ابن الجراح ومحمد بن سعيد الأزرق والمعروف بأبي المثنى، ومحمد بن
يوسف المكني أبا عمر، وحملوا إلى دار أمير المؤمنين، وحصلوا في أعظم
البؤس، وأضيق الحبوس. ولما خمدت النائرة، وسكنت الثائرة، استدعاني أمير
المؤمنين أطال الله بقاءه وأوصلني سائر دواوينه مع وزارته، وخلع علي
خلعاً ألبسني بها جلالاً وقدراً، وجمالاً وفخراً، وعدت إلى داري
مغموراً بإحسانه، مثقلاً بأياديه وامتنانه، وأسأل الله معونتي على
طاعته، وتبليغي غاية رضاه وإرادته بمنه ورحمته. وقد أوبقت عبد الله
(1/256)
ابن المعتز ذنوبه، وأسلمته عيوبه، وحصل في
قبضة صافي مولى أمير المؤمنين مأسوراً مقهوراً. وأوجبت الحال إطلاق صلة
للأولياء وافرة المبلغ، وأنا بتجديد البيعة متشاغل وللخدمة مواصل،
والأمور جارية على أجمل مجاريها، وأفضل المحاب فيها، والحمد لله رب
العالمين. وعرفتك ما جرى لتعلمه أهل عملك وتزداد اجتهاداً إلى اجتهادك،
وكفاية وغناء على كفايتك وغنائك، وتكتب بما يكون منك في ذلك إن شاء
الله.
وكان أبو الحسن بن الفرات خاطب محمد بن داود وهو يتولى عطاء الجيش فيما
يطلقه بغير صك ولا حجة، وأخرج عليه مما أطاقه من بيت المال صكين مثبتين
مكررين مائةً وعشرين ألف دينار، واقفه على ذلك بحضرة العباس مواقفة
اعترف بها محمد بن داود، واعتذر بالسهو في فعله. وجدد ذلك أن أمر
العباس صاحب بيت المال بألا يطلق شيئاً في إعطاء وإنفاق إلا ما عرفه
أبو الحسن وأذن فيه، وثبتت علامته على الصكاك به، وكان مما قاله أبو
الحسن لمحمد بن داود: أنا أجمع الأموال وأحصلها وأنتم تفرقونها وتفرطون
فيها! فقال له محمد: التفريط والتضييع كان في أيامك يعني أيام نظره في
ديوان الجيش فقال له أبو الحسن: قد كنت أحد كتابي إذ ذاك وفي بعض مجالس
الإطلاق، فإن عرفت خيانة فاذكرها أو إضاعةً فاستدركها. وقال له العباس.
حالك يا أبا الحسن في الضبط والاحتياط معروفة، وطريقتك في الاستيفاء
والاستقصاء معلومة، وما بك إلى هذا القول حاجة. وكان أبو الحسن بن عيسى
حضره بحضرة العباس بن الحسن لمناظرة أبي الحسن بن الفرات على ما كتب به
إبراهيم بن عيسى ومحمد بن عيسى العرموم أخواه في ضيعة أبي الحسن بن
الفرات بكورة كسكر، وضياعه بناحية الأجمتين وما غير
(1/257)
من معاملتها وخفف من مقاسمتها. فلما بدأ
علي بن عيسى يذكر ما كتب به أخواه وأورده قال العباس بن الحسن لأبي
الحسن بن الفرات: ما عندك يا أبا الحسن في ذلك؟ قال له. ما أعرف من أمر
ضياعي شيئاً، لأن العمال قد أدخلوا أيديهم فيها منذ نيف وعشرين شهراً،
وأخذوا الحقوق السلطانية فيها على ما أرادوه واقترحوه منها، وما تكلمت
ولا تظلمت انصراف قلب عنها، ولكنه قد وجب على محمد بن عيسى من ثمن
الأرز بالسيبين أكثر من ثمانية آلاف دينار لا عذر ولا حجة له في دفعها،
ولما كاتبته بحملها والخروج منها كتب في أمر ضيعتي بما كتب، والأمر
للوزير، وهو أعلى عيناً فيه. فأمر العباس عند سماعه ذلك بإنفاذ من
يستحث محمد بن عيسى فيما أخرج عليه، ويطالبه بالخروج منه ثم صرفه من
بعد، وتقدم إلى أبي الحسن بن الفرات بأن يعمل له عملاً يستقصي النظر
فيه ويكشف أمره فيما تولاه وقام به. وقال له أبو الحسن: ومما أسأله صرف
جعفر أخي عما يتقلده، فإن علي بن عيسى قد قصده وأنفذ إليه من المستحثين
من ثقل به عليه، وإذا انقطعت المعاملة بينه وبينه زال بذلك تسوقه عليه
وعلي به. فأجابه العباس إلى صرفه. وكتب أبو الحسن بن الفرات إلى عامل
طريق خراسان مما تولاه بيده: قد اشتهرت بأحكام الخلفاء الراشدين،
والأئمة المهديين، رحمة الله عليهم أجمعين، في الخراج مذ افتتحت
نواحيه، ووضعت الطسوق فيه، بالرسوم الجارية والسنن الباقية التي سنها
أفضل سلف، وعمل بها أعدل خلف، ليس في شيء منها حكمان مختلفان ولا طسقان
متفاوتان، في صقع واحد، لمسلم أو معاهد. وبطريق خراسان وكلوذاي ونهر
بين معاملات محطوطة الوضائع، في الإستان والقطائع، لطائفة دون أخرى،
سببها ما شرطه محمد بن جعفر في سني ضمانه. وأحق المشروط عند الفقهاء
بالإبطال،
(1/258)
ما يجري على سبيل حيلة وإدغال، فانقض كل
شرط ورسم يعودان على مال السلطان أعزه الله بنقض أو ثلم، واستوف خراج
ذلك على أكمل طسوقه، وأفضل حقوقه، حتى تنحسم تلك الأطماع، ويتوفر على
يدك الارتفاع إن شاء الله. وكتب للنصف من رجب سنة ست وتسعين ومائتين.
ولما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة في أول مرة أجرى كلاً من حجابه
وكتابه وأصحابه على رسمهم، وأقرهم على ما كانوا يتولونه من أمره، ولم
يستبدل بهم، ولا استزاد فيهم، لإكتفائه بمن كان معه عن غيرهم. وكانت
أخلاقه وهو وزير مثله وهو صاحب ديوان. ومن رسمه أن يغدو إليه الكتاب
فيواقفهم على الأعمال، ويسلم إلى كل منهم ما يتعلق بديوانه، ويوصيه بما
يريد وصاته به. ثم يروحون إليه بما يعلمونه من أعمالهم، فيوافقهم
عليها، وعلى ما أخرجوه من الخروج، وأمضوه من الأمور، ويقيمون إلى بعض
من الليل. وإذا خف العمل، وقد عرضت عليه في أثنائه الكتب بالنفقات
والتسبيبات والإطلاقات والحسبانات، نهض من جلسه، وانصرفت الجماعة بعد
قيامه. وكانت علامته تحت بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب
العالمين.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: ورفع إلى أبي الحسن بن الفرات أن جماعة
الكتاب في ديوان الجيش المتولين للعطاء احتسبوا على الجند بما لم
يعطوهم إياه، وأخذوه لنفوسهم، واقتطعوه من دونهم، فأنكر ذلك، وعظم في
نفسه، وكشف عنه فوجده صحيحاً، ورأى الإقدام على مثله غليظاً. فقبض على
القوم الذين فعلوه، فمنهم من ضربه وأدبه، ومنهم من ارتجع منه ما حصل في
يده، ومنهم من صفح عن جرمه. وكان في الجماعة أبو القاسم الحسين بن علي
بن كردي،
(1/259)
وقد اعتقل، فكتب إلى أبي عبد الله والدي
يسأله خطاب الوزير في بابه والتلطف في إطلاقه. واتفق أن دعا الوزير أبا
عبد الله إلى طعامة على رسمه، فلما حضر امتنع من الأكل، فقال له
الوزير: ما سبب امتناعك؟ قال: أنني ما أطيب نفساً بأن آكل وابن كردي
قريبي في الحبس يعرض للمكروه. وأتبع ذلك بالمسألة في أمره وهبة ما عليه
له، فأجابه جواباً جميلاً، وتقدم بتخلية ابن كردي، وتسليمه إليه،
والصفح له عما يطالب به. ثم قال له. تقدم الآن كل. قال أبو القاسم: ولم
يكن بيننا وبين ابن كردي نسب ولا قربي. وإنما قال أبي ما قاله تأكيداً
للخطاب في بابه.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: استدعى أبو الحسن بن الفرات في بعض
الأيام أبا علي بن مقلة وأبا عبد الله والدي في وقت العصر، على خلوة لم
يحضرها غيرهما، وقال لأبي علي: استدع قرطاساً يكتب فيه. فأحضره صاحب
الدواة تلث قرطاس، وقال له: وقع بأن يكتب إلى علي بن أحمد بن بسطام
بوصول كتبه بما قرر عليه أمر المادرائيين، وأنني وجدته مخالفاً لما
أمرته به. وما توجبه الجملة المحصلة عليهم وهي ثلاثة آلاف ألف وكذا
دينار، وكذا منها من جهة كذا وكذا، ومن جهة كذا وكذا، حتى استوفى
الإملاء بتفصيل الجملة المذكورة، وفيها أنصاف دينار وأثلاثه وأربعاه
وما دون ذلك. ووصل القول بما ملأ به الثلث. واستدعى أبو على ثلثاً آخر،
واستتم الأمر فيه وفيما أراد خطابه به في معانيه، فكان ذرع الثلثين
اللذين كتب فيهما نحو ستين ذراعاً. ثم قال لأبي عبد الله أبي: اكتب إلى
علي بن أحمد على موجب ذلك. فقال له: والله أيها الوزير ما يحتاج إملاؤك
إلى أكثر من أنت تثبت في أوله وآخره الدعاء، فإنه قد أتى على كل غرض،
وبلغ فيما يراد كل مبلغ. فقال: تأمله على كل حال وتفقده وقف معانيه.
قال
(1/260)
أبو القاسم: ولقد حدثت بعض الرؤساء هذا
الحديث في مجلس حافل قد صعن على ابن الفرات فيه بنزارة الكلام، فعجب
منه، وقال لي: لولا أن ذكرته لما صدقته.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: رسم أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات في
وزارته الثانية أن يدعي أبو الحسن موسى بن خلف وأبو علي محمد بن علي بن
مقلة وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني وأبو عبد الله محمد بن صالح
وأبو عبد الله والدي وأبو بشر عبد الله بن الفرخان النصراني وأبو
الحسين سعيد بن إبراهيم التستري النصراني وأبو منصور عبد الله بن جبير
النصراني وأبو عمرو سعيد بن الفرخان النصراني في كل يوم إلى طعامه
فكانوا يحضرون مجلسه في وقته، ويقعدون من جانبيه وبين يديه، ويقدم إلى
كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء، ثم
يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف وكل طبق فيه سكين يقطع
بها صاحبه ما يحتاج إلى قطعة من سفرجل وخوج وكمثري، ومعه طست زجاج يرمي
فيه التفل، فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفروا كفايتهم، شيلت الأطباق
وقدمت الطسوت والأباريق فغسلوا أيديهم، وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي
فوق مكبة خيازر ومن تحتها سفرة أدم فاضلة عليها، وحواليها مناديل الغمر
من الثياب المعصور فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية، وأخذ القوم في
الأكل، وأبو الحسن بن الفرات
(1/261)
يحثهم ويباسطهم ويؤانسهم فلا يزال على ذلك،
والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين، ثم ينهضون إلى مجلس في جانب
المجلس الذي كانوا فيه، ويغسلون أيديهم، والفراشون قيام يصبون الماء
عليهم، والخدم وقوف على أيديهم المناديل الدبقية، ورطليات ماء الورد
لمسح أيديهم وصبه على وجوههم، فمن كانت له من الكتاب حاجة قام إليه
وخاطبه فيها وسأله إياها، ومن أراد إطلاعه على سر يجب الانفراد معه فيه
فعل مثل ذلك، ثم يخرج وظائف الكتاب وغلمانهم والخزان ومن دونهم وسائر
من جرت عادته بالوظيفة، على طبقاتهم، وأتبع ذلك بتفرقة وظائف الثلج على
أصحاب الدواوين والكتاب والمقيمين في الدار.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: كثر الإرجاف بأبي الحسن بن الفرات في آخر
وزارته الثانية، وكان كتابه إذا ركب في يوم الاثنين والخميس إلى دار
السلطان استتروا، وإذا عاد إلى داره ظهروا وحضروا. فلما كان قبل القبض
عليه بأيام كتب إليه المقتدر بالله يلتمس منه حمل مائتي ألف دينار من
أموال الواحي. فخلا بأبي الحسن موسى بن خلف، وكان يثق به على سره،
ويستشيره في أمره، وعرفه ما طلبه المقتدر بالله منه، فقال له. لا تفعل
ومتى فعلت أطمعته في نفسك ومالك، وطالبك في كل وقت بما تعجز عنه قدرتك.
ورجع أبو الحسن في ذلك إلى أبي بشر عبد الله بن الفرخان، فأشار عليه
بمثل ما أشار به موسى بن خلف. وأعلم أبا عبد الله والدي ما جرى،
واستعلم ما عنده في ذلك، فقال له: الأعمال في يديك، والأموال محمولة
إليك، وما يتعذر هذا القدر عليك، إما تقدمةً من مالك، أو أخذاً له من
جهابذتك
(1/262)
ومعامليك، ودفع الشيء أولى من تعجله، ومتى
جرى وأعوذ بالله أمر أخذ أكثر مما وقع الالتماس له. فلم يدعه موسى ابن
خلف، وأقام على ما أورد من رأيه. وأجاب أبو الحسن ابن الفرات المقتدر
بالله بالاعتذار والاحتجاج وتكثير ما عليه من المؤن والنفقات والأعطيات
الإطلاقات. واحتد الإرجاف بعقب هذه الحال احتداداً شديداً، وكتب إليه
المقتدر بالله يعلمه رأيه الجميل فيه وإحماده الكثير له ومقامة على
النية الصادقة في بابه، وحلف له بتربة المعتضد بالله على سلامة باطنه،
وأنه لا يعتقد تغييراً لأمره، ولا استبدالاً بنظره. ووقف أبو الحسن على
ذلك فسر به، وسكن ألى ما عرفه منه، وأطلع كتابه عليه، فاستبشرت الجماعة
وزال عنها الشك والمخافة. ووجم والدي وأمسك، وتبين أبو الحسن منه ذلك،
فأدناه إليه، وقال له: أراك ساكتاً وعن جملتنا في السكون خارجاً، فما
الذي وقع لك؟ فقال له: أما أنا فقد زادتني هذه الرقعة استيحاشاً،
وملأتني خوفاً وإشفاقاً، لأنه لم يتجدد ما يقتضيها ويوجب ابتداءنا بما
فيها. فقال له: أنت يا أبا عبد الله بعيد للنظر سيء الظن، يحملك فرط
الشفقة علي إلى تصور هذه الأسباب، وأرجو أن يكذب الله تقديرك، ويجري
علي جميل العادة. وكان هذا يوم الثلاثاء، فلما كان يوم الخميس الثلاثين
من جمادي الأولى سنة ست وثلاثمائة مضى على رسمه في أيام المواكب ألى
المقتدر بالله، ووصل إلى حضرته، ووقف بين يديه، وخاطبه فيما احتاج فيه
إلى خطابه، وانصرف ألى داره، وعرف كتابه خبره، فظهروا وحضروا، ونظروا
في الأعمال، وأعطي كلاً منهم ما يتعلق بديوانه، ودعا بالطعام فأكل، ثم
قام
(1/263)
إلى بيت منامه ونام، وانتبه وقت العصر،
وجدد الوضوء، وصلى في الدار المعروفة بدار الصلاة، وجلس على مصلاة
يسبح، وما عنده إلا ساكن صاحب دواته وغلامان من غلمانه. فبينما هو على
ذلك إذ هجم أبو القاسم نصر القشوري الحاجب إلى موضعه، ومعه عدة كثيرة
من الرجالة وقال: أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يأمرك بالحضور. فقال:
بثياب الموكب أم بدراعة؟ قال بدراعة. فقال له: حينئذ أوصيك يا أبا
القاسم بالحرم خيراً. وأخذه وأنزله في الماء إلى دار السلطان، بعد أن
وكل بجميع من في داره من الكتاب والأصحاب.
وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: كنت في دار حامد بن العباس، وهو وزير
بباب خراسان المعروفة بدار حجرة، إذ أدخل الفراشون إلى حضرة حامد رجلاً
مكوراً في كساء أسود، ثم سمعنا صوت صراخ ووقع الصفع، وحامد يقول
للصافع: جود. والرجل المصفوع يقول: الله الله قد ذهبت والله عيني. وهو
يقول له: إلى لعنة الله يا ابن كذا ويا زوج كذا. ويسرف في الشتم
ويبالغ. ويقول له الرجل: لا تسن أيها الوزير هذه السنة على أولاد
الوزراء. ويقول له: وأنت من أولاد الوزراء؟ ثم يزيده صفعاً وشتماً،
فلما لم يبق فيه بقية أمر برده إلى حيث كان فيه، فأخذه الفراشون
وحملوه، وجاء أحدهم إلى الموضع الذي كنت فيه، فأخبرنا أن الرجل المحسن
بن أبي الحسن بن الفرات، وأنه مقيد بقيد ثقيل، وعليه جبة صوف قد غمست
في النفط مزرورة في عنقه، وأنهم ردوه إلى الحجرة التي كان فيها وحبسوه
في الكنيف منها ودلوا رأسه في بئره.
وقال أبو القاسم: وقمت إلى أبي عبد الله والدي لأحدثه بذلك، وهو جالس
مع بشر بن علي النصراني صاحب حامد وخليفته. فابتدأ وسألني عن الصياح
الذي
(1/264)
سمعه، فأعلمته بالصورة، فانزعج، وأقبل على
بشر بن علي يعجبه. فقال له بشر: هذا رجل محين، وهؤلاء القوم يلون عليه
منذ ثلاثين سنة، ويقومون بأمره ويحسنون عونه، فلما ملك من أمرهم ما ملك
عاملهم بهذه المعاملة، وما هذا إلا إدبار وسوء توفيق. ولم يزل حامد
يردد المحسن في صنوف العذاب ويحمله على كل حال، إلى أن كلم المقتدر
بالله في أمره، وبذل لأبي القاسم بن الحواري مال على إخراجه عن يده،
فسعى في ذلك إلى أن تم نقله إلى دار السلطان، وأقام بها أياماً، ثم سلم
ألى أبي القاسم بن الحواري وحصل في داره، وخاطب المقتدر بالله من بعد
في إطلاقه إلى منزله فأذن فيه. وأقام يتعرف أخبار علي بن عيسى وحامد بن
العباس وما يقررانه ويدبرانه ويصلح حواشي المقتدر بالله ويستميلهم،
ويعمر ما بينه وبينهم. وانتشبت بينه وبين أبي نصر بشر بن عبد الله
النصراني الأنباري كاتب مفلح الخادم مودة، وترددت مراسلة، ثم جمع
بينهما أبو سهل نصر بن علي الطبيب النصراني كاتب المحسن في دار بين
القصرين على شاطئ دجلة. وقال له المحسن، إنه يصحح للمقتدر بالله ثلاثة
آلاف ألف دينار، وألفاً وخمسمائة دينار في كل يوم إذا أطلق أبا الحسن
أباه واستوزره وسلم إليه حامد بن العباس وعلي بن عيسى ومكنه منهما ومن
مناظرة المادرائيين واستيفاء ما عليهم. وكتب بذلك رقعةً سلمها إلى بشر
بن عبد الله كاتب مفلح، وتفرقا، ومضى بشر إلى مفلح وعرفه ما جرى، وأن
الذي بذله المحسن جملة كثيرة يرغب فيها المقتدر بالله، ومتى تم الأمر
وصح المال بواسطته تضاعف جاهه وأحمده سلطانه، ولم يعدم من أبي الحسن
والمحسن معرفة حقه وقضاء حوائجه.
(1/265)
وأشار عليه بالكلام في ذلك، وعرض الرقعة
التي كتبها المحسن، فقبل وفعل، وعاونته القهرمانة زيدان، واجتمعت معه
على إيراد ما يورده. فلما وقف المقتدر بالله على رقعة المحسن أنفذها
إلى أبيه أبي الحسن وقال له: أنت قيم بهذا الضمان وملتزم له؟ فقال:
نعم. واستدعاه من موضعه حتى سمع قوله، وعقد عليه الوفاء بما قاله. فلما
كان يوم الخميس لسبع ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة
وثلاثمائة حضر أبو الحسن علي بن عيسى دار السلطان، ومعه جماعة من
القواد والغلمان على رسم الموكب، وجلس في المجلس الذي جرت العادة
بجلوسه فيه، إلى أن يستأذن له. ثم خرج إليه من قبض عليه، وأنفذ إلى
داره ودور إخوته وكتابه وأصحابه ووكل بها، واستظهر على ما فيها.
واستدعى المقتدر أبا الحسن بن الفرات من حيث كان مقيماً فيه من داره،
وحضر المحسن ابنه وكان قريباً من الدار، وخلع عليهما وحملهما على حملان
بمراكب ذهب، وتقدم إلى الأمراء والقواد والغلمان والخدم وسائر الطبقات
بالركوب معهما إلى دارهما.
ومن فضائل أبي الحسن بن الفرات والمأثور من ذكائه أنه وقع تشاجر بين
ولد المكتفي وعلي بن المقتدر بالله في أجمة هوثا من أعمال القصر، وادعى
كل من الفريقين أنها له، وأوجبت الصورة أن وقع إلى عامل سوق المسك
بالحظر على ثمن ما يرد من صيود هذه الأجمة إلى أن تبين صورتها. وكان
المقتدر بالله يوقع في وقت لعلي ابنه وفي آخر لولد المكتفي بالله، فلما
زاد وقوف هذا الأمر وتأخر فصله وظهور الحق فيه لمستحقه، أحضر أبو الحسن
بن الفرات خادماً لولد المكتفي بالله، ووكيلاً لعلي بن المقتدر بالله
يعرف بالحربي، للمناظرة والحكومة، وقال أبو الحسن للخادم: ممن ابتعتم
هذه الأجمة؟ قال: من ولد بدر اللاني. فأمرهما بالخروج والجلوس في الدار
(1/266)
بقربه إلى أن يدعوهما، وأحضر ابناً لبدر
اللاني كان من أحد خلفاء الحجاب، وسأله عما عنده من الحسبانات التي
لوكلائهم بنواحي القصر. فذكر أن الأملاك والضياع لما خرجت عن أيديهم
أقلوا المراعاة للحسبانات فذهبت وهلكت، ولم يبق منها باق. فقال له: امض
إلى دارك وسل وفتش وأحضر ما تجده. فمضى وعاد بعد ساعة ومعه حساب ذكر
أنه وجده لبعض وكلائهم، فأخذه منه وسلمه إلى أبي منصور عبد الله بن
جبير وكان بين يديه، وقال له: تصفحه وانظر هذا الحق من الأجمة كيف
أورد، وإلى أي شيء نسب. فقرأه أبو منصور ورده إليه وقال: ما لهذا الحق
ذكر فيه. فقال: هذا محال، وأخذ الحساب وقرأه وتأمله تأملاً استوفاه ثم
وضع يده وقد تصفح ثلثيه على موضع وقال: ها هنا يجب أن يكون ما تطلبه
منسوباً إلى وجهه. ووقف ساعة ثم دعا بالخادم والوكيل وقال لهما: هذا
الحد منسوب إلى الإلجاء لا إلى الملك. أفتعرفان في يد من كانت هذه
الأجمة من قبل؟ قالا: لا. قال: كانت في يد فلان في سنة إحدى وأربعين
ومائتين، ثم انتقلت في سنة ثلاث وخمسين إلى يد فلان، ثم انتقلت في سنة
أربع وستين إلى إبراهيم بن فورعره، ثم انتقلت في سنة خمس وثمانين إلى
فلان. ولم يزل يذكر حالها وقتاً بعد وقت إلى أن دخلتها يد بدر اللاني.
قال المحدث بهذا الخبر: فقلت لإنسان كان إلى جانبي: كيف يذكر الوزير
سنة إحدى وأربعين وفيها مولده؟ ورأى شفتي تتحركان بالقول، فقال لي: ما
قلت؟ ودافعته فكرر سؤالي وقال لي: قل ما قلت. فصدقته عنه فقال: أحسنت
بارك الله عليك فيما تأملت وتتبعت. إني لما دخلت الديوان في حال
الحداثة كان أستاذي الذي أخدمه أسن من فيه، فكنت أذا مر بي رسم كان من
(1/267)
قبل سألته عنه وحفظت ما يقوله فيه، أو جرى
شيء في أيامي حفظته، وكان هذا مما عرفنيه. وحكم بالملك لولد المكتفي
بالله، وطالبه صاحبهم بتسليم ما اعتيق من ثمن الصيد، فوقع بذلك، وكتب
إلى المقتدر بالله بما كشفه وحكم به.
وحدث أبو عبد الله زنجي قال: توفي أبو عيسى أحمد بن محمد بن خالد
المعروف بأخي أبي صخرة في يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من شعبان سنة
إحدى عشرة وثلاثمائة في وزارة أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، وخلف
أموالاً وأملاكاً كثيرة، ولم يخلف ولداً. فتعرض أصحاب المواريث لتركته،
وبلغ أبا الحسن بن الفرات ذلك فأنكره، ومضى إلى المقتدر بالله وقال له:
قد كان المعتضد بالله والمكتفي بالله رفعا المواريث وأزالاها وأنت أولى
من أمضي فعلهما وأجرى سننهما. فأمره بفعل ذلك والتقدم به، وفعل وأزال
التوكيل عن دار أبي عيسى أخي أبي صخرة والاعتراض عما خلفه، وسلم جميعه
إلى الورثة، وأشهد عليهم بتسلمه. وأمر بأن يكتب إلى العمال في سائر
النواحي برفع المواريث، فكتب أبو الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة بما
نسخته: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يؤثر في الأمور كلها ما قربه من
الله جل جلاله ومن طاعته ما اجتلب له منه جزيل مثوبته، وحسنت به
العائدة على كافة خليقته ورعيته، لما جعل الله عليه نيته من العطف
عليها، وإيصال المنافع إليها،
(1/268)
وإزالة الإعنات عنها، وإبطال رسوم الجور
التي كانت تعامل بها، وإحياء سنن الخير وإيثاره لها، جارياً مع الكتاب
والسنة، عاملاً بالآثار عن الأفاضل من الأئمة، وعلى الله يتوكل أمير
المؤمنين، وإليه يفوض وبه يستعين. وأنهى إلى أمير المؤمنين أبو الحسن
علي بن محمد ما يلحق كثيراً من الناس من الإعنات في مواريثهم، وما
يتناول على سبيل الظلم من أموالهم، ويحكم فيه فخلاف ما جرت به السنة،
وأنه قد كان عبيد الله بن سليمان أنهى إلى المعتضد بالله صلوات الله
عليه حال المتقلدين لأعمال المواريث، وما يجري على الرعية من مطالبتهم
إياهم بأحكام لم ينزل بها كتاب الله عز وجل ولا جرت بها سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولا أجمع أئمة الهدى رحمة الله عليهم عليها، فكتب
صلوات الله عليه إلى يوسف بن يعقوب وعبد الحميد بن عبد العزيز القاضيين
كانا بمدينة اسلام وما يتصل بها من النواحي في أيامه يسألهما عن الحال
عندهما في مواريث أهل الملة والذمة. فكتب عبد الحميد رضي الله عنه
كتاباً في مواريث أهل الملة، حكى فيه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي
طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن
اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم رأوا أن يرد على أصحاب
السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك
وتعالى من المواريث إذا لم يكن للمتوفي عصبة يحوز باقي ميراثه، وجعلوا
رضي الله عنهم تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمة إن لم يكن له وارث
سواهم، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول: " وَأُولُوا
الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى ببَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ
بِكُلِّ شَيْءٍّ عَلِيمٌ " وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن
(1/269)
الأخت والجدة. وكتب يوسف بن يعقوب إليه
كتاباً في مواريث أهل الذمة حكي فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم من أن المسلم لا يرث الكافر، وأن الكافر لا يرث المسلم وأنه لا
يتوارث أهل ملتين. ووصف يوسف في كتابه أن السنة جرت بأن أهل كل ملة
يورثون من هو منهم إذا لم يكن له وارث من ذي رحمه. وعرف أبو الحسن أمير
المؤمنين أن ما قرر عليه حامد بن العباس الأمر من تتبع المواريث وتقليد
جبايتها عمالاً يجرون مجرى عمال الخراج شيء لم يكن في خلافة من
الخلافات إلى أن مضى صدر من خلافة المعتمد على الله رحمه الله فإن يداً
دخلت فيها في ذلك الوقت على سبيل تأول بما روي عن زيد بن ثابت رحمه
الله دون غيره، فأزالها المعتضد بالله صلوات الله عليه. ثم أعاد ذلك
الرسم الجائر والأثر القبيح السائر حامد بن العباس بظلمه وتعديه وتهوره
وتسطيه وتأول على الرعية بما لم يرض الله عز وجل فيه. فأمر أمير
المؤمنين بأن يرد على ذوي الأرحام ما أوجب الله عز وجل ورسوله صلى الله
عليه وسلم وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس وعبد
الله بن مسعود سلام الله عليهم ومن إتبعهم من أئمة الهدى رضي الله عنهم
رده من المواريث عليهم، وأن ترد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف
وارثاً على أهل ملته، وأن يصرف جميع عمال المواريث في سائر النواحي
ويبطل
أمرهم، ويرد النظر في أعمال المواريث إلى الحكام على ما لم يزل يجري
عليه قبل أيام المعتمد على الله. ورأى أمير المؤمنين أن من الحق لله
عليه فيما قلده من خلافته، وألبسه من جلباب كرامته، وألزمه من رعاية
عباده في بلاده الدانية والقاصية، ونواحي سلطانه القريبة والبعيدة، أن
يعم جميعهم بعدله وإنصافه، ويتناولهم بفضله وإحسانه، ويسن لهم سنة
الخير في أيامه، ويزيل
(1/270)
عنهم البوائق والعوارض التي توجد بها
السبيل إلى أن تنقص أموالهم ويتوصل فيها إلى ظلمهم وإعناتهم، وأن يجري
الأمر في المواريث على ما كان جارياً عليه في أيام المعتضد بالله، وترك
تبديله والحذر من إزالته وتغييره، وإذاعة ما أمر به إظهاره وقراءته على
الناس في المسجدين الجامعين بمدينة السلام ليكون مشهوراً متعالماً،
والخبر به إلى الأداني والأقاصي واصلاً. فاعلم ذلك من رأي أمير
المؤمنين وأمره واعمل عليه وبحسبه إن شاء الله والسلام عليك ورحمة
الله، وكتب أبو الحسن يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة إحدى
عشرة وثلاثمائة. ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابه
إليه في أمر المواريث. وصل كتاب الأمير يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي
أراه واجباً من مال المواريث لبيت المال، وما لا أراه واجباً منه،
وتلخيص ذلك وتبيينه، وأنا ذاكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه
المسألة والحجة فيما سأل نه ليقف على ذلك إن شاء الله. الناس مختلفون
في توريث الأقارب، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة إذا لم يكن
للمتوفي من يرثه من عصبة وذي سهم لجماعة المسلمين وبيت مالهم، وكذلك
يقول في الفضل بعد السهمان المسماة إذا لم تكن عصبة، ولم يرو ذلك عن
أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت، وقد خالفه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي
طالب وعبد الله بن مسعود وجعلوا ما يفضل من السهمان رداً على أصحاب
السهام
(1/271)
من القرابة، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم
يكن وارث سواه. والسنة تعاضد ما روي عنهم، وتخالف ما روي عن زيد بن
ثابت. وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه، وليس لأحد أن يقول، في خلاف
السنة والتنزيل، بالرأي. قال الله تعالى: " وَأُولُوا الأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ الله بِكُلِّ
شَيْءٍّ عَلِيمٌ " فصير القريب أولى من البعيد، وإلى هذا ذهب عمر وعلي
وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة، وعليه اعتمدوا، وبه
تمسكوا، والله أعلم. ولو كان في هذه المسألة ما لا يدل عليه شاهد من
الكتاب والسنة لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين،
وترك قبول من سواهم ممن لا يلحق بدرجتهم بسابقته. وإذا رد أمر الناس
إلى التخير من أقاويل السلف فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيداً لا يفي
علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله؟ وأذا فضلوا في السابقة والهجرة فمن أين
وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت واطراح ما روي عنهم؟ وقد استدلوا
مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه. وبالسنة فيما أفتوا به. والرواية
ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من
القرابة، فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح، عن راشد ابن سعد، عن
أبي عامر الهوزني عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: الخال وارث من لا وارث له، يرث ماله ويعقل عنه. وكذلك بلغنا
عن شريك بن عبد الله عن ليث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثله. وعن ابن جريج عن عمرو بن مسلم عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال مثل ذلك. وذكر عن عبادة ابن أبي عباد، عن محمد بن
أسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان
قال:
(1/272)
توفي ثابت بن الدحداح فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لعاصم بن عدي: أله فيكم نسب؟ قال: لا. فدفع تركته إلى ابن
أخته. فقد أوجب عليه السلام بما نقلته عنه هذه الرواية توريث من لا سهم
له من القرابة مع عدم أصحاب السهمان المبينة في الكتاب، وأعطى الجدة
السدس من الميراث ولا فرض لها، وفي ذلك الاتفاق وفيما صير لها من السدس
دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها، إذا بطلت السهام، ولم
يكن من أهلها، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي. والمروي عن زيد بن ثابت
انه جعل الفضل عن سهام الفرائض وكل المال إذا سقطت السهام بعد أهلها
لجماعة
المسلمين، فجعلهم كلهم وراثاً، وجعل ما يصير لهم من ذلك في خلاف مال
الفيء المصروف ألى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك
يكون، فيما روي عنه، للناس كافة، وعددهم لا يحصى، فغير ممكن أن يقسم
ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض مشارقها ومغاربها. وإذا امتنع ذلك
وخرج إلى ما ليس يمكن فسد، وثبت ما قلناه من قول أكابر الأئمة. وقد
تأول بعض المتأولين قول الله تعالى: " وَأُولُوا الأَرْحَامَ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب الله " فقال فيه: كان الناس
يتوارثون بالحليف دون القرابة، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من
الأقارب منع الحليف بما فرض من السهمان، فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى
الخصوص، فذلك غير واجب مع عدم الدليل، لأن مخرجها في السمع مخرج
العموم. وبعد، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه، وكانت السهام التي نسخت
ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض، لوجب في بدء، وما قالوا: إذا كان لا
وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول
فرضهما وعلى المقدم من حكمهما، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذا التأويل من
له سهم دون من لا سهم له. فإذا ارتفع المانع رجع الحكم إلى بدئه. ولا
اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم، وإن كان لا وارث
سواه، وهذا يدل على فساد تأويلهم، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت
الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها
اختصاص القريب بالإرث دون البعيد. وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد
وترك الرواية عن عمر وعلي وعبد الله عليهم السلام جانباً، وأسقط
التعاقل بين الأجنبي والقريب أن يجعل ذا الرحم أولى، لأنه يفضل الأجنبي
بالقرابة. وترتيب المواريث في الأصل يجري على تقدم من فضل غيره في
المناسبة كالأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن العم للأب والأم وابن
العم للأب، وأخصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع. قال الله
تعالى: " يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ
الأُنثيين " وولد الولد من سفل منهم ومن ارتفع يعمهم هذا الاسم، إلا أن
الأقرب منهم في معنى الآية أحق من الأبعد. فإذا كان ذلك كذلك كان
القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي يقرب بها دونه. وبعد، فإن
العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة إلا فيما روي عن
الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما وما روي عن ابن مسعود، ثم ل
يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم إلا على ما روي عن عبد
الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وترجمان القرآن، وبحر
العلم، ومن كان إذا تكلم سكت الناس، ومن دعا له النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. ودعوة النبي صلى الله
عليه وسلم مستجابة، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب. وقد
روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي وعبد الله والجماعة، وما زالت
الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين أعزه الله يستقضون الحكام فيقضون برد
المواريث على الأقارب، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم، ولا
يرونه متجاوزاً للحق فيه، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو
عشرين سنة. وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف، واقتدى بخلفاء
الله، ومال إلى أفضل المذهبين. وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير
وتسديده. والحمد لله رب العالمين. وحدث أبو الخصيب كاتب أحمد بن العباس
قال: حدثني حامد قال: دخلت إلى عبيد الله بن سليمان وهو وزير المعتضد
بالله رحمه الله فوجدته خالياً، وعنده أبو العباس بن الفرات، وعبيد
الله يعاتبه، فلم يحتشمني لعلمه بما بيني وبينه، فسمعته يقول لأبي
العباس: ولكنك تميل إلى فلان وفلان وابن بسطام. فقال له: أما فلان أيها
الوزير فميلي إليه لأنه أسعفني في وقت نكبتي وعند مصادرتي بخمسين ألف
دينار، ومن عاونني بماله، وأشركني في حاله، فقد استحق مني أن أصفيه
الود وأخلص العقد. وأما ابن بسطام فرجل كاتب له علي رئاسة، وحق الرئاسة
لا ينسى ودينها لا يقضى. سلمين، فجعلهم كلهم وراثاً، وجعل ما يصير لهم
من ذلك في خلاف مال الفيء المصروف ألى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى
المصالح إذا كان ذلك يكون، فيما روي عنه، للناس كافة، وعددهم لا يحصى،
فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض مشارقها
ومغاربها. وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس يمكن فسد، وثبت ما قلناه من
قول أكابر الأئمة. وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى: " وَأُولُوا
الأَرْحَامَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب الله " فقال فيه:
كان الناس يتوارثون بالحليف دون القرابة، فلما أوجب الله المواريث
لأهلها من الأقارب منع الحليف بما فرض من السهمان، فغلطوا وصرفوا حكم
الآية إلى الخصوص، فذلك غير واجب مع عدم الدليل، لأن مخرجها في السمع
مخرج العموم. وبعد، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه، وكانت السهام التي
نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض، لوجب في بدء، وما قالوا: إذا
كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على
أول فرضهما وعلى المقدم من حكمهما، لأن الذي منعهما إذا ثبت
(1/273)
هذا التأويل من له سهم دون من لا سهم له.
فإذا ارتفع المانع رجع الحكم إلى بدئه. ولا اختلاف بين الفريقين أن
الحليف لا يرث الحليف اليوم، وإن كان لا وارث سواه، وهذا يدل على فساد
تأويلهم، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي
ذهبوا إليه، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث
دون البعيد. وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد وترك الرواية عن عمر
وعلي وعبد الله عليهم السلام جانباً، وأسقط التعاقل بين الأجنبي
والقريب أن يجعل ذا الرحم أولى، لأنه يفضل الأجنبي بالقرابة. وترتيب
المواريث في الأصل يجري على تقدم من فضل غيره في المناسبة كالأخ للأب
والأم، والأخ للأب، وابن العم للأب والأم وابن العم للأب، وأخصهما
قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع. قال الله تعالى: " يُوصِيكُمُ
اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثيين " وولد
الولد من سفل منهم ومن ارتفع يعمهم هذا الاسم، إلا أن الأقرب منهم في
معنى الآية أحق من الأبعد. فإذا كان ذلك كذلك كان القريب أولى من
الأجنبي بالتركة للرحم التي يقرب بها دونه. وبعد، فإن العلماء نفر يسير
لا يعرفون الصواب في هذه المسألة إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي
صلوات الله عليهما وما روي عن ابن مسعود، ثم ل يقتصروا في المبالغة
والدليل في توريث ذي الرحم إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد
(1/274)
أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وترجمان
القرآن، وبحر العلم، ومن كان إذا تكلم سكت الناس، ومن دعا له النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. ودعوة النبي
صلى الله عليه وسلم مستجابة، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه
أوجب. وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي وعبد الله
والجماعة، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين أعزه الله يستقضون
الحكام فيقضون برد المواريث على الأقارب، ولا ينكرون ذلك على من قضى به
من قضاتهم، ولا يرونه متجاوزاً للحق فيه، وما عرفت الجماعة بغير هذا
الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة. وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف،
واقتدى بخلفاء الله، ومال إلى أفضل المذهبين. وإلى الله الرغبة في عصمة
الأمير وتسديده. والحمد لله رب العالمين. وحدث أبو الخصيب كاتب أحمد بن
العباس قال: حدثني حامد قال: دخلت إلى عبيد الله بن سليمان وهو وزير
المعتضد بالله رحمه الله فوجدته خالياً، وعنده أبو العباس بن الفرات،
وعبيد الله يعاتبه، فلم يحتشمني لعلمه بما بيني وبينه، فسمعته يقول
لأبي العباس: ولكنك تميل إلى فلان وفلان وابن بسطام. فقال له: أما فلان
أيها الوزير فميلي إليه لأنه أسعفني في وقت نكبتي وعند مصادرتي بخمسين
ألف دينار، ومن عاونني بماله، وأشركني في حاله، فقد استحق مني أن أصفيه
الود وأخلص العقد. وأما ابن بسطام فرجل كاتب له علي رئاسة، وحق الرئاسة
لا ينسى ودينها لا يقضى.
(1/275)
حدث محدث قال: قلت لأبي العباس بن الفرات
يوماً على شرب وقد رأيته يلعب بالخصوم وأرباب الظلامات لعباً، فتارة
بالحجج الديوانية وتارة بالحجج الفقهية: يا سيدي هل قطعك أحد في
مناظرة؟ فقال أما بالحجة فلا. بل كابرني رجل مرة فحرت في جوابه،
وانقطعت في يده، وذلك أن محمد بن زكريا المعروف بوزير الإسكافي كان
صنيعة لي، فتولى الضياع بواسط، وحضر من تكلم عليه وبذل مواقفته على ما
فرقه، فرسم لي عبيد الله بن سليمان مكاتبته بالحضور، فقلت له: هذا أعز
الله الوزير وقت العمارة، وإذا أخل العامل بها وقع التقصير فيها، واحتج
علينا بأننا قطعناه بالاستدعاء عنها. قال: فأخره إلى أن يفرغ منها.
فأخرته شهوراً، ثم عاود المتظلم منه القول فيما تكلم عليه به، وأمرني
عبيد الله باستدعائه، فقلت: هذا وقت التقدير، وبه يحصر الارتفاع. قال:
فأخره. فاخرته شهرين، ثم عاود المتظلم، وعاودني عبيد الله. فقلت: قد
شبهت الغلات إلا بالحزر. فقال المتظلم: كيف تسمح نفس أبي العباس بإحضار
من عمر ضياعه وأضاف إليها خواص السلطان وأملاكه ونقل إليها أكرة
الوزير؟! فضياعه كالعرائس المجلوات، وضياع الوزير كضياع الأرامل
والأيتام.
قال أبو العباس: وعمل كلامه والله في عبيد الله. فابتدأت أحلف على كذبه
واستحالة قوله، فمنعني وقال: حسبك الآن. وكتب منشوراً بخطه بإشخاصه،
وأنفذ به مستحثاً، وحمل وزير، واعتقله وصادره.
(1/276)
وحدث محدث قال: رأيت أبا العباس بن الفرات
يناظر شيخاً مزيناً ببادوريا قد احتال في تخفيف مقاسمة بيدره وقال له:
في أية سنة قسم هذا البيدر على ما ادعيته في المعاملة؟ قال: السنة التي
ملكت فيها أيدك الله البيدر الفلاني والبيدر الفلاني. حتى عد عشرة
بيادر في عدة طساسيج من خواص السلطان التي استضافها إلى ضياعه. فورد
عليه من قوله ما أدهشه وأسكته، وأمضى مقاسمة بيدره وصرفه.
وحدث أبو عبد الله بن الماسح الكاتب قال: حدثني أبو الحسن علي بن عيسى،
وقد جرى ذكر الجهبذة، وقال: ما أعجب ما جرى في أمرها بنواحي المغرب.
وذلك أنها لما صحت في أيام المعتضد بالله؛ وكتبت لعبيد الله بن سليمان
على الديوان، أمرني أن أعمل عملاً بارتفاع الموصل والزابات، فعلمته
وعرضته عليه، فاعترضه أبو العباس بن الفرات على رسمه في مثل ذلك وما
تقتضيه خلافته لعبيد الله، وقال لي: ما أرى لمال الجهبذة في هذا العمر
ذكراً. فقلت له: هذا ما لا أعرفه في أصل ولا مضاف، فإن يكن من مال
السلطان فهو بمنزلة ما يؤخذ من الذيل ويرقع به الجيب، أو يكن من مال
الرعية فهو ظلم، وطريق للجهابذة إلى أخذ أموال المعاملين. وهذه نواح
افتتحت قريباً، وسبيلها أن يعامل أهلها بالإنصاف، وتخفف عنها المؤن
لتحلو لهم سياسة السلطان. فقال: هذا باب من أبواب الارتفاع، ولا يجوز
أن يترك ويضاع، فيلحقنا من السلطان استبطاء وإنكار. وتقدير ما يجب في
هذه النواحي من ذلك عشرة آلاف دينار، فما هو إلا أن سمع الوزير ذكر
السلطان وعشرة آلاف دينار تزيد في الارتفاع حتى قال: سبيل
(1/277)
هذه النواحي سبيل غيرها من نواحي السواد.
فأمسكت، واستمر بلاء الجهبذة على الناس إلى حين انتهينا.
وحدث أبو الحسن بن ماني الكوفي الكاتب قال: حدثني على بن حسين الجهظ
كاتب أبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة قال:
جرت المناظرة يوماً بين أبي العباس بن ثوابة وأبي العباس بن الفرات في
حساب باروسما الأعلى بحضرة عبيد الله بن سليمان. فأقام ابن ثوابة
الشاهد على صحة ما رفعه، والبرهان على عامل ابن الفرات في تأويله. وأخذ
ابن الفرات يباهت في نصرة قوله. فقال ابن ثوابة: كيف أنتصف منك يا أبا
العباس وأنا أناظرك بالحجة، وأنت تعارضني بفضل القدرة، وتزعم أن هذا
الوزير أسير في يديك؟ قال: فنظر عبيد الله إلى من حضر وقال: اشهدوا
أنني أسير في يدي كل كاف. قال: يقول ابن ثوابة: قد علمنا. قال: وتظلم
أهل السارية من أهل بادوريا إلى المعتضد بالله وحكوا أن أهل سقي الفرات
واطئوا العمال والمهندسين على ظلمهم وكتمان ما عندهم في أمر أبواب
قنطرة دمما، ووافقوهم على تضييقها ليتوفر الماء عليهم. فتقدم المعتضد
بالله إلى بدر بالخروج مع القاسم بن عبيد الله ومن استنصحه القاسم من
أصحاب الدواوين ومشايخ العمال والمهندسين وقضاة الحضرة وطائفة من
الشهود وابن حبيب الذراع ومن يختاره من الذراع للوقوف على ما وقعت
الظلامة منه، وكشف الصورة فيه. فخرجا وفي القوم علي وجعفر ابنا الفرات،
ومحمد بن داود بن الجراح وعلي بن عيسى، وإسماعيل ابن إسحاق وأبو الخازم
القاضيان، وإبراهيم بن عبد الله عامل بادوريا وجماعة من
(1/278)
تنائها وشيوخها، ووصلوا إلى الموضع
واستدعوا الدهاقين بسقي الفرات، واستقر الأمر على أن ذرع الباب الكبير
بذراع السواد، فكان ستة عشر ذراعاً، وذرعت الأربعة الأبواب الصغار،
فكان كل واحد منها ثمانية أذرع، وكان مقام الماء على الصب الذي قسمت
عليه الأبواب فوق الدكة أربعة أذرع ونصفاً في أيام الطنكاب وقلة الماء.
وسئل أهل بادوريا عما عندهم، فأقاموا على أن عرض الباب الكبير خمسة
وثلاثون ذراعاً، وقاربوا أهل سقي الفرات في الأبواب الصغار وقالوا:
لولا أن سعة الباب ما ذكرنا لما أمكن انحدار زورق في الباب ولا طوف من
طواف الزيت والخشب، وأنكر أهل الأعلى قولهم، وطالبوهم بالشاهد عليه،
فلم يأتوا به، واختلفت الأقوال مع الإجماع على أنه فوق العشرين ذراع.
فقال أبو الحسن بن الفرات للقاسم بن عبيد الله: قد كثر أيها الوزير
الاختلاف والتلاحي والأقاويل والدعاوي، فليأمر بكتب ما يقوله كل فريق
ليتحصل ويعلم، ولا يقع عنه رجوع من بعد. فأمر بذلك، وأخذت الخطوط به.
ثم قال ابن الفرات: فيسألهم الوزير: هل كانت قراقير الرمان وأطواف
الزيت والخشب تنحدر في الباب أم لا؟ قالوا: بلى. قال: فلينفذ الوزير
ثقةً من ثقاته مع صاحب للقاضي حتى يذرع عرض قراقير الرمان التي ترد
دجلة من هذا الباب. فذرعت عشرة قراقير، فكانت سعتها ما بين عشرين
ذراعاً. وكتب بذلك إلى المعتضد بالله، وأقام القوم بمكانهم إلى أن ورد
أمره بأن يجعل الباب الكبير
(1/279)
بالذراع السوداء اثنين وعشرين ذراعاً،
والأبواب الصغار على رسمها.
وحدث محمد قال: كان أبو الحسن بن الفرات يستظهر في نفقات المصالح.
ويستكثر من إعداد الآلات على الأماكن التي تخاف الحوادث منها، فلما ولى
علي ابن عيسى العباس بن منصور على المصالح أظهر العفة وقلل النفقة،
ونسب ابن الفرات فيما كان يفعله ألى التفريط والإضاعة. وقدر للنفقة على
بزند من بزندات نهر الرفيل ثلاثون ديناراً، فلم يطلقها، وقال: نفقة هذا
البزند واجبة على صاحب الضيعة لأنها قطيعة. فأحدث فعله انفجار البثق
المعروف بأبي الأسود في نهر الملك، فخرج إليه إبراهيم بن عيسى وأنفق
عليه سبعمائة ألف درهم، وذهب من ارتفاع السلطان ببهرسير والرومقان
وإيغار يقطين أضعاف ذلك، وكثرت البثوق والجبايات في نفقاتها والمضرة
بحوادثها.
وحدث أبو بكر بن ثوابة قال: سمعت أبا الحسن بن الفرات يقول: حدثني أبو
العباس أخي قال: قال لي عبيد الله بن سليمان: قد ألح علي أمير المؤمنين
بأن أجعل بالجانب الغربي بإزاء داره ميداناً يكون تكسيره مائتي جريب.
فقلت: أعوذ بالله أيها الوزير من ذلك. قال: فإني لا أجترئ على مخالفته
ومراجعته. قال له أبو العباس: فإذا عاود فاذكرني له لأعرفه ما في ذلك
عليه. فعاود المعتضد بالله عبيد الله بن سليمان وضجر عليه من تأخيره ما
أمره به. فقال: يا أمير المؤمنين، بالباب أحمد بن محمد بن الفرات، فإذا
شرفه أمير المؤمنين بالوصول إلى حضرته ذكر ما عنده في ذلك. فأذن له،
فحضر وسلم وخدم، فقال له المعتضد بالله: ما عندك؟ فقال: طساسيج السواد
يا أمير المؤمنين أربعة وعشرون
(1/280)
طسوجاً، أجلها طسوج بادوريا وهو اثنا عشر
رستاقاً، أجلها رستاق الكرخ وهو اثنتا عشرة قرية، وأجلها ما على دجلة،
وكل جريب منه يساوي ألف دينار، ويغل ألف درهم، أفيرى أمير المؤمنين
إضاعة مائتي ألف دينار يشيع خيرها فيما لا فائدة فيه؟ قال: لا والله،
فاطلبوا لنا موضعاً آخر. قال: يكون ما بين الحلبة والرحبة. فتقدم
بالعمل على ذلك. قال أبو بكر: وسمعت أبا الحسن بن الفرات يقول: أصل
العمارة وزيادة الارتفاع حفظ البذور، ولن يتم ذلك إلا بالعدل. ويقول:
الضمان يذهب بالارتفاع كما يذهب الساكن بالعقار. وسمعته يقول: سبيل
العامل أن يؤدب على الزيادة في المساحة كما يؤدب على الاقتطاع منها.
قال: ووقع يوماً بحضرتي إلى بعض العمال وقد رفع إليه صاحب الخبر أنه
صفع واحداً من التناء لتقاعده بأداء الخراج: في الحبس للتناء مأدبة،
فلا تعامل بعدها أحداً بهذه المعاملة فأُمكنه من الاقتصاص منك. قال:
وسمعته يقول: أحسنت إلى بعض الأكرة والمزارعين في ناحية كحلة من طسوج
الأنبار بنحو مائة درهم، فأخلف علينا ذلك عشرة آلاف دينار، وذلك أنه
صار الرجل المسامح إلى بعض البلدان فذكر أنه أُحسن إليه في معاملته
بمائة درهم، فرغب أهل البلد في الانتقال إلى قرى كحلة، فانتقلوا
وعمروا، وارتفعت في تلك السنة بعشرة آلاف دينار، ووكيلنا فيها محمود بن
صالح.
قال أبو بكر: كتبت إلى أبي الحسن بن الفرات أسأله أن يرد إلي شيئاً
أتولاه وأجعل جاريه لأبي علي أبي. فوقع لي بخطه: وصلت رقعتك جعلني الله
فداك
(1/281)
ولأاعمال كثيرة، غير أنك تكره القضاء،
والعمالة فلا تدخل فيها، والحسبة فلا تصلح لك، والمظالم فتجري مجرى
الحكم والذي يصلح لك أن تعقد عليك الغلات في عدة طساسيج تختارها من
السواد، فإن أردت جميع غلات السواد كان ذلك لك مبذولاً، فاعمل على ذلك
فأنه أصلح لك وأعود عليك أن شاء الله. وذكر أنه كان بمدينة السلام رجل
من أهل الأهواز يتحلى بالقضاء، وكانت له حال واسعة ونعمة ظاهرة، وعادته
جارية بالحيلة على الناس وأخذ أموالهم بالتمويهات والتزويرات. فصار
إليه رجل من أهل إسكاف بني الجنيد وسأله أن يسعى له في تقليده ناحيةً
أسماها. فتركه أياماً، ثم دفع إليه كتاباً بتقليدها، وأعلمه مواقفته
الوزير أبا الحسن علي بن الفرات على تقدمة خمسين ألف درهم. فأخذ الرجل
الكتاب، وأقرض من بعض التجار المال وسلمه إليه ليحمله إلى الوزير،
وواعده إلى البكور إليه في غد ذلك اليوم للقاء الوزير ووداعه، وفارقه.
وغدا إليه على وعده فلم يره، وخاف أن ينتهي إلى الوزير خبره بالحضرة
فينكره، فدخل إليه وتقدم فقبل يده واستأمره في الخروج. فقال له الوزير:
إلى أين؟ قال إلى حيث قلدتني. قال ما قلدتك شيئاً فأخرج الكتب وعرضها
عليه فلما قرأها الوزير عجب منها، وسأل عمن تنجزها له. فأسمى القاضي
وأعلمه أنه أخذ منه خمسين ألف درهم باسمه، فأمر بطلبه فطلب فقيل إنه
هرب. فقال الوزير. الحيلة علي تمت. ووقع في الكتب وأمضاها وكتب له
بالعوض عن المال وأمره بالنفوذ.
وحدث أبو الحسن علي بن جعفر الهمذاني الكاتب قال: لما تقلد أبو الحسن
بن الفرات الوزارة حضره من عمال علي بن عيسى العباس
(1/282)
ابن موسى بن المثنى، وابن أمينة، وأحمد بن
محمد بن سمعون وكان يخلف أبا ياسر على أعمال الأنبار، وأمر بأن يخرج
إليه تقدير الغلات من النواحي التي كانوا يتقلدونها، وأُخرج. ونظر في
تقديرات ابن المثنى، وكان يتولى كوثى ونهر درقيط، فوجده يعجز نحو ستة
آلاف كر بالفالج، وقال له: من أنت؟ فقال. العباس بن موسى ابن المثنى من
أهل همينيا. فقال ابن الفرات: كان المثنى بندارا ويحلف على الكذب أكثر
مما يحلف على الصدق وقد حلقت نصف لحيته على اقتطاع اقتطعه. ونظر في
تقدير أبي ياسر فوجده يعجز اثني عشر ألف كر، وقال لابن سمعون: من أين
أنت؟ قال: من أهل جرجرايا. فقال. لم أعرف بجرجرايا هذا الاسم، ولكنك من
قرية البرت، وكان أبوك هرك فلان. ونظر في تقدير ابن أمينة فوجده يعجز
ثمانية آلاف كر. فقال: يا أبا الحسن علي بن عيسى، شغلت نفسك بأخلاق
المملكة والنظر في علوفة البط، والحطيطة من أرزاق الناس وما يجري هذا
المجري من الصغائر المستهجنات، لعمارة بيدر واحد أصلح للسلطان وأعود
عليه من توفيرك ما تقربت به إليه. ثم تقدم بمحاسبة الجماعة.
(1/283)
|