تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء
محمد بن عبيد الله
بن يحيى بن خاقان
أبو علي محمد بن عبد الله بن يحيى بن خاقان.
كان أبو علي أكبر ولد أبيه، وتقلد بعد وفاته ديوان زمام الخراج والضياع
السلطانية في وزارة الحسن بن مخلد فلما صرف الحسن وتقلد سليمان بن وهب
قلده نفقات أبنية المعتمد على الله بالمعشوق في الجانب الغربي الذي من
سر من رأى، ثم صرفه المعتمد فلازم بيته إلى أن تقلد أبو القاسم عبيد
الله بن سليمان فرد إليه البريد بكورتي ما سبذان ومهرجا نقذف. وكان أبو
القاسم عبد الله ابنه صحب أبا القاسم عبيد الله بن سليمان عند حصوله
بالجبل مع بدر المعتضدي فضمه إلى أبي عبد الله محمد بن داود بن
(1/284)
الجراح، وأبو عبد الله يتقلد ديوان
الإشراف، فرد إليه الإنشاء فيه، وولى أبو عبد الله محمد بن داود ديوان
الجيش فنقله إليه، وأقام أبو علي على البريد وعبد الله ابنه في ديوان
الجيش إلى أن تغيرت الأمور في فتنة عبد الله بن المعتز، وتقلد أبو
الحسن ابن الفرات، فخافه أبو علي لشيء أنكره منه، واستتر عنه، وأقام
على الاستتار والسعي على ابن الفرات، إلى أن قبض على ابن الفرات وتقررت
الوزارة لأبي علي، وأنفذ إليه من دار السلطان، وظهر وحضر ومعه إبناه
عبد الله وعبد الواحد وذلك في اليوم الرابع من ذي الحجة الذي وقع القبض
فيه على ابن الفرات، ووصل إلى حضرة المقتدر بالله فقدمه وأكرمه وقلده
وزارته وتدبير أموره، وانصرف وعاد من غد وخلع عليه وحمل على فرس بمركب
ذهب، وركب ومعه الحجاب والغلمان والقواد، وأقطعه المقتدر بالله ما في
(1/285)
يد ابن الفرات من الضياع العباسية، وأجري
له خمسة آلاف دينار في كل شهر على رسم ابن الفرات، ولعبد الله ألف
دينار ولعبد الواحد خمسمائة دينار، ووهب له دار صاعد بن مخلد على دجلة،
وأعطي ورثته شيئاً عنها، وأشهد عليهم بها وعمرها ونزلها. وقلد أبا
القاسم عبد الله ابنه العرض على المقتدر بالله وكتابة الأمراء، وخلع
علي عبد الواحد أخيه وعول علي أبي الحسن بن أبي البغل في مناظرة ابن
الفرات ومطالبته فاستخرج منه صدراً كبيراً. ثم ورد أبو الهيثم العباس
بن محمد بن ثوابة من الموصل، فولاه ذلك، فجد أبو الهيثم بأبي الحسن بن
الفرات وكتابه وأسبابه وعسفهم، وزاد في الاستقصاء عليهم، وإيقاع
المكروه بهم حتى حصل منه ومنهم الجملة التي ذكرناها في أخبار ابن
الفرات. وتقدم أبو الهيثم عند الوزير أبي علي بهذا الفعل، فقلده ديوان
الدار الكبير، وبسط يده حتى أمر ونهى، وعزل وولى، وغلب على أكثر
الأعمال. وكانت فيه سطوة وخشونة جانب، فاستجاز لجزف واستعمل العسف،
وقسط على أصحاب الدواوين والقضاة وأسباب السلطان مالاً على وجه القرض
الذي يسبب لهم عوضه على النواحي، وصادر قوماً من الكتاب منهم
المادرائيون، فلم تقع هذه الأسباب موقعاً فيما تدعو إليه الحاجة، ولا
أثرت إلا القباحة والشناعة. وحول من بيت مال الخاصة إلى بيت مال العامة
ألف ألف وستمائة ألف دينار في مدة نظر أبي علي الخاقاني على سبيل
القرض، ولم يؤد من عوض ذلك سوى أربعين ألف دينار. وكان في أبي علي
إهمال للأمور واطراح للأعمال وتلون في الأفعال، فكانت الكتب ترد عليه
وتصدر جواباتها عنه من غير أن يقف عليها أو يأمر بشيء فيها، وإذا
أُخرجت إليه جوامعها تركها أياماً فلم
(1/286)
يطالعها، وربما وردت رسائل بحمول، وكتب
فيها سفاتج بمال فتبقى أياماً لا تفض، وإذا قلد عامل اتبع بمن يعزله
قبل وصوله إلى عمله وأُتبع الصارف بمن يصرفه. فقيل إنه اجتمع في خان
بحلوان سبعة انفس، وقد قلد كل واحد منهم ماء الكوفة في عشرين يوماً.
وبالموصل خمسة قد قلدوا قردي وبزبدي، وأنهم اجتمعوا وتشاركوا ما دفعوا
إليه، وخرج عن أيديهم من نفقاتهم وما بذلوه عن تقليدهم على أن ينالوا
من مال العمل ما قدموه وأنفقوه، واستظهروا لنفوسهم به وخلوا العمل على
آخر من ورد الناحية. وكان إذا سئل حاجة دق صدره بيده وقال: نعم وكرامة،
حتى لقب دق صدره بذلك، وبسط يده وأيدي أولاده وكتابه بالتوقيعات
بالصلات والإطلاقات، والإقطاعات والتسويغات وتخفيف الطسوق والمعاملات،
وأخذ المرافق على إضاعة الحقوق وإسقاط الرسوم، فسخفت الوزارة وأخلقت
الهيبة وزادت الحال، في إخلال الأعمال، ووقوف الأموال، وقصور المواد،
وتضاعف الاستحقاقات، واشتداد المطالبات، وشغب الجند شغباً بعد شغب
وتسحبوا على السلطان تسحباً بعد تسحب، وأخرج إليهم من بيت مال الخاصة
الشيء بعد الشيء الذي بلغ تلك الجمله
المذكورة. حتى إذا انحل النظام وبان الانتشار وتصور المقتدر بالله
الصورة فيما تطرق من الوهن على المملكة، شاور مؤنساً الخادم فيمن يقلده
الوزارة. وجاراه ذكر ابن الفرات، ورده فقال: لم يطل يا أمير المؤمنين
العهد بعزله، وربما ظن الناس وأصحاب الأطراف أن عزله كان طمعاً في
ماله. وأصحاب الدواوين الذين دبروا الأمور والأعمال منذ أيام المعتضد
بالله هم إبنا الفرات ومحمد بن داود بن الجراح ومحمد بن عبدون وعلي بن
عيسى بن داود بن الجراح، فأما إبنا الفرات فقد توفي منهما أبو العباس
وتقلد الآخر الوزارة وجرب نظره وأثره. وأما محمد بن عبدون ومحمد بن
داود فقد مضيا عقب فتنة ابن المعتز، ولم يبق من الجماعة من هو أسد
تصرفاً، وأشد تعففاً وأظهر كفايةً، وأكثر أمانة، من علي بن عيسى. فإن
رأى أمير المؤمنين أن يأمر باستقدامه واستخدامه، لم يعدم إحماد الرأي
في بابه. فأمره بإنفاذ يلبق لإحضاره، ووقف الخاقاني على أمره ورسم له.
استدعاؤه واستخلافه على الدواوين. فكتب إلى عج بن عاج بإنفاذه، ووجه
مؤنس يلبق حاجبه ليلقاه، وتدافع الأمر إلى أن وصل يلبق إلى مكة، وشهد
الموسم مع أبي الحسن علي بن عيسى، وقضيا حجهما وأقبلا. وعند أبي علي
أنه يقدم على القاعدة التي تقررت معه في استخلافه على الدواوين، ولم
يكن ذلك كذلك، وإنما أريد ليقام مقامه، حتى إذا انكشف له باطن السر في
بابه، توصل إلى إصلاح خواص المقتدر بالله وبطانته، ونقض ما دبر في أمر
علي بن عيسى وتسليمه إليه، ورتب على ما ظن أنه أخذ بالوثيقة فيه. وورد
أبو الحسن علي بن عيسى ابن داود في سحرة اليوم العاشر من المحرم سنة
إحدى وثلاثمائة، ووصل إلى حضرة المقتدر بالله وقت صلاة الصبح. وبكر أبو
علي الخاقاني ومعه إبناه إلى الدار على رسمه، وهو واثق بأن أبا الحسن
علي بن عيسى يسلم إليه، وجلس في المجلس الذي جرت عادته بالجلوس فيه إلى
أن يؤذن له في الوصول. وقلد أبو الحسن الوزارة وانصرف إلى داره، ووكل
بأبي علي وابنتيه وابن سعد حاجبه وأبي الهيثم بن ثوابة وجماعةً من
كتابه، فكانت مدة نظره سنة واحدة وشهراً وخمسة أيام. ة. حتى إذا انحل
النظام وبان الانتشار وتصور المقتدر بالله الصورة فيما تطرق من الوهن
على المملكة، شاور مؤنساً الخادم فيمن يقلده الوزارة. وجاراه ذكر ابن
الفرات، ورده فقال: لم يطل يا أمير المؤمنين العهد بعزله، وربما ظن
الناس وأصحاب الأطراف أن عزله كان طمعاً في ماله. وأصحاب الدواوين
الذين دبروا الأمور والأعمال منذ أيام المعتضد بالله هم إبنا الفرات
ومحمد بن داود بن الجراح ومحمد بن عبدون وعلي بن عيسى بن داود بن
الجراح، فأما إبنا الفرات فقد توفي منهما أبو العباس وتقلد الآخر
الوزارة وجرب نظره وأثره. وأما محمد بن عبدون ومحمد بن داود فقد مضيا
عقب فتنة ابن المعتز، ولم يبق من الجماعة من هو أسد تصرفاً، وأشد
تعففاً وأظهر كفايةً، وأكثر أمانة، من علي بن عيسى. فإن رأى أمير
المؤمنين أن يأمر باستقدامه واستخدامه، لم يعدم إحماد الرأي في بابه.
فأمره بإنفاذ يلبق لإحضاره، ووقف الخاقاني على أمره ورسم له. استدعاؤه
واستخلافه على الدواوين. فكتب إلى عج بن عاج بإنفاذه، ووجه مؤنس يلبق
حاجبه ليلقاه، وتدافع الأمر إلى أن وصل يلبق إلى مكة، وشهد الموسم مع
أبي الحسن علي بن عيسى، وقضيا حجهما وأقبلا. وعند أبي علي أنه يقدم على
القاعدة التي تقررت معه في استخلافه على الدواوين، ولم يكن ذلك كذلك،
وإنما أريد ليقام مقامه، حتى إذا انكشف له باطن السر في بابه، توصل إلى
إصلاح خواص المقتدر بالله وبطانته، ونقض ما دبر في أمر علي بن عيسى
وتسليمه إليه، ورتب على ما ظن أنه أخذ بالوثيقة فيه. وورد أبو الحسن
علي بن عيسى ابن داود في سحرة اليوم العاشر من المحرم سنة إحدى
وثلاثمائة، ووصل إلى حضرة المقتدر بالله وقت صلاة الصبح. وبكر أبو علي
الخاقاني ومعه إبناه إلى الدار على رسمه، وهو واثق بأن أبا الحسن علي
بن عيسى يسلم إليه، وجلس في المجلس الذي جرت عادته بالجلوس فيه إلى أن
يؤذن له في الوصول. وقلد أبو الحسن الوزارة وانصرف إلى داره، ووكل بأبي
علي وابنتيه وابن سعد حاجبه وأبي الهيثم بن ثوابة وجماعةً من كتابه،
فكانت مدة نظره سنة واحدة وشهراً وخمسة أيام.
وحكي أن السبب في تقليد الخاقاني الوزارة أن دستنبوية أم ولد المعتضد
بالله
(1/287)
قامت بأمره مع المقتدر بالله، لأنه بذل لها مائة ألف دينار. وبلغ أبا
الحسن ابن الفرات ما هو ساع فيه فهم أن يقبض عليه، فاستتر وجد ابن
الفرات في طلبه، فنبه على أمره، وظن أن نفوره منه أفضل فيه عنده، وأشير
عليه بأن يؤمنه ويوليه بعض الدواوين ليزول الخوض في بابه ويختلط
بكتابه، فلم يفعل. فكان أبو علي ينمس على الخدم بالصلاة وإظهار التسنن،
فإذا وافاه خادم برقعة أو رسالة تركه زمناً طويلاً إلى أن تتم صلاته،
وكان يطيلها ثم يتبعها بالتسبيح، فيصفونه بالديانة، ويميلون إليه بهذه
الوسيلة. |